الكتاب: التفسير الواضح المؤلف: الحجازي، محمد محمود الناشر: دار الجيل الجديد - بيروت الطبعة: العاشرة - 1413 هـ   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] ---------- التفسير الواضح محمد محمود حجازي الكتاب: التفسير الواضح المؤلف: الحجازي، محمد محمود الناشر: دار الجيل الجديد - بيروت الطبعة: العاشرة - 1413 هـ   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو ضمن خدمة مقارنة التفاسير] [ الجزء الاول ] الإهداء إلى الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا، إلى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، إلى إخواننا المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها أهدى هذا وأحتسب أجرى عند الله. محمد محمود حجازي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين. أما بعد: فقد سعد كثيرون من القدامى والمحدثين بالتصدى للكشف عما في الكتاب الكريم من معان وأسرار بلغت الذروة في الكمال ونحا كل منهم نحوا يغاير الآخر: فمن باحث عن الوجوه البلاغية إلى مفصل للأحكام الشرعية إلى ذكر بدائع لغوية وتراكيب تأخذ بالألباب، إلى محدث عن القراءات ووجوهها، إلى غير ذلك مما لا يكاد يحيط به الحصر، أطال هؤلاء الأعلام حتى كان كلامهم مراجع وموسوعات، كالفخر والشهاب والآلوسي والطبري والقرطبي، فموسوعاتهم هذه لا تغيث من يرغب أن يعرف ما يريده إن لم يكن ملما بقدر كبير من اللغة والأدب والأحكام والاصطلاحات العلمية، ومنهم من اتجه ناحية الإيجاز والاختصار فكان كلامه أشبه بالبرقيات حتى أنه قد يترك ربط الآية ومناسبتها وما تمس إليه الحاجة كالشيخين الجليلين المحلى والسيوطي ومن ألف إلفهما. وهؤلاء الأعلام- رضى الله عنهم- أقل ما نقوله فيهم أن الله أيدهم بروح من عنده حتى يسهل فهم كلامه، وغاية ما نصل إليه أن نفهم كلامهم ونقف على إشاراتهم، وسبحان من اتصف بالكمال. والشيء الجديد في هذا العصر كثرة التعليم والمتعلمين، وتشعب أنواع تعليمهم فأدى هذا إلى أمرين: أولهما: تشعب البحوث من هؤلاء في علاقة الناس بعضهم ببعض حتى كثر الخلاف بين الناس في تفهم القانون الذي وضعوه، ولا نزال نرى ونسمع أنهم اجتمعوا ليغيروا ويبدلوا، ثم لا يمر عام أو بعض عام حتى يعيدوا الكرة فيزيدوا وينقصوا والأمر في ذلك الخلاف أشبه شيء بالبديهيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 والأمر الثاني: أن أكثر الناس اتجهوا إلى القرآن الكريم وكأنهم سئموا هذا التخبط الشائن والاضطراب المعيب، ورأوا بأنفسهم أن القوانين الوضعية لم تفلح في منع الجرائم وفي الحفاظ على الحقوق، بل كأنهم شبعوا حتى أتخموا من هذه الحياة المادية الصرفة، فتلفتوا حيارى إلى منقذ لهم مما هم فيه إلى طريق يكون لهم فيه نور وهدى، فتذكروا أن القرآن العظيم فيه المخلص، وهو المنقذ والموصل إلى ما يبتغون من استقرار، فبه ضمان لحياة نافعة تقوم على أن يؤدى كل واجبه كاملا ويأخذ حقه غير منقوص. أليس القرآن هو الدستور الذي أنقذ الأمة العربية من جاهلية حمقاء إلى أمة إسلامية لها كيان معترف به ولها عزة وحضارة وعلم. ولم لا يكون كذلك؟ وقد كفل القرآن أن يسعد الناس في حاضرهم ومستقبلهم ولم يترك شأنا فيه خير لهم إلا قال فيه وفصل القول بما لا يدع شبهة لمبطل أو ادعاء لمتطاول، وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ. وبعد: فهذا هو القرآن الكريم، بل هو الهدى والنور، كتب شرحه بلغة سهلة واضحة لا تعمق فيها ولا إبعاد، خالية من الاصطلاحات العلمية الفنية، تفسر للشعب كل ما فيه من صوغ المعنى الإجمالى للآية، بلغة العصر، مع البعد عن الحشو والتطويل والخرافات الإسرائيلية. والاعتدال في الرأى، فلم يهدم كل قديم، ولم يرفع كل جديد «وإن يكن لكل فارس كبوة» . ولا طاقة للناس الآن بالإطالة فيما لا شأن له بأصل الغرض من التفسير، إذ المهم أن يفهم القرآن أكبر عدد ممكن من المسلمين. ألم يأن للحق أن يدحض الباطل كما دحضه في صدر الإسلام؟ وقد يكون ما تراه من الجمعيات الإسلامية والمؤاخاة الدينية جذوة فيها ضوء يسطع ليبصر من أراد أن يسعد عاجلته وآجلته، وفيها نار تحرق هؤلاء الشياطين الذين لم يستحوا من الله ولا من الحق فجعلوا من جاههم ونفوذهم حربا على الإسلام إبقاء على زخرف كاذب وفرارا من حقوق إخوانهم في الدين والإنسانية قبلهم. وها نحن الآن قد عزمنا- والعون من الله وحده- على الكتابة في التفسير على أن يخرج الجزء الأول ثم الذي يليه وهكذا، فإن كان في العمر بقية ومن الله تأييد تم هذا العمل الذي نقصد به وجه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 ولا أنكر أنه عمل ضخم ليس لمثلي أن يتعرض له، ولكن: وأكذب النفس إذا حدثتها ... إن صدق النفس يزرى بالأمل وسنظل- والحمد لله- ندفع بأيدينا وبألسنتنا وبأقلامنا عن حمى هذا الدين حتى يظهره الله أو نهلك دونه، ولن يضيعنا الله. وصدق الله إذ يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ.. «1»   (1) سورة محمد آية رقم 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ومعناه: أستجير بجناب الله من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني، أو دنياى، أو يصدني عما أمرت، أو يحثني على ما نهيت فإنه لا يكفه إلا أنت يا رب العالمين، ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ. وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ. وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (96- 98 من سورة المؤمنون) . فأنت ترى أن القرآن جعل دفع السيئة بالحسنة علاجا لشيطان الإنس، والاستعاذة علاج شيطان الجن. فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98 من سورة النحل) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 سورة الفاتحة مكية وآياتها سبع [سورة الفاتحة (1) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1) الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5) اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ (7) تسمى سورة الفاتحة. لافتتاح القرآن بها، وأم الكتاب لاشتمالها على ما فيه من الثناء على الله- عز وجل- والتوحيد، والتعبد بأمره ونهيه، وبيان وعده ووعيده، والأخبار والقصص، وكذا الحكم العملية كسلوك الصراط المستقيم، وتسمى السبع المثاني لأنها سبع آيات تثنى في الصلاة، أى: تعاد. المفردات: اللَّهِ: علم على الذات العلية الرَّحْمنِ: المتصفة ذاته بالرحمة وهي صفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 خاصة به الرَّحِيمِ: من يرحم غيره بالفعل وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً وهما في الأصل صفتان مأخوذتان من الرحمة، وهي رقة في القلب تقتضي الإحسان والتفضل بالنعم، والمراد هنا: الإحسان والتفضل بالنعم. الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد: الثناء بالجميل على الجميل الاختياري. رَبِّ الرب: المالك والسيد، وفيه معنى الربوبية والتربية والعناية الْعالَمِينَ: جمع عالم، وهو ما سوى الله، وهو أنواع كعالم الإنسان والحيوان والنباتات ... إلخ. مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ: المراد أن الأمر في قبضة قدرته يوم القيامة إِيَّاكَ نَعْبُدُ العبادة: الطاعة مع غاية الخضوع الناشئ من استشعار القلب عظمة المعبود، و المعنى: لا نعبد غيرك. وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ الاستعانة: طلب المعونة منه، أى: نخصك بطلب المعونة. اهْدِنَا: عرفنا ووفقنا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ: الطريق المعتدل، والمراد طريق الإسلام. الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ: المبعدون عن رحمة الله المعاقبون أشد العقاب لأنهم عرفوا الحق وتركوه، وقيل: هم اليهود الضَّالِّينَ: الذين ضلوا الطريق، وقيل: هم النصارى. آمِّينَ: تقبل منا واستجب دعاءنا، وليست من القرآن ولكن يسن ختم الفاتحة بها. المعنى: ابتدأ الله- سبحانه- بالبسملة ليرشدنا إلى أن نبدأ كل أمورنا بها متبركين مستعينين باسمه الكريم، ولا حول ولا قوة إلا به، ثم قال: الثناء بالجميل لله- سبحانه- الواجب الوجود المنزه عن كل نقص، فالحمد ثابت لله. فاحمدوه دون سواه، لأنه مالك الملك ورب العالمين قد تولاهم بعنايته ورعايته، وتفضل على كل موجود بنعمه التي لا تحصى، لا لنفع يعود عليه بل لأنه الرحمن الرحيم، مالك الأمر يوم الجزاء والحساب والقضاء. ومن كانت هذه صفاته- جل شأنه- وجب أن تكون العبادة له دون سواه، ومن تمام عبادته والخضوع له ألا نطلب المعونة من غيره، بل علينا أن نطرق الأسباب الظاهرة بكل ما أوتينا من حيلة وعلم وتجربة، ثم بعد هذا لا نستعين إلا به ولا نتوكل إلا عليه، وفي الحديث: «اللهمّ أعنّى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك» تقولها دبر كل صلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 ثم أرشدنا إلى طلب الهداية والتوفيق منه حتى نسير على الطريق المستقيم: طريق الحق والعدل، ولما كان الطريق المستقيم: طريقا لا يسلكه إلا القليل وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «1» وفيه من الوحشة ما فيه، أرشدنا إلى أننا سنكون مع المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء، فهو طريق الذين أنعم الله عليهم بنعمة الإيمان والهداية، ولا شك أنهم غير من عرفوا الحق وابتعدوا عنه كفرا وعنادا أو جهلا وضلالا، فهؤلاء هم المغضوب عليهم الضالون عن طريق الهدى والسداد. اللهم اقبل منا هذا الثناء، واستجب منا هذا الدعاء، واجعل عملنا خالصا لوجهك الكريم. هذه السورة مكية. والفرق بين السورة المكية والمدنية يمكن إجماله فيما يلي: 1- المكي ما نزل قبل الهجرة والمدني ما نزل بعدها سواء نزل في المدينة أو ضواحيها أو في مكة عام الفتح أو في غزوة من الغزوات. 2- المكي أكثر إيجازا لأن المخاطبين به أبلغ العرب ومعظمه تنبيهات وزواجر وبيان لأصول الدين بالإجمال، اقرأ إن شئت: الحاقّة، والقارعة، والواقعة ... إلخ. 3- المدني في أسلوبه شيء من الإسهاب، وفيه كثير من خطاب أهل الكتاب، وفيه بيان الأحكام العملية في العبادات والمعاملات الشخصية والمدنية والسياسية والحربية وأصول الحكومة الإسلامية والتشريع فيها ... إلخ.   (1) سورة سبأ آية رقم 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 سورة البقرة نزلت بالمدينة إلا آية 281 فنزلت بمنى في حجة الوداع أول سورة في ترتيب المصحف، وأطول سورة في القرآن، إذ عدد آياتها 286 آية، وفيها أطول آية في القرآن: «آية الدّين» . وهذه السورة الكريمة اشتملت على منهجين عظيمين: الأول جاء في صدرها إلى آية 142 وطابعه أنه خطاب عام لجميع الناس فقد بدئت السورة بالكلام على القرآن، وأثره، ثم بيان موقف الناس منه، فمنهم المؤمن المسالم، والكافر المجاهر، والمنافق المخادع. ثم اتجهت لخطاب أمة الدعوة- الناس جميعا- حيث دعاهم الله إلى الإيمان الصحيح، مبينا لهم إعجاز القرآن وصدق الرسول. ثم ذكر قصة خلق الإنسان وتكريمه، وموقف الشيطان منه. ثم التفت إلى بنى إسرائيل- الطبقة الواعية في المجتمع المدني- فدعاهم إلى ما فيه خيرهم وذكرهم بنعم الله عليهم، وحذرهم من نقمه، وبين لهم قبائحهم وسيئات آبائهم، وأطال في ذلك، وتعرض لأبى الأنبياء إبراهيم- عليه السلام- وإلى علاقته بالعرب، وإلى موقفهم منه، وكل هذا لا يعرفه الرسول إلا عن طريق الوحى. أما المنهج الثاني فطابعه أنه خطاب للمسلمين- أمة الإجابة- وهو واقع في عجز السورة وقد بدئ بالكلام على أول حادثة دينية تمس المسلمين وأهل الكتاب- تحويل القبلة- ثم عالجت السورة المجتمع الإسلامى فذكرت الكثير من التشريعات والقوانين، وما يجب أن يكون عليه المجتمع المثالي المسلم. وكان الأساس الأول الدعوة إلى التوحيد الخالص لله، وتعرضت لأحكام القصاص والوصية والقتال والإنفاق في سبيل الله، ولبيان بعض العبادات كالصيام والحج، وظهرت أحكام الخمر، ونكاح المشركات والعدة والإيلاء والطلاق والرضاع، والربا وأحكام التداين والمعاملات وخاصة الرهن، وفي خلال ذلك قصص وحكم، ثم ختمت السورة بالدعاء الإسلامى الكامل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 [سورة البقرة (2) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) المفردات: لا رَيْبَ فِيهِ: لا شك في أنه من عند الله. هُدىً: هداية وإرشاد. لِلْمُتَّقِينَ الذين أخذوا لأنفسهم وقاية من النار. المعنى: استفتاح عجيب لأول سورة من القرآن الكريم، وابتداء حيز الأفهام وزلزل العقول على بساطة تركيبه من حروف هجائية. فقال جماعه بعد البحث وطول الفكر: هذا مما استأثر الله بعلمه فهو من المتشابه الذي نؤمن به على أنه من عند الله- والله أعلم- واعلم أنه أمر مفهوم عند النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه خوطب به، وهو أشبه ما يكون (بالشفرة) بين الله ورسوله وقال آخرون: لا بد أن يكون لذكره معنى، والظاهر أنه إيماء إلى إقامة الحجة على العرب بعد أن تحداهم القرآن على أن يأتوا بمثله. فكأنه يقول لهم: كيف تعجزون عن الإتيان بمثله؟! مع أنه كلام عربي من حروف هجائية ينطق بها كل أمى ومتعلم ومع هذا فقد عجزتم. وذلك الذي نزل على محمد هو الكتاب الكامل في كل ما يتعلق به من معنى شريف وقصد نبيل وقصص فيه عبرة وعظة وتشريع صالح لكل زمان ومكان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 كتاب هذا حاله لا ينبغي من العاقل أن يشك في أنه من عند الله خصوصا وقد تحدى الله به العرب وهم أهل البيان واللسن تحداهم بأسلوب مثير: وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فارجعوا إلى الحق وآمنوا به. وقد وصفه الله بعد هذين الوصفين بوصف ثالث أنه مصدر هداية وإرشاد لمن أراد أن يأخذ الوقاية لنفسه من عذاب ربه، وإنما خصهم بالهداية لأنه لا يهتدى به إلا من تخطى عقله وقلبه حواجز المادة فآمن بالغيب- ما وراء المادة- وبعمل الخير. وآمن بالسفارة بين الله والخلق، وبالحياة الآخرة. المتقون وجزاؤهم [سورة البقرة (2) : الآيات 3 الى 5] الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) المفردات: الإيمان: هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس وقبولها، وسلامة العمل. بِالْغَيْبِ: ما غاب عنهم من حساب وجزاء وجنة ونار وغير ذلك. يُقِيمُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 الصَّلاةَ إقامتها: الإتيان بها مقومة معتدلة كاملة، والمقصود استيفاء أركانها وشروطها. يُوقِنُونَ اليقين: هو الاعتقاد الذي لا يقبل الشك. المعنى: إن الله- سبحانه وتعالى- يكشف عن صفة المتقين الذين ينتفعون بالقرآن وهديه فيقول: هم الذين يؤمنون بالأمور الغيبية متى قام الدليل عليها، ولا يقفون عند الماديات والمحسوسات، يؤمنون بما وراء المادة، وهؤلاء يسهل عليهم فهم القرآن والانتفاع به لأن نور الإيمان شع في قلوبهم فامتلأت طاعة ورحمة، ولذا كان من صفاتهم إقامة الصلاة إذ هي مظهر الطاعة، وإقامة الصلاة: الإتيان بها كاملة مقومة بشروطها وآدابها فالصلاة عبادة بدنية وروحية لا عمل بدني فحسب. وإقامتها: عبارة عن استيفاء ناحيتي البدن والروح. والإنفاق في سبيل الله من زكاة وصدقة مظهر من مظاهر الرحمة بالإنسان، وركن مهم جدّا من أركان الإسلام كالصلاة التي هي عماد الدين، فالزكاة أساس بناء المجتمع كما أن الصلاة أساس بناء الفرد. وهم الذين يؤمنون بالله وما أنزل عليك، وما أنزل على من قبلك من الأنبياء والمرسلين، وآمنوا كذلك بالآخرة إيمانا يقينا لا شبهة فيه ولا شك. ولا غرابة في أن يكون هؤلاء ذوى مكانة عالية عند الله يشار إليهم، متمكنين من هدايته، وأولئك البعيدون في مرتبة الكمال هم الفائزون في الدارين. الكافرون وجزاؤهم [سورة البقرة (2) : الآيات 6 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 المفردات: أَأَنْذَرْتَهُمْ الإنذار: الإعلام مع التخويف. خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ: طبع عليها بالخاتم، وإنما يفعل هذا على الأبواب لمنع الدخول إليها، والمراد أغلقت قلوبهم فلا يدخلها إيمان ولا تصح. غِشاوَةٌ الغشاوة: الغطاء، والمقصود التعامي عن النظر إلى آيات الله. المناسبة: ابتدأ الله هذه السورة بالكلام عن القرآن الكريم وموقف الناس منه، وذكر أنهم أنواع: فمنهم من آمن به وعمل صالحا وأولئك هم المفلحون، ومنهم من كفر واستكبر عن الحق قولا وعملا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. المعنى: إن الذين كفروا بالله عنادا وجاهروا بتكذيب القرآن فهؤلاء يستوي عندهم الإنذار وعدمه إذ لا ينتفعون به ولا يتجهون إليه فلا نتأثر بهم ولا نأسى عليهم. فقلوبهم مغلقة لا يصل إليها النور الإلهى الممثل في الآيات، وأسماعهم لا يعرفها صوت الحق لأنها تنبو عنه، وأبصارهم لا تراه لأن عليها حجابا كثيفا هو حجاب التعامي عن آيات الله، أولئك لهم عذاب من نوع خاص ليس مألوفا: عذاب عظيم. ولقد بين الله- سبحانه وتعالى- بهذه الآيات أنه إذا وجد في الناس من لا يؤمن بالقرآن فليس لتقصير في هدايته ولا لعيب فيه، وإنما العيب فيهم لا في الكتاب، والختم على قلوبهم وعلى سمعهم بسبب كفرهم بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155 من سورة النساء) . ولقد صدق الله: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105 من سورة يوسف) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 المنافقون وصفاتهم [سورة البقرة (2) : الآيات 8 الى 16] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَنُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَلكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (16) المفردات: يُخادِعُونَ اللَّهَ الخداع: صرف الغير عما نقصده بحيلة، والمراد هنا إظهار الإسلام وإضمار الكفر. مَرَضٌ المرض: العلة، والمراد هنا: شك ونفاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 السُّفَهاءُ: ضعفاء العقول، والمقصود هنا الجهلاء وضعفاء النفوس. شَياطِينِهِمْ المراد: إخوانهم في الكفر. مُسْتَهْزِؤُنَ الاستهزاء: الاستخفاف والسخرية، وهو من اليهود بهذا المعنى، ومن الله بمعنى أنه لا يعبأ بهم لحقارتهم وسوء إدراكهم، أو بمعنى أنه سيجازيهم عليه. يَمُدُّهُمْ: يزيدهم. طُغْيانِهِمْ الطغيان: مجاوزة الحد. يَعْمَهُونَ العمه: ضلال البصيرة، والمراد: التحير والتردد. اشْتَرَوُا: استبدلوا. المعنى: الصنف الثالث من الناس هم المنافقون، وهؤلاء أشد خطرا على الإسلام من الكفار صراحة ولذا تكلم عليهم في ثلاث عشرة آية، وليس المراد بهم المنافقين المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقط بل كل من ينطبق عليه الوصف في كل عصر ووقت. بعض الناس آمن بالله واليوم الآخر قولا باللسان فقط، وقلبه ملئ بالكفر والضلال، فيرد الله عليهم دعواهم وأنهم ليسوا بمؤمنين وإن تظاهروا به، ولا شك أنهم في إظهارهم الإيمان وإخفائهم الكفر في صورة المخادعين لله، ولأن الله- سبحانه- يعلم عنهم ذلك وأنهم ليسوا بمؤمنين، بل أشد ضررا من الكفار، ومع ذلك يأمر بإجراء أحكام الإسلام الظاهرة عليهم كأنه يخادعهم، وهكذا المسلمون حيث امتثلوا أمر الله فيهم كأنهم مخادعون لهم، فهذا كله من باب التشبيه والتمثيل. وإلا فالله عالم بهم لا تجوز عليه مخادعتهم وقادر على إيقاف المسلمين على حالهم حتى لا ينخدعوا بهم، وليس خداعهم وعاقبته إلا وبالا عليهم، وما يشعرون بذلك لأن قلوبهم قد ملئت غيظا وحسدا وشكّا ونفاقا حتى عموا عن إدراك أبسط الأشياء، زادهم الله من هذه الأمراض، ولهم عذاب شديد مؤلم في الدنيا والآخرة. والواقع أن المنافقين في كل زمان ودولة هم الخطر الداهم على أممهم والسهم الذي يصوب في ظهر وطنهم، وكثيرا ما لاقى النبي صلّى الله عليه وسلّم من النفاق والمنافقين. والنفاق واليهودية شيئان متلازمان لأنه ينشأ عن جبن حقيقى ولؤم طبيعي، فالمنافق يلتوى مع الناس في أقواله وأفعاله، وكم للمنافق في المجتمعات من أضرار بالغة ومخادعات هادمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 لو أن كل إنسان أظهر نفسه على حقيقته، وأدى واجبه دون أن يخادع أو يخاتل ودون أن يوقع الآخرين لتكون عندنا المجتمع الصالح والدولة العزيزة الجانب. ومن صفاتهم أيضا أنه إذا قيل لهم: إن إثارتكم الفتن والتجسس لحساب الكفار وتأليب القبائل على المسلمين فساد، وأى فساد بعد الحرب وما تجره؟ فكفوا عن الفساد، قالوا: ليس الأمر كما زعمتم فإنما نحن مصلحون، لا نتعدى الصلاح إلى غيره أبدا، فرد الله عليهم بعبارة أبلغ في إسناد الفساد لهم وقصره عليهم، وأنهم كاذبون على أنفسهم في دعوى الإصلاح وأنه لا يتعداهم أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ولكن المنافقين لا يدركون المحسوس فلا يشعرون بحالهم. وما كان المسلمون يقفون معهم موقف الإنكار فقط، بل كانوا يدعونهم كذلك إلى الإيمان بشتى الوسائل. فإذا قالوا لهم: ادخلوا في الإيمان كما دخل فيه غيركم من الناس أجابوا متهكمين منكرين: أنؤمن بالقرآن والنبي، كما آمن به ضعفاء الناس من العبيد والفقراء وضعفاء العقل من الأميين والجهلاء؟! وجهلوا أن ضعيف العقل من يرى طريق الخير والنور أمامه فلا يسلكه، فانظروا يا أيها المنافقون من أى نوع أنتم؟ ألا إنكم أنتم السفهاء وحدكم ليس عندكم إدراك صحيح للإيمان فتعلموا مقداره!! وروى أن أبا بكر وعمر وعليّا- رضى الله عنهم أجمعين- توجهوا إلى ابن أبىّ وأصحابه من اليهود فلما رآهم ابن أبى قال لأصحابه: انظروا كيف أراد هؤلاء السفهاء عنكم بمعسول القول، فلما حضروا أخذ يمدحهم الواحد بعد الآخر في الدين والسبق فيه ثم قال لأصحابه بعد أن انصرف الصحابة: كيف رأيتمونى؟ فأثنوا عليه خيرا فنزلت الآية. وليست تكرارا مع ما سبق بل السابق بيان مذهبهم وما استكن في نفوسهم جميعا من النفاق، وفي هذه الآية بيان موقف بعض المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم مع المؤمنين ومع زعمائهم في اليهودية والفساد، الذين هم كالشياطين بل أشد، وإذا خلوا إلى بعضهم قالوا: إنا معكم، ولكنا نستهزئ بهم ونسخر بدينهم، فيرد الله عليهم زعمهم الباطل: الله- سبحانه وتعالى- هو الذي يعبأ وسيجازيهم على فعلهم أيما جزاء، ويزيدهم في الطغيان والضلال حتى يصيروا مثلا في الوصول إلى أقصى درجات الحيرة والتخبط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 بعد هذا الوصف السابق أشار لهم بإشارة البعيد فقال: إن أولئك المنافقين بتركهم الطريق المستقيم والأدلة الظاهرة والواضحة على صحة هذا الدين- بتركهم هذا حسدا وبغيا- كأنهم دفعوا الهدى ثمنا للضلالة والخسارة في الدنيا والآخرة، وما ربحوا في هذا التجارة، وما أظهر خسارتهم في هذه الصفقة! وهكذا كان شأنهم دائما. ضرب الأمثال لهم [سورة البقرة (2) : الآيات 17 الى 20] مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) المفردات: المثل: الصفة والقصة الغريبة، والمراد أن حالهم تناهت في الظهور والوضوح حتى أضحت كالمثل الذي لا ينكر. الصّيّب: المطر الكثير النازل. رَعْدٌ الرعد: هو صوت احتكاك الهواء. الْبَرْقُ: نور خاطف ينشأ من شرارة كهربائية: الصَّواعِقِ: جمع صاعقة، وهي: الرعد الشديد، وقيل: إنها من آثار الكهرباء في الجو ينشأ عنه احتراق بعض الأجسام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 المعنى: المثل الأول: المنافقون قوم أظهروا الإسلام زمنا قليلا فأمنوا على أنفسهم وأولادهم وأخفوا وراءهم الكفر والفساد، ولكنهم لم يلبثوا على ذلك حتى أظهر الله الحق، وبدا الصبح لذي عينين فأضحوا بعد أمنهم خائفين وصاروا متخبطين في ظلمة النفاق والفضيحة والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، فحالهم هذه تشبه حال جماعة أوقدوا نارا لينتفعوا بها، فلما أوقدت النار وأبصروا ما حولهم زمنا يسيرا أطفأها الله وذهب بنورهم من أساسه وتركهم في ظلمة الليل وظلمة السحب المتراكمة وظلمة إطفاء النار فهم لا يبصرون. ولا شك أن المنافقين صم عن الحق فلا يسمعون، وبكم فلا يتكلمون، وعمى عن الهدى فلا يبصرون. إذن فهم لا يرجعون أصلا عن حالهم فلا تأس عليهم ولا تحزن. أردف الله المثل السابق بمثل آخر مستقل واضح ليظهر حالهم فلا تخفى على أبسط الناس فهما وإدراكا. المعنى: المثل الثاني: أنزل الله القرآن الكريم: وقد اعترى المنافقين شبهة واهية، وفي هذا القرآن وعد لمن آمن ووعيد لمن كفر، وفيه حجج بينات واضحات، وفيه آيات فاضحة لهم وكاشفة أستارهم كانت تنزل عليهم نزول الصاعقة أو أشد، وهم مع القرآن الكريم إذا نزلت آية فيها مغنم فرحوا وساروا مع المسلمين وإذا نزلت آية تطالبهم بالجهاد أو تكشف حالهم وقفوا وبهتوا. فحالهم هذه تشبه حال قوم نزل عليهم مطر غزير من كل جانب، وكان يصاحبه صواعق تصم الآذان حتى أنهم يجعلون أنامل أصابعهم في آذانهم خوفا من الموت. وأما برقه ونوره فكلما ظهر في الأفق فرحوا وساروا آمنين، وهم حريصون على ذلك، وإذا أظلم الأفق وانتهى البرق وقفوا حيارى مبهوتين. والله محيط بهم قادر عليهم، ولو شاء لأذهب أسماعهم بقوة الرعد وأبصارهم بوميض البرق فهو القادر المختار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 روائع التشبيه: في هذا المثل العظيم عيون البلاغة، وقوة التعبير الذي يقف عنده كل بليغ وأديب. فيه تشبيه القرآن بالمطر إذ المطر يحيى موات الأرض. والقرآن يحيى موات النفوس، ومع القرآن شبهة واهية لا أساس لها كالظلمات العارضة مع المطر. وفيه وعد ووعيد كالرعد قوة وشدة، وفيه حجج وآيات كالبرق وضوحا وجلاء، وفيه آيات كاشفة فاضحة كالصواعق أو أشد خطرا. والظاهر- والله أعلم- أن المثل الأول للمنافقين الخلص، والثاني للمترددين تارة يظهر لهم وميض الإيمان ونوره وتارة يخبو، وقيل: هما لصنف واحد. وحدة الإله. إعجاز القرآن. صدق الرسول [سورة البقرة (2) : الآيات 21 الى 24] يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22) وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 المفردات: يا صوت يهتف به المنادى، ويكون لنداء البعيد أو الساهي أو الغافل لعظم المأمور به بعد النداء، والظاهر أنها استعملت هنا لهذا اعْبُدُوا رَبَّكُمُ: أطيعوه. فِراشاً الفراش: ما يفرشه الإنسان، والمراد أنه مهدها للإقامة عليها. بِناءً: مبنية محكمة. أَنْداداً: جمع ندّ وهو النظير. شُهَداءَكُمْ: جمع شهيد، وهو من يحضر معكم من الرؤساء، أو من يشهد لكم يوم القيامة. المناسبة: لما ذكر الله- سبحانه- القرآن وصفته، وبين أن الناس مع القرآن ثلاثة أنواع: فمنهم المؤمن، والكافر، والمنافق، خاطبهم جميعا بوصف عام يأنسون به ليكون ذلك أدعى للامتثال ولما أثبت الوحدانية لله. ثنى ببيان إعجاز القرآن وفي ذلك إثبات صدق الرسول. المعنى: لقد أمر الله الناس بعبادته، والإقرار له بالربوبية والوحدانية، ونبذ الأصنام وما كانوا يعبدون، لأنه الرب الذي خلقهم، وخلق آباءهم من قبل فلا يليق بهم أن يتخذوا أندادا له. ففي عبادتهم لله وحده تتحقق تقواهم التي يحبها الله لهم، إذ هو الذي جعل لهم الأرض ممهدة للإقامة عليها مع تحريكها ودورانها، وجعل السماء كالقبة تظلهم بالخير والبركة. وهي كالبناء المحكم مع ما فيها من عوالم الأفلاك والأجرام لا يسقط منها جزء ولا يختل لها نظام، وأنزل من السماء ماء مباركا طيبا ينبت لنا به الكلأ والزرع. ألست ترى معى أن الله وصف نفسه بما يدل على انفراده بالربوبية؟ فصفة الخلق والتكوين، والرزق، من الصفات المسلّم بأنها له وحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وإذا كان هذا شأن الرب- سبحانه- فاعبدوه، ولا تجعلوا له أندادا في العبادة، تعبدونهم وأنتم تعلمون أنه لا ندّ له يخلق شيئا مما ذكر، وها هي ذي مظاهر قدرته ودلائل وحدانيته تدل عليه. وإن كنتم في شك من القرآن وأنه أنزل على عبدنا ورسولنا النبي الأمى محمد بن عبد الله فها هو ذا القرآن، فجدوا واجتهدوا واشحذوا عزائمكم، واجمعوا جموعكم، واستعينوا برؤسائكم وآلهتكم، وأتوا بسورة تماثله في البلاغة وسداد التشريع الصالح لكل زمان ومكان، والإخبار بالمغيبات إن كنتم صادقين في دعواكم أن القرآن من عند محمد وليس القرآن من عند الله، وكيف يعقل هذا؟ ومحمد بشر منكم أمى مثلكم لم يقرأ ولم يكتب، وأنتم مجتمعون وفيكم الشاعر والخطيب والبليغ والأديب، والقرآن كلام عربي من جنس ما تتكلمون به في خطبكم وأشعاركم بل كلامكم العادي، وقد تحداكم الله به وأنتم ومن يحضر معكم من جهابذة القول وأعلام البلاغة وفرسان البيان، فإن عجزتم- وأنتم لا شك عاجزون- فارجعوا إلى الحق وآمنوا بمحمد وبما أنزل عليه من القرآن، وفي ذلك وقاية لكم من النار التي وقودها الناس والحجارة التي أعدها الله للكافرين. تحدى الله العرب أن يأتوا بسورة تماثله في البيان وقوة الأسلوب، ودقة التعبير وغير ذلك مما برع العرب فيه، أما النواحي السياسية والاقتصادية والعلمية والاجتماعية والقانونية فذلك شأن عال، ومنزلة رفيعة أثبتت الأيام أن القرآن فيه معجزة للعالم كله. (بحث لعل) : أصل لعل للترجى، فإذا قلت لصديقك: لعلك تزورنى، كان المعنى أرجو وأطمع في زيارتك، وهنا لا تصح أن تكون كذلك لأن رجاء تقواهم لا يكون من القادر الذي في قبضته كل شيء وهو العليم الخبير. ولكن لما خلق الله الخلق لعبادته وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1» وقد أوضح لهم الطريقتين، وطلب منهم سلوك الطريق المستقيم مرارا كأنه في صورة الذي يرجو تقواهم وكأنها مرجوة له سبحانه ... وهي تفيد كذلك التعليل.   (1) سورة الذاريات 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 من آمن بالقرآن وجزاؤهم [سورة البقرة (2) : آية 25] وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَلَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيها خالِدُونَ (25) المفردات: مُتَشابِهاً: يشبه بعضه بعضا. الجنة: البستان، والمراد دار الخلود التي أعدت للمؤمنين. المناسبة: من عادة القرآن الكريم أنه إذا تعرض للكلام على من كفر وعصى أردف ذلك بالكلام على من آمن واتقى ليظهر الفرق جليا بينهما فيكون ذلك أدعى للامتثال. المعنى: بشّر يا محمد، أو: يا من تتأتى منه البشارة من العلماء والوعاظ، بشّر العاملين الذين آمنوا وعملوا صالحا أن لهم جنات فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيها أنهار جارية تحت الأشجار، فيها الثمار الشهية، كلما قدمت لهم ثمرة منها قالوا متعجبين: هذه الثمرة كالتي رأيناها في الدنيا، فإذا تذوقوها وأكلوها رأوا عجبا وأدركوا أنها تشبه ثمار الدنيا في الشكل والجنس فقط، أما في الذوق والطعم والحجم فهذا ما لم يروه أبدا، وأتوا به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 متشابها ليأنسوا به ويقدموا على أكله لأن النفس للمألوف أميل، وفي الجنة حور مقصورات في الخيام، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، طاهرات مطهرات من كل دنس ورجس كالحيض والنفاس وشرور النفس والهوى، وهم في الجنة خالدون، ولا حرج على فضل الله، فهذا الكريم القادر أعده لعباده الصالحين، فتبارك الله أحسن الخالقين. واعلم يا أخى أن نعيم الجنة غير محدود، وما أعد فيها فشيء تقصر العبارة عن وصفه، وإذا أراد بيان الحقيقة المادية عبر عنها بقوله: فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ. الأمثال في القرآن وموقف الناس منها [سورة البقرة (2) : الآيات 26 الى 27] إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27) المفردات: لا يَسْتَحْيِي الاستحياء: تغير وانكسار يعترى الإنسان من خوف ما يعاب عليه فيؤدى إلى ترك الفعل، والمراد هنا أنه- سبحانه- لا يترك ضرب المثل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 مَثَلًا يطلق على المثل ومنه التمثيل، وعلى القول السائر، وعلى النعت والصفة التي بلغت مبلغ المثل في الغرابة والشيوع، البعوضة: الناموسة (ينقضون) النقض: الفسخ وفك الترتيب، وأصل الاستعمال في الحبل، ثم استعمل في العهد لأنه يشبهه. ميثاق ميثاق العهد: توكيده، المراد العهد المؤكد، وهو ما أوصاهم به في الكتب السابقة من الإيمان بمحمد إذا ظهر. سبب النزول: روى أنه لما ضرب الله الأمثال بالذباب والعنكبوت ضحكوا وقالوا: ما يشبه هذا كلام الله ، وفي رواية أنهم قالوا: ما يستحيى رب محمد أن يضرب مثلا بالذبابة والعنكبوت، فنزل قوله- تعالى-: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي مشاكلة لقولهم. المعنى: أن الله- سبحانه- لا يترك ضرب الأمثال بالبعوض أو أخس منه، فالمثل جعل لكشف المعنى وتوضيحه بما هو معروف مشاهد لا سبيل إلى إنكاره، فإن كان المضروب له المثل عظيما كالحق والإسلام ضرب مثله بالنور والضياء. وإن كان ضعيفا حقيرا كالأصنام ضرب مثله بما يشبهه كالذباب والبعوض والعنكبوت، على أنه لا فرق عند الله بين البعوضة والجمل في الخلق والتقدير. فأما المؤمنون، ففي قلوبهم نور يهديهم إلى التصديق بأن هذا كلام الله، وأما الكفار الجاحدون فهم في حيرة من أمرهم، وقصارى قولهم أن يقولوا متعجبين، ماذا يريد الله بهذا المثل؟ شأن المتخبط الذي لا يدرى. لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا؟ [سورة المدثر آية 31] . فأنت معى أن المثل ضل به كثير من الناس، واهتدى به كثير من الناس، ولا يضل به إلا الخارجون عن طاعة الله، الذين ينقضون ما عاهدوا الله عليه من الإيمان بمحمد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 والتصديق به، خصوصا بعد ظهور الحجة على صدقة، وأنه مكتوب عندهم في التوراة، فهؤلاء يفرقون بين الأنبياء فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، وقد أمر الله بوصل الإيمان بجميع الأنبياء، ولكن هؤلاء همهم الإفساد بين الناس. والتضليل في العقائد إبقاء على رئاسة كذابة وزخرف زائل، هؤلاء لا شك قد خسروا دنياهم بافتضاحهم وتخبطهم، وخسروا آخرتهم بغضب الله عليهم، وأى خسران بعد هذا؟!! مظاهرة قدرة الله [سورة البقرة (2) : الآيات 28 الى 29] كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29) المفردات: اسْتَوى إِلَى السَّماءِ: استواء يليق بجلاله لا يعلمه إلا هو بلا كيف ولا تمثيل، وقيل: قصد إلى السماء قصدا مستويا خاصا بها. فَسَوَّاهُنَّ: أتم خلقهن مستويات لا تشقق فيهن ولا عوج. المعنى: استتبع الحديث عن الكفار وموقفهم من القرآن وأمثاله أن يتعجب من حالهم التي تناهت في العجب فيقول ما معناه: أى وجه لكم وأى سند لإنكاركم ربوبية الله؟! ولو خلّيتم وفطرتكم الصحيحة لعرفتم فيما بينكم وبين أنفسكم أن وجودكم هذا سببه فطرة الله، وأنه منّ عليكم بنعمة الوجود ووهب لكم عقلا، وكرمكم ولم يترككم هملا في الدنيا، بل جعل حدا لآجالكم، ثم إليه ترجعون ليجزي كلا منكم على ما قدمته يداه، ويحاسبكم على النعمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 التي أنعم بها عليكم. وعن ابن عباس قال: كنتم ترابا قبل أن يخلقكم فهذه ميتة، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة ثانية، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أخرى رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ. وها هي ذي الأرض بما فيها هو الذي خلقها ومكن لكم فيها، ففهمتم أسرارها ودقائقها حتى استخدمتم الذرة والأثير، وقد كان هذا كافيا لئلا تكفروا به، وهناك مظهر آخر من مظاهر القوة والعظمة اختص الله بمعرفة سره ودقائقه وهو هذه السموات السبع التي رفعها بقدرته، وعلم هو كنهها وحقيقتها، ومن ذا الذي يعلم المخلوق إلا خالقه؟! فمن الخير لنا ألا نفكر في السماء وطبيعتها، وكيف استوى إليها، بحثا يضيّع علينا روح الدين، بل نستشعر عظمة الخالق الذي رفع السماء وبسط الأرض!! قصة خلق الإنسان وتكريمه بالخلافة وسجود الملائكة له [سورة البقرة (2) : الآيات 30 الى 34] وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَتَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَيَسْفِكُ الدِّماءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَاسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 المفردات: لِلْمَلائِكَةِ الملائكة: خلق الله أعلم بهم، وقيل: هم أجسام نورانية لا يأكلون ولا يشربون، دأبهم الطاعة ليلا ونهارا. خَلِيفَةً الخليفة: من يخلفك ويقوم مقامك. يَسْفِكُ الدِّماءَ: يريقها. نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ أى: ننزهك عن كل نقص متلبسين بحمدك والثناء عليك. وَنُقَدِّسُ لَكَ: نعظمك. أَنْبِئُونِي: أخبرونى السجود: الخضوع والانقياد. إِبْلِيسَ: واحد من الجن، وقيل: أبوهم كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف 50] ، وقيل- من الملائكة لظاهر الآية والأحسن أن الله أعلم بهؤلاء جميعا أَبى امتنع. القصة لون من ألوان الأدب العالي، وهي في القرآن الكريم لمعان سامية لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وهذه القصة فيها مدى تكريم الله لآدم وبنيه باختياره خليفة، وتعلمه ما لا تعلمه الملائكة، أفيليق منهم أن يقفوا من الله ورسله موقف الكفر والعناد؟ ومن هنا ندرك سر المناسبة بين الآيات، ولا تنس ما فيها من التسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث يرى موقف الملائكة الأطهار من الله- سبحانه وتعالى-. المعنى: واذكر يا محمد لقومك قصة خلق أبيهم آدم حيث قال الله للملائكة: إنى جاعل في الأرض خليفة يقوم بعمارتها وسكناها، ويقوم بعضهم بالزعامة والتوجيه وتنفيذ الأحكام حتى يعمر الكون، فقالت الملائكة: يا رب هذا الخليفة وبنوه تصدر أفعالهم عن إرادتهم واختيارهم، وهم لا يعلمون المصلحة الحقيقية لأن علمهم محدود، وقد خلقوا من طين فالمادة جزء منهم، ومن كان كذلك فهو إلى الخطأ أقرب فهو يفسد في الأرض. وأنت يا رب تريد عمارتها فيا رب!! كيف تجعل فيها من يفسد فيها؟ [استفهام من لون التعليم لا الاعتراض] ونحن أولى لأن أعمالنا تسبيحك وتقديسك. لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فأجابهم المولى: إنى أعلم ما لا تعلمون ... إنى أعلم كيف تصلح الأرض وكيف تعمر ومن أصلح لعمارتها؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 فهذا خلق فيه دواعي الخير والشر، فبالخير والشر تصلح الدنيا وتعمر، وبهذا تظهر حكمة إرسال الرسل. وإن أردتم موضع السر فالله قد علم آدم أسماء الأشياء المادية التي بها تعمر الدنيا وتصلح إلى الأبد، ثم عرض هذه الأشياء على الملائكة، وقال لهم: أخبرونى بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين في دعوى أنكم أحق بالخلافة من غيركم. فوقفوا عاجزين، قالوا: يا رب لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم بكل شيء الحكيم في كل صنع. فقال المولى- جل جلاله-: يا آدم أخبرهم بأسمائهم، فلما أخبرهم بالأسماء أدركوا السر في خلافة آدم وبنيه وأنهم لا يصلحون لعدم استعدادهم للاشتغال بالماديات، والدنيا لا تقوم إلا بها إذ هم خلقوا من النور وآدم خلق من الطين، فالمادة جزء منه. وهنا قال الله- سبحانه-: ألم أقل إنى أنا العالم بكل ما غاب وما حضر في السموات والأرض؟ وأعلم ما ظهر، وما تبدون وما تكتمون. قصة ثانية تبين لنا مدى تكريم الله للإنسان حيث أمر الملائكة بالسجود له، وفي هذا تعظيم وأى تعظيم! واذكر يا محمد لقومك وقت أن قلنا للملائكة الأطهار: اسجدوا لآدم سجود تعظيم وإجلال لا سجود عبادة وتأليه كما يفعل الكفار مع أصنامهم، فسجد الملائكة جميعا وامتثلوا أمر الله إلا إبليس اللعين فإنه امتنع من السجود واستكبر قائلا: أأسجد له وأنا خير منه؟ خلقتني من نار وخلقته من طين، منعه حسده وغروره وتكبره من امتثال أمر ربه، ولعل هذا الإباء والاستكبار والتعالي والغرور الذي عند إبليس من صفات النار التي خلق منها، وهكذا قد خرج عن أمر ربه فاستحق اللعنة وكان من الكافرين. يا ابن آدم! هكذا شرفك الله وكرمك وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ «1» بأن جعلك خليفة في الأرض، وعلمك ما لم تكن تعلم وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها، وأمر الملائكة بالسجود لأبيك فسجدوا، أفيليق بك أن تقف موقفا لا يرضاه ربك؟ لا بل يجب أن تمتثل أمر ربك وأن تعصى الشيطان عدوك، وأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.   (1) سورة الإسراء آية رقم 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 طبيعة الإنسان وموقف الشيطان منه [سورة البقرة (2) : الآيات 35 الى 39] وَقُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37) قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39) المفردات: رَغَداً: واسعا طيبا هنيئا. الشَّجَرَةَ قيل: هي الحنطة. فَأَزَلَّهُمَا: فأوقعهما في المخالفة من الزلة، وهي: السقوط. اهْبِطُوا: انزلوا. مُسْتَقَرٌّ: مكان استقرار. أَصْحابُ النَّارِ: الملازمون لها الذين لا يخرجون منها. المعنى: وتلك قصة أخرى لأبينا آدم الذي جعله الله خليفة في الأرض، كانت نهايتها أن أمره الله بأن يهبط إلى الأرض هو وزوجه وذريته، وإبليس ومن معه. قال الله- جل جلاله- لآدم: اسكن أنت وزوجك الجنة، وتمتّعا بكل ما فيها، وكلا من ثمارها وزروعها وأشجارها ما تشتهون أكلا هنيئا مريئا، ولا تقربا هذه الشجرة أبدا!؟ إنكما إن أكلتما منها كنتما من الظالمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 ولكن إبليس اللعين لا يمكن أن يتركهما، بل وسوس لهما وزين السوء قائلا: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ وأقسم لهما: إنى لكما لمن الناصحين. وهنا تظهر غريزة الإنسان وضعفه أمام المغريات، وها هو ذا قد ضعف أمام إغراء الشيطان، فأزلهما وأوقعهما في المخالفة، وكان ظاهر الأمر أن قد عصى آدم ربه وغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى. وهكذا كانت حكمة الله وكان أمره لأسرار لا يعلمها إلا هو لتعمر الدنيا، ولتتحقق الخلافة لله في الأرض حكم بأن يخرجا من الجنة، ويهبط الكل بعضهم لبعض عدو، ولهم جميعا في الأرض مستقر ومتاع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فإما يأتينكم منى هدى على لسان أنبيائى ورسلي: فمن تبع هداي فلا يضل ولا يشقى، ولا خوف عليه أبدا، ومن يعرض عن ذكرى ويعص أمرى فله في الدنيا التعب والنصب وفي الآخرة العذاب والألم. أما آدم أبو البشر فبعد أن أكل من الشجرة وظهرت غريزته وطبيعته وبدت له سوءته، وحاول سترها، وأدرك ما وقع فيه، وتلقى آدم من ربه كلمات: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ فتاب الله عليه وهدى. إنه هو التواب الرحيم. بنو إسرائيل وما طلب منهم [سورة البقرة (2) : الآيات 40 الى 43] يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 المفردات: إِسْرائِيلَ: هو يعقوب- عليه السلام- ابن إسحاق بن إبراهيم الخليل- عليهم السلام- وبنوه وأولاده وهم اليهود. بِعَهْدِي عهد الله: ما عاهدهم عليه في التوراة من الإيمان بالله وبرسله وخاصة خاتم الأنبياء محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي يبعث من ولد إسماعيل. بِعَهْدِكُمْ: ما عاهدتكم عليه من الثواب على الإيمان والتمكين من بيت المقدس قديما، وسعة العيش في الدنيا. وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا: البيع والشراء قد يطلق كل منهما مكان الآخر، و المعنى: لا تبيعوا آياتي بثمن قليل. تَلْبِسُوا: تخلطوا. المناسبة: من أول السورة إلى هنا يدور الكلام حول الكتاب واختلاف الناس فيه وضرب الأمثال للمنافقين، والأمر بعبادة الله، والدليل على أن القرآن من عنده، ثم الإنذار والبشارة، والحجج القائمة على الكافرين، ومظاهر قدرته، ثم الكلام على خلق الإنسان وتكريمه، ثم بعد هذا أخذ يخاطب المقيمين بالمدينة من أهل الكتاب وخاصة اليهود فهم أكثر من غيرهم ولهم في هذا المجتمع مكان، وكانت لهم مواقف مع النبي صلّى الله عليه وسلّم والكلام كله يدور حول القرآن وما فيه. خاطب اليهود من هنا إلى قوله- تعالى-: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ تارة بالملاينة وتارة بالشدة وطورا بذكر النعم وآخر بذكر جرائمهم وقبائحهم ... إلخ. المعنى: يا بنى العبد الصالح يعقوب، كونوا مثل أبيكم في اتباع الحق، واذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون، وظلل عليكم الغمام إلى آخر نعمه التي ستذكر بالتفصيل، وذكرها: القيام بشكره وامتثال أمره، وأوفوا بما عاهدتكم عليه من الإيمان بالله ورسله بلا تفريق ما دامت الحجة قائمة على صدقهم وخاصة محمد بن عبد الله أوف أنا بعهدي لكم فأعطيكم الجزاء العاجل في الدنيا والآجل في الآخرة، ولا يمنعكم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 هذا شيء، ولا ترهبوا أحدا سواي، فأنا أحق بالرهبة والخوف، وآمنوا إيمانا قلبيا صادقا بالقرآن وأنه من عند الله، فإنه أتى موافقا للتوراة التي معكم في الأصول العامة للدين، وفي التوراة وصف للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولا تكونوا يا أهل الكتاب أول الناس في الكفر به، فأنتم أحق بالإيمان لأن عندكم في التوراة دليل صدقه، ولا تبيعوا آيات الله الواضحة الدالة على صدق محمد فيما ادعى، ولا تبيعوها بثمن دنيوى قليل من رئاسة أو مال أو عادات قديمة، فإنه ثمن بخس وتجارة غير رابحة، ولا تخافوا أحدا سوى الله، ولا تخلطوا الحق الموجود في التوراة بالباطل الذي تخترعونه، ولا تكتموا وصف النبي وبشارته التي هي حق وأنتم تعلمون، وليس جزاء العالم يوم القيامة كالجاهل، ومن هنا نفهم أن التوراة التي أنزلت على موسى- عليه السلام- والتي كانت موجودة أيام النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم فيها حق وباطل، وأنهم غيروا فيها وبدلوا، وكانوا يعرفون هذا وذاك، وقد صدق الله أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ. ثم أمرهم بأهم أركان الدين التي لا يختلف فيها دين عن آخر، وهي إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، والخضوع لله مع الخاضعين. علماء اليهود وأحوالهم [سورة البقرة (2) : الآيات 44 الى 48] أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (48) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 المفردات: بِالْبِرِّ: الطاعة والصدق والتوسع في الخير. بِالصَّبْرِ: حبس النفس على ما تكره، وقيل: هو الصوم. يَظُنُّونَ: يعتقدون. عَدْلٌ العدل: الفداء. نزلت في علماء اليهود كانوا يأمرون غيرهم بالصدقة والثبات على الإسلام ويتركون أنفسهم. المعنى: إن تعجب فعجب من هؤلاء يأمرون غيرهم بالخير وينسون أنفسهم فهم كالمصباح يضيء للناس ويحرق نفسه، كيف يليق بكم يا أهل الكتاب أن تأمروا الناس بالبر، وهو جماع الخير، ولا تأتمرون به! والحال أنكم تتلون الكتاب، وتعلمون ما فيه من عقوبة من يقصر في أمر الله!! ولا شك أن من هذا وصفه فهو بغير العقلاء أشبه، آمنوا واستعينوا على أنفسكم الأمارة بالسوء وشياطينكم بالصبر والصلاة فإنهما جلاء القلوب والأرواح، وإنما أمرنا بالصبر لأنه احتمال المشاق من تكاليف وابتلاء مع الرضا والتسليم، ولا شك أن مثلهم في أشد الحاجة إليه، والصلاة أقرب إلى حصول المرجو منهم لما لها من التأثير في الروح، ولكنها شاقة على النفس الأمارة بالسوء: وَإِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ الذين عمرت قلوبهم بالإيمان فخفت جوارحهم إلى الصلاة بنشاط، واطمئنان، ومن هنا ندرك معنى الحديث: «جعلت قرّة عيني في الصّلاة» فالخاشعون: هم الذين يعتقدون أن وراءهم يوما يلاقون فيه ربهم فيحاسبون على أعمالهم. وأنهم إلى الله وحده راجعون، فمكافأون عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وهل الصلاة التي أمر بها اليهود هنا هي الصلاة الإسلامية أم هي صلاتهم؟ الأصح أنها الصلاة الإسلامية بناء على أنهم مخاطبون بفروع الشريعة ومكلفون بها، وهذه الصفات التي ذكرت ككونها كبيرة إلا على الخاشعين يؤيد ذلك. ثم كرر نداء بني إسرائيل ذاكرا لهم ما منّ على آبائهم وعليهم من النعم، وأنه فضلهم على غيرهم إذ جعل فيهم أنبياء وجعلهم ملوكا وفضلهم على العالمين في زمانهم، يا بنى إسرائيل: اتقوا يوما لا تجزى فيه نفس عن نفس شيئا، فليس الأمر كما تفهمون أن هناك شفعاء يشفعون إذ لا تقبل هناك شفاعة من شافع، ولا يؤخذ من نفس فداء ولا هم ينصرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وإذا كان الأمر كذلك فعلى أى أساس تنسون أنفسكم ولا تعملون لهذا اليوم وأنتم أهل كتاب فيه يوم الجزاء ووصفه؟! نعم الله على اليهود [سورة البقرة (2) : الآيات 49 الى 60] وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَالْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57) وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59) وَإِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 المفردات: يَسُومُونَكُمْ سامه العذاب: أذاقه. سُوءَ الْعَذابِ: العذاب السيئ الشديد. يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ: يبقون نساءكم على الحياة فلا يقتلون. بَلاءٌ اختيار فَرَقْنا أى: فلقنا، والمراد: جعلنا فيه جسرا تعبرون عليه. الْفُرْقانَ: التوراة الفارقة بين الحق والباطل. فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: ليقتل البريء منكم المجرم. جَهْرَةً: عيانا واضحا منكشفا. الصَّاعِقَةُ: الصيحة، أو نار من السماء. بَعَثْناكُمْ: أحييناكم وَظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ أى: جعلنا الغمام يستركم كالمظلة، والغمام: السحاب الرقيق. الْمَنَّ: شيء حلو كالعسل. السَّلْوى: نوع من الطير. هذِهِ الْقَرْيَةَ: هي بيت المقدس، أو بلد قريب منه. سُجَّداً: ساجدين بالانحاء، والمراد متواضعين متذللين لله. حِطَّةٌ أى: سؤالنا أن تحط عنا ذنوبنا، والمراد اسألوا الله المغفرة. رِجْزاً: عذابا من السماء. الْحَجَرَ: حجر الله أعلم به ومن أين أتى لموسى. فَانْفَجَرَتْ: انشقت وسالت. الناس: جماعة منهم وكانوا اثنى عشر سبطا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 المناسبة: بعد ما ذكّر اليهود بالنعم عليهم جملة في قوله: اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أخذ يقصها عليهم مفصلة وعددها عشر. المعنى: اذكروا أيها اليهود المعاصرون النعم التي أنعم الله بها على آبائكم، وهي نعم عليكم أيضا بالتبع، اذكروها حتى تقوموا بشكرها وتلجأوا لبارئها. 1- فقد نجى الله آباءكم من فرعون وآله فإنه كان يذيقكم العذاب الشديد، يذبح أبناءكم الذكور ويترك بناتكم يحيون، فقد ورد أن فرعون رأى نارا أطلقت من بيت المقدس وأحاطت بمصر، وانزعج من هذه الرؤيا، وفسرت له بأنه سيخرج ولد من بنى إسرائيل يذهب ملكك على يديه فأخذ يقتل الذكور ويترك النساء، ومع هذا فقد نجى الله بنى إسرائيل من هذا العذاب المبين، وفي النجاة من الهلاك أو الهلاك اختبار من الله حتى يظهر شكر الناجي وصبر الهالك. 2- واذكروا إذ جعلنا لكم في البحر طريقا يبسا سلكتموه حتى عبرتم سالمين وقد ترك فرعون وجنوده يغرقون وأنتم تنظرون إليهم. وروى أنهم كانوا بلا كتاب يحتكمون إليه ، وقد وعد الله موسى أن ينزل عليه التوراة بعد أربعين يوما (ذو القعدة وعشر من ذي الحجة) . وأمر موسى أن يذهب إلى جبل النور فيصوم الأربعين يوما، فذهب واستخلف هارون عليهم وأنزلت التوراة في الألواح، ولكن في هذه المدة اتخذتم العجل الذي صنعه لكم السامري (رجل كان منافقا فيهم) اتخذتموه إلها فعبدتموه، وظلمتم أنفسكم بهذا العمل الذي لا يليق. 3- ثم عفا الله عنكم وقبل توبتكم كي تشكروا الله أيها اليهود المعاصرون، وشكره باتباع رسله والإيمان بكتبه ما دامت الحجة قائمة على صدقهم وخاصة محمد صلّى الله عليه وسلّم. 4- واذكروا وقت أن آتينا موسى الكتاب والتوراة الفارقة بين الحق والباطل والحلال والحرام رجاء أن تهتدوا بها وتسيروا عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 5- واذكروا وقت قول موسى لقومه الذين عبدوا العجل في مدة صومه وغيابه وهي أربعون يوما: يا قوم إنكم باتخاذكم العجل إلها ظلمتم أنفسكم وأى ظلم بعد الإشراك بالله؟ فتوبوا إلى الله وارجعوا ذلكم خير لكم وأحسن عند بارئكم. وكانت التوبة في شريعتهم أن يقتل البريء منهم المذنب. وقد أرسل الله- سبحانه- سوداء حتى لا يرى بعضهم بعضا عند القتل فيرحمه وقد قتل منهم سبعون ألفا، وبعد ذلك تضرع موسى وهارون إلى الله فتاب عليكم إذ قبل توبة من قتل ومن لم يقتل، ولا غرابة في ذلك فالله هو التواب الرحيم بعباده. واذكروا وقت أن قال آباؤكم لموسى: لن نؤمن بالله وأنك رسوله حتى نرى الله عيانا بلا حاجز، فأخذهم ربكم بعذابه فماتوا ومكثوا يوما وليلة والحي ينظر إلى الميت. 6- ثم أحييناهم ليستوفوا آجالهم المقدرة لهم، كل ذلك لكي تشكروا- أيها اليهود المعاصرون- الله على ما أنعم به، وتعتبروا وتعتقدوا أن الله قادر على كل شيء، وشكر الله المطلوب منكم هو الإيمان بالله وكتبه وبمحمد صلّى الله عليه وسلّم الذي أخبر عن هذا كله. 7- روى أن موسى كلف من الله بأن يرحل ببني إسرائيل لقتال قوم جبارين فخرج معهم فلما وصلوا إلى وادي التيه بين الشام ومصر ومكثوا فيه أربعين سنة حيارى تائهين فكان الله يظلهم بسحاب رقيق يقيهم حر الشمس. 8- وكان ينزل عليهم الطعام مكونا من حلوى وطير مطهوّ وكان طعاما يقيهم غائلة الجوع، ولا علينا بعد ذلك بحث في أنه من أى نوع أو على أى شكل، ثم قيل لهم: كلوا من هذه الطيبات ولا تدخروا شيئا منها، واشكروا الله، فلم يفعلوا شيئا مما أمروا به، وعصيانهم وكفرهم بهذه النعم لا يضيرنا، وما ظلمونا به ولكنهم ضروا أنفسهم حيث قطع الله عنهم هذه النعم وجزاهم على مخالفتهم، أنهم كانوا لأنفسهم ظالمين. 9- واذكروا- أيضا- إذ قلنا لآبائكم: ادخلوا القرية المعلومة لكم فاسكنوا فيها وكلوا واشربوا أكلا واسعا لا حرج فيه وادخلوا الباب خاضعين مبتهلين إلى الله وحده وقولوا: يا ربنا دعاؤنا أن تحط عنا ذنوبنا وتغفر لنا سيئاتنا وسنزيد المحسنين منكم أكثر من هذا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 أما الذين بدلوا ما أمرناهم به، وما امتثلوا أمر الله، بل قالوا حبة في شعرة، أى: حنطة في زكائب من شعر، ودخلوا زاحفين على أستاههم غير خاضعين لله فإن جزاءهم أن الله أنزل عليهم عذابا شديدا من السماء وذلك بسبب فسقهم وخروجهم عن طاعة الله (قيل: هلك منهم سبعون ألفا) . 10- واذكروا يا بنى إسرائيل وقت أن طلب موسى- عليه السلام- السقيا لآبائكم وقت أن عطشوا في التيه واحتاجوا للماء فقال الله: يا موسى اضرب بعصاك الحجر المعهود فانفجر منه بأمر الله العيون، لكل جماعة منهم عين يشربون منها، وقيل لهم: كلوا واشربوا من عطاء الله ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. بعض قبائح اليهود وما لحقهم [سورة البقرة (2) : الآيات 61 الى 62] وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَقِثَّائِها وَفُومِها وَعَدَسِها وَبَصَلِها قالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (61) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالنَّصارى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 المفردات: البقل: كل ما اخضرت به الأرض من البقول والخضروات. القثّاء: هو الخيار. فُومِها: حنطتها أو ثومها. أَدْنى أى: أقل مرتبة، مِصْراً: بلدا عظيما، والمراد في الآية أى بلد زراعي الذِّلَّةُ أى: الذل. الْمَسْكَنَةُ: الفقر والحاجة. الَّذِينَ هادُوا: تهودوا، من هاد: إذا دخل في اليهودية، وهم اليهود. النَّصارى: أتباع عيسى. الصَّابِئِينَ: من خرج عن دينه مطلقا، وقيل: قوم عبدوا الملائكة. المعنى: خاطب الله اليهود المعاصرين مع أن الجناية من آبائهم لأنهم أبناؤهم وهم يعتزون بنسبتهم إليهم ولا ينكرون عليهم أفعالهم، ولا تنس مبدأ تكافل الأمة الواحدة. واذكروا- أيها اليهود المعاصرون- إذ قال آباؤكم: يا موسى لا يمكننا أن نستمر على طعام واحد مثل المن والسلوى. فاطلب لنا من ربك آن يطعمنا مما تنبت الأرض من خضروات وبقول كالحنطة والعدس والبصل والقثاء، فقال موسى تعجبا واستنكارا: أتستبدلون هذا الطعام بالمن والسلوى وهما خير وأهنأ؟ وإذا طلبتم الأقل نفعا وخيرا عوضا عما هو خير لكم فاهبطوا أى بلد زراعي فإن لكم فيه ما طلبتم. وبما جنوا من كفر وقتل للأنبياء بغير حق كما قتلوا زكريا ويحيى وغيرهم لهذا جعلت الذلة والمسكنة محيطة بهم مضروبة عليهم، كما تضرب الخيمة على من فيها، ورجعوا بالخسران والبعد من رحمة الله وهذا بسبب عصيانهم لأوامر ربهم عصيانا متكررا واعتدائهم على الناس ومنهم الأنبياء، فقد قتلوهم معتقدين أن قتلهم بغير حق!! ضربت عليهم الذلة والمسكنة: هما الذل والفقر والحاجة، ولا شك أنهم كذلك وإن كانوا ذوى مال، فاليهود قد ورثوا صفات الذل وضعف النفس وامتهانها بل وبيع الشرف لأجل المال فهم في فقر دائم وذل مستمر، ما داموا يعبدون المادة ويتألّهون المال. المال. غنى النفس ما استغنيت عنه ... وفقر النفس ما عمرت شقاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ولقد فهم بعض العلماء قديما أن هذه الآية تشير إلى أنهم لا تقوم لهم دولة أبدا، ونحن معهم في هذا إذ قيام دولة كهذه يوما أو يومين لا يهدم رأيهم، فقديما استولى الصليبيون على بيت المقدس ردحا من الزمن، ثم علت كلمة الله ورفعت راية الإسلام، وقريبا بأمر الله ترفع راية الإسلام. وقيام دولتهم هذه بمثابة تنبيه شديد من الله لنا علّنا نتعظ ونثوب إلى رشدنا وديننا إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ «1» فارجعوا إلى رشدكم حتى لا تضرب عليكم الذلة والمسكنة بكل معانيها القريبة والبعيدة. وبعد أن ذكّرهم بما فعلوا قديما، وبيّن عاقبة أمرهم بأوضح بيان ليعتبر المعاصرون ويتعظوا، أتى بقانون عام شامل لا يفرق بين أحد فقال ما معناه: كل من آمن يا لله واليوم الآخر إيمانا قلبيا وعمل صالحا فله من الله الأجر والمثوبة، وأنه لا يخاف أبدا ولا يحزن في الدنيا والآخرة، سواء كان من الذين آمنوا أو من اليهود أو النصارى أو من الذين رجعوا عن دينهم مطلقا قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ «2» . وهذا أروع مثل لمبدأ المساواة في الإسلام. من جنايات اليهود [سورة البقرة (2) : الآيات 63 الى 66] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَما خَلْفَها وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)   (1) سورة الرعد آية رقم 11. (2) سورة الأنفال آية رقم 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 المفردات: مِيثاقَكُمْ الميثاق: العهد المؤكد. الطُّورَ: جبل معروف بطور سينا. بِقُوَّةٍ: بجد ونشاط. تَوَلَّيْتُمْ: أعرضتم السَّبْتِ: اليوم المعروف. خاسِئِينَ: بعيدين عن رحمة الله. نَكالًا: عبرة تنكل من اعتبر بها، أى: تمنعه. المعنى: واذكروا وقت أن أخذنا العهد المؤكد على آبائكم بأن يؤمنوا بما في التوراة ولم يقبلوا حتى رفعنا فوقهم الطور إرهابا وتخويفا، وأمرناهم أن يقبلوا ما آتيناهم ويأخذوه بجد ونشاط لأن فيه الخير لهم، وليذكروا ما فيه ويعملوا به كي يكونوا من المتقين. فقبلوه إلى حين ثم أعرضوا من بعد ذلك عنه!! فلولا رحمة الله بهم وقبوله توبتهم لكانوا من الخاسرين المعتدين. وبالله لقد علمتم شأن الذين اعتدوا من آبائكم بصيد السمك يوم السبت وكان محرما فيه لقصره على العبادة، وقد ابتلاهم الله بأن كانت حيتانهم تأتيهم يوم سبتهم ظاهرة قريبة من الساحل، ويوم لا يسبتون لا تأتيهم، كذلك نبلوهم، وكان جزاؤهم على ارتكاب خطيئة الصيد يوم السبت وانشغالهم به عن العبادة أن حكم الله عليهم أن يكونوا كالقردة مبعدين عن رحمة الله والناس لأنهم نزلوا إلى مرتبة الحيوان، وهكذا كل فاسق خارج عن طاعة الله، وقيل: إن الله حكم عليهم بأن يكونوا في صورة القردة بعيدين عن رحمة الله، فجعل الله عقوبتهم هذه عبرة لمن لمن شاهدها ولمن يأتى بعدهم إذ نكل بهم تنكيلا يتناسب مع جرمهم، وجعلها عظة للمتقين لأنهم لا يتعدون حدود الله، فأولى بكم- أيها اليهود المعاصرون- أن تعتبروا وتتعظوا بما حل بأسلافهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 قصة ذبح البقرة [سورة البقرة (2) : الآيات 67 الى 73] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَتَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَما كادُوا يَفْعَلُونَ (71) وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَاللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَيُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73) المفردات: لا فارِضٌ الفارض: المسنّة. وَلا بِكْرٌ البكر: الصغير. عَوانٌ: نصف بين الصغيرة والكبيرة. فاقِعٌ لَوْنُها يقال: أصفر فاقع، أى: شديد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 الصفرة. لا ذَلُولٌ: ليست مذللة بالعمل. تُثِيرُ الْأَرْضَ: تنشر الغبار وتهيجه، والمراد: تحرث الأرض. مُسَلَّمَةٌ: سليمة من العيوب. لا شِيَةَ فِيها: لا لون غير لونها. فَادَّارَأْتُمْ: تدارأتم بمعنى: تخاصمتم وتدافعتم. سبب النزول: كان في بنى إسرائيل شيخ موسر وله ابن فقتله أبناء عمه ليرثوا أباه، ثم جاءوا يطالبون بديته ودمه، وتخاصموا في ذلك، فأمرهم الله أن يذبحوا بقرة. ويضربوا القتيل ببعض أجزائها فيحيا ثم يخبر عن القاتل، وقد ذبحت البقرة وضربوا القتيل فأحياه الله وأخبر عن القتلة وكانوا أبناء عمه. أفرأيتم ما تفعل اليهود قديما وحديثا؟! المعنى: واذكروا وقت قول موسى لقومه الذين هم أسلافكم: إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة- أى بقرة كانت- فلم يسرعوا إلى الامتثال، ولكن شدّدوا فشدد الله عليهم، وقالوا: أتهزأ بنا يا موسى؟ قال: معاذ الله أن أكون من الذين يهزئون في موضع الجد، فلما رأوه جادّا قالوا: ادع لنا ربك يبين لنا ما سنها؟ فقال لهم. إنها بقرة ليست صغيرة ولا كبيرة، بل وسط بين هذا وذاك فافعلوا ما تؤمرون به، ولا تشددوا فيشدد الله عليكم، ولكنهم اليهود قالوا: ادع لنا ما لونها: إنها صفراء شديدة الصفرة تجلب السرور لمن يشاهدها، فلم يكتفوا بذلك، بل طالبوا بأوصاف تميزها أكثر، ولكنهم أحسوا بأنهم تشددوا وجاوزوا الحد المعقول فقالوا معتذرين: إن البقر كثير متشابه علينا، وهذه الأوصاف السابقة تنطبق على كثير، وإنا إن شاء الله لمهتدون إلى المطلوب. فأجابهم الله أن البقرة المطلوبة لم يسبق لها عمل في حرث الأرض ولا سقيها، سليمة من العيوب ليس فيها لون مخالف، قالوا: الآن جئت بالبيان الواضح فطلبوها فلم يجدوها إلا عند يتيم صغير بارّ بأمه، فساوموه، فاشتط حتى اشتروها بملء جلدها ذهبا، وما كان امتثالهم قريب الحصول. واذكروا إذ قتلتم- والخطاب لليهود المعاصرين، لأنهم أبناء السابقين ومعتزون بنسبهم وراضون عن فعلهم- واذكروا وقت قتل آبائكم نفسا حرم الله قتلها، ثم تخاصموا وتجادلوا وأنكروا على الله فعلهم كما ينكرون اليوم ما عندهم من أوصاف النبي صلّى الله عليه وسلّم والله مظهر ما تكتمونه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فقلنا: اضربوه ببعضها فضربوه فأحياه الله وأخبر عن القتلة كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى يوم القيامة فيأخذ كلّ جزاء عمله، وكذلك يريكم الله آياته الواضحة الدالة على صدق القرآن والنبي حيث يخبر بالمغيبات كي تعقلوا فتؤمنوا بالنبي وتصدقوا بالقرآن. يريد الله أن يسجل عليهم ذنبين: الأول: وقوفهم موقف المستهزئ المعاند المجادل المتشدد المنكر الحق الصريح، وجزاءه على كل هذا لعلهم يتعظون. الثاني: قتل النفس البريئة والإنكار، وإنما أخره لأن الأول ديدنهم وطبيعتهم التي لا يتخلفون عنها. وفي القصة عبرة للمتشددين وتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتسجيل على اليهود بعض قبائحهم وخاصة قلبهم للحقائق. قسوة قلوبهم واستبعاد الإيمان منهم [سورة البقرة (2) : الآيات 74 الى 78] ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74) أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (77) وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 المفردات: يَتَفَجَّرُ: يخرج بكثرة. يَشَّقَّقُ: ينفتح شقوقا بالطول أو العرض. خَشْيَةِ اللَّهِ: انقيادا لله وحده. يُحَرِّفُونَهُ: يغيرونه. عَقَلُوهُ: فهموه وعرفوه. لِيُحَاجُّوكُمْ: ليجادلوكم ويخاصموكم. أُمِّيُّونَ: عوام أَمانِيَّ: أكاذيب لا تستند إلى دليل عقلي أو نقلي. المعنى: من بعد ذكر ما يلين القلوب الجامدة من المواعظ والآيات والحجج البينات قست قلوبكم قسوة قاسية، فهي كالحجارة أو أشد قسوة منها، إذ قلوبكم لم تتأثر بالآيات، فكأنها خرجت عن دائرة الحيوان إلى دائرة الجماد، بل نزلت عن درجة الجماد أيضا، فها هي ذي الحجارة تتأثر بالماء تارة فيتفجر منها بكثرة فيتكون النهر، وتارة تتشقق شقوقا يخرج منها الماء ولو بسيطا، والحجارة قد تأثرت بالمؤثرات الخارجية فتسقط منقادة لله وحده، وقلوبكم لم تتأثر بالمؤثرات والمواعظ فكانت أقسى من الحجارة، بل أشد قسوة منها، وما الله بغافل أبدا سيجازيكم عليه أوفى جزاء، وانظر إلى قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ فإن لفظ ثم في الأساليب العربية يفيد الترتيب ولكن مع التراخي والتباعد بين ما قبلها وما بعدها فكأن قسوة قلوب هؤلاء مرتبة أوغلت في البعد عن الوضع السليم. هذا خطاب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه وسط الخطاب الموجه إلى اليهود إذ الكلام كله في بيان سوءاتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 أنسيتم أفعالهم وأعمالهم فتطمعون أن يؤمن لكم هؤلاء اليهود؟ كان منهم جماعة يسمعون كلام الله ثم يغيرونه ويبدلونه حسب هواهم، وهم يعلمون أن هذا العمل يتنافى مع الحقيقة، فكيف تطمعون إذن في إيمان من له سابقة في الضلال؟. ونقيصة أخرى من نقائصهم وهي أن منافقيهم إذا تقابلوا مع المؤمنين قالوا: نحن مؤمنون بالله والنبي إذ هو المبشر به عندنا فنحن معكم، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قالوا: كيف تحدثون أتباع محمد بما أنزل الله عليكم في التوراة؟ كيف تفعلون هذا وهم يأخذون كلامكم حجة عليكم فيخاصموكم عند ربكم يوم القيامة؟ أتذيعون أسراركم التي تضركم أفلا تعقلون أن هذا خطأ وضرر؟ فيرد الله عليهم: أيحسبون أن هذا سر لا يطلع عليه أحد؟ ولا يعلمون أن الله- سبحانه وتعالى- يعلم السر وأخفى، ويعلم الغيب والشهادة، فسواء قلتم أم لم تقولوا فإنه يعلم ما تضمرون وما تعلنون وسيجازيكم على ذلك كله. هذا شأن من عرف الكتاب منهم وهو علماؤهم وأحبارهم، وأما الأميون منهم فإنهم لا يعرفون عن دينهم إلا أكاذيب سمعوها ولم يعقلوها «أنهم شعب الله المختار، وأن الأنبياء منهم فيشفعون لهم، وأن النار لا تمسهم إلا أياما قليلة» وما هم في كل ذلك إلا واهمون. والمعنى: لا تطمع يا محمد في إيمانهم ولا تأس على أمثالهم، فإن من كان كذلك فلا خير فيه، ولا أسف عليه. كذب أخبار اليهود وافتراؤهم على الله [سورة البقرة (2) : الآيات 79 الى 82] فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَقالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 المفردات: وَيْلٌ الويل: العذاب الشديد والهلاك. سَيِّئَةً السيئة: الكفر والشرك والنفاق أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ الخطيئة: الكبيرة من الذنوب، والمراد بالإحاطة أنه لم يبق فيه جانب من قلب أو لسان أو جارحة إلا اشتملت عليه في تحصيلها. المعنى: العذاب الشديد لهؤلاء الذين ينسخون التوراة بأيديهم فيغيرون فيها ما يشاءون أو شاءت لهم أهواؤهم!! روى أن أوصاف النبي صلّى الله عليه وسلّم كانت مكتوبة عندهم في التوراة فغيروها وكتبوا بدلها، فإذا سئلوا من العوام عن وصفه ذكروا ما كتبوه هم فيكذب العوام النبي صلّى الله عليه وسلّم ومع هذا تبلغ بهم الجرأة والقحة إلى أن ينسبوا مفترياتهم إلى الله- سبحانه- ليأخذوا بهذا الكذب الشائن ثمنا دنيويا تافها من مال أو رئاسة أو جاه فويل لهم مما كسبوه!! ومن سوءاتهم الشنيعة التي اقترفوها أنهم يدعون أن النار لا تمسهم إلا في أيام قليلة معدودة هي أربعون يوما مدة عبادتهم العجل، هذه دعوى فما دليلها؟ ولأى شيء لا تصيبكم النار مهما فعلتم؟ أأخذتم على الله عهدا بذلك؟ وإن كان هناك عهد فلن يخلف الله عهده!! لا: لم تأخذوا عهدا بل تقولون على الله ما لا علم لكم به، والذي دفعكم إلى هذا غروركم ومركب النقص فيكم. بلى- أيها اليهود- ستخلدون في النار حسب ما جنيتم من المعاصي كالكفر وقتل الأنبياء بغير حق وعصيان الله ومخالفة أمره، وكيف لا يكون ذلك؟ وقد سن الله قانونا عاما شاملا لكل الخلائق من لدن آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وهو: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 من اجترح سيئة أو اقترف خطيئة اقترافا اشترك فيه قلبه ولسانه وجوارحه حتى كأن الخطيئة سور حوله فأولئك البعيدون في الضلال أصحاب النار الملازمون لها هم فيها خالدون، ومنهم أنتم بل أنتم أولى من غيركم بالعذاب. ومن آمن وعمل صالحا من كل جنس ولون فأولئك الذين مس الدين شغاف قلوبهم وهم أصحاب الجنة هم فيها خالدون، وهذا وعد للمؤمنين ووعيد للكافرين ليظهر الفرق جليا. ميثاق بنى إسرائيل [سورة البقرة (2) : الآيات 83 الى 86] وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (86) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 المفردات: مِيثاقَ الميثاق: العهد المؤكد الذي أخذ عليهم في التوراة. إِحْساناً: تحسنون إلى الوالدين إحسانا. ذِي الْقُرْبى: صاحب القربى من جهة الرحم أو العصب. تَوَلَّيْتُمْ: أعرضتم. تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ: تقتلون الأنفس بغير حق. تَظاهَرُونَ: تتعاونون. بِالْإِثْمِ: الذنب. الْعُدْوانِ: الاعتداء. أُسارى: أسرى خِزْيٌ: ذل وهوان. اشْتَرَوُا: استبدلوا. المعنى: يبين الله- سبحانه- مدى مخالفة اليهود للتوراة وأنهم كاذبون كذبا صريحا في ادعائهم أنهم مؤمنون بها، إذ قد أخذ الله عليهم فيها العهود المؤكدة أنهم لا يعبدون إلا الله- سبحانه- وأنهم يحسنون إلى الوالدين إحسانا كاملا، وأمروا بالعطف على الأقارب واليتامى والمساكين كل بما يناسبه ويقدر عليه من غير تعب ولا مشقة، وأمروا بالقول الحسن الذي لا إثم فيه ولا شر، وأن يؤدوا صلاتهم مقومة تامة وزكاتهم كاملة، ولكنهم أعرضوا عن هذا كله مع أن هذه الأوامر تكفل سعادة المجتمع وحياته حياة هادئة هنيئة، ولكنهم اليهود جبلوا على لؤم الطبع وحب المادة، فلن نرى منهم إحسانا ولا عطفا ولا خيرا، اللهم إلا نفر قليل منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه، وإذا كان هذا شأنهم مع كتابهم فلا تأس عليهم يا محمد ولا تحزن. ميثاق آخر لهم بشأن حقوق الغير خاصة الأقارب والمواطنين، ومن هذا حالهم فهل يكون لهم إلا الخزي والعار؟ ولا أمل فيهم أصل!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 واذكر يا محمد لهم وقت أن أخذنا عليهم في التوراة العهود المؤكدة بألا يقتل بعضهم بعضا، ولا يسفك دمه بغير حق شرعي، ولا يخرج بعضهم بعضا من دياره ووطنه. وفي تعبير القرآن الكريم بقوله: لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ (الآية) إشارة إلى أن دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر بعينه، حتى إذا سفكه كان كأنه قتل نفسا أو انتحر بيده مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ (الآية: 32 من سورة المائدة) . ثم أقررتم أيها اليهود المعاصرون بالميثاق الذي أخذ على آبائكم واعترفتم به واعتقدتموه بقلوبكم ولم تنكروه بلسانكم فالحجة قائمة عليكم. ثم بعد أن سجل الله عليهم اعترافهم بالميثاق واعتقادهم له استبعد منهم أن يأتوا بما يخالفه بأن يقتل بعضهم بعضا، ويخرج بعضهم بعضا من ديارهم مع أنهم إخوانهم في الدين واللغة والنسب متعاونين مع الغير بالذنب والعدوان ومعصية الرسول، وأن أخذوا أسرى حرب تنقذونهم بالمال، والإخراج والقتل محرم عليكم في التوراة فكيف تفعلونه؟ وبأى حق تؤمنون ببعض الكتاب وتمتثلون لآية مفاداة الأسرى وتكفرون بالآيات الناطقة بتحريم القتل والإخراج والتعاون بالإثم والاعتداء فتفعلون ذلك. وإذا حصل منكم أنكم آمنتم ببعض التوراة وكفرتم بالبعض الآخر فليس لكم جزاء على هذا الفعل الشنيع إلا ذل وهوان في الدنيا وعذاب أليم دائم في الآخرة، وما الله بغافل عن أعمالكم أبدا، بل سيجازيكم عليها حتما. أولئك اليهود الذين يفعلون هذا آثروا الحياة الدنيا كالرياسة الكاذبة والمال على الآخرة وما فيها من نعيم مقيم للمؤمنين، فهم باعوا آخرتهم بدنياهم وبئس ما باعوا وهم لا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون في الدنيا والآخرة. وهكذا كل أمة لها دين تؤدى بعض أحكامه كالصلاة والصوم والحج ولا تؤدى بعض أحكامه الأخرى كما إذا شاع فيها الربا والزنى والرشوة والسرقة ولم تتعاون على الخير ولم تؤد الزكاة، وبخل أغنياؤها على فقرائها ... إلخ!! وأخوف ما أخاف أن يطبق علينا هذا الوعيد. وقد كان يهود المدينة شعبين: بنو قريظة والنضير، فحالفت قريظة الأوس وحالفت النضير الخزرج فكان كل فريق يقاتل الآخر مع حلفائه، ويخرب ديارهم ويخرجهم منها، فإذا أسروا فدوهم، وإذا سئلوا في ذلك يقولون أمرنا بالفداء في التوراة (آمنوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 بهذه الآية) ولم تقتلونهم أليس محرما عليكم هذا؟ قالوا: نعم ولكنا نستحي أن تذل حلفاؤنا. مواقفهم من الرسل والكتب [سورة البقرة (2) : الآيات 87 الى 91] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَقَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87) وَقالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88) وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَيَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 المفردات: وَقَفَّيْنا: أتبعناهم رسولا إثر رسول. الْبَيِّناتِ: المعجزات الواضحة كإحياء الموتى وإبراء الأكمه. بِرُوحِ الْقُدُسِ: - جبريل عليه السلام-. غُلْفٌ: مغشاة بأغلفة كالغطاء، والمراد: لا تعى. لَعَنَهُمُ اللَّهُ: أبعدهم عن رحمته وطردهم. يَسْتَفْتِحُونَ: يطلبون الفتح ويستنصرون به. اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ: باعوها، وكل من ترك شيئا وأخذ غيره فقد اشتراه. فَباؤُ: رجعوا. بِغَضَبٍ الغضب: أشد من اللعن. المعنى: تلك جناية أخرى سيقت مقسم عليها من الله لأهمّيّتها: والله لقد آتينا موسى التوراة وأتبعناه برسل يتبع بعضهم بعضا ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا «1» وهم: يوشع وداود وسليمان وعزيز وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى- عليهم السلام- وآتينا عيسى ابن مريم البتول المعجزات الواضحة دليلا على صدقه وقويناه بجبريل، وقيل بالإنجيل، وخص عيسى بتأييد روح القدس لكرامته. ولقد آتينا- يا بنى إسرائيل- أنبياءكم ما آتيناهم، أفكلما جاءكم رسول بما لا تميل إليه نفوسكم إذ هي لا تميل إلى الخير أصلا كفرتم واستكبرتم؟! والخطاب لجميع اليهود لأنهم فعلوا ذلك قديما ورضى عنهم أولادهم، فالجميع مشتركون، فهم كذّبوا ببعض الأنبياء وقتلوا البعض الآخر. ومن سوءاتهم الشنيعة قولهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم استهزاء منهم: قلوبنا في غطاء فلا تعى ما تقوله، ولا تفهم لكلامك معنى، فيرد الله عليهم: لستم كذلك ولكن الله طردكم من رحمته، وأبعدكم عن توفيقه بسبب كفركم وعصيانكم، فإيمانكم قليل جدا أو أنكم لا تؤمنون أصلا. وقد كان اليهود وعندهم في التوراة وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان زمانه يمنّون أنفسهم بالنصر على المشركين وكانوا يقولون: اللهم انصرنا بالنبي المبعوث آخر الزمان الذي نجد نعته في التوراة. فلما جاءهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي يمينه القرآن مصدقا لما عندهم في التوراة ومؤيدا بوصفه   (1) سورة المؤمنون الآية رقم 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 المعروف عندهم كفروا واستكبروا، وآثروا الحياة الدنيا على الآخرة فلعنة الله عليهم أجمعين. اليهود والمعاصرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم يعرفون حقّا أنه النبي المبشر به في التوراة الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ولكنهم لم يؤمنوا حسدا وبغيا، فقد باعوا حظهم الحقيقي- وهو الإيمان بالله ورسوله- وأخذوا بدله كفرهم بما أنزل الله، وما دفعهم إلى ذلك إلا الحسد والبغي، فهم قد رجعوا بغضب من الله جديد، لكفرهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه الله أنزل عليه الكتاب من فضله، وكانوا لجهلهم يدعون أنهم أحق، وباءوا بغضب على غضب سابق لكفرهم بالأنبياء قديما ولهم عذاب مهين. وإذا قيل لهم: آمنوا بالقرآن قالوا: لا نؤمن به إنما نؤمن بالذي أنزل علينا في التوراة ونكفر بغيره، فيرد الله عليهم: إن القرآن هو الحق من عند الله المصدق للتوراة التي معكم لأنهما من عند الله فكيف تكفرون ببعض الكتب وتؤمنون ببعضها؟ والكل من عند الله، على أنكم لم تؤمنوا بالتوراة ففيها القتل محرم، وقد قتلتم الأنبياء بغير حق فلم قتلتموهم إن كنتم بالتوراة مؤمنين؟ فالحق أنكم لم تؤمنوا بأى كتاب أنزل فلا طمع في إيمانكم بالقرآن. كذبهم في ادعائهم الإيمان بالتوراة [سورة البقرة (2) : الآيات 92 الى 93] وَلَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَإِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93) المفردات: بِالْبَيِّناتِ: المعجزات كالعصا وفلق البحر. أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ: خالط حب العجل قلوبهم وصب فيها كما يخالط الصبغ الثوب والشراب الجسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 المعنى: توبيخ لهم وتبكيت وتفنيد لقولهم: آمنا بالتوراة وكفرنا بغيرها، فقيل لهم: لم تؤمنوا بها بدليل قتلكم الأنبياء وهو محرم عليكم فيها، وعبادتكم العجل وجعله إلها مع أن موسى جاءكم بالمعجزات وأنزلت عليه التوراة، ولقد فعلتم هذه الموبقات بعد هذا، واذكر يا محمد لهم وقت أن أخذ عليهم الميثاق المؤكد بأن يعملوا بما في التوراة، ورفعنا فوقهم الطور إذ ذاك إرهابا لهم وقد قال لهم الله: خذوا ما آتيناكم بجد ونشاط واسمعوا ما فيها سماع قبول، فما كان من آبائكم إلا أن قالوا: سمعنا وعصينا، وقد عبدوا العجل، وخالط حبه قلوبهم، وتدخل فيها كما تدخل الكهرباء الجسم، قل يا محمد: إن كان إيمانكم بالتوراة يدعوكم إلى هذا فبئس شيئا يأمركم به إيمانكم إن كنتم مؤمنين، فإن كان إيمانكم كما وصف القرآن فبئس هذا الإيمان. ولم تتكرر القصة بل سبق أن ذكرت على أنها من نعم الله عليهم حيث عفا عنهم وقبل توبتهم لما تابوا عن عبادة العجل، وهنا بيان لخيانتهم وتسجيل لسوءاتهم. اليهود وحرصهم على الحياة [سورة البقرة (2) : الآيات 94 الى 96] قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96) المفردات: خالِصَةً: خاصة بكم. أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ الحرص: الطلب بشره. بِمُزَحْزِحِهِ: مبعده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 المعنى: من أمانى اليهود الكاذبة وغرورهم وشعورهم بالنقص الديني اعتقادهم أن الجنة لهم ولا يدخلها إلا اليهود وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً. فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: إن كنتم صادقين في دعواكم أن الجنة خالصة لكم من دون الناس فاطلبوا الموت وتمنوه فإنه يكون حبيبا إلى نفوسكم إذ لا شك أن من يوقن بالحياة الآخرة وأن فيها له نصيبا يتمنى أن يصل إليها، ولكن لن يتمنى أحد منهم أبدا بسبب ما قدم من الكفر والفسوق والعصيان وقتل الأبرياء خصوصا الأنبياء، والله عليم بهم ومجازيهم على أعمالهم القديمة والحديثة. تالله لتجدن اليهود أحرص الناس على حياة طويلة، بل وأحرص من الذين أشركوا بالله ولم يؤمنوا بالآخرة، فهؤلاء المشركون كان يجب أن يكونوا أحرص الناس على الحياة إذ هي الأولى والأخير عندهم، فإذا كان اليهود هم أهل كتاب ورسالة أحرص منهم أفلا يكون هذا من داعي العجب الذي لا ينتهى؟! ولكنهم اليهود الماديون الحريصون على الدنيا، يود الواحد منهم لو يعمر ألف سنة يجمع ذهب العالم، وما مكثه في الدنيا وإن طال بمبعده عن أمر الله وحكمه عليه بالعذاب الأليم، وكيف لا يكون هذا والله بصير بما يعملون فمجازيهم عليه؟ يا شباب الإسلام ورجاله: هذه أوصاف اليهود يقولها خالقهم والعالم بهم فهبوا انفضوا الغبار عنكم حتى نراهم في حرب فلسطين أحرص على الحياة ونراكم أحرص الناس على الموت: (احرص على الموت توهب لك الحياة) . موقفهم من الملائكة الأطهار [سورة البقرة (2) : الآيات 97 الى 98] قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 سبب النزول: روى أن عبد الله بن صوريا من أحبار فدك حاجّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسأله عمن يهبط عليه بالوحي، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: جبريل، فقال: ذاك عدونا ولو كان غيره لآمنا به، وقد عادانا جبريل مرارا ومن عداوته أن الله أمره أن يجعل النبوة فينا فجعلها في غيرنا، وهو صاحب كل خسف وعذاب، وميكال يجيء بالخصب والسلام . وفي رواية أن عمر قال لهم بعد ما قالوا له كلاما شبيها بهذا: من كان عدوا لجبريل كان عدوا لميكائيل ومن كان عدوا لهم كان عدوا لله فنزلت الآية. المعنى: قل لهم يا محمد: من كان عدوا لجبريل فهو عدو لله فإنه نزله بالوحي والقرآن على من قبلك بإذن الله وأمره، فهو إذن رسول الله إليك يا محمد، ومن عادى الرسول فقد عادى المرسل- سبحانه وتعالى- ومن عادى جبريل فلا وجه له لأنه نزل بالقرآن عليك يا محمد بأمر الله، وهو مصدق لما تقدمه من الكتب كالتوراة والإنجيل على أنه مع ذلك هداية وبشرى للمؤمنين فكيف تجعلون سبب المحبة سببا للبغض؟ هداكم الله إلى الحق. من كان عدوا لله وملائكته وكتبه ورسله خصوصا جبريل وميكائيل فإن الله عدو له ومجازيه على ذلك لأن تلك العداوة كفر وأى كفر!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 من قبائحهم أيضا [سورة البقرة (2) : الآيات 99 الى 103] وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَمارُوتَ وَما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 المفردات: عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أى: على عهد ملكه، أى: في زمان ملكه. فِتْنَةٌ: اختبار وابتلاء. اشْتَراهُ: استبدل ما تتلو الشياطين. خَلاقٍ: نصيب. المثوبة: الثواب. روى ابن عباس أن عبد الله بن صوريا قال لرسول الله: ما جئتنا بشيء نعرفه وما أنزلت عليك آية فنتبعك لها فنزلت الآية. المعنى: والله لقد أنزلنا إليك يا محمد آيات واضحات قد دلت على صدق رسالتك ولا يكفر بها إلا الخارجون عن طاعة الله والمتمردون على آياته وأحكامه، وهؤلاء أصحاب النار هم فيها خالدون. أكفروا بالله وكلما عاهدوا عهدا بينهم وبين الله أو بينهم وبين رسول الله الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ «1» تركه فريق كبير منهم، ولم توف به، فاليهود موسومون بالغدر ونقض العهود، وكم أخذ الله الميثاق منهم ومن آبائهم فنقضوه، بل أكثر اليهود لا يؤمنون بالتوراة لأن فيها نقض المواثيق، وخلف العهود ذنب لا يغفر. ولما جاءهم رسول من عند الله- هو محمد عليه السلام- بكتاب مصدق لما معهم إذ هو موافق للتوراة في الأصول الدينية العامة كتوحيد الله وإثبات البعث والحياة الآخرة وصدق الرسل، ترك فريق من اليهود كتاب الله وهو التوراة وراء ظهورهم لأنهم لم ينفذوا بعض ما فيه، ولم يؤمنوا به كأنهم لا يعلمون أن من لم يؤمن بالقرآن الموافق للتوراة لا يكون مؤمنا بالتوراة وبالقرآن. ومن قبائح اليهود أنهم نبذوا كتاب الله واتبعوا ما تلته الشياطين من السحر والشعوذة في زمن ملك سليمان، وذلك أن الشياطين كانوا يسترقون السمع من السماء ويضمون إليه أكاذيب ثم يلقنونها الكهنة فيعلمونها الناس، ويقولون: إن هذا علم سليمان وما تم لسليمان ملك إلا بهذا.   (1) سورة الأنفال آية رقم 56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فيرد الله عليهم هذه الدعوى: إن سليمان ما فعل شيئا من هذا، وما كفر باعتقاد السحر والعمل به، ولكن الشياطين هم الذين كفروا باتباع السحر وتديّنه. هؤلاء اليهود يعلمون الناس السحر بقصد إغوائهم وإضلالهم، ويعلمونهم ما أنزل على الملكين ببابل، وهما هاروت وماروت: وهما بشران إلا أنهما كانا صالحين قانتين فأطلق الناس عليهما ملكين من باب الشبه، وفي قراءة (ملكين) على الشبه أيضا بالملوك في الخلق وسماع الكلمة. ولكن هذين الملكين ما كان يعلمان أحدا من الناس حتى يقولا له: إنما هذا ابتلاء واختبار من الله فلا تتعلم السحر وتعمل به وتعتقد تأثيره، وإلا كنت كافرا، أما إذا تعلمته فلتعرف شيئا تجهله ولا تعمل به ما يضر فلا محذور في ذلك، فتعلم الناس من الملكين ما كانوا يعتقدون أنه يفرق بين المرء وزوجه، أو ما هو تمويه من حيلة أو نفث في العقد أو تأثير نفس وغير ذلك مما يحدث عنده التفريق غالبا. والحقيقة أن السحر لا يؤثر بطبعه، وما هم بضارين به أحدا من الناس إلا بأمر الله وإرادته، فهذا كله إن صح فسبب ظاهرى فقط، وأما من تعلم السحر وعمل به فإنه تعلم ما يضره ولا ينفعه إذ به استحق غضب الله عليه لما ينشأ عنه من إفساد الناس وضررهم، وتالله لقد علم اليهود لمن ترك كتاب الله واستبدل به كتب السحر ما له في الآخرة إلا العذاب، وليس له نصيب من الثواب. ولبئس ما اشتروا به عذابهم وألمهم لو كانوا يعلمون، نفى عنهم العلم لأنهم لم يعلموا به فكانوا أسوأ من الجهلة. ولو أن اليهود آمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن وتركوا كتب السحر والشعوذة وأخذوا الوقاية من عذاب الله بامتثال أوامره لاستحقوا الثواب من عند الله وهو خير وأعظم أجرا لو كانوا يعلمون ذلك. ملاحظات: 1- السحر في اللغة: كل ما لطف مأخذه وخفى، ومنه قيل: عين ساحرة، وقوله صلّى الله عليه وسلّم: (إن من البيان لسحرا) «1» .   (1) أخرجه البخاري من حديث ابن عمر كتاب الطب باب إن من البيان سحرا حديث رقم 5767. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 2- السحر كما وصفه القرآن: تخييل يخدع الأعين فيريها ما ليس كائنا أنه كائن يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى [سورة طه آية 66] . 3- وهو إما حيلة وشعوذة أو صناعة علمية خفية يعرفها الناس، ممكن أن يكون منه تأثير الأرواح والتنويم المغناطيسى. 4- حكاية القرآن: يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ ليس دليلا على أن السحر يفعل هذا وإنما هي حكاية لما كان مشهورا ومعروفا عندهم. 5- السحر لا يؤثر بطبعه وإنما هو سبب ما يحدث عنه من أضرار من قبيل ربط المسببات كما نصت الآية. أدب وتوجيه [سورة البقرة (2) : الآيات 104 الى 105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَقُولُوا انْظُرْنا وَاسْمَعُوا وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105) المفردات: راعِنا: راقبنا وانتظرنا. انْظُرْنا: من نظره: إذا انتظره. المعنى: كان المسلمون يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا ألقى عليهم شيء من العلم: راعنا، وتأنّ علينا حتى نفهمه ونحفظه، وكانت الكلمة عند اليهود (راعنا) كلمة سب فكانوا يخاطبون بها النبي ويقصدون معنى السب والشتم فنهى المؤمنون عن هذه الكلمة وأمروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 بكلمة تماثلها في المعنى وتختلف في اللفظ، واسمعوا أيها المؤمنون القرآن سماع قبول، وللكافرين واليهود عذاب مؤلم شديد، وهذا أدب للمؤمنين وتشنيع على اليهود فما زال الكلام معهم، لا يود الذين كفروا بالله سواء كانوا من أهل الكتاب أو المشركين أن ينزل الله عليكم خيرا أبدا كالقرآن والرسالة ولكن الله العليم القادر الحكيم يختص بالنبوة والخير من يشاء من عباده اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سورة الأنعام آية 124] عند من يقوم بها ويؤديها خير قيام. آيات النسخ [سورة البقرة (2) : الآيات 106 الى 108] ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108) المفردات: (ما ننسخ) النسخ: إزالة الصورة عن الشيء وإثباتها في غيره. نُنْسِها: نجعلها تنسى، من أنساه الشيء: أذهبه من قبله، أو ننسئها: نؤجلها. سبب النزول: روى أنهم طعنوا في النسخ فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمره ثم ينهاهم عنه ويقول اليوم ما يرجع عنه غدا؟ فنزلت. المعنى: القرآن الكريم نزل منجما تبعا للحوادث والظروف وهو تنزيل من حكيم عليم بالخبايا، فالحكم المستفاد من الآية يدور مع المصلحة للأمة فمتى وجدت المصلحة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الحكم بقي وإلا فلا، فتارة تبقى الآية كما هي لأن المصلحة في ذلك، وتارة يذهب لفظها ومعناها أو أحدهما وتؤجل إلى أجل أو تنسى من القلوب، كل ذلك للمصلحة العامة للأمة، فالنسخ ضروري في الأحكام خصوصا عند الأمة الناشئة بسبب تطورها سريعا، فما يصلح علاجا اليوم قد لا يصلح غدا، شأن المربى والطبيب الماهر مع مريضه. ولم يكن النسخ لجهل الشارع بالحكم الأخير، ولكن كان الشارع يتدرج ويعالج تبعا للظروف والأحوال، انظر إليه حيث عالج الخمر وكيف نسخ الحكم فيها؟ حتى وصل النهاية، وكذا آيات القتال نجد أن النسخ كان لحكمة عالية من حكيم خبير هو أدرى بخلقه، حتى استقرت الأحوال واستوت الأمة قائمة لها كيان لم يبق نسخ، أليس هذا أولى من بقاء الأحكام لا تتغير تبعا للظروف الطارئة فيضطر إلى هجرها وعدم قبولها؟ فالله لم ينسخ آية أو يؤجلها إلا ويأتى بخير منها للعباد أو مثلها على الأقل، أليس الله على كل شيء قديرا؟ أليس لله ملك السموات والأرض فهو يملك أموركم ويدبرها على حسب المصلحة وليس لكم ولى سواه يتولى أموركم ولا نصير ينصركم غيره- سبحانه وتعالى-. هذا رأى بعض العلماء في النسخ والقول به، وبعضهم يرى أنه لا نسخ أبدا بالمرة وكل آية قيل إن فيها نسخا أوّلوها تأويلا سائغا ببيان أن كل آية في موضوع فلم تنسخ إحداهما الأخرى، انظر إلى آيات العدة الآتية، وآيات القتال، وسنبينها إن شاء الله في موضعها. بل أتريدون أن تطلبوا من رسولكم كما كانت تطلب آباؤكم اليهود من موسى- عليه السلام-؟ فقد طلبوا منه أن يريهم الله جهرة وغير ذلك مما كانت عاقبته وخيمة عليهم، ومن يترك الثقة في القرآن ويشك في أحكامه ويطلب غيرها فقد ضل السبيل السوى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 موقفهم من المؤمنين [سورة البقرة (2) : الآيات 109 الى 110] وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110) المفردات: (حسدا) الحسد: تمنى زوال نعمة الغير. فَاعْفُوا العفو: ترك العقاب على الذنب. وَاصْفَحُوا الصفح: الإعراض عن ذنب بصفحة الوجه، فيشمل ترك العقاب وترك اللوم. المعنى: كان كثير من اليهود بعد كفرهم بالنبي والكيد له ونقض العهود حسدا له ولقومه يودون ويتمنون أن يرتد المسلمون الذين آمنوا بالنبي وأن يعودوا كفارا بعد ما كانوا مؤمنين، وهذا التمني وتلك الرغبة بسبب الحسد الكامن والداء الباطن في أنفسهم، لا ميلا مع الحق ولا رغبة، بل هذا التمني بعد ما ظهر لهم أن الدين الإسلامى هو الدين الصحيح، فاعفوا عنهم أيها المسلمون ولا تلوموهم على فعالهم، واصبروا حتى يأذن الله بالقتال ويأتى أمره فيهم وهو قتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وإذلالهم، والله على كل شيء قدير. وأنتم أيها المسلمون أدوا صلاتكم مقومة كاملة، وأدوا زكاتكم فهي حصن مالكم، وهما وإن كانا فيهما خير الدنيا وسعادة المجتمع فكذلك في الآخرة إذ ما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوا جزاءه عند الله كاملا إن الله بما تعملون بصير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 موقف كل من اليهود والنصارى بالنسبة للآخر [سورة البقرة (2) : الآيات 111 الى 113] وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْءٍ وَقالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113) المفردات: هُوداً: جمع هائد، وهم اليهود. نَصارى: أتباع المسيح. أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ: جعل وجهه خالصا لله وانقاد له. المعنى: من قبائح أهل الكتاب وغرورهم بدينهم ما بينه القرآن في هذه الآيات حيث يقول ما معناه: قالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا اليهود فهم شعب الله المختار وغيرهم في الضلال، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا النصارى. تلك أمانيهم الباطلة التي لا تستند على أساس من النقل أو العقل، وإلا فهاتوا برهانكم أيها اليهود والنصارى إن كنتم صادقين فليست المسألة دعوى. يرد الله عليهم: بل يدخل الجنة من أسلم وجهه لله وانقاد له فلم يسع لفرية أو كذبة وهو محسن في عبادته وعمله واعتقاده، وهؤلاء أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ولم تقف دعواهم عند هذا بل صرح أحبار اليهود مرارا قائلين: ليست النصارى على شيء يذكر، وقالت النصارى: ليست اليهود على شيء يذكر، والحال أنهم أصحاب كتاب يدعون أنهم يتلونه ويؤمنون به، فلو أن اليهود تؤمن بالتوراة والنصارى تؤمن بالإنجيل لما قالوا مثل ذلك لأن كل كتاب نزل من عند الله جاء مصدقا لما سبقه ومبشرا لما يأتى بعده. إذن هم لا يؤمنون بشيء، وقد قال مثل مقالتهم هذه المشركون الذين لا يعلمون شيئا إذ ليس عندهم كتاب، فالله يحكم بينهم يوم القيامة في اختلافهم ويجازيهم عليه أشد الجزاء، وأما الجنة فهي لمن أسلم وجهه لله وهو محسن. تخريب المساجد [سورة البقرة (2) : الآيات 114 الى 115] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115) المفردات: خَرابِها: تخريبها وهدمها وتعطيلها. خِزْيٌ أى: ذل. فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أى: هناك جهته التي يرضاها. سبب النزول: وهذه الآيات نزلت تشير إلى حوادث وقعت بعد النسخ تتعلق ببيت المقدس وتخريبه، وذهب بعض المفسرين إلى أنها نزلت في مشركي العرب حيث منعوا النبي وأصحابه من دخول مكة، وقيل: إنه إخبار بما سيقع من إغارة الصليبيين على بيت المقدس وغيره من بلاد المسلمين وصدهم عن المسجد الأقصى وتخريبهم كثيرا من المساجد، والكلام على العموم في أهل الكتاب ومن على شاكلتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 المعنى: ليس هناك ظلم أكبر من تخريب المساجد ومنع الناس من الصلاة فيها، ولا أحد أظلم ممن منع ذكر الله في المساجد بأى طريق من الطرق، وسعى في تعطيلها عن القيام بوظائفها، أولئك الذين يفعلون هذا بعيدون جدا عن الله وتوفيقه، ما كان ينبغي لهم إلا أن يدخلوها خائفين من سطوة الإسلام والمسلمين، فما بالهم يفعلون هذا؟ وما دام للإسلام والمسلمين السطوة والعزة والتمسك بالقرآن وأحكامه فلا يدخلونها إلا خائفين. أما إذا فرط المسلمون في دينهم وأقاموا بعض أحكام الدين وأهملوا البعض الآخر حتى أضاعوا كيانهم فللكفار والمشركين أن يدخلوها بل ويخربوها ويتحكموا في أهلها كما هو حاصل الآن. ولمن منع ذكر الله في المسجد ذل في الدنيا وعذاب في الآخرة. لله ما في الأرض جميعا مشرقها ومغربها، ففي أى مكان تصلون فيه وتتوجهون فيه إلى الله فإنه معكم، إن الله واسع لا يحده مكان، فيصح أن يتوجه إليه في كل مكان عليم بمن يتوجه إليه أينما كان. مفتريات أهل الكتاب والمشركين [سورة البقرة (2) : الآيات 116 الى 118] وَقالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117) وَقالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْلا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 المفردات: سُبْحانَهُ: تنزيها له عما يصفون. بَدِيعُ: مبدع. قانِتُونَ: منقادون. المعنى: وقال أهل الكتاب والمشركون من اليهود والنصارى وغيرهم: المسيح ابن الله وعزيز ابن الله والملائكة بنات الله!! سبحانه وتعالى وتنزيها له عما يدّعون، بل له كل ما في السموات والأرض ومنهم هؤلاء، الكل قد خلقهم الله، كل له منقادون إن طوعا وإن كرها، وهو الذي أبدع السموات والأرض وما فيهن، وإذا أراد أمرا- فلا راد لقضائه- كان وتحقق من غير امتناع. فمن له كل ما في السموات والأرض خلقا وملكا، ومن له كل ما في الكون كائنا ومنقادا. ومن أبدع السماء والأرض والوجود كله، ومن إذا أراد أمرا كان ووجد من غير امتناع أو إباء. من كان هذا شأنه أيحتاج إلى الولد أو الوالد؟ ومن كان هذا شأنه يكون له جنس؟ أم هو الواحد الأحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد؟! وقال الذين لا يعلمون: هلا يكلمنا الله كما يكلم الملائكة وموسى استكبارا منهم وعتوّا، أو تأتينا آية استخفافا منهم بهذه الآيات البينات. كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم تشابهت قلوبهم وأرواحهم، تنزه الله عن طلبهم. وبين الآيات أحسن بيان وأتمه ولكن لا يفهمها إلا المنصفون الموقنون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 تحذير الرسول من اتباع اليهود والنصارى [سورة البقرة (2) : الآيات 119 الى 123] إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَلَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (123) المفردات: الْجَحِيمِ: النار المتأججة، وهي جهنم. مِلَّتَهُمْ: دينهم. الْخاسِرُونَ: الهالكون. المعنى: أراد الله تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: إنا أرسلناك للناس رسولا تبشر المؤمنين وتنذر الكافرين، فمهمتك الرسالة ولا عليك شيء بعدها ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ «1» فإنك لا تسأل عن أصحاب النار، فلا تأس عليهم ولا تحزن.   (1) سورة الأنعام آية 52 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وهؤلاء اليهود والنصارى الذين قص عليك من أنبائهم ما به عرفتم لن يرضوا عنك مهما فعلت من الخير إلا إذا دخلت في دينهم. وروى أنهم قالوا: يا محمد مهما فعلت لإرضائنا فلن نرضى حتى تتبع ملتنا، قالوا هذا لييأس النبي من هدايتهم، فرد الله عليهم: إن هدى الله ودينه الذي هو الإسلام هو الهدى وحده الواجب اتباعه، أما غيره فمبنى على الهوى والشهوة ولذلك حذر الله نبيه وكل فرد من أمته بقوله: ولئن اتبعت دينهم فليس لك من دون الله ولى ولا نصير. ولئلا يحصل اليأس للنبي صلّى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب جميعا أخبر بأنهم ليسوا كلهم على هذا المنوال بل منهم من يتلو الكتاب ويفهمه حق الفهم ولا يتعصب تعصب الأعمى ولا يبيع آخرته بدنياه، أولئك يؤمنون به ومن يؤمن به حقا يؤمن بالقرآن والنبي، ومن يكفر بكتابه منهم فلا يؤمن بك، وأولئك هم الخاسرون. بعد أن ذكر ما ذكر من تعداد النعم والقبائح وما جازاهم بهم على كل هذا أراد أن يجدد ثقتهم ونشاطهم فناداهم بهذا لئلا ينفروا مما سبق، وهو يذكرهم بالنعم التي أنعمها عليهم وعلى آبائهم وليبنى عليها قوله: وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ وليس فيها تكرير يمجه البلغاء. إبراهيم عليه السلام وبيت الله الحرام [سورة البقرة (2) : الآيات 124 الى 129] وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124) وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 المفردات: ابْتَلى إِبْراهِيمَ: اختبره، والمراد: كلفه بتكاليف ليجازيه، وذلك شأن المختبر. بِكَلِماتٍ المراد: أوامر ونواه. فَأَتَمَّهُنَّ: أدّاهنّ. مَثابَةً: مرجعا ومآبا. مُصَلًّى: مكان صلاة. الْعاكِفِينَ: الملازمين. الْقَواعِدَ: جمع قاعدة، وهي الأساس. مَناسِكَنا: النسك في الأصل غاية العبادة، وشاع في الحج لما فيه من الكلفة والبعد عن العادة. الْحِكْمَةَ: ما تكمل به النفوس من أحكام الشرع والمعرفة. يُزَكِّيهِمْ: يطهرهم. شرع الله في تحقيق أن هدى الله هو ما عليه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم من التوحيد والإسلام الذي هو ملة إبراهيم- عليه السلام- وبطلان ادعاء أهل الكتاب أنهم يتبعون دين إبراهيم، وبيان صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم إذ هو دعوة إبراهيم الخليل، فالكلام كله متصل مع أهل الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 المعنى: واذكر لهم يا محمد وقت اختبار الله لإبراهيم بأن كلفه بتكاليف يؤديها فقام بها خير قيام وأداها أحسن أداء، ولذا كان جزاؤه من الله- جل جلاله- أن قال له: إنى جاعلك إماما للناس تؤمهم في دينهم وتفصل بينهم في دنياهم، قال إبراهيم: وجاعل بعض ذريتي كذلك؟ وأجابه المولى: لا ينال عهدي بالإمامة الظالمون الذين ظلموا أنفسهم لأن الإمام مفروض أن يقوم بحراسة الدين وأهله والقيام على شئون الرعية ومنع الظلم، فإذا كان ظالما لنفسه فكيف يدفع الظلم عن غيره، وهذا هو حكم القرآن في الإمام وما شرطه فيه!! واذكر لهم إذ جعلنا البيت الحرام (الكعبة) مثابة للناس وملجأ، وجعلناه آمنا، من دخله كان آمنا ويتخطف الناس من حوله، واتخذوا أيها المسلمون من مكان إقامة إبراهيم مصلى، أى: فضلوه على غيره في الصلاة لشرفه بقيام إبراهيم فيه، فالأمر للندب لا للوجوب، وقد أمرنا إبراهيم وإسماعيل بأن يقوما بتطهير البيت من الأوثان ومن كل دنس ورجس يطهرانه للذين يطوفون به ويقومون عنده، والذين يركعون فيه ويسجدون، اذكر لهم يا محمد دعوة أبيهم إبراهيم لهذا البلد وأهله: رب اجعل هذا البلد في أمن وطمأنينة، وارزق أهله من الثمرات أطيبها ومن خيرات الأرض أحسنها ارزق يا رب المؤمن منهم. وانظر إلى تكريم المؤمنين وبيان خطر الإيمان وشرفه، وفي هذا ترغيب لقومه في الإيمان وزجر عن الكفر، وفي حكاية القرآن هذا ترغيب لقريش وترهيب لها ولغيرها من أهل الكتاب، فأنت ترى أن إبراهيم خص طلب الرزق للمؤمنين. قال الرب- سبحانه وتعالى- ما معناه: والكافر أرزقه وأمتعه زمنا قليلا ثم ألجئه إلى عذاب النار وبئس هذا المصير. واذكر يا محمد وقت أن رفع إبراهيم أساس البيت للبناء ومعه إسماعيل يعاونه قائلين: ربنا اقبل منا وتقبل إنك أنت السميع لكل دعاء العليم بكل قصد ونية. ربنا واجعلنا منقادين لك ومخلصين، ثم أخذتهما الشفقة على أولادهما فدعوا الله بأن يجعل من ذريتهما جماعة مخلصة منقادة، وإنما دعوا للبعض فقط لأنهما يعرفان أن الحكمة الإلهية في وجود الصنفين ولا بد منهما، وبصرنا يا رب أمور عبادتنا وأسرارها وبخاصة مناسك الحج، وأقبل توبتنا إنك أنت التواب الرحيم. ربنا وأرسل في ذريتنا رسولا منهم عرفوا عنه الصدق والأمانة، ويتلو عليهم آيات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 دينك ويعلمهم القرآن وما به تكمل نفوسهم من العلوم والمعارف، ويطهرهم من دنس الرجس والوثنية إنك يا رب أنت العزيز الذي لا يغلب الحكيم في كل صنع. روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «أنا دعوة أبى إبراهيم وبشارة عيسى بي ورؤيا أمّى» «1» فذلك تحقيق دعوة إبراهيم، والنبي صلّى الله عليه وسلّم هو الذي يتحقق فيه هذه الدعوة، وأهل الكتاب يعرفون ذلك ولكنهم أعرضوا حسدا وبغيا وظلما. ملة إبراهيم مع المخالفين لها والمهتدين بها [سورة البقرة (2) : الآيات 130 الى 132] وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) المفردات: سَفِهَ نَفْسَهُ: أذلها واستخف بها. اصْطَفَيْناهُ: أخذناه واخترناه. المعنى: لا تجد أحدا يعرض عن ملة إبراهيم ودينه إلا شخصا أذل نفسه واستخف بها، وذلك أن من يرغب في شيء لا يرغب فيه عاقل أصلا فقد بالغ في امتهان نفسه وأذلها وكيف لا، وقد اصطفيناه في الدنيا وجعلناه أبا الأنبياء وإنه في الآخرة لمن المشهود لهم بالصلاح والاستقامة، إذ قال له ربه: أسلم لله وكن من المنقادين له- سبحانه- فما كان منه إلا أن أسرع بالانقياد والامتثال شأن المصطفين الأخيار. قال: أسلمت لله رب العالمين، ولقد كان إبراهيم متبعا الملة الحنيفية وأرادها لأولاده فوصى بها إبراهيم بنيه   (1) أخرجه أحمد 1/ 128. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وكذلك يعقوب قائلا: يا بنىّ إن الله اختار لكم هذا الدين (وهو كدين محمد صلّى الله عليه وسلّم في الأصول العامة فاثبتوا على الإسلام ولا تفارقوه) فها هي ذي وصية إبراهيم لبنيه ويعقوب للأسباط فانظروا أيها اليهود هل أنتم تتبعون آباءكم إبراهيم ويعقوب أم لا؟ لكل ما كسب [سورة البقرة (2) : الآيات 133 الى 137] أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134) وَقالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136) فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) المفردات: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ: أم هنا بمعنى (بل) أكنتم شهداء، والهمزة بمعنى النفي، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 أى: ما كنتم شهداء. خَلَتْ: مضت. هُوداً: جمع هائد، أى تائب، وهم اليهود. حَنِيفاً: مائلا عن الباطل إلى الحق. الْأَسْباطِ: الأحفاد، والمراد أبناؤه وذريته. سبب النزول: روى أنهم قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ألست تعلم أن يعقوب أوصى باليهودية يوم مات فنزلت الآية. المعنى: ما كنتم أيها اليهود حاضرين وقت أن احتضر يعقوب وقال لبنيه: أى شيء تعبدونه بعد موتى؟ فأجابوه: نعبد إلهك الله الواحد الفرد الصمد وهو إله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق إله واحد لا شريك له، ونحن له مستسلمون ومنقادون لحكمه. وقد رد الله على اليهود ادعاءهم أنهم نسل الأنبياء وحفدتهم فلا يدخلون النار إلا أياما معدودات بقوله: هذه الأمة قد مضت بما لها وما عليها لا ينتفع بعملها أحد ولا يضر وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «1» فكما أن هؤلاء السابقين لا ينفعهم إلا عملهم كذلك أنتم لا ينفعكم إلا أعمالكم. وقال بعض أهل الكتاب: كونوا مع اليهود في دينهم تصلوا إلى الطريق السوى، وقال البعض الآخر (النصارى) : كونوا مع النصارى تصلوا إلى الحق، قل يا محمد ردا عليهم: بل تعالوا إلى ملة أبيكم إبراهيم الذي تدعون أنكم على دينه فهي الملة الحنيفة القائمة على الجادة بلا انحراف ولا نزاع وما كان إبراهيم من المشركين، ها أنتم هؤلاء بعيدون عن ملة إبراهيم. قولوا أيها المؤمنون: آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط من القرآن والصحف فلا تكن دعوتكم إلى شيء خاص بكم بل ادعوا إلى أصل الدين وروحه الذي لا خلاف فيه ولا نزاع، وهو التسليم بنبوة جميع الأنبياء والمرسلين مع الإسلام لرب العالمين، لا نعبد إلا الله ولا نفرق بين أحد من رسله وما أوتى موسى وعيسى من التوراة والإنجيل وسائر المعجزات، وما أوتى النبيون جميعا لا نفرق بين أحد منهم، كما تفعل اليهود والنصارى فالمؤمن حقيقة هو من يؤمن بكل الكتب والأنبياء ولا يؤمن ببعض ويكفر بالبعض الآخر.   (1) سورة الزمر آية رقم 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فإن آمن أهل الكتاب كما آمنتم فقد اهتدوا إلى الطريق المستقيم، وإن تولوا وأعرضوا وفرقوا بين الأنبياء يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض فإنما هم في شقاق ونزاع، وإذا كان هذا فثقوا أن الله سيكفيكم شرهم وسيبدد شملهم، وقد تحقق ذلك بقتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير، والله هو السميع لكل قول، والعليم بكل فعل. الله ربنا وربكم [سورة البقرة (2) : الآيات 138 الى 141] صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138) قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141) المفردات: صِبْغَةَ اللَّهِ الصبغة: الحالة التي عليها الصبغ، والمراد بصبغة الله الإيمان لكون الإيمان تطهيرا للمؤمنين من أوساخ الشرك، وهو حلية تزينهم بآثاره الجميلة، وقد تدخل في قلوب المؤمنين كما يتداخل الصبغ فترى أن الإيمان يشبه الصبغة في التطهير والحلية والتداخل. أَتُحَاجُّونَنا: أتجادلوننا. مُخْلِصُونَ: لا نبغى بأعمالنا غير وجه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 المعنى: قولوا أيها المؤمنون بعد مقالتكم الأولى وهي: إنا نؤمن بالله وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وكتبه قولوا: صبغنا الله بصبغة الإيمان وتطهير النفوس من أدرانها، وهل هناك صبغة أحسن من صبغة الإسلام؟ ومن صبغته أحسن من صبغة الله الحكيم الخبير؟ ونحن لله الذي أولانا هذه النعم الجليلة التي منها نعمة الإسلام والهداية عابدون ومخلصون وقانتون، ثم بعد هذا أمر الله نبيه بأمر خاص به وهو: قل لهم يا محمد: أتجادلوننا في دين الله وتدّعون أن دينه الحق هو اليهودية أو النصرانية؟ وتبنون دخول الجنة والاهتداء عليهما وتقولون تارة: لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وتارة تقولون: كونوا هودا أو نصارى تهتدوا أتجادلوننا في دين الله وهو ربنا وربكم لا فرق بيننا وبينكم في العبودية لله فهو مالك أمرنا وأمركم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم الحسنة والسيئة، ونحن لله مخلصون في تلك الأعمال لا نقصد بها إلا وجهه وإن أتى منا سوء فبغير قصد ونية فكيف تدعون أن لكم الجنة والهداية دون غيركم؟!! قل لهم يا محمد: أى الطريقين تسلكون؟ إقامة الحجة على ما أنتم عليه وقد ظهر أن لا حجة لكم؟ أم تسلكون طريق التقليد من غير برهان والكذب على الله والأنبياء فتقولون: إن إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط هود، ويقول الناس: النصارى كانوا نصارى فنحن مقتدون، والمراد إنكار الطريقين وتوبيخهم على كلا الأمرين، قل لهم يا محمد: أأنتم أعلم أم الله؟! ولا أحد في الوجود أظلم ممن يكتم شهادة ثابتة عنده من الله وهي شهادته- سبحانه وتعالى- لإبراهيم ويعقوب بالحنيفية والبراءة من اليهودية والنصرانية، فلو كتمناها لكنا أظلم الناس كما أنكم تكتمون شهادة عندكم من الله للنبي العربي محمد صلّى الله عليه وسلّم وليس الله غافلا عن أعمالكم فهو محصيها ومجازيكم عليها، تلك أمة من الأنبياء والرسل قد مضت لها أعمالها الحسنة والسيئة ونحن لا نسأل عنها وهم لا يسألون عن أعمالنا، كرر هذه للمبالغة في الزجر عما هم عليه من الافتخار بالآباء والاتكال على الماضي وهذا شأن العاجز الضعيف الذي ينظر إلى الماضي ولا يتجه إلى المستقبل. فهب أن أباك كان من الأولياء والأصفياء ولم تعمل شيئا تحمد عليه أفينفعك هذا؟ لا. وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى. وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 مقومات تحويل القبلة [سورة البقرة (2) : الآيات 142 الى 143] سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143) المفردات: السُّفَهاءُ السفه: الاضطراب في الرأى والفكر والخلق. والسفهاء: هم ضعفاء العقول، والمراد بهم هنا: المنكرون تغيير القبلة من اليهود والمشركين والمنافقين. الْقِبْلَةَ في الأصل: الجهة، والمراد قبلة المسلمين في الصلاة. وَسَطاً الوسط: اسم لنقطة تستوي نسبة الجوانب إليها كمركز الدائرة، ثم استعير للخصال المحمودة إذ كل صفة محمودة كالشجاعة وسط بين طرفين: الإفراط والتفريط، والمراد: خيار عدول عندهم العلم والعمل. إِيمانَكُمْ: صلاتهم فإنها مسببة عن الإيمان. عَقِبَيْهِ العقب: مؤخر القدم، والمراد يرتد عن الإسلام. المناسبة: لا يزال القرآن يتعرض في هذه الآيات لما كان عليه اليهود- وإن شاركهم فيه غيرهم من المشركين- من إنكار تحويل القبلة والنسخ وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يصلى وهو بمكة متجها إلى الكعبة، ثم لما هاجر أمر بتحويل القبلة إلى صخرة بيت المقدس تألفا لليهود وقد فرحوا بذلك. وظل النبي صلّى الله عليه وسلّم كذلك بضعة عشر شهرا إلا أنه كان كثيرا ما ينظر إلى السماء ويدعو الله أن يتوجه إلى قبلة أبيه إبراهيم وهي الكعبة، فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق، وكان أول صلاة صلاها هي العصر كما في الصحيحين. المعنى: علم الله- سبحانه وتعالى- ما سيكون عند تحويل القبلة من اضطراب بعض الناس اضطرابا قد يودى بإيمانهم، وعلم ما سيقوله سفهاء الناس فأخذ يمهد تمهيدا دقيقا لتحويل القبلة حتى لا يفاجأ المسلمون بالتحويل واضطراب الناس وإنكارهم، ولذا لقنهم الحجة، ووضح لهم الطريق ثم بعد هذا أمرهم بالتحويل. سيقول ضعفاء العقول والإيمان من اليهود والمنافقين والمشركين: أى شيء صرف المسلمين عن قبلتهم التي كانوا ثابتين عليها؟ فقد ساء اليهود انتقال القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة، وأما المشركون فقصدهم الطعن في الدين وبيان أن التوجه في الحالين وقع بغير داع، وأما المنافقون فهذا شأنهم من الدين وديدنهم. فيرد الله عليهم: قل لهم يا محمد: لله تعالى ناحيتا المشرق والمغرب، فالجهات كلها ملكه فلا اختصاص لناحية دون أخرى، ولا مزية لها، وإنما الأمر بيده يختار ما يشاء، فأينما تولوا فثم وجه الله لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يهدى من يشاء إلى الصراط المستقيم، ولقد هدى المؤمنين حقا إلى ذلك حيث أمرهم بالتوجه إلى بيت المقدس ثم رجع إلى الكعبة، فامتثلوا أمره لأنهم على علم بأن المصلحة فيما أمر والخير فيما وجه. ومثل هذه الهداية والتوفيق إلى الصراط المستقيم جعلناكم أيتها الأمة المحمدية وسطا عدولا بلا إفراط ولا تفريط في أى شيء من شئون الدين والدنيا، فالأمة الإسلامية وسط في عقائدها العامة تحافظ على المادة والروح، وتنمى هذا وذاك وهي وسط في معاملتها للفرد وللجماعة فلا تجعل الفرد يطغى على الجماعة باستبداده ولا تلغى شخصية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الفرد في الجماعة، ولقد صدق الله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «1» وذلك لتكونوا شهداء على الناس في الدنيا، ولتكونوا شهداء على الأمم يوم القيامة، ويكون الرسول عليكم شهيدا. روى أن الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء- عليهم السلام- لهم، فيطالبهم الله تعالى بالبينة- وهو أعلم بكل شيء- إقامة للحجة على الجاحدين المنكرين، فتقول الأنبياء: أمة محمد تشهد بذلك، فيؤتى بأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم فيشهدون للأنبياء فتقول الأمم لهم: من أين عرفتم ذلك؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار الله- تعالى- في كتابه الناطق، على لسان رسوله الصادق، فيؤتى عند ذلك بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ويسأل عن حال أمته فيزكيهم ويشهد لهم وذلك قوله تعالى: وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً. وما جعلنا القبلة التي تحبها والجهة التي كنت عليها بمكة (يعنى: وما رددناك إليها) إلا امتحانا وابتلاء ليظهر ما علمناه، ويتبين في الواقع الثابت على الإسلام الصادق فيه ممن هو على حرف ينكص على عقبيه فيرتد، حتى يجازى كل على عمله. وإنما شرعنا لك التوجه إلى بيت المقدس ثم إلى الكعبة ليظهر حال المؤمنين والمنافقين. وإن كانت هذه الفعلة لشديدة على نفوس الناس إلا على الذين هداهم الله ووفقهم فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ [سورة التوبة الآيتان 124 و 125] . وروى أنه لما غيرت القبلة أخذ المرجفون يقولون: ما حال المسلمين الذين ماتوا قبل التحويل؟ وكيف نحكم على صلاتهم وإيمانهم؟ ولقد سأل بعض المسلمين عن أقاربهم الذين ماتوا ليطمئنوا فأجابهم: وما كان الله ليضيع إيمانكم وثباتكم على الإسلام، وبالتالى لا يضيع صلاتكم وعبادتكم. إن الله بالناس لرءوف رحيم.   (1) سورة آل عمران آية رقم 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 تحويل القبلة [سورة البقرة (2) : الآيات 144 الى 147] قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) المفردات: تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ: تردده طلبا للوحى والتجاء إلى الله. فَلَنُوَلِّيَنَّكَ: فلنوجهنك جهتها. فَوَلِّ وَجْهَكَ: فوجه وجهك. شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ: جهته. الْمُمْتَرِينَ: الشاكّين. المعنى: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتشوق لتحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 إبراهيم، والأمة المسلمة هي الوارثة لإبراهيم وإسماعيل ولعهد الله معهما، فطبيعى أن ترث بيت الله في مكة، وأن تتخذ منه قبلة لأنه بيت الله وتراث إبراهيم، وبناؤه مع إسماعيل، لأنها أدعى إلى إيمان العرب المعول عليهم في الرسالة، وتطلعه إلى ما يظنه خيرا، ويعتقد أن فيه الرضا والرضوان، ولذلك أجابه الله إلى طلبه وقال: فلنوجهنك قبلة ترضاها وتحبها لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا يحب إلا الخير. وقد قرن الله الوعد بالأمر للإشارة إلى أن ما يرجوه النبي صلّى الله عليه وسلّم هو ما تتطلبه الحكمة الإلهية فقال: فول وجهك وجهة المسجد الحرام فالواجب استقبال جهة الكعبة حقيقة في القرب وظنا في البعد. ثم أمر المؤمنين عامة فقال: فحيثما كنتم فولوا وجوهكم جهته، وكان يكفى الأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم إذا أمره أمر لأمته إلا إذا خصص. ولكن أمر المؤمنين أيضا للتأكيد الذي اقتضته الحال في حادثة القبلة، فإنها حادثة كبرى استتبعت فتنة عظمى كان لها أثر كبير، ولتشتد قلوبهم، وتطمئن نفوسهم فيضربون بأقوال المنكرين عرض الحائط. ثم رجع القرآن لمناقشة أهل الكتاب ممن اشترك في هذه الفتن فقال: وإن اليهود والنصارى الذين أوتوا التوراة والإنجيل ليعلمون علما أكيدا أن هذا التحويل هو الحق الثابت لأنه في كتابهم، ولكنهم دأبوا على إنكار الحق، وترويج الباطل، وما الله بغافل عن أعمالهم بل مجازيهم عليها. ولقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم حريصا على إيمان أهل الكتاب لأن كلامهم مصدق عند العوام، فكان يود لو تزال كل شبهة عندهم حتى يؤمنوا، ولذا يقول الله تهدئة لخاطره وتسلية له: إنهم قوم منكرون معاندون فلا تنفعهم الآيات، ولا تزيل شبههم الحجج الواضحات، تالله لئن أتيتهم بكل آية رجاء أن تقنعهم باتباع قبلتك ما اقتنعوا، ولا اتبعوك، ولست أنت تابعا لقبلتهم، قطعا لطمعهم في أن يعود النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى بيت المقدس، فإنهم كانوا يمنون أنفسهم برجوع النبي إليه، وكيف يرجى منهم اتباع قبلتك؟ وليست لهم قبلة واحدة فعيسى كانت قبلته مع موسى ولكن بعد موته وتحريف الإنجيل اتخذوا قبلة أخرى. ثم هدد الله نبيه الكريم ورسوله الأمين بهذا التهديد حتى تعرف أمته خطر مخالفة كلام الله، واتباع أهواء الناس وممالأتهم على حساب الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فقال: ولئن اتبعت يا محمد أهواء أهل الكتاب بعد ما ظهر لك الحق واضحا وعرفت الخير والشر إنك إذن لمن الظالمين لأنفسهم المستحقين العقاب في الدنيا والآخرة، وكيف تتبع هؤلاء؟ وهم يعرفون الحق كمعرفتهم أبناءهم أو أشد، وإن فريقا منهم ليكتمونه.. الحق من ربك، فما أنت عليه هو الحق، فلا تكن من الممترين. حول تحويل القبلة [سورة البقرة (2) : الآيات 148 الى 152] وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ (152) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 المفردات: سْتَبِقُوا : تسابقوا. الْحِكْمَةَ: العلم النافع مع العمل. كل هذا تأييد للدعوى وبطلان لكلام المنكرين. المعنى: لكل فريق من الأمم قبلة هو موليها وجهه، فلليهود قبلة، وللنصارى قبلة، وللمسلمين قبلة، فلم تكن جهة من الجهات قبلة لكل الأمم، وليست القبلة ركنا من أركان الدين، وليست مهمة لهذه الدرجة، وإنما المهم أن تتسابقوا إلى الخيرات حتى تحرزوا قصب السبق، لا أن تجادلوا وتعترضوا على تحويل القبلة، والله- سبحانه- يستوي عنده كل مكان فأينما تكونوا يأت بكم الله جميعا يوم القيامة فيحاسبكم على أعمالكم، والله على كل شيء قدير وفي هذا تهديد للمنكرين. ثم أعاد الله- سبحانه- الأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم بتولية وجهه جهة المسجد الحرام مرة ثانية. ثم أعاده مرة ثالثة، وليس في هذا تكرير، بل تأكيد للأمر بتحويل القبلة في صور مختلفة ليعلم أن التوجه إلى الكعبة ليس خاصا بوقت دون وقت وبمكان دون مكان في الحضر أو السفر، ولقد بنى القرآن على كل أمر ما يناسبه. فمع الأول أثبت أن الذين أوتوا الكتاب يعلمون أنه الحق، ومع الثاني بين أنه الحق الثابت من عند الله، ومع الأمر الثالث الحكمة في تحويل القبلة. الحكمة الأولى: لئلا يكون للناس على الله حجة، فأهل الكتاب يعرفون أن النبي المبشّر به عندهم قبلته الكعبة فجعل القبلة إلى بيت المقدس دائما طعن في نبوته، والمشركون من العرب كانوا يرون أن نبيا من ولد إبراهيم- عليه السلام- جاء لإحياء ملته لا ينبغي له أن يستقبل غير بيت ربه الذي بناه جده إبراهيم، فقد جاء التحويل موافقا لما يرونه، فانتفت حجة الفريقين. إلا الذين ظلموا أنفسهم فهم لا يهتدون بكتاب، ولا يؤمنون بحجة، ولا يعتدّون ببرهان لأنهم السفهاء فلا تخشوهم واخشون، وتشير الآية إلى أن صاحب الحق هو الذي يخشى وغيره يجب ألا ينظر إليه. ثم ذكر- سبحانه- الحكمة الثانية في تحويل القبلة: ولأتم نعمتي عليكم إذ لا شك أن محمد بن عبد الله نبي عربي من ولد إبراهيم، والكتاب المنزل عليه عربي، وقد ظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 في العرب، وهم أهله وعشيرته، وكانوا إذا آمنوا يحبون أن تكون وجهتهم الكعبة، وأن يحيوا سنة إبراهيم الخليل في تقديس الكعبة لأنها معبدهم وموطن عزهم وفخارهم، إذن التحويل نعمة تامة من الله لهم، وليتم نعمته عليكم ويهديكم صراطا مستقيما. ومع هذا فقد محص الله بها المؤمنين وظهر الثابت على الإيمان من المنافق. الحكمة الثالثة: وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي: وليعدكم بذلك إلى الاهتداء والثبات على الحق وعدم المعارضة فيه. أتم نعمته عليكم باستيلائكم على بيته الذي جعله قبلة لكم، كما أتمها عليكم بإرسال رسول منكم يتلو عليكم القرآن بلسان عربي مبين، ويطهركم من كل دنس ورجس وعبادة صنم، ويعلمكم ما به تسمو نفوسكم وتزكو من أشرف العلوم وأسناها، ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من الإخبار بالمغيبات والقصص الذي لا يخلو من عبر وعظات، فاذكروني يا أمة الإجابة بالامتثال والعمل الصالح، والاقتداء بالرسل أجزكم على هذا، وأذكركم عندي بالثواب والجزاء وأفاخر بكم الملائكة، واشكروا نعمتي التي أنعمتها عليكم، ولا تكفروا بها فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، وسيجازيكم عليه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. الصابرون والمقاتلون في سبيل الله [سورة البقرة (2) : الآيات 153 الى 157] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَلكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَراتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 المفردات: الصَّلاةِ في اللغة: الدعاء، وهي من الملائكة الاستغفار، ومن الله الرحمة. بِالصَّبْرِ الصبر: حبس النفس على ما تكره. لَنَبْلُوَنَّكُمْ: لنمتحننكم، أى: نصيبنكم إصابة من يختبر أحوالكم. نقص الْأَنْفُسِ: موتها. نقص الثَّمَراتِ: قلّتها، وقيل موت الأولاد. المعنى: علم الله ما سيلاقيه المؤمنون في دعوتهم من الشدائد وما يصادفهم في أمور دينهم من أقوال السفهاء وافتراء أهل الكتاب كما حصل في تحويل القبلة وغيره وسيؤدي هذا إلى القتال حتما، ولا دواء لكل هذا إلا استعانة بالصبر والصلاة وتربية النفوس على تحمل المكروه في سبيل الله، ولقاء الكبير المتعال في كل صباح ومساء، أما الاستعانة بالصلاة فلا تحتاج إلى تعليل وبيان لأنها أم العبادات، وفيها لقاء المؤمن بربه لقاء يقوى روحه ويشد من أزره، ويضاعف من قوته، ومن هنا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه- اشتد به- أمر همّ إلى الصلاة، وهي عند المؤمنين في المحل الأعلى: «جعلت قرّة عيني في الصّلاة» وأما الاستعانة بالصبر فلأن الله- سبحانه- أكد بأنه يكون مع الصابرين، وناهيك بمعيته- سبحانه- إذ المراد منها الولاية والنصرة وإجابة الدعوة وكفاهم فخرا أنهم متبعون في هذا. يا أيها الذين آمنوا: استعينوا بالصبر، وثقوا تماما بأن عاقبته خير إذ غايته الاستشهاد في سبيل الله، وما هم أولاء الشهداء؟ ليسوا كغيرهم أمواتا بل هم أحياء في قبورهم حياة ويرزقون رزقا على كيفية الله أعلم بها، فنحن لا نشعر بذلك لأنها حياة لا تدرك بالمشاعر ولكنها حياة حدثنا عنها الدين فيجب أن نؤمن بها. وليصيبنكم أيها المؤمنون بشيء قليل من الخوف والجوع والنقص في الأموال بضياعها، وفي الأنفس بموتها، وفي الثمرات بقلتها أو بموت الأولاد، اختبر الله بهذا لتهدأ قلوب المؤمنين وتسكن، مستسلمين إلى الله راضين بقضائه وقدره إذا ما أصابهم شيء من ذلك في الدنيا محتسبين الأجر عند الله قائلين: إنا ملك لله وإنا إليه راجعون. البشرى والنجاح لهذا الصنف من الناس فإنهم الصابرون. وإنما يوفى الصابرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 أجرهم بغير حساب، أولئك تنزل عليهم المغفرة والرحمة ممن رباهم وتولى أمورهم، وأولئك هم المهتدون إلى الأفعال النافعة. والأحاديث في الصبر والاسترجاع عند المصيبة كثيرة، منها حديث أم سلمة «لا تصيب أحدا من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول: اللهم أجرنى على مصيبتي وأخلف لي خيرا منها إلا فعل ذلك به» وما يروى عنه صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «قال الله: يا ملك الموت، قبضت ولد عبدى؟ قبضت قرّة عينه وثمرة فؤاده؟ قال: نعم قال: فما قال؟ قال: حمداك واسترجع، قال: ابنوا له بيتا في الجنّة وسمّوه بيت الحمد» . وما روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم حينما مات إبراهيم: «إن العين لتدمع وإن القلب ليحزن ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون» فهذا هو نظام الدين إذا أصاب المسلم شيء يستسلم لقضاء ربه ويرضى بحكمه ويسترجع عند المصيبة، وعلى العموم لا يقول إلا ما يرضى ربه. بعض شعائر الحج وجزاء من يكتم آيات الله [سورة البقرة (2) : الآيات 158 الى 162] إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158) إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (162) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 المفردات: الصَّفا وَالْمَرْوَةَ: جبلان بمكة. شَعائِرِ اللَّهِ: جمع شعيرة، وهي العلامة، والمراد بشعائر الله هنا: مناسك الحج. حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ الحج في اللغة: القصد، وفي الشرع: قصد مكة للنسك. وَالْعُمْرَةَ: الزيارة، واعتمر: زار، وفي عرف الشارع هي كالحج لكن ليس فيها وقوف بعرفة وليس لها زمان محدود. فَلا جُناحَ: فلا إثم. تَطَوَّعَ: فعل الطاعة فرضا أو نفلا. يُنْظَرُونَ: من الإنظار وهو الإمهال. المناسبة: قد تكلم القرآن الكريم عن معاندة أهل الكتاب والمشركين في تحويل القبلة وما ترتب على ذلك من ذكر القتال والصبر وجزائه. ومن الحكمة في تحويل القبلة توجيه أنظار المسلمين إلى مكة قلب الجزيرة، فناسب هنا ذكر بعض شعائر الحج وهي السعى بين الصفا والمروة: إلهابا لهم وتذكيرا بمكة. سبب النزول: روى البخاري عن عاصم بن سليمان: سألت أنسا عن الصفا والمروة؟ قال: كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية- لأنه كان عليهما صنمان (أساف ونائلة) وكان الجاهليون يمسحون عليهما- فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فنزل قول الله- عز وجل-: إن الصفا ... إلخ. المعنى: إن السعى بين الصفا والمروة من مناسك الحج والعمرة ومن أعمالهما، فمن قصد البيت للحج أو للعمرة فلا إثم عليه أن يطوف بهما، أى: يسعى بينهما، ونفى الإثم والحرج يشمل الواجب والمندوب، ومن تطوع بعمل خير لم يجب عليه من طواف أو غيره شكره الله بالجزاء على فعله إذ هو عليم بكل فعل يصدر من العبد. ثم رجع إلى اليهود فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وقد نزلت في علماء اليهود وأحبارهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 إن الذين يخفون ما أنزل الله بكتمه على الناس مع شدة الحاجة إليه، أو وضع شيء مكذوب من عندهم مكانه فجزاؤهم الطرد من رحمة الله، وغضب الله عليهم، فاليهود قد كتموا الآيات الواضحات الدالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم والآيات الهاديات إلى حقيقة أمره ووجوب اتباعه والإيمان به، كل ذلك من بعد ما بينها المولى- جل شأنه- ووضحها في التوراة ماذا يكون جزاؤهم؟ أليس هو الطرد من رحمة الله؟ ودعاء الملائكة أجمعين عليهم إلا من تاب منهم ورجع عن كتمان كلام الله، وأصلح ما أفسده بأن أزال ما وضعه من عنده، وكتب الأصل وبلّغ ما أنزل الله من غير تحريف ولا تبديل، فأولئك البعيدون في درجة الكمال بتوبتهم وإيمانهم يتوب الله عليهم ويدخلهم الجنة عرفها لهم لأنه هو التواب الرحيم. هذا شأن من تاب وأناب، ومن عاند وظل يغير ويحرف حتى مات!! فأولئك الذين كفروا بالله ورسله وماتوا على الكفر، أولئك عليهم لعنة الله وحقت عليهم كلمته وعليهم لعنة الملائكة والناس أجمعين خالدين في النار وماكثين مكثا الله أعلم به، لا يخفف عنهم من عذابها، ولا يمهلون. ما تشير إليه الآية: الإجماع منعقد على أن السعى بين الصفا والمروة من أعمال الحج والعمرة، والخلاف في حكمة فعن أحمد أنه سنة، وعن أبى حنيفة أنه واجب يجبر بدم، وعن مالك والشافعى أنه ركن لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «اسعوا فإنّ الله كتب عليكم السّعى» «1» . آية كتمان ما أنزله الله نزلت في اليهود، ولكن العبرة بعموم اللفظ، فمن كتم حكما شرعيا أو علما نافعا أو رأيا ناضجا خالصا لوجه الله والوطن دخل تحت طائلة هذا العقاب.   (1) رواه أحمد 6/ 421 والشافعى وغيرهما وللحديث طريقة أخرى عند ابن خذيمة إذا انضمت إلى الأولى قويت قاله ابن حجر في الفتح 3/ 582. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 إثبات وحدانية الله ورحمته ونفى الشركاء عنه [سورة البقرة (2) : الآيات 163 الى 167] وَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ وَالسَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَقالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167) المفردات: بَثَّ: نشر وفرق، ويقال: بث الخبر: نشره وأذاعه. دَابَّةٍ الدابة: ما دب من الحيوان على الأرض، وغلب على ما يركب ويحمل عليه. وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ: توجيهها إلى الجهات المطلوبة. الْمُسَخَّرِ: المذلل. أَنْداداً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 جمع ند، وهو النظير المخالف. يُحِبُّونَهُمْ: يعظمونهم كما يفعل المحب. الْأَسْبابُ: الصّلات والعلاقات. كَرَّةً: رجعة. حَسَراتٍ: ندامات. المعنى: بعد ما نعى القرآن على الكفار كفرهم، وعلى من كتموا الآيات كتمانهم، وأنهم ملعونون من الله والناس، وأراد أن يعالج الداء الذي يدفعهم إلى استمرار كفرهم، بإثبات الوحدانية لله بالدليل، وأنه رؤوف رحيم، وأن من الخير الالتجاء إلى الله وحده فقال: وإلهكم- الذي يجب أن يعبد وحده، ولا يشرك به شيء- إله واحد، لا معبود بحق في الوجود إلا هو، الرحمن الرحيم بخلقه، سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا، وكيف لا؟ وهو الذي خلق السموات وما فيها من عوالم وأفلاك كل يجرى إلى أجل مسمى في مداره، ومع هذا نظمت تنظيما دقيقا بقدرته وعظمته: وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ. وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ... [سورة يس الآيتان 37 و 38] . وهناك الأرض وما بها من عوالم الحيوان والنبات والمعادن والأنهار تجرى لمستقر لها ذلك تقدير العزيز الحكيم، أفلا يدل هذا على صانع منفرد بالوحدانية؟ إذ لو كان له شركاء لاختلّ النظام وتبدل الحال ولاستحالت الحياة، أما دلالة هذه العوالم على رحمته فأمر ظاهر بيّن. واختلاف الليل والنهار وطولهما وقصرهما وحرارتهما وبرودتهما واختلاف الفصول بسبب خطوط العرض والطول كل ذلك يدل على الواحد الرحمن الرحيم. وهذه السفن الشراعية والبخارية التي تجرى على الماء وقد ذلل لها، لا بد لفهم كون الفلك دليلا على الوحدانية من فهم طبيعة الماء وطبيعة قانون الثقل في الأجسام، وطبيعة الهواء والبخار والكهرباء، كل ذلك يجرى بسنن إلهية مطردة تدل على أنها صادرة من قوة واحدة هي قوة الإله الواحد الرحمن الرحيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 والمطر وما أدراك؟؟!! الذي يحيى الأرض بعد موتها، وانظر كيف يخرج من البحار والأنهار بخارا يتكاثف ويتجمع فيكون سحبا تثقل شيئا فشيئا ثم تسيرها الرياح حيث يشاء الله، ثم يسقط مطرا، أفلا يدل هذا على الواحد الأحد الفرد الصمد الرحمن الرحيم؟!! ومن آثار الماء النازل من السماء مطرا أن نشر في الأرض كل دابة: وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ [سورة الأنبياء آية 21] . وانظر إلى قدرة الله ووحدانيته التي تفردت بتصريف الرياح وتدبيرها وتوجيهها على حسب الإرادة، فمرة من الشمال وأخرى من الجنوب وتارة حارة وأخرى باردة، فسبحان الله الواحد الرحمن الرحيم لا إله إلا هو!! وانظر إلى السحاب المذلل بين السماء والأرض كيف تكوّن وتجمّع؟ ثم تفرق بنزوله مطرا وتبدّد في الجهات التي أرادها له خالقه. من الذي خلق هذا وأودع السر في هذه كلها؟؟ إن في ذلك لآيات دالات على الوحدانية والرحمة بالعباد، ولكنها آيات لقوم يعقلون. ثم يذكر الله- تعالى- حال المشركين به في الدنيا وعاقبتهم في الآخرة، حيث جعلوا لله أمثالا ونظراء يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه! وهو الله لا إله إلا هو، لا ندّ له، ولا شريك معه، والذين آمنوا بالله ورسله أكثر حبا لله منهم، فتمام معرفتهم وحبهم وتعظيمهم له- سبحانه- أنهم لا يشركون به شيئا، بل يعبدونه وحده ويلجئون إليه في جميع أمورهم: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ أما غيرهم فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله- سبحانه- مخلصين، وإذا ما نزلوا على الأرض اتجهوا إلى آلهتهم وقالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فهم في الشدة مع الله وفي الرخاء يسوون به غيره، فإذن هم يحبون آلهتهم كحب الله، والذين آمنوا لا يحبون إلا هو، فهم أشد حبا لله. ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم باتخاذهم الأنداد وإشراكهم بالله وقت صب العذاب عليهم صبا لعلموا حينئذ أن القوة لله وحده، وله الحكم لا شريك له. وأن الكل تحت قدرته ومن بينها الأصنام والأنداد، ورأوا أن الله شديد العذاب فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ. وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ [الفجر: 25 و 26] لو علموا هذا لانتهوا عما هم فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ولو يرى الذين ظلموا وقت أن يتبرأ المتبوعون كالملائكة والجن من الذين اتبعوا وعبدوا غير الله فيتبرأ كل معبود ممن عبده، والحال أنهم رأوا العذاب، وتقطعت بهم الصلات والأنساب بل وقال الذين اتبعوا: نتمنى أن تكون لنا رجعة إلى الدنيا فنتبرأ منهم كما تبرأوا منا وتركونا في الشدة، مثل ذلك رأوه رأى العين من العذاب يريهم الله جزاء أعمالهم حسرات عليهم وندامات وما هم بخارجين من النار أبدا!! العلاج الناجع [سورة البقرة (2) : الآيات 168 الى 173] يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَنِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 المفردات: طَيِّباً: طاهرا من كل شبهة. خُطُواتِ الشَّيْطانِ يقال: اتبع خطواته: إذا استن سنته وسار على طريقته. بِالسُّوءِ: السيّئ القبيح. الْفَحْشاءِ ما تجاوز الحد في القبح مما ينكره العقل ويستقبحه الشرع. ما أَلْفَيْنا: ما وجدنا. يَنْعِقُ: يصوت على غنمه ويدعوها. الْمَيْتَةَ: ما ماتت من غير ذبح شرعي سواء أكانت موقوذة أو متردية أو نطيحة أكلها السبع. وَما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ: الإهلال: الصراخ ورفع الصوت، والمراد: ما ذكر عليه اسم غير اسمه تعالى. غَيْرَ باغٍ: غير طالب للمحرم ذاته، وقيل: هو الخارج على المسلمين. وَلا عادٍ: غير متجاوز قدر الضرورة، وقيل: المعتدى على المسلمين بقطع الطريق. المعنى: بعد ما سجل عليهم اتخاذ الأنداد والشركاء وأن المتبوع يتبرأ من التابع يوم يرى العذاب، ناداهم: يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا أحله الله لكم طيبا لا شبهة فيه ولا إثم ولا يعلق به حق للغير مهما كان، واصرفوا نظركم عن ذلك المال الذي يأتيكم عن طريق الدين وتأخذونه من الأتباع فهو حرام خبيث لا يحل أكله. وفي هذا إشارة إلى أن أكثر رجال الدين من أهل الكتاب لم يؤمنوا خوفا على الدنيا وأعراضها الفانية: من الرياسة الكاذبة والمال الزائل الحقير وإلى أن ما للأكل من أثر في توجيه النفس واتباع الشيطان. وإياكم والشيطان الذي يوسوس لكم ويزين الشر إنه لكم- كما كان لأبيكم آدم- عدو ظاهر العداوة فلا تتبعوه وخالفوه إنه لا يأمر بالخير أصلا ولا يأمر إلا بالقبيح وكل ما ينكره الشرع ويأباه الطبع السليم والعقل الراجح، فها هي ذي أعمال الشيطان وأماراته فاحذروه ولا تتبعوه. وخالف النفس والشيطان واعصهما ... وإن هما محّضاك النصح فاتّهم والشيطان يأمركم أن تقولوا على الله ما لا تعلمون من أمور الدين. ولكن حكم القرآن على المشركين وبعض اليهود أنه إذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 على نبيه محمد صلّى الله عليه وسلّم فهو خير لكم وأجدى قالوا: لا، إنما نحن نتبع آباءنا وهم أعقل وأدرى بالدين. عجبا أيتبعون آباءهم ولو كانوا لا يعقلون شيئا من أمور الدين بل يتخبطون تخبط الأعمى ولا يهتدون إلى الصواب. ومثل داعي الذين كفروا إلى الإسلام كمثل الذي يدعو سوائمه، فكل من الكفار والبهائم لا يعي شيئا مما يسمع، وإنما يشعر بجرس اللفظ ورنينه فقط، لأن الكفار قد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، فليس عندهم استعداد للخير أبدا. والبهائم لا عقل لها تعى به. ما يؤخذ من الآية: 1- لا يحل لمسلم أن يأخذ ما لا يتعلق به حق الغير أو يأخذه بغير وجه شرعي. 2- يجب على المسلم أن يخالف الشيطان فإنه داع للشر والسوء والفحشاء. 3- لا يصح للمسلم أن يقلد غيره تقليد الأعمى بل ينظر على قدر طاقته وقوته في أمور دينه. ما تقدم من أول السورة يتعلق بالقرآن ومؤيديه ومعارضيه ومن هنا إلى أواخر الجزء الثاني في الأحكام الفرعية التي تعنى بتكوين الفرد المسلم والمجتمع الإسلامى. يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان، كلوا مما رزقناكم أكلا طيبا ما دمتم غير معتدين على أحد، فكل شيء حلال لكم، واشكروا الله- سبحانه- خالق هذه النعم. هذا هو نظام الإسلام، قد جعلنا أمة وسطا تعنى بالجسم، فنأكل ما نشاء حلالا طيبا بلا إسراف ولا تقتير لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما رزقناكم (الآية: 87 من سورة المائدة) . وتعنى بالروح، فنغذيها بالشكر لله صاحب تلك النعم، فقد أباح الله لكم ثمرات الأرض وطيباتها إلا ما حرم. وما حرم عليكم إلا الميتة فإنه بقي فيها دمها وقد يكون ملوثا بالأمراض كما هو الغالب، وحرم الدم المسفوح فإن النفوس الطيبة تأباه مع تلوثه بالجراثيم، وكذلك لحم الخنزير فإنه حيوان قذر لا يأكل إلا من القاذورات والنجاسات، والطب يؤيد خطره على الصحة، وما ذكر عليه غير اسمه- تعالى- عند الذبح فإنهم يذبحون في الجاهلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 للأصنام ويقولون عند ذبحها: «باسم اللات والعزى» ، ثم يضاف إلى هذا ما حرم في سورة المائدة، وكله محرم شرعا وذوقا وطبا لمصلحتنا، إلا من اضطر إلى أكل شيء من ذلك بأن لم يجد ما يبقى به رمقه فله أن يأكل ولا إثم عليه، بشرط ألا يكون طالبا المحرم لذاته، ولا باغيا، ولا متجاوزا الحد في سد جوعه فيأكل بقدر الضرورة فقط وبعض المفسرين على أنه يشترط فيه ألا يكون خارجا على المسلمين، ولا قاطع طريق لأن هذه رخصة لا تعطى للمعتدين فإذا نظرنا إلى أنه قد يهلك بسبب حرمانه تجاوزنا عن ذلك، والله غفور للزلة رحيم بعباده. ما يستنبط من الآية: كل ما في الأرض والبحر والجو من نبات وحيوان وسمك وطير حلال لنا إلا ما ذكر من المحرمات هنا وفي سورة المائدة وما نص عليه في كتب الفقه الإسلامى. وللمضطر أن يأكل مما حرم قدر الضرورة. موقف أهل الكتاب من القرآن والنبي [سورة البقرة (2) : الآيات 174 الى 176] إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَالْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 المفردات: يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا: يبيعونه بثمن قليل. يُزَكِّيهِمْ: يطهرهم. شِقاقٍ الشقاق: المخالفة. هذا موقف آخر لأهل الكتاب وأحبارهم بالنسبة للقرآن والنبي، وما قبله كان الكلام عليهم وعلى المشركين حيث حرموا بعض الحلال، وابتدعوا في الدين رهبانية وتقشفا. المعنى: إن الذين يكتمون ما أنزل الله- الكتاب المنزل عليهم من وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان زمانه وغير ذلك مما يشهد بصدق نبوته وكمال رسالته، فعلوا هذا حرصا على رئاسة كاذبة وعرض زائل- تراهم باعوا الخير والهدى بثمن بخس قليل لا ينفع، أولئك البعيدون في الضلال لا يأكلون في بطونهم إلّا ما هو موجب لدخول النار. ومن شدة غضب الله عليهم أنه لا يكلمهم يوم القيامة، ولا يثنى عليهم بالخير كما يفعل مع أهل الجنة، وللكافرين عذاب شديد مؤلم في الدنيا والآخرة. ثم أشار إليهم مرة ثانية دليلا على تمكنهم في الضلال فقد استبدلوا الضلالة بالهدى واستحقوا العذاب بدل المغفرة، فعجبا لهم وأى عجب لصبرهم على تعاطى موجبات دخول النار من غير مبالاة منهم!! ذلك العذاب الشديد الذي لحق بهم لأن الله نزل الكتاب بالحق، وأن الذين اختلفوا في كتب الله فقالوا: بعضهم حق وبعضهم باطل لفي خلاف بعيد عن الحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 حقيقة البر [سورة البقرة (2) : آية 177] لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177) المفردات: الْبِرَّ: اسم جامع للخير ولكل فعل مرض. الْيَتامى اليتيم: من لا والد له وهو محتاج. الْمَساكِينَ: صنف من الفقراء المحتاجين الذين سكنت نفوسهم للرضا بالقليل، فالمسكين له مال لا يكفيه، وأما الفقير فلا مال له فيعطى من باب أولى. ابْنَ السَّبِيلِ: ابن الطريق، وهو المسافر المحتاج. وَفِي الرِّقابِ: أنفق المال في فك الرقاب من قيد الرق. الْبَأْساءِ من البؤس: وهو شدة الفقر. الضَّرَّاءِ: ما يضر الإنسان من مرض أو فقد محبوب. حِينَ الْبَأْسِ: وقت شدة القتال. المعنى: كثر الكلام والجدال حول تحويل القبلة من أهل الأديان، حتى شغل المسلمون بها، وغلا كل فريق في التمسك بقبلته، فأراد الله- سبحانه وتعالى- أن يبين للناس كافة أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 مجرد تولية الوجه قبلة مخصوصة ليس هو البر المقصود، وإنما البر شيء آخر ليس في تولية الوجه جهة المشرق والمغرب، إنما هو إيمان بالله ورسوله إيمانا قلبيا صادقا كاملا مقرونا بالعمل، إيمان تطمئن به القلوب وتهدأ به النفوس، إيمان يحول بين النفس ودواعي الشر ومزالق الشيطان، فإذا وقع في المحرم سارع إلى التوبة الصادقة. فالبر: الإيمان الكامل بالله واليوم الآخر على أنه محل للجزاء والثواب، فيكون هذا أدعى للقرب من الرحمن والبعد عن الشيطان، والإيمان بالملائكة على أنهم خلق من خلق الله سفراء بينه وبين رسله حملة الوحى وسدنة العرش، دأبهم الطاعة، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. والإيمان بالكتاب المنزل سواء كان زبورا أو توراة أو إنجيلا أو قرآنا يؤمن بما فيه كله لا يؤمن بالبعض ويكفر بالبعض كما يفعل أهل الكتاب. والإيمان بالنبيين جميعا لا فرق بين نبي ونبي. هذا أساس الاعتقاد الصحيح والإيمان الكامل، ثم لا بد معه من عمل يهذب النفس ويقوى الروح ويربط المجتمع برباط الألفة والمحبة والاتحاد والتعاون، ولقد أشار القرآن الكريم إلى الأمور العملية فيما يأتى: إيتاء المال المستحق مع حبه له كما قال ابن مسعود: «أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش، وتخشى الفقر، ولا تمهل حتى إذا بلغت الروح الحلقوم قلت: لفلان كذا» نعم إيتاء المال مع حبه ذوى قرباه عصبا أو رحما لأنهم أحق من غيرهم ما داموا محتاجين: «ابدأ بنفسك ثم بمن تعول» وآتى اليتامى الذين فقدوا آباءهم ولا عائل لهم إلا الله، وآتى المساكين، والفقراء من باب أولى، وأعطى ابن السبيل الذي انقطع به الطريق حتى كأنه لا أب له ولا أم إلا الطريق، وآتى السائلين الذين يسألون بدون إلحاف مع الحاجة إلى المال: يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ أما من يتخذ السؤال حرفة ويجمع بسببه المال فلا يعطى، بل إن كان صغيرا أو قادرا على العمل ذكرا كان أو أنثى كان على الحكومة أن توجد له عملا، وبدل أن تعطيه قرشا ويظل فقيرا ساعده على إيجاد عمل له. ومن البر العملي إنفاق المال في الرقاب الأسيرة بالرق أو الأسيرة بالحرب بأن يعين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 من يريد الخلاص: بماله أو جاهه، فالدين شغوف جدّا بالحرية الكاملة لكل فرد، ولكل أمة. ومنه إقامة الصلاة كاملة مقومة تامة الأركان والشروط مع الاستحضار القلبي الذي يبدأ بقولك: الله أكبر، وينتهى بالسلام. ومنه البر والوفاء بالعهد فإنه من آيات الإيمان، وضده من آيات النفاق كما ورد: «آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» . ونهاية الصفات وأعلى درجات البر والإيمان: الصبر: في البأساء والضراء وحين البأس، فالصبر نصف الإيمان، بل الدليل على الإيمان الكامل أن يصبر الإنسان ويحتسب أجره عند الله في الفقر وشدته، والضر وإصابته، وحين القتال وقوته، ولا شك أن هذه هي المواقف التي يظهر فيها الإيمان الكامل. أولئك الموصوفون بما ذكرهم الصادقون في الإيمان، وأولئك البعيدون في درجة الكمال، هم المتقون عذاب الله الفائزون بثوابه. حق الله في المال الله- سبحانه وتعالى- جمع في هذه الآية صورتين للإنفاق: صورة فيها إعطاء لمال محددا معينا على كيفية مخصوصة، وهو ما يعبر عنه بالزكاة المقيدة وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ. وصورة أخرى وهي إعطاء المال من غير تقييد ولا تحديد بل ترك تقييده وتحديده لحال الأمة، وهو ما عبر عنه: آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى ويسمى بالزكاة المطلقة، وفي هذا إشارة إلى أن المال يتعلق به حق معلوم، وآخر يترك للظروف وما تستدعيه الحال. أليس هذا علاجا للأزمات النفسية التي بين الفقراء والأغنياء، أليس هو الدواء الناجع لبطر الأغنياء وشحهم بالمال؟ أليس معناه أن هناك حقا في يد الحاكم يفرضه على الأغنياء للفقراء حتى تهدأ نفوسهم وتسكن؟ أليس الدين بهذا قد حل المشكلة من ثلاثة عشر قرنا: المشكلة بين الرأسمالية والشيوعية!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 ألا يا قوم والله لا خير إلا في هذا الدين فإنه دواء من حكيم عليم، في الرأسمالية عيوب لا تحصى، وفي الشيوعية عيوب لا تحصى، ولكن الحال الوسط والرأي المعتدل في الجمع بين الناحيتين بلا إفراط ولا تفريط كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ [سورة آل عمران آية 110] . القصاص وأثره [سورة البقرة (2) : الآيات 178 الى 179] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179) المفردات: الْقِصاصُ والقود: هو أن يفعل بالجانى مثل ما يفعل بالمجني عليه. فِي الْقَتْلى: بسبب القتلى. فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ: فمن عفى له من أخيه وهو ولى الدم شيء من العفو. فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ: فليكن اتباع للجاني بالمعروف من غير شطط. وَأَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ: وتأدية من جهة الجاني إلى المجنى عليه من غير تعب ولا مماطلة. سبب النزول: كان بين حيين من العرب نزاع وقتال، وكان أحدهما يتطاول على الآخر فحلف ليقتلن الحر بالعبد والذكر بالأنثى، واحتكموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 المعنى: يا أيها الذين آمنوا فرض عليكم القصاص بسبب القتلى، يقتص من القاتل بمثل ما فعل مع ملاحظة الأوصاف، فيقتل الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى وقد بينت السنة أن الذكر يقتل بالأنثى، أما الحر بالعبد ففيه خلاف: فالشافعي ومالك أن الحر لا يقتل بالعبد أخذا بهذه الآية. ويقولون: إنها مفسرة لما أبهم في آية المائدة: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ «1» وعند أبي حنيفة هذه الآية منسوخة بآية المائدة، القصاص ثابت بين العبد والحر والذكر والأنثى بدليل قوله صلّى الله عليه وسلّم: «المسلمون تتكافأ دماؤهم» «2» والجماعة تقتل بالواحد باتفاق «3» . ويشترط في القصاص التوافق في الدين فلا يقتل المسلم بالكافر، وهذا الحكم عند ما يحتكمون إلى القاضي، وإلا فلوليّ الدم أن يعفو عن القصاص ويأخذ الدية أو يعفو عنهما معا، بل إذا عفا الولي عن بعض الدم للقاتل، أو عفا بعض الورثة عن القصاص سقط ووجبت الدية، وعندئذ يطالب بها بالمعروف من غير شدة ولا عنف، وعلى القاتل الأداء بالمعروف من غير مماطلة ولا تسويف. وجواز القصاص والدية والعفو عن كليهما تخفيف من الله لنا ورحمة بنا، فمن اعتدى بعد ذلك بأن يطالب بالقصاص والدية. أو إذا طولب القاتل بالدية ماطل واعتدى. فلمن فعل هذا نوع من العذاب مؤلم غاية الألم. ولكم في القصاص حياة عظيمة للجماعة، تشيع فيها الطمأنينة والهدوء والسكينة فكل شخص يعرف أنه إذا قتل غيره قتل فيه امتنع عن القتل، فيحيا القاتل والمقتول وهذا القصاص يمنع انتشار الفوضى والظلم في القتل، وهو سبب في منع الجرائم والحزازات، وحدّ للشر وسلّ للسخيمة. وهذه العبارة أبلغ من قول العربي: (القتل أنفى للقتل) وأدل على المقصود وأظهر في الموضوع، وكل قصاص فيه حياة سامية، والقتل إذا كان فيه عدل كان أنفى للقتل، وإن كان فيه ظلم يكون أدعى للقتل.   (1) سورة المائدة آية 45. (2) أخرجه الترمذي وغيره كتاب الوصايا باب لا وصية لوارث رقم 2122 وقال حسن صحيح. (3) أخرجه البخاري كتاب الوصايا باب الوصايا ص 2738. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الوصية [سورة البقرة (2) : الآيات 180 الى 182] كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) المفردات: الْوَصِيَّةُ: أن يوصى من أوشك على الموت ببعض ماله لأقاربه. بَدَّلَهُ: غيّره. جَنَفاً: ميلا عن الحق والعدل. خَيْراً: المراد: المال الكثير كما فسرته السيدة عائشة. المعنى: فرض الله عليكم فيما فرض: إذا أشرف أحدكم على الموت، وقد ترك مالا كثيرا أن يوصى للوالدين والأقارب وصية عادلة، فلا يزيد على ثلث ماله. ولا يفضل غنيا لغناه، ويعدل في الوصية فلا يميز أصلا إلا لضرورة كعجز عن الكسب أو اشتغال بالعلم، إذ عدم العدل يسبب البغضاء والنزاع بين الورثة، فمن غيّر الوصية بعد ما سمعها وشهد عليها فإنما ذنب هذا التغيير عليه، والله سميع لكل قول عليم بكل فعل، فاحذروا عقابه وارجوا ثوابه، فمن علم من موص ميلا عن الحق خطأ أو عمدا. فله أن يصلح بين الموصى والموصى له أو بين الورثة والموصى لهم بأن يجعل الوصية شرعية عادلة لا ظلم فيها، ولا ذنب عليه في ذلك والله غفور رحيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 ملاحظة: هذه الآية منسوخة بآية المواريث وبقوله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث» بقي الأقارب غير الوارثين يستحب أن يوصى لهم من الثلث استئناسا بهذه الآية ولشمولها وتوكيدها، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم: «ما حق امرئ مسلم له شيء يوصى به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عند رأسه» . الصيام وفرضه [سورة البقرة (2) : الآيات 183 الى 185] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184) شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 المفردات: الصِّيامُ في اللغة: الإمساك، وفي عرف الشرع: إمساك عن الأكل والشرب والجماع من الفجر إلى غروب الشمس احتسابا لوجه الله. يُطِيقُونَهُ لا يقال: هو يطيق حمل نواة أو ريشة وإنما هو يطيق حمل قنطارين من الحديد مثلا إذا كان يحملها بمشقة وشدة، فالذين يطيقون الصوم هم الذين يتحملونه بمشقة وجهد، ويؤيد هذا قراءة يطوقونه، وذلك كالكبير المسن والحامل والمرضع والعامل في العمل الشاق الشديد وهو مضطر إليه. لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ: لتعظموه وتشكروه. المعنى: الصيام رياضة روحية، وعمل سلبي للنفس، وتهيئة للتقوى بالمراقبة في السر والعلن، وتربية للإرادة، وتعويد للصبر وتحمل المشاق، ولذا قيل: الصوم نصف الصبر، وهو شاق على النفس حقيقة، شديد عليها أن تحرم مما في يدها، ولذا نرى القرآن الكريم يتلطف في الأمر منه. إذ ناداهم بوصف الإيمان المقتضى للامتثال والمسارعة فيه، ثم قال: إنه فرض عليكم كما فرض على الذين من قبلكم من الأمم، فاقبلوه كما قبله غيركم، ثم هو مطهرة للنفس ومرضاة للرب فرضه عليكم لعلكم به تتقون الله، وهو أيام معدودات قلائل في العام شهر واحد: «لو علمت أمتى ما في رمضان من الخير لتمنت أن يكون السنة كلها» «1» . وليس واجبا إلا على القادر والمستطيع الصحيح، وأما المسافر والمريض فلا حرج عليهما في الفطر لأن المرض والسفر مشقة والمشقة تجلب التيسير، وعليهما القضاء، ولم يحدد القرآن السفر ولا المرض لأن هذا يختلف باختلاف الأحوال، ولو علم الله خيرا في التحديد لحدد، ولكنه متروك لضميره ودينه. وقيل: السفر الذي يصح فيه الفطر وقصر الصلاة قدر بحوالى ثمانين كيلو مترا. ومن يتحمل الصوم بمشقة شديدة كالشيخ المسن والمريض مرضا مزمنا لهما الفطر وعليهما الفدية، وهي طعام المسكين يوما من القوت الغالب الشائع في البلد، والحامل   (1) أخرجه أبو يعلى والطبراني وغيرهما مجمع الزوائد 3/ 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 والمرضع إن خافتا على أولادهما فقط لهما الفطر، وعليهما القضاء والفدية، وإن خافتا على أنفسهما ولو مع أولادهما لهما الفطر، وعليهما الفدية أو القضاء. فمن تطوع وأطعم أكثر من مسكين لليوم الواحد فهو خير له وأحسن. وصيامكم أيها المتحملون للصوم بمشقة خير لكم إن كنتم تعلمون أن الصوم خير وأجدى. ثم أراد القرآن أن يحببنا في الصوم أكثر فقال: هذه الأيام القليلة هي شهر رمضان، وهو شهر مبارك ميمون، فيه ابتدأ الله نزول القرآن الذي هو هدى للناس وآيات بينات واضحات لا غموض فيها من جملة ما هدى الله به وفرق بين الحق والباطل. وبعضهم فسر نزول القرآن في شهر رمضان، وأنه أنزل في ليلة القدر المباركة التي هي خير من ألف شهر. بأن القرآن نزل إلى سماء الدنيا في ليلة القدر، وليلة القدر في شهر رمضان. أما وقد ظهر أن الصوم نعمة من الله وتكليف لمصلحة العباد، فمن حضر منكم الشهر وهو سليم معافى لا عذر له من سفر أو مرض فالواجب عليه الصيام، إذ هو ركن من أركان الدين، ثم أعاد الله الرخصة في الإفطار مرة ثانية خوفا من أن يفهم الناس بعد هذا الواجب الصريح: فَلْيَصُمْهُ أنه لا يجوز الفطر لعذر وخاصة بعد هذه المرغبات الكثيرة. شرع لكم الرخصة في جواز الإفطار مع العذر الشرعي لأنه يريد بكم اليسر ولا يريد بكم العسر، وما جعل عليكم في الدين من حرج، وأمركم بالقضاء والفدية لأنه يريد أن تكملوا عدة هذا الشهر، وإنما أباح الفطر مع الفدية أو القضاء، وعلمنا كيف نخرج من الحرج مع الوفاء، لنكبر الله ونعظمه ونشكره على تلك النعم، وفقنا الله للخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 بعض أحكام تتصل بالصيام [سورة البقرة (2) : الآيات 186 الى 187] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186) أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187) المفردات: فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي: فليلبّوا دعوتي إياهم للإيمان. يَرْشُدُونَ: يهتدون. الرَّفَثُ: الفحش من الكلام، أو الإفصاح بما يجب أن يكنى عنه، أطلق على الجماع لأنه لا يخلو منه غالبا. هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ: الزوجان كل منهما لباس للآخر لأنه يستر صاحبه كما يستر اللباس ويمنعه من الفجور. تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ: تخونونها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 المعنى: 1- روى أن أعرابيا سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم: أبعيد ربنا فنناديه أم قريب فنناجيه؟ فنزلت الآية. ولا تنس الحكمة في وضعها بعد آيات الصوم.. سبب النزول: وإذا سألك يا محمد عبادي عنى فإنى قريب منهم أعلم أعمالهم، وأرقب أحوالهم وهو تمثيل لحالة القرب: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ أجيب دعوة من دعاني مخلصا لي قد شفع دعاءه بالعمل الخالص لوجه الله. وإذا كان الأمر كذلك فليلبوا دعوتي لهم بالإيمان بي، أجيب دعوتهم وأجازيهم على ذلك أحسن الجزاء لعلهم بهذا يهتدون إلى الخير النافع لهم. 2- روى أنهم كانوا في بدء الإسلام إذا أمسوا حل لهم الأكل والشرب والجماع إلى أن يصلوا العشاء أو يرقدوا، فإذا صلوها أو رقدوا حرم عليهم كل هذا، ثم إن عمر- رضى الله عنه- باشر زوجته بعد العشاء، وندم بعد ذلك ندما كثيرا، وأخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بما حصل واعترف بالذنب، فنزلت الآية: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ. أحل الله لكم في الليلة التي تصبحون فيها صائمين مباشرة نسائكم والاجتماع بهن، وقد سمى القرآن الجماع رفثا وخيانة لقبح ما حصل منهم قبل نزول الآية. والحكمة في الترخيص بهذا أن النساء مخالطون للرجال مخالطة الثوب للجسد بل أشد، كل يستر صاحبه ويقيه من السوء، وقد علم الله أن صبركم عنهن مع أنهن كاللباس أمر عسير وشاق، وقد كنتم تخونون أنفسكم بمباشرتهن فتاب عليكم وعفا عنكم، فالآن جامعوهن ليلا، وكلوا واشربوا حتى يظهر لكم نور الفجر المعترض في الجو مع ظلام الليل فهو أشبه بالخيط الأبيض مع الخيط الأسود، ثم أتموا الصيام إلى دخول الليل. ولا تباشروا نساءكم بالجماع أو اللمس مع الشهوة وأنتم معتكفون في المساجد فإن ذلك يبطل الاعتكاف، إذ في الاعتكاف لا فرق بين الليل والنهار. تلك حدود الله ومحارمه التي تشبه الحدود الفاصلة فلا تقربوها فضلا عن تخطيها وانتهاك حرمتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ألا وإن لكل ملك حمى، وحمى الله محارمه، فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه» «1» . مثل ذلك البيان الفاصل يبين الله آياته للناس لعلهم بهذا يهتدون إلى طريق الخير والرشاد. الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل [سورة البقرة (2) : آية 188] وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188) المفردات: تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ: تلقوا بها إليهم. بِالْإِثْمِ: شهادة الزور واليمين الفاجرة أو ما هو أعم من ذلك. المعنى: نهانا الله أن نأكل أموال بعضنا بالباطل وبدون وجه حق، ونهانا أن نلقى بالأموال إلى الحكام مستعينين في ذلك بالدفاع الباطل، والرشوة التي تعطى لبعض أصحاب النفوس القذرة الحقيرة من الحكام ليصل صاحبها إلى غرضه. ولا شك أن كثرة التقاضي بالباطل وشيوع الرشوة في الأمة مقبرة لها بل خطرها على الأمة أشد من اليهود. وكيف يجوز لمسلم أن يأكل مال أخيه المسلم بالإثم والزور والبهتان والرشوة وهو يعلم أنه حرام ولا يأكل في بطنه إلا النار. واعتبروا أيها الحكام والقضاة والمتخاصمون بقول الرسول الأمين للمتخاصمين:   (1) أخرجه البخاري كتاب الايمان باب فضل من استبرأ لدينه رقم 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 «إنما أنا بشر مثلكم، وأنتم تختصمون الىّ، ولعل بعضكم ألحن بحجته من الآخر فأقضى له على نحو ما سمعت فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنّ منه شيئا فإنما أقضى له قطعة من نار» » فبكى المتخاصمان وقال كل واحد منهما: حقّى لصاحبي. اختلاف أشكال القمر [سورة البقرة (2) : آية 189] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189) المفردات: الْأَهِلَّةِ: جمع هلال، وهو القمر في بعض حالاته. مَواقِيتُ جمع ميقات، والوقت: هو الزمن المضروب لأمر من الأمور، كوقت الصلاة والصيام مثلا، روى أنهم سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن العلة في أن القمر يبدو دقيقا كالخيط ثم لا يزال يكبر حتى يصير بدرا ثم يصغر حتى ينمحى ، وهذا سؤال وجه من بعض الصحابة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو لا يليق لأن النبي لم يبعث معلما للرياضة والعلوم الكونية التي منها أسباب أطوار الهلال، على أن الطاقة العقلية التي كانت موجودة حينئذ تعتبر الكلام في مثل هذا الموضوع ضربا من الجنون، ولذلك أجيب السائل بما يصح أن يسأل عنه في هذا الموضوع تنبيها له وإرشادا. وليس معنى هذا أن الدين لا يحب البحث ولا العلم، فالله يقول: قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ (101 سورة يونس) . إلى غير ذلك من الآيات التي توجب النظر والفكر والتعليم. وإنما القرآن له مهمة جاء لها وهي تكوين الفرد المسلم ذاته وتكوين مشاعره وسلوكه وروابطه وبناء شخصيته وضميره ووجوده   (1) أخرجه البخاري وغيره كتاب الأحكام باب عن قضى له بحصر أخيه رقم 7181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 على أسس إسلامية سليمة، وتكوين المجتمع الإسلامى على دعائم قويمة، ومتى وجدا طالب المسلم بالنظر والعلم والبحث الدقيق، إذا فليس من مهمة القرآن الكلام في المسائل العلمية وإن أتى بنظريات علمية فهي عارضة ولا تتعارض مع العلم في شيء. فمن سأل هذا السؤال كمن يأتى البيوت من ظهورها ولذا كان الجواب على طريقة الأسلوب الحكيم: قل لهم يا محمد: إنها معالم يؤقت بها الناس أعمالهم وتجارتهم ومزارعهم وعبادتهم من صوم وحج وعدة ... إلخ. والتوقيت بالسنة القمرية سهل في الحساب ومناسب للعرب، وقد كان أناس من الأنصار إذا أحرموا بالحج لم يدخلوا الدور من الباب فإن كان من أهل المدر نقب نقبا في ظهر بيته وإن كان من أهل الوبر دخل من خلف الخباء، فقيل لهم: ليس البر هذا، ولكن البر من اتقى الله وخاف عقابه، ثم أمرهم بأن يأتوا البيوت من أبوابها ويتقوا الله في كل شيء رجاء أن يكونوا من المفلحين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 القتال في سبيل الله [سورة البقرة (2) : الآيات 190 الى 195] وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194) وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195) المفردات: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ القتال في سبيل الله: هو القتال لإعلاء كلمة الله ونصرة دينه. ثَقِفْتُمُوهُمْ: وجدتموهم، وثقفه: أخذه وظفر به. الْفِتْنَةُ: مصدر [فتن الصائغ الذهب والفضة] : إذا أذابهما بالنار ليستخرج الصالح، ثم استعملت الفتنة في كل اختبار، وأشده الفتنة في الدين، والمراد بها: إيذاء الكفار للمسلمين في الحرم وتعذيبهم وإخراجهم من الوطن. التَّهْلُكَةِ: الهلاك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 سبب النزول: نزلت الآية في صلح الحديبية، لما صد المشركون النبي صلّى الله عليه وسلّم عن البيت الحرام، وصالحوه على أن يرجع في عامه القابل، ويخلوا مكة له ثلاثة أيام للنسك والطواف. فلما كان العام القابل تجهز النبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه لعمرة القضاء، وخافوا ألا تفي لهم قريش وأن تصدهم عن المسجد الحرام بالقوة ويقاتلوهم كما فعلوا في العام السابق، وكره الصحابة قتالهم في الحرم والأشهر الحرم فأنزل الله هذه الآية. المعنى: أيها المؤمنون: قاتلوا في سبيل الله فإنى أذنت لكم في قتال المشركين: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا [سورة الحج الآية 39] . فإنهم فتنوكم عن دينكم وأخرجوكم من دياركم، وقاتلوكم ونكثوا عهودهم، وقاتلوهم على أنه دفاع في سبيل الله للتمكن من عبادته في بيته، ولتربية هؤلاء المفتونين والمغرورين، ولا تعتدوا بالقتال فتبدأوهم، ولا تعتدوا في القتال بأن تقتلوا الصغار والعجزة والشيوخ أو من ألقى إليكم السلاح، إن الله لا يحب الخير للمعتدين فكيف بمن يعتدى في الحرم والأشهر الحرم؟ اقتلوهم إذا نشب القتال بينكم أينما أدركتموهم على أى حال كما سيأتى في الآية قريبا، وأخرجوهم من مكة حيث أخرجوكم، وظاهروا على إخراجكم، أليست فتنتهم إياكم في الحرم عن دينكم بالإيذاء والتعذيب ومصادرة الأموال والإخراج من الوطن أشد قبحا من القتال في الحرم؟! إذ لا بلاء أشد على نفس الحر من الإيذاء والاضطهاد لأجل عقيدة تمكنت في قلبه، واستحوذت على عقله ورأى السعادة في الدنيا والآخرة موقوفة عليها، وحقا: الفتنة أشد من القتل. ثم استثنى القرآن الكريم من وجوب قتال هؤلاء المحاربين في كل زمان ومكان قتالهم في المسجد الحرام لأن من دخله كان آمنا، فإن قاتلوكم فقاتلوهم، ولا تستسلموا لهم أبدا فالشر بالشر والبادي أظلم، وكذلك جزاء الكافرين. فإن انتهوا عن القتال وكفوا عنه، أو دخلوا في دين الله، فإن الله غفور لهم، رحيم يمحو من العبد ما سلف إذا هو تاب وأناب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فاقتلوهم إذا هم بدءوكم واعتدوا عليكم، واستمروا في قتالهم حتى لا تكون لهم قوة أصلا تمكنهم من أن يفتنوكم عن دينكم أو يفتنوا غيركم، واستمروا في قتالهم حتى يكون الدين خالصا لله لا دخل للشيطان فيه، وحتى يأمن المسلم في الحرم فيظهر دينه فيكون الدين لله فقط. وقد كان الكفار بمكة في أمن وطمأنينة يقيمون الباطل ويعبدون الأصنام، والمسلمون مطرودون منها ومن بقي فهو خائف لا يظهر دينه ولا يجاهر به. فإن انتهوا بعد هذا فلا اعتداء منكم إلا على من ظلم تأديبا لهم وإصلاحا. وذلك بإقامة الشرع وأحكامه فيهم. ولقد وضح الله الحكمة في أمر المسلمين بالقتال في الأشهر الحرم بهذه الآية، وذلك أن المشركين قاتلوهم في ذي القعدة عام الحديبية، فقيل لهم عند خروجهم لعمرة القضاء وكراهيتهم القتال في الأشهر الحرم: الشهر الحرام بالشهر الحرام، وهتكه بهتكه، والقتال فيه كالقتال في السابق، والحرمات التي يجب المحافظة عليها واجب فيها القصاص والأخذ بالمثل، فالممنوع الحرب الهجومية والبدء بالقتال، أما الدفاع والأخذ بالثأر فليس ممنوعا. فمن اعتدى عليكم بحرب أو غيره فجازوه بمثله، واعتدوا عليه اعتداء مماثلا، واتقوا الله ولا تظلموا، ولا تعتدوا، واعلموا أن الله مع المتقين بالمثوبة والتأييد والنصر: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا (سورة الحج: 38) . والقتال في سبيل الله يتوقف- كغيره- على المال، ولذلك أمرهم الله بالإنفاق في سبيله إذ الإنفاق في الحروب وسيلة النصر وطريق الفوز، واحذروا عدم الإنفاق فإنه مهلكة للأمة مضيعة للجماعة، ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى الهلاك بالإمساك وعدم الإنفاق، وكذلك الدخول في الحرب بغير بصيرة ولا استعداد، بل أنفقوا المال وأعدوا الرجال، وحصنوا أنفسكم بالعلم والخلق، وأبعدوا ضعفاء النفوس الذين يقبلون الرشوة ويبيعون الأمة والجيش لقاء مال زائل وعرض فان، فهؤلاء أشد خطرا من العدو، وأحسنوا كل شيء يتعلق بالحرب، واعلموا أن الله يحب المحسنين ويجازيهم أحسن الجزاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 يؤخذ من الآيات السابقة: (أ) أن القتال في سبيل الله كان لرد العدوان وحماية الدعوة وحرية الدين. (ب) شرع القتال الدفاعى لا الهجومى مع عدم الاعتداء على غير المقاتلين. (ج) وظاهر الآيات السابقة وغيرها في القرآن أن القتال لم يكن لإكراه الناس على الدخول في الدين: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ. أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (من سورة يونس 99) . الحج وبعض أحكامه [سورة البقرة (2) : الآيات 196 الى 197] وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 المفردات: رَفَثَ: المراد به الجماع. فُسُوقَ الفسوق: العصيان والخروج عن طاعة الله. جِدالَ: مجادلة ومماطلة وخصام. المعنى: الحج هو المؤتمر الإسلامى العام الذي يعقد كلّ عام في مكة المكرمة محط أنظار المسلمين وقبلتهم، يعقد في أشهر معلومة، ويأتى إليه الناس من كل فج عميق رجالا وركبانا متجردين عن الدنيا ومظاهرها، حتى لا يعرف أمير من حقير، فيتذكر الناس الآخرة وموقف الحشر فيها، وهو بحق من مفاخر الإسلام وقد فرص سنة ست من الهجرة. وفي هذه الآيات بعض أحكام نسردها والباقي في كتب الفقه والسنة، وقد أمرنا الله بإتمام الحج والعمرة كاملين بشروطهما وآدابهما متغلبين على العقبات التي تصادفنا، قاصدين عملنا هذا رضا الله ورسوله لا للرياء ولا لأغراض الدنيا، وأما أصل الوجوب ففي قوله- تعالى- في سورة آل عمران: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا. وهنا بعض أحكامه المأخوذة من الآيات: 1- لو منع الحاج من إتمام الحج والعمرة فواجب عليه إذا أراد التحلل ما تيسر من الهدى بأن يذبح ناقة أو بقرة أو شاة سليمة، فإن لم يجد ما يذبح قوّم الحيوان واشترى بقيمته طعاما وتصدق به، فإن لم يجد صام عن كل مدّ من الطعام يوما. 2- الدخول في الحج أو العمرة يكون بالإحرام ولبس غير المخيط، والخروج منهما وما يعبر عنه بالإحلال يكون بحلق الرأس أو التقصير، فقوله- تعالى-: وَلا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ خطاب للمحصرين الذين يريدون التحلل فنهوا عنه قبل بلوغ الهدى مكان ذبحه وهو مكان الإحصار عند الشافعى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 3- لا يصح في الحج الحلق أو التقصير وقتل الهوام، فإذا كان الحاج مريضا ينفعه الحلق، أو به أذى من رأسه من قمل وغيره فله أن يحلق، وعليه فدية صيام ثلاثة أيام أو صدقة هي إطعام ستة مساكين أو ذبح شاة، وهذه الفدية تجب كذلك في تقليم الأظافر والقبلة والطيب والدهن ... إلخ، ما هو مفصل في كتب الفقه. 4- فإذا أمنتم العدو والحصار فمن تمتع بسبب فراغه من أعمال العمرة يعنى أنه أتمها وتحلل وبقي متمتعا إلى زمن الحج ليحرم من مكة فعليه ما تيسر من الهدى لأنه أحرم بالحج من غير الميقات، فيذبح الهدى، وأقله شاة سليمة، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله بالفعل، ويصح الصوم إذا شرع في الرجوع، تلك عشرة كاملة. ذلك التمتع بإنهاء أعمال العمرة ثم الإحرام بالحج تخفيف ورخصة للذين حضروا من الآفاق البعيدة دون أهل الحرم لأن الغريب يتحمل المشاق في السفر إلى الحج وحده، ثم السفر إلى العمرة وحدها، واتقوا الله بالمحافظة على أمره، واعلموا أن الله شديد العقاب، ولك في أداء الحج والعمرة ثلاث صور. (أ) التمتع: أن يحرم بالحج من مكة. (ب) الإفراد: أن يحرم بالحج وحده ثم بالعمرة بعد انتهائه. (ج) القران أن يحرم بهما أو يحرم بالعمرة ثم يدخل الحج عليها أو بالعكس، والله أعلم بأفضلها، والمهم الإخلاص. 5- هذه الفريضة لها أيام معلومة: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، فنية الحج لا تصح إلا في هذا الوقت، وأعماله تنتهي في أيام التشريق الثلاثة. 6- فمن أوجب على نفسه الحج وجب أن يبتعد عن الجماع ومقدماته، والكلام فيه فإنه رفث، ويبتعد عن الفسوق والخروج عن طاعة الله بفعل أى شيء محرم كالصيد والطيب والزينة ولبس المخيط، والتنابز بالألقاب، والجدال، والمراء والخصام كل ذلك محرم على الحاج لأن الشرع يريد منه أن يتجرد عن الدنيا ومظاهرها، وأن يكون إنسانا كاملا خاصة هنا، وأما الجماع وما حوله فلا يليق به لأنه في طاعة، ولذا يفسد الحج لو فعل الجماع قبل الوقوف بعرفة. وأما غيره من المحرمات فيجبر بدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وما تفعلوا من خير فالله يعلمه ويجازى به، وتزودوا بالأعمال الصالحة التي تنفعكم فإن خير الزاد التقوى، واتقوا الله يا أولى الألباب. بعض أحكام الحج [سورة البقرة (2) : الآيات 198 الى 203] لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 المفردات: أَفَضْتُمْ يقال: أفضت الماء: إذا دفعته بكثرة، ثم استعمل في الإفاضة من المكان، والمراد الدفع منه بكثرة، أصله: أفضتم أنفسكم. الْمَشْعَرِ الْحَرامِ: جبل بالمزدلفة يقف عليه الإمام يسمى قزحا، وسمى مشعرا لأنه معلم للعبادة ووصف بالحرام لحرمته. قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ: أديتموها، والمناسك: أعمال الحج. خَلاقٍ: نصيب. حَسَنَةً: توفيقا وصحة وكفافا في الرزق. أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ: أيام التشريق. تُحْشَرُونَ: تجمعون يوم القيامة للحساب. المعنى: بعد أن بيّن الله- سبحانه- أن الزاد زاد التقوى، وأن أولى العقول هم الذين يتزودون ليوم الحساب ويخافون الله، أشار إلى أن الحج لا يمتنع معه البحث عن الرزق والتجارة كما فهم الناس، فليس عليكم حرج ولا جناح في أن تطلبوا الرزق الحلال من طريق البيع والشراء والكراء. سئل ابن عمر: إنا نكري (الرواحل للحجاج) فهل لنا من حج؟ فقال: سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم مثل هذا السؤال فلم يجب حتى نزلت تلك الآية، فدعا النبي صلّى الله عليه وسلّم السائل وقال له: «أنتم حجاج» أى: لا يضر البيع، والشراء، وإنما الممنوع الحج للتجارة والانتفاع، أما إذا كان الحج لله والتجارة تأتى عرضا فلا مانع. الوقوف بعرفة أهم ركن في الحج لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «الحج عرفة» «1» ولأنه وقف في حجة الوداع على عرفات بعد صلاة الظهر إلى أن غربت الشمس وقال ما معناه: «خذوا عنّى مناسككم» «2» . فإذا أفضتم من عرفات مندفعين كالسيل بعد الوقوف بها فاذكروا الله بعد المبيت بمزدلفة بالتلبية والتهليل والدعاء عند الجبل الذي يقف عليه الإمام وهو المسمى بالمشعر الحرام، فقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: لما صلّى الفجر بالمزدلفة ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام فدعا وكبر وهلل ولم يزل واقفا حتى أسفر جدّا ، أى: دخل السفر وهو بياض النهار.   (1) رواه أحمد 4/ 310 وأصحاب السنن وغيرهم. (2) رواه مسلم كتاب الحج حديث رقم 1297. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 واذكروا الله ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة وعلمكم كيف تذكرونه، وإن كنتم من قبل الهدى لمن الضالين الذين لا يعرفون كيف يذكرونه. - كانت قريش وبعض القبائل يقفون في الجاهلية بمزدلفة ترفعا عن الوقوف بعرفة مع الناس فأمر الله نبيه أن يأتى المسلمون جميعا عرفات، ثم يقفون بها ويفيضون منها إبطالا لما كانت قريش تفعله. ثم إذا باتوا بالمزدلفة أمرهم أن يفيضوا منها جميعا لا فرق بين قبيلة وقبيلة، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم. فإذا أديتم مناسك الحج وقمتم بها فاذكروا الله ذكرا حسنا كما كنتم تذكرون آباءكم في الجاهلية، أو اذكروه أشد من ذكر آبائكم. ومن الناس من يدعو الله لأمر دنيوى فقط، وهذا لا نصيب له في الآخرة، ومنهم من يدعو الله أن يؤتيه في الدنيا رزقا حلالا وصحة وفي الآخرة ثوابا، وأن يجنبه الأعمال التي تؤدى إلى النار، أولئك حزب الله لهم نصيب كبير بما كسبوا والله سريع الحساب. واذكروا الله في أيام التشريق الثلاثة وهللوا وكبروا عقب الصلاة وعند رمى الجمار، عن عمر- رضى الله عنه- (أنه كان يكبر في فسطاطه بمنى فيكبر من حوله حتى يكبر الناس في الطريق) . فمن تعجل ورمى في يومين من أيام التشريق الجمرات فلا إثم عليه ومن تأخر ورمى في الأيام الثلاثة فلا إثم عليه وإن كان أفضل. ذلك التخفيف ونفى الإثم لمن اتقى الله ... واتقوا الله واعلموا أنكم إليه تحشرون وتحاسبون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 من علامات النفاق أيضا [سورة البقرة (2) : الآيات 204 الى 207] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَإِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207) المفردات: يُعْجِبُكَ: يروقك ويعظم في قلبك، ومنه الشيء العجيب. الْخِصامِ: الخصومة والعداوة. تَوَلَّى: ذهب. الْحَرْثَ: الزرع. النَّسْلَ: ما تناسل من الحيوان. أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ: حملته العزة الكاذبة على الإثم. يَشْرِي نَفْسَهُ: يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله. ذكر الله الحج وبين أن فيه من يدعو الله للدنيا ومن يدعوه للآخرة، فهذان صنفان آخران منافق ومؤمن، قلب مضيء بالإيمان وقلب مظلم بالنفاق. المعنى: بعض الناس يروقك قوله ويعجبك طلاقة لسانه وقوة بيانه في الحياة الدنيا مع أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 لا يتكلم إلا ليحظى بشيء من الدنيا الفانية وأعراضها الزائلة، وهو يشهد الله على ما في قلبه، فكلما قال قولا شفعه بقوله: يعلم الله هذا، ويشهد أنى صادق. ويعلم الله أنه أشد الناس خصومة، وأقواهم جدلا، وأكثرهم عداوة للمسلمين. سبب النزول: نزلت في الأخنس بن شريق: كان إذا قابل النبي صلّى الله عليه وسلّم مدحه، وأشاد بالإيمان يقول هذا لينال في الحياة الدنيا ما ينال، وكان يقسم أنه صادق، ويشهد الله أنه كاذب، وكان شديد الخصومة للمسلمين ففيه الخصال الثلاث. وإن ذهب عنك وتولى ظهرت نفسه الحقيقية وأخذ يسعى في الأرض فسادا فيهلك ما ينتجه الحرث ويقضى على النسل، وقيل: إذا تولى أمرا من الأمور سعى في الأرض بالفساد فيصب الله عليه وعلى أمته التي رضيت به إماما عليها أشد العذاب فيمتنع الخير حتى يهلك الحرث ويفنى النسل والحيوان، وكيف لا؟ والله لا يحب الفساد وصحبه! وإذا قيل له نصحا وإرشادا: اتق الله حملته الحمية الجاهلية، والعزة الشيطانية على ارتكاب الإثم المنهي عنه شرعا، وجزاؤه هذه اللعنة وحسبه جهنم ولبئس المهاد مهاده. الصنف الثاني من يبيع نفسه ابتغاء مرضاة الله في الجهاد والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. سبب النزول: نزلت في صهيب بن سنان ومن على شاكلته أراده المشركون على الكفر فأبى وأخذ ماله وفر بدينه إلى المدينة، والله رءوف بالعباد حيث كلفهم الجهاد في سبيل الله فعرضهم بذلك لثواب الشهداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 من لا يتبع جميع أحكام الدين وجزاؤه [سورة البقرة (2) : الآيات 208 الى 212] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210) سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212) المفردات: السِّلْمِ: الاستسلام والانقياد والإسلام. كَافَّةً: جميعا. خُطُواتِ الشَّيْطانِ: جمع خطوة، والمراد: تزيينه ووساوسه. زَلَلْتُمْ: ملتم عن الدخول فيه. ظُلَلٍ: جمع ظلة، وهي ما أظلك. يَسْخَرُونَ: يهزئون. المعنى: يا أيها الذين آمنوا من أهل الكتاب استسلموا لله- تعالى- وأطيعوه ظاهرا وباطنا، وادخلوا في الإسلام كله، ولا تخلطوا به غيره، فإنه روى أن عبد الله بن سلام استأذن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يقيم على السبت وأن يقرأ من التوراة في صلاته في الليل . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 ويجوز أن يكون المعنى: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في حظيرة الإسلام كله على أن يكون المؤمنون مأمورين بجميع فروع وأحكام الإسلام، أما إذا آمنوا ببعض الأحكام ففعلوها كالصلاة والصيام مثلا، ولم يعملوا ببعض الأحكام كالزكاة والصدقة والحكم بكتاب الله وحدوده، ومنع الخمر والزنى: وما إلى ذلك مما نراه الآن فتكون هذه الآية من باب الإخبار بالمغيبات بالنسبة للمسلمين في هذه الأيام، وما دمنا على هذا الحال فنحن الظالمون، الذين نتبع خطوات الشيطان ونقلده، مع أنه العدو اللدود الظاهر في العداوة، والله يقول لنا: وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ. فإن ملتم عن الحق وابتعدتم عن الإسلام من بعد ما جاءتكم الآيات الواضحات والحجج البينات، فاعلموا أن الله غالب على أمره ولا يعجزه الانتقام منكم، حكيم لا يترك ما تقتضيه الحكمة من مؤاخذة المذنب. ويقول كثير من المفسرين: هذه الآيات نزلت في أهل الكتاب الذين آمنوا ببعض الكتاب وكفروا بالبعض الآخر، ومالوا عن الحق بعد ظهوره. ألسنا أولى منهم بهذه الآيات نطبقها على أنفسنا؟ ونعتقد أن ما نحن فيه من الاستعباد والضعف جزاء ترك العمل ببعض أحكام الدين المهمة في تكوين الجماعة وتشييد أركانها. ما ينتظر هؤلاء الخارجون عن أمر الله إلا أن يأتيهم عذاب الله وأمره من حيث ينتظرون الخير تنكيلا بهم وتشديدا عليهم، وتأتيهم الملائكة بما قدره الله وأراده لهم، وقضى الأمر وإلى الله لا إلى غيره ترجعون يوم القيامة. سل يا محمد بنى إسرائيل تبكيتا وتقريعا عن المعجزات الدالة على صدقك وعن الآيات التي جاءت على أيدى الرسل الكرام السابقين خاصة موسى وعيسى فإنها كثيرة، ومن يغير نعمة الله التي توصل إلى الهداية والخير. فيستعملها في الكفر والعصيان من بعد ما جاءت إليه ووضحت عنده، لا جزاء له إلا العقاب الصارم، فالله شديد العقاب. حسنت الدنيا في أعين الكفار، وأشربت محبتها في قلوبهم حتى تهالكوا عليها، وفتنوا بها أيما فتنة، وهم يستهزئون بالمؤمنين ويسخرون بهم، مع أن الذين آمنوا واتقوا الله فوقهم يوم القيامة، إذ هم في أعلى عليين والكفار في أسفل سافلين، هذا هو الجزاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 في الآخرة، أما الدنيا فليست محل جزاء بل محل ابتلاء واختبار وعمل، ولو كانت تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى الكافر منها جرعة ماء. ولذا فالله يبسط الرزق لمن يشاء ولو كان كافرا فاسقا، ويقتر الرزق على من يشاء ولو كان مؤمنا طائعا، فهو يرزق من يشاء بغير حساب ولا نظر إلى دينه. الحاجة إلى الرسل [سورة البقرة (2) : آية 213] كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213) المفردات: الأمّة: الجماعة من الناس، وقد تطلق على الملة. بَغْياً: حسدا. المعنى: يقول الله- سبحانه- ما معناه- وهو الأعلم بمراده-: كان الناس يعيشون بفطرتهم في هذه الدنيا يحدوهم عقلهم، وتسوقهم رغباتهم وغرائزهم البشرية، إلى سكنى الدنيا وعمارتها، وهذا الحال يقتضى التنازع والتدافع والخروج عن جادة الطريق والاختلاف، فتسوء حالهم، فينعم الله عليهم بإرسال مبشرين ومنذرين يخرجونهم من الظلمات إلى النور لئلا يكون للناس على الله حجة بعد إرسال الرسل، وأنزل مع كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 واحد منهم ممن له كتابه الخاص به لا مع كل واحد منهم على الإطلاق، ومن هنا نعلم أن العقل وحده لا يكفى في إدراك الخير والاهتداء إلى الحق، ولذا أرسلت الرسل. أنزل الله الكتاب على الرسول متلبسا بالحق، ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من أمور دنياهم ودينهم، وما اختلف في الحق أو في الكتاب إلا الذين أوتوا الكتاب المنزل لإزالة الخلاف وإزاحة الشقاق، فاختلفوا فيه اختلافا آخر أو ازدادوا اختلافا، كل هذا من بعد ما جاءتهم البيّنات الواضحات، وما اختلفوا إلا حسدا وبغيا منهم، أما الذين آمنوا وعملوا صالحا من أنفسهم فيهديهم ربهم للذي اختلفوا فيه من الحق بإذنه وإرادته، والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم. ما يلاقيه الرسول والمؤمنون في دعوتهم [سورة البقرة (2) : آية 214] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214) المفردات: أَمْ معناها: بل التي تفيد افتتاح كلام جديد. الْبَأْساءُ: الفقر وكل ما يصيب الإنسان في غير ذاته. الضَّرَّاءُ: المرض وكل ما يصيب الإنسان في نفسه. زُلْزِلُوا: أزعجوا بأنواع البلايا. المعنى: خوطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومن معه من المؤمنين بهذه الآية حثّا على الثبات والمصابرة على مخالفة الكفار، وتحمل المشاق إثر اختلاف الأمم على الأنبياء- عليهم السلام- مع بيان عاقبة الصبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين مضوا من قبلكم من الأنبياء ومن معهم من المؤمنين؟ - فأنتم لم تبتلوا مثل ابتلائهم، مستهم الشدة والخوف والفقر والألم والأمراض، وأزعجوا إزعاجا شديدا حتى اضطرهم الألم الممضّ إلى أن يقول الرسول- وهو أعلم الناس بالله- تعالى- وأوثقهم بنصره والمؤمنون المقتدون به المقتفون أثره- متى يأتى نصر الله؟ حيث نفد صبرهم من هول ما لاقوا، فأجيبوا: ألا إن نصر الله قريب الحصول!! وهكذا كل قوم لهم دعوة ومنهج لا بد أن يبتلوا ويختبروا، ويمتحنوا، وفي هذا كله خير لهم وأى خير؟ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا «1» . النفقة وأحق الناس بها [سورة البقرة (2) : آية 215] يَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215) المفردات: مِنْ خَيْرٍ: من مال كثير طيب. المعنى: سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن مقدار ما ينفقون وعن بيان الجهة التي ينفقون فيها، والمراد هنا: نفقة التطوع لا الزكاة الواجبة، أما الجواب عن الشق الأول من السؤال فهو: أى مقدار تنفقونه كثيرا أو قليلا من المال فهو لكم وثوابه خاص بكم، وعن الشق الثاني أنه يعطى للوالدين والأولاد لأنهم القرابة القريبة وكذا الأقارب، ويكون التفضيل في الإعطاء والترتيب للأقرب فالأقرب، واليتامى والمساكين وابن السبيل يعطون من المال وما تنفقوا من خير مطلقا فإن الله سيجازى به لأنه عليم بكل شيء.   (1) سورة آل عمران 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 حول القتال في الإسلام [سورة البقرة (2) : الآيات 216 الى 218] كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216) يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَإِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218) المناسبة: إن ذكر القتال بعد الإنفاق للمال ظاهر المناسبة فالقتال يحتاج لبذل النفس والنفيس من المال، وعلى كل مسلم ضريبتان الدم والمال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 المعنى: فرض عليكم القتال لمن اعتدى عليكم من المشركين، وهو مكروه لكم لأنكم تخافون إن دارت رحى الحرب بينكم وبينهم أن يفتك القتل بكم، وأنتم الطائفة القليلة العدد التي تحمل لواء العدل والحق في هذه الجزيرة، وقيل في تعليل كراهيتهم للقتال: إن الإسلام أوجد في قلوبهم رأفة ورحمة وروحانية تبغض القتل والقتال الذي دعوا إليه وهم يرجون أن يثوب الكفار إلى رشدهم، وأن يصل نور الإسلام قلوبهم بالحجة والبرهان. فيا أيها المؤمنون لا يصح منكم أن تكرهوا الحرب والقتال لهذا السبب أو ذاك فعسى أن تكرهوا شيئا والواقع أنه خير لكم، إذ في الحرب إعلاء لكلمة الإسلام ودفع الظلم ورفع لمنارة الحق والعدل، وعسى أن تحبوا شيئا والواقع أنه شر عليكم مستطير. فالذي فرض عليكم القتال هو العليم بالنفوس التي ختم على قلبها وعلى سمعها وعلى بصرها غشاوة، فهؤلاء لا ينفع معهم إلا الإبادة والإزالة شأن الدم الفاسد في الجسد لا ينفع معه إلا عملية الإزالة، وهذا خاص بقتال المشركين الذين فتنوهم عن دينهم وقاتلوهم، لا في قتال الكفار مطلقا. والله يعلم وحده وأنتم لا تعلمون. بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سرية على رأسها عبد اللَّه بن جحش بكتاب منه: امض حتى تنزل بطن نخلة فتأتينا من أخبار قريش ما يصل إليك. وكان ذلك في جمادى الثانية وصادف أن مر بهم عمرو بن الحضرمي، والحكم بن كيسان وغيرهم مع عير تحمل تجارة لقريش، فائتمر بالعير عبد الله بن جحش ومن معه وقتلوا ابن الحضرمي وآخر وأسروا رجلين واستاقوا العير، وفي الواقع أنهم قتلوا ظنا منهم أنهم في آخر جمادى لا في أول رجب. فلما قدموا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال لهم: والله ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام، وأوقف توزيع الغنيمة. وفي هذا حصل هرج ومرج، واستغل المشركون هذا الحادث في الدعاية ضد النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى نزلت الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 إن يسألوك عن القتال في الشهر الحرام هل هو حلال أم حرام؟ فقل لهم: نعم القتال فيه كبير الإثم والجرم، ولكن اعلموا أن صد الكفار عن سبيل الله وطريقه الموصل إلى الإسلام بما يفتنون المسلمين عن دينهم ويقتلونهم ويخرجونهم من ديارهم وأموالهم، نعم صدهم عن سبيل الله كفرهم به وصدهم عن المسجد الحرام ومنع المسلمين من الحج والعمرة وإخراج أهله منه، وهم صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه. كل واحدة من هذه الجرائم التي فعلها المشركون أكبر إثما وأعظم جرما عند الله والناس من القتال في الشهر الحرام فكيف بهم وقد فعلوها كلها؟ ألم تعلموا أن الفتنة أشد من القتل؟! وما حوادث التعذيب والفتنة التي فعلوها مع عمار بن ياسر وأبيه وأخيه وأمه وغيرهم ببعيدة عن الأذهان!! هذا بعض ما كان من المشركين قبل الهجرة وبعدها، وصاروا يقاتلونهم لأجل الدين ويحرضون القبائل ضدهم وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إن مكن لهم واستطاعوا فهم يريدون ردّتكم وفتنتكم عن الإسلام، ولكن اعلموا أن من يدخل في الإسلام ثم يخرج مرتدا ويموت فهو كافر بالله وأشد من المشرك، وأولئك الموصوفون بالردة البعيدون في الضلال بطلت أعمالهم وصارت هباء منثورا وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون، هذا جزاء الكافرين المرتدين. وأما جزاء المجاهدين في سبيل الله كعبد الله بن جحش وأضرابه فها هو ذا: إن الذين آمنوا بالله ورسله وفارقوا الأهل والأوطان لإعلاء كلمة الله، ونصرة دينه ولحقوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وجاهدوا في الله مع ذلك حق جهاده. أولئك المذكورون البعيدون في درجات الكمال قد فعلوا ذلك رجاء رحمة الله، فالله يكافئهم ويجازيهم أحسن الجزاء، وهو يغفر لهم بعض الزلل ويرحمهم بفضله وإحسانه وهو الغفور الرحيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الخمر والميسر وحكمهما [سورة البقرة (2) : آية 219] يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) المفردات: الْخَمْرِ هذا اللفظ منقول من مصدر خمر الشيء: إذا ستره وغطاه، وخمرت الجارية: ألبستها الخمار، وهو النّصيف، أى: غطاء الوجه، والمناسبة في إطلاق هذا اللفظ على الشراب المخصوص أنه يستر العقل ويغطيه، وقيل: سميت خمرا لاختمارها وتغير رائحتها، والخمر: يطلق على عصير العنب والتمر والذرة وكل نبات ينتج ذلك المشروب. الْمَيْسِرِ: كان للعرب في جاهليتها أقداح وأزلام عشرة، سبعة لكل منهما نصيب معلوم، وثلاثة لا نصيب لها، يجعلون العشرة في كيس يجلجلها عدل منهم ويدخل يده فيخرج منها الأقداح، فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ نصيبه، ومن خرج له قدح مما لا نصيب له لم يأخذ شيئا وغرم ثمن الجزور كله، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ولا يأكلون منها ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يشترك معهم، فهذا هو الميسر عند العرب. الْعَفْوَ: الفضل والزائد عن الحاجة للإنسان ومن يعوله سنة على الأصح. المعنى: يجيب الله- سبحانه وتعالى- على الأسئلة الواردة من الصحابة سؤالا تلو سؤال تبعا للوقت المناسب للإجابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 والخمر قد نزلت فيه آيات أربع تدرجت بالعرب حتى وصلت إلى آية التحريم، وعالج الله الحكيم في هذه الآيات داء عضالا، علاجا يشهد بإعجاز القرآن حقّا، والمشاهد أن القرآن عند ما يعالج مرضا اعتقاديا أو عمليا ليس فيه للعادة مدخل يعالج كالشرك والزنى مثلا فإن كان للعادة فيه مدخل كالخمر مثلا تدرج فيه. أولى الآيات: وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً [النحل 67] ولقد سألني سائل عن سر وضع هذه الآية في تحريم الخمر، والجواب أنه وصف الرزق بالحسن وترك السكر. وفي ذلك إيهام بأن السكر ليس فيه خير، وهذا تنبيه للناس بعيد، ثانيا آياتنا هذه: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ فشربها قوم وامتنع بعدها آخرون، ثالثا: لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى [سورة النساء آية 43] . فامتنع الصحابة عن شربها وقت الصلاة، والصلاة أوقاتها الخمسة تشمل أغلب النهار وجزءا من الليل، ولكن مع هذا حدثت حوادث بسبب شرب الخمر أم الخبائث، مما دعا عمر أن يقول: اللهم ربنا أنزل لنا في الخمر بيانا شافيا فنزلت الآية الرابعة: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ إلى قوله فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ [سورة المائدة الآيتان 90 و 91] . وإطلاق اللغويين الخمر على كل ما خامر العقل، أى: ستره، وفهم الصحابة مدلول (الخمر) وهم أدرى باللغة والقرآن، على أنها تطلق على المسكر من عنب وزبيب وتمر وذرة وشعير وغيره، ولما ورد في السنة: «كلّ مسكر خمر، وكلّ خمر حرام» و «ما أسكر كثيره فقليله وكثيره حرام» يجعلنا مع القائلين بهذا الإطلاق خلافا لبعض الأحناف الذين يطلقون الخمر على عصير العنب إذا اشتد وقذف بالزبدة، أما غيره فإذا طبخ حتى ذهب ثلثاه حل شربه ما دون السكر (أى: القليل إذا لم يقصد بشربه اللهو والطرب) . على أن تحريم الخمر كان بالمدينة وكان المشروب نبيذ البر والتمر. والميسر كما عرفته آنفا. أما الخمر ففيها إثم كبير: مهلكة للمال، مذهبة للعقل مضيعة للصحة، أم الكبائر، يكفى أنها تسوى بين الإنسان والحيوان الثائر، وقد أثر الطب ضررها وبعض الدول المسيحية حرمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وفي الميسر إثم كبير: غرم مجهد، وعداوة بلا سبب، وحقد وكراهية، وضياع للوقت فيما يضر، وصرف للعقل عن جادة التفكير، ومع ذلك فهو داع للكسل والخمول. وفيهما منافع للناس ففي الخمر ربح وتجارة لمن يتاجر فيها، وفي الميسر يسار وغنى طارئ من غير تعب ولا مشقة، وإن يكن لا بركة فيه، وإثمهما أكبر من نفعهما بكثير جدا بدليل تحريمهما. وقد أجيبوا عن سؤال النفقة بأنهم ينفقون الزائد عن حاجتهم، وبعد معرفة ما ينفقه الإنسان عن نفسه ومن يعوله من غير إفراط ولا تفريط، هذا في النفقة المندوبة والتي يجوز للحاكم الإسلامى العادل أن يفرضها على الأغنياء بشرط أن تنفق على فقراء المسلمين إذا دعت الضرورة بذلك. مثال ذلك البيان في تحريم الخمر والميسر ووجوب الإنفاق فيما فضل عن الحاجة يبين الله الآيات الواضحات في الدستور القرآنى التي تكفل السعادة للمجتمع في الدنيا والآخرة لو تفكر الناس ونظروا بعين البصيرة والفكر السليم. ما يؤخذ من الآية: 1- كل مادة مسكرة تذهب العقل وتضيع المال والصحة وتقضى على الشخصية فهي حرام كالخمر، وذلك كالأفيون والحشيش، وكل مادة يخترعونها فيها هذا الهلاك. 2- كل لعب فيه غرم بلا عوض وفيه استيلاء على أموال الناس بغير حق فهو حرام كالميسر، وعلى ذلك فالقمار ولعب الموائد والسباق على اختلاف أنواعه حرام كالميسر، وأوراق اليانصيب كذلك لما يترتب عليها من ضياع المال أو كسب من غير طريق شرعي مع ما فيه من الضرر الممنوع شرعا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الولاية على مال اليتيم [سورة البقرة (2) : آية 220] فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220) المفردات: (اليتيم) : من فقد أباه. تُخالِطُوهُمْ: تخلطوا أموالكم بأموالهم. لَأَعْنَتَكُمْ العنت: المشقة والإحراج. المعنى: كان العرب يخلطون أموالهم بأموال اليتامى، ولما نزل قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ [سورة النساء آية 10] . تحاشى الصحابة عن اختلاط أموالهم بأموال اليتامى وجنبوها وحدها، وكان في ذلك ضرر لمال اليتيم في بعض الأحوال لذلك سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أيخالطونهم أم يجنبون أموالهم؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم مجيبا: إن كان في التجنب إصلاح لأموال اليتامى فذلك خير، وإن كان في مخالطتهم إصلاح لهم ومنفعة فذلك خير لأنهم إخوانكم في الدين والنسب، فعليكم أن تراعوا أموالهم بالإحسان، فالله- سبحانه- يعلم المحسن من المسيء وسيجازى كلّا على عمله. ولو شاء الله أن يضيق عليكم ويشدد بأنه يوجب التجنب أو المحافظة لفعل ذلك ولكنه ينظر لمصلحة اليتيم، ولا يشدد عليكم، وهو العزيز لا يغالب، الحكيم في أحكامه وتصرفاته جل شأنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 زواج المسلم بغير المسلمة [سورة البقرة (2) : آية 221] وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221) المفردات: (المشركة) : من ليس لها كتاب. روى أن مرثد بن مرثد أرسله النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى مكة في مهمة فلما قدمها سمعت به امرأة مشركة اسمها عناق، وكانت خليلة له فأتته وقالت ألا تخلو؟ فقال: ويحك إن الإسلام فرق بيننا، فقالت: ألا تتزوج؟ فقال: نعم بعد استئذان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية. والعلامة السيوطي يقول: إن الصحابة يذكرون أن الآية نزلت في كذا ويريدون توضيح معناها، أى: إن معناها يتناول أمثال ما ذكر، وإن ذكروا أسبابا فقد يعنون أنها نزلت عقبها ولذا نراهم يذكرون حادثة أخرى في سبب النزول، وكل ما ذكر يدور حول الآية الكريمة. المعنى: ينهى الله- سبحانه وتعالى- المسلم عن أن يتزوج المشركة التي لا كتاب لها حتى تؤمن بالله ورسوله، ولأمة مؤمنة مع ما بها من خساسة الرق وضعف الشخصية خير من امرأة مشركة أعجبتك بمالها وجمالها وحسبها ونسبها، ولو لم تعجبك فالنهي عنها من باب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 أولى، ولا تزوجوا المؤمنات- سواء كن حرائر أو إماء- المشركين حتى يؤمنوا ويتركوا ما هم عليه من الشرك، والعبد المؤمن- حرا كان أو رقيقا- خير من مشرك مع ما له من العز والجاه أعجبكم بما له من فضل أو لم يعجبكم. والسر في التحريم أن أولئك المشركين يدعون إلى الكفر وكل ما هو شر يوصل إلى النار إذ ليس لهم دين يردعهم، ولا كتاب يهديهم، مع منافاة الطبيعة بين الاثنين فهذا قلب فيه نور وذاك قلب فيه ظلام وضلال. والله يدعو بوساطة عباده المؤمنين الذين ينهاهم ويرشدهم إلى ما يوصل إلى الجنة ونعيمها، وإلى المغفرة بإذنه وبإرادته، وقد بين الله- سبحانه- آياته وأحكامه النافعة للمسلمين في دنياهم وأخراهم، ومن هذه الآيات التي نحن بصددها يبينها للناس لعلهم يتذكرون ويتعظون فلا يخالفون أمره أبدا ولا يجرون وراء الشيطان. ما يستنبط: 1- المرأة المشركة لا يصح بحال التزوج منها أما الكتابية كاليهودية والنصرانية فقد أباح الشرع التزوج بها. 2- فرق الشرع الشريف بين نكاح المسلم للكتابية حيث أجازه وبين نكاح الكتابي للمسلمة حيث منعه. ولعل السر في ذلك أن الرجال قوامون على النساء ولهم التأثير عليهن، والمرأة عاطفية، فلو تزوج الكتابي مسلمة أمكن التأثير عليها فربما تركت دينها، وغالبا يلحقها ضرر وإيذاء منه لأنه لا يؤمن بكتابها ولا نبيها، وأما المسلمون فيؤمنون بعيسى على أنه نبي وبكتابه، على أن أصله من عند الله، وعلى العكس لو تزوج المسلم الكتابية ورأت حسن المعاملة التي يأمر بها الإسلام وسماحة الدين وخالطت الإسلام عن قرب كان ذلك مدعاة لتصورها الإسلام على حقيقته، والمسلمون مأمورون بالإحسان إلى الزوجات في المعاشرة وأنه لا إكراه في الدين فلا ضرر يلحقها، ولا تنس أن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، والعزة تأبى علينا أن تكون المسلمة تحت كتابي مهما كان. وأما الفرق بين المشركة والكتابية فظاهر إذ نحن مع الكتابيين نؤمن بالله والحياة الأخروية وندين بوجوب عمل الخير والبعد عن الشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الحيض وحكمه [سورة البقرة (2) : الآيات 222 الى 223] وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223) المفردات: الْمَحِيضِ: الحيض، وهو دم فاسد يخرج من رحم المرأة كل شهر، أقله يوم وليلة، وغالبه ستة أو سبعة، وأكثره خمسة عشر يوما، وله أحكام في كتب الفقه كثيرة. فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ: كناية عن عدم الجماع. مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ: في المكان المأمور به وهو القبل لا الدبر. حَرْثٌ لَكُمْ: موضع حرثكم. المعنى: كان اليهود يتشددون في معاملة الحائض فيعتزلونها في الأكل والشرب والنوم، وإذا لامسها أحد تنجس ... إلخ. وكانت النصارى لا تفرق بين الحيض وغيره، فكان هذا داعيا لتساؤل المسلمين عن الرأى الوسط والحل الرشيد، فأجيبوا من الله: أن الحيض أذى يضر الرجل والمرأة على السواء، والطب يشهد بهذا، فاحذروا الجماع فقط في الحيض ولا حرج عليكم في غير الجماع، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اصنعوا كلّ شيء إلّا الجماع» وسئل الرسول: «ما يحلّ لي من امرأتى وهي حائض؟ فقال: لك ما فوق الإزار» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ولا تقربوهن حتى يطهرن من الحيض فإذا تطهرن باغتسال فجامعوهن في المكان الذي أمركم الله به، وهو القبل لأنه محل استيلاد الولد واستبانته، بعكس الدبر، إن الله يحب التوابين الذين يتوبون عن فعلهم المخالف للشرع لأن عادة إتيان النساء في الدبر وفي الحيض قد تسربت عند البعض، والله يحب المتطهرين الذين يتطهرون من دنس الفواحش وارتكاب المعاصي، ومن كل دنس مادى كالحيض والنفاس. نساؤكم الطاهرات من الحيض مواضع حرثكم، فالنطفة التي تلقى في الرحم أشبه شيء بالبذر الذي يلقى في الأرض المحروثة، والشارع الحكيم يشير بلفظه الموجز البليغ حَرْثٌ إلى أن المقصود من النكاح هو الاستيلاد لا اللذة البهيمية فوجب العناية به، ومن هنا وضع قوله- تعالى-: فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إذ في غير القبل لا يمكن الاستيلاد. وقوله- تعالى-: فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ معناه: لا حرج عليكم في إتيان النساء بأى كيفية شئتم ما دام في القبل الذي هو موضع الحرث. وقدموا لأنفسكم ما ينفعكم في دنياكم وأخراكم واتقوا الله، واعلموا أنكم ملاقوه فمجازيكم على عملكم، وبشر يا محمد المؤمنين الذين يطيعون الله ورسوله بالجنة. الحلف بالله [سورة البقرة (2) : الآيات 224 الى 225] وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) المفردات: عُرْضَةً: هي المانع المعترض دون الشيء، وعلى هذا فالمراد بقوله: لِأَيْمانِكُمْ: ما حلفتم عليه من البر والتقوى والإصلاح بيّن. بِاللَّغْوِ: هو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 اليمين الذي لا قصد فيه، كقولك تأكيدا لكلامك: لا والله، وبلى والله، من غير قصد، وعند أبي حنيفة: أن يحلف على شيء يعتقد أنه حصل خلافه، فذاك لغو اليمين. المعنى: قد يتسرع الإنسان فيحلف أنه لا يفعل كذا من بر أو صدقة أو صلح بين الناس، أو يفعل شيئا هو شر عليه، والله- سبحانه- يرشدنا إلى ما هو خير لنا وينهانا أن نجعل اسمه الكريم مانعا من الخير أو داعيا إلى الشر إذا حلفنا على فعله، بل من حلف ألا يفعل خيرا أو يفعل شرا فليحنث في يمينه وليكفر عنه، فقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا مّنها فليأت الّذي هو خير وليكفّر عن يمينه» وقوله- تعالى-: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا [سورة النور آية 22] . وقيل: المعنى: ولا تجعلوا الله معرضا لأيمانكم، جمع يمين، تبذلونه بكثرة الحلف وذلك لأن الحلاف مجترئ على الله غير معظّم له وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [سورة القلم آية 10] ، وهذه المؤاخذة إنما تتجه إلى المؤكدة المقصودة المنوية بالقلب، فهذه فيها الحرمة إذا حنث فيها وعلى صاحبها الكفارة وهي إطعام عشرة مساكين أو كسوتهم أو تحرير رقبة، فمن لم يجد بأن كان فقيرا فصيام ثلاثة أيام. أما اليمين اللغو التي تخرج من اللسان لا من القلب، تخرج بلا قصد: كبلى والله، ولا والله، فلا حنث فيه ولا كفارة، وكذا من حلف على شيء يظنه حصل فبان خلافه عليه (عند الأحناف) . الإيلاء وحكمه [سورة البقرة (2) : الآيات 226 الى 227] لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 المفردات: يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ: يحلفون، والإيلاء: أن يحلف الرجل أنه لا يقرب امرأته أربعة أشهر فأكثر. تَرَبُّصُ: انتظار. فاؤُ: رجعوا. المعنى: غالبا ما يكون عند النزاع بين الرجل والمرأة أن يحلف الرجل ألا يقربها مدة، وفي هذا امتهان للمرأة، وهضم لحقوقها وجفوة لها، والحلف على المرأة بهذا الشكل لا يرضاه الله ورسوله لما فيه من الضرر اللاحق للزوجة وقطع التراحم بينهما. ولمن يفعل هذا الفعل انتظار أربعة أشهر فقط لأنها أقصى مدة تستغني فيها المرأة العفيفة عن زوجها. والحكم: أن الزوج بعد الأربعة الشهور إما أن يفيء إلى زوجته ويحنث في يمينه ويكفر عنها وذلك معنى قوله- تعالى-: فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما ارتكب رَحِيمٌ بخلقه، وإن لم يفيء طلق، فإن أبى الطلاق طلق عليه الحاكم، وهذا معنى قوله: وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يدور من الأحاديث عَلِيمٌ بكل فعل. براءة الرحم في الطلاق وبعض أحكامه [سورة البقرة (2) : آية 228] وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228) المفردات: يَتَرَبَّصْنَ: ينتظرن ويصبرون. قُرُوءٍ: جمع قرء، وهو الطهر عند الشافعى، والحيض عند أبى حنيفة. وَبُعُولَتُهُنَّ: جمع بعل، المراد به: الزوج الذي طلق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 المعنى: المرأة المطلقة وهي ممن تحيض، أى: ليست صغيرة ولا كبيرة يائسة من الحيض وهي حرة غير حامل. عدتها ثلاثة أقراء، أما من لا تحيض فعدتها ثلاثة أشهر، والحامل عدتها بوضع الحمل، وسيأتى هذا بنص القرآن، والأمة عدتها قرءان، وانظر إلى التعبير القرآنى يتربصن بأنفسهن، أى: يحملن أنفسهن على الصبر والانتظار حتى تنقضي العدة فإن النساء تواقة إلى سرعة انقضاء العدة. ولا يحل لهن أن يكتمن شيئا مما في أرحامهن من حمل أو حيض إن كنّ من المؤمنين بالله واليوم الآخر إيمانا صادقا كاملا، فالمرأة أمينة على رحمها فإن لم تكن مؤمنة كاملة أضلت غيره وحيرته. وأزواجهن في الطلاق الرجعى أحق بردهن وإرجاعهن إلى بيت الزوجية، فالشارع الحكيم حريص على بقاء رباط الزوجية، وليس أبغض عند الله من الطلاق وإن يكن حقّا حلالا للزوج، والإشارة (بأحق) إلى أن الزوجة لها حق كذلك في الرجعة، ولكن كلام الزوج هو المعول عليه، وعليها أن تستجيب إلى طلبه بشرط أن يكون المقصود بالرجعة الإصلاح والخير للزوجين. أما إذا كان المراد الانتقام والتعويق عن الزواج من الغير فليس من الدين أن يعطل الزوج مطلقته ويلحق بها الضرر. النساء وحقوقهن في الزوجية قانون عام ودواء ناجع للناس مع وجازته، وتعبير مرن يصلح لكل زمان ومكان وجماعة، للنساء حقوق وعليهن واجبات مثل الرجال لهم حقوق وعليهم واجبات إذ كل من الرجال والنساء مخلوق له عقل وشخصية وتفكير ورغبات. ومناسبة الآية لما قبلها تقتضي تخصيص الحقوق والواجبات بالزوجية والمعاشرة، وأما قوله- تعالى-: وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ فتلك الدرجة هي المفسرة بقوله- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 تعالى-: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «1» فالدرجة هي القوامة عليهن والولاية والنفقة لهن فهو تكليف للرجال أكثر من تكليفهن، أما تحديد الحقوق والواجبات فمتروك للعرف ما لم يحل حراما ويحرم حلالا، وانظر إلى تقييد ذلك في القرآن بقوله بالمعروف والإحسان، وليس المراد المماثلة بالعين والشخص لا، ولكن على المرأة واجبات تقتضيها طبيعتها، ولها حقوق كذلك توجبها طبيعتها إذ ليس من العقل أن نقول: إن الرجل يتساوى مع المرأة في الخليقة والطبيعة، بل هي خلقت للبيت وما يشمل والرجل خلق للكفاح والعمل، وهذا هو حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم بين على وفاطمة إذ جعل فاطمة في البيت تديره وترعاه وعليّا خارج البيت عليه الجهاد والكفاح والبحث عن الرزق. وليس في هذا إهمال لشأن المرأة أو طعن في كفايتها وعقلها وعلمها لا، لا، ولكنه تشريف لها وتكريم حيث تصان وتحفظ، لا على أنها دمية في البيت، بل عملها كثير وكثير ومهمتها في المنزل شاقة وشاقة. أليس عليها تربية النشء وإعداد الطفل؟ بناء الأسرة وتكوين الأمة؟ فالوطن أسرة كبيرة، وإذا كانت هي سيدة البيت فهل يبقى بعد هذا شيء؟ لقد صدق الشاعر حيث يقول: الأم مدرسة إذا أعددتها ... أعددت شعبا طيب الأعراق واشتغالها ببعض الأعمال والوظائف إذا اقتضت ضرورة العيش ذلك فلا مانع بشرط مراعاة الدين والخلق وعدم الفتنة للشباب فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً (سورة الأحزاب: 32) .   (1) سورة النساء آية رقم 34. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 بعض أحكام الطلاق [سورة البقرة (2) : الآيات 229 الى 230] الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230) المفردات: تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ أى: إرسال لهن بدون رجعة. حُدُودَ اللَّهِ: أحكامه وقوانينه. تَعْتَدُوها: تجاوزوها. المعنى: كان الرجل قبل نزول هذه الآية يطلق امرأته فإذا قاربت انتهاء العدة راجعها، وهكذا فلا هو يمسكها بالمعروف ولا هو يطلقها بالمعروف فنزلت هذه الآية قطعا لهذه الفوضى، وحدّا لحرية الرجعة والطلاق، وأنت تراها مخصصة لقوله- تعالى-: وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ على معنى عدد الطلاق الذي تصح فيه الرجعة مرتان، أى: اثنتان، وبعدها إمساك لها بالمعروف والمعاشرة الحسنة، أو تسريح لها بإحسان، بمعنى أن تتركها حتى تتم العدة من الطلقة الثانية ولا تراجعها، وقيل: المراد من التسريح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 الطلقة الثالثة، فقد سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أين الطلقة الثالثة؟ فقال: أو تسريح بإحسان» ولأن التسريح من ألفاظ الطلاق، والإحسان في الآية المقصود منه أن ينفحها بجزء من المال جبرا لخاطرها، وهو ما يسمى بالمتعة عند بعض الفقهاء. ومن آداب الطلاق حرصا على مصلحة الزوجة وحدا لطغيان الرجل أن يطلقها في الطهر لا في الحيض، وأن يكون مرة بعد مرة لا دفعة واحدة، ولعل هذا هو السر في التعبير بقوله: مرتان لا اثنتان. وهل الطلاق الثلاث يقع طلقة واحدة أم ثلاثا؟ الظاهر الذي عليه النظم الكريم من قوله: مرتان، أن الطلاق الثلاث يقع طلقة واحدة، ولحديث ابن عباس: «كان الطلاق على عهد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخلافة أبى بكر وصدر من خلافة عمر: الطلاق الثلاث واحدة . فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة، فلو أمضينا عليهم، فأمضاه عليهم» . والجمهور على أنه ثلاث كما رأى عمر الفاروق، وذهب طائفة من العلماء إلى أنه واحدة خلافا للجمهور. فلقد شدد عمر ومن بعده من جمهور العلماء على الناس لما استباحوا الطلاق ورجع كثير من العلماء إلى الرأى الأول (قبل رأى عمر) أخذا بظاهر الآية وتخفيفا على الناس في مسألة الطلاق وفرارا من المحلل أو الوقوع في المحظور. ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أعطيتموه للمرأة في الصداق شيئا بحال من الأحوال في نظير الطلاق إلا في حالة ما إذا خفتم ألا تقام حدود الله في الحياة الزوجية، فإن خفتم ألا تقام حدود الله وأحكامه فإن كان السبب من الزوج والبغض منه لا تتفق وروح الإسلام ولا تقام حدود الله بينها فله أن يسرحها بإحسان وليس له أن يأخذ منها شيئا بل عليه النفقة، وليعلم أنه ارتكب إثما إذ إن أبغض الحلال إلى الله الطلاق، ولم يشرع إلا للضرورة القصوى. وإن كان من قبلها كأن أبغضته لا تستطيع معه الصبر وخافت أن يقع منها نشوز ومخالفة لأمر الله وحكمه فلا جناح عليها أن تفتدى نفسها منه بإعطائه شيئا من المال الذي دفعه صداقا، ولا جناح عليه أن يأخذه لأن السبب منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وهذا ما يسمى بالخلع في كتب الفقه الإسلامى. روى البخاري عن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن جميلة بنت عبد الله بن سلول كانت امرأة ثابت بن قيس بن شماس فأتت النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالت: لا أطيق زوجي بغضا، وأكره الكفر بعد الإسلام (أى: كفر نعمة العشير وخيانته في فراشه) فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أتردين عليه حديقته؟» (كان أصدقها حديقة) قالت: نعم.. قال للزوج: اقبل الحديقة وطلقها «1» : تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. ومن أحكام الخلع أنه لا تصح الرجعة بعده إلا بأمر الزوجة بخلاف الطلاق الرجعى. أما الطلاق البائن بينونة كبرى وهو المشار إليه بقوله- تعالى- فَإِنْ طَلَّقَها، أى: بعد الطلقتين السابقتين واختار تسريحها فلا يحل له أبدا حتى تتزوج من آخر زواجا شرعيا صحيحا غير محدود بزمن ولا مشروط فيه أى شرط يضر العقد، وحتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها، فإن طلقها الزوج الثاني، وانقضت المدة فلا مانع من الرجوع إلى الزوج الأول إن ظنا أنهما يقيمان حدود الله وما أمر به من المعاشرة الحسنة، وانظر إلى إطلاق حدود الله على المعاشرة الطيبة الخالية من السوء والنشوز. وهذه حدود الله يظهرها بأجلى بيان وأحسن عرض ولا يعقلها إلا العالمون، نعم لا يعقل سرها إلا العقلاء الفاهمون فقديما كنا نسمع نقدا شديدا لأحكام الدين في الزواج والطلاق، فما بال الغربيين رجعوا اليوم وشرعوا الطلاق ورأوه ضرورة لبناء الأسرة وكيان الأمة؟؟ أمن الدين بل من العقل أن تبقى امرأة رأيت سلوكها معوجا ولم يمكنك إقامة الدليل على ذلك؟ ماذا تفعل لو لم تجد الطلاق مشروعا؟ ألا أيها القوم تعقلوا فتلك حدود الله بينها لقوم يعقلون، ولا يضر الدين الإسلامى إساءة استعمالنا هذا الحق في الطلاق!!   (1) كتاب الطلاق باب الخلع حديث رقم 5273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 آداب الطلاق ومعاملة المطلقة [سورة البقرة (2) : الآيات 231 الى 232] وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231) وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232) المفردات: فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: قاربن انقضاء عدتهن. ضِراراً أى: يقصد الإضرار بها. الْحِكْمَةِ: السنة الشريفة، وقيل: هي الإصابة في القول والعمل. تَعْضُلُوهُنَّ العضل: الحبس والتضيق والمنع. المعنى: يقول المولى- جل شأنه- ما معناه: وإذا طلقتم النساء وقاربن انتهاء العدة فالواجب عليكم أحد أمرين: إما إمساك لها بالمعروف، أى: تراجعها لعصمتك بالمعروف وعدم الإيذاء، أو فراق بمعروف من غير إلحاق ضرر بالمطلقة، ولا تراجعوهن لقصد إلحاق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 الضرر بهن والإيذاء لهن لتلجئوهن إلى الفدية ودفع المال لكم، ولا شك أن هذا اعتداء منكم عليهن، ومن يفعل هذا الفعل المنهي عنه بأى أسلوب وعلى أى شكل فقد ظلم نفسه وعرضها لعذاب الله وغضبه. ولا تتكاسلوا في امتثال أمر الله- سبحانه- وجدّوا في العمل بآيات الله فإنكم إن تكاسلتم ولم تمتثلوا أمر الله كنتم كمن يستهزئ بالله وأمره، واذكروا نعم الله عليكم التي لا تحصى وأهمها الإسلام وكتابه المحكم الآيات وهدى رسوله خاتم الأنبياء، فإنهما الدستور الذي يبنى لكم الأسرة على أحسن نظام وأكمله، والدواء الناجع لكل داء، واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء تفعلونه أو تعزمون عليه عليم فمجازيكم عليه. لا يليق بكم جميعا أيها الأولياء والحكام والأزواج، ومن له شأن أن يمنع المرأة المطلقة إذا انتهت عدتها من أن تنكح زوجها السابق أو زوجا آخر إذا حصل التراضي بينهما والتوافق، وفي قوله: بينهما إشارة إلى أن الرجل يخطب المرأة إلى نفسها ولا يصح منعها من الزواج إذا تراضوا بالمعروف شرعا وعرفا بأن لم يكن هناك محرم ولا محظور شرعا، وكانت الكفاءة بين الزوجين ومهر المثل. وعندي أن المهر والتغالى فيه لا يصلح سببا للمنع، ورب فقير كريم الخلق شريف النسب خير من غنىّ سيّئ الخلق كثير المال، وذلك الذي تقدم من الأحكام والحدود يؤمن به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فهم الذين يتقبلونه قولا حسنا ويمتثلونه. ذلكم أزكى لكم وأطهر من دنس الوقوع في المحرم، وهو أزكى نظام وأطهره فإن عدم منع النساء من الزواج أزكى وأطهر للأعراض والبيوت وأنمى للشرف والكمال، والله يعلم كل هذا فامتثلوا أمره والله يعلم وأنتم لا تعلمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 بعض أحكام الرضاع [سورة البقرة (2) : آية 233] وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233) المفردات: حَوْلَيْنِ الحول: العام والسنة. وُسْعَها: جهدها وطاقتها. فِصالًا: فطاما لأنه يفصل الولد عن أمه. وَتَشاوُرٍ: مشاورة. مناسبة الآيات: شرع في أحكام الرضاع بعد أحكام الطلاق، وكلاهما من الأحكام المتعلقة بالبيوت والعائلات. المعنى: والوالدات المطلقات- لأن الكلام فيهن- يرضعن أولادهن إرضاعا على سبيل الندب أو الوجوب إن امتنع الطفل عن الرضاع من غيرها أو لم يجد الوالد من يرضع لفقر أو لغيره، وهن بهذا الوصف أدعى للامتثال، يرضعن أولادهن عامين كاملين وذلك لمن أراد إتمام الرضاع للطفل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 ويجب على الوالد الذي ينسب إليه الابن وعنده غريزة حب الولد أن يرزقهن ويكسوهن أجرة لهن على الإرضاع. واستئجار الأم غير جائز ما دامت في النكاح أو العدة ويجوز عند الشافعى- رضى الله عنه- مطلقا، وتقدير الأجرة موكول لظروف كل من الوالد والمرضعة حسب اليسار والفقر. ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. ولا تضار الوالدة بسبب ولدها بأن تمنع من الرزق والكسوة أو يؤخذ منها ولدها قهرا، أو تكره على إرضاعه، ولا يضار والده بأن يطلب منه ما ليس في طاقته من رزق أو كسوة، أو تستغل الأم عاطفة الأبوة فتفرط في شأن الولد وغير ذلك من المعاكسات، والمراد: لا يحصل ضرر منها بسبب الولد. وعلى الوارث الذي يرث الأب مثل ذلك من النفقة والكسوة، وقيل: تؤخذ النفقة من مال الصبى فهو الوارث لأبيه، فإذا لم يكن له مال تؤخذ ممن يرث الطفل لو مات، وعلى كل فاللفظ يحتمل هذا. مدة الرضاع الكاملة حولان، فإذا أراد الوالد والمرضعة فطاما له دون الحولين برضاهما وتشاورهما في مصلحة الطفل فلا إثم عليهما في ذلك حيث اقتضت المصلحة العامة هذا. وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم من المراضع الأجنبيات بسبب حمل أو مرض أمّ أو عدم اتفاق فلا جناح عليكم ولا إثم، بشرط أن تسلم المرضعة أجرها بالمعروف، فإن ذلك أدعى للغاية والمحافظة على الولد، وهذا خطاب للأب والأم على سبيل التغليب للإشارة إلى أنه من الذوق والأدب أن تكون الأم مشتركة مع الأب ومستشارة في الاسترضاع لأنه ولدها، واتقوا الله في كل شيء خصوصا الأحكام المذكورة واعلموا أن الله بما تعملون خبير وبصير فمجازيكم على أعمالكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 عدة المتوفى عنها زوجها [سورة البقرة (2) : آية 234] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234) المفردات: يَذَرُونَ: يتركون. بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: انقضت عدتهن. المعنى: العدة في الشرع الشريف جعلت لبراءة الرحم، أو للحداد على الزوج ولذلك جعلت عدة المطلقة ثلاثة أقراء، أما المتوفى عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشرا ما لم تكن حاملا فعدتها بوضع الحمل ولو بعد الوفاة بيوم أو ساعة، والرأى عند الأحناف أن عدة الحامل أبعد الأجلين للحداد على الزوج، والشرع لم يندب الحداد على غير الزوج من أخ أو قريب أكثر من ثلاثة أيام. وفي الوفاة لا فرق بين الصغيرة والكبيرة والمدخول بها وغير المدخول بها لأن العدة للحداد وبراءة الرحم تبعا، فإذا انتهت العدة وانقضت أيامها فلا جناح عليكم أيها الأولياء والمشرفون على النساء فيما فعلن في أنفسهن من الزينة والخروج من البيت والتعرض لخطبة الرجال بالمعروف شرعا، أى: من غير مخالفة للشرع، والله بما تعلمون خبير وبصير. ويؤخذ من هذه الآية حيث نفى الحرج عن الأولياء والحكام فيما لو فعلت النساء شيئا بالمعروف الشرعي: أن الحكام والأولياء وكل من له شأن مؤاخذ ومعاقب على خروج النساء وتهتكها وفعلها على المعروف شرعا فإن ذلك مما يقوض الأمة ويفنى الجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 ألا ترى إلى قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ [الأحزاب 59] حيث أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بذلك ولم يأمر النساء، وهذا مما يؤيد أننا- نحن الرجال- مؤاخذون بعمل نسائنا. خطبة المتوفى زوجها وآدابها [سورة البقرة (2) : آية 235] وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235) المفردات: عَرَّضْتُمْ التعريض: أن تفهم المخاطب المقصود بلفظ لم يوضع له وهذا المقصود يحتمله الكلام على بعد بقرينة. خِطْبَةِ الخطبة: من الخطاب، أو الخطب: وهو الشأن العظيم، وهي طلب الرجل المرأة للزواج بالوسيلة المعروفة بين الناس. أَكْنَنْتُمْ الإكنان: الإضمار في النفس. سِرًّا: نكاحا. وَلا تَعْزِمُوا العزم: القصد الجازم، والنهى عن العزم نهى عن الفعل من باب أولى، والمراد: لا تقربوا عقد عقدة النكاح. المعنى: المرأة المطلقة طلاقا رجعيا لا يصح مطلقا التعريض لها بالخطبة لأنها في عصمة زوجها ما دامت في العدة، أما المرأة المتوفى عنها زوجها- ويقاس عليها المطلقة طلاقا بائنا- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 فقد أباح الشرع الشريف أن يعرّض الرجل لها بأمر الزواج تعريضا لا صراحة فيه، أو يضمر في نفسه أمر زواجه بها لأن هذا أمر طبيعي في النفس ولذلك قرنه الله بما يبين وجه الرخصة حيث قال: عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ في أنفسكم وضمائركم ويشق عليكم أن تتموا مثل هذا فاذكروهن، ولكن لا تواعدوهن النكاح صراحة، فهو مما يضر ولا يليق بكم أدبيّا وذوقيّا في حال من الأحوال إلا في حالة أن تقولوا قولا معروفا غير منكر شرعا، وهو ما يعهد مثله بين الناس المهذبين من القول العف والإشارة الخفية كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم مع أم سلمة بعد وفاة زوجها حيث ذكر لها منزلته عند الله. ولا تعزموا على عقدة النكاح حتى يبلغ المكتوب أجله، فقد كتب الله وفرض على المرأة العدة لزوجها أربعة أشهر وعشرا، واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم من السر وأخفى فاحذروه، واعلموا أن الله غفور رحيم لما فرط منكم من الذنب، حليم لا يعجل بالعقوبة. ما يؤخذ من الآية: (أ) لا يصح التصريح بالزواج للمعتدة. (ب) حرام العقد عليها قبل استيفاء العدة مراعاة لحقوق الزوجية ولطهارة الرحم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 المطلقة قبل الدخول وما يجب لها [سورة البقرة (2) : الآيات 236 الى 237] لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236) وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237) المفردات: الجناح: الإثم، والمراد: لا شيء عليكم. تَمَسُّوهُنَّ: تجامعوهن. تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أى: فرضا وهو المهر. الْمُوسِعِ: الغنى. الْمُقْتِرِ: الفقير. قَدَرُهُ: مقداره. سبب النزول: روى أنها نزلت في رجل من الأنصار تزوج امرأة ولم يسم لها صداقا ثم طلقها قبل أن يمسها، فنزلت هذه الآية، فقال له النبي: «أمتعها ولو بقلنسوتك» . المعنى: أيها الأزواج إن طلقتم النساء قبل الدخول بهن وقبل أن تحددوا لهن صداقا فلا شيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 عليكم من الصداق ومهر المثل، ولكن يجب عليكم المتعة: وهي عطاء يعطيه الزوج للمطلقة جبرا لخاطرها، أما مقدارها فيرجع إلى حالة الزوج من غنى وفقر، والمتعة عند بعض الفقهاء حق واجب للمرأة التي يجب لها شيء من الصداق، وتستحب لسائر المطلقات بالوجه الذي يحسن في الشرع والمروءة، وهذا الحق على الذين يحسنون المعاملة. وإذا طلقت المرأة قبل الدخول بها وقد سمى لها صداق فيجب لها نصفه تأخذه في كل حال إلا أن تعفو المطلقات أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الولي، وعفوكم أقرب للتقوى وقيل المراد: إلا أن يعفو الذي بيده عقدة النكاح وهو الزوج، والمراد بعفوه: أن يتنازل عن نصف الصداق الذي أعطاه للزوجة قبل الدخول بها عند العقد. ولا تنسوا الفضل بينكم بالإحسان والمعاملة الطيبة، وأن العفو خير لكم جميعا والله بما تعملون بصير فيجازى كلا على حسب نيته وعمله. المحافظة على الصلاة [سورة البقرة (2) : الآيات 238 الى 239] حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطى وَقُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239) المفردات: حافِظُوا: داوموا عليها بإتقان. الْوُسْطى: المتوسطة، أو الفضلى، والمراد بها: صلاة العصر على الأصح. قانِتِينَ: ذاكرين الله في القيام مداومين على الضراعة والخشوع. المعنى: الصلاة عماد الدين والركن العملي الأول الذي يكرر في اليوم خمس مرات لما لها من الأثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الفعال في تطهير النفس، وهي كالبئر يغتسل منه المصلى خمس مرات في اليوم والليلة فهل يبقى عليه من درن؟ ولهذا كله أمرنا بالمحافظة عليها، ووضعها بين الأحكام التي تتعلق بالبيوت والأسر إشارة إلى أنه يجب ألا تشغلنا البيوت وما فيها ولا أنفسنا عن الصلاة، وللإشارة إلى أن الصلاة والاتصال بالله مما يصفى الروح ويزيل كدرتها التي كثيرا ما تكون سببا في أزمات تقع في الأسرة وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ حافظوا على الصلاة مطلقا تحفظكم من كل هم وغم وتحفظكم من الفحشاء والمنكر خاصة الصلاة الوسطى وهي العصر لقوله صلّى الله عليه وسلّم يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى: صلاة العصر» . ووقت صلاة العصر كما يقولون وقت وسط بين وقتى الظهر والمغرب فهي متوسطة بهذا المعنى. وقوموا لله خاشعين ذاكرين لله دون سواه. وللإشارة إلى خطر الصلاة وأنه لا يصح لمسلم أن يتركها لعذر قيل ما معناه: لا عذر في ترك الصلاة حتى في حال الخوف على النفس أو المال أو العرض، بل صلوا على أى كيفية راكبين أو ماشين سائرين أو واقفين على أى وضع كان، فإذا زال الخوف فاذكروا الله في الصلاة كما علمكم ما لم تكونوا تعلمونه من فريضة وكيفية الصلاة في حال الأمن والخوف. حق المتوفى عنها زوجها [سورة البقرة (2) : الآيات 240 الى 242] وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 المعنى: والذين يشرفون منكم على الموت ويتركون أزواجا يجب عليهم أن يوصوا وصية لأزواجهم متاعا مستمرا إلى نهاية الحول، على معنى أنه يجب على الورثة من باب الأدب والذوق ألا يخرجوا المتوفى عنها زوجها قبل مضى السنة، وعلى ذلك فلها سنة ينفق عليها من مال زوجها المتوفى، فإن خرجت بعد مضى العدة من نفسها فلا جناح عليكم يا أيها الورثة فيما تفعله في نفسها من الخروج والزينة ما دام لا يتنافى مع الشرع، والله عزيز لا يغالب، حكيم في كل أمر. وللمطلقات مطلقا المتعة، وهي ما اتفق عليه الزوجان على حسب قدرتهما، فإن اختلفا قدرها القاضي، وهذا حكم يشمل المطلقات المدخول بهن وغير المدخول بهن. وإن اختلف من حيث الوجوب والندب وهذا حق على المتقين لله، مثل ذلك البيان السابق يبين الله لكم آياته المحكمة التي تدفعنا إلى الخير في الدنيا والآخرة لعلنا نتدبر ونتعقل. كيف تحيا الأمم [سورة البقرة (2) : الآيات 243 الى 245] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْصُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 المفردات: أَلَمْ تَرَ: استفهام تعجيب وتشويق إذ الاستفهام الحقيقي محال على الله. حَذَرَ الْمَوْتِ: خوفه. يُقْرِضُ اللَّهَ المراد: يتصدق لوجه الله. فَيُضاعِفَهُ لَهُ: يضيف له مثله ومثله. المعنى: ألم ينته علمك إلى الذين خرجوا من ديارهم وأوطانهم لما لحقهم العدو وحاربهم؟ خرجوا وهم كثرة تعد بالألوف حذر الموت وهوله، ما دفعهم إلى هذا إلا الجبن والخور وعدم الإيمان بالله ورسله، ولما خرجوا فارين قال لهم: موتوا، حيث مكن للعدو منهم فأذلهم، وما كان تمكين العدو فيهم إلا بسبب جبنهم، ولقد أذاقهم العدو العذاب وأحسوا بخطئهم الفاحش فكان هذا داعيا إلى تكتلهم وإقبالهم على قتال عدوهم متعاونين باذلين النفس والنفيس، فهم قد ماتوا زمنا ثم أحياهم الله، وهكذا سنة الله في الأمم ولن تجد لسنة الله تبديلا. إن الله لذو فضل على الناس بابتلائهم بالعدو والشدائد التي تصهرهم وتميز الطيب من الخبيث منهم فحقّا «الحوادث تخلق الرجال» والحوادث تخلق الأمم، ولكن أكثر الناس لا يشكرون الله على ذلك بل يعدون هذا نقمة عليهم. وتشير الآية الكريمة إلى أن موت الأمم غالبا له سببان: الجبن وضعف العزيمة. والثاني: البخل وعدم الإنفاق، ولذلك قرن الله- سبحانه وتعالى- الآية السابقة بقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً ولقد رغب الله في الإنفاق، إذ عبر بالقرض عن الإنفاق، من يقرض الله الذي له خزائن السموات والأرض والذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، يضاعف له في ثوابه أضعافا كثيرة لا يعلم عددها إلا الله ومن أصدق من الله حديثا. والله- سبحانه- يوسع في الرزق لمن يشاء مهما أنفق في سبيل الله، ويضيق في الرزق على من يشاء مهما أمسك عن الإنفاق فأمر المال والدنيا في يده وإليه المرجع والمآب، فاعملوا أيها المؤمنون فسيرى الله عملكم ورسوله وستردون إلى عالم الغيب والشهادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 قصة طالوت وجالوت [سورة البقرة (2) : الآيات 246 الى 252] أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَقالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَآلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَلَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَجُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 المفردات: أَلَمْ تَرَ: تركيب فيه استفهام ونفى، وترجمته: يجب أن ينتهى علمك إلى الملأ. الْمَلَإِ: اسم للجماعة من الناس، كالقوم والرهط، سموا بذلك لأنهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 يملؤون العيون رهبة إذا اجتمعوا. اصْطَفاهُ: اختاره. بَسْطَةً: سعة. التَّابُوتُ: الصندوق المحفوظ فيه التوراة، ويروى أنه مصنوع من خشب مموه بالذهب . سَكِينَةٌ: فيه شيء تسكن به قلوبكم وتطمئن له. بَقِيَّةٌ الظاهر أنها قطع الألواح وعصا موسى وعمامة هارون. فَلَمَّا فَصَلَ أى: انفصل بهم عن البلد. مُبْتَلِيكُمْ: ممتحنكم. يَطْعَمْهُ: يذقه. المعنى: ألم ينته علمك إلى القوم من بنى إسرائيل؟ وقد وجدوا بعد موسى- عليه السلام- حين قالوا لنبيهم، ولم يسمه القرآن، وقيل: إنه (صمويل) حين قالوا له: اختر لنا قائدا يقود زمامنا، ولا شك أن طرد العدو من البلاد قتال في سبيل الله. ولكن نبيهم قد عرفهم معرفة المجرب الحكيم، فقال لهم: يا قوم أتوقع منكم عملا يخالف أقوالكم، والزمان كفيل بتصديق نظريتى أو تكذيبها، قالوا ردا عليه: وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله؟ أى شيء دهانا واستقر عندنا حتى لا نقاتل في سبيل الله؟ وهذا هو مقتضى القتال حاصل فقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا ومنعنا من أبنائنا. فلما فرض عليهم القتال كما طلبوا لم تكن الحوادث قد عركتهم ولم تكن نفوسهم طاهرة صادقة، ولم تكن أرواحهم قد ملئت بالنور والإيمان كما فهم فيهم نبيهم، ولذا تولوا وأعرضوا إلا قليلا منهم، وانتحلوا المعاذير وعللوا أنفسهم بالتعاليل. وهكذا الأمم الميتة، والله عليم بالظالمين لأنفسهم بتركهم الجهاد في سبيل الله دفاعا عن وطنهم وردّا لحقهم المغصوب. وهذا تفصيل لما وقع بين النبي- عليه السلام- وبين قومه حين طلبوا منه ملكا عليهم. وقال لهم نبيهم: إن الله قد اختار لكم طالوت ملكا وقائدا فانظر إلى الأمم الضعيفة التي لم تشب بعد عن طوق الصبيان في التفكير فهي تشغل نفسها بالعرض عن الجوهر والشكل عن الموضوع أين هذا من الصحابة الأجلاء- رضى الله عنهم أجمعين- وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 أمر عليهم أسامة بن زيد وهو شاب حدث، وفي الجيش أبو بكر وعمر وعلى وغيرهم!! ألا حيّا الله البطولة والرجولة!! وها نحن الآن نشغل أنفسنا برئيس الوزراء شغلا أكثر من شغلنا بأنفسنا ولا علينا بعد هذا شيء أقام الغاصب في بلادنا قرنا أم قرنين!! بماذا رد هؤلاء القوم على نبيهم؟ قالوا متعجبين لقصور عقولهم: كيف يكون ملكا علينا؟ ونحن أحق بالملك والرياسة منه إذ فينا الملك قديما، وطالوت فقير ليس غنيّا. كأنهم فهموا أن الملك حق يورث وأن الغنى شرط أساسى فيه، فقال لهم نبيهم: إن الله قد اختاره واصطفاه وما عليكم إلا الامتثال فالله لا يختار إلا ما فيه الخير لكم وقد زاده الله بسطة في العلم حتى يكون واسع الإدراك نافذ البصيرة، وبسطة في الجسم حتى يقوى على القيادة وأعمال الحرب وحتى يكون مهابا يملأ العين والنظر، والله- سبحانه- يؤتى ملكه من يشاء فلا اعتراض عليه وهو أعلم بخلقه من يستحق ومن لا يستحق. لم يقتنع القوم بما ساق لهم نبيهم من الحكمة في اختيار طالوت ملكا عليهم وظلوا معاندين، فأوحى الله إليه أن يسوق دليلا ماديا على صحة ملكه وقيادته، وآية ملكه أن يأتيكم التابوت- وقد كان له شأن في بنى إسرائيل عظيم ولما فرطوا أخذ منهم زمنا ثم جعل لهم نبيهم عودته في بيت طالوت دليلا من الله على صحة الملك- وفيه سر تسكن إليه نفوسكم وتطمئن إليه ضمائركم، خاصة عند ما تحملونه في القتال وفيه بقية مما ترك موسى وهارون، وسيأتى محمولا من الملائكة تشريفا وتكريما له، أفلا يدل كل هذا على أن الله اختار طالوت قائدا لكم ولكنهم اليهود قديما وحديثا هكذا يفعلون!! إن في ذلك القصص لعبرة وعظة وأى عبرة وعظة؟!! وفيه آية لكم أيها المخاطبون في عصر النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث يقص عليكم هذا القصص وهو نبي عربي أمى لم يقرأ ولم يكتب فمن أين له هذا؟! وإذا علمت ما تقدم فلما انفصل طالوت بالجنود أراد أن يختبرهم بشيء ليعلم صدق نيتهم في القتال وهكذا القائد الحكيم إذ ظن في جنده ظنّا فاختبرهم ليقف على حالهم. فقال لهم: إن الله مختبركم- وهو الأعلم بكم- بنهر يعترضنا في الطريق، فمن شرب منه فليس من أتباعى وأشياعى، ومن لم يتذوقه فإنه من حزبى وأنصارى إلا من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 اغترف غرفة بيده، فكانت نتيجة الاختبار أن شربوا منه جميعا إلا قليلا منهم (إن الكرام قليل) . وهكذا من يحكم عقله في هواه ويؤمن بالله، فئة قليلة العدد كثيرة الإيمان والخطر، فأنت ترى أن مراتب الناس ثلاثة: منهم من شرب وعب بفمه، ومنهم من لم يتذوقه أصلا، ومنهم من اغترف بيده غرفة. فلما جاوز النهر هو والذين معه من المؤمنين الصادقين (أما غيرهم فقد استهواهم الماء العذب فأخذوا يشربون ويطربون ثم لحقوا بهم آخر الأمر) . قال بعض الجيش ممن شرب لما رأى جند الأعداء وكثرة عددهم وتفوقهم: لا قدرة لنا اليوم ولا طاقة بمحاربة الأعداء ومناضلتهم فضلا عن التغلب عليهم، وقال المؤمنون الذين يظنون أنهم ملاقو الله فمجازيهم على أعمالهم الذين ينتظرون إحدى الحسنيين: إما شهادة في سبيل الله، وإما نصر على الكافرين، فإن عاشوا عاشوا آمنين وإن ماتوا ماتوا شهداء مكرمين. قالوا: لا تغرنكم أيها القوم كثرتهم، فكثيرا ما غلبت فئة قليلة العدد فئة كثيرة العدد غلبت بقوة إيمانها وإرادة ربها، وإذنه والله مع الصابرين بالتأكيد والمعونة وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ، إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا. ولما ظهر طالوت ومن معه من المؤمنين لجالوت وجنوده وشاهدوا أمامهم من العدد والعدد وحانت ساعة الالتجاء إلى الله حقيقة حيث تتلاشى قوة البشر قالوا: ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين. وهنا تجلت عظمة الله وقدرته بأجلى مظهر حتى يعتبر الناس ويتعظوا. هزمت الفئة القليلة الفئة الكثيرة بإذن الله وإرادته وقتل داود (وكان فتى في الجيش قويّا جلدا) جالوت، وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء من العلوم إنه على كل شيء قدير. والحرب سنّة طبيعية في الخلق من يوم أن اقتتل ابني آدم وهي على ما فيها من ضرر وخطر لا تخلو من نفع وخير إذ لولا أن الله يدفع الناس بعضهم ببعض، ويسلط جماعة على جماعة لفسدت الأرض وعمت الفوضى، وانتشر الظلم وهدّمت أماكن العبادة التي يذكر فيها اسم الله، ولكن الله ذو فضل على الناس جميعا حيث يسلط على الظالم من يبيده ويهلكه، فإذا نبت ظالم آخر أرسل له من يفتك به، وهكذا ينصر الله رسله بالغيب. تلك آيات الله نتلوها عليك يا محمد دالة على صدقك وأنك رسول الله وخاتم الأنبياء والمرسلين، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 درجات الأنبياء وطبيعة الناس في اتباعهم [سورة البقرة (2) : آية 253] تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253) المفردات: الْبَيِّناتِ: الآيات الواضحات الدالات على رسالته. وَأَيَّدْناهُ: قويناه. بِرُوحِ الْقُدُسِ: هو جبريل- عليه السلام- وقيل: المراد روحه، على معنى: وأيدناه بالروح المقدسة، أى: الطاهرة. ضرب الله الأمثال وقص بعض القصص وختم ذلك بقوله- تعالى-: تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ. ثم استأنف كلاما جديدا يظهر به فضل النبي صلّى الله عليه وسلّم على الأنبياء مع تسليته ببيان طبائع الناس في اتباع الأنبياء قديما وحديثا. المعنى: أشار القرآن الكريم إلى من تقدم الكلام عليهم من الرسل الكرام بإشارة البعيد لعلو مكانتهم وسمو درجتهم، وقد فضل بعضهم على بعض بتخصيصه بمفخرة ليست لغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 منهم من شرفه بالكلام مشافهة كموسى- عليه السلام-: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً [سورة النساء آية 164] . وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [سورة الأعراف آية 143] . ورفع بعض الأنبياء على من عداه درجات في الفضل والشرف- الله أعلم بها- وآتى الله عيسى ابن مريم الآيات الواضحات: كتكليمه في المهد وإحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، وأيده بروح القدس جبريل مع روحه الطاهرة ونفسه الصافية. وإنما خص عيسى- عليه السلام- بهذه الأوصاف لاختلاف اليهود والنصارى فيه، فاليهود حطت من شأنه واتهمته واتهمت أمه، والنصارى رفعته إلى درجة الألوهية، فقيل ردا عليهم ولبيان أنهم فرّطوا وأفرطوا: عيسى ابن مريم مرّ بأدوار الطفولة والحمل وغيره يأكل ويشرب، أفيليق أن يكون إلها؟، ولكنه مؤيد من عند الله بالآيات الواضحات وروح القدس ولذا تكلّم في المهد إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا [سورة المائدة آية 110] فهو نبىّ مرسل كريم على الله فلا يليق بكم أيها اليهود أن تنالوا منه وتحطوا من شأنه. أما من رفعه إلى درجات الفضل فالظاهر أنه محمد صلّى الله عليه وسلّم لعموم رسالته وأنه أرسل رحمة للعالمين وخاتم الأنبياء والمرسلين وأن معجزته القرآن، ولقوله صلّى الله عليه وسلّم «بعثت إلى الأحمر والأسود، وجعلت لي الأرض مسجدا، وتربتها طهورا، ونصرت بالرعب من مسيرة شهر، وأحلت لي الغنائم، وأعطيت الشفاعة» . والذي يؤيد هذا أن القرآن خاطب أمم الأنبياء ولم يكن هناك إلا أمة اليهود والنصارى والمسلمين فهذا موسى نبي اليهود، وهذا عيسى، وبقي الفرد العلم الذي لا يحتاج إلى ما يعيّنه والذي رفعه الله درجات ودرجات ولا حرج على فضل الله. ولو شاء الله عدم قتال الذين جاءوا من بعد الرسل من بعد ما جاءتهم البينات والمعجزات ما اقتتلوا، ولكن لم يشأ عدم اقتتالهم لأنه خلق الإنسان وكرّمه بالعقل والإدراك، وكل إنسان يختلف عن الآخر، ولم يجعل قبول الدين ومبادئه بالطبيعة والفطرة من غير تفكير ونظر، وإلا لكان الناس أمة واحدة كلهم مؤمنون أو كلهم كافرون، ولهذا اختلفوا اختلافا بينا في قبول الدين، فمنهم من آمن ومنهم من كفر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 فاقتضت الحكمة الإلهية مشيئة اقتتالهم فاقتتلوا بما ركب فيهم من دواعي الاختلاف والشقاق. ولو شاء عدم قتالهم بعد اختلاف ميولهم ونزعاتهم ما اقتتلوا، ولكن الله يفعل ما يريد ويحكم بما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، وهو على كل شيء قدير وهو العزيز الحكيم. وقد اختلف اليهود واقتتلوا، وكذلك النصارى، وها هم المسلمون بعد أن كانوا يدا واحدة أصبحوا فرقا متنازعين متقاتلين يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا [سورة النساء آية 59] . في الحث على الإنفاق [سورة البقرة (2) : آية 254] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254) المفردات: (بيع) البيع المراد به: الكسب بأى نوع من أنواع المبادلة والمعاوضة. خُلَّةٌ الخلة: الصداقة والمحبة، والمراد لازمها من الكسب كالصلة والهدية والوصية. شَفاعَةٌ الشفاعة: المراد لازمها من الكسب. المعنى: سبق أن تعرض القرآن الكريم للإنفاق بأسلوب فيه لطف كثير وبلاغة لقوم يؤثر فيهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 أمثال هذا الكلام مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «1» وهناك من يفعل الخير خوفا من عقابه وطلبا لثوابه، فهؤلاء خوطبوا بتلك الآية وأمثالها. يا أيها الذين آمنوا واتصفوا بهذا الوصف العالي وهو الإيمان: بادروا إلى الإنفاق في سبيل الله مما تناله أيديكم ابتغاء مرضاة الله وطلبا لرضوانه، وأنتم الآن في فسحة من العمل وغدا سيأتى يوم لا تتمكنون فيه من الإنفاق أصلا مع أنه مطلوب إذ لا بيع في ذلك اليوم ولا شراء ولا كسب بأى نوع من أنواع المبادلة، ولا يوجد ما يناله الإنسان من الصداقة والخلة والشفاعة، فهذا هو يوم الجزاء والثواب والعقاب يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، يوم يظهر فيه فقر العباد إلى الواحد القهار والكافرون نعمة الله الجاحدون حقوق المال المشروعة هم الظالمون لأنفسهم فقط، هم الذين يمهدون للأفكار السامّة والمذاهب الهدامة حتى تغزو الشرق المسلم، ألم يقل الرسول صلّى الله عليه وسلّم «حصنوا أموالكم بالزكاة» «2» ولا حصن لها أقوى من أن يعرف الفقير أن له حقّا معلوما في مال الغنى. والمراد الإنفاق الواجب بدليل الوعيد الشديد، والدين يطالب بإنفاق القليل مما جعلكم مستخلفين فيه، فإنه ما آل إليكم إلا بعد أن خرج من يد غيركم أساءوا التصرف فيه ولم يحصنوه، فكانوا كافرين بنعمة الله ظالمين لأنفسهم. أمن الحكمة أن يرى الأغنياء الأمة وقد تكاتفت عليها الأعداء الثلاثة من فقر وجهل ومرض، ثم هم يبذّرون المال ذات اليمين وذات اليسار في الخارج وعلى موائد القمار وفي الليالى الحمراء ويعرف الجميع هذا؟ ثم يقول الناس: إنهم يحاربون الأفكار الهدامة كالشيوعية وغيرها. لا يا قوم إن أسلحة الحرب لهؤلاء الأعداء هي القوانين الإسلامية والحدود الشرعية، والإنفاق في سبيل الله أمضى سلاحا وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ «3» .   (1) سورة البقرة آية 245. (2) رواه البيهقي في السنن الكبرى 3/ 382. (3) سورة البقرة آية 272. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 آية الكرسي [سورة البقرة (2) : آية 255] اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) المفردات: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ: لا معبود بحق في الوجود إلا هو. الْحَيُّ: ذو الحياة وهي مبدأ الشعور والإدراك والنمو والحركة، والمراد هنا بالحياة مبدأ العلم والإرادة والقدرة. الْقَيُّومُ: دائم القيام بتدبير خلقه وحفظهم ورعايتهم. سِنَةٌ السنة: ما يتقدم النوم من الفتور. نَوْمٌ النوم: حالة تعرض للحيوان تمنع من الحس والشعور. كُرْسِيُّهُ الكرسي: ما يجلس عليه ولا يفضل عن مقعد القاعد. يَؤُدُهُ: يثقله ويشق عليه. المعنى: الله لا إله يعبد بحق في الوجود إلا هو، إذ الإله الحق هو الذي يعبد بحق وهو واحد، والآلهة التي تعبد بغير حق كثيرة جدّا، فالله منفرد بالألوهية موصوف بالحياة الأبدية، واجب الوجود، الحىّ الذي لا يموت، القائم بذاته على تدبير خلقه، المخالف لهم في كل صفاتهم مما يعترى الحوادث، لا تغلبه ولا تستولى عليه سنة ولا نوم، مالك الملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 والملكوت ذو العرش والجبروت، له ما في السموات والأرض، ذو البطش الشديد، فعال لما يريد، يوم يأتى لا تكلم نفس إلا بإذنه، من ذا الذي يشفع عنده إلا بأمره، فعال لما يريد، يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذنه، من ذا الذي يشفع عنده إلا بأمره، والمناعة؟ العالم وحده بالخفيات يعلم الكليات والجزئيات، ولا يطلع على علمه أحدا إلا من شاء، ولا يحيط بعلمه أحد إلا بما شاء، ولقد صدق الخضر- عليه السلام- فيما روى عنه إذ قال لموسى- عليه السلام- حيث نقر العصفور في البحر: «ما نقص علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر» . واسع الملك والقدرة، والأرض جميعا في قبضته والسموات مطويات بيمينه، فلا الكرسي ولا القبضة ولا اليمين وإنما هو تصوير وتمثيل لعظمته، وقدرته، وتمام ملكه وسعة علمه، سبحانه وتعالى!! لا يشغله شأن عن شأن ولا يشق عليه أمر دون أمر، متعال عن الأوهام والظنون القاهر لا يغلب، العظيم لا تحيط به الأفهام والعقول، جل شأنه لا يعرف كنهه إلا هو- سبحانه وتعالى- وهذه آية الكرسي وقد ورد في فضلها أحاديث كثيرة، روى عن على بن أبى طالب: سمعت نبيكم صلّى الله عليه وسلّم على أعواد المنبر وهو يقول: من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت، ولا يواظب عليها إلا صدّيق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله. الدخول في الدين والولاية على الناس [سورة البقرة (2) : الآيات 256 الى 257] لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 المفردات: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ: لا جبر ولا إلجاء على الدخول في الدين. الرُّشْدُ: رشد يرشد رشدا إذا بلغ ما يجب، والرّشد: الهدى، ومثله الرشاد مستعمل في الخير، وضده الغىّ، يقال: غوى يغوى: إذا ضل في معتقد أو رأى. بِالطَّاغُوتِ من الطغيان: مجاوزة الحد في الشيء، ويطلق على الشيطان، وعلى كل ما يعبد من دون الله لأنه أساس الطغيان ومجاوزة الحد. بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى العروة من الدلو والكوز: المقبض، ومن الشجر: الملتف، والوثقى: مؤنث الأوثق، وهو ما يعول الناس عليه عند المحل والأقرب أن يراد بالعروة الوثقى الشجر الملتف فهي التي لا ينقطع مددها عند القحط والجدب. لَا انْفِصامَ لَها: لا انقطاع لها. وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا: يتولى أمورهم بالرعاية والعناية. سبب النزول: روى أن أبا الحصين من بنى سالم بن عوف كان له ابنان فتنصرا قبل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم قدما إلى المدينة فلزمهما أبوهما وقال: لا أدعكما حتى تسلما، فاختصما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال أبوهما: أيدخل بعضى النار وأنا أنظر؟ فنزلت الآية، فخلّى سبيلهما. المعنى: بعد ذكر هذه الصفات الجليلة التي لا تكون إلا لله الواحد الأحد والنعوت الموجبة للإيمان به وحده، لا يصح أن يكون هناك إلجاء وقسر على الدخول في الدين أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99 من سورة يونس) ، الآن حصحص الحق وظهر، وتبين الرشد من الغي ووضح، فلا إكراه ولا إلجاء لأن الإيمان اعتقاد قلبي ولا سبيل لأحد على قلوب الناس وقد وضحت الآيات الدالات على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما يدعيه عن ربه، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فقولهم: إن الإسلام قام بالسيف دعوى باطلة إذ المسلمون قبل الهجرة كانوا يخفون صلاتهم ولا يقدرون على مجاهرة الكفار، وقد نزلت هذه الآية بعد الهجرة بثلاث سنين تقريبا وهي تثبت أنه لا إكراه في الدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 وما حصل من الحرب فهو من النوع الدفاعى حتى يكف المشركون عن فتنة المسلمين ويتركوا الناس أحرارا، ولذلك رضى المسلمون بإظهار الإسلام أو دفع الجزية وفتح مصر وبعض البلاد بالسيف كان لإيصال حجة الإسلام إلى الشعب بدون إكراه بدليل قبول الجزية أو الدخول في الإسلام فمن يكفر بالأصنام وكل ما يعبد من دون الله ويؤمن بالله الواجب الوجود فقد بالغ في التمسك بالعروة الوثقى المأمون انقطاعها، فكأنه يقول: إن المبالغ في التمسك بهذا الحق والرشد كمن يأوى بإبله إلى ذلك الشجر الملتف الكثير الذي لا ينقطع مدده ولا يفنى غذاؤه والإيمان بالله مما ينطق به اللسان ويعتقده القلب، ولذا كان تذييل الآية: سميع بالأقوال، عليم بالمعتقدات والأفعال. الله ولى الذين آمنوا يتولى أمورهم ويهديهم طريقهم، ولا ولى لهم ولا سلطان لأحد على اعتقادهم إلا المولى- جل شأنه- فهو يرشدهم إلى الصراط المستقيم ويخرجهم من ظلمات الشك والشبهة إلى نور العلم والمعرفة واليقين والذين كفروا بالله ورسوله أولياؤهم الطاغوت، فإن مس قلوبهم شيء من نور اليقين والتوفيق أسرع الشيطان وما يعبدونه- إن كان حيا أو سدنته وخدمه إن كان صنما- أسرعوا جميعا إلى إزالة النور والحق وإخراج الكفار من النور إلى ظلمات الكفر والنفاق والشك والضلال، أولئك الذين بعدوا جدا في الضلال وأولئك أصحاب النار الملازمون لها هم فيها خالدون. من غرور الكافرين بالله أو قصة نمرود [سورة البقرة (2) : آية 258] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 المفردات: أَلَمْ تَرَ: تركيب فيه استفهام ونفى، و المعنى: يجب أن ينتهى علمك إلى الذي حاج فإن أمره من الظهور بحيث لا يخفى على أحد من المخاطبين. فَبُهِتَ: تحير ودهش. المعنى: الله ولى الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات، وهاك بعض القصص التي تثبت ذلك بوضوح. ألم ينته علمك أيها المخاطب إلى الذي أعطاه الله الملك فلم يحسن الشكر بل أبطرته النعمة وجعلته يطغى وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «1» فما كان سببا في الطاعة جعل سببا في المعصية، هذا نمرود اتخذ الطاغوت وليّا وحاج إبراهيم- عليه السلام- في ربه حيث قال له: من ربك الذي تدعو إليه؟ قال إبراهيم: ربي الذي يفيض على الخلق نعمة الحياة والموت فهو الذي يحيى ويميت، أى: ينشئ الحياة والموت، فما كان منه إلا أن قال: أنا أحيى بعض الخلق بالعفو عنهم وأميت البعض الآخر بالقتل وأحضر رجلين عفا عن أحدهما وقتل الآخر، وهذا كلام لا يعبأ به ولا يلتفت إليه، إذ المراد إنشاء الحياة وتكوينها لا التسبب فيها، لذا مثل له بمثال أوضح وأظهر فقال: ربي أبدع الكون ونظمه وجعل الشمس تشرق من المشرق وتغرب من المغرب فأت بها أنت أيها المغرور المدعى من المغرب إن كنت قادرا على ذلك؟ فغلبه إبراهيم وأسكته حتى بهت والله لا يهدى الظالمين لأنفسهم إلى طريق الخير أبدا لأنهم لم يتخذوا الله وليّا، وهذه من الآيات على وجود الله.   (1) سورة الواقعة آية 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 قصة العزير وحماره [سورة البقرة (2) : آية 259] أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَشَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259) المفردات: قَرْيَةٍ القرية: الضيعة، وفيها معنى الاجتماع. خاوِيَةٌ: خالية، أو ساقطة. والعروش: السقوف. أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها: استبعاد منه للإحياء بعد الموت، والمراد بالإحياء: عمارتها بالبناء والسكان، وبموتها خرابها. لَمْ يَتَسَنَّهْ: لم يتغير. نُنْشِزُها: نرفع بعضها إلى بعض ونردها إلى أماكنها من الجسد. المعنى: قصة أخرى تثبت كيف يتولى الله بعض الخلق فيهديه إلى الطريق المستقيم. أو رأيت إلى الذي مر على قرية وهي خالية من السكان قد سقطت حيطانها على عروشها ولم يبق بها أثر لحياة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 قال: مستبعدا عمارتها بعد خرابها مستعظما قدرة الله متشوقا لعمارتها: أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها ولما دخل القرية وهي خالية من سكانها وقال ما قال وكانت أشجارها قد أثمرت تينا وعنبا ربط حماره وأكل من ثمرها ونام. لما حصل منه هذا أماته الله مائة عام ثم رد له الحياة وبعثه على سبيل السرعة والسهولة حتى كأنه كان نائما ثم استيقظ، قيل له: كم وقتا لبثته؟ وإنما سئل هذا السؤال ليظهر عجزه عن إحاطته بشئونه تعالى. قال: لبثت يوما أو بعض يوم بناء على التقريب وتقليل المدة، فقيل له: ما لبثت هذا القدر بل لبثت مائة عام، فانظر لترى دلائل قدرتنا: انظر إلى طعامك وشرابك الذي بقي مائة عام لم يتغير ولم يفسد مع سرعة فساد أمثاله، وانظر إلى حمارك كيف نخرت عظامه وتقطعت أوصاله لترى كيف تطاول الزمن عليك وعليه وأنت نائم، فعلنا ما فعلناه لتعاين ما استبعدته من الإحياء، ولنجعلك آية دالة على تمام قدرتنا على البعث يوم القيامة: ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ. «1» وانظر إلى عظام الحمار لتشاهد كيفية الإحياء في غيرك، فها هي العظام نرفع بعضها إلى بعض ونردها إلى أماكنها من الجسد فنركبها تركيبا وثيقا محكما، ثم نكسوها لحما طريا يسترها كما يستر الثوب الجسد، فلما تبين له أن الله على كل شيء قدير قال: أعلم أن الله على كل شيء قدير. وهذا المثال من آيات الله الدالة على البعث [سورة البقرة (2) : آية 260] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)   (1) سورة الروم آية رقم 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 المفردات: بَلى: حرف يجاب به فَصُرْهُنَّ: أملهنّ إليك واضممهن. المعنى: مثال ثان لولاية الله للمؤمنين ولهدايتهم إلى الطريق المستقيم، وهو من الآيات الدالات على البعث، وإنما ذكر في القرآن مثالان للبعث ومثال لوجود الله لأن منكري البعث أكثر من منكري وجود الله. واذكر وقت قول إبراهيم: رب أرنى كيف تحيى الموتى وقد تأدب مع مولاه أدبا يليق به حيث بدأ سؤاله برب الذي يشعر بالعناية والتربية لخلقه، قال- تعالى- له وهو أعلم به: ألم يوح إليك ولم تؤمن بذلك؟ قال إبراهيم مجيبا: يا ربي قد أوحيت إلىّ وآمنت بذلك ولكن تاقت نفسي وتطلعت لأن تقف على كيفية الإحياء للموتى ليطمئن قلبي بمشاهدة العيان مع الوثوق والإيمان، ولا غرابة في ذلك فكلنا يؤمن بالأثير وعمله في نقل الأخبار والصور، وكثير منا لا يعرف كيفية ذلك وتتوق نفسه للمعرفة. وفي رد الله عليه بقوله: أو لم تؤمن؟ إشارة إلى أن الإنسان لا يكلف بأكثر من الإيمان بأخبار الغيب الصادرة عن المولى- جل شأنه- في ذاته وصفاته ويوم القيامة وغيره. قال تعالى: فخذ يا إبراهيم أربعة من الطير فأملهن إليك وضمهن وقطعهن قطعا ثم اجعل عل كل جبل منهن جزءا ثم ادعهن يأتينك ساعيات كما كانت، وهكذا يحيى الله الموتى، واعلم أن الله عزيز حكيم. هذا رأى الجمهور في الآية، وقد رأى بعضهم رأيا رجحه تفسير المنار، والظاهر- والله أعلم- أنه المناسب بطلب إبراهيم، وها هو الرأى: خذ أربعة من الطير فأملهن إليك (والطير شديد النفور من الإنسان) حتى يأنسن بك ويمتثلن أمرك، ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا، أى: واحدا من الطير ثم ادعهن يأتينك ساعيات ممتثلات بمجرد الدعوة، وهكذا يحيى الله الموتى فيقول: كونوا أحياء فيكونوا. فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [فصلت 11] إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة يس آية 82] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 الإنفاق في سبيل الله وآدابه وشروطه [سورة البقرة (2) : الآيات 261 الى 264] مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) المفردات: بِالْمَنِّ: هو أن يعتدى على من أحسن إليه ويريه أنه أوجب بإحسانه حقّا عليه. الْأَذى: أن يتطاول عليه بسبب إنعامه. قَوْلٌ مَعْرُوفٌ: رد جميل تقبله القلوب ولا تنكره. رِئاءَ النَّاسِ: رياء لهم، يفعل الفعل لأجل أن يروه فيحمدوه. صَفْوانٍ: حجر أملس. وابِلٌ: مطر شديد. صَلْداً: أملس ليس عليه تراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 الإنفاق في سبيل الله ركن أساسى من أسس الدين ودعامة من دعائم الدولة، فما بخلت أمة بمالها إلا حاق بها الذل والاستعباد، وسلط الله عليها الأعداء من كل جانب يتكاثرون عليها كما تتكاثر الأكلة الجياع على المائدة. والإنفاق في سبيل الله واجبا كان أو مندوبا. ما دام في وجوه الخير ومحاربة الجهل والفقر والمرض ونشر الدين وخدمة العلم، فهو مما يطلبه الدين ويحث عليه الشرع، ولذا ترى القرآن الكريم قد تكلم عنه في عدة مواضع وحث عليه بأساليب شتى وضرب الأمثال ورغّب ورهّب وبيّن ووضّح. المعنى: مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله ولإعلاء كلمته وإسعاد الوطن وأهله كمثل حبة أنبتت سبع سيقان في كل ساق سنبلة في كل سنبلة مائة حبة، وذلك يكون في أخصب أرض وأجود تربة وأحسن بذر، ولا غرابة في ذلك، فهذا القمح والأرز تنبت الحبة فيه هذا القدر. وهذا تصوير وتمثيل للأضعاف والإضافة في الزيادة والأجر يضاعف هذه المضاعفة أو أكثر منها لمن يشاء إذ هو الواسع الفضل الغنى الكريم العليم بكل شيء. الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله وهذا جزاؤهم في الدنيا والآخرة إنما يستحقون ذلك بشرط ألا يتبعوا ما أنفقوا منّا على الفقير بأن يعتدّ عليه بما فعل به وألا يتبعوا ما أنفقوا بالأذى والضرر فلا يتطاول عليه المنفق ويطلب جزاء عمله. وعدم المن والأذى مطلوب منك أيها المنفق وقت الصدقة وبعدها وإذا حرم عليك بعد الصدقة فوقتها من باب أولى، وهذا هو السر في التعبير بثم. هؤلاء المنفقون في سبيل الله الذين لم يمتنّوا ولم يؤذوا أحدا لهم أجرهم الكامل عند ربهم ولا هم يحزنون وقت أن يحزن البخيل ويندم على إمساكه رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ [سورة المنافقون آية 10] . كلام جميل تهدأ به نفس السائل وتردّ به، ومغفرة لإساءته في الإلحاف، خير للسائل والمسئول من صدقة يتبعها أذى وضرر إذ الصدقة شرعت لتقريب الناس بعضهم من بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وتخفيف حدة الحسد والحقد بين الطبقات، والمن والأذى يخرجها عن وضعها الصحيح، والله واسع الفضل غنى لا يحتاج إلى عطاء الغنى، بل أوجبها تأكيدا للصلة وجلبا للمحبة والتعاطف، حليم لا يعاجل بالعقوبة لمن يستحقها. والمن والأذى طبيعة في النفوس وغريزة في بنى الإنسان ولذا حرمهما الله بأن شرط في النفقة الشرعية خلوّها من المن والأذى وبيّن أن العدول عن الصدقة التي يتبعها أذى إلى قول معروف خير من تلك الصدقة. ثم بعد هذا كله خاطب المؤمنين بوصف الإيمان ليكون ذلك أدعى للقبول والامتثال، وحرم عليهم المن والرياء صراحة فقال: يا أيها الذين آمنوا لا تحبطوا ثواب صدقاتكم بالمن والأذى. أفسدت بالمن ما أسديت من حسن ... ليس الكريم إذا أسدى بمنّان فإنكم إن فعلتم ذلك كنتم كمن ينفق ماله للرياء والسمعة، والمرائى يظهر للناس أنه يريد وجه الله، وفي الواقع هو يريد وجه الناس ليقال عنه: إنه كريم وجواد وغير ذلك من أغراض الدنيا، ولذا وصفه الله بقوله: لا يؤمن بالله واليوم الآخر. فمثل الذي يمن ويؤذى والذي يرائى كمثل حجر أصم عليه تراب وقد نزل عليه مطر شديد فذهب التراب وبقي الحجر أملس، وهكذا الذي يمن أو يرائى يلبس ثوبا غير ثوبه ثم لا يلبث أن ينكشف أمره ويتهتك ستره فيكون ما تلبس به كالتراب على الصفوان يذهب به الوابل فلا يبقى من أثره شيء. ثوب الرياء يشف عما تحته ... فإذا اكتسيت به فإنك عار فالذي يمن أو يرائى مذموم في الدنيا من الناس أجمعين. وأما في الآخرة فلا ثواب إلا للمخلصين الذين ينفقون ابتغاء مرضاة الله ثم لا يتبعون ما أنفقوا منّا ولا رياء، والله لا يهدى القوم الكافرين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 مثل من ينفق للرحمن والذي ينفق للشيطان [سورة البقرة (2) : الآيات 265 الى 266] وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265) أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَأَصابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266) المفردات: وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ أى: تثبيت أنفسهم وتمكينهم، وقيل: تصديقا مبتدأ من عند أنفسهم. جَنَّةٍ الجنة: البستان، وهي قطعة أرض تنبت فيها الأشجار حتى تغطيها ففيها معنى الاستتار. وابِلٌ: مطر كثير غزير. ضِعْفَيْنِ الضعف: المثل. فَطَلٌّ الطل: المطر الخفيف. أَيَوَدُّ الهمزة فيه للإنكار، ويود بمعنى يحب ويتمنى. وَأَعْنابٍ الأعناب: ثمر شجر الكرم. إِعْصارٌ: ريح عاصفة تستدير في الأرض بشدة ثم ترتفع إلى السماء حاملة الغبار. نارٌ المراد: ريح فيها برد شديد وسموم يحرق الشجر. المعنى: ما تقدم في الذي ينفق مع المن والإيذاء أو السمعة والرياء، وما هنا أمثلة للذي ينفق في سبيل الله أو سبيل الشيطان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء رضا الله وطلبا لمغفرته وتثبيتا لأنفسهم وتمكينا لها على فعل الخير، فإن المال شقيق الروح، وإنفاقه شاق وعسير على النفس، فإذا أنفقت بعض المال لله عودت نفسك على فعل الخير وثبّتّ بعضها، أما البعض الآخر فيثبت بالجهاد بالنفس في سبيل الله كما قال- تعالى- في سورة الحجرات: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [سورة الحجرات آية 15] . مثلهم كبستان ذي أشجار ملتفة قد كست الأرض، وهو بمكان مرتفع متمتع بالشمس والهواء ينزل عليه المطر الغزير فيثمر ضعفين من ثمر أمثاله، وإذا نزل عليه مطر بسيط أثمر وذلك لجودة تربته ونقاء منبته. والمعنى في هذا التمثيل: أن المنفق لله وفي سبيله ويقصد تثبيت نفسه على الخير كالجنة الجيدة التربة العظيمة الخصب، فهو يجود بقدر سعته وما في يده فإن أصابه خير كثير أنفق كثيرا وإن أصابه قليل أنفق على قدر سعته، فخيره دائم وبره لا ينقطع كالبستان يثمر مطلقا إذا نزل عليه مطر كثير أو قليل. أما المثل الثاني: فهو لمن ينفق على عكس الأول وينفق في سبيل الشيطان ومرضاة لنفسه وهواه. أيها المنفق لغير الله: أتود أن يكون لك جنة فيها النخيل والأعناب والزرع ومن كل صنف ولون تجرى من تحت جذورها الأنهار، لك فيها من كل الثمرات التي تشتهيها وأنت رجل كبير مسن قد أدركتك الشيخوخة وأصابك ضعف الكبر ولك ذرية من ذكور وإناث ضعفاء وصغار لا يقدرون على الكسب وتصريف أمورهم، وليس لك ولهم غير تلك الجنة، فأصابها بأمر الله ريح شديد وسموم كالنار أو أشد، أحرق الشجر وأباد الثمر وأنت في أشد الحاجة إلى نتيجة عملك وجدك في شبابك؟؟! فمن يرضى بهذا المصير الذي ينتظر كل من ينفق للرياء أو يتبع ما أنفقه بالمن والأذى. إن من ينفق في سبيل الشيطان يظن أنه سينتفع بنفقته، كلا إنه كهذا المسن صاحب تلك الجنة، يأتى يوم القيامة فلا يجد لعمله إلا الحسرة والندامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 مثل ذلك البيان الواضح يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون وتتعظون بهذه الأمثال والمواعظ. نوع ما ينفق منه ووصفه [سورة البقرة (2) : آية 267] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) المفردات: طَيِّباتِ الطيب: المراد هنا الجيد الحسن. تَيَمَّمُوا: تقصدوا. الْخَبِيثَ: الرديء. تُغْمِضُوا: تتساهلوا، من أغمض عينه عن الشيء حتى لا يرى عيبه. المعنى: يبين الله- سبحانه وتعالى- وصف ما ينفق منه وبيان نوعه فيفتتح الكلام بهذا النداء الذي يهز القلوب ويلفت الأنظار: يا من اتصفتم بالإيمان أنفقوا الطيب الجيد ولا تقصدوا إلى الخبيث الرديء فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ولا تجعلوا لله ما تكرهون. وقد ورد في سبب نزول الآية ما يؤيد هذا المعنى: روى أن بعضهم كان يقصد إلى الحشف من التمر فيتصدق به فنزلت الآية، والمعنى: أنفقوا من جياد أموالكم ولا تقصدوا الخبيث فتجعلوا صدقتكم منه خاصة دون الجيّد، فهو نهى عن تعمد الصدقة من الخبيث دون الطيب لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [سورة آل عمران آية 92] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وأما نوع ما ينفق منه فهو بعض ما يجنيه المرء من عمله وجده كالتجارة والصناعة والكسب الحلال بأى نوع كان، وبعض ما يخرج من الأرض من غلات الحبوب والزروع والمعادن والركاز (وهو دفين الجاهلين) والإنفاق هنا الظاهر أنه عام يشمل الزكاة والصدقة. الشيطان والإنفاق [سورة البقرة (2) : الآيات 268 الى 269] الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) المفردات: بِالْفَحْشاءِ: البخل، والعرب تسمى البخيل فاحشا. وَفَضْلًا: رزقا وجاها في الدنيا. الْحِكْمَةَ: العلم النافع الصحيح. الْأَلْبابِ: العقول الراجحة الموفقة. المعنى: الشيطان عدونا من قديم أخرج أبانا آدم من الجنة وأقسم قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ فالشيطان بما يوسوس للناس ويزين لهم أن الصدقة والإنفاق في سبيل الله يورث الفقر والحاجة (الجود يفقر والإقدام قتّال) يعدنا بالفقر ويأمرنا بالبخل، والله- سبحانه وتعالى- بما أودع في بعض الناس من الميل إلى التخلق بالخلق الكامل والإنفاق على الناس وبما يأمرنا به من النفقة في الكتب المنزلة يعدنا مغفرة بسبب الإنفاق فقد جعله كفارة لكثير من الذنوب، ويعدنا به فضلا لأن صاحبه يفضل غيره ويأسر قلبه ويشترى حبه له، والفضل: المال والخير، ولا شك أن المال المنفق يخلفه الله على صاحبه وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [سورة سبأ آية 39] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وفي الصحيحين: «ما من يوم يصبح فيه العباد إلا ملكان ينزلان، يقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» ولا غرابة فالله واسع الفضل بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء. عن عبد الله بن مسعود قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «للشيطان لمّة (خطرة تقع في القلب) وللملك لمّة، فأما لمّة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان» «1» ، ثم قرأ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ يؤتى الله الحكمة والعلم الصحيح النافع- وعلى الأخص فهم القرآن والدين- من يشاء من عباده الذين يحبهم ويتولاهم بعنايته ورعايته، ومن يؤت الحكمة بهذا المعنى فقد أوتى خيرا كثيرا، وأى خير في الدنيا والآخرة بعد توفيق الله وهدايته في فهم الأمور على حقيقتها وإدراك الأشياء على وضعها الصحيح؟ وإنما يتذكر هذا أولو الألباب. بعض أحكام الإنفاق [سورة البقرة (2) : الآيات 270 الى 271] وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271) المفردات: مِنْ نَذْرٍ النذر: التزام الطاعة قربة لله تعالى. فَنِعِمَّا هِيَ الأصل: فنعم ما هي، بمعنى فنعم شيئا إبداؤها.   (1) أخرجه البخاري كتاب الزكاة باب قول الله [فأما من أعطى واقضى] حديث رقم 1442. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 المعنى: وما أنفقتم من نفقة سواء كانت لله أو للرياء والسمعة أو أتبعت بمنّ وأذى أو لم تتبع، أو نذرتم من نذر قربة لله أو نذر لجاج وغضب، فالأول: هو التزام الطاعة قربة لله، كقولك: لله علىّ أن أصوم أو أتصدق مثلا بشرط أو بغير شرط، والثاني: كقولك: إن كلمت فلانا فعلى كذا أو كذا، والأول يجب الوفاء به، وفي الثاني خلاف، قيل: يكفّر عنه كفارة يمين أو يفعل ما التزمه. كل هذا الله عالم به مجاز عليه إن خيرا فخير وإن شرّا فشر، وما للظالمين من أنصار ينصرونهم يوم القيامة، والمراد بهم هنا الذين بخلوا بالمال ولم يتصدقوا. إن تظهروا الصدقات ويعلم بها الناس فنعم ما فعلتم، وإن تخفوها وتكتموها وتعطوها الفقراء فهو خير لكم ويكفر عنكم من سيئاتكم. والخلاصة هنا: أن إبداء الصدقة الواجبة خير بلا شك من إخفائها خصوصا في هذا الزمان فإن الناس يحتاجون إلى مرشدين عمليين يتقدمون الصفوف ويفعلون الخير قدوة للناس، وأما المندوبة فإخفاؤها وإعطاؤها الفقراء بهذا القيد خير لأن ذلك أدعى لعدم الرياء وأحفظ لكرامة الفقير، فإن كان لجهة عامة أو لمشروع خيرى فلا بأس من إعلانها ليكون ذلك أدعى للتسابق في الخير. والله بما تعملون خبير وبصير فهو يعرف السّر وأخفى فحاذروه واخشوا عقابه، وذلك لأن أمراض الرياء والنفقة لغير الله أمور قلبية لا يطلع عليها إلّا الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 لمن تعطى الصدقة وبعض أحكامها [سورة البقرة (2) : الآيات 272 الى 274] لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (274) المفردات: هُداهُمْ: هدايتهم إلى الإسلام. أُحْصِرُوا أى: حبسوا أنفسهم للجهاد في سبيل الله. ضَرْباً فِي الْأَرْضِ أى: سيرا فيها. التَّعَفُّفِ أى: العفة. بِسِيماهُمْ السيما: العلامة. إِلْحافاً: بالإلحاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 المعنى: قد أطلق الله في الآية السابقة إيتاء الصدقة للفقراء مسلمين وغير مسلمين، وقد أرشدنا الله في هذه الآية إلى عدم التحرج في إعطاء غير المسلمين بحجة عدم الاهتداء إلى الدين فإن الهداية من الله، والشفقة تقتضي إعطاء الإنسان المحتاج مطلقا بقطع النظر عن دينه. وقد ذكروا في أسباب النزول روايات كثيرة كلها تدور حول هذا، فعن ابن عباس- رضى الله عنهما- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يأمرنا بألا نتصدق إلا على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية. وإذا كان الله يخاطب النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: ليس عليك هدايتهم ولكن الله يهدى من يشاء إلى دينه فالمسلمون من باب أولى. ولا يصح أن يكون الباعث على الإنفاق الرغبة في دخول الناس في الإسلام وإنما الباعث عليه هو أن الإنفاق لنا وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ نعم هو لنا في الدنيا إذ لا ينكر أحد ما للإنفاق من الأثر البين في جذب القلوب وسلّم السخائم والأحقاد ونشر الأمن والطمأنينة ومنع السرقة وقطع الأفكار السامة والمبادئ الهدامة، وأما في الآخرة فجزاؤه يوفى إلينا، ولا يصح أن يكون الإنفاق إلا في الخير ابتغاء وجه الله لا وجه الدنيا والشيطان، وعلى ذلك فلا منّ ولا إيذاء لأنك ما فعلت لأحد شيئا وإنما قدمت لنفسك ما ينفعها ولا رياء ولا سمعة حيث تقصد وجه الله. وما تنفقوا من مال قل أو كثر يوف إليكم أجره في الآخرة وأنتم لا تظلمون شيئا فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبّة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [سورة الأنبياء آية 47] . علم مما مر أن الإنفاق يكون للفقراء عامة ولا حرج على من ينفق على غير المسلم، ثم بين هنا أحق الناس بالصدقة وهم الفقراء بأوصافهم. الصفة الأولى: الذين أحصروا في سبيل الله، أى: منعوا أنفسهم من الكسب وحبسوها على الجهاد في سبيل الله. نزلت هذه الآية في أهل الصفة وهم فقراء المهاجرين الذين هاجروا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتركوا مالهم وكان عددهم حوالى أربعمائة رجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 ولم يكن لهم مأوى فكانوا يأكلون عند النبي صلّى الله عليه وسلّم وعند غيره ثم يبيتون في المسجد تحت جزء مسقوف يقال له الصّفّة، وقد كان عملهم الجهاد وحفظ القرآن الكريم والخروج مع السرايا التي يرسلها النبي صلّى الله عليه وسلّم وهكذا من يشاكلهم ممن حبس نفسه على الجهاد في سبيل الله، فالجنود وطلبة العلم بشرط أن لا يمكنهم الكسب ممن يدخل تحت هذا. الصفة الثانية: لا يستطيعون سفرا ولا سيرا في الأرض للتجارة والكسب وذلك بأن يكونوا ممنوعين لعجز أو كبر أو ضرورة. الصفة الثالثة: يحسبهم الذي يجهل حالهم أغنياء من عفتهم وصبرهم وقناعتهم فعندهم عزة المؤمنين وتوكل المتوكلين. الصفة الرابعة: تعرفهم بسيماهم وعلامتهم، فعلامتهم الضمور والنحول والضعف ورثاثة الثياب، وفي الواقع هذا متروك لفراسة المؤمن، فرب فقير له مظهر وغنّى رث الثياب لحوف في السؤال. الصفة الخامسة: لا يسألون الناس أصلا، أو لا يسألون الناس ملحين وملحفين، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ليس المسكين الذي ترده اللقمة واللقمتان، إنما المسكين الذي يتعفف، اقرءوا إن شئتم قوله- تعالى-: لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً والسؤال في الإسلام محرم إلا لضرورة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «المسألة لا تحل إلا لذي فقر مدقع، أو لذي غرم مفظع، أو لذي دم موجع» «1» . وما تنفقوا من خير قل أو كثر فإن الله به عليم ومجاز عليه. ويشير القرآن الكريم في آخر آية في الإنفاق إلى عموم الأحوال والأزمنة في الصدقة فبين أن الذين يتصدقون بأموالهم ليلا أو نهارا، سرّا أو علانية هؤلاء لهم الأجر الكامل عند ربهم الذي ربّاهم وتعهدهم في بطون الأرحام، ولا خوف عليهم أصلا في الدنيا ولا في الآخرة ولا هم يحزنون أبدا، وهكذا كل من سار بسيرة القرآن واهتدى بهديه أولئك هم المفلحون.   (1) أخرجه البخاري كتاب التفسير باب [لا يسألون الناس إلحافا] حديث رقم 4539. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 الرّبا وخطره على صاحبه وعلى الأمة [سورة البقرة (2) : الآيات 275 الى 281] الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (277) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (281) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 المفردات: يَأْكُلُونَ: يأخذون، وعبر بالأكل عن الأخذ لأنه الغرض الأساسى منه، واللباس والانتفاع والنفقة داخلة فيه، وللإشارة إلى أن ما يأخذ لا يرجع أصلا. الرِّبا في اللغة: الزيادة، وفي عرف الشرع يطلق على مال يؤخذ بلا عوض ولا وجه شرعي. يَتَخَبَّطُهُ الخبط: السير على غير هدى وبصيرة، ومنه قيل: خبط عشواء. الْمَسِّ: الجنون والصرع. مَوْعِظَةٌ أى: وعظ. يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا: ينقصه ويذهب ببركته. وَيُرْبِي: يزيد ويبارك. أَثِيمٍ: مصرّ على الإثم ومبالغ فيه. ذَرُوا: اتركوا. فَأْذَنُوا: فاعلموا، من أذن بالشيء: علم به. فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ: فانتظار إلى يسر ورخاء. المناسبة: ما تقدم كان في ذكر النفقة والمنفقين بالليل والنهار وفي السر والعلن ينفقون لوجه الله ولتثبيت أنفسهم على الإيمان فهم ينفقون المال بغير عوض ولا منفعة دنيوية. وفي الآية هنا الكلام على المرابين الذين يستحلون مال الغير بغير حق ولا عوض، فالمناسبة بينهما التضاد، ولا غرابة فالضد أقرب خطورا بالبال. المعنى: الذين يأخذون الربا ويستحلونه من غير وجه شرعي ويأكلون أموال الناس بالباطل قد أذلتهم الدنيا وسخرهم حب المال وركبهم الشيطان والهوى، فتراهم في حركاتهم وسكناتهم وقيامهم وقعودهم يتخبطون خبط عشواء كالصرعى الذين مسهم الجن، وإنما خص القيام لأنه أبرز مظاهر النشاط في العمل ولقد جاء التعبير القرآنى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ موافقا لاعتقادهم وأنهم كانوا يؤمنون بالجن وتأثيره على الإنسان. والعرب قديما ينسبون كل ما استعصى عليهم فهمه وإدراك سره إلى الجن، فلا غرابة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 في أن يأتى القرآن موافقا لفهمهم، لأن المقصود تصوير آكل الربا بأبشع صورة وأقبح منظر. ولقد درج جمهور المفسرين على أن المراد أن آكل الربا يقوم يوم القيامة يتخبط كالذي مسه الجن استنادا إلى روايات كثيرة وردت في وصف قيامه يوم القيامة، ولعل آكل الربا يبعث يوم القيامة على الحالة التي كان عليها في الدنيا فنجمع بين الرأيين. وذلك الذي كان يفعله المشركون في الجاهلية من أكل الربا بسبب أنهم يستحلونه ويجعلونه كالبيع والشراء، فكما يجوز لك أن تبيع الشيء الذي قيمته قرش بقرشين! فلم لا يجوز أن تأخذ درهما في وقت العسرة والشدة وتدفع في وقت الرخاء درهمين؟ ولقد بالغوا في هذا حتى جعلوا البيع كالربا. وقد أحل الله البيع إذ فيه معاوضة وسلعة قد يرتفع ثمنها في المستقبل وما زيد في الثمن إنما هو في مقابلة شيء ستنتفع به في الأكل أو اللبس أو غيرهما. وحرم الربا إذ لا معاوضة فيه، والزيادة ليست في مقابلة شيء، بل كانوا إذا حل الدين فإن دفع المدين وإلا أجل الدائن في نظير زيادة الدين، فأخذ هذه الزيادة ظلم وأى ظلم واستحلالها كفر وإثم. فمن جاءه وعظ من ربه يتضمن تحريم الربا لمصلحة الأمة والجماعة فانتهى عما كان يفعله، فله ما سلف أخذه في الجاهلية وأمره يوم القيامة إلى الله، والله يحاسبه على ما أخذه بعد التحريم أما قبله فقد عفا عنه. ومن عاد إلى أكل الربا بعد تحريمه ووقف على ضرره فأولئك البعيدون في الضلال والظلم أصحاب النار الملازمون لها هم فيها ماكثون مكثا الله أعلم به. وكيف تقعون في الربا وخطره وتبتعدون عن الصدقة وبرها، والربا يمحقه الله فلا بركة فيه ولا زيادة، فالمال وإن زاد بسببه ونما في الظاهر فهو إلى قل وضياع، والواقع الذي نشاهده شاهد على ذلك، أليس المرابى مبغوضا من الله والناس أجمعين؟! فلا أحد يعاونه ولا إنسان يعطف عليه بل الكل حاسد شامت يتربص به الدوائر، وهذا كله مما يساعد على ضياع المال ونقصانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 وأما الصدقة فالله ينميها ويبارك فيها، وما نقصت زكاة من مال قط، والمتصدق محبوب عند الله والناس أجمعين، فلا حسد ولا بغضاء ولا سرقة ولا إكراه ولا إيذاء، وهذا كله مما يساعد على الزيادة والنمو في المال يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ والله لا يرضى عن المستحل للربا والمقيم على الإثم المبالغ فيه. شأن القرآن إذا ذكر بعض المعاندين الظالمين الذين يفعلون فعل الكفار الآثمين، أن يعقب بذكر المؤمنين العاملين حتى يظهر الفرق واضحا فيكون ذلك أدعى للامتثال وأقرب للقبول ولذا يقول الله إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأقاموا الصلاة ... الآية والمعنى. «إن الذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا صالحا يقيهم من عذاب النار، خصوصا إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، فإن الأعمال الصالحة مطهرة للنفس ومرضاة للرب ومجلبة لمحبة العبد في الدنيا، هؤلاء لهم أجرهم الكامل عند من رباهم وتعهدهم وأنشأهم من العدم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون أبدا» . ثم بعد هذا التمهيد القيم الذي أظهر الله فيه آكل الربا بتلك الصورة الفظيعة وجزاءه في الدنيا والآخرة وما استتبع ذلك من ذكر المؤمنين الصالحين وجزائهم ناسب أن يأمر أمرا صريحا بترك الربا فيقول: يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان الذي يتنافى مع الربا والتعامل به. فالإيمان والإسلام سلام ورحمة وعطف وصلة، أما الربا فجشع واستغلال ونصب واحتيال ومعاملة دنيئة تتنافى مع أخوة الإنسانية مطلقا. يا أيها الذين آمنوا خذوا لأنفسكم الوقاية من عذاب الله وذروا ما بقي لكم من الربا حالا، أى: اقطعوا المعاملة به فورا، فضلا عن إنشاء المعاملة من جديد إن كنتم مؤمنين، وإلا فلستم مؤمنين كاملين لأنه لا إيمان مع المعاصي خصوصا الربا فإن لم تفعلوا ما أمرتم به فاعلموا واستيقنوا بحرب من الله ورسوله، أما حرب الله فغضبه وانتقامه، وما الآفات الزراعية والاضرار التي تصيبنا في هذه الأيام إلا من أكل الربا واستحلاله، وأما حرب رسوله والمؤمنين فمناصبتهم العداء واعتبارهم خارجين على الشرع وأحكامه. روى أن هذه الآية نزلت في ثقيف كان لها ربا على قوم من قريش فطالبوهم به فأبوا واختصموا إلى والى مكة عتّاب بن أسيد، فنزلت الآية وكتب بها الرسول صلّى الله عليه وسلّم إليهم، فلما علمت ثقيف بذلك قالت: لا طاقة لنا بحرب الله ورسوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وإن أقلعتم عن التعامل بالربا ورجعتم إلى الله فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون أحدا بأخذ الربا ولا تظلمون بنقص أموالكم.. وإن تعاملتم مع فقير معسر فانتظار منكم إلى يسر ورخاء عسى الله أن يفرج عليكم جميعا «فمن نفّس عن مؤمن كربة نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة» «1» حديث شريف ، وأن تتصدقوا بالتأجيل أو بترك الدّين أو بعضه فهو خير لكم وأحسن. واتقوا يوما تتركون فيه الدنيا وزخارفها ومشاغلها وترجعون إلى الله فيشغل بالكم وتفكيركم، في هذا اليوم العصيب توفى كل نفس ما كسبت من خير أو شر وتوضع الموازين فلا تظلم نفس شيئا. الربا نوعان: ربا النسيئة: أى التأخير في أجل الدفع والزيادة في الدين كما كان يحصل في الجاهلية إذا حل الدين فإما أن تدفع وإما أن تؤجل ويزيد الدين. وربا الفضل: هو الزيادة المشروطة للدائن بغير مقابل كما إذا أقرض محمد عليا مائة جنيه على أن يدفع على له في العام القادم مائة وعشرين، ومثل النقدين في ذلك المطعومات من قمح وشعير وذرة ودخن وتمر وملح، عن أبى سعيد الخدري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلا بمثل يدا بيد فمن زاد أو استزاد فقد أربى، الآخذ والمعطى فيه سواء» «2» وفي حديث عبادة بن الصامت: «فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم يدا بيد» «3» . الحكمة في تحريم الربا: الدين الإسلامى دين تعاطف وتراحم وبر وخير وعون ومساعدة وأخوة صادقة في الله، يحافظ على الصلات بين الناس، وأن تحل المروءات محل القوانين لهذا أوجب الصدقة والتعاطف من القوى على الضعيف والرحمة من الغنى على الفقير والمعاملة بالحسنى، وحرم الربا والإيذاء بأى نوع من أنواعه كما حرم انتهاز الفرصة واستغلال الحاجة.   (1) أخرجه مسلم في كتاب الذكر حديث رقم 2699. (2) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة حديث رقم 1587. (3) أخرجه مسلم في كتاب المساقاة حديث رقم 1587. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 وقد جعل الله النقدين أو ما يقوم مقامها كأوراق البنكنوت لتقويم السلع، ولم يخلقهما للاستغلال عن طريق الحاجة فإن هذا يؤدى إلى تكديس الثروة بسبب الربا في أيدى جماعة من الأمة، وفي هذا خسران الأمة والمجتمع، ومثل النقدين في ذلك المطعومات الأساسية التي ذكرناها، والتعامل بالربا يقطع الصلة بين الناس ويوجد الحقد والحسد ويولد البغضاء في النفوس وغير ذلك مما يجعل الناس تتعامل مع بعضها كالذئاب الجائعة كلّ ينتهز الفرصة ويتربّص بأخيه الدائرة وفي هذا هلاك الأمة بلا شك ... وكيف تجيز لنفسك أن تستولى على مال الغير بغير حقّ شرعي وهذا هو عين الظلم لنفسك وما شاع الربا في قوم إلا عمّهم الفقر ونزلت عليهم الآفات وحبسوا القطر ومنعوا من الخير وقانا الله شره فهو صفة اليهود وعملهم. أليس كل من تعامل بالربا ذهبت ماليته وضاعت فهو عاجز عن سداد الدين فكيف يسدده هو والربح. أيليق بنا كأمة إسلامة أن نبيح الربا وروسيا تحرمه؟؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 آية الدّين والسر في طولها ووضوحها [سورة البقرة (2) : آية 282] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَلا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282) المفردات: تَدايَنْتُمْ: داين بعضكم بعضا، أى: تعاملتم بدين مؤجل. بِدَيْنٍ الدين: هو المال الذي يكون في الذمة. أَجَلٍ: هو الوقت المضروب لانتهاء شيء. (مسمّى) والمسمى: المعلوم بيوم أو شهر أو سنة ويدخل في الدين المؤجل القرض والسلم وبيع الأعيان إلى أجل. بِالْعَدْلِ: بالحق في كتابته لا يزيد في المال والأجل ولا ينقص. وَلا يَأْبَ: يمتنع: وَلْيُمْلِلِ الإملال والإملاء واحد. لا يَبْخَسْ: لا ينقص. سَفِيهاً: ناقص العقل مبذرا. ضَعِيفاً: صبيا أو شيخا مسنّا. وَلا تَسْئَمُوا: لا تملوا وتضجروا. أَقْسَطُ: أعدل. وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ: أثبت لها وأعون على إقامتها. وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا: أقرب إلى انتفاء ريبكم في الدّين وأجله. فُسُوقٌ بِكُمْ: خروج عن الطاعة. المناسبة: لما ذكر الإنفاق وجزاءه والربا وخطره ناسب أن يذكر التعامل بالدّين المؤجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وحفظه بالكتابة والشهود، ففي الصدقة والإنفاق منتهى الرحمة، وفي الربا كامل القسوة والغلظة. وفي أحكام الدين والتجارة نهاية العدل والحكمة، والدين قد أمرنا ببذل المال حيث ينبغي البذل، وبترك الزيادة في المال إذا كان فيه ربا، ثم أمرنا هنا بحفظ المال وتوثيقه في البيع والشراء والقرض والتجارة، ومن هنا نعلم أن الإسلام دين ودولة، وحكم وحكمة فبينا هو يهدينا إلى الإنفاق يحرم علينا الربا، ثم يرشدنا في البيع والشراء حتى لا يضيع مال ولا يحصل شقاق ونزاع ولا غرابة إنه صراط الله العزيز الحكيم. وليس ديننا دين رهبنة وفقر، وقناعة وذل، بل هو دين علم وعمل وجد واجتهاد، وغنى وعزة حتى يتحقق قوله تعالى: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «1» . فقانون الإسلام أن تجمع المال وتنميه، ولكن من طريق الحلال، وتحافظ عليه وتستوثق له بالكتابة والشهود، ولعل ذلك هو السر في طول الآية ووضوحها وتكرار أحكامها حتى يفهم أحكامها العامة والخاصة. وهاك أحكامها: 1- يا من اتصفتم بالإيمان ودخلتم في الإسلام: إذا تعاملتم بالدّين المؤجل في الذمة بيعا أو سلما أو قرضا فاكتبوه وقيدوه فذلك خير لكم وأجدى، والأمر هنا للإرشاد والندب. 2- وليكن فيكم كاتب للديون عادل في كتابته، لا يميل ولا يحيد عن الحق فهو القاضي بين الدائن والمدين ولتحقق عدالته يشترط أن يكون عالما بشروط الكتابة ملما بأصولها. 3- لا يصح أن يمتنع كاتب عن الكتابة ما دام يمكنه ذلك وليكتب كتابة كما علمه الله فلا يزيد ولا ينقص ولا يضر أحدا، والكتابة نعمة من الله عليه فمن الشكر عليها أن لا يمتنع عنها ما دام قد أخذ أجره بالعدل والرحمة. 4- والذي يملى الكاتب من عليه الحق، أى: المدين ليكون إملاؤه حجة عليه، وليتّق الله ربه في الإملاء، وقد جمع بين الاسم الجليل والنعت الجميل للمبالغة في التحذير ولا ينقص من الحق الذي عليه شيئا عند الإملاء، وأنت ترى أن الكاتب أمر   (1) سورة البقرة آية رقم 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 بالعدل فلا يزيد ولا ينقص، ومن عليه الحق نهى عن النقص فقط لأن هذا هو الذي ينتظر منه. 5- فإن كان الذي عليه الحق سفيها لا يحسن التصرف في ماله لنقص عقله أو تبذيره أو كان ضعيفا لصغر سنه أو شيخوخته أو لا يستطيع الإملاء لجهله أو لكنة في لسانه فالذي يملى على الكاتب هو وليه الذي يلي أموره من قيّم أو وكيل أو مترجم يملى بالعدل والإنصاف. 6- واستشهدوا شهيدين من رجالكم ممن حضروا ذلك بشرط البلوغ والعقل والإسلام والحرية. 7- فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون شهادتهم لدينهم وعدالتهم وإنما جعل الشرع المرأتين بمنزلة رجل واحد خوف أن تخطئ إحداهما فتذكرها الثانية لقلة ضبط النساء للأمور المالية وقلة عنايتهن بمثل ذلك لأن المرأة جبلت على الاشتغال بالمنزل والبيئة المنزلية وتربية الأولاد فكان تذكرها للمعاملات قليلا وهذا حكم غالبى والأحكام الشرعية تنظر للمجموع. 8- ولا يأب الشهود إذا ما دعوا للشهادة فإن كتمانها معصية وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ إذ بالشهادة العادلة تتضح الحقوق ويمنع الظلم والجور، والأحسن أن يكون النهى شاملا لأدائها وتحملها. 9- والدّين مهما كان صغيرا أو كبيرا لا تملوا من كتابته حتى يقطع النزاع والشقاق. 10- ذلك البيان السابق الشامل لجميع الأحكام أعدل في الحكم وأحرى بإقامة العدل بين المتعاملين، وأقوم للشهادة وأعون على إقامتها على وجهها وأقرب لانتفاء الريبة والشك. 11- ما تقدم في المبايعات المؤجلة وفي الديون والسلم، أما في التجارة الحاضرة التي يأخذ المشترى ما اشترى والبائع الثمن فلا ضرورة للكتابة وليس عليكم جناح ألا تكتبوها إذ لا شك ولا نسيان يخاف منه، وفي نفى الجناح إشارة إلى استحباب ضبط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 الإنسان لماله وإحصائه للداخل والخارج، انظر: أرقى النظم التجارية يأتى بها القرآن من أربعة عشر قرنا. 12- وأشهدوا إذا تبايعتم في التجارة الحاضرة والشهود تكفى في مثل ذلك. 13- لا ينبغي لكاتب أو شاهد أن يضر أحدا من المتعاملين بزيادة أو نقص ولا يليق بكم أيها المتعاملون أن تضروا كاتبا أو شهيدا بأى نوع من أنواع الضرر، إذ الدّين الإسلامى دين سلام وأمن ورحمة وعدل. وإن تفعلوا ما نهيتم عنه فإنه خروج بكم عن الطاعة وحدود الإيمان. 14- واتقوا الله في جميع ما أمركم به ونهاكم عنه، والله يعلمكم ما به تحفظون أنفسكم وأموالكم وتقوون رابطتكم، فشرعه شرع الحكيم الخبير العليم البصير. جواز الرهن [سورة البقرة (2) : آية 283] وَإِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283) المفردات: فَرِهانٌ جمع رهن. وهو احتباس العين وثيقة بالحق ليستوفى الحق من ثمنها عند تعذر أخذه من الغريم. هذا تقييد للأمر بالكتابة السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 المعنى: وإن كنتم مسافرين ولم تجدوا كاتبا يكتب، أو لم تجدوا أدوات الكتابة فرهان مقبوضة للدائن يستوثق بها حتى يصل إليه حقه، هذا الرهن يقوم مقام الكتابة وكونهم في السفر لجواز عدم الكتابة، وفي الحضر ثابت بالسنة فقد رهن النبي صلّى الله عليه وسلّم درعه عند يهودي ومات عنها. فإن اتفق أن أحدكم ائتمن آخر على شيء فعلى المؤتمن أن يؤدى الأمانة كاملة في ميعادها، وليتق الله ربه فلا يخون في الأمانة فالله هو الشاهد الرقيب عليه وكفى به شاهدا. ولا تكتموا الشهادة فإن كتمان الشهادة وشهادة الزور من الكبائر، ومن يكتمها فإنه آثم قلبه، وخص القلب بالذكر لأنه أمير الجسد متى صلح صلح الجسد كله. وكل ما تقدم من أعمال إيجابية كتأدية الأمانة والوفاء بالعهد، أو سلبية ككتم الشهادة، فالله به عليم وبصير يجازى عليه. إحاطة علمه وتمام ملكه وقدرته [سورة البقرة (2) : آية 284] لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284) المناسبة: تقدم الكثير من الأحكام خصوصا الأحكام القريبة المتعلقة بالدين والشهادة وختمت الآية السابقة بقوله وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فناسب أن يذكر شواهد علمه والأدلة عليه إذ مالك الشيء وخالقه لا بد أن يعلمه أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 المعنى: لله ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وتصريفا وعلما، فهو العليم بكل شيء، وإن تظهروا ما استقر في نفوسكم وثبت من الخلق الكامن والداء الباطن أو تكتموه وتخفوه فالله محاسبكم عليه ومجازيكم به إن خيرا فخير وإن شرا فشر. وهو يغفر لمن يشاء ذنبه بتوفيقه إلى التوبة والعمل الصالح الذي يمحو السيئة. ويعذب من يشاء لأنه لم يعمل خيرا يكفر عنه سيئاته ولم يتب إلى الله، والله على كل شيء أراده قدير. روي أن هذه الآية حين نزلت اشتد ذلك على الصحابة- رضى الله عنهم- فأتوا النبي وقالوا: يا رسول الله: كلفنا من الأعمال ما نطيق كالصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزل الله هذه الآية ولا نطيقها، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أتريدون أن تقولوا: سمعنا وعصينا؟ بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير» ونزلت الآية التي بعدها. «1» من هذه الرواية فهم بعض المفسرين أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها حيث فهم أن ما في نفوسكم هو الوساوس والخواطر التي لا يتأتى للإنسان دفعها. والظاهر من النظم الكريم أن ما في نفوسكم أى: ما استقر في نفوسكم من الخلق الراسخ الثابت كالحب والبغض وكتمان الشهادة وقصد الخير والسوء.. إلخ. أما الهواتف والخواطر فإن استرسلت فيها حسبت عليك وكانت من أعمالك وإن شغلت نفسك بغيرها وطردتها لم تحسب عليك، وهي في أولها مما لا يمكن دفعه ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، والآية الآتية ليست ناسخة ولكنها موضحة، أما قول الصحابة- رضى الله عنهم- فتأويله أنهم الأطهار الأبرار الذين يريدون أن يتطهروا من الإثم ومقدماته بل كل شيء يتعلق به، ولذا قالوا: حسنات الأبرار سيئات المقربين، فرضي الله عنهم أجمعين.   (1) أخرجه مسلم في كتاب الايمان باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس 2/ 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 [سورة البقرة (2) : الآيات 285 الى 286] آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَعَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286) المفردات: وُسْعَها الوسع: ما تسعه قدرة الإنسان من غير حرج ولا عسر. إِصْراً: حملا ثقيلا يشق علينا. الطاقة: مالا يدخل في مكنة الإنسان وطوقه، وما يطاق هو ما يمكن أن يأتيه ولو بمشقة. الربط: بدأ الله السورة بالكلام على القرآن والمؤمنين وأراد- سبحانه وتعالى- أن يختمها بالكلام عليهم ويبين حالهم ودعاءهم. المعنى: صدّق الرسول والمؤمنون بالذي أنزل إليهم من ربهم خصوصا ما في هذه السورة الكريمة من الآيات والأحكام. وما ذكر عن الرسل الكرام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 كل آمن بالله الواحد الأحد الفرد الصمد وملائكته الكرام على أنهم السفرة البررة بين الله وبين رسله، قاموا بتبليغ ما أنزل على الأنبياء من كتبه- جل شأنه- وآمن الكل بالرسل الكرام، لا نفرق نحن المؤمنين بين رسله، إذ كل الأنبياء المرسلين سواء في الرسالة والتشريع لا يختلف واحد عن واحد باعتبار تقدمه في الزمن أو تأخره أو كثرة أتباعه أو قلتهم مع إيمانهم بأن الله فضل بعض الرسل على بعض (في غير الرسالة والتشريع) كما سبق في قوله تعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ وهذه مزية أتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم يؤمنون بكل الأنبياء لا يفرقون بين الأنبياء. آمنوا بما ذكر وقالوا: سمعنا وأطعنا، أى: بلّغنا فسمعنا القول سماع وعى وقبول وأطعنا ما أمرنا به طاعة إذعان وانقياد معتقدين أن كل أمر ونهى إنما هو لخيرى الدنيا والآخرة. ويسألون الله- تعالى- أن يغفر لهم ما عساهم يقعون فيه فيعوقهم عن الرقى في مدارج الكمال ومعارج الإيمان فهم يقولون: غفرانك ربنا وإليك المصير. روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما نزلت عليه هذه الآية قال له جبريل: «إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه» فسأل إلى آخر السورة. «1» لا يكلف الله أحدا فوق طاقته بل أقل من طاقته، وهذا من لطف الله بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم. وهذه الآية هي الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة- رضى الله عنهم- والموضحة لقوله تعالى: وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ «2» أى: هو وإن حاسب وسأل ولكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه وما في وسعه. لكل نفس ما كسبت من خير، وما اكتسبت من شر فعليها وزرها، ويظهر لي- والله أعلم- أن السر في التعبير في جانب الخير (كسبت) وفي جانب الشر (اكتسبت) أن الخير لا يحتاج إلى عمل وجهد كثير ولا كذلك الشر فإنه يحتاج إلى تعمل ومخالفة للطبيعة. علمنا الله هذا الدعاء لندعو به:   (1) أخرجه ابن جرير. (2) سورة البقرة آية 284. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا، فتركنا ما ينبغي فعله أو فعلنا ما ينبغي تركه، والنسيان ينشأ من عدم العناية بالشيء والاهتمام به، والخطأ ينشأ من التساهل وعدم الاحتياط. والله علمنا أن ندعوه ألا يؤاخذنا بالنسيان والخطأ، وهذا يذكرنا بما ينبغي من العناية والاحتياط والتفكير والتذكر لعلنا نسلم من الخطأ والنسيان، وإن وقع بعد ذلك منا شيء غفره لنا، عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» . «1» كانت الأمم السابقة لعنادهم وعتوهم تكاليفهم شاقة، فتوبتهم بقتل التائب، وإزالة النجاسة بقطع موضعها وهكذا. فعلمنا الله أن ندعوه بألا يكلفنا بالأعمال الشاقة والأعباء الثقيلة وإن أطقناها كما فعل مع الأمم السابقة فنبينا نبي الرحمة وشرعه السهل السمح وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. «2» ربنا ولا تحملنا ما لا قدرة لنا عليه من العقوبة والفتن، واعف عنا فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا، واغفر لنا فيما بيننا وبين عبادك فلا تطلعهم على عيوبنا وأعمالنا القبيحة، وارحمنا بأن توفقنا حتى لا نقع في ذنب آخر، روى مسلم عن أبى هريرة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: قال الله: نعم «3» . وعن ابن عباس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: قال الله: قد فعلت «4» . أنت يا رب متولى أمورنا وناصرنا وعليك توكلنا وإليك أنبنا ولا حول ولا قوة إلا بك، فانصرنا على القوم الكافرين آمين يا رب.   (1) أخرجه ابن ماجة في كتاب الطلاق باب طلاق المكره والناسي 2045. (2) سورة الحج آية 78. (3) أخرجه مسلم في كتاب الإيمان باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس 2/ 144. [ ..... ] (4) أخرجه مسلم في كتاب الايمان باب تجاوز الله تعالى عن حديث النفس 2/ 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 سورة آل عمران مدنية [سورة آل عمران (3) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4) إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6) المفردات: الم في معناها ما قيل في أول سورة البقرة، وتقرأ: ألف. لام. ميم كما تقول: واحد. اثنان: الْكِتابَ: القرآن. التَّوْراةَ: كلمة عبرانية معناها الشريعة، وتطلق عند أهل الكتاب على خمسة أسفار: سفر التكوين، وسفر الخروج، وسفر الأخبار، سفر العدد، سفر التثنية. أما في عرف القرآن فهي: ما أنزل الله- تعالى- من الوحى على موسى- عليه السلام- ليبلغه قومه وفيها البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. الْإِنْجِيلَ: لفظ يوناني، ومعناه البشارة، ويطلق عند النصارى على أربعة كتب تعرف بالأناجيل، وعلى ما يسمونه العهد الجديد، والإنجيل الأربعة: كتب وجيزة في سيرة المسيح وشيء من تاريخه وتعليمه وليس لها سند متصل عند أهلها بل هم مختلفون في تاريخ كتابتها كثيرا، وأما الإنجيل في عرف القرآن: فهو ما أوحاه الله إلى رسوله عيسى ابن مريم وفيه البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 الْفُرْقانَ: ما يفرق بين الحق والباطل كالدلائل والبراهين، وقيل: العقل، وقيل: القرآن. الْأَرْحامِ: جمع رحم، وهو مستودع الجنين من المرأة. نزلت هذه الآيات في وقد نصارى نجران، كانوا ستين راكبا فيهم أربعة عشر من أشرافهم وعلى رأسهم أميرهم ووزيرهم وحبرهم، ولما قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعليهم الحبرات، تكلم منهم ثلاثة، فمرة قالوا: عيسى ابن مريم إله لأنه يحيى الموتى، وتارة هو ابن الله إذ لم يكن له أب، وتارة هو ثالث ثلاثة لقوله- تعالى- قلنا وفعلنا ولو كان واحدا لقال: قلت وفعلت، وحاجهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بما يدحض حجتهم ويزيل شبهتهم، ولكنهم عاندوا حتى طالبهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمباهلة فامتنعوا، فأنزل الله من أول السورة إلى نيف وثمانين آية منها تقريرا لما احتج به النبي وبيانا لعنادهم وجحودهم. المعنى: بدأ الله السورة بإثبات التوحيد الذي هو أساس الدين ولرد اعتقادهم من أول الأمر، الله لا معبود بحق في الوجود إلا هو إذ ليس في الوجود صاحب سلطة حقيقية على النفوس يبعثها على تعظيمه والخضوع له قهرا منها معتقدة أن بيده منح الخير ورفع الضر إلا الله وحده دون سواه، الحي الدائم الحياة التي لا أول لها، القيوم على خلقه بالتدبير والتصريف قامت به السموات والأرض قبل خلق عيسى، فكيف تقوم قبل وجوده؟ إذا ليس إلها نزل عليك يا محمد القرآن بالحق لا شك فيه، ولا ريب أنه من عند الله أنزله بعلمه والملائكة يشهدون، وكفى بالله شهيدا، مصدقا لما بين يديه من الكتب المنزلة على الأنبياء قبله فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت وهو يصدقها لأنه جاء مطابقا لما أخبرت وبشرت. وأنزل التوراة على موسى والإنجيل على عيسى من قبل هداية للناس وإرشادا، فأنتم ترون أن الله أنزل الوحى وشرع الشرائع قبل وجود عيسى وبعده فلم يكن عيسى هو المنزل للكتب على الأنبياء، وإنما كان نبيّا مثلهم فكيف يكون إلها؟ وأنزل الله الفرقان ووهب العقل والوجدان ليفرق الإنسان بين الحق والباطل، وعيسى لم يكن واهب العقول والأفهام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 فكيف يكون إلها وليس فيه صفة مما تقدم؟ وأما أنتم أيها المجادلون بغير حق فتعقلوا وتدبروا فقد جاوزتم حدود العقل والمنطق. إن الذين كفروا بآيات الله الواضحة التي تدل على كمال وصفه وسمو نعته بكل صفات الجمال والجلال والألوهية والربوبية لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب بما كانوا يظلمون ومنهم أنتم أيها المجادلون. وكانوا يقولون عيسى إله لإخباره عن بعض المغيبات فيرد القرآن عليهم! إن الإله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وعيسى لم يكن كذلك. وقالوا: عيسى ليس كغيره ولد من غير أب فهو إله ... فرد الله عليهم: ليست الولادة من غير أب دليلا على الألوهية إذ المخلوق عبد كيفما خلق، وإنما الإله هو الخالق الذي يصوّر في الأرحام كيف يشاء وعيسى لم يصور أحدا بل صوّر هو في رحم أمه كما يصور جميع الخلق، أفيعقل أن يكون الذي صور في الرحم وخرج منه إلها..؟ لا إله إلا هو الواحد الأحد الفرد الصمد المنزه عن الوالد والولد، العزيز الحكيم. المحكم والمتشابه في القرآن [سورة آل عمران (3) : الآيات 7 الى 9] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7) رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 المفردات: مُحْكَماتٌ: ظاهرات الدلالة لا خلاف في معناها. مُتَشابِهاتٌ يقال: اشتبه الأمر عليه: التبس، فالمتشابهات التي لم يظهر معناها ويتضح بل خالف ظاهر اللفظ المعنى المراد، وقيل: ما استأثر الله بعلمه. زَيْغٌ: ميل عن الحق. تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ: معرفة حقيقية وبيان ما يؤول إليه في الواقع. الرَّاسِخُونَ: الثابتون في العلم المتأكدون منه. المعنى: كان النصارى يستدلون ببعض آيات القرآن التي يفيد ظاهرها تميّز عيسى على غيره من البشر كقوله في شأن عيسى: إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [سورة النساء آية 171] ، على أنه ثالث ثلاثة أو هو الإله أو ابنه ... إلخ فيرد الله عليهم: إن القرآن الذي أنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم بعض آياته محكمات واضحات ظاهرات لا خلاف بين ظاهر اللفظ والمعنى المراد منها كقوله- تعالى- مثلا: وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [سورة الإسراء آية 23] . وكقوله في شأن عيسى: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ [سورة الزخرف الآية 59] وكآيات الأحكام مثل: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ [سورة الأنعام آية 151] ، وهكذا المحكم كل ما لا يحتمل من التأويل المعتد به إلا وجها واحدا. وهنّ- أى: المحكمات- أمّ الكتاب وعماده ومعظمه وأصله الذي دعى الناس إليه ويمكنهم فهمه، وعنها يتفرع غيرها ويحمل عليها، وهي أكثر ما في القرآن. فإن اشتبه علينا من الآيات آية ردت إلى المحكم وحملت عليه، مثلا قوله تعالى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء 171] ترد وتحمل على قوله: إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ [الزخرف 59] وقوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ [آل عمران 59] بمعنى أننا نؤمن بأن الكل من عند الله وأنه لا ينافي الأصل المحكم. وأما الآيات المتشابهات كقوله- تعالى- في عيسى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [النساء 171] . وكقوله: مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران 55] في شأن عيسى. وكقوله- تعالى: الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى [طه 5] يَدُ اللَّهِ فَوْقَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 أَيْدِيهِمْ [الفتح 10] إلخ. فهذه آيات متشابهات تحتمل عدة معان، ويخالف ظاهر اللفظ فيها المعنى المراد فهي مما استأثر الله بعلمه. فليس لكم أيها النصارى أن تحتجوا بأمثال هذه الآيات فإنها من المتشابه الذي يحتمل عدة معان والله أعلم بها، وكيف لا تدينون بقوله- تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ [سورة النساء آية 172] . وتتمسكون بآيات استأثر الله بعلمها هو. فأما الذين في قلوبهم زيغ وميل عن الحق إلى الباطل فيتبعون المتشابه ويتركون المحكم ابتغاء فتنة الناس وإضلالهم، ولكن يؤولون القرآن تأويلا غير سائغ في العقل ولكنه موافق لأوهامهم وضلالهم.. وما يعلم تأويله وحقيقته إلا الله. بعض القراء يقفون على (الله) والراسخون في العلم كلام مستأنف، وحجتهم في ذلك أنه وصفهم بالتسليم المطلق ومن عرف الشيء وفهمه لا يعبر عنه بما يدل على التسليم المحض. على أن المتشابه ما استأثر الله بعلمه من أحوال الآخرة أو ما خالف ظاهر اللفظ فيه المراد منه، فهذا لا يعلم حقيقته إلا الله والراسخون في العلم كغيرهم وإنما خصوا بالذكر لأنهم يقفون عند ما يدركون بالحس والعقل، ولا يتطاولون إلى معرفة حقيقة المغيبات وإنما سبيلهم التسليم قائلين، آمنا به كل من عند ربنا. وبعضهم لا يقف على لفظ الجلالة، والراسخون معطوف عليه على معنى لا يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم وذلك أن الله ذم الذين يبتغون التأويل لذهابهم إلى ما يخالف المحكم يبتغون الفتنة وإضلال الناس، والراسخون ليسوا كذلك فهم أهل اليقين الثابت يفيض الله عليهم فيفهمون المتشابه بما يتفق مع المحكم جاعلين المحكم أساسا ويؤمنون بأن الكل من عند الله، وهذا ابن عباس- رضى الله عنه- يقول فيه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم: «اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل» «1» وإنما خص الراسخون في العلم بالذكر لئلا يقلدهم غيرهم في هذا الفهم. بقي سؤال: لم نزل في القرآن المتشابه وقد نزل هاديا للناس جميعا والمتشابه يحول دون الهداية؟   (1) أخرجه أحمد 1/ 266 وأصله في البخاري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 والجواب: قد أنزل الله المتشابه ليميز الصادق الإيمان من ضعيفه، على أن يكون هذا حافزا لعقل المؤمن على أن ينظر ويبحث حتى يصل إلى حد العلم ولا تنس أن الرسالة عامة وفي الناس خواص وعوام، فكلّ خوطب بما يقدر على فهمه، ولذلك يقول تعالى: الراسخون في العلم لا في الدين، وما يتذكر بهذا إلا أولو العقول الصافية، الذين يقولون: ربنا لا تمل قلوبنا بعد هدايتك لنا، وهب لنا من لدنك رحمة ترحمنا وتوفيقا يوفقنا إلى الخير والسداد إنك أنت الوهاب. ربنا إنك جامع الناس ليوم القيامة يوم لا شك فيه، فاغفر لنا ووفقنا واهدنا إنك لا تخلف الميعاد. عاقبة الغرور بالمال والولد والأمثال على ذلك [سورة آل عمران (3) : الآيات 10 الى 13] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 المفردات: وَقُودُ النَّارِ ما توقد به النار من حطب أو فحم. كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ: الدأب: مصدر دأب يدأب، أى: كدح، ثم استعمل فيما عليه الإنسان من شأنه وحاله. الْمِهادُ: الفراش الممهّد. المناسبة: بعد بيان الحق والصفات الواجبة لله وما نزله من الكتب خصوصا القرآن، وبيان فهم الناس لا سيما الراسخون من العلماء: شرع في بيان حال الكفرة بالقرآن المغرورين بالمال والولد. والموصول في الآية يشمل وقد نجران واليهود أو كل كافر بالله. المعنى: يبين الله- سبحانه- حال الكفرة من النصارى واليهود والمشركين وسبب عنادهم وغرورهم الزائف في أموالهم وأولادهم: وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَأَوْلاداً [سورة سبأ آية 35] فيرد الله عليهم في غير موضع في القرآن. إن الذين كفروا بآياتنا وكذبوا رسلنا واجترءوا على كلامنا لن تكون أموالهم ولا أولادهم بدلا لهم من الله ورسوله تغنيهم عنه، فإنهم إن تمادوا في غيهم وساروا في ضلالهم فأولئك البعيدون في درجات العتو والفساد هم وقود النار وأصحابها. وذلك لأن حالهم كحال آل فرعون ومن قبله من المؤتفكات كقبائل عاد وثمود كان حالهم أنهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، والله سريع طلبه شديد عقابه، قوى عذابه. سبب النزول: روى عن سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس- رضى الله عنهم- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أصاب قريشا ببدر ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق بنى قينقاع وحذرهم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ينزل بهم ما نزل بقريش، فقالوا: لا يغرنك أنك لاقيت قوما أغمارا لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة لئن قاتلتنا لعلمت أنّا نحن الناس، فنزلت الآية. قل لهم يا محمد: ستغلبون أيها اليهود عن قريب في الدنيا ولا يغرنكم مالكم وأولادكم فالأمر ليس بكثرتهم وإنما هو بيد الله- سبحانه وتعالى- وقد تحقق هذا، بقتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وفتح خيبر وضرب الجزية على من عداهم، وهذا من أوضح الشواهد على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم ورسالته. وستحشرون في الآخرة إلى جهنم وبئس المهاد ما مهدتم لأنفسكم. وتالله لقد كان لكم آية عظيمة دالة على صدق ما يقوله القرآن لكم: من أنكم ستغلبون آية في جماعتين التقتا كانت إحداهما معتزة بكثرتها مغرورة بمالها وعددها كافرة بالله وتقاتل في سبيل الشيطان. والأخرى فئة قليلة العدد صابرة مؤمنة بالله تقاتل في سبيل الله. وقد كان الأمر كذلك في موقعة بدر فقد كان المسلمون ثلاثمائة رجل تقريبا والكافرون حوالى الألف. ومع هذا فقد رأى المؤمنون الكافرين مثلهم فقط لأن الله قللهم في أعينهم حتى يقاتل الرجل المسلم رجلين فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ [سورة الأنفال آية 66] . ويصح أن يكون المراد أن المؤمنين يرون أنفسهم مثلي ما هم عليه من العدد حتى يطمئنوا وتقوى روحهم، وجملة القول أن الآية ترشدنا إلى الاعتبار بمثل الواقعة المشار إليها فقد غلبت فئة قليلة فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين، ولذلك قال: إن في ذلك لعبرة لأصحاب الأبصار الصحيحة التي تنظر فتفكر فتعتبر. الإنسان وشهواته في الدنيا [سورة آل عمران (3) : آية 14] زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 المفردات: زُيِّنَ لِلنَّاسِ: حبب لهم. الشَّهَواتِ: جمع شهوة، وهي انفعال النفس بسبب الشعور بالحاجة إلى ما تستلذه. الْمُسَوَّمَةِ: المعلمة، وقيل: السائمة التي ترعى في المروج والمرعى. الْقَناطِيرِ: جمع قنطار، وهو المال الكثير. المعنى: أن وفد نصارى نجران وغيرهم من صناديد الكفر عرف في خلال كلامهم أنهم يعرفون الحق كما يعرفون أبناءهم، وما يمنعهم من إظهاره إلا خوفهم على ما عندهم من رئاسة كاذبة أو مال زائل، وذلك أنهم يحبون الدنيا حبا أعمى، فبين الله حب الإنسان للدنيا ومظاهرها ثم بين ما هو خير من ذلك كله. وهذه الأصناف المذكورة قد زين الله حبها للناس وغرسه في قلوبهم حتى صار غريزة عندهم، ومن أحب شيئا ولم يزين له يوشك أن ينفر منه، ومن أحبه وزين له فلا يكاد يرجع عنه ولا يقبل فيه كلاما ولا يرى فيه عوجا ... ولقد عبر القرآن عن هذه الأشياء بالشهوة مبالغة في كونها مشتهاة مرغوبا فيها وإيذانا بشدة تعلق الناس بها، وللإشارة إلى أن حبها من طبيعة الإنسان الحيوانية، فإن الشهوة من صفات البهائم حتى يعتدل الإنسان في حبه لها. إن الإسلام دين ودولة، وعمل واعتقاد، واعتدال وتوسط قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف 32] فليس ديننا دين رهبنة وتقشف وزهد يفهم بعض الناس ... فليس ممنوعا حب هذه الأصناف ولكن الممنوع المبالغة والإسراف فيها حتى تطغى على الناحية الدينية ومظاهرها. والنساء والبنون زهرة الحياة ومتعة النفس ولكن إلى حد «الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة [إن نظر إليها سرته، وإن أمرها أطاعته، وإن غاب حفظته في نفسها وماله» ] . وأما البنون فهم فلذة أكبادنا وقرة أعيننا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والمراد بها المال الكثير وحبه غريزة في الإنسان، ولقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون لهما ثالث ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب» . والمال يكون مذموما إذا جعل صاحبه يطغى ويختال ويتكبر ويمنع حقوق الله والناس وأما إذا أعطى به الحقوق وقام بالواجبات الدينية والوطنية فنعم المال هو عدة وصلة وقربى إلى الله. والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك كله متاع الحياة الدنيا وزينتها، وهذه الأصناف تذم إن كانت سببا في الشر والبعد عن الله وهذا هو المشاهد في الكثير الآن وعند ذلك تكون خطرا على صاحبها فإن كانت سببا في الخير ولم تمنع صاحبها من القيام بالواجب بل ساعدته كانت خيرا له. ما هو خير من الدنيا وما فيها [سورة آل عمران (3) : الآيات 15 الى 17] قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17) المفردات: مُطَهَّرَةٌ: طاهرات من دنس الفواحش والحيض والنفاس. الْقانِتِينَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 الملازمين للطاعة مع الخضوع. بِالْأَسْحارِ: جمع سحر، هو الوقت الذي يختلط فيه ظلام آخر الليل بضياء النهار. المعنى: قل لهم يا محمد: أأخبركم بما هو خير مما سبق من زينة الدنيا ومتاعها؟ وفي التعبير (بخير) إشارة إلى أن ما مضى من النساء والبنين ... إلخ فيه خير بلا شك بشرط أن يستعمل في حقه وألا يطغى حبه على غيره وعلى العمل لوجه الله. وهو تفصيل لقوله تعالى: وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ وإبهام الخبر أولا تفخيما لشأنه وتشويقا إليه، ثم تفصيله وتوضيحه بقوله- تعالى: لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ ... الآية، أتم للبيان وأثبت للجنان. للذين أخذوا لأنفسهم وقاية من عذاب الله لهم عند ربهم الذي رباهم وتعهدهم والإضافة إلى ضميرهم فيها مزيد لطف وعناية بهم، لهؤلاء جنات تجرى من تحتها الأنهار ماكثين فيها أبدا، لا يبغون عنها حولا ولهم فيها أزواج مطهرة من دنس الحيض والنفاس طاهرات من دنس الفواحش والشوائب. وقد جعل الله للمتقين نوعين من الجزاء: نوع مادى وهو الجنة، ونوع روحي وهو رضوان الله وهو أكبر وأعظم من كل نعمة وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ [سورة التوبة آية 72] . والتقوى أمر لا يعلمه إلا الخبير البصير بعباده، ولذا يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «التقوى هاهنا» (ويشير إلى صدره) ويختم الله الآية بقوله: وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ. ومن هم المتقون الله حقيقة؟؟ هم الذين يقولون: ربنا إننا آمنا بك وبرسلك وكتبك بقلوبنا إيمانا حقيقيا، ومن كان هكذا استحق المغفرة والوقاية من عذاب الله ولذا قالوا: فاغفر لنا ذنوبنا وقنا عذاب النار ومن صفاتهم أنهم الصابرون الذين حبسوا أنفسهم عن كل مكروه ومحرم وصبروا على تقوى الله وعلى قضاء الله، ولا شك أن الصبر هو الذي يثبّت النفس عند زوابع الشهوات ولذا قرن التواصي بالصبر مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 التواصي بالحق وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [العصر 3] : وهم الصادقون في إيمانهم وأقوالهم وأفعالهم وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ «1» . والقنوت: المداومة على الخشوع والضراعة، وهم المنفقون أموالهم في سبيل الله نفقة واجبة ومندوبة، وهم المستغفرون بالأسحار، وخص وقت السحر لأن العمل فيه شاق والنفس فيه صافية والدعاء مستجاب، وأفضل صيغة للاستغفار ما رواه البخاري عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «سيد الاستغفار أن تقول: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علىّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت» «2» . الشهادة بالوحدانية والعدل وأن الدين الإسلام [سورة آل عمران (3) : الآيات 18 الى 20] شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)   (1) سورة الزمر آية 33. (2) أخرجه البخاري 11/ 82، 83 في الدعوات باب أفضل الاستغفار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 المفردات: شَهِدَ اللَّهُ الشهادة: عبارة عن الإخبار المقرون بالعلم والإظهار والبيان. الدِّينَ المراد به الملة والشرع. بَغْياً: حسدا أو ظلما. المعنى: أخبر الله- تعالى- ملائكته ورسله بأنه الواحد الأحد لا إله إلا هو، أخبرهم على علم وبين ذلك لهم أتم بيان، والملائكة أخبروا الرسل بتوحيد الله وبينوه لهم، وأولو العلم أخبروا بذلك وبينوه عالمين به ولا يزالون كذلك ... شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم شهد هذه الشهادة قائما بالعدل في الدين والشريعة والكون والطبيعة وفي العبادات والآداب والمعاملات، فالله قد أتقن نظام الكون وأحكمه وعدل بين القوى الروحيّة والمادية، وكانت الأحكام الشرعية مبنية على أساس التوازن الصحيح بين الفرد والأمة وبين الفرد والخالق وبينه وبين نفسه وبينه وبين أخيه وبين الغنى والفقير وهكذا ... إن الدين الذي ارتضاه الله وأحبه لعباده من يوم أن خلق الخلق إلى يوم الدين هو الإسلام، ولا شك أن جميع الأنبياء والمرسلين لا يختلفون في جوهر الدين وهو الإسلام والتوحيد والعدل في كل شيء وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ [آل عمران 85] وما اختلف الذين أوتوه من أهل الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم اليقيني بأن محمدا هو خاتم الأنبياء وهو المبشر به عندهم الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ [سورة البقرة آية 146] . اختلفوا في شأنه حسدا من عند أنفسهم وبغيا بينهم وحرصا على الدنيا وما فيها. ومن يكفر بآيات الله الدالة على صدق الأنبياء بعد هذا فإن الله سريع الحساب وشديد العقاب. فإن حاجوك بعد هذا وجادلوك بعد أن جئتهم بالحق البين فقل لهم: إنى ومن معى من المؤمنين قد أسلمت وجهى لله وانقدت له وأقبلت عليه بعبادتي مخلصا لله وحده معرضا عما سواه، فإن كنتم مسلمين لله مخلصين له فما يمنعكم من اتباعى؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 وقل لليهود والنصارى والمشركين الأميين فإنهم هم الحاضرون والمعاصرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم فقط. قل لهم: أأسلمتم؟؟ فإن أسلموا لك فقد اهتدوا إلى الطريق المستقيم، وإن تولوا وأعرضوا فقل لهم: إنما علىّ البلاغ فقط، والله- سبحانه- البصير بخلقه العليم بحالهم فيحاسبهم ويجازيهم. جزاء قتل الأنبياء ومن يأمر بالمعروف [سورة آل عمران (3) : الآيات 21 الى 22] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22) المفردات: فَبَشِّرْهُمْ: من البشارة والبشرى، وهي: الخبر السار تنبسط له بشرة الوجه، وإطلاق هذا على الخبر الذي سيلقى للكفار من باب التهكم لأن وجوههم ستنقبض له. حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ: بطلت. المعنى: إن الذين يكفرون بآيات الله بعد معرفتها ويقتلون النبيين لأنهم قالوا: ربنا الله، يقتلونهم معتقدين أن قتلهم بغير حق ولا ذنب اللهم إلا قول الحق وتبليغ الرسالة، وهؤلاء هم اليهود، نسب إلى اليهود فعل آبائهم لأنهم راضون عنه، على أنهم هموا بقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 النبي صلّى الله عليه وسلّم إمعانا في الفساد والضلال، ويقتلون كذلك الذين يأمرون بالعدل والقسط ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كالعلماء وكل من نصب نفسه للدفاع عن الدين والحق لله ورسوله. وقتل هؤلاء جريمة كبرى وخسارة عظمى لأممهم، أما من قتل واستشهد في سبيل الله فقد وقع أجره على الله، وفي هذا العصر يسجل التاريخ أن هناك من قتل في سبيل الدعوة إلى الله والوطن وقتلهم جريمة في (حق الوطن) والدين وتسجيل على هؤلاء السفاكين القتلة جرمهم وذنبهم، وهؤلاء القتلة بشرهم بعذاب أليم وقعه شديد خطره، أولئك البعيدون في الضلال بطلت أعمالهم دنيا وأخرى وما لهم في الآخرة من ناصرين يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ «1» . الإعراض عن حكم الله مع الغرور [سورة آل عمران (3) : الآيات 23 الى 25] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25) المفردات: نَصِيباً: جزءا من التوراة. كِتابِ اللَّهِ قيل: هو التوراة، أو القرآن يَفْتَرُونَ: يختلقون ويكذبون.   (1) سورة الشعراء آية 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 سبب النزول: روى أنهم سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على أى دين أنت؟ فقال: على ملة إبراهيم- عليه السلام- قالوا: إن إبراهيم كان يهوديا، فقال صلّى الله عليه وسلّم: إن بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها، فأبوا، وقيل: نزلت في حكم الزنى، وقد اختلفوا لما زنى بعض أشرافهم واحتكموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فحكّم التوراة فأبوا، وقيل اختلف أحبارهم لما أسلم البعض وظل البعض على دينه واحتكموا إلى التوراة ثم أعرض من لم يسلم منهم، والوقائع تؤيد ذلك كله. المعنى: انظر يا محمد واعجب من هؤلاء الذين أوتوا نصيبا من التوراة والباقي قد حرف وغيّر وضاع، وقد بقي الجزء الذي فيه بشارة محمد صلّى الله عليه وسلّم وتعجب من عدم إيمانهم بك مع وضوح الدلالة وإعراضهم عن الكتاب الذي يؤمنون به، أو يعرضون عن القرآن، فهم إذا اختلفوا وحكموا التوراة في الخلاف وعلموا أن الحكم فيها على خلاف أهوائهم أعرضوا وتولوا بعد تردد. وفي التعبير ب ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ إشارة إلى أنهم كانوا يترددون في قبول الحكم ثم يعرضون، وإلى بعد ما بين دعوتهم إلى كتاب الله وإعراضهم عنه وقوله تعالى: وَهُمْ مُعْرِضُونَ إشارة إلى دوام إعراضهم، وأنه ديدن لهم وطبيعة فيهم، وفي قوله: فَرِيقٌ مِنْهُمْ إشارة إلى أن منهم أمة يهدون بالحق وبه يهتدون كعبد الله بن سلام وغيره، وما شجعهم على هذا العناد والجحود إلا اعتقادهم الباطل أنهم لا تصيبهم النار إلا أياما قليلة، فاليهودى يعتقد أنه مهما فعل لا يدخل النار إلا أياما وبعدها يدخل الجنة، وغرهم ما كانوا يختلقونه في الدين كقولهم: إن الأنبياء ستشفع لنا ونحن أولاد الأنبياء وشعب الله المختار، ولقد رد الله عليهم فريتهم في غير موضع من القرآن. فكيف بهم وعلى أى شكل يكونون إذا جمعناهم ليوم لا ريب فيه؟ يوم تنقطع فيه الأنساب ولا ينفع فيه مال ولا بنون، يوم توضع فيه الموازين القسط فلا تظلم نفس شيئا وتوفى كل نفس ما كسبت من خير أو شر وهم لا يظلمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 من مظاهر قدرة الله وعظمته [سورة آل عمران (3) : الآيات 26 الى 27] قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27) المفردات: اللَّهُمَّ: يا الله. الْمُلْكِ: السلطة والتصرف في الأمور المادية والروحية. تَنْزِعُ: تقلع وتخلع. تُولِجُ: تدخل. كان المشركون ينكرون النبوة لشخص يأكل الطعام ويمشى في الأسواق، وأهل الكتاب ينكرون النبوة في غير بنى إسرائيل. والقرآن ملئ بما يسلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ويذكره بأن الأمر كله بيد الله ما شاء فعله. سبب النزول: وفي رواية أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بشر قومه بملك كسرى والروم وقصور صنعاء، فقال المنافقون: ألا تعجبون؟ يمنيكم ويعدكم الباطل. فنزلت الآية. المعنى: إذا تولوا عنك وأعرضوا فعليك أن تلجأ إلى الله مالك الملك وصاحب الأمر. ولا عليك بأس في عناد وفد نجران، بل توجه إلى الله وقل: يا الله يا مالك الملك، أنت المعطى والمانع، ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن، تؤتى الملك والنبوة من تشاء من عبادك، وأممك اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سورة الأنعام آية 124] وتنزع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 الملك ممن تشاء من الأمم والأفراد كما نزعت من بنى إسرائيل النبوة ببعثة النبىّ العربي. والله يعطى من يشاء من عباده الملك إما مع النبوة كما حصل لآل إبراهيم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ والنبوة وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً [سورة النساء آية 54] او ملكا فقط كما هو عند الملوك المعاصرين، وتنزع الملك ممن تشاء من الأفراد والأمم بسبب ظلمهم وفساد حكمهم وسوء سياستهم كما نزعت الملك والنبوة من بني إسرائيل لما خرجوا على الدين وأساءوا الحكم واستعملوا الرشوة والظلم سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا. [سورة الأحزاب آية 62] . وتعز من تشاء وتذل من تشاء، والعزة والذلة لا تتوقفان على الملك أو المال فكم من ملك ذليل، وفقير عزيز الجانب مهاب الطلعة. بيدك وحدك الخير، فكل ما كان أو يكون لا يخلو من خير ونعمة لصاحبه أو للمجموعة، إنك يا رب على ما تشاء قدير. ومن مظاهر القدرة وتمام الملك والعظمة أن الله يدخل الليل في النهار فيزيد، ويدخل النهار في الليل فيزيد، بيده الأمر والكون في قبضته والسموات والأرض مطويات بيمينه. ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي وهل المراد الحياة والموت المعنويان؟ وعلى ذلك فالمثال يخرج العالم من الجاهل والجاهل من العالم والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن. وإن أردنا حياة مادية فمثالها إخراج البيضة من الفرخة والفرخة من البيضة وإن قال الأطباء: إن في النطفة والبيضة حياة أجيب عن ذلك بأنها حياة بالعرف الخاص وأما العرف العام السائد فيفهم أن البيضة ليس فيها حياة. ولعل المثال الذي يتفق عليه الكل خروج النبات من الحبة اليابسة والعكس، وما المانع أن يقال: إن الحيوان يخرج من الغذاء بمعنى أنه يتكون منه، ولا شك أنه ليس فيه حياة، وإذا كان هذا شأن المولى- جل شأنه- فلا مانع أن يخرج من العرب الجاهلين محمدا صلّى الله عليه وسلّم ويخرج من الأنبياء الإسرائيليين هؤلاء المفسدين. ويرزق الله من يشاء بغير حساب يطلب منه ولا رقيب، وبغير تعب ولا مشقة فله خزائن السموات والأرض- سبحانه وتعالى- الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 موالاة المؤمنين للكافرين والتحذير من يوم القيامة [سورة آل عمران (3) : الآيات 28 الى 30] لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30) المفردات: إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا: إلا أن تخافوا. تُقاةً اتقاء، أو شيئا يجب اتقاؤه. مُحْضَراً أى: حاضرا. أَمَداً الأمد: المسافة، وقيل: مدة من الزمان قد تنحصر إذا قلت: أمد كذا. سبب النزول: روى أن بعض المؤمنين كانوا يغترون بقوة الكفار ويعتزون بهم، وقد وقعت حوادث لبعض المؤمنين كانوا يوالون فيها اليهود أو المشركين لقرابات وصلات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 أما المناسبة: فبعد ما أثبت القرآن أن الأمر بيد الله وأنه المعطى والمانع، وأنه على كل شيء قدير. فيجب الالتجاء إليه وحده، وإذا كانت العزة لله ولرسوله وللمؤمنين فمن الخطأ الالتجاء إلى غير أوليائه. المعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء تلقون إليهم بالمودة وتسرون إليهم بأسراركم مؤثرين مصلحة الكفار على مصلحة المؤمنين، وإن كان في ذلك مصلحة جزئية فمصلحة المسلمين العامة أولى وأحق لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ [المجادلة 22] ومن يفعل ذلك ويوالى الكافرين من دون المؤمنين فيعمل ضد مصلحتهم من حيث كونهم مؤمنين، أى: يكون جاسوسا مخلصا للكفار، فليس من ولاية الله في شيء، أى: يكون بينه وبين الله غاية البعد مطرودا من رحمته، ومن يتولهم منكم فإنه منهم. إذن موالاة الكافرين أمر ينفر منه الشرع ولا يقره الدين في حال من الأحوال إلا في حال أن تخافوا منهم أمرا يجب اتقاؤه كالقتل مثلا، وهذا إذا كنت في دارهم فدارهم باللسان فقط إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ [سورة النحل آية 106] . ويحذركم الله عقابه، وفي ذكر (نفسه) إشارة إلى أن الوعيد صادر من ذاته ونفسه وهو القادر على كل شيء وإلى الله المصير والمرجع. قل لهم يا محمد: إن تخفوا ما في صدوركم وتكتموه أو تبدوه وتظهروه فالله يعلمه ويجازى عليه وهو يعلم ما في السموات لأنه يعلم بذات الصدور ومنها الميل إلى الكفار أو البعد عنهم، والله على كل شيء قدير. واحذروا يوم تجد كل نفس ما عملت في الدنيا من خير مهما قل أو كثر وما عملت من شر مهما صغر أو كبر حاضرا أمامها تأخذ جزاءه وفائدته أو يحلق بها ضرره وخطره فإن كان العمل خيرا سرت له وتلقته باليمين، وإن كان شرا ودت لو يكون بينها وبين عملها بعد ما بين المشرقين، ولكن أين لها هذا؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 ويحذركم الله نفسه وعقابه والله بهذا التحذير الشديد وذكر العقاب الصارم رءوف بعباده فإنهم حينما يعرفون جزاءهم ومصيرهم لا شك يرجعون عن غيهم، أليس هذا من باب الرحمة؟ يؤخذ من الآية الشريفة وما لا لابسها من أسباب النزول: 1- أن الله حرم إفشاء الأسرار للكفار التي تضر الجماعة الإسلامية من حيث هي جماعة (الجاسوسية) . 2- معاملة الكفار غير الحربيين لا مانع أن تكون حسنة ما داموا لم يظاهروا علينا أحدا أو يضرونا بضرر. 3- الكفار الذين آذونا أو ظاهروا على إخراجنا أو إخراج المسلمين من بلادهم كفلسطين مثلا فلا تحل موالاتهم بل تجب معاداتهم إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ. والذى ينطبق عليهم هذا هم اليهود والإنجليز والفرنسيون والأمريكان وكل من يقف في سبيل استقلالنا. محبة الله باتباع رسوله وطاعته [سورة آل عمران (3) : الآيات 31 الى 32] قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32) نزلت هذه الآية خطابا لوفد نجران فإنهم كانوا يدّعون أنهم أبناء الله وأحباؤه، والخطاب فيها عام، وقيل: نزلت ردا على جماعة ادعوا أمام الرسول- عليه السلام- أنهم يحبون ربهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 المعنى: قل لهم يا محمد: إن كنتم تحبون الله حقيقة فاتبعوني فإن ما جئت به من عنده مبين لصفاته وأوامره ونواهيه، والمحب الصادق حريص على معرفة المحبوب ومعرفة أمره ونهيه ليتقرب إليه بامتثال أمره واجتناب نهيه، فإن اتبعتمونى يحببكم الله ويوفقكم ويهديكم إلى سواء السبيل ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم. قل لهم، أطيعوا الله باتباع كلامه، والرسول باتباع سنته والاهتداء بهديه واقتفاء أثره، فإن تولوا وأعرضوا ولم يجيبوك لدعوتك غرورا منهم بدعواهم محبون لله وأنهم أبناؤه فاعلم أن الله لا يحب الكافرين الذين لا ينظرون في آيات الله ويهتدون إلى الدين الحنيف. اصطفاء الأنبياء وسلالتهم [سورة آل عمران (3) : الآيات 33 الى 37] إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 المفردات: اصْطَفى: اختار. ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ الذرية: تطلق على الأولاد، والمراد ذرية شبه بعضها بعضا. مُحَرَّراً: معتقا خالصا للعبادة وخدمة المسجد. أُعِيذُها العوذ: الالتجاء إلى الغير، ومعنى الاستعاذة بالله: الالتجاء إليه، وتكون بالدعاء والرجاء. المناسبة: لما بين الله أن محبته متوقفة على اتباع الرسول وأن طاعة الله مقرونة بطاعة الرسول، ناسب أن يبين الرسل ومن اصطفاهم من الخلق. المعنى: إن الله اختار آدم أبا البشر: خلقه بيده، ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة بالسجود له وأسكنه الجنة وهبط منها لحكمة، الله يعلمها، واصطفى نوحا وجعله أول رسول بعث إلى الناس لما عبدوا الأوثان. وانتقم له بإغراقهم ونجاته هو ومن اتبعه، واصطفى آل إبراهيم ومنهم سيد البشر وخاتم الأنبياء، واصطفى من ذرية إبراهيم آل عمران، وعمران هذا هو أبو مريم وجد عيسى- عليه السلام-. فالله اختار هؤلاء وجعلهم صفوة الخلق وخيارهم وجعل النبوة والرسالة فيهم. ذرية بعضها يشبه بعضا في الفضل والمزية فهم خيار من خيار من خيار. واذكر وقت أن قالت امرأة عمران- قيل: كان اسمها حنة وكانت عاقرا لا تلد- رب إنى نذرت لك ما في بطني خالصا لوجهك ولعبادتك لا يشتغل بشيء آخر سوى خدمة بيتك، ودعت الله أن يتقبل منها هذا النذر، إنك يا رب أنت السميع لكل قول ودعاء العليم بنية صاحبه، وقد كان الله سميعا لقول امرأة عمران عليما بنيتها. ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكر أم أنثى، فلما وضعتها قالت متحسرة حزينة: إنى وضعتها أنثى وذلك أنه ما كان يؤخذ لخدمة البيت إلا الذكور لأن الأنثى تحيض وتلد فلا تصلح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 لهذا والله أعلم بما وضعت وبمكانتها وأنها خير من كثير من الذكور، وقد بين ذلك بقوله- تعالى-: وَلَيْسَ الذَّكَرُ الذي طلبت كالأنثى التي وضعت، بل هذه الأنثى خير مما كنت ترغبينه من الذكور. قالت امرأة عمران: إنى سميتها مريم خادمة الرب آمل أن تكون بأمرك من العابدات وإنى أستعيذ بالله وأدعوه أن يقيها هي وذريتها (عيسى) من الشيطان وسلطانه عليهما فاستجاب الله دعاءها، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما من مولود إلا يمسه الشيطان فيستهل صارخا من مسه إلا مريم وابنها» «1» والمعنى في الحديث أن الشيطان يطمع في إغواء كل مولود بحيث يؤثر فيه إلا مريم وابنها، فالحديث من باب التمثيل لا الحقيقة، وهذا لا يمنع أن إبليس كان يوسوس لعيسى- عليه السلام- كما ثبت في إنجيل مرقص، ومع هذا ما كان يطيعه، فقبل الله مريم من أمها بأبلغ قبول حسن، ورضى أن تكون محررة خالصة للعبادة وخدمة البيت ورباها تربية عالية تشمل الجسد والروح وكفاها فخرا بهذا. وجعل زكريا (وكان رجلا معروفا بالخلق والتقوى وكان زوج خالتها) كافلا لها وراعيا حتى شبت وترعرعت وكان كلما دخل عليها المحراب وجد عندها خيرا كثيرا وفضلا من الرزق فيقول لها: يا مريم أنى لك هذا؟ قالت: هو من عند الله رازق الناس بتسخير بعضهم لبعض، إن الله يرزق من يشاء من عباده بغير حساب. العبرة من القصة: المشركون وأهل الكتاب كانوا ينكرون على النبي صلّى الله عليه وسلّم نبوته لأنه بشر مثلهم وليس من بنى إسرائيل فيرد الله عليهم: إن الله اصطفى آدم أبا البشر ونوحا الأب الثاني واصطفى من ذريتهما آل إبراهيم ومن آل ابراهيم آل عمران. والمشركون يعترفون باصطفاء آدم ونوح وآل إبراهيم لأنهم من سلالته، وبنو إسرائيل يعترفون بهذا، واصطفاء آل عمران لأنهم من سلالة بنى إسرائيل حفيد إبراهيم، وإذا كان الله اصطفى هؤلاء على غيرهم من غير مزية سبقت فما المانع له من اصطفاء محمد صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك على العالمين كما اصطفى بنى إسرائيل على غيرهم.   (1) أخرجه البخاري كتاب أحاديث الأنبياء حديث رقم 3431. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ومن هذه الأدلة قصة مريم فكما ولدت من أم عاقر على خلاف المعهود وقبلت أنثى في خدمة البيت كذلك فلم لا يجوز أن يرسل نبي عربي على خلاف المعهود اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ «1» . قصة زكريا ويحيى [سورة آل عمران (3) : الآيات 38 الى 41] هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (41) المفردات: سَيِّداً السيد: الذي يسود قومه ويفضلهم في الشرف والعلم والخلق. وَحَصُوراً الحصر: المنع، والمراد: منوعا نفسه من ارتكاب ما يعاب عليه. آيَةً: علامة. رَمْزاً: إشارة. بِالْعَشِيِّ: الوقت من الزوال إلى الليل. وَالْإِبْكارِ: من طلوع الشمس إلى الضحى.   (1) سورة الأنعام آية 124. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 المعنى: عند ما رأى زكريا حال مريم وما هي عليه من التوفيق والهداية، وما يتفضل الله به عليها من الخير والكرم. هنالك دعا زكريا ربه وتوجه إليه أن يرزقه ولدا صالحا طيبا طاهرا من نسل يعقوب- عليه السلام- إنك يا رب سميع لكل قول ودعاء. فنادته الملائكة وهو قائم يدعو الله ويصلى في المحراب وقالت له: إن الله يبشرك بغلام اسمه يحيى موصوفا بأنه يصدق بعيسى ابن مريم- عليه السلام- وسمّى كلمة الله لأنه نشأ بكلمة الله كن لا على السنة الطبيعية من الولادة بين أب وأم. وهذا- ولا شك- دليل على أنه مهدى موفق حيث إنه أول السابقين المصدقين بعيسى وهكذا السابقون إلى تصديق الرسل- عليهم السلام-. وسيكون يحيى سيدا في قومه يفضلهم في الشرف والخلق والأدب، وسيكون منوعا لنفسه من كل ما يشينها ويحط من شأنها، ولا غرابة فهو في الدنيا نبي وإنه في الآخرة لمن الصالحين. قال: رب أنى يكون لي غلام؟ قال الشيخ محمد عبده ما معناه: إن زكريا لما رأى ما رأى من نعم الله على مريم وتوفيقه لها في الإجابة عن سؤاله. غاب عن حسه وهام في ملكوت الله، واستغرق قلبه في ملاحظة الله وحكمته ونطق بهذا الدعاء وهو على تلك الحال. ولما آب من سفره وعاد من مشاهداته العليا إلى عالم الأسباب والمسببات سأل ربه عن كيفية تلك الاستجابة وهي على غير السنن الكونية إذ هو شيخ مسن وامرأته عاقر. قال تعالى: مثل ذلك الخلق على غير السنة الطبيعية مع امرأة عمران يفعل الله ما يشاء في الكون، ومنه إيجاد ولد لك وامرأتك عاقر. وهكذا يا أهل الكتاب لا تعجبوا من نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فالله يفعل ما يشاء ولا تخلو أفعاله من حكم عالية قد تخفى على الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 قال زكريا: رب اجعل لي علامة تتقدم هذه المكرمة وتؤذن بها، أى: اجعل لي عبادة أتعجل بها شكرك ويكون إتمامها علامة على حصول المقصود، فأمره ألا يكلم الناس ثلاثة أيام بل يشغل نفسه بالعبادة والتسبيح طول الوقت خصوصا في الصباح والمساء والعشىّ والإبكار. مريم وفضل الله عليها [سورة آل عمران (3) : الآيات 42 الى 44] وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) المفردات: اقْنُتِي: الزمى الطاعة مع الخضوع. أَقْلامَهُمْ: قداحهم التي يستهمون بها ويقترعون. المعنى: عدّ الله مريم من أصحاب النفوس الطيبة الطاهرة التي إذا أكرمت بالغت في الطاعة، وإذا مدحت استماتت في العمل والاجتهاد. فقالت الملائكة: يا مريم إن الله اختارك خالصة لخدمة البيت وسدانته، وقبلك وما كان يصلح لهذا إلا الرجال ولكنه طهّرك من كل دنس ورجس وعيب يمنع من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 المكث في المسجد، واصطفاك على نساء العالمين بولادة عيسى ابن مريم وخطاب الملائكة وكمال الهداية والتوفيق وتقوى الله يا مريم الزمى الطاعة وتجملى بالالتجاء إليه وحده واسجدي لله مع الخشوع والخضوع، واركعى مع الراكعين ولا تصلى وحدك. ذلك القصص المنزل عليك يا محمد وفيه أخبار مريم وزكريا من أنباء الغيب وأسرار الخلق التي لم تطلع عليها أنت ولا أحد من قومك وإنما توحى إليك بالروح الأمين جبريل، وما كنت معهم حينما جاءت امرأة عمران وألقت مريم في بيت المقدس، وتنافس الأحبار في رعايتها وخدمتها فهي بنت سيدهم وكبيرهم. واستهموا في ذلك فنال شرف رعايتها زكريا، وما كنت يا محمد لديهم إذ يختصمون. ولقد نفى الله حضور النبي صلّى الله عليه وسلّم تلك المشاهد على سبيل التهكم بهم فلم يبق إلا الوحى من الله- تعالى- وأما تعليم البشر كما قالوا فرد الله عليهم بقوله: لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ «1» وهو النبي الأمى لم يقرأ ولم يكتب فلم تبق إلا المشاهدة وقد نفيت عنه صلّى الله عليه وسلّم. قصة عيسى عليه السلام [سورة آل عمران (3) : الآيات 45 الى 51] إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)   (1) سورة النحل آية 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 المفردات: بِكَلِمَةٍ مِنْهُ المراد بها: عيسى ابن مريم- عليه السلام-. وَجِيهاً: ذا وجاهة وكرامة في الدارين. كَهْلًا: الرجل التام السوىّ. قَضى: أراد شيئا. الْحِكْمَةَ: العلم النافع. الْأَكْمَهَ: من ولد أعمى. هذا شروع في قصة عيسى بعد قصة أمه وقصة زكريا ويحيى أقاربه. المعنى: واذكر يا محمد لقومك وقت أن قالت الملائكة (والمراد بهم جبريل) : إن الله يبشرك يا مريم بعيسى، وعبر عنه (بكلمة منه) إيذانا بأنه خلق خلقا غير عادى استحقّ أن يوصف وحده بقوله: (كلمة منه) وإن كان في الواقع أن جميع الكائنات بكلمة الله إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 اسمه المسيح الذي جاء فرفع الظلم وأنار لقومه الطريق وحملهم على الأخوة الصادقة وكانت مملكته روحانية لا جسدية، والمسيح لقب لعيسى ابن مريم من ألقاب المدح وإنما وصف عيسى بابن مريم مع أن الخطاب معها تسجيلا لوصفه بهذا في كل وقت وزمان وردّا على من ألّهه من أول الأمر، ولبيان أنه ولو كان من غير أب فهو منسوب لها تكريما وبيانا لمكانتها وهو ذو وجاهة في الدنيا عند أتباعه والمؤمنين به، وفي الآخرة عند الله من النبيين أولى العزم والرسل المقربين. ومن أوصافه أنه يكلم الناس في المهد رضيعا حتى يدافع عن أمه وعند تمام رجولته وكلامه تام موزون موفق في كل حال وهو من الصالحين الذين أنعم الله عليهم وأصلح حالهم. ولما بشر الله مريم بعيسى الفذ في تكوينه وخلقته الموصوف بما ذكر قالت مريم مستفهمة: أيكون هذا عن طريق الزواج أم لا؟ ويجوز أنها تكون سألت متعجبة مستعظمة قدرة الله القادر على كل شيء كيف يكون لي ولد وأنا لم أتزوج؟ قال تعالى: مثل ذلك الخلق البديع يخلق الله ما يشاء وقد خلق الخلق كما ترى وخلق السماء والأرض وخلق أبانا آدم من تراب بلا أب ولا أم ثم قال له كن فيكون. وانظر إلى بلاغة القرآن حيث عبر في جانب زكريا كذلك يفعل الله ما يشاء، وهنا كذلك يخلق الله ما يشاء للإشارة إلى أن إيجاد ولد من شيخين عجوزين ليس كإيجاد ولد من أم فقط بلا أب فكان الخلق والإبداع أنسب بعيسى من يحيى. ولذلك عقبه ببيان كيفية الخلق فقال: وإذا أراد أمرا من الأمور قال له كن فيكون والمراد بالأمر هنا الأمر التكويني لا الأمر التكليفي كما في قوله- تعالى- أقيموا الصلاة، مثلا. وهذا تمثيل لعظمة الله ونفاذ أمره وسرعة إنجازه ما يريد حيث شبه حدوث ما يريد عند تعلق إرادته به حالا بطاعة المأمور القادر على الفعل للأمر المطاع، ومما يشبه هذا قوله تعالى ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ أى: أراد أن يكون فكانتا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وما لنا ننكر أن يكون عيسى من غير أب وقد خلق الله آدم من غير أب وأم؟! إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ وقد خلق الله السماء والأرض بل وجميع المخلوقات في الأصل ابتداء من غير تلقيح فالأسباب الظاهرة ليست واجبة وجوبا عقليا مطردا، ونحن نرى كل يوم خوارق للعادات وفلتات للطبيعة فنحار في تعليلها. وإذا كان الأمر كذلك امتنع على العاقل أن ينكر شيئا ويعده مستحيلا عادة ويذهب في تأويله المذاهب. ومن أوصاف عيسى أن الله يعلمه الكتابة بالخط والعلم النافع والتوراة وقد كان عيسى عالما بها واقفا على أسرارها ويقيم الحجج على قومه بنصوصها، وقد علمه الله وأنزل عليه الإنجيل. وكذلك يرسله رسولا إلى بنى إسرائيل كافة ناطقا ومحتجا على صدق رسالته بأنى أخلق- بمعنى أقدر وأصور لا أنشئ وأخترع- من الطين هيئة كهيئة الطير فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله وأمره لا بإذنى وأمرى فأنا مخلوق لا أقدر على هذا، وأبرئ الأكمه والأبرص وأحيى الموتى بإذن الله، وقد أنكروا عليه ذلك فقال لهم: وأخبركم بما تأكلون في بيوتكم وما تدخرون وتحفظون وهكذا مما لا سبيل إلى إنكاره. إن في ذلك لآية لكم على صدقى وصدق رسالتي إن كنتم مؤمنين بالله مصدقين بقدرته الكاملة على كل شيء. وقد أرسل عيسى ابن مريم مصدقا لما تقدمه من التوراة ولم يأت ناسخا لها بل متفقا معها في الأصول العامة في الدين كالتوحيد والبعث ... إلخ. وإن يكن أرسل ليحل لكم بعض ما حرم عليكم بسبب ظلمكم وعنادكم يا بنى إسرائيل فقد حرم عليهم بعض الطيبات كالسمك والشحم فأحلها عيسى- عليه السلام- وجئتكم بآية من ربكم. فاتقوا الله وخافوه وأطيعونى إن الله ربي وربكم فاعبدوه. ترى أنه أمرهم بالتقوى والطاعة فيما جاء به عن ربه وختم ذلك بالتوحيد والاعتراف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 منه بالعبودية له- تعالى- والربوبية، وقال: هذا هو الصراط المستقيم والقول الحق في مريم وابنها فمن تعدى ذلك فهو في ضلال مبين. قصة عيسى مع قومه [سورة آل عمران (3) : الآيات 52 الى 58] فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 المفردات: أَحَسَّ يقال: أحسّ الشيء: أدركه بإحدى الحواس الخمس، وإدراك الأمور المعنوية بها مجاز. الْحَوارِيُّونَ: هم أصحاب عيسى وأنصاره، والحور: البياض وصفوا به لبياض قلوبهم وصفاء سريرتهم. مَكَرُوا المكر: التدبير الخفى المفضى بالممكور به إلى ما لا يحتسب. مُتَوَفِّيكَ التوفي: أخذ الشيء تماما. شروع في قصة عيسى مع قومه حيث دعاهم للإيمان به فآمن به البعض وكفر به البعض، ولم يتعرض القرآن الكريم هنا إلى ولادته ونشأته إيجاز واختصارا، وإنما ذكر هنا ما يفيد تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم وبيان أن الآيات الكونية مهما عظمت لا يتوقف عليها الإيمان وإنما الإيمان يتوقف على هداية الله وتوفيقه. المعنى: فلما تحقق كفرهم عنده تحقّق ما يدرك بالحواس، وعلم علما أكيدا بأن منهم الجاحدين والمنكرين توجه إلى البحث عن المستعدين لقبول الدعوة ومن في قلوبهم نور الإيمان فقال: من ينصرني ملتجئا إلى الله؟ ومن الذين يضيفون أنفسهم إلى الله في نصرتي ويكونون حزبى وجماعتي؟ قال الحواريون: نحن أنصار الله ومن ينصر الرسول فقد نصر الله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ [النساء 80] نحن أنصار الله آمنا به إيمانا صادقا واتبعنا رسله واشهد بأنا مسلمون إذ الإسلام في جوهره لا يختلف فيه دين عن دين. ربنا آمنا وصدقنا بما أنزلت في كتابك واتبعنا الرسول عيسى ابن مريم، فاكتبنا مع الشاهدين الذين يشهدون لأنبيائك بالصدق. ومكر كفار بني إسرائيل الذين أحس عيسى منهم الكفر وهموا بقتله وجمعوا جموعهم للفتك به وأبطل الله مكرهم فلم ينجحوا فيما دبروا وعبر عن ذلك بقوله: ومكر الله للمشاكلة، والمكر سيّئ وحسن، ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله والله خير الماكرين. مكر الله بهم إذ قال الله يا عيسى: إنى موافيك أجلك كاملا ولن يعتدى عليك معتد أبدا، فهذه بشارة له بنجاته من مكرهم وتدبيرهم، ورافعك في مكان علىّ. فالرفع رفع مكانة لا مكان، كما قال تعالى في شأن إدريس- عليه السلام-: وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا [سورة مريم آية 57] وكقوله في المؤمنين: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 المعنى- والله أعلم به- أن عيسى رفع إلى السماء وأنه سينزل إلى آخر الدنيا ويستوفى أجله ثم يموت. ومن إكرام الله لعيسى- عليه السلام- أنه قد جعل الذين اتبعوه في الدين وآمنوا به فوق الذين كفروا، والمراد أنهم أعلى منهم روحا وأحسن خلقا وأكمل آدابا، وقيل: فوقهم في الحكم والسيادة وإن يكن هذا غير مطرد بالنسبة لليهود والنصارى. والمعروف الذي يحدثنا به التاريخ أن كل جماعة تتمسك بدينها وآدابه وأخلاقه لا بد أن تكون فوق الجميع هذا في الدنيا، وأما في الآخرة فالمرجع لله وحده، فأما الذين كفروا فيعذبون العذاب الشديد الملائم لما اقترفوا من ذنب في الدنيا وما لهم في الآخرة من ناصر ومعين. وأما الذين آمنوا وعملوا صالحا فأولئك يوفيهم الله حقهم ويعطيهم أجرهم والله لا يحب الظالمين ولا يهديهم إلى الخير أبدا. ذلك الذي تقدم من خبر عيسى نتلوه عليك يا محمد وهو من الآيات الواضحات الدالة على صدق نبوتك وهو من الذكر الحكيم. الرد على ألوهية عيسى وقصة المباهلة [سورة آل عمران (3) : الآيات 59 الى 63] إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 المفردات: حَاجَّكَ: جادلك. نَبْتَهِلْ ابتهل الرجل: دعا وتضرع، وابتهل القوم: تلاعنوا، والبهلة: اللعنة. سبب النزول: روى أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما لك تشتم صاحبنا؟ قال: ما أقول؟ قالوا: تقول: إنه عبد الله. قال النبي صلّى الله عليه وسلّم أجل هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول، فغضبوا وقالوا: هل رأيت إنسانا قط من غير أب؟ فإن كنت صادقا فأرنا مثله، فنزلت هذه الآية: إن مثل عيسى عند الله : وحقا صدق الله إذ يقول: وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً [سورة الفرقان آية 33] . المعنى: إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم كلاهما خلق خلقا غريبا غير عادى فآدم خلق من غير أب ولا أم خلقه من تراب وقدره جسدا من طين ثم قال له كن فكان وعيسى خلق من غير أب فقط. فقد شبه الغريب بالأغرب منه. البيان الحق والقول الصدق من ربك بلا مراء ولا شك فلا تكن يا محمد أنت وأمتك من الممترين الشاكين وهذا الأسلوب يثير في النبي الكريم وأمته معاني اليقين والاطمئنان إلى الأخبار السماوية. روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما حاجوه بعد هذا طلب منهم المباهلة وخرج هو والحسن والحسين وفاطمة وعلى فلما طلب منهم المباهلة قالوا: أنظرنا. ثم تشاوروا وقالوا: ما باهل قوم نبيا إلا هلكوا، فلما كان الغد صالحوا النبي صلّى الله عليه وسلّم على الجزية وهي ألفان من الثياب ألف في صفر وألف في رجب ومعها دراهم. وقد روى غير ذلك إلا أن الكل قد أجمع على أنهم طولبوا بالمباهلة فأبوا وقد خرج محمد صلّى الله عليه وسلّم وآل بيته الكرام لمباهلتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وهذا من الأدلة على صدق النبي محمد وأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ألا لعنة الله على الظالمين. فمن حاجك في شأن عيسى بعد هذا فقل لهم: تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نتباهل وندعو الله أن يلعن الكاذب ويطرده من رحمته. فما أمكنهم أن يقدموا على المباهلة كما روى سابقا إن هذا لهو القصص الحق لا مرية فيه ولا جدال وليس هناك إله إلا الله العزيز الذي لا يغالب، الحكيم في كل شيء. فإن تولوا بعد هذا فإن الله عليم بالمفسدين الذين هم منهم وسيجازيهم على ذلك. كلمة التوحيد وملة إبراهيم [سورة آل عمران (3) : الآيات 64 الى 68] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 المفردات: سَواءٍ السواء: العدل والوسط. أَرْباباً: جمع رب، وهو السيد المربى المطاع فيما يأمر. تُحَاجُّونَ: تخاصمون وتجادلون. حَنِيفاً: مائلا عن الباطل. مُسْلِماً منقادا لله وحده. المعنى: بين الله القصص الحق والخبر الصدق في عيسى وأن أهل الكتاب قد أفرط البعض فجعله إلها وفرط البعض الآخر فنعته بما لا يصح، وانتهى أمرهم إلى المباهلة فغلبهم الرسول فيها بالعاطفة بعد الحجة والبرهان. ثم أراد القرآن أن يسلك بهم سبيلا آخر حيث دعاهم إلى شيء لا يمكن أن يفلتوا منه ويتملصوا وهو: تعالوا إلى العدل والوسط والكلمة السواء: ألا نعبد إلا الله وألا نشرك وشيئا وألا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من غير الله فكل دين لا يختلف عن الآخر في إثبات الوحدانية والربوبية لله تعالى. وإذا كان الأمر كذلك فهيا بنا جميعا إلى الأمر الوسط المسلّم من الجميع. وإن اعترضنا شيء وجب أن نرده إلى أصل التوحيد وكلمته فلا نقول إذن: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله فإن تولى اليهود والنصارى بعد هذا وأعرضوا فقولوا لهم: اشهدوا بأنا مسلمون حقا منقادون لله نعبده وحده مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، أما أنتم فلا!!! المحاجة في إبراهيم: روى أن اليهود قالوا: إن إبراهيم كان يهوديا، وقال النصارى: إنه كان نصرانيا وتحاكموا إلى رسول الله فنزلت الآية : يا أهل الكتاب لم تتخاصمون في شأن إبراهيم وشريعته وقد أنزلت التوراة والإنجيل من بعده فكيف تدعون أنه كان يهوديا أو نصرانيا أعميتم عن إدراك أبسط الأشياء فلا تعقلون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 ها أنتم هؤلاء تحاجون فيما لكم به نوع من العلم والمعرفة وهو عيسى- عليه السلام- فعلى أى أساس تحاجون في شأن إبراهيم- عليه السلام- وليس لكم به علم يصلح أساسا للمحاجة والمخاصمة، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مائلا عن الشرك بالله والوثنية. فلم يقل: عزير ابن الله، ولا المسيح ابن الله بل كان مسلما منقادا لله- سبحانه وتعالى- وما كان من المشركين كأهل الكتاب والمشركين من العرب وما لكم ولإبراهيم؟؟ إن أولى الناس وأحقهم بإبراهيم من اتبعوه من المؤمنين به خصوصا هذا النبي محمد والذين معه من المؤمنين، إذ الكل متفق معه في الوحدانية والألوهية لله تعالى، والله ولى المؤمنين. من مواقف أهل الكتاب [سورة آل عمران (3) : الآيات 69 الى 74] وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 المفردات: يُضِلُّونَكُمْ: يكسبونكم المعصية بالرجوع عن دين الإسلام والمخالفة له، والضلال: نوع من الهلاك. تَلْبِسُونَ: تخلطون. وَجْهَ النَّهارِ: أول النهار. المعنى: روى أن معاذ بن جبل وحذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر دعاهم اليهود إلى دينهم فنزلت هذه الآية ، ودت جماعة من أهل الكتاب لو يصدونكم عن دينكم ويخرجونكم من شرعكم بشتى الأساليب وكل الطرق، أحبوا ذلك حبا عميقا من قلوبهم وبذلوا لردتكم عن دينكم كل مرتخص وغال، وفي الواقع ما يضلون إلا أنفسهم إذ قد شغلوها بما لا يجدي بل بما يضر ويلهى عن النظر فيما ينفع وما يشعرون بذلك لأنهم كالأنعام بل هم أضل سبيلا، وأما جزاؤهم على ذلك فالله أعلم به. يا أهل الكتاب قد أرسلت لكم رسل ومعهم كتب فيها ما فيها من العقائد والأعمال والبشارة بالنبي المبعوث من ولد إسماعيل وهو عربي أمى، فلم تكفرون بآيات الله التي نزلت في التوراة والإنجيل؟ لأنكم لم تعملوا بمقتضاها، والآيات التي في القرآن لأنكم لم تؤمنوا بها، والعجب العجاب أنكم تقرون وتشهدون بصدق رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصدق بشارته التي في كتبكم. يا أهل الكتاب لم تخلطون الحق بالباطل وتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض وتخلطون كلام الله المنزل بكلامكم المخترع الباطل وتكتمون الحق الصريح الواضح وهو ما يتعلق بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ومن الغريب أنكم تعلمون خطأكم وخطر هذا العمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 روى أن جماعة من أهل الكتاب قالوا لسفلتهم: آمنوا بمحمد أول النهار واكفروا آخره، فإن سئلتم في ذلك قولوا: آمنا حتى إذا رجعنا إلى التوراة والإنجيل عرفنا أنه ليس النبي المبشر به في التوراة فلعل ذلك يكون مدعاة لرجوع من آمن بمحمد. ولا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من الرسالة والنبوة إلا لمن تبع دينكم، أى: لا تعترفوا أمام العرب مثلا بأنكم تعتقدون أنه يجوز أن يبعث نبي من غير بنى إسرائيل وهذا مبنى على أنهم ينكرون جواز بعثة نبي من العرب بألسنتهم مكابرة وعنادا للنبي صلّى الله عليه وسلّم لا اعتقادا، وأنهم كانوا لا يصرحون باعتقادهم المستكن في أنفسهم إلا لمن آمنوا له من قومهم وهذا مكرهم وخداعهم لئلا يزداد المسلمون ثباتا على الدين، والمشركون دخولا فيه، ولا تؤمنوا لغير أتباعكم لأن المسلمين يحاجونكم عند ربكم يوم القيامة ويغالبونكم عند الله بالحجة، وقوله تعالى: قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ اعتراض على معنى: ليس إظهاركم أو إخفاؤكم له دخل في الهداية بل الهداية من الله والتوفيق، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. الأمانة والوفاء بالعهد عند اليهود [سورة آل عمران (3) : الآيات 75 الى 77] وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 المفردات: (قنطار) القنطار: العقدة الكبيرة من المال، أى: المقدار الكبير منه، وقيل: هو اسم للمعيار الذي يوزن به كالرطل والأوقية. الْأُمِّيِّينَ: العرب. سَبِيلٌ: ذنب وتبعة. بِعَهْدِهِ العهد: ما تلتزم الوفاء به لغيرك. وَأَيْمانِهِمْ: جمع يمين، وهو في الأصل يطلق على اليد المقابلة للشمال، ثم أطلق على الحلف بالله لأن المتعاهد يضع يمينه على يمين صاحبه ويحلف على العهد. المعنى: تقدمت صفة ثابتة لبعض أهل الكتاب خصوصا اليهود وهي حبهم العميق لفتنة المسلمين وإضلالهم. ومنهم من يتصف بالخيانة وعدم الوفاء واستحلال أكل أموال غير اليهود. ولقد أنصفهم القرآن حيث قال: وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ بقطع النظر عن دينك، كالسموءل بن عاديا اليهودي. وكل جماعة فيهم الصالح والطالح، وإن تكن الجماعة اليهودية أغلبها طالح فاسد. وانظر إلى تعبير القرآن الكريم يقول: ومن أهل الكتاب بدل ومنهم للإشارة إلى أن هذه الصفات يعتمدون فيها على الكتب المنزلة عليهم فهم يستحلون أكل مال غير اليهود باسم التوراة التي حرفوها، فهم قد زعموا أن التوراة لم تنههم إلا عن خيانة إخوانهم الإسرائيليين وأما الأميون فليس عليهم ذنب في أكل أموالهم إذ هم شعب الله المختار ومن سواهم لا حرمة له عند الله، فهو مبغوض ولا حق له ولا حرمة وعند ذلك يحل أكل ماله ومثل الأميين غيرهم مما عدا اليهود. وهم يقولون على الله الكذب ويفترونه إذ كل الشعوب والأمم سواء لا فضل لعربي على عجميّ إلا بالتقوى إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [سورة الحجرات آية 13] . والذي سول لهم هذا الزعم وأباح لهم هذا الكذب شياطينهم وأحبارهم فهم الذين حرفوا التوراة وبدلوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 بلى: ردّ عليهم في زعمهم وبيان من الله لكذبهم الصريح وأن القانون الإلهى أن من أوفى بعهده واتقى الله فأولئك الذين يحبهم الله ويعاملهم بالرحمة والعطف ويجازيهم على عملهم أحسن الجزاء والعهد يشمل كل عهد في بيع أو شراء وكل معاملة. وإذا كان هذا جزاء الذين يوفون بعهدهم في المعاملات الدنيوية أفلا يكون الجزاء أوفى لمن يوفى بعهد الله في الدين والمعاملة بينه وبين ربه. ثم بيّن الله- تعالى- جزاء أهل الغدر والحلف مع بيان السبب الذي يحملهم على ذلك فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا ... الآية، روى أنها نزلت في اليهود كتموا ما أنزل الله وبدلوا وحلفوا على ذلك أنه من عند الله، وقد أضاف العهد هنا إلى الله لأنه عهد إلى الناس في كتبه المنزلة أن يلتزموا الصدق والوفاء فيما يتعاهدون ويتعاقدون، وأن يؤدوا الأمانات إلى أهلها كما عهد إليهم أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا فعهد الله يشمل كل هذا. ولما كان الناكث للعهد لا بد أن يأخذ شيئا في مقابل نكثه العهد، عبر عن ذلك بالشراء الذي هو معاوضة ومبادلة في الجملة وسمى ذلك العوض قليلا لأنه مهما كان كثيرا فهو في الواقع قليل بالنسبة لجرمه وذنبه. أولئك الناقضون العهد لا نصيب لهم في الآخرة أصلا ولا يكلمهم الله يوم القيامة غضبا عليهم، ولا ينظر إليهم نظرة عطف ورحمة ولا يزكيهم بالثناء عليهم أصلا ولهم عذاب أليم. من كذبهم وافترائهم على الله أيضا [سورة آل عمران (3) : آية 78] وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 المفردات: يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ من اللّىّ: وهو اللف، أى: يفتلون ألسنتهم ليميلوها عن الآيات المنزلة إلى العبارات المحرفة. المعنى: وإن منهم لجماعة من أحبارهم وعلمائهم يفتلون ألسنتهم ويميلونها عن الآيات المنزلة بأن يزيدوا في كلام الله أو ينقصوا أو يحرفوا الكلم عن مواضعه، ويقرءون كلامهم بنغم وترتيل فيوهمون الناس بأنه من التوراة وأن الكتاب جاء بذلك لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ والواقع أنه ليس منه، ويقولون على الله الكذب ويفترونه وهم يعلمون أنه ليس من عند الله ولكن من عند الشيطان والهوى. فهم لا يعرّضون ولكن يصرحون بذلك لقسوة قلوبهم وفرط جرأتهم وغرورهم. الرد على أهل الكتاب في إشراكهم بالله [سورة آل عمران (3) : الآيات 79 الى 80] ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80) المفردات: رَبَّانِيِّينَ: نسبة إلى الرب، وهو المتشدد في الدين الملتزم طاعة الله. أَرْباباً جمع رب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 سبب النزول: قيل: إن رافع القرظي من اليهود ورئيس وقد نجران من النصارى قال لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أتريد أن نعبدك ونتخذك ربا؟ فقال- عليه الصلاة والسلام-: معاذ الله أن نعبد غير الله أو أن نأمر بغير عبادة الله فما بذلك بعثني ولا بذلك أمرنى فنزلت هذه الآية . المعنى: لا يصح لبشر يمن الله عليه بالكتاب ويهديه إلى الحكمة والصواب في فهم ما أنزل عليه، ويؤتيه النبوة والرسالة ثم بعد هذا يقول للناس: كونوا عبادا لي من دون الله، أى: اعبدوني وحدي أو اعبدوني مع الله، فهذا هو الشرك بعينه، ولكن يقول: كونوا- أيها الناس- ربانيين متمسكين بالدين مطيعين لله أتم طاعة بسبب كونكم تعلّمون الكتاب لغيركم وبسبب كونكم تدرسونه وتتعلمونه، ولا يعقل أن يأمركم باتخاذ الملائكة والأنبياء آلهة تعبد من دون الله كما فعلت اليهود مع عزير والنصارى مع المسيح، أيأمركم هذا النبي بالكفر والفسوق والعصيان بعد أن أرسل هاديا لكم وكنتم مسلمين منقادين لله بالطبيعة والفطرة التي فطر الناس عليها. ويؤخذ من هذه الآية أن التعليم الديني والدراسة للإسلام إن لم تكن مصحوبة بالعمل والطاعة كانت وبالا على صاحبها، بل كان السراج يضيء للناس ويحرق نفسه. الميثاق المأخوذ على أهل الكتاب [سورة آل عمران (3) : الآيات 81 الى 83] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 المفردات: أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ: قبله، الميثاق: العهد المؤكد. أَقْرَرْنا الإقرار قر الشيء: إذا ثبت ولزم قرارة مكانه، وأقر بالشيء إذا نطق بما يدل على ثبوته. إِصْرِي الإصر: العهد المؤكد الذي يمنعه من التهاون. هذه السورة الكريمة من أولها إلى هنا يدور معناها على إثبات رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم الذي يجب أن يؤمن به الكل. وأن دينه هو الحق وهو الإسلام، وكل من تقدمه من الأنبياء والأمم قد أخذ عليهم الميثاق أن يؤمنوا به إذا أدركوه فما بال أهل الكتاب اليوم قد نقضوا العهد والميثاق وأعرضوا عن هذا الدين. المعنى: واذكر يا محمد وقت أن قبل الله الميثاق المأخوذ على الأنبياء وتدخل أممهم معهم تبعا لهم مهما آتيناكم أيها المخاطبون من كتاب وحكم ونبوة ثم جاءكم رسول هو خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبد الله مصدقا لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه. قال الله- تعالى- لمن أخذ عليهم الميثاق: أأقررتم وقبلتم ذلك الذي ذكر من الإيمان بالرسول المصدق لما معكم ونصرته أقبلتم عهدي وميثاقي المؤكد؟ قالوا: أقررنا، ونطقوا بما يدل على ثبوته قال تعالى: فليشهد بعضكم على بعض وأنا معكم جميعا لا يغيب عن علمي شيء. فمن تولى بعد هذا الميثاق المأخوذ قديما ولم يؤمن بالنبي المبعوث في آخر الزمان المصدق لمن تقدمه ولم ينصره كما حصل من أهل الكتاب المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم فأولئك هم الفاسقون الخارجون من ميثاق الله الناقضون عهده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وإذا كان الدين واحدا، والرسل متفقون في الأصول العامة للأديان فما بال أهل الكتاب المعاصرين؟ أيتولون بعد هذا البيان فيبغون غير دين الله الذي هو الإسلام؟! ولله استسلم من في السموات والأرض وخضعوا له وانقادوا لتصرفه بالتكوين والإيجاد هنا إذ هو المتصرف فيهم وهم الخاضعون له، فكل ما يحل بالناس إن كان عن رضا فهم طائعون وإن كان عن غير رضا فهم كارهون، وإلى الله المرجع والمآب. إيمان المؤمنين بكل الأنبياء [سورة آل عمران (3) : الآيات 84 الى 85] قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85) المعنى: قل يا محمد أنت وأمتك: آمنّا بالله الواحد الأحد وما أنزل علينا نحن الأمة المحمدية، وقدم الإيمان بالله على الإيمان بالمنزل لأنه الأصل والأساس، وقدم المنزل علينا على المنزل على الأنبياء السابقين لأنه هو الأصل فهو مصدر المعرفة وما سواه قد غير وبدل فلا يصلح أساسا للمعرفة، والمنزل علينا هو القرآن الكريم، وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وأولاده وما أوتى موسى من التوراة وعيسى من الإنجيل والنبيون كداود وسليمان وغيرهم مما لا يعلمهم إلا الله- سبحانه وتعالى-. أمرنا بشيئين: الإيمان بالله والنبيين إيمانا لا نفرق فيه بين أحد منهم بل نؤمن بالكل على أنه نبي مرسل من قبل المولى- جل شأنه- لأمته يهديها إلى سواء السبيل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 ولا نفعل كما فعل أهل الكتاب يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، ونحن له مسلمون ومنقادون. ومن يبتغ غير الإسلام الذي هو دين الأنبياء والدين الذي ارتضاه الله لعباده ومن يبتغ غيره دينا فلن يقبل منه قطعا وهو في الآخرة من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم ولم يزكوها بالإسلام. حكم الكفر بعد الإيمان [سورة آل عمران (3) : الآيات 86 الى 89] كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89) المفردات: ما في هذه الآيات تقدم شرحه. المعنى: ورد في سبب النزول أنها نزلت في أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رأوا نعت النبي صلّى الله عليه وسلّم في كتابهم وأقروا بذلك وشهدوا أنه حق ولذا كانوا يستفتحون به على المشركين، فلما بعث من غيرهم حسدوا العرب وأنكروه وكفروا به بعد إيمان، وروى في أسباب النزول عدة روايات أخرى في الذين ارتدوا بعد إسلامهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 كيف يهدى الله قوما كهؤلاء اليهود والنصارى كفروا بعد إيمانهم وشهادتهم أن الرسول حق وجاءتهم الآيات الواضحات على صدقه وصدق رسالته؟!! والله لا يهدى القوم الظالمين لأنفسهم فهم قد عرفوا الحق وتنكبوا عنه، فلا أحد أظلم لنفسه منهم وأولئك جزاؤهم أنهم مطردون من رحمة الله وعليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، فالملائكة يدعون عليهم بالطرد من رحمته وكذلك الناس كلهم. خالدين في النار لا يخفف عنهم العذاب ولا هم يمهلون بل سيأخذون أخذ عزيز مقتدر. هذا جزاؤهم إلا من تاب منهم بعد ذلك ورجع إلى الله وأصلح عمله وقلبه فإن الله غفور لما سبق، رحيم بعباده حيث يقبل توبة التائب. أصناف الكفار [سورة آل عمران (3) : الآيات 90 الى 91] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) المفردات: ما فيها من المفردات قد تقدم. المعنى: هؤلاء الكفار ثلاثة أصناف: صنف كفر بعد إيمان ثم تاب توبة صادقة من بعد ذلك فأولئك يقبل الله توبتهم إنه هو الغفور الرحيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وصنف كفر بالله ثم تاب ورجع ثم عاد إلى الكفر فلن تقبل توبته، وقيل: هم الكافرون يتوبون عن بعض الذنوب مع بقائهم على الكفر. وهذا هو معنى لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ. وصنف كفروا بالله وماتوا وهم كفار، فلن يقبل من هؤلاء فدية مهما كثرت ولو كانت ملء الأرض ذهبا، أولئك لهم عذاب أليم وما لهم في الآخرة من ناصر ولا شفيع. الإنفاق أيضا [سورة آل عمران (3) : آية 92] لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) بعد أن حاج الله أهل الكتاب وأبان أنهم يلبسون الحقّ بالباطل وأنهم لم يؤمنوا بالله حقا، بل يكتمون الحق وهم يعلمون أن محمدا رسول الله قد بشر به في التوراة والإنجيل. بعد هذا أراد أن يدلل على عدم إيمانهم بشح نفوسهم وبخلهم بالإنفاق في الخير، والإنفاق لعمري أكبر دليل على صدق الإيمان. وإنهم لن يصلوا إلى البر ولن يكونوا بارين بالله إلا إذا أنفقوا ما يحبون من كريم ما يملكون، أما وقد شحت نفوسهم برديء المال فضلا عن كريمه فهم بعيدون عن الصدق في دعواهم الإيمان والطاعة لمولاهم، وما تنفقون من شيء سواء كان كريما أو رديئا فإن الله به عليم ولا يخفى عليه إخلاصكم ورياؤكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 فرية اليهود في تحريم بعض المطعومات [سورة آل عمران (3) : الآيات 93 الى 95] كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) المفردات: الطَّعامِ المراد به: المطعومات كلها، وكثر استعماله في الخبز والبرّ. حِلًّا: حلالا. إِسْرائِيلَ: لقب يعقوب بن إبراهيم، ومعناه الأمير المجاهد مع الله، ثم شاع إطلاقه على جميع ذريته، وهو المراد هنا. افْتَرى : اختلق وكذب. حَنِيفاً: مائلا عن الباطل إلى الحق. المناسبة: ما تقدم من أول السورة إلى هنا في إثبات التوحيد ونبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وما استتبع ذلك من محاجة أهل الكتاب وبطلان شبههم. وهنا رد عليهم في شبهتين، الأولى: في قولهم: كيف تدعى يا محمد أنك على ملة إبراهيم والنبيين من بعده وأنت تستحل ما كان محرما عندهم من الطعام كلحم الإبل وغيره؟ فنزلت الآية: (كل الطعام) ردا عليهم في دعواهم أن تحريم بعض المطعومات كان من الله على لسان إبراهيم ويعقوب. والثانية تتعلق بمكة وتعظيمها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 المعنى: كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل ولإبراهيم من قبله إلا ما استثنى (وهو ما حرم إسرائيل على نفسه) إذ كل الطعام كان حلالا من قبل أن تنزل التوراة ثم حرم الله عليهم بعض الطيبات في التوراة عقوبة لهم على أفعالهم «1» ، قال- تعالى-: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً [النساء 160] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ [سورة الأنعام آية 146] . وفي هذا رد على اليهود في دعواهم البراءة مما نسبه إليهم القرآن من الظلم والصد عن سبيل الله كثيرا، وبيان أن تحريم ما حرم على إسرائيل لم يكن إلا تأديبا على جرائم ارتكبوها وسيئات اجترحوها، والنبي صلّى الله عليه وسلّم وأمته لم يرتكبوا هذا السيئات، فكيف تحرم عليهم هذه الطيبات؟ وبيان أن إبراهيم لم يكن محرما عليه شيء من هذا إذا التحريم حصل بعد نزول التوراة وكل الطعام كان حلالا قبلها. وهنا سؤال: ما المراد بإسرائيل؟ وما الذي حرمه على نفسه؟ وفي الإجابة على هذا خاض كثير من المفسرين، ونقل بعضهم روايات الله يعلم أنها إسرائيليات مدسوسة، كلها تدور على أن إسرائيل هو يعقوب وقد حرم لحوم الإبل على نفسه، وقيل: شحومها، وقيل: العرق الذي على الفخد. ولكن يرد هذا أن يعقوب بينه وبين نزول التوراة زمن كثير فأى فائدة في التقييد بقوله من قبل أن تنزل التوراة؟ والظاهر أن المراد من إسرائيل بنو إسرائيل، أى: الشعب نفسه وقد حرم على نفسه بعض الأشياء وذلك بسبب أعماله كما مر، وكما وصفهم القرآن بقوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ [سورة النساء آية 160] .   (1) هذا المعنى يستقيم إذا أريد بإسرائيل شعب إسرائيل لا يعقوب نفسه، ولأن التحريم كان بسبب أفعالهم نسب إليهم إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 فما حرمته التوراة فبسبب أعمالهم، ومن قبل نزول التوراة لم يحرم الله عليهم شيئا. ومن باب أولى لم يكن عند إبراهيم محرم. قل يا محمد: فأتوا بالتوراة كتابكم فاتلوها إن كنتم صادقين في دعواكم لا تخافون تكذيبها لكم. روى أنهم لم يجسروا على الإتيان بها فبهتوا وألقموا حجرا ، وفي ذلك دليل ظاهر على صحة نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وأنه يعلم ما في التوراة وأنها مؤيدة لما في القرآن، وأن النبي أولى بإبراهيم، وملته لا تختلف عن ملته إذ كل منهما مائل عن الباطل إلى الحق وما كان حلالا عند إبراهيم فهو حلال عند المسلمين. فمن افترى على الله الكذب، وادعى ما لم ينزل الله في كتاب، فأولئك هم الظالمون بتحويل الحق، والكذب على الله. قل يا محمد: صدق الله فيما أنبأنى به من أنى على دين إبراهيم وأنا أولى الناس به، وإنه لم يحرم الله شيئا على إسرائيل قبل التوراة وقامت الحجة عليكم بذلك، وإذا كان الأمر كذلك فاتبعوا ملة إبراهيم التي أدعوكم إليها فهي الطريق الوسط لا إفراط فيه ولا تفريط، وما كان إبراهيم من المشركين مع الله غيره. شرف بيت الله الحرام، والحج [سورة آل عمران (3) : الآيات 96 الى 97] إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97) المفردات: بِبَكَّةَ أى: مكة، والعرب كثيرا ما تبدل الباء ميما وبالعكس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 مُبارَكاً: كثير الخيرات والبركة. مَقامُ إِبْراهِيمَ موضع قيامه وعبادته حِجُّ الحج: القصد، وفي الشرع: قصد بيت الله الحرام للنسك. وهذه هي الشبهة الثانية التي أثارها أهل الكتاب تكذيبا للنبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوى أنه على ملة إبراهيم. كيف تدعى أنك على ملة إبراهيم وأنك أولى الناس به، وإبراهيم وإسحاق والأنبياء بعدهم كانوا يعظمون بيت المقدس ويصلون إليه، فلو كنت على ما كانوا لعظمته، ولما تحولت إلى الكعبة فخالفت الجميع؟ والآية الكريمة تزيل الشبهة بأوضح بيان. المعنى: إن البيت الحرام الذي هو قبلة المسلمين في الصلاة والدعاء، وإليه تتجه أنظارهم وتهفو قلوبهم، أول بيت وضع معبدا للناس وأسس لذكر الله فيه، بناه إبراهيم وإسماعيل وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْماعِيلُ ثم بنى المسجد الأقصى بعد ذلك بقرون، بناه سليمان بن داود. فصح بهذا أن يكون النبي صلّى الله عليه وسلّم على ملة إبراهيم وإسماعيل ويتوجه كما يتوجهون. فالبيت الحرام أول بيت وضع ليعبد الناس فيه ربهم، وهذه الأولية في الزمان يلزمها الأولية في الشرف والمكانة. ولهذا البيت مزايا: فهو مبارك كثير الخيرات. إذ هو بصحراء وتجبى إليه ثمرات كل شيء، ففيه الفواكه وفيه من خيرات الله الشيء الكثير، ولا مانع أن يكون كثير البركة في الثواب والأجر وهو هداية للناس. ويتوجهون إليه في صلاتهم وتهواه أفئدتهم، على أنه مصدر لهداية النفوس التي تحجه وتعتمر فيه رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [سورة ابراهيم آية 37] ، وفيه آيات واضحات لا تخفى على أحد. منها مقام إبراهيم للصلاة والعبادة، تعرف ذلك العرب جميعا بالتواتر. ومن دخل حرمه كان آمنا على نفسه مطمئنا على ماله حتى ولو كان مطلوبا للثأر، يعرف ذلك العرب في الجاهلية، وقد أقرهم الإسلام على ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وما حصل لمكة أثناء الفتح الإسلامى فليس مما نحن فيه، إذ كان المنادى ينادى من قبل الرسول: من دخل المسجد فهو آمن، ومن دخل داره فهو آمن، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن. أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ. وما حصل في أيام الحجاج فهو من أفاعيل السياسة، وما كان أحد في الجيش يعتقد حل ذلك. ومن مزاياه العالية وجوب الحج إليه على المستطيع من المسلمين. فواجب الله على الناس أن يحج المستطيع منهم، فهو ركن من أركان الدين، وفريضة من فرائض الإسلام، وقد مضت بعض أحكامه في الجزء الثاني واستطاعة الحج أمر موكول للإنسان وضميره ودينه، أما تفسيرها بوجود الزاد والراحلة وأمن الطريق والقدرة على السفر فهذا كله يرجع إلى الدين، ومن جحد ما تقدم وكفر ولم يمتثل أمر الله في الحج وغيره فإن الله لم يوجبه لحاجته إذ هو الغنى عن العالمين جميعا. أهل الكتاب وعنادهم وما يضمرونه للإسلام [سورة آل عمران (3) : الآيات 98 الى 99] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99) المفردات: شَهِيدٌ الشهيد: العالم بالشيء المطلع عليه. تَصُدُّونَ: تصرفون. تَبْغُونَها: تطلبونها. عِوَجاً العوج: الميل عن الاستواء في الأمور المعنوية كالدين مثلا، والمراد هنا: الزيغ والتحريف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 المعنى: بعد أن ذكر الله- سبحانه وتعالى- الأدلة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم واعتراضهم على ذلك ومناقشتهم حتى أفحموا، وبخهم الله على ذلك وعلى كفرهم فقال قُلْ لهم يا محمد: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ التي دلتكم على صدق محمد صلّى الله عليه وسلّم؟ وعلى أى أساس تسيرون؟ قل: هاتوا برهانكم إن كان عندكم برهان، وإذا لم يكن عندكم دليل ولا برهان فاعلموا أن الله شهيد عليكم وسيجازيكم على ما تعملون. قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بمحمد؟ قاصدين بصدكم أن تكون سبيل الله معوجة في نظر من يؤمن لكم ويصدق كلامكم، فأنتم تطلبون لدين الله اعوجاجا وميلا عن القصد- وهي أقوم طريقا وأهدى سبيلا- بتغييركم صفة محمد وكذبكم على الله والحال أنكم تشهدون بصدقه في أعماق نفوسكم، وأنتم الشهود العدول عند قومكم الذين يستأمرونكم ويهتدون بهديكم، ولكن قاتل الله الحسد الكامن والداء الباطن الذي تغلغل في نفوس زعماء وعلماء اليهود والنصارى، وما الله بغافل عن خباياكم وسيجازيكم عليها. توجيهات وعظات [سورة آل عمران (3) : الآيات 100 الى 109] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103) وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 المفردات: يَعْتَصِمْ اعتصم بالشيء: تمسك به فمنع نفسه من الوقوع في الهلاك. حَقَّ تُقاتِهِ: تقاته وتقواه بمعنى واحد، والحق، أى: الواجب الثابت، وأصل الكلام: اتقاء حقا، والمراد: اتقوه التقوى الواجبة. بِحَبْلِ اللَّهِ: هو العهد أو القرآن. شَفا حُفْرَةٍ: طرفها، وأشفى على الشيء: أشرف عليه. أُمَّةٌ: جماعة متحدة مؤتلفة. إِلَى الْخَيْرِ أى: المنافع في الدنيا والآخرة. تَبْيَضُّ: تشرق وتسر. وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ: تكتئب وتحزن. ظُلْماً الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 سبب النزول: روى أنه مر شاس بن قيس اليهودي- وكان شديد الكفر كثير الحسد على المسلمين- مر بنفر من الأنصار يتحدثون فغاظه ذلك حيث اتحد الأوس والخزرج، واجتمعوا بعد الذي كان بينهم في الجاهلية، وقال اللعين: ما لنا معهم إذا تجمعوا من قرار، فأمر شابا من اليهود كان معه: أن اذهب إليهم وذكرهم بيوم بعاث- كان بين الأوس والخزرج وكان الظفر فيه للأوس- وما قيل فيه من الأشعار فتنازع القوم وتصايحوا: السيوف السيوف. وجمع كل فريق منهم جموعه، فبلغ النبي صلّى الله عليه وسلّم هذا فخرج إليهم ومعه المهاجرون والأنصار وقال: أتدعون الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم الله بالإسلام وألف بين قلوبكم؟ فعرف القوم أنها نزعة الشيطان وكيد العدو فألقوا السلاح وبكوا وتعانقوا ثم انصرفوا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. قال ابن جرير: نزل قوله تعالى: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ الآية في شأن شاس اليهودي. ونزلت الآية: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا ... في الأنصار [آل عمران 149] . المعنى: يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب فيما يكيدون لكم ويوقعون بينكم من العداوة والبغضاء، يردوكم بعد أن منّ الله عليكم بالإيمان والمحبة والصفاء كافرين بالله والدين والخلق الكريم وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ [سورة البقرة آية 109] . وكيف تكفرون بالله؟ وكيف تطيعونهم فيما يأمرون به ويشيرون؟ والحال أنكم تتلى عليكم آيات الله. وهي روح الهداية وجماع الخير وحفاظ الإيمان تتلى غضة ندية. وبين أظهركم رسول الله إمام المرسلين ورسول المحبة والخير والألفة والرشاد، فهل يليق بمن أوتوا هذا أن يتبعوا أهواء قوم ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 ومن يعتصم بالله وبكتابه ورسوله فقد تحققت هدايته، لا يضل أبدا ولا يخشى عليه من المهالك أصلا. يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله اتقاء حقا وأدوا واجب التقوى الذي يطلب منكم فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ [سورة التغابن آية 16] على معنى: بالغوا في التقوى وأدوها كاملة حتى لا تتركوا من المستطاع شيئا. ولا تموتن إلا ونفوسكم مخلصة لله، أى: لا تكوننّ على حال سوى الإسلام إذا أدرككم الموت. وتمسكوا بكتاب الله وعهده واعتصموا بحبله جميعا ولا تفرقوا عنه أبدا فإن الداء العضال داء الفرقة والانحلال. وفي الآية تمثيل الاستيثاق بالعهد أو القرآن والوثوق بحمايته، باستمساك المتدلى من مكان مرتفع بحبل متين وثيق يأمن انقطاعه. وحبل الله هو الإيمان والطاعة، أو القرآن لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «القرآن حبل الله المتين، لا تنقضي عجائبه ولا يخلق من كثرة الرد، من قال به صدق ومن عمل به رشد ومن اعتصم به فقد هدى إلى صراط مستقيم» . وقد كان العرب الجاهليون في حروب مستعرة وعداوات وإحن خاصة الأوس والخزرج، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه أفواجا، سل من قلوبهم سخائم الحقد وطهر أرواحهم من نكد العداوة، وأصبحوا بنعمة الله إخوانا متحابين متعاطفين يؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة يدينون بمبدأ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [سورة الحجرات آية 10] وبالحديث: «مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» . وكانوا على شفا حفرة من النار فأنقذهم منها نعم كان العرب على حافة حفرة من النار بسبب شركهم ووثنيتهم لا يفصلهم عن النار إلا الموت فأنقذهم الله بالإسلام والتوحيد: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [سورة إبراهيم آية 34] . مثل هذا البيان القيم والتوجيه السديد يبين الله آياته لكم، وهو في هذا البيان كالذي يرجو منكم الهداية والسداد لعلكم تهتدون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ما يستفاد من الآيات: (100- 103) 1- يجب علينا ألا نؤمن لغير من اتبع ديننا خاصة إذا أشار علينا بالفرقة والخلاف. 2- إذا دهانا أمر أو حل بنا خطر نلجأ إلى القرآن والحديث نستهديهما، ونستلهم رأيهما ففيهما الخير والرشاد في الدنيا والآخرة. 3- الاتحاد وعدم الخلاف والشقاق مع الاعتصام بالعهد والقرآن. أمرنا الله بالاعتصام بحبله والتمسك بدينه ونهانا عن التفرق والاختلاف فقد أنعم علينا بالإسلام وألف بين قلوبنا بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم لكنه يعلم أن هناك نفوسا يصدأ قلبها سريعا ولا يجلوها إلا الوعظ والإرشاد والتذكير بالله واليوم الآخر، فأرشدنا إلى ذلك حيث قال: وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ (الآية) ، فهذه وما بعدها متممة لقوله- تعالى-: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً. خاطب الله- سبحانه وتعالى- الأمة الإسلامية بأسلوب الأمر الصريح فقال: ولتكن منكم أيها المسلمون أمة لها كيان ونظام. أمة مؤتلفة الأعضاء موحدة الجهات لا ترهب أحدا ولا تخاف شيئا، دينها قول الحق ورفع الظلم ولو كان عند سلطان جائر. لا تخشى في الله لومة لائم، لها رئاسة وقانون. كل ذلك قد أشارت إليه كلمة واحدة وهي (أمة) إذ هناك فرق بين قولك: جماعة وأمة. فعلى المسلمين جميعا واجب هو تكوين تلك الأمة. لتكون بهذا الوضع. وعلى الأمة المكونة واجب أن تقوم بمهمة الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر والذب عن حياض الدين ورفع منارة الحق والعدل، فالمسلمون جميعا مكلفون بتكوين جماعة خاصة للدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فهذه الجماعة المكونة بهذا الوضع السابق لها حق الإشراف والتكوين والتوجيه والحساب والعمل على خدمة المسلمين، وهذا أشبه بمجلس الأمة! وعلى الأمة جميعا اختيار طائفة خاصة تقوم بتلك المهمة على سبيل الوجوب. وفي سبيل قيامها بواجبها يجب أن تتوافر فيها شروط العلم الديني والعلوم التي يحتاج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 إليها من يخاطب الناس ويؤثر فيهم مع التقوى والتخلق بأخلاق الأنبياء، وأن يكون الداعية مثلا أعلى في الخلق الكامل، ولنا في رسول الله أسوة حسنة. فإذا توافرت هذه الشروط فأولئك البعيدون في درجات الكمال هم المفلحون في الدنيا والآخرة، وأمة هداتها وقادتها بهذا الوضع لا بد أن تكون العزة والكرامة لها. ولا تكونوا- أيها المسلمون- كالذين تفرقوا واختلفوا اختلافا كثيرا كما حصل لليهود والنصارى من بعد ما جاءتهم البينات الواضحات التي تهديهم إلى السبيل لو اتبعوها، وما ذلك إلا لأنهم تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ولم تكن فيهم أمة تهديهم إلى الخير وترشدهم إلى الطريق لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ. كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (الآيتان 78، 79 من سورة المائدة) . والاختلاف المنهي عنه هو الاختلاف في الأصول العامة للدين وتحكم الهوى وإدخال السياسة المذهبية، والبعد عن مناهل الشريعة والأخذ بالمتشابه. أما الخلاف في الوسائل وكيفية الأداء كاختلاف المذاهب عندنا في كيفية الوضوء لتعدد فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم ولأن القرآن يسمح بكل صورة قال بها إمام من الأئمة، فلا شيء فيه إذ كلهم من رسول الله ملتمس. والمسلمون قد اختلفوا شيعا وأحزابا لما تركوا الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتركوا روح الدين واشتغلوا بالأمور الشكلية. والأمة التي فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فأولئك جميعا هم المفلحون، وأولئك المختلفون والمتفرقون التاركون الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لهم عذاب عظيم. لا يعرف له حد ولا يدرى له كنه. يوم تبيض وجوه المؤمنين وتشرق ويسعى نورهم بين أيديهم وبأيمانهم، وتسود وجوه المختلفين الذين لم يتواصوا بالحق والصبر من أهل الكتاب والمنافقين، وتظلم وتكتئب حينما يرون ما أعد لهم من العذاب المقيم، فأما الذين اسودت وجوههم فيقال لهم تأنيبا وتوبيخا: أكفرتم بالرسول محمد بعد إيمانكم به؟ فقد كنتم على علم ببعثته وعندكم أوصافه والبشارة به، ولكن كفرتم به حسدا وحقدا، وكانوا قبل البعثة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 يستفتحون به على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين. وهذا جزاؤكم أن تذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون. وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله وجنته ورضوانه هم خالدون. تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق الثابت فلا عذر بعد هذا لو اختلفت أمتك وأهملت الاعتصام بحبل الله وتفرقت شيعا وأحزابا، ولم تتواص بالحق والصبر، وما الله يريد بهذه التوجيهات والأحكام ظلما للعباد، حاشا لله أن يضع شيئا في غير موضعه، بل كل هذا لمصلحتهم في الدنيا والآخرة، وكيف لا يكون ذلك؟ ولله في السموات والأرض ملكا وخلقا وتصريفا وحكما، وإلى الله وحده ترجع الأمور. فضل الأمة الإسلامية على غيرها [سورة آل عمران (3) : الآيات 110 الى 112] كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (112) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 المفردات: (كان) فعل يدل على الوجود والحصول في الماضي بقطع النظر عن الدوام أو الانقطاع، وقد يستعمل للأزلية كما في صفاته تعالى: وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً. الْأَذى: الضرر البسيط. يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ: كناية عن الانهزام، فالمنهزم يحول ظهره إلى عدوه. ضُرِبَتْ: ألصقت بهم وأثرت فيهم. الذِّلَّةُ: الذل. ثُقِفُوا: وجدوا. بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ الحبل: العهد. وَباؤُ: رجعوا، والمراد كانوا أحقّاء بغضب الله، مأخوذ هذا من البواء، أى: المساواة، يقال: باء فلان بدم فلان: إذا كان حقيقا أن يقتل به لمساواته له، والمراد حلوا في العذاب، من المباءة، وهو: المكان. يَعْتَدُونَ: يتجاوزون الحد. هذا كلام مستأنف سيق لتثبيت المؤمنين على ما هم عليه من الاعتصام بالله والاتفاق على الحق والدعوة إلى الخير على أنه تحريض وإلهاب للهمم. المعنى: أنتم خير أمة في الوجود الآن، وذلك لأن جميع الأمم قد غلب عليها الفساد وعمتها الفوضى، فلا يعرف فيها معروف ولا ينكر فيها منكر، فأنتم خير أمة أخرجت للناس، وذلك لأنكم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله إيمانا كاملا صادقا «والإيمان بالله على هذا النحو لا يكون إلا إذا استوعب صاحبه جميع ما يجب الإيمان به، فلو أخلّ بشيء لم يكن مؤمنا بالله- تعالى- إيمانا كاملا، وإنما قدم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر على الإيمان بالله لأنهما أظهر في بيان فضل المسلمين على غيرهم، على أن الإيمان يدعيه أهل الكتاب وإن تكن دعوى باطلة» . ولو أن أهل الكتاب آمنوا إيمانا حقيقيا لكان خيرا لهم إذ هم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، أو يؤمنون ببعض الرسل كموسى وعيسى، ويكفرون بمحمد، على أنهم كيف يدعون الإيمان وفي صلب كتبهم البشارة بمحمد وصفته فأنكروا كل ذلك ولم يؤمنوا به؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وقد استطرد القرآن فقال: من أهل الكتاب قوم مؤمنون حقيقة كعبد الله بن سلام وأحزابه وكثير منهم فاسقون وخارجون عن حدود دينهم وكتبهم. ولو سئل أحبار اليهود عن أنفسهم لما قالوا أكثر من ذلك. هؤلاء اليهود موصوفون بما يأتى: لن يضروكم أبدا إلا ضررا بسيطا كالهجاء والخوض في النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي عرضه والتنفير من الدين الإسلامى. وإن يقاتلوكم ينهزموا أمامكم ويولوكم الأدبار، وهذا ليس بالجديد على أمثالهم ثم بعد هذا لا ينصرون أبدا. وصفهم القرآن بثلاث: عدم الضرر. والفرار في الحرب. وعدم النصر ولكن هذا مع من؟ مع قوم نصروا الله فنصرهم يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ فما دمنا نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر ونؤمن بالله إيمانا صحيحا فلا بد أن نكون أقويا أعزاء، وما داموا هم فاسقين خارجين عن حدود الله والطاعة والإيمان يكون هذا الحكم لنا ولهم، وإذا لم نكن كذلك فحالنا وحالهم كما نرى الآن. وقد وصفوا كذلك بأن الذل قد ألصق بهم حتى أثر فيهم كما يؤثر الضرب في النقد فلا خلاص لهم من الذل أبدا إلا بسبب عهد لهم من الله وهو ما قررته الشريعة لهم من المساواة في الحقوق والقضاء وتحريم الإيذاء، وعهد من الناس وهو ما تقتضيه المشاركة في الوطن والحاجة والانتفاع في الصناعة والتجارة. أو المراد عهد من الناس يحميهم. وصاروا مستحقين لغضب الله مستوجبين سخطه قد أحاطت بهم المسكنة إحاطة المكان بمن فيه، فهم في الذل والحاجة أبدا. ولا شك أنهم كذلك إلى الأبد وإن كانوا مياسير وأغنياء لأنهم ورثوا صفات الذل وضعف النفس وامتهانها بل بيع الشرف لأجل المال فهم في فقر دائم وذل مستمر ومتألهين المال، وفي الجزء الأول توضيح المقام فارجع إليه ص (31) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ذلك الذي ذكر من هذه الصفات بسبب أنهم يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء معتقدين أنهم على غير حق فيما يفعلون، إذ يقتلون رجالا يقولون ربنا الله، وفي هذا تشنيع عليهم وأى تشنيع؟! وما جرأهم على ذلك إلا فعل المعاصي واستمرارهم عليها، فإنه يجعل الرّان على قلوبهم ويفضى بهم إلى الوقوع في الكبائر كالكفر وقتل الأنبياء. ونسبة القتل إلى المعاصرين من اليهود كما قلنا لأنهم منتسبون إلى من فعل هذا الفعل وراضون عنه، بل معتزون بهذا النسب، على أنهم حاولوا قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم مرارا. المؤمنون من أهل الكتاب [سورة آل عمران (3) : الآيات 113 الى 115] لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) المفردات: قائِمَةٌ: مستقيمة عادلة، مأخوذ من قولك: أقمت العود فقام، بمعنى استقام. آناءَ اللَّيْلِ: جمع آن، والمراد: ساعات الليل. يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ: يبادرون إلى فعل الخيرات. يُكْفَرُوهُ: يمنعوه ثوابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 المناسبة: لما وصف أهل الكتاب بأن منهم المؤمنين، ومنهم الفاسقين ثم بين حالهم ومآلهم خاصة اليهود، كان من العدل أن يبين حال المؤمنين منهم وإن كانوا قلة. المعنى: ليس أهل الكتاب متساوين في أصل الاتصاف بالقبائح، بل منهم من تقدمت صفته. ومنهم أمة مستقيمة على طاعة الله، ثابتة على أمره، من صفاتهم أنهم يتلون آيات الله ويقرءون القرآن خاصة في ساعات الليل وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78 الإسراء) . ففي صلاة الليل والتهجد يكثرون من قراءة القرآن وحدهم، حيث ينام الكون كله وحارسه لا ينام- سبحانه وتعالى- وهم يؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا صادقا خالصا لا شبهة فيه ولا نفاق معه، إيمانا بكل ما يجب الإيمان به. فهم قد كملوا أنفسهم بالقرآن وتلاوته، والإيمان وحلاوته، ثم أرادوا لسمو أنفسهم وطهارة ضميرهم أن يكملوا غيرهم بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويبادروا إلى فعل الخيرات بسرعة وبلا إمهال، وهكذا شأن المؤمنين أمثال عبد الله بن سلام ومن على شاكلته، أولئك عند الله من الصالحين الذين صلح حالهم وعلت درجاتهم. وفي هذا رد على اليهود حيث زعموا أن من آمن منهم هم شرارهم لا خيارهم، إذ لو كان فيهم خير لما آمنوا. وما يفعلون من الطاعات فلن يحرموا ثوابه، ولن يمنعوا جزاءه. والله شكور عليم بالمتقين، فلن ينسى ولا يهمل، وليس ممن يجهل الجزاء، وهو القادر على كل شيء، البصير بكل عمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 الكافرون وأعمالهم يوم القيامة [سورة آل عمران (3) : الآيات 116 الى 117] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117) المفردات: لَنْ تُغْنِيَ: لن تجزى عنهم. رٌّ : برد شديد. رْثَ الحرث: إثارة الأرض للزرع، والمراد النبات المزروع. المعنى: كثيرا ما افتخر الكفار وقالوا: نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين، ولفظ الكفار هنا يشمل اليهود والمنافقين جميعا. فهم لن تجزى عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله شيئا يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ أولئك هم الملازمون للنار لا ينفكون عنها، هم فيها ماكثون مكثا الله أعلم به. ثم ضرب الله مثلا من أروع الأمثلة التي وردت في القرآن لأموالهم التي ينفقونها في أغراض الدنيا للرياء والسمعة والمفاخرة وكسب الثناء لا يبغون بذلك وجه الله بل كان منهم من ينفق ماله ليصد عن سبيل الله. مثل المال الذي ينفقونه هكذا كمثل ريح فيها برد شديد أتت على الزرع فأهلكته. فأنت معى في أن المال الذي ينفق في لذاتهم وتأييد كلمة الباطل والصد عن سبيل الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 يمنعهم من التخلق بالحق بل يمنعهم من النظر في دين الله بعين العدل والعقل السليم والروح المجردة من الشر. أليس هذا المال كالريح المرسلة بالهلاك والبرد الشديد فتأتى على الزرع المرجو ثمرته ونفعه فتبيده وتهلكه؟! فهم إذا أنفقوا المال للشيطان ورجوا منه الثواب والنفع ثم قدموا الآخرة فلم يروا إلا الحسرة والندامة كانوا كمن يزرع زرعا وتوقع منه خيرا ونفعا فأصابته ريح فأحرقته فوقف مبهوتا حائرا وحقّا إن الله يتقبل من المتقين ويثيب المخلصين. وما ظلمهم الله بل جازاهم وكافأهم وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها ولكن هم الظالمون لأنفسهم. صداقة المؤمنين للكافرين وخطرها [سورة آل عمران (3) : الآيات 118 الى 120] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 المفردات: بِطانَةً بطانة الرجل: خاصته وأهل مشورته ومستودع سره، قد أشبهوا بطانة الثوب. مِنْ دُونِكُمْ: من غيركم. لا يَأْلُونَكُمْ: ألى في الأمر: قصر فيه، ثم استعمل بمعنى منع، فقيل: لا آلوك نصحا، والمعنى هنا: لا يقصرون أبدا في إيصال الخبال لكم. الخبال: الفساد، وقد يكون في الأفعال والأبدان والعقول. الْعَنَتَ: هو المشقة. الْأَنامِلَ: أطراف الأصابع. عَضُّوا عض الأنامل: يراد به شدة الغيظ أحيانا، وأحيانا الندم. الكيد: الاحتيال للإيقاع في المكروه. هذه الآيات وأشباهها كثير، نزلت في قوم كانوا يتخذون مع الأعداء والكفار صلات وصداقات تبيح لهم إخبارهم بالأسرار والتحدث إليهم في شئون المؤمنين، وفي هذا خطر كل الخطر على كيان الأمة الإسلامية بلا شك، فنهوا عن هذا في غير موضع من القرآن. المعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، لا يليق بكم مع هذا الوصف الكريم، والنعت الجليل وهو الإيمان بالله ورسوله، لا يليق أن تتخذوا من غير المسلمين أخصاء وأصدقاء تؤثرونهم بالمودة وتطلعونهم على دخائلكم وأسراركم وكيف يكون منكم مودة لهم وهم كما وصف القرآن ونطق الواقع لا يقصرون في إيصال الفساد والخبال بكم وينفقون جهدهم كله في توفير الضرر لكم؟ وهم يتمنون لكم كل عنت ومشقة فإن لم يستطيعوا حربكم وإيذاءكم فهم يريدون من صميم قلوبهم كل فساد وألم لكم. ألم تظهر البغضاء لكم والحسد عليكم من فلتات ألسنتهم وبين ثنايا حديثهم؟ وما في صدورهم من الحسد الكامن والداء الباطن كثير وكثير. أيها المؤمنون قد بينا لكم الآيات والعبر التي ترشدكم إلى الخير وتهديكم إلى سواء السبيل، إن كنتم تعقلون فاتبعوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ها أنتم أولاء مخطئون في حبهم إذ هم لا يحبونكم مع أنكم تؤمنون بالكتب كلها ومنها كتابهم وتصدقون بكل الرسل ومنهم رسولهم، ومع هذا فهم لا يحبونكم. عجبا كيف يتمسكون بباطلهم إلى هذا الحد؟ وأنتم تتهاونون في حقكم وهم إذا قابلوكم قالوا نفاقا: آمنا بالله وصدقنا برسالة محمد، وإذا خلوا إلى أنفسهم وشياطينهم- من شدة الغيظ والحقد وعدم القدرة على إيصال الشر لكم بأى صورة- عضّوا على أناملهم، فإن عض الأنامل فعل المغيظ المحنق الذي فاته ما لا يقدر على جلبه أو نزل به ما لا يقدر على دفعه!! أخبرهم يا محمد أن أهل الكتاب- خاصة اليهود- لا يدركون ما يؤملون، فإن الموت دون ذلك، وهذا تقريع لهم أو دعاء بأن يديم الله غيظهم إلى الموت. ولا غرابة في هذا فعداوتهم لكم شديدة وحسدهم لكم من عند أنفسهم، فإن مستكم حسنة استاءوا بها وإن أصابتكم سيئة فرحوا لها ثم انظر إلى تعبير القرآن بإساءتهم عند مس الحسنة وبفرحهم عند إصابة السيئة فهم لا يفرحون حتى تتمكن الإصابة ويستاءون عند أدنى مس للحسنة، ألا قاتلهم الله ولعنهم! وأما العلاج والمخلص الوحيد فهو دواء القرآن لكل هذا: الصبر والتقوى. فإن تصبروا في كل حال وتتقوا الله وتأخذوا الوقاية لكم من كيد عدوكم فإن الله ضمن لكم أنهم لن يضروكم شيئا من الضرر، إن الله بما يعملون محيط، وعليم خبير بكل خفاياهم وكيدهم فسيرده في نحورهم ويجازيهم على كل ذلك بشرط أن تصبروا وتتقوا. وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ الآيات من هنا إلى ستين آية بعدها نزلت في غزوات النبي صلّى الله عليه وسلّم لا سيما غزوة أحد ، لهذا رأينا أن نذكر شيئا من أخبار غزوة بدر وغزوة أحد حتى تستبين لنا الآيات وندرك حكمها وأحكامها. غزوة بدر كانت في السنة الثانية للهجرة، وبدر اسم لبئر بين مكة والمدينة سميت باسم صاحبها، وكانت هذه الواقعة نصرا مؤزرا للمسلمين وكارثة على المشركين زلزلت مكانتهم عند العرب بقدر ما مكنت للمسلمين في نفوس أهل الجزيرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ أى: قلة وما ذاك إلا أن جيوش المسلمين قلتها متمسكة بدينها مطيعة لرسولها وقائدها لم يكن لهم اعتماد إلا على الله وحده وما أمرهم به من الثبات عند لقاء العدو إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لم يتعد واحد حدوده، قد ملأ الإيمان قلوبهم وخلا النفاق منها، وعلى العموم كانوا يدا واحدة صبها الله على عدوهم، ودعا النبي صلّى الله عليه وسلّم فيها دعاءه المشهور: «اللهم أنجز ما وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض» . قال راوي الحديث: فما زال يستغيث بربه ويدعوه حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فرده ثم التزمه من ورائه إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ (الآية) . غزوة أحد كانت في السنة الثالثة للهجرة بعد غزوة بدر التي انتصر فيها المسلمون وهم قلة، وذلك أن قريشا حينما عادت إلى مكة بعد غزوة بدر أجمعوا أمرهم، وأنفقوا الكثير من أموالهم ليصدوا عن سبيل الله وجهزوا جيشا عدته ثلاثة آلاف مقاتل يقصدون النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة. ولما وصل خبرهم إلى المدينة استشار محمد صلّى الله عليه وسلّم القائد والسياسى الموفق أصحابه، فأما الشيوخ ومعهم عبد الله بن أبىّ زعيم المنافقين ورأس اليهود في المدينة، فقالوا: نبقى في المدينة ونحصنها ونقاتلهم في الأزقة والدروب، وترمى النساء والولدان من على الآكام والبيوت. وأما الشباب ومن لم يكن له شرف القتال في بدر، فأشاروا بالحرب وقالوا: هذه فرصة، وكان عمرو بن عبد المطلب يرى هذا الرأى أما النبي صلّى الله عليه وسلّم فكان يميل إلى رأى الشيوخ، وقد رأى في المنام أنه في درع حصينة وأن سيفه ذا العقال انكسرت ظبته (حده) وأنه رأى بقرة تذبح وأن معه كبشا، وقد أول الرؤيا: الحصن: المدينة، كسر السيف، موت عزيز لديه من أهل بيته، ذبح البقرة: قتل بعض أصحابه، الكبش: للفتك بزعيم من زعماء الشرك، ولكن الرسول صلّى الله عليه وسلّم رجع لرأى الأغلبية القائلين بالحرب والساعين إليه فلبس وتجهز، وما قبل الرجوع بعد هذا وقال: «ما ينبغي لنبي إذا لبس لأمته أن يرجع حتى يقاتل» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 كان هذا عصر الجمعة لست مضت من شوال وبات ليلتها، وفي سحر السبت خرج مع الجيش، وفي الطريق رجع عبد الله بن أبىّ متعللا بقوله: أيعصيني ويطيع الولدان لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ ومعه ثلاثمائة من أصحابه. وهم بنو سلمة وبنو حارثة من الأنصار وكادوا ألا يخرجوا إلى أحد، ثم وفقهم الله فخرجوا، وذلك قوله تعالى: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا (الآية) . فلم يبق بعد رجوع المنافقين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا سبعمائة رجل. وذكر له قوم من الأنصار أن يستعينوا بحلفائهم من اليهود فأبى. وصفّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أصحابه فجعل الرماة خمسين رجلا عليهم عبد الله بن جبير، وعلى أحد الجناحين الزبير بن العوام وعلى الآخر المنذر بن عمر. وجعل أحدا خلف ظهره واستقبل المدينة وكان اللواء مع مصعب بن عمير فتقدم به بين يدي رسول الله. وأما المشركون فجعلوا على المينة خالد بن الوليد القائد المشهور وعلى الميسرة عكرمة بن أبى جهل ومعهم مائتا فارس على رأسهم صفوان بن أمية، وعلى رماتهم وكانوا مائة عبد الله بن أبى ربيعة، ولواؤهم مع طلحة بن أبى طلحة من بنى عبد الدار. وكان مع المشركين نساء بزعامة هند بنت عتبة، يضربن بالدفوف ويمشين وراء الصفوف وأمامها قائلات: نحن بنات طارق ... نمشي على النمارق إن تقبلوا نعانق ... ونفرش النمارق أو تدبروا نفارق ... فراق غير وامق وتقدم النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الرماة فقال لهم: احموا ظهورنا فإنا نخاف أن نؤتى من ورائنا، وإياكم أن تبرحوا مكانكم سواء قتلناهم أو قتلونا فلا تعينونا ولا تدافعوا عنا، اللهم فاشهد. وقد خطب المسلمين خطبة طويلة حثهم فيها على الصبر والتقوى!! وقامت الحرب وما لبث أن دارت دائرة الحرب وانهزم المشركون وسقط لواؤهم من يد طلحة بعد قتله فحمله ابنه ثم أخوه وهكذا أخذ المسلمون يفتكون بالمشركين!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وكاد النصر يتم للمسلمين نهائيا لولا أن الرماة الحارسين لظهور المسلمين خالفوا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وآثروا الفانية على الباقية وانحدروا يجمعون الغنائم والأسلاب وتنازعوا في ذلك ولم يبق منهم إلا قليل. فتنبه خالد بن الوليد ومن معه وانقضوا على المسلمين كالصاعقة وأشرعوا سيوفهم ورماحهم، ودارت الدائرة على المسلمين وانفرط عقدهم وسمع مناد ينادى: إن محمدا قد قتل، فأسرع المشركون واهتبلوا تلك الفرصة واختلط الأمر على المسلمين حتى صار يضرب بعضهم بعضا وولوا هاربين في الجبل، والرسول يدعوهم في أخراهم ويقول: «إلىّ عباد الله إلىّ عباد الله أنا رسول الله» . إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ وصار أبو سفيان يقول: يا معشر قريش أيكم قتل محمدا؟ فقال عمر بن قميئة: أنا قتلته. وقد نجى الله رسوله، وكان النبل يأتيه من كل جانب، ولكن الله يعصمه من الناس، وكان أول من بشر بنجاته كعب بن مالك. وقد أصيب رسول الله يوم أحد فكسرت رباعيته وشج وجهه حتى غاب حلق المغفر في وجنتيه وأصيبت ركبتاه. وكان سالم مولى أبى حذيفة- رضى الله عنه- يغسل الدم عن وجه الرسول وهو يقول صلّى الله عليه وسلّم: «كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم؟ وهو يدعوهم إلى الله- عز وجل-؟» فنزل: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ. ورأى صلّى الله عليه وسلّم سيف علىّ مختضبا فقال: إن كنت أحسنت القتال فقد أحسن عاصم ابن ثابت والحارث بن الصمة وسهل بن حنيف وسيف أبى دجانة غير مذموم: ولا تنس الحباب بن المنذر وشماس بن عثمان وغيرهم ممن أبلوا بلاء حسنا. ولم يقتل صلّى الله عليه وسلّم في حياته سوى أبىّ بن خلف أحد الذين تعاقدوا على قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفيه نزلت آية: وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى. [سورة الأنفال آية 17] . وفيها قتل من المسلمين سبعون منهم حمزة سيد الشهداء وحبيب رسول الله، وقد بكى عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم مرارا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 ولعل السبب في هزيمة المسلمين بأحد ما يلى: كان بعضهم على مقربة من الفتنة ولذلك همت طائفتان أن تفشلا، خروج الرماة عن أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم وطمعهم في الغنيمة، وقد فشلوا وتنازعوا فضعفت أرواحهم عن تلقّى تأييد الملائكة لهم. وأما الحكمة في الهزيمة فليمحص الله الذين آمنوا ويعلمهم أن الأسباب والمسببات لا بد منها في تحصيل النصر، وأن قتل الرسول أو موته ليس سببا في ترك الدين والانقلاب على الأعقاب، وما أصابهم فمن أنفسهم. ما نزل من القرآن في غزوتى بدر وأحد [سورة آل عمران (3) : الآيات 121 الى 129] وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللَّهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 المفردات: غَدَوْتَ: خرجت في الغداة، وهي ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس. تُبَوِّئُ: تهيء وتعد. مَقاعِدَ: أماكن وأنظمة للقتال. هَمَّتْ الهمّ: حديث النفس واتجاهها إلى الشيء. أَنْ تَفْشَلا: تجبنا وتضعفا. أَذِلَّةٌ: قلة في العدد والعدد. يَكْفِيَكُمْ الكفاية: مرتبة دون الغنى وهي سد الحاجة. يُمِدَّكُمْ الإمداد: إعطاء الشيء حالا بعد حال. بَلى: كلمة جواب كنعم إلا أنها لا تقع إلا بعد نفى، وتفيد إثبات ما بعدها. فوركم الفور: الحال السريعة. مُسَوِّمِينَ: معلمين. يَكْبِتَهُمْ من الكبت: وهو شدة الغيظ. المعنى: واذكر يا محمد وقت أن خرجت غدوة السبت لسبع خلون من شوال تبوئ المؤمنين وتنزلهم أماكن خاصة للقتال: فهؤلاء في موضع الرماة، وهؤلاء في الميمنة، وهؤلاء في الميسرة، وهكذا. والله سميع لكل قول عليم بكل نية وفعل فهو العليم بما دار حينما شاورت الناس وهل كان رأى البعض عن إخلاص ونفاق أو لا؟ واذكر إذ همت طائفتان من الأنصار هم بنو سلمة من الأوس وبنو حارثة من الخزرج لما رأوا انخذال عبد الله بن أبى بن سلول حدثتهم أنفسهم بالفرار ولكن الله عصمهم من الذلة ومنعهم من الجبن والفشل، وكيف لا والله وليهم ومتولى أمورهم؟ ... وعلى الله فليتوكل المؤمنون وليعتمدوا عليه لا على حولهم وقوتهم، وليس هذا يمنع من الأخذ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 بالأسباب وإعداد العدة وتجهيز الجيوش بالسلاح والعدد الملائمة لكل عصر، ومع التوكل على الله. ولذلك ذكرهم الله بغزوة بدر حيث نصرهم على عدوهم لما كانوا متوكلين عليه ممتثلين أمره وأمر رسوله، ولقد نصركم الله ببدر وأنتم قلة إذ كنتم ثلاثمائة، والكفار ألف مقاتل، فلا عدد معكم ولا عدد، وهذا معنى الذلة. فاتقوا الله بالثبات مع رسوله والصبر والوقوف عند أمره، فإن هذا عدة الشكر والشكر سبب النعم والنصر. واذكر يا محمد وقت قولك للمؤمنين يوم أحد- وقد رأوا العدو يفوقهم وانخذل عنهم عبد الله بن أبىّ وأصحابه-: ألن يكفيكم إمداد الله لكم بثلاثة آلاف من الملائكة؟؟ بلى يكفيكم الإمداد بهذا، ومع ذلك إن تصبروا على الغنائم وشدة الجهاد ونزال العدو وتتقوا الله وتطيعوا أمر نبيكم ولا تتنازعوا ولا تختلفوا على الغنائم ويأتيكم المشركون من ساعتهم هذه بسرعة، نعم إن حصل هذا وهو الصبر والتقوى بمعانيهما، وإتيان العدو بسرعة يعجل الله نصركم وييسر أمركم ويمدكم بخمسة آلاف من الملائكة مرسلين فاتكين بالعدو وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً. الظاهر- والله أعلم- أن الله أمد المؤمنين يوم بدر بالملائكة لقوله- تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [سورة الأنفال الآية 9] . وأما في غزوة أحد فقد وعد النبي صلّى الله عليه وسلّم المؤمنين أن الله سيمدهم بثلاثة آلاف بل بخمسة آلاف إن صبروا واتقوا ... ولم يتحقق الشرط وخالفوا النبي، ولو أمدهم لهزموا الكفار من فورهم. والإمداد بالملائكة يجوز أن يكون من قبيل إمداد العسكر بما يزيد عددهم، أى: إمداد مادى، وفي هذا روايات كثيرة، ويجوز أن يكون من قبيل الإمداد المعنوي وهذا هو الظاهر- والله أعلم- فيكون عمل الملائكة بالجيش عملا روحيا معنويا كتثبيت القلوب وتقوية النفوس وإذاعة روح الطمأنينة فيقاتل الجيش عن عقيدة، وفي جانب العدو يشيعون روح الهزيمة والانخذال ويكثرون سواد المسلمين في نظرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وها هو ذا اليوم في أحدث الحروب تنفق الملايين على الدعاية وتقوية الروح المعنوية إذ لها خطرها وأثرها. وما جعل قول النبي صلّى الله عليه وسلّم للمؤمنين: أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ الآية إلا بشرى لكم يبشركم بها كي تطمئن قلوبكم ويهدأ روعكم بوعده بالنصر لكم. وما النصر على الأعداء إلا من عند الله وحده بقطع النظر عن العدو وعدده وعدده مهما كانت فالله هو العزيز الذي لا يغالب الحكيم في كل شيء يفعله. وليس معنى هذا ترك الأخذ بالأسباب بل الواجب أن تأخذ بها معتقدا أن الله فوق هذه الأسباب وأنه خالقها وليست مؤثرة بطبعها، فالاعتماد على الله والتوكل عليه بعد الأخذ بها، ولعل انهزام المسلمين في أحد لعدم أخذهم بالأسباب كمخالفتهم للقائد ونزاعهم وخلافهم وغزوهم بأنفسهم. فعل الله ما فعل من نصركم يوم بدر وإمدادكم بالملائكة ليقطع ويهلك طائفة من رءوس الكفر والشرك بالقتل والأسر أو يكبتهم ويغيظهم ويخزيهم فينقلبوا خائبين غير ظافرين وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً» أو يتوب عليهم إن أسلموا ورجعوا إلى الله، أو يعذبهم إن أصروا على الكفر والشقاق فإنهم ظالمون لأنفسهم. وأما أنت يا محمد فليس لك من الأمر شيء «2» إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب فلا تبتئس ولا تتألم منهم وتدعو عليهم بقولك «كيف يفلح قوم فعلوا بنبيهم هذا» ! لا تفعل هذا فربما يتوب الله على بعضهم، وقد تاب على أبى سفيان والحارث بن هشام وسهل بن عمر وصفوان بن أمية. ثم أكد الله- سبحانه وتعالى- أن الأمر بيده بقوله: ولله ملك السموات والأرض وما فيهما يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء بحكمته وعدله، وهو الغفور الذي يستر الذنوب إن أحب، الرحيم بالخلق حيث يترك العقاب بالحكمة التامة والسنن المحكمة.   (1) سورة الأحزاب آية 25. (2) وعلى هذا فقوله تعالى: لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ معترض، وما بعده معطوف على ما قبله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 إرشادات المؤمنين وجزاؤهم [سورة آل عمران (3) : الآيات 130 الى 136] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136) المفردات: أَضْعافاً ضعف الشيء: مثله، فإذا ضاعفت الشيء ضممت إليه مثله. سارِعُوا: أسرعوا، والمراد: اعملوا ما به تحصلون على مغفرة من الله وجنة. السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ: هما حالتا السرور والضرر، أى: الرخاء والشدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 الْكاظِمِينَ: الحابسين الغيظ، والكاتمين له مع القدرة. الْغَيْظَ: أشد أنواع الغضب، وهو فورة في الدم عند وقوف الإنسان على ما يؤلمه في ماله أو ولده أو عرضه. فاحِشَةً ذنب كبير، وظلم النفس ذنب صغير. المناسبة: لما نهى الله المؤمنين عن اتخاذ البطانة من غير المسلمين لأنهم خطر عليهم وبين أنهم إن يصبروا ويتقوا لا يضرهم كيدهم شيئا، ثم ضرب الله المثل لبيان أثر التقوى والصبر في غزوتى بدر وأحد وما فعله الكفار وخاصة اليهود والمنافقين، بين بعد هذا وذاك فحش صفة لازمة لليهود وحذر منها المسلمين وهي الربا واستتبع هذا ذكر لون من ألوان الترغيب والترهيب. المعنى: يا أيها الذين آمنوا لا يليق بكم وقد خالط قلوبكم نور الإسلام وبرد اليقين أن تأكلوا الربا حال كونه أضعافا مضاعفة كما كنتم تفعلون في الجاهلية- وهذه ثانى آية في الربا. فقد كانوا يعطون المائة حتى إذا حل أجلها فإما أن يدفع المدين وإما أن يزيد في الدين وهكذا حتى يصبح المال المقروض أضعافا مضاعفة، وهذا ما يسمى ربا النسيئة أو الربح المركب وهو ما ورد فيه نص القرآن كما قال ابن عباس- رضى الله عنه-. وضابطه: كل قرض جر نفعا للمقرض في مقابل النسيئة، أى: التأخير والأجل سواء كانت المنفعة نقدا أو عينا كثيرة أو قليلة وعلى ذلك فالتعامل مع المصارف بفائدة 3 در صد أو 4 در صد مثلا هو ربا ونسيئة بدليل قوله- تعالى-: وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ «1» أى: بدون زيادة أصلا، أما ربا الفضل فهو بيع ربوى بمثله مع زيادة في أحد المثلين، كبيع إردب قمح جيد بإردب وكيلتين من القمح مع رضا الطرفين وهو يكون في المطعومات كالبر والذرة والشعير وكل ما تجب فيه الزكاة من الحبوب وكذا النقدان.   (1) سورة البقرة آية 279. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وربا الفضل- كما تقدم عند شرح آية البقرة- ثابت تحريمه بالحديث الشريف فقد روى ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا سواء بسواء ... إنى أخشى عليكم الرماء، أى: الربا» «1» . وكذا حديث أبى سعيد الخدري المتقدم. والجمهور من العلماء على أن الربا بنوعيه خطر على الأمة والفرد كما بينا ذلك في آية البقرة لا فرق بين ربا النسيئة وربا الفضل سواء كانت الزيادة قليلة أم كثيرة، والتقيد بالأضعاف المضاعفة في الآية هنا لبيان الواقع الذي كان يحصل عندهم في الجاهلية فلا مفهوم له، وقد تكون هذه الآية هي المرحلة الوسطى بين الإشارة التي في سورة الروم آية 29 وبين التحريم الكلى القاطع في سورة البقرة كما تقدم. وبعض العلماء يرى أن ربا النسيئة ثابت بنص القرآن وخطره ظاهر جسيم إذ هو الربح المركب الذي يتضاعف فيه مال المرابى إلى أضعاف كثيرة وهو الذي لعن الله آكله ومؤكله وكاتبه وشاهده وآذن صاحبه بالحرب إن لم يكف وهو صفة اليهود وديدنهم. وأما ربا الفضل فثابت بالحديث، وخطره قليل وتحريمه ليس لذاته بل أمر عارض، فإنه قد يجر إلى ربا النسيئة فتحريمه من باب سد الذرائع فهو يباح عند الضرورة والحاجة. وأنت كمسلم تقدر ضرورتك. والرأى عندي أن الواجب على الحكومة أو الأغنياء أن ينشئوا مصرفا للتسليف بلا فائدة كمؤسسة القرض الحسن ومصاريف الموظفين والعمال واستهلاك المبانى والمصارف إن لم تكن على حساب الحكومة فلا مانع من أن تؤخذ من المدين. واتقوا الله في كل ما تأتون وتذرون خاصة الربا، ولا تكن قلوبكم كقلوب اليهود. فإنكم إن اتقيتم الله حق تقواه كنتم كمن يرجو الفلاح في الدنيا والآخرة. واتقوا النار التي أعدت للذين يبتعدون عن الله ولا يمتثلون أمره، لا سيما هذا الداء الوبيل فإنه من أكبر الكبائر حتى كأن صاحبه في عداد الكافرين. وانظر يا أخى كيف نفّر القرآن من الربا وأكد ذلك بأربعة تأكيدات: اتقوا الله، اتقوا النار، أطيعوا الله، وأطيعوا الرسول، وفي هذا كله فلاح وبعد عن النار ورحمة وأى رحمة؟   (1) أخرجه مالك في الموطأ في كتاب البيوع رقم 34 ج 2 ص 634. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ثم ثنى بالوعد والترغيب بعد الوعيد والترهيب فقال: وبادر بعمل الطاعات كالبر والصدقة والبعد عن الآثام كالربا وغيره، وبادروا إلى مغفرة من ربكم وإلى جنة أعدت للعاملين جنة واسعة فسيحة عرضها كعرض السماء والأرض معا وهذا بيان لأقصى ما يتصوره الخيال وتمثيل لعظمتها وكبرها وخص العرض لأنه أقل من الطول. هذه الجنة أعدت للمتقين، الذين أخذوا الوقاية لأنفسهم من عذاب الله بالعمل الصالح وها هي ذي أوصافهم: 1- المنفقون في السراء والضراء في الشدة والرخاء في كل حال وعلى كل وضع ولا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها [البقرة 286] وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [الطلاق 7] . فانظر إلى المؤمنين كيف يبذلون لله ويعطون الفقراء من غير عوض؟ والمرابين الذين يستنزفون دماء المحتاجين ويخربون بيوت المدينين ويأكلون مال الغير بغير حق بل وبمنتهى الظلم والقسوة. 2- وهم الذين يكتمون غيظهم ويملكون أنفسهم عند الغضب فلا يعتدون على الغير خاصة إذا كانوا في قوة ومنعة. 3- وهم الذين يتجاوزون عن ذنوب الناس فلا حقد ولا ألم في نفوسهم بل يعفون عن طيب خاطر وطواعية. 4- وهناك صفة أعلى إذ هم مع كظم الغيظ والعفو عن الناس يحسنون إليهم ولذلك أحبهم الله ووصفهم بالإحسان والله يحب المحسنين. روى أن جارية لعلى بن الحسين- رضى الله عنهما- جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة: فسقط الإبريق من يدها، فشجه، فرفع رأسه فقالت: إن الله يقول: وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ فقال: قد كظمت غيظي. فقالت: وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال: قد عفوت عنك. قالت: وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال: اذهبي فأنت حرة لوجه الله. 5- وهم الذين إذا فعلوا ذنبا كبيرا يتعدى ضرره إلى الغير كالزنا والربا والسرقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 والغيبة مثلا، أو فعلوا ذنبا صغيرا لا يتعداهم إلى غيرهم ذكروا عقاب الله وما أعده للطائعين والعاصين فيرجعون ويتوبون إليه، أو ذكروا الله وجلاله وجماله ونعمه وفضله فاحتقروا أنفسهم إذ فعلوا ما يغضب الله، وهؤلاء لا يلبثون أن يتوبوا سريعا ويقلعوا عن ذنبهم إلى غير رجعة- ومن يغفر الذنوب الكبيرة والصغيرة إلا الله؟ الذي وسعت رحمته كل شيء وكتب على نفسه الرحمة لمن يرجع إليه- وهؤلاء هم الذين إذا ذكروا الله استغفروا لذنوبهم وتابوا عن جرمهم وانصرف عنهم طائف الشيطان، ووجدوا نفس الرحمن، ومن كان كذلك لا يصر على الذنب فيفعله مرة ثانية، أولئك الموصوفون بما ذكر البعيدون في درجات الكمال الروحي والتوفيق الإلهى، جزاؤهم مغفرة من الله ورضوان من ربهم، وجنات تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها نعيم مقيم وهم فيها خالدون، ونعم أجر العاملين الذين يعملون لأنفسهم ولغيرهم. سنة الله في الخلق والعاقبة للمتقين [سورة آل عمران (3) : الآيات 137 الى 141] قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 المناسبة: كان الكلام في وقعة بدر وأحد وما حصل للمؤمنين فيهما وموقف الكفار وصفتهم مع بيان صفة المؤمنين وجزائهم. ثم بعد هذا ذكر القرآن سنة الله في الخلق وأن ما حصل كان موافقا للسنة مع بيان الحكمة فيما وقع. المعنى: انظروا أيها المسلمون فأنتم أولى بالنظر والاعتبار، انظروا إلى من تقدمكم من الأمم، سيروا في الأرض حتى تقفوا على أخبار الماضين فستجدون أن لله طريقا واحدا لا يختلف: سُنَّةَ اللَّهِ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا «1» فإن أنتم أيها المسلمون سرتم سير الطائعين الموفقين، وصلتم إلى ما وصلوا إليه حتما، وإن سرتم سير العصاة المكذبين كانت عاقبتكم خسرا، وفي هذا تنبيه لمن خالف النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد. فكأنهم انتصروا يوم بدر لسلوكهم سبيل الطائعين المتوكلين على الله وهزموا يوم أحد لأنهم تنازعوا ففشلوا وخالفوا أمر الرسول ولم يصبروا ولم يتقوا كما أمروا، ففي الآية الكريمة سبيل الأمن والخوف، وفي طيها الوعد والوعيد، والقرآن الكريم يشير في جملته إلى أن مشيئة الله تسير على نظم ثابتة قد ربطت فيها الأسباب بالمسببات وإن يكن الله قادرا على كل شيء، ففي الحرب أو الزرع أو التجارة مثلا إذا سار فيها صاحبها على الطرق المألوفة والنظم المحكمة نجح وإن كان شريرا مجوسيا. وإن جانب المألوف وركب رأسه واتبع غير المعقول كان من الخاسرين ولو كان شريفا علويّا، وأحق الناس بالسير على المعقول والاستفادة بهدى القرآن هم المؤمنون في كل ما يأتون ويذرون والسير في الأرض ومشاهدة الآثار أثبت في معرفة الأخبار من التاريخ ورواية الأخبار «فما راء كمن سمعا» . كل إنسان له عقل يفكر به يعرف أن لله سنة في الكون لا تختلف عند جميع الناس في كل العصور مؤمنهم وكافرهم، وبرهم وفاجرهم والله يهدى من يحب إلى صراط مستقيم.   (1) سورة الأحزاب آية 62. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فبيان سنن الكون للناس جميعا، وإن كون ما ذكر هداية وعظة فهو خاص بالمتقين لأنهم المنتفعون بهدى القرآن ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «1» ولذا قال الله: هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ. وإذا كان المؤمنون هم المنتفعين بما ذكر يجب ألا يضعفوا لما أصابهم من مس السلاح عند القتال وما يلزمه من التدبير، ولا يحزنوا على من قتل منهم في أحد فهو شهيد مكرم عند الله يوم القيامة، وما وقع ليس نصرا للمشركين ولكنه درس شديد للمسلمين، ولذا ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لو خيرت بين الهزيمة والنصر يوم أحد لاخترت الهزيمة» لما في تلك الغزوة من التربية لكم على تحمل المشاق وبيان أن خروجكم على نبيكم ومخالفة أمره خروج على سنة الله في أسباب الظفر فلا تعودوا لمثله أبدا!! وكيف تهنون وتحزنون والحال أنكم الأعلون بمقتضى سنة الله في جعل العاقبة للمتقين؟ ألا تعلمون أن قتلاهم في النار وقتلاكم في الجنة؟! والمراد بالنهى عن الوهن والحزن النهى عن الاستسلام إلى ذلك، بمعنى التأهب والاستعداد مع العزيمة الصادقة والتوكل على الله والوثوق بالنصر، فإن الله وعد بذلك إن كنتم مؤمنين فاعملوا بهذا. وكيف تضعفون ولا تعلمون حقيقة ما أصابكم من الألم، فأنتم إن أصابكم ألم في أحد فقد أصاب الكفار ألم أكثر منه في بدر، وإن هزمتم في أحد فقد انتصرتم في بدر. فيوم لنا ويوم علينا ... ويوما نساء ويوما نسرّ والأيام دول، والحرب سجال، وتلك الأيام نداولها بين الناس فنجعل للباطل دولة في يوم، وللحق دولة في أيام، والعاقبة والنصر في النهاية للمتقين الصابرين كل ذلك ليستقر العدل ويعم النظام ويعلم الناس أن الدنيا إن سلك طريق النجاح والفوز.. فعل الله ما فعل مع المؤمنين لحكم يعلمها وليتحقق إيمان المؤمنين ويظهر واضحا، ولذا قال النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد موقعة أحد: «لا يذهب معنا في القتال (غزوة حمراء الأسد) إلا من قاتل» فذهب المؤمنون وهم في أشد التعب والنصب. لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا هذه العبارة وأمثالها تفيد تحقيق الإيمان وحصوله في الخارج حتى يحصل علم الله به، فإذا علم الله إيمان فلان كان لا بد أن يكون إيمانه   (1) سورة البقرة الآية 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 حاصلا في الواقع، إذ علم الله لا بد أن يكون مطابقا للواقع، وعلى ذلك فالمعنى: فعل الله بكم ذلك لحكم هو يعلمها وليتحقق إيمان المؤمنين ويظهر. وليكرم الله أناسا منكم بالشهادة والقتل في سبيل الله والاستشهاد درجة عظيمة سيأتى بيانها فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ (سورة النساء 69) وهذه الشهادة لا يعطيها الله إلا لمن أحبه واصطفاه والله لا يحب الظالمين أبدا. وليمحص الله الذين آمنوا، فهذه الحوادث العنيفة التي ترج المجتمع تمحص الإيمان الخالص من الإيمان المشوب بالضعف والاستكانة حتى تصفو النفوس فلا يبقى فيها درن. وكثير من الناس مصابون بداء الغرور الديني فهم يفهمون في أنفسهم أنهم كاملوا الإيمان حتى إذا ما محصوا بالابتلاء قلّ الديانون وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ففي غزوة أحد تخلف البعض وفر البعض. وصعدوا في الجبل لا يلوون على أحد، وثبت البعض حول النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى قتل، واتخذ البعض نفسه ترسا واقيا للنبي صلّى الله عليه وسلّم رضى الله عن الجميع ووفقنا حتى نقتدي بهم. ومن الحكم العالية محق الكافرين فإنهم إذا ظفروا مرة طغوا وبغوا فيكون هلاكهم مرة واحدة، وإذا هزموا كما في بدر، تقلمت أظفارهم وأصابهم الضعف والهلاك شيئا فشيئا حتى يبادروا، والعاقبة للمتقين. دروس لمن شهد غزوة أحد [سورة آل عمران (3) : الآيات 142 الى 151] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 المفردات: وَلَمَّا بمعنى (لم) إلا أن مدخولها متوقع الحصول، فالمراد نفى الجهاد في الماضي وتوقعه في المستقبل. الجهاد: احتمال المشقة ومكافحة الشدائد. تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ المراد: تمنى الشهادة في سبيل الله. تَلْقَوْهُ: تشاهدوا هوله وتروا خطره. انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ انقلب على عقبيه ونكص على عقبيه: رجع وراءه، والمراد: رجعتم كفارا بعد إيمانكم. مُؤَجَّلًا: ذا أجل، وهو المدة المضروبة للشيء. كَأَيِّنْ: كلمة تفيد الكثرة. رِبِّيُّونَ: جماعات كثيرة واحدهم ربّىّ وهو الجماعة. اسْتَكانُوا الاستكانة: الاستسلام والخضوع لأن صاحبها يستكين للخصم. إِسْرافَنا: مجاوزة الحد في كل شيء. الرُّعْبَ: شدة الخوف. سُلْطاناً: برهانا وحجة، ولما فيهما من القوة على دفع الباطل سمى سلطانا. مَثْوَى المثوى: المكان الذي يكون مقر الإنسان ومأواه. يبين الله في هذه الآيات أن الثواب في الآخرة منوط بالجهاد والصبر، كما أن الفوز في الدنيا منوط بإقامة العدل وسلوك الطرق المألوفة، فسنة الله لا تختلف، وقد ذكر مع هذا عتابا لبعض من شهد أحدا. المعنى: لا ينبغي لكم أن تظنوا بالله الظنون وتصابوا بداء الغرور فتفهموا أن دخول الجنة لا يكون من غير جهاد في الله وصبر على البأساء والضراء وحين البأس «لا» ... إن دخول الجنة لا يكون إلا بالجهاد الكامل لإعلاء كلمة الله ورفع راية الوطن، وإنما يكون بجهاد العدو وجهاد النفس خاصة في الشباب، وجهاد حب المال عند البذل في الأعمال العامة النافعة وغير ذلك. وتمكن الصبر في أنفسكم تمام التمكن على أداء التكاليف وعلى الطاعة وعلى البلاء والحوادث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 ونفى العلم من الله دليل على عدم وقوع الجهاد والصبر منكم فهو أبلغ من نفى الجهاد والصبر، إذ هو كالدعوى ودليلها، شبيه بهذا قوله تعالى: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا. روى عن الحسن أنه قال: بلغني أن رجالا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانوا يقولون: لئن لقينا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم لنفعلن ولنفعلن فابتلوا بذلك، فلا والله ما كلهم صادق، فأنزل الله: وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ. نعم لقد كان كثير منكم يتمنى لو يستشهد في سبيل الله تمنيا من نفسه استحق أن يعبر عنه المولى بهذا التأكيد: وَلَقَدْ كُنْتُمْ حتى إذا جد الجد وقامت الحرب وشاهدتم بأعينكم مشاهدة كاملة وأنتم تنظرون نظرة فاحصة ليست عاجلة، توانيتم وانحزتم إلى الجبل وأصعدتم فيه لا تلوون على أحد والرسول يدعوكم فلا يجيبه أحد. وهذا عتاب وأى عتاب؟ نعم كان مع النبي من بايعه على الموت ودافع عنه دفاعا مجيدا حتى قتل البعض ونجا البعض كما تقدم في سرد حوادث الغزوة، ومع هذا كان الخطاب عاما ليكون الإرشاد عاما فيتهم المؤمنون الصادقون أنفسهم ليزدادوا إيمانا وليرعوى المقصرون فلا يعودوا لمثلها أبدا. في هذه الغزوة- كما قلنا سابقا- أشيع قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم وكانت الإشاعة سببا في شيوع قالة السوء، حتى قال بعض المنافقين: لو كان نبيا ما قتل!! من لنا برسول إلى عبد الله بن أبىّ ليأخذ لنا الأمان عند أبى سفيان؟ وهكذا مما جعل أنس بن النضر يبرأ إلى الله من مثل هذا الكلام ويقاتل حتى يقتل دفاعا عن الدين. وكانت هذه الإشاعة سببا في انفضاض بعض الناس عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فعاتبهم الله بقوله. وما محمد إلا رسول كمن سبقه من الرسل فهم قد خلوا وانتهت حياتهم بموت كموسى وعيسى، أو قتل كزكريا ويحيى، ومع هذا ظلت ديانتهم كما هي وأتباعهم متمسكون بها، فالمعقول أن تظلوا كما كنتم ولو مات أو قتل فإن الرسول بشر كسائر الأنبياء له في الدنيا مهمة تنتهي بانتهاء أجله، ومن كان يعبد الله فإن الله باق، ومن كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات. أفتنقلبون على أعقابكم فترتدون عن دينكم أو يطير صوابكم لو مات أو قتل مع أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 رسول كسائر الرسل لم يدّع أنه إله، ولم يطلب لنفسه العبادة حتى إذا مات أو قتل تركتم دينه ورجعتم كفارا. ومن ينقلب على عقبيه ويعود إلى الكفر فلن يضر الله بشيء من الضرر، وإنما يضر نفسه وأما من ثبت على دينه وجاز هذا الامتحان الدقيق فهو من المجاهدين الصابرين الشاكرين الذين سيجزيهم الله خير الجزاء، وقد كانت هذه الآية تمهيدا لموت النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد أداء رسالته وقولا فصلا لأمثال عمر بن الخطاب- رضى الله عنه-. ثم بعد ما لام القرآن المؤمنين على ما بدر منهم حينما بلغهم قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكر لهم: بأنه رسول كبقية الرسل، لم يطلب لنفسه العبادة، حتى إذا مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم كافرين، وإنما كان يأمركم بعبادة الله، والله حي لم يمت، ومهمته البلاغ فقط، فإذا ليس لوجوده دخل في استمرار عبادة الله. وهنا يلومهم أيضا على أن النبي لو قتل- كما أشيع- ما كان لكم أن تفعلوا ما فعلتم. ليس من شأن النفوس، ولا من سنة الله فيها، أن تموت بغير إذنه أو مشيئته، التي يجرى بها النظام العام في الكون، وارتباط الأسباب بالمسببات، فالله وحده هو المتصرف في كل شيء، وله الأمر فيأذن للملك يقبض الروح في الموت العادي وغيره، في الإنس والجن حتى في نفسه، الموكل بقبض الأرواح. كتب هذا كتابا محكما مؤقتا بوقت لا يتعداه، ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [سورة النحل آية 61] وإذا كان العمر لله، وانقضاؤه بإذنه وإرادته. فكيف يصح الجبن والوهن والضعف والانخذال؟؟ ومن يرد ثواب الدنيا بجهده وعمله، وأعطاه الله شيئا من ثوابها. ومن يرد ثواب الآخرة وجزاءها أعطاه الله شيئا من ثوابها، على حسب إرادته ومشيئته في كلا الحالين، وأما أنتم يا من ضعفتم وفشلتم وتنازعتم وخالفتم أمر نبيكم وقائدكم لأجل الغنيمة، ما الذي تريدون بعملكم؟ إن كنتم تريدون الدنيا فالله لا يمنعكم من ذلك، ولكن ليس هذا طريقها، إن العمل الذي يدعوكم إليه محمد صلّى الله عليه وسلّم هو للدنيا والآخرة. ولا تنس أن التعبير بقوله: يُرِدْ دليل على أن الإرادة للشخص هي التي تكيف العمل فتارة يكون خيرا وتارة يكون شرا «إنما الأعمال بالنيات» أما الله- سبحانه وتعالى- فسيجزى الشاكرين نعمه. الواقفين عند حدوده، الثابتين مع نبيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وكثير من الأنبياء السابقين قاتل معهم في سبيل الله ولإعلاء كلمته، جماعات في أحرج الأوقات وأشدها، فما وهنوا ولا ضعفوا ولا خضعوا للدنيا ومتاعها، بل ظلوا كما هم لم تزعزعهم الأعاصير ثابتين، والله يحب الصابرين الذين صبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله فهو يهديهم ويرشدهم، ولا شك أن هؤلاء مبالغون في التعلق بالله- سبحانه- هذا عملهم، أما قولهم فهو: ربنا اغفر لنا ذنوبنا، واستر ما ألممنا به مما نعلمه ولا نعلمه واغفر لنا إسرافنا ومجاوزتنا أمرك، فهم مهما فعلوا من الخير يرون أنفسهم مقصرين، أو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين ... وثبت أقدامنا على صراطك المستقيم وأمام عدوك المبين، وانصرنا على القوم الكافرين. فآتاهم الله ثواب الدنيا والسعادة فيها بالرضا والقناعة والعزة وحسن التوكل على الله، وثواب الآخرة وهو الجزاء الأوفى، أولئك رضى الله عنهم ورضوا عنه وذلك هو الفوز العظيم. وأنتم يا أصحاب الرسول محمد وخاتم الأنبياء والمرسلين أولى بهذا. روى أن بعض المنافقين حينما أذيع خبر مقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: من لنا برسول إلى ابن أبىّ يأخذ أمانا لنا عند أبى سفيان؟ وقال بعضهم: لو كان نبيا ما قتل، ارجعوا إلى إخوانكم ودينكم، وهذا أبو سفيان ينادى: العزى لنا ولا عزى لكم، فنزلت هذه الآيات. وبعد ما رغب المؤمنين في الاقتداء بأنصار الأنبياء السابقين وبين جزاء هذا وحذرهم من متابعة الكفار فإن في ذلك خسارة لهم. يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا الذين كفروا كأبى سفيان وعبد الله بن أبى والداعين إليهما، إن تطيعوهم يردوكم كافرين كما كنتم، خاسرين في الدنيا بالذلة بعد العزة وتحكم العدو فيكم، وحرمانكم من السعادة والملك الذي وعده الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً. «1» وأما خسران الآخرة فعذاب شديد يوم القيامة. بل الله مولاكم ولا مولى لهم، فلا يليق أن تفكروا في ولاية أبى سفيان أو غيره ولا   (1) سورة النور آية 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 تأبهوا لكلام المنافقين الجبناء، فالله نعم المولى وهو خير الناصرين، وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [سورة المنافقون آية 28] ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ [سورة محمد آية 11] . سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب بسبب شركهم بالله أصناما وحجارة، ليس لهم في هذا حجة ولا برهان، بل هم إذا خلوا إلى أنفسهم وجدوها تعبد معبودات كل حجتهم في عبادتها أنهم وجدوا آباءهم لها عابدين إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وعبادتهم الأصنام تورث في عقولهم خبالا وفي نفوسهم ضعفا وأى ضعف؟ وإذا رأوكم متمسكين بدينكم كان ذلك أدعى إلى إلقاء الرعب في قلوبهم وشكهم في أنفسهم، وهذا ما حصل ويحصل. هذا حالهم في الدنيا، وفي الآخرة مأواهم النار وبئس القرار فإنهم الظالمون المشركون. أما إذا رأيت المؤمنين مع الكافرين وقد انعكست الآية، وقد ألقى الرعب في قلوب المؤمنين فاعلم أنهم ليسوا مؤمنين حقا ولكنهم مسلمون بالوراثة والاسم فقط. ما أصاب المسلمين في أحد، وسببه [سورة آل عمران (3) : الآيات 152 الى 155] وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 المفردات: تَحُسُّونَهُمْ: تقتلونهم، من حسه، أى: أذهب حسه بالقتل. بِإِذْنِهِ: بأمره ودعوته. فَشِلْتُمْ: جبنتم وضعفتم. صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ: كفّكم عنهم وحوّلكم. لِيَبْتَلِيَكُمْ: ليختبركم، والمراد: ليعاملكم معاملة من يختبر وإلا فالله عالم لا يحتاج إلى اختبار. تُصْعِدُونَ من أصعد بمعنى أبعد في الذهاب وأمعن فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ: ولا تلتفتون لأحد فجازاكم. أَمَنَةً: الأمنة والأمن سواء. الْغَمِّ: ألم وضيق في الصدر من الأمر الذي لا يدرى الخلاص منه. لَبَرَزَ: لخرج. مَضاجِعِهِمْ: مصارعهم التي يصرعون فيها. اسْتَزَلَّهُمُ: أوقعهم في الزلل والخطأ. سبب النزول: روى الواحدي عن محمد بن كعب قال: لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة وقد أصيبوا بما أصيبوا يوم أحد قال الناس: من أين أصابنا هذا وقد وعدنا الله تعالى النصر؟ فأنزل الله: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ (الآية) . وتلاها ذكر الحوادث وأسبابها. المعنى: وتالله لقد وفّى لكم ربكم وعده، ونصر عبده، وأعز جنده وهزم المشركين وقت أن أخذتم تقتلونهم قتلا وتفتكون بهم فتكا، كل ذلك بتيسير الله ومعونته، وإذنه وإرادته. نعم صدقكم الله وعده، حتى ضعفتم في الرأى وجبنتم في الحرب، وفشلتم وتنازعتم واختلفتم فقال قائل: فيم وقوفنا وقد انهزم المشركون؟ وقال بعضهم: لا نخالف أمر الرسول أبدا، وما ثبت مكانه إلا عبد الله بن جبير في نفر قليل من أصحابه، وكان ما كان من أمر انهزامكم مما ذكر في (غزوة أحد) . منكم من يريد الدنيا وهم الذين تركوا أماكنهم طلبا للغنيمة، ومنكم من يريد الآخرة وهم الذين ثبتوا في مكانهم ولم يخالفوا أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم. ثم كفّكم عنهم حتى تحولت الحرب ودالت الدولة. فعل هذا بكم ليمتحن إيمانكم ويتبين أمركم، فيظهر الصادقون من المنافقين، ولقد عفا الله عنكم بذلك الابتلاء الذي محا أثر الذنب من نفوسكم وتاب عليكم لما ندمتم على ما فرط منكم، إنه هو التواب الرحيم وهو ذو الفضل العظيم على المؤمنين وكم نقمة في طيها نعم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 صرفكم الله عنهم فجازاكم غما وغما حين ابتلاكم بالهزيمة بسبب غم منهزمين لا تلتفتون وراءكم، والحال أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يدعوكم قائلا: «إلىّ عباد الله، إلىّ عباد الله، أنا رسول الله، من يكرّ فله الجنة» يدعوكم في الجماعة المتأخرة الذين ثبتوا مكانهم ولم تنخلع قلوبهم وظلوا يدافعون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم. صرفكم عنهم وقت أن كنتم تصعدون في الجبل وتبعدون في السير ألحقتموه للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعصيانكم أمره، ومخالفة رأيه، ويصح أن يفهم (أصابكم غما بعد غم) هزيمة المشركين وإشاعة قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم وقتل الأحبة وفوات النصر والغنيمة. وما فعل بكم كله إلا ليمرنكم على الشدائد فإنها هي التي تخلق الرجال والأمم ولئلا تحزنوا على شيء فات، ولا ما أصابكم من عدوكم، والله خبير بأعمالكم فمجازيكم عليها. روى الزبير- رضى الله عنه- أنه قال: لقد رأيتنى مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين اشتد علينا الخوف فأرسل الله علينا النوم والله إنى لأسمع قول معتب بن قشير والنعاس يغشاني: لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا. ثم أنزل الله الأمن على القلوب والطمأنينة على النفوس بالنعاس حتى كان يسقط السيف من أحدهم فيأخذه، والنعاس في هذه الحالة نعمة من نعم الله وحدّ فاصل بين حالتي الأمن والخوف، فإنه لا ينام الخائف أبدا. هذا النعاس غشى طائفة من الناس هم المؤمنون الصادقون الملتفون حول رسول الله. وهناك طائفة أخرى قد أهمتهم أنفسهم، وملأ الخوف قلوبهم ما بهم إلا همّ أنفسهم لا همّ الدين ولا همّ الرسول والمسلمين، وذلك لأنهم لا يثقون بنصر الله ولا يؤمنون بالرسول، فقلوبهم هواء، وهؤلاء هم المنافقون كمعتب بن قشير ومن لف لفه من أتباع ابن أبىّ، يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية الأولى. يقولون لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هل لنا من الأمر والنصر نصيب؟ يسألون كالمؤمنين في الظاهر والواقع أنهم ينكرون أن لهم شيئا من النصر والغلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 قل لهم يا محمد: إن الأمر والنصر كله لله، ولا يكون من غيره كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» . إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ . «2» هم يضمرون في أنفسهم العداوة والحقد لكم ويظهرون غير ذلك ولا غرابة فهم المنافقون والمخادعون. يقولون: لو كان لنا من النصر والفوز نصيب ما قتلنا ها هنا، فهزيمتنا دليل واضح على أن النصر لن يأتى لنا وأن محمدا ليس نبيا إذ لو كان نبيا ما هزم، فهم يربطون بين النبوة والنصر. وما علموا أن النصر من عند الله وتوفيقه وأن الهزيمة من أعمالهم ومخالفتهم، ومع ذلك فالعاقبة للمتقين. وهؤلاء ختم الله على قلوبهم، فغفلوا عن أن الأعمار بيد الله وأن النصر من عنده وأن الذين كتب عليهم القتل، لا بد من حصوله ولو كانوا في بروج مشيدة. قل لهم: لو كنتم في بيوتكم وقد كتب عليكم القتل، لخرج الذين كتب عليهم القتل إلى حيث يصرعون ويقتلون، فالحذر لا ينجى من القدر، والتدبير لا يقاوم التقدير والأمر كله بيد الله والعاقبة للمتقين. وقد فعل الله ما فعل، ليمتحن ما في صدوركم من الإخلاص والتقوى، وليمحص ما في قلوبكم من وساوس الشيطان حتى تصل إلى الغاية القصوى في اليقين، والله عليم بصاحبات الصدور التي لا تنفك عنها من الأسرار والضمائر فهو لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، وهو الغنى عن الابتلاء والاختبار ولكن يفعل هذا لينكشف حال الناس بعضهم لبعض فلا ينخدع إنسان بظاهر أخيه. إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان من المشركين والمسلمين وتركوا أماكنهم أو تولوا منهزمين، إنما أوقعهم الشيطان في هذا الخطأ بسبب بعض أفعالهم السابقة فإن الذنب الذي يفعله الإنسان يترك نكتة سوداء في القلب يرتكز عليها الشيطان فينفذ منها إلى الإنسان ويوحى إليه بالسوء. ولقد عفا الله عنهم لما تابوا وأنابوا وكانت عقوباتهم في الدنيا جوابر لهم، إن الله غفور للذنوب حليم لا يعاجل بالعقوبة.   (1) سورة المجادلة آية 21. (2) سورة الصافات آية 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 بث روح التضحية والجهاد في نفوس المؤمنين [سورة آل عمران (3) : الآيات 156 الى 158] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158) المفردات: ضَرَبُوا: سافروا في الأرض للتجارة والكسب. لِإِخْوانِهِمْ: لأجل إخوانهم، أى: في شأنهم والمراد بالأخوة ما هو أعم من أخوة النسب والدين والمودة: غُزًّى: جمع غاز، وهو المقاتل. حَسْرَةً: ندامة في قلوبهم. لما بين الله فيما مضى سبب الهزيمة وأن الشيطان قد استزلهم ببعض ما كسبوا. بين هنا ما يوسوس به الشيطان للناس فيعتقدون هذا الخطأ الفاسد. المعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تكونوا كأولئك المنافقين الذين طمس الله على قلوبهم وجعل على أبصارهم غشاوة، فأصبحوا لا يهتدون إلى صواب في رأى، فهم يقولون في شأن إخوانهم في الدين والرأى! حينما يسافرون للتجارة والكسب أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 يجاهدون في سبيل الله، فيحصل لهم موت أو قتل: لو كانوا عندنا لم يبرحوا مكانهم، ما ماتوا وما قتلوا. عجبا لهؤلاء البله أهم يظنون أن المنايا ترسل بلا حساب، وأن الهلاك لا يكون إلا بالسفر أو الحرب؟! ولله در خالد بن الوليد الذي يقول: ما في شبر من جسدي إلا وفيه ضربة سيف أو طعنة رمح وها أنا ذا أموت على الفراش كالبعير، فلا نامت أعين الجبناء!! ألم يسمعوا قوله تعالى: وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا «1» . وإذا لم يكن من الموت بدّ ... فمن العجز أن تموت جبانا فيا أيها المؤمنون لا تكونوا مثلهم، بل خالفوهم وثقوا بالله وأن كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ «2» فإنهم إن رأوكم هكذا لا تبالون بالموت. ولست أبالى حين أقتل مسلما ... على أى جنب كان في الله مصرعي جعل الله ذلك حسرة في قلوبهم وندامة. فأنتم المؤمنون المعتقدون أن الله يحيى ويميت وأنه هو المؤثر وحده وأنه يقول: أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ «3» والله بما تعملون بصير، فلا تخفى عليه خافية من خفايا نفوسكم ومعتقداتكم، وفي هذا ترغيب للمؤمنين وتهديد للكافرين، وتالله- أيها المسلمون- لئن قتلتم في سبيل الله أو متم فهناك مغفرة الله ورضوانه خير بكثير جدا مما يجمعون من حطام الدنيا الفانية. ألا ترى معى أن القرآن يربى فينا روح التضحية والكفاح من أجل العقيدة ورفع لواء الإسلام ويعدنا بأن من يقتل في سبيل الله فهو حي يرزق عند ربه وعند الناس حي بالذكر الطيب والثناء الجميل. وانظر إلى تقديم القتل في الجهاد والموت في غيره اعتبارا بالكثير الغالب.   (1) سورة آل عمران آية 145. (2) سورة آل عمران آية 185. (3) سورة النساء آية 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 بعض أخلاقه صلّى الله عليه وسلّم [سورة آل عمران (3) : الآيات 159 الى 164] فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164) المفردات: لِنْتَ لَهُمْ اللين: الرفق والسهولة في المعاملة. فَظًّا الفظ: السيئ الخلق الشرس. غَلِيظَ الْقَلْبِ: قاسيه الذي لا يتأثر بشيء. لَانْفَضُّوا مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 حَوْلِكَ : لتفرقوا من حولك. فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ التوكل: الاعتماد عليه. يَغُلَّ الغل: الأخذ خفية كالسرقة، ثم شاع في الأخذ من الغنيمة قبل التقسيم. السّخط: الغضب العظيم. مَأْواهُ: مصيره من: تفضل وأنعم. أَنْفُسِهِمْ: جنسهم. يُزَكِّيهِمْ: يطهرهم من أدران الوثنية وزائف العقائد. المناسبة: نعمة تتلوا نعمة، وفضل يتلو فضلا من الله ورحمة، فقد عفا عنهم وتاب عليهم ووفقهم لما فيه خير الدنيا والآخرة، وبرحمته وفضله كانت أخلاق المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وحسن معاملته للناس وإرشادهم إلى الخير والفلاح. المعنى: خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم إثر خطاب المؤمنين، فبرحمته- تعالى- وهدايته كنت سهلا في معاملتهم، لينا في إرشادهم وهدايتهم وقبول عذرهم، فيما فرط منهم. وهكذا كان الرسول مثلا أعلى للرئيس الحكيم والزعيم الموفق. ولو كنت (لا قدر الله) سيّئ الخلق، ضيق العقل، فظا جافى القلب، غليظ الكبد ما اجتمعوا حولك، وما تعلقت قلوبهم بك وكيف هذا؟ وقد أرسلت رحمة للعالمين وشهد لك القرآن وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ سورة القلم آية 42 وإذا كنت- يا رسول الله- بهذا الوصف فاعف عنهم، وتجاوز عما يبدر منهم واطلب لهم المغفرة من الله إنه هو الغفور الرحيم، وشاورهم في أمور الدولة ونظام الجماعة في الحرب والسياسة والاقتصاد والاجتماع أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ. أما أمور الدين فالقرآن هو الحكم وقد شهد لك بأنك لا تنطق عن الهوى، ولذا كانوا جميعا يقفون عند رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم والوحى في الدين وأحكامه، والمراد: ذم على ما أنت عليه كما فعلت في بدر وأحد من مشاورة أصحابك، وإن حصل خطأ في بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الآراء فهو قليل إذ رأيان خير من رأى، والاستشارة من كمال العقل وبعد النظر وحسن السياسة. ولذا كان رسول الله دائم الاستشارة في الأمور كلها. فالحكومة الإسلامية حكومة شورية عادلة دستورها القرآن وهاديها المصطفى وسنته، وليست الحكومات العباسية والأموية وغيرها دليلا عليها بل هي ملك عضوض وحكومات مادية استبدادية لم تحكّم القرآن في كل مشكلاتها. فإذا محص الرأى وظهر فانزل على حكم الأغلبية واعزم وسر على بركة الله واعتمد عليه وحده، فإن الإنسان مهما بعد نظره وحصف رأيه لا يرى من حجاب الغيب شيئا، وعلى الله فليتوكل المؤمنون فإنه هاديهم إلى الصراط المستقيم. والتوكل على الله يكون بعد البحث والنظر واستقصاء الجزئيات التي مرت، فأنت مكلف بطرق الأسباب الظاهرة والطرق المنتجة غالبا وبعد هذا لا تعتقد أن هذه الأسباب مؤثرة بطبعها وأنك واصل قطعا إلى ما تحب، لا، اعتقد أن هناك قوة فوق القوى وإرادة فوق كل إرادة هي إرادة الله- سبحانه وتعالى- فتوكل عليه واطلب منه التوفيق والسداد. فالله إن ينصركم فلا غالب لكم أبدا: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ «1» . وإن يخذلكم الله فمن ذا الذي ينصركم من بعده؟ لا أحد، وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون لأنه لا ناصر لهم سواه. روى الكلبي ومقاتل: أنه قيل للرماة الذين تركوا أماكنهم يوم أحد: لم تركتم أماكنكم؟ فقالوا: نخشى أن يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم من أخذ شيئا من مغنم فهو له وألا يقسم الغنائم كما لم يقسمها يوم بدر، فقال لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألم أعهد إليكم ألا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمرى؟ فقالوا: تركنا بقية إخواننا وقوفا، فقال لهم: بلى ظننتم أننا نغل ولا نقسم. إن الله قد عصم أنبياءه ورفع درجاتهم عن سفساف الأمور التي يترفع عنها متوسطو الناس، فما يصح ولا يليق بمكانة النبوة التي رفعها الله أن يأخذ نبي شيئا من الغنائم   (1) سورة محمد آية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وكيف يكون ذلك؟ وهم المثل العليا في الخلق الكامل والأدب العالي، وهم يعرفون أن من يأخذ شيئا في الدنيا بغير حق يأثم يوم القيامة وقد تمثل له كأنه حاضر أمامه وشاهد عليه وعلى عمله يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ [سورة لقمان آية 16] . ومعنى الإتيان: أن الله يعلمها حق العلم ضرورة أن من يأتى بالشيء يعرفه. وبعض المفسرين يرى أن معنى الإتيان أن الذي غل يأتى يوم القيامة وقد حمل المسروق في عنقه واستدلوا على ذلك بعدة روايات يمكن تأويلها. ثم توفى كل نفس يوم القيامة ما كسبت من خير أو شر وهم لا يظلمون وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [سورة الكهف آية 49] . وإذا كانت كل نفس توفى أجرها كاملا من خير وشر فهل يعقل أن يسوى بين المحسن والمسيء؟ أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ «1» ؟ أفمن اتبع رضوان الله وعمل عملا صالحا وابتعد عن الغل والفحش والمنكر حتى كأن رضوان الله أمامه. وقائده فلا يرى إلا حيث يرضى الله، ولا يكون حيث يغضب الله، أهذا يكون كمن رجع بغضب من الله يوازيه ويساوى ذنبه وجرمه، واتخذ غضب الله مكانا يبوء إليه ولا يتركه؟؟ أظن لا يسوى الله بين هذا وذاك!! إن كلا ممن اتبع رضوان الله من المؤمنين ومن باء بغضب الله الشديد لهم درجات ومنازل عند ربهم يوم القيامة فأعلى الدرجات: الرّفيق الأعلى درجة النبي المصطفى والحبيب المجتبى صلّى الله عليه وسلّم وأسفلها الدرك الأسفل: درك أولئك المنافقين والمشركين والكافرين، ولا غرابة فالله بصير بما يعملون. وكيف تظنون بنبيكم المصطفى هذه الظنون؟ ولقد منّ الله وتفضل به على الناس أجمع إذ أرسله رسولا ورحمة للعالمين ومنّ عليكم أنتم إذ أرسله من أنفسكم وجنسكم فهو عربي من ولد إسماعيل، وإذا كان كذلك كنتم أدرى الناس به وبخلقه وصدقه وطبعه ولسانه، وعلى هذا كنتم السابقين إلى الإسلام   (1) سورة السجدة آية 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 والتصديق به صلّى الله عليه وسلّم وهذا هو وجه المنة عليهم، وفي قراءة: من أنفسهم، أى: من أشرفهم. وهو يتلوا عليكم آياته الدالة على قدرته ووحدانيته وعلمه وكمال نعمته إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [آل عمران آية 190] . وهو يزكيكم ويطهركم من كل دنس ورجس، فقد أخرج من العرب الجاهليين أمة لها نظام وحكم وسياسة وإدارة حكمت أقوى الأمم من الفرس والروم. ويعلمكم الكتاب والقرآن والكتابة والحكمة، حتى كان منكم الكتاب والعلماء والحكماء والقادة في جميع العلوم والمعارف وقد كانوا من قبل بعثته لفي ضلال مبين. بعض قبائح المنافقين وأعمالهم [سورة آل عمران (3) : الآيات 165 الى 168] أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 المفردات: مُصِيبَةٌ: ما أصابهم يوم أحد من الهزيمة وقتل سبعين من المسلمين. أَنَّى هذا أى: من أين لنا هذا؟ وهو تركيب يفيد التعجب الْجَمْعانِ: جمع المسلمين وجمع المشركين. فَادْرَؤُا: فادفعوا عن أنفسكم ... لما حكى الله قولهم واتهامهم النبي صلّى الله عليه وسلّم المعصوم من كل عيب وخطأ أردف هذا ببيان خطئهم فيما قالوا وفعلوا يوم أحد! المعنى: يقول- سبحانه وتعالى- منكرا لقولهم هذا رادّا لفعلهم وأنه لا يليق: أفعلتم ما فعلتم وفشلتم وتنازعتم وعصيتم أمر رسولكم، ولما أصابتكم مصيبة في أحد قد أصابهم ضعفاها يوم بدر- وذلك أنهم قتل منهم في أحد سبعون، وقد قتلوا يوم بدر من المشركين سبعين وأسروا سبعين- قلتم أيها المنافقون حين هزمتم في أحد: من أين لنا هذا؟!! تعجبا، أى: من أين جاءت لنا هذه المصائب كأنهم فهموا أن النصر دائما في جانب المسلمين مهما خالفوا وعصوا أوامر الدين. وللأسف توجد فئة من المسلمين يفهمون مثل هذا الفهم ويعتقدون أن الله ناصر المسلمين وإن خالفوه وعصوا رسوله فالله- سبحانه- ينكر عليهم تعجبهم قائلا: إن كنتم هزمتم في أحد فقد هزمتم المشركين في بدر على أن هزيمتكم في أحد أنتم سببها قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ واعلموا إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فلم يكن هناك شيء خارج عن قدرته ولكنه- سبحانه- لحكم هو يعلمها- وقد صرح القرآن ببعضها- أراد لكم هذا المصير في غزوة أحد، وما أصابكم يوم التقى الجمعان في أحد، فبإذن الله وإرادته وتقديره لأن كل شيء في الوجود خاضع لإرادته وحكمته. وقد حصل هذا، ليعلم الله المؤمنين، ويتميزوا عن غيرهم فيعرفوا أنفسهم، والمراد: تحقيق إيمان الذين آمنوا وظهوره في الخارج. وكذا يتحقق نفاق الذين نافقوا منكم فقد كانوا حينما خرجوا من المدينة إلى أحد ألف مقاتل ثم رجع عبد الله بن أبىّ ومن معه من المنافقين في الطريق وكانوا ثلاثمائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 رجل، فبهذا عرفوا وعرف حقيقتهم في الإيمان ولا تنس من ترك مكانه من الرماة وخالف الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولولا غزوة أحد ما ظهر هذا كله. إن هؤلاء الذين نافقوا قيل لهم: تعالوا قاتلوا في سبيل الله وجاهدوا للدفاع عن الدين والحق والعدل ابتغاء مرضاة الله لا ابتغاء مكسب أو عرض دنيوى، أو: تعالوا قاتلوا على أنه دفاع عن النفس والأهل والوطن فإن هزيمة المسلمين هزيمة لسكان المدينة وضياع لكرامتها، فما كان من هؤلاء المنافقين إلا أنهم زاغوا وقعدوا وتكاسلوا قائلين: لو نعلم أنكم تلقون قتالا في غزوتكم هذه لاتبعناكم وسرنا معكم ولكننا نعلم أنكم لا تقاتلون. وقيل في معنى كلامهم: لو نعلم أنكم ذاهبون لقتال لذهبنا معكم ولكنكم ذاهبون لهلاك محقق فنحن لا نذهب معكم هؤلاء الناس يوم أن قالوا هذه المقالة وتخلفوا عن جيش المسلمين هم يومئذ للكفر أقرب منهم للإيمان، فقد ظهرت حقيقتهم، فبعد أن كانوا مستورين يطلق عليهم لفظ الإيمان أصبحوا لا ينطبق عليهم الوصف وصاروا أقرب إلى الكفر فإن من يقعد عن الجهاد في سبيل الله والدفاع عن الأوطان لا يصح أن ينطبق عليه وصف المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [سورة الحجرات آية 15] . هؤلاء يقولون: نحن مؤمنون- بأفواههم فقط- وهذا ديدن المنافقين يقولون ما ليس في قلوبهم، وهل يخلو نفاق من كذب وبهتان؟ والله أعلم بما يكتمون من الكفر والعداوة للمسلمين وتمنى هزيمتهم وزوالهم. هذه مقالتهم عن القتال لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ ولهم مقالة أخرى بعد الموقعة أشد خطرا وضررا. إنهم قالوا لأجل إخوانهم ومن على شاكلتهم في الجنس والدين والجوار وقعدوا عن القتال وتخلفوا عن شرف الجهاد، قالوا في شأن إخوانهم: لو أطاعونا ولم يسيروا مع المسلمين ما قتلوا كأنهم حصروا أسباب الموت والهلاك في ذهابهم إلى ساحة القتال! تبّا لهؤلاء الجبناء الرعاديد!! ألم يعلموا أن كثيرا ممن يذهب إلى القتال ينجو ومن يتخلف يموت وهل سبب الموت القتال فقط؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 إن كانوا صادقين في هذا الزعم الفاسد فليدفعوا عن أنفسهم الموت وهم أينما يكونوا يدركهم الموت ولو كانوا في بروج مشيدة؟! المستشهدون والمجاهدون في سبيل الله وجزاؤهم [سورة آل عمران (3) : الآيات 169 الى 175] وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175) المفردات: يَسْتَبْشِرُونَ الاستبشار: السرور الحاصل بالبشارة. لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 خَلْفِهِمْ المراد بهم: المقاتلون في سبيل الله ولم يستشهدوا. الْقَرْحُ: الألم الشديد، والمراد به: ما حصل يوم أحد. أَحْسَنُوا الإحسان: إتقان العمل على أكمل وجه. وَاتَّقَوْا أى: أخذوا الوقاية من عذاب الله وخافوا الإساءة والتقصير في العمل. حَسْبُنَا اللَّهُ: كافينا. الْوَكِيلُ: الذي توكل إليه الأمور. فَانْقَلَبُوا: فرجعوا بسرعة. الشَّيْطانُ هل هو إبليس؟ أو هو نعيم بن مسعود؟ سبب النزول: روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لما أصيب إخوانكم بأحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها وتأوى إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم وحسن منقلبهم، قالوا: يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله لنا؟» فقال الله تعالى: «أنا أبلغهم عنكم» فنزلت هذه الآية. والآيات مرتبطة بما قبلها إذ بعد أن ذكر الله مقالة المنافقين في القتال وقولهم لإخوانهم: لو قعدتم معنا ما قتلتم. أردف هذا بما يلاقيه المقاتلون في سبيل الله خاصة المستشهدين حتى لا يلقوا بالا لأقوال المنافقين وليكون ذلك حثّا للمؤمنين على الجهاد وتربية لهم على نصرة الإسلام وإعلاء كلمة الله. المعنى: ولا تحسبن أن الذين جاهدوا في سبيل الله وقاتلوا وقتلوا أمواتا لا يبعثون ولا يجازون على ما قدموا، لا: بل هم أحياء بعد استشهادهم مكرمون عند ربهم مختصون بتلك المكانة العليا التي استأثروا بها (فالعندية هنا) عندية مكانة وتشريف لا عندية مكان وحدود. هم أحياء عند ربهم حياة مؤكدة ثابتة بدليل قوله: يُرْزَقُونَ والحياة التي عناها القرآن وأكدها حياة غيبية الله أعلم بها، وليس من الخير البحث في أنها حياة مادية أو روحية بل نؤمن بما جاء به القرآن تاركين التفصيل والجدل فيما لا يجدي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 هؤلاء الشهداء فرحون ومغتبطون بما رأوه من نعيم مقيم وفضل كبير وإكرام جليل من الله لهم، وهم مسرورون بإخوانهم المجاهدين الذين لم يحظوا بعد بشرف الاستشهاد حينما رأوا ما أعد من الجزاء الأوفى لهم، وهو حياة أبدية ونعيم دائم لا يكدره خوف من وقوع مكروه ولا حزن على فوات محبوب. وهم يستبشرون ويفرحون بما يتجدد لهم من نعمة الحياة عند ربهم ورزقه لهم ويفرحون بما آتاهم الله من فضله. الخلاصة: أن الله- سبحانه وتعالى- ذكر الشهداء وأنهم أحياء عنده يرزقون، وأنهم فرحون بما حباهم الله من فضل وكرامة، وهذا الفضل مجمل، تفصيله ما بعده، أى: فضل يعود على إخوانهم في الحرب وفضل يعود عليهم أنفسهم وهو الخاص بهم في دار الكرامة وقد كرر للتأكيد، وفرحون بمن يجاهد في سبيل الله ولم يستشهد بعد، وهم من خلّفوهم في الحرب هؤلاء المجاهدون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون وأنهم بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ ليذهب الخيال في تصورهما كل مذهب ثم ختم الآية بالكلام على إخوانهم في الجهاد، بقوله: وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين، فالمراد بهم: المجاهدون الذين لم يستشهدوا بعد، وقد وصفهم بقوله: الذين استجابوا لله وللرسول من بعد ما أصابهم من الجراح والألم الشديد في غزوة أحد ولبوا نداء الرسول حينما طلبهم للقاء أبى سفيان في غزوة حمراء الأسد «1» الذين أحسنوا منهم العمل وأتقنوه واتقوا عاقبة تقصيرهم في العمل، وخافوا الله زيادة على ما هم عليه من الألم، أجر عظيم يتناسب مع عملهم وجهودهم، الذين قال لهم الناس- وهم نعيم بن مسعود كما ورد في بعض الروايات-: إن الناس- وهم قريش- قد   (1) غزوة حمراء الأسد: وهي متصلة بأحد، روى أن أبا سفيان وأصحابه لما رجعوا من أحد فبلغوا الروحاء (موضع بين مكة والمدينة) ندموا على تركهم بقايا المسلمين، وهموا بالرجوع ليستأصلوا ما بقي من المؤمنين بعد أحد فبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأراد أن يرهبهم ويريهم من نفسه وأصحابه قوة، فندب أصحابه للخروج في أثر أبى سفيان وقال: لا يخرجن معنا إلا من حضر يومنا بالأمس (القتال في أحد) فخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في جماعة من أصحابه حتى بلغوا حمراء الأسد- موضع على ثمانية أميال من المدينة- (وكان بأصحابه القرح والألم) فتحاملوا على أنفسهم حتى لا يفوتهم الأجر، وألقى الله الرعب في قلوب المشركين فذهبوا إلى مكة مسرعين، فنزلت الآية . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 جمعوا لكم جموعهم فاخشوهم ولا تخرجوا إليهم، وكان ذلك في غزوة بدر الصغرى (بدر الموعد) فَزادَهُمْ إِيماناً أى: فزادهم قول الناس لهم إيمانا وثقة به ويقينا في دينه، من حيث خافوه ولم يخافوا الناس واعتمدوا على نصره وعونه وإن قل عددهم فإنه هو العزيز القوى وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً [سورة الأحزاب آية 22] . وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ: كافينا الله ونعم الوكيل، فهو على كل شيء قدير ونعم المولى ونعم النصير. وفي الحديث: «إذا وقفتم في الأمر العظيم فقولوا: حسبنا الله ونعم الوكيل» وفي رواية: للبخاري عن ابن عباس: قالها إبراهيم الخليل حين ألقى في النار، وقالها محمد صلّى الله عليه وسلّم حين قال لهم الناس: إن الناس قد جمعوا لكم. لما فوضوا أمورهم إليه، واعتمدوا بقلوبهم عليه أعطاهم من الجزاء أربعة: النعمة، والفضل، وصرف السوء، واتباع الرضا، فرضّاهم عنه ورضى عنهم وذلك هو الفوز العظيم، وفي هذا إشارة إلى الخسارة الفادحة التي لحقت بالقاعدين المتخلفين المنافقين وذلك معنى قوله تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ (الآية) . إنما ذلك الشيطان- وهو نعيم بن مسعود- المثبط للمسلمين يخوف أولياءه الذين قعدوا عن رسول الله، وقيل: المعنى إنما ذلك قول إبليس الملعون يخوفكم أولياءه من صناديد الكفار كأبى سفيان، فلا تخافوهم وخافوني فاتبعوا أمرى وجاهدوا مع رسولي، سارعوا إلى ما يأمركم به إن كنتم مؤمنين حقا. ما يؤخذ من الآية: 1- أن المؤمن القوى لا يكون جبانا، بل الجبن لا يجتمع مع الإسلام الكامل. 2- مكانة الاستشهاد في سبيل الله وجزاؤه عند الله. 3- أن الخوف يجب أن يكون من الله فقط لا من الأعداء مهما كانوا. 4- على المؤمن أن يعالج أسباب الخوف فلا يسترسل فيها حتى على تلك العادة الرذيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان بعض الحكم [سورة آل عمران (3) : الآيات 176 الى 179] وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178) ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) المفردات: وَلا يَحْزُنْكَ حزن يحزن، وأحزن يحزن: بمعنى يكدرك ويؤلمك. حَظًّا: نصيبا. اشْتَرَوُا الْكُفْرَ: أخذوا الكفر بدلا من الإيمان بفعل المشترى يعطى شيئا ويأخذ بدله. نُمْلِي: نمهل، والإملاء: الإمهال والتملية بين الإنسان وشأنه يفعل ما يشاء، مأخوذ هذا من قولهم: أملى لفرسه: إذا أرخى لها الحبل لترعى ما تشاء.. لِيَذَرَ: ليترك. يَمِيزَ أى: من مازه بمعنى ميّزه. الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ المراد بهما: المؤمن والمنافق. يَجْتَبِي: يختار. لما أظهر الكافرون والمنافقون ما كانوا يضمرونه للنبي صلّى الله عليه وسلّم من أمثال قولهم: لو كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 محمد نبيا ما قتل ولا هزم وأسرعوا في نصرة الكفار وتثبيط المؤمنين عن القتال، كل هذا كان يؤلم النبي صلّى الله عليه وسلّم ويحزنه، فنزلت هذه الآيات تسلية وتثبيتا لقلبه. المعنى: ولا يحزنك يا محمد الذين يسارعون في نصرة الكفر والسعى في إعلاء كلمته ويبذلون المال والرجال في خدمته كأبى سفيان وغيره من صناديد الكفار واليهود والمنافقين. ولا يحزنك هؤلاء لأنهم يحاربونك فيضرونك إنما يحاربون الله القوى القدير، فهم إذا لا يضرون إلا أنفسهم والعاقبة عليهم. وقيل: المعنى إنهم لن يضروا حزب الله من المؤمنين لأن الله ناصرهم فهم إذا لا يضرون إلا أنفسهم، وقد بين الله ذلك بقوله: يريد الله ألا يجعل لهم نصيبا في الآخرة من الثواب لأن طبيعتهم قد فسدت، وميلهم دائما إلى الشر والضرر، وهكذا سنة الله وإرادته مع أمثالهم، ولهم عذاب في الدنيا والآخرة سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ «1» عذابا عظيما هائلا يستحقونه لمساعدتهم في نصرة الكفر وتأييده، وهل هذا الجزاء للمسارعين في نصرة الكفر فقط؟ لا. بل كل من اختار الكفر وآثره على الإيمان ظنا منه أنه ربح في هذا الاستبدال لن يضر الله شيئا من الضرر، بل الضرر عليهم ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله ولهم عذاب أليم مؤلم للغاية في الدنيا والآخرة. وإذا كان هذا حال الكفار فكيف ترى أن الله يمد لهم في الدنيا ويملى لهم في أعمالهم؟ ولذا أجاب الله بقوله: (ولا يحسبن الذين كفروا) أن إملاءنا لهم خير فإن الإملاء يكون خيرا إذا كان صاحبه يستغله في عمل الخير له، وهؤلاء يملى لهم الله فتكون عاقبتهم أنهم يزدادون إثما على إثم ويبالغون في الباطل والبهتان، فلهم عذاب مهين، وإنما نملي لهم ليتوبوا، ويقلعوا عما هم فيه فيكون الإملاء خيرا، ولكن جرى في علم الله أن بعضهم لن يعود إلى الخير ويؤوب إلى الرشد فهؤلاء لهم عذاب مهين، وأى إهانة أشد من هذا؟؟ وما كان الله ليترك المؤمنين على حالهم فلا يميز المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، فإن هذا يضر جماعة المسلمين، فإنه لا بد للجماعة من أن تعرف قوتها الحقيقية فتسير   (1) سورة التوبة آية 101. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 عليها، ولا تغتر، على أن الفرد قد يغتر بنفسه، فإذا ما امتحن عرف إيمان نفسه، وما سبيل التمييز بين هذا وذاك إلا بالاختبار بالشدائد والامتحان بالمصائب وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ [سورة محمد آية 31] وقد اختبر الله الناس بغزوة أحد كما مضى، وما كان الله ليعلمكم حقيقة أنفسكم بطريق الغيب، فإنه خلق الإنسان وقدر له أن يصل إلى ما يريد بالعمل الكسبي الذي ترشده له الفطرة وهدى الدين. ولذلك جرت سنة الله أن يميز بالابتلاء سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [سورة الأحزاب 62] ولكن الله يختار من يشاء من رسله لأن مرتبة الاطلاع على الغيب مرتبة عليا عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ [سورة الجن آية 26 و 27] فالرسول يطلعه الله على بعض الغيب فيخبر ببعضه عباده فيكون منهم الذين يؤمنون بالغيب، ولذا ختم الآية بقوله: فآمنوا بالله وما يخبر به رسوله. وإن تؤمنوا بذلك وتتقوا الله فلكم أجر عظيم وثواب جزيل. وفقنا الله لأن نكون من هؤلاء. البخل شر يوم القيامة [سورة آل عمران (3) : الآيات 180 الى 184] وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180) لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (184) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 المفردات: سَيُطَوَّقُونَ: إما من الطاقة، ف المعنى: سيكلفون ذلك يوم القيامة. وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ «1» أو: من الطوق، فالمعنى سيلزمون إثمه في الآخرة كما يلزم الطوق الرقبة فلا يجدون عنه مصرفا. مِيراثُ: ما يتوارثه أهلهما من مال وغيره. سَنَكْتُبُ ما قالُوا: سنسجل ما قالوه، والمراد: إننا سنعاقبهم عليه. ذُوقُوا: أصل الذوق: إدراك المطعومات بالفم، ثم أريد به هنا إدراك المحسوسات مطلقا. الْحَرِيقِ: المحرق والمؤلم، والمراد: عذاب هو المحرق والمؤلم. عَهِدَ إِلَيْنا: أمرنا به في التوراة. القربان: ما يتقرب به إلى الله. الزُّبُرِ: جمع زبور، وهو الكتاب. الْمُنِيرِ الذي ينير الطريق، والمراد الإنجيل. كان ما مضى من التحريض على بذل النفس في الحرب وجزاء الاستشهاد، وهنا علاج لمرض من أخطر الأمراض وهو البخل، إذ حياة الأمم متوقفة على بذل النفس والمال. وإلى هنا انتهى الكلام عن غزوة أحد وما يتعلق بها. المعنى: ولا يظن أحد أن بخل الذين يبخلون بما حباهم الله من فضله خير لهم كما يتوهمون أن كنز المال ينفع في الملمات وأن الجود يفقر، والإقدام قتّال، لا: بل هو شر مستطير   (1) سورة القلم آية 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وخطر جسيم على الأمة والفرد، والظاهر أن المراد بالبخل البخل بالقدر من الزكاة المحددة والصدقة المطلقة إذ لم يأمرنا الدين بالإنفاق لكل ما نملك. أما خطره في الدنيا فظاهر في الحملات الشعواء على الأغنياء الجشعين وشيوع الأفكار الهدامة للنظم الاجتماعية العامة، وأما شره في الآخرة فما عبر القرآن الكريم بأنهم سيلزمون عاقبة بخلهم إلزام الطوق في العنق فلا يجدون عنه صرفا ولا محيلا. وفي بعض الروايات عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في مانع الزكاة. يطوق بشجاع أقرع، وروى بشجاع أسود، وقيل: يجعل ما بخل به حية يطوقها في عنقه يوم القيامة تنهشه من قرنه إلى قدمه وتنقر رأسه وتقول: أنا مالك أنا كنزك. وكيف تبخلون بالمال أو الجاه أو العلم؟ لأن هذا كله مما آتاه الله، والآية مطابقة يدخل فيها كل ذلك وإن كان دخول المال فيها دخولا أوليا؟ وكيف تبخلون بالمال وتكنزونه للولد والوارث؟ ولله- سبحانه- ما في السموات والأرض مما يتوارثه أهلوها من مال وغيره فما لهم يبخلون بملكه وقد طلبه منهم؟ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ [الحديد 7] وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ [البقرة 3] وفي الآية إيماء إلى أن كل ما منحه الله للإنسان من مال أو جاه أو قوة أو علم هو عرض زائل وعارية مستردة، وصاحبه فان غير باق، ولله تصريف الأمور، فربما جمعت المال ليرثه ابنك حتى يكون غنيا والله لم يقدر له ذلك فيضيع ما جمعت، ولله ميراث السموات والأرض والله بما تعملون خبير لا تخفى عليه منكم خافية. روى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أتت اليهود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين أنزل مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً [البقرة 245 الحديد 11] فقالوا: يا محمد؟ أفقير ربك؟ يسأل عباده القرض ونحن أغنياء؟ فأنزل الله: لقد سمع الله ... الآية ، وفي رواية وقع نقاش بين أبى بكر- رضى الله عنه- وفنحاص اليهودي في هذا الموضوع فلطمه أبو بكر فشكا إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال لأبى بكر: لم فعلت؟ قال: يا رسول الله، إن عدو الله قال: إن الله فقير ونحن أغنياء فأنكر فنحاص ذلك فنزلت الآية تأييدا لكلام أبى بكر وتسجيلا على فنحاص، والمعنى: سنحفظ عليهم مقالتهم ونحصيها عليهم فيعاقبون على ما قالوا أشد العقوبة. ولا غرابة في ذلك فهم اليهود الذين مرنوا على النفاق ومردوا على السوءات فهم الذين قتلوا الأنبياء قديما بغير حق ولا ذنب إلا أنهم يقولون: ربنا الله، ونسبة القتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 لليهود الأحياء مع أنهم لم يباشروه لأنهم راضون عنهم وهم سلفهم ومن أمتهم، والأمة تؤخذ بذنب أفرادها لأنهم بين فاعل القبح وتارك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فيكون مشتركا بالقوة لا بالفعل. وهؤلاء اليهود حاولوا مرارا قتل النبي صلّى الله عليه وسلّم (وما حادثة أكلة خيبر ببعيدة) . وجزاء هؤلاء أن الله سينتقم منهم أشد الانتقام ويقول لهم إهانة وتنكيلا بهم وتعذيبا: ذوقوا عذابا هو الحريق المؤلم فإنكم أهل له كما أذقتم المؤمنين سابقا عذاب الدنيا وألمها. هذا العذاب الأليم لهم بما قدمته أيديهم وجنته جوارحهم، وذكر الأيدى للتغليب وللتأكيد بأنهم فعلوا ما فعلوا بأنفسهم. ولأن الله هو الحكم العدل وليس بذي ظلم للعبيد أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ «1» ! أفنجعل المسلمين كالمجرمين؟ ما لكم كيف تحكمون!!؟ فما ترك عقاب المسيء مساواة بينه وبين المحسن، ولا شك أن هذا وضع للشيء في غير موضعه، سبحانه وتعالى عما يشركون!! هؤلاء اليهود لهم السوءات الكبيرة فهم البخلاء بالمال، المانعون للزكاة، القاتلون للأنبياء، الظالمون في كل عمل، القائلون كذبا: إن الله عهد إلينا ألّا نؤمن برسول أيا كان حتى يأتينا بقربان نتقرب به إلى الله فتأكله النار، وكانوا يفترون على الله الكذب ويذيعون أن الله أوحى إليهم في التوراة هذه المقالة. فرد الله عليهم أن هذه معجزة، والمعجزة سيقت لتأكيد الرسالة وإثبات صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم المبعوث، وقد أرسلت لكم المعجزات وأتتكم الرسل بالبينات الواضحات الدالات على صدقهم فلم كذبتموهم ولم تصدقوهم؟ ولم قتلتموهم إن كنتم صادقين؟ فإن كذبوك يا محمد بعد هذا كله فقد كذبت رسل قبلك كثيرة جاءوا بالبينات المعجزات وأيدوا بالكتب خاصة الكتاب المنير وهو الإنجيل، وهذه تسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم.   (1) سورة الجاثية آية 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 نهاية كل حي والابتلاء في الدنيا [سورة آل عمران (3) : الآيات 185 الى 186] كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186) المفردات: تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ: تعطونها وافية غير منقوصة. زُحْزِحَ: نحّى عنها وأبعد. مَتاعُ: ما يتمتع وينتفع به. الْغُرُورِ: مصدر غره، أى: خدعه. لَتُبْلَوُنَّ البلاء: الاختبار، والمراد: لتعاملن معاملة المختبرين حتى تظهر حالكم على حقيقتها. أَذىً كَثِيراً كالطعن في الدين والكذب على الله ورسوله. والصبر: حبس النفس على ما تكره، ومقاومة الجزع بالتقوى والرضا. مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ: من معزومات الأمور، أى: مما يجب العزم عليه من الأمور، أو مما عزمه الله أن يكون بمعنى مما حتم أن يكون. المعنى: ما مضى كان في تسلية الرسول صلّى الله عليه وسلّم ببيان حال الناس مع الأنبياء قديما وحديثا.. وهنا تسلية عامة للنبي وأصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 كل حي إلى ممات وكل نفس إلى فوات، وكل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون، وكلكم تموتون، فمن كان منكم مسيئا كالكفار فإساءته محدودة موقوته فلا تضجروا منها ولا تألموا فسيجازون عليها الجزاء الأوفى. وأنتم لا تيأسوا ولا تحزنوا من ضر أصابكم أو ألم حاق بكم فكل نفس ذائقة الموت، وإنما تأخذون حقكم وجزاءكم وافيا كاملا غير منقوص يوم القيامة، يوم الجزاء والوفاء، يوم القسطاس والميزان، يوم توفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون. فمن نحّى عن النار وأبعد عنها وأدخل الجنة فقد فاز فوزا عظيما، وهذا التعبير فيه إشارة إلى أن أعمال الناس في مجموعها تدعو أصحابها إلى النار لأن الإنسان فيه معاني الحيوانية والشهوة أكثر بكثير من معاني الخير، فكأن كل شخص مشرف عليها، وأن مجرد الزحزحة عنها فوز وأى فوز؟! فالمزحزحون عن النار: من غلبت صفاتهم الروحانية على صفاتهم الحيوانية فأخلصوا أو اتجهوا لله- سبحانه وتعالى-. وما الحياة الدنيا- والمراد منها حياتنا هذه ومعيشتنا الحاضرة التي نشغلها باللذات الجسمانية كالأكل والشرب أو المعنوية كالجاه والمنصب والسيادة- هذه الحياة متاع الغرور لأن صاحبها دائما مغرور بها مخدوع. شبه الدنيا بصفقة خاسرة اشتراها صاحبها من النفس والشيطان والهوى وقد غشه فيها البائع وغره ودلس عليه، فلما انتهى الأمر تبين فسادها ورداءتها. فالواجب على العاقل ألا يغتر بها وألا يسرف في حبها ويترامى في أحضان مظاهرها وإلا أصابه شررها، والويل له عند فراقها. وبعد هذا سلّى الله نبيه المصطفى بتسلية عامة في الحرب والسلم: وهي كما لقى من الكفار يوم أحد ما لقى!! سيلقى أذى كثيرا في النفس والمال. والمقصود من هذا توطين النفس وتربيتها على تحمل الأذى والشدائد. والابتلاء من الله في الأموال يكون بطلب البذل في جميع وجوه الخير والبر وفيما يعرض من الحوائج والآفات، والابتلاء في النفس يكون بطلب الدفاع والجهاد في سبيل الله والقتل في الحرب والموت العادي في الأهل والأولاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 لتسمعن أيها المسلمون من المشركين واليهود والنصارى أذى كثيرا وطعنا في الدين والقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم. ولكن العلاج الوحيد والدواء الرباني لكل ما مضى هو الصبر والتقوى ونعم هذا الدواء لكل داء. إن تصبروا وتتقوا يؤتكم أجرين من رحمته وذلك هو الفوز العظيم. بعض قبائح أهل الكتاب [سورة آل عمران (3) : الآيات 187 الى 189] وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189) المفردات: مِيثاقَ: هو العهد المؤكد الذي أخذ على أهل الكتاب بوساطة الأنبياء. لَتُبَيِّنُنَّهُ: لتظهرن جميع ما فيه من الأحكام والأخبار حتى يعرفه الناس على وجهه الصحيح. فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ: هذه العبارة مثل في ترك الأمر، ويقتضيها وضع الأمر نصب أعينهم. أَتَوْا: فعلوا. بِمَفازَةٍ: فوز من العذاب. المناسبة: إيذاء أهل الكتاب للنبي كثير، والعجيب أن يطعنوا في الدين وهم قد أمروا بأن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 يشرحوا للناس ويبينوا حقيقة النبي صلّى الله عليه وسلّم وصفته التي في كتبهم، ولكنهم- اليهود والنصارى- فرحوا بما أوتوا وكتموا ما أنزل عليهم. المعنى: واذكر يا محمد وقت أن أخذ الله العهد المؤكد بوساطة الأنبياء على أهل الكتاب، وأقسم عليهم ليبينن الكتاب للناس ويظهرونه ولا يحرفونه عن موضعه حتى يفهمه الناس ولا يضطربون فيه. وقد نبذ أهل الكتاب التوراة والإنجيل وراءهم ظهريا. فكان منهم أمة يحملون الكتاب كما يحمل الحمار الأسفار فلا يعرفون منه شيئا، ومنهم الذين يحرفون الكلم عن موضعه ويغيرون ويبدلون ويشترون به ثمنا قليلا، ومنهم الذين لا يعلمون منه إلا أمانى يتمنونها ومشتهيات يشتهونها. واشتروا به ثمنا قليلا من حطام الدنيا الفانية كالرياسة الكاذبة والمال الزائل، فكانوا مغبونين في هذا البيع والشراء الذي فيه العرض الفاني بدل النعيم الباقي فبئس ما يشترون. روى الشيخان أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سأل اليهود عن شيء في كتبهم فكتموا الحق وأخبروه بخلافه وأروه أنهم قد صدقوه واستحمدوا إليه وفرحوا بما فعلوا، فأطلع الله رسوله على ذلك وسلاه بما أنزل من وعيده لهم ، وروى الشيخان من حديث أبى سعيد الخدري أن رجالا من المنافقين كانوا إذا خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الغزو تخلفوا عنه وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإذا قدم اعتذروا إليه وحلفوا وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا، فنزلت هذه الآية وهي تحتمل المعنيين ... والقرآن الكريم بين فيها حالا أخرى لأهل الكتاب حتى لا نكون مثلهم وهي أنهم كانوا يفرحون بما أوتوا من التأويل والتحريف للكتاب ويرون لأنفسهم شرفا فيه وفضلا بأنهم قادة وأئمة يهتدى بهم، وهذا فرح باطل وغرور كاذب، وكانوا يحبون أن يحمدوا بأنهم حفاظ الكتاب وعلماؤه وهم لم يفعلوا شيئا من ذلك وإنما فعلوا نقيضه، وهؤلاء قد اشتبه أمرهم على الناس فهم يحسبون أنهم أولياء الله وأنصار دينه، وهم الذين حرفوه وغيروه فلا تحسبنهم بمفازة ومنجاة من العذاب بل لهم عذاب أليم غاية الألم في الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 فيا أيها المسلمون: إياكم وهذا العمل الشنيع الذي يقوم به أهل الكتاب، ولا تحزنوا ولا تضعفوا واصبروا واتقوا الله، وبينوا الكتاب ولا تشتروا به ثمنا قليلا وعرضا زائلا ولا تفرحوا بما تفعلون، ولا تحبوا أن تحمدوا بما لم تفعلوا فإن الله- تعالى- يكفيكم ما أهمّكم وينصركم على أعدائكم، ويغنيكم عن هذه المنكرات التي نهيتم عنها، فلله ملك السموات والأرض وما فيهن يعطى ويمنع وهو على كل شيء قدير لا يعز عليه نصركم وهلاك من يؤذيكم من أهل الكتاب والمشركين، وإلى الله ترجع الأمور. وفي هذا تسلية ووعد بالنصر للنبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه. ما تشير إليه الآية: إن الواجب على العلماء وعلى كل من يفهم كتاب الله أن يبينه ويوضحه ويظهر ما فيه من عظة وأسرار في الأحكام العامة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، والأحكام الدينية وعلاقتها بصالح الأمة- وها نحن نأمل أن يوقظ الله العلماء فيثابروا ويتعاونوا ويستهينوا بالصعاب حتى يخرجوا للناس كنوز الدين بما يلائم المجتمع الحاضر. فإن الواجب ينحصر في شيئين: (أ) تبيين الدين وحقيقته لغير المؤمنين حتى يهتدوا به ويدخلوا فيه. (ب) تبينه للمسلمين حتى يهتدوا به ويفهموه على حقيقته ويعرفوا مخلصين أنه الطريق الوحيد للخلاص من كل ما يضرنا ويؤذينا من خلق فاسد وداء كامن ومستعمر جاثم، فو الله! أيها الناس: لا خلاص لنا إلا بالدين ولا خير إلا في القرآن، فتعلموه وافهموه وادرسوه تكونوا من الناجين في الآخرة. وقد روى عن على- كرم الله وجهه- أنه قال: ما أخذ الله على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 ذكر الله والتفكر في خلقه وأثرهما [سورة آل عمران (3) : الآيات 190 الى 195] إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194) فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 المفردات: خَلْقِ الخلق: التقدير والترتيب الدال على النظام والإحكام. السَّماواتِ السماء: ما علاك. وَالْأَرْضِ: ما نعيش عليها. لَآياتٍ: لأدلة على وجود الله وقدرته ووحدانيته وعلمه. الْأَلْبابِ: العقول. باطِلًا: عبثا لا نتيجة له. سُبْحانَكَ: تنزيها لله عما لا يليق به. الذَّنْبِ: هو الكبيرة، وقيل: ما كان بينك وبين ربك. السيئة: هي الصغيرة، وقيل: ما كان بينك وبين الخلق. المناسبة: قال الإمام الرازي: اعلم أن المقصود من الكتاب الكريم جذب القلوب والأرواح من الاشتغال بالخلق إلى الاستغراق في معرفة الحق، فلما طال الكلام في تقرير الكلام والجواب عن شبهات المبطلين عاد إلى إثارة القلوب بذكر ما يدل على التوحيد والألوهية والكبرياء، والجلال لله- سبحانه وتعالى- فذكر هذه الآية. المعنى: ما هذا الكون البديع الصنع؟ وما هذا العالم المحكم الترتيب، وما هذه السماء وأعاجيبها، وما بال نجومها وأفلاكها، وما هذه الشمس وضحاها، والقمر إذا تلاها، والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها، والسماء وما بناها؟! وما هذه الأرض وما طحاها، أخرج منها ماءها ومرعاها، وأنبت فيها كل نبت وأرساها، وشق فيها أنهارها وحلاها، وما هذا الليل والنهار، وهذا الفلك الدوار، ليل يزحف بجحافله، ونهار يختفى بمعالمه، ثم لا يلبث أن تعاد الكرة بنظام ومسرة، أليس يدل هذا على الخبير البصير؟ المحكم التدبير، الواحد القدير؟ إن في ذلك لآيات لأولى الأبصار!! عن عائشة- رضى الله عنها- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: هل لك يا عائشة أن تأذنى لي الليلة في عبادة ربي؟ فقلت: يا رسول الله إنى لأحب قربك وأحب هواك (ما تهوى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وتريد) وقد أذنت لك، فقام إلى قربة من ماء في البيت فتوضأ ولم يكثر صب الماء، ثم قام يصلى فقرأ من القرآن، وجعل يبكى حتى بلت الدموع حقويه، ثم جلس فحمد الله وأثنى عليه، وجعل يبكى، ثم رفع يديه فجعل يبكى حتى رأيت دموعه قد بلت الأرض، فأتاه بلال ليؤذن بصلاة الغداة فرآه يبكى فقال له: يا رسول الله: أتبكي وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا بلال أفلا أكون عبدا شكورا؟! ثم قال: وما لي لا أبكى؟ وقد أنزل الله علىّ في هذه الليلة: إن في خلق السموات والأرض. ثم قال: ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. وأولوا العقول والأرواح الطيبة هم الذين ينظرون إلى السماء والأرض وما فيهما فيذكرون الله ويذكرون نعمه وفضله على العالم في كل حال من قيام وقعود واجتماع ذكر بالقلب حتى يطمئن أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [سورة الرعد آية 28] ثم يتبعون ذكر الله بالتفكير في بديع صنعه وأسرار خلقه وما في هذه العوالم من منافع وحكم وأسرار تدل على كمال العلم وتمام القدرة والوحدانية التامة في الذات والصفات والأفعال. والمراد التفكر في خلق الله لا في ذات، الله، فقد ورد «تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق» ومع التفكر اذكروا الله ذكرا كثيرا وسبحوه بكرة وأصيلا، وما حال هؤلاء الذين يجمعون بين التذكر والتفكير؟ يقولون باللسان وقلبهم بين الخوف والرجاء: ربنا ما خلقت هذا الكون باطلا وما خلقت هذا الخلق عبثا أو كمّا مهملا! بل لا بد لهذا الخلق من نهاية يأخذ المطيع والعاصي جزاءه إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وإذا كان كذلك فقنا يا ربنا واصرف عنا عذاب النار بعنايتك وتوفيقك لنا. واجعلنا مع الأبرار بهدايتك ورحمتك يا أرحم الراحمين، ثم إنهم بعد أن يصلوا بالفكر والذكر إلى حقيقة هذا العالم ومآله وقد دعوا ربهم أن يقيهم عذاب جهنم في الحياة الثانية يقولون متضرعين: ربنا إنك من تدخله النار فقد أهنته وأخزيته لأن من يعصيك فأنت قاهره ومذلّه، وكيف لا وقد سخرت هذا العالم وأخضعته لكمال قدرتك وعظيم إرادتك، فمن عاداك فلا ملجأ منك إلا إليك، وليس له شفيع أو نصير، وما للظالمين من أنصار!! وقد وصف من يدخل النار بأنه يستحق هذا لظلمه وتجاوزه الحد المعقول، هذا ما نتجه الفكر والنظر الصحيح في الكون وما فيه. وأما السمع فحينما سمعوا نداء الرسل الكرام قالوا: ربنا إننا سمعنا رسولا ينادى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 للإيمان: أن آمنوا بربكم وصدقوا برسالتي، فلم يتلكئوا ولم يبطئوا بل أسرعوا فآمنوا بالمنادي ورسالته وكتابه المنزل عليه، ومن آثار الإيمان القلبي المبنى على اليقين الكامل أن قالوا: ربنا فاغفر لنا ذنوبنا التي ارتكبناها من مخالفة أمرك وهكذا حينما يمتلئ القلب من الإيمان الصحيح يشعر صاحبه بالخوف من ذنوبه وهفواته، فيطلب من الله المغفرة والستر (حسنات الأبرار سيئات المقربين) وقيل: المراد بالذنوب: الكبائر، والسيئات: الصغائر، وقال بعضهم: الذنوب: التقصير في عبادة الله، والسيئات: التقصير في حقوق العباد ومعاملة الناس بعضهم لبعض، ربنا وأمتنا مع الأبرار الأطهار من عبادك المخلصين، ربنا وأعطنا ما وعدتنا (وأنت الصادق الوعد) من حسن الجزاء والنصر في الدنيا والنعيم السابغ في الآخرة جزاء على تصديق رسلك واتباعهم، ولا تفضحنا ولا تهتك سترنا يوم القيامة يوم تكشف السرائر وتهتك الحجب والستائر. إنك يا رب لا تخلف الميعاد وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ «1» . فاستجاب لهم ربهم بأن أعطى كل عامل جزاء عمله كاملا غير منقوص سواء كان ذكرا أو أنثى. لا فرق عنده، بل العدل يقتضى المساواة التامة في الجزاء، وقد أشير إلى أن هذا الجزاء إنما هو باعتبار العمل لا باعتبار شيء آخر: «يا فاطمة لا أغنى عنك من الله شيئا» «2» حديث شريف. وإنه لا فرق بين الذكر والأنثى بعضكم من بعض، فالرجل مولود من الأنثى والأنثى مولودة من الرجل، إذ كلهم لآدم وآدم من تراب. وقد أتبع هذا الحكم ببيان سببه، فلا غرابة في هذا فالذين هاجروا من ديارهم وتركوا أموالهم وأولادهم وديارهم إرضاء لله ورسوله، أو أخرجوا منها عنوة وأوذوا في سبيلي وابتغاء مرضاتي وقاتلوا وقتلوا. لأكفرن عن هؤلاء جميعا سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أثابهم الله ثوابا من عنده وذلك هو الفوز العظيم. والله عنده حسن الثواب، وحيث ربط القرآن الكريم هذا الجزاء العظيم بالهجرة والقتال والإيذاء في سبيل الله يمكننا أن نؤكد ما قلناه أولا من أن السبب في الجزاء هو العمل وأنه لا فرق بين ذكر وأنثى، وإنما الفرق بين عمل وعمل، وإخلاص وعدمه.   (1) سورة التوبة آية 72. [ ..... ] (2) أخرجه البخاري في كتاب التفسير حديث رقم 4771. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الخلاصة: أن الله وعد من فعل ذلك بأمور ثلاثة: 1- محو السيئات وغفران الذنوب جوابا لقولهم: فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ. 2- هذا الثواب مقرون بالتبجيل والإجلال جوابا لطلبهم: وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ. 3- إعطاء الثواب العظيم وهو قوله: لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وهذا ما طلبوه بقولهم: وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ. يستفاد من الآية: (أ) أن الجزاء منوط بالعمل لا بشيء آخر. (ب) أن الإسلام يمحو الفوارق بين الذكر والأنثى في العمل والثواب، وهو أول دين كرم المرأة وعرف لها حقوقها، وليس أخذها نصف الرجل في الميراث هضمها لحقها، بل هي مكرمة عند زوجها أو أخيها، والرجل مكلف بزوجة أخرى والولاية لحفظها وصونها وقصرها على ما هو أهم من ذلك. المؤمنون والكافرون وجزاء كل [سورة آل عمران (3) : الآيات 196 الى 200] لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 المفردات: لا يَغُرَّنَّكَ الغرة: غفلة في اليقظة، يقال: غرّنى ظاهره، أى: قبلته في غفلة عن امتحانه. تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا: تصرفهم في التجارة والمكاسب. مَتاعٌ المتاع: ما يتمتع به صاحبه، ووصف بالقلة لأنه قصير الأمد زائل وكل زائل قليل. جَهَنَّمُ: اسم للدار التي يجازى فيها الكافرون في الآخرة. الْمِهادُ: المكان الممهد الموطأ كالفراش، والمراد به جهنم وسميت بذلك تهكما. نُزُلًا النزل: ما أعد للضيف من الزاد وغيره. الأبرار: جمع بار، وهو: التقى المبالغ في التقوى. خاشِعِينَ الخشوع: الخضوع. اصْبِرُوا: احبسوا أنفسكم على امتثال الدين وتكاليفه وعن الجزع مما ينالكم. وَصابِرُوا: أسبقوا الكفار في الصبر على الشدائد في الحرب. وَرابِطُوا أقيموا في الثغور وحصنوها. تُفْلِحُونَ الفلاح: الفوز. المناسبة: قال الإمام الرازي: «اعلم أنه- تعالى- لما وعد المؤمنين بالثواب العظيم وكانوا في الدنيا في نهاية الفقر والشدة، والكفار كانوا في النعيم ذكر الله- تعالى- في هذه الآية ما يسليهم ويصبرهم على تلك الشدائد، وذلك ببيان جزاء كل في الآخرة، وأما الدنيا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 فنعيمها فان وزائل. ولا تنس أن السورة كلها تدور حول غريزة حب المال وأثرها في القديم مع أمم الأنبياء، ومع المؤمنين في غزوة بدر وأحد. المعنى: لا يغرنك ما ترى من هؤلاء الكفار وتقلبهم في الدنيا وتجارتهم ومكاسبهم فإنه متاع زائل وعرض فإن، وكل زائل قليل، ومثله لا يعتد به ولا ينظر إليه فإن مأواهم ونهايتهم جهنم وبئس ما مهدوا لأنفسهم وأعدوا لها بما جنته أيديهم، فاستحقوا غضب الله عليهم غضبا سرمديا لا نهاية له ولا أمد حيث شاء الله. روى أن بعض المؤمنين قال: إن بعض أعداء الله فيما نرى من الخير، وقد هلكنا من الجوع والجهد، فنزلت هذه الآية. ثم بعد أن بين الله حال الكفار ومآل أمرهم في الآخرة أردف ذلك ببيان حال المؤمنين في الدنيا والآخرة ليظهر الفرق جليا وليعرف المسلمون أنهم ليسوا مغبونين في شيء لكن الذين اتقوا ربهم بفعل الطاعات واجتناب المنهيات لهم جنات المأوى تجرى من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها، تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار. وما عند الله بعد هذا خير للأبرار الذين فعلوا البر وأخلصوا فيه وأى خير بجانب ما أعد لهم؟!! فالخيرية ليست على بابها، أى: ما أعد للمؤمنين المتقين هو خير، وما سواه مما أعد للكفار شر. إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف 107] الآية الكريمة حيث قال الله: نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أشار إلى أن المؤمن في الآخرة ضيف على كريم يداه مبسوطتان بالخير، قوى قادر على كل شيء، ملك الملوك، وانظر إلى الكرامة التي خصوا بها من النزل من عند الله. وقد عرفت حال الكفار الذين ماتوا على كفرهم وظلموا معاندين، أما من أسلم منهم كعبد الله بن سلام أو من أسلم من نصارى نجران أو النجاشيّ عظيم الحبشة فالآية تحتمل كل هذا، وإن من أهل الكتاب الذين آمنوا بالله إيمانا حقيقيا خالصا لا نفاق فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 ولا شبهة، لهم الأجر الكامل عند ربهم، وقد وصفهم الله بأوصاف هي: 1- الإيمان بالله إيمانا صادقا خالصا. 2- الإيمان بالقرآن المنزل عليكم ولا شك أنه الأساس لما أتى بعده، وهو الحق الذي لا شبهة فيه ولا تحريف. 3- الإيمان بما أنزل إليهم من التوراة والإنجيل وإن يكن فيه تحريف، أى: أنهم كانوا مؤمنين به فأرواحهم طاهرة نقية، ولا شك أن من يؤمن بالكتب السماوية إيمانا حقيقيا ويترك العناد والحسد والبغضاء والكذب على الله لا بد وأن يؤمن بالقرآن والنبي. 4- الخشوع لله والخضوع له، وهو ثمرة الإيمان الصحيح ومتى كان القلب خاشعا ممتلئا بخوف الله خضعت له جميع الجوارح «ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، ألا وهي القلب» «1» . وإذا حلّت الهداية قلبا ... نشطت في العبادة الأعضاء 5- ومتى جمعوا تلك الصفات استحال عليهم أن يشتروا بآيات الله ثمنا قليلا من أعراض الدنيا الفانية، هؤلاء الموصوفون بما ذكر البعيدون في درجة الكمال لهم أجرهم الكامل عند من؟ عند ربهم الذي تولاهم وهداهم ووفقهم، يؤتيهم أجرهم مرتين، ويعطيهم من رحمته كفلين. إن الله سريع الحساب يحاسب الكل ويجازى الكل في أقل من لمح البصر، وقد ختم الله السورة بهذه النصيحة الغالية للمؤمنين التي تنفعهم في الدنيا والآخرة بقوله: يا أيها الذين آمنوا: اصبروا على تكاليف الدين وعلى ما يلمّ بكم من المصائب والشدائد، وصابروا الكفار واغلبوهم في الصبر فتكونوا أكثر تحملا لشدائد الحروب وضرائها، وخص المصابرة بالذكر لأهمّيّتها وخطرها، ورابطوا عند الثغور وخاصة بالخيل وما يلائم قوة الكفار في كل عصر وزمن. واتقوا الله وخافوه واحذروه وراقبوه في السر والعلن لعلكم تفلحون. ولا شك أن من يبذل هذه التضحية ويبالغ فيها كأنه يرجو فلاحا، والصبر والمصابرة ومغالبة الأعداء   (1) أخرجه البخاري باب الايمان باب فضل من استبرأ لدينه رقم 52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 فلاح في الدنيا والآخرة ويكون بقصد إقامة الحق والعدل، وإعلاء كلمة الله، وفقنا الله جميعا للخير والفلاح. هذه سورة آل عمران!! أرأيت فيها غير تكوين العقيدة الإسلامية الصحيحة بمناقشته أهل الكتاب- وخاصة المسيحيين- في عقائدهم؟! أرأيت فيها غير تكوين الفرد المسلم والمجتمع المسلم في السلم والحرب؟ لم يكن فيها- علم الله- غير هذا!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 سورة النساء وآياتها مائة وست وسبعون مدنية فقد روى البخاري عن عائشة- رضى الله عنها- أنها قالت: ما نزلت سورة النساء إلا وأنا عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد بنى النبي صلّى الله عليه وسلّم بعائشة في المدينة في شوال من السنة الأولى للهجرة. اجتماع الناس في أصل واحد [سورة النساء (4) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1) المفردات: النَّاسُ: هم الجنس البشرى، وهو الحيوان الناطق المنتصب القامة الذي يطلق عليه الإنسان. وَبَثَّ: نشر. تَسائَلُونَ بِهِ: يسأل بعضكم بعضا بأن يقول: سألتك بالله أن تفعل كذا. وَالْأَرْحامَ: جمع رحم، وهي القرابة من جهة الأب أو الأم. رَقِيباً: مشرفا، والمراد: محافظا. افتتح الله هذه السورة الكريمة بتذكير الناس بأنهم من أصل واحد كلهم لآدم وآدم من تراب، وذكر الرحم والقرابة ليكون هذا كبراعة استهلال لما في السورة من أحكام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 المحافظة على أموال الضعاف وأحكام النكاح والإرث، وكأن هذه الأحكام لازمة للناس من حيث كونهم ناسا ولذا بدأها بقوله: يا أيها الناس، وإن تكن السورة مدنية. المعنى: يا أيها الناس خذوا لأنفسكم الوقاية، واتقوا الله الذي رباكم بنعمه، وتفضل عليكم بإحسانه ومننه، فهو الذي خلقكم من جنس واحد وحقيقة واحدة هي آدم- عليه السلام- وإذا كنا جميعا أبناء لأب واحد، فلا يصح أن نتعدى حدود الله خاصة حدود القربى والرحم الإنسانية. وقيل: هذه النفس لم تبدأ بآدم بل بأوادم قبله، فليس آدم أبا البشر جميعا ... والله أعلم بهذا كله، والخطب يسير، والقرآن أبهم النفس ولم يعرفها فهي تحتمل هذه المعاني وأكثر منها. فإذا ثبت علميا أن آدم أبو البشر أو ليس آدم أبا البشر لم يتعارض ذلك مع القرآن كما تتعارض التوراة وغيرها. على أن الرأى الأول هو الأحسن والذي يتلاءم مع كثير من الأحاديث الصحيحة، والمعنى المراد أنه خلقكم من نفس واحدة أنشأها من تراب وخلق منها زوجها، قيل: من ضلع لآدم كما في الحديث «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، فإن ذهبت تقيمها كسرتها، وإن تركتها وفيها عوج استمتعت بها» . وعند بعض العلماء أن المراد أنه خلق من جنسها زوجها فهما من جنس واحد وطبيعة واحدة واستدل على ذلك بقوله- تعالى-: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها [الروم 21] وقال في سورة أخرى: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا من أنفسهم [الجمعة 2] فالمراد في الآيات من النفس واحد وهو الجنس ونشر وفرق من آدم وحواء نوعي البشر: الذكور والإناث، فقد خلق آدم من تراب، وخلقت حواء منه، ومنها خلقت الذكور والإناث التي تفرع منهما الإنسان الذي سكن الأرض، وهذا تفصيل لما أجمل في قوله- تعالى-: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ [سورة الزمر آية 6] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 واتقوا الله الذي تساءلونه به فيقول الواحد منكم لأخيه: أسألك بالله أن تفعل كذا، و المعنى: أسألك بإيمانك به وتعظيمك له. واتقوا الرحم، أى: وصلوا الأرحام بالمودة والإحسان ولا تقطعوها، وكرر الأمر بالتقوى للمبالغة والتأكيد، وفي الأولى ذكر لفظ (الرب) الذي هو علم العطف والتربية في حالة الضعف والحاجة، وفي الثانية لفظ (الله) إذ هو علم المهابة والجلالة ليكون أدعى للإجابة وقبول الأمر، ثم ختم الآية بقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً مشيرا إلى أنه لا يشرع لنا إلا ما به حفظنا ومصلحتنا، وهو الخبير بنا البصير بأحوالنا. ما هي النفس والروح؟: مما لا شك فيه أن في الإنسان ناحية مادية وناحية مبهمة محجوبة بها العقل والحفظ والتذكر، وهذه الأمور آثارها محسوسة بلا شك، وليست من صفات الجسد، فما منشئوها؟ قال الأقدمون عنها: إنها النفس والروح، وهل هي جسم نوراني علوي منفصل عن الجسم متصل به في حال الحياة؟ أو هي حالة تعرض للجسم ما دام حيا وليست جسما؟! رأيان. اليتامى ومعاملتهم في أموالهم [سورة النساء (4) : آية 2] وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2) المفردات: الْيَتامى: جمع يتيم: وهو من فقد أباه، وخص الفقهاء اليتم بما دون البلوغ. وَلا تَتَبَدَّلُوا: تأخذوه بدله، فالباء داخلة على المتروك. الْخَبِيثَ: الرديء، مأخوذ من خبث الحديد، والمراد منه: الحرام بِالطَّيِّبِ: الحسن، والمراد: الحلال. حُوباً: إثما وذنبا كبيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 شروع في بيان نواحي التقوى وجهتها، وأولها المحافظة على مال الضعاف من اليتامى والنساء والسفهاء، حيث ذكرنا الله بالرحم والقربى. المعنى: يا أيها الأوصياء في مال اليتامى: أنفقوا عليه من ماله، واجعلوا ماله خاصا به لا تأكلوا منه شيئا حتى تسلموه إليه بعد البلوغ كاملا غير منقوص، ولا تتمتعوا بمال اليتيم في موضع يجب أن تتمتعوا فيه بمالكم فإنكم إن أخذتم من ماله وتركتم مالكم تكونوا قد استبدلتم الخبيث بدل الطيب، والحرام بدل الحلال، وهذا منهى عنه شرعا. روى أنهم كانوا يضعون الشاة الهزيلة ويأخذون بدلها شاة سمينة، فجاء النهى عن ذلك، ولا تأكلوا أموالهم مضمومة إلى أموالكم، ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف. ومن كان غنيا فليكن عفيفا عن مال اليتيم، إن أكل مال اليتيم بغير حق ذنب كبير وإثم عظيم، فأقلعوا عنه أيها الناس، واتقوا الله الذي خلقكم من نفس واحدة. تعدد الزوجات والعدل معهن [سورة النساء (4) : الآيات 3 الى 4] وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4) المفردات: تُقْسِطُوا: من أقسط بمعنى عدل ولم يظلم، بخلاف قسط بمعنى ظلم وجار. ما طابَ لَكُمْ: ما مال إليه القلب وعده طيبا من النساء. مَثْنى وَثُلاثَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وَرُباعَ : هذه ألفاظ معدولة عن اثنين اثنين وثلاثة ثلاثة وأربعة أربعة. تَعُولُوا العول: الجور. صَدُقاتِهِنَّ: مهورهن. نِحْلَةً عطية وهبة. هَنِيئاً مَرِيئاً: طعام هنيء إذا كان سائغا لا تنغيص فيه ولا ألم، وقيل: الهنيء: ما يستلذه الآكل، والمريء: ما تحسن عاقبته وهضمه وتغذيته. سبب النزول: في الصحيحين عن عروة بن الزبير أنه سأل خالته عائشة أم المؤمنين- رضى الله عنها- عن هذه الآية فقالت: يا ابن أختى هذه اليتيمة تكون في حجر وليها يشركها في مالها ويعجبه مالها وجمالها فيريد أن يتزوجها من غير أن يقسط في صداقها، فلا يعطيها مثل ما يعطى أترابها من الصداق، فنهوا عن ذلك وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء مثنى وثلاث ورباع. وفي رواية أنها نزلت في اليتيمة تكون عند الرجل فتشاركه في ماله فيرغب عنها ويكره أن يتزوجها غيره فيشاركه في مالها فيعضلها، فلا يتزوجها ولا يزوجها غيره. وفي رواية أخرى عن عائشة قالت: أنزلت في الرجل تكون له اليتيمة وهو وليها ووارثها ولها مال وليس لها أحد يخاصم دونها فلا ينكحها لمالها، فيضربها ويسيء صحبتها، فنزلت الآية على معنى: خذ ما طابت بها نفسك ودع هذه لا تضر بها. وقد كانوا في الجاهلية يتزوجون أكثر من أربعة، بل قد يجمع الرجل ما شاء فيضطر إلى أخذ مال اليتيم، فنهوا عن ذلك كله. المعنى: بعد أن نهاهم الله عن أكل مال اليتامى والجور فيه، ووقع هذا النهى هذا الموقع فتحرجوا من الإثم، قال ما معناه: وإن خفتم عدم العدل في أموال اليتامى وتحرجتم من أكلها بالباطل، وأحسستم الخوف من أكل مال الزوجة اليتيمة وهضم حقوقها في الصداق، فعليكم ألا تتزوجوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 بها وألا تمنعوها من الزواج، فإن الله جعل لكم مندوحة، وشرع لكم الزواج بمن تحبون من النساء الرشيدات من واحدة إلى أربع. وإذا قلت لجماعة: اقتسموا هذا المال بينكم مثنى وثلاث ورباع كان المطلوب أن يأخذ كل واحد منهم ما شاء من اثنين أو ثلاثة أو أربعة لا يجمع بين الأعداد كلها فيأخذ الواحد تسعة مثلا، هذا استعمال العرب وعادتهم، والقرآن عربي مبين. ولكن إذا خفتم ألا تعدلوا مع اثنتين أو ثلاث أو أربع، فتزوجوا واحدة فقط ومعها ما شئتم من الموالي، فإنه لا يخشى معهن الجور وعدم العدل، والخوف من عدم العدل يشمل تحقيق الظلم أو ظنه بل الشك فيه، أما التوهم فالرأى التسامح فيه. فالمعنى: للرجل المسلم أن يتزوج من واحدة إلى أربع ما دام يثق في أنه يعدل ولا يجوز، وإن خاف عدم العدل فلا يتزوج إلا واحدة ومعها ما شاء من الجواري- وهن الإماء الأرقاء المملوكات ملكا شرعيا- والعدل المطلوب بين النساء يكون في القسم بينهن في المبيت والتسوية في المأكل والمشرب والمسكن والأمور المادية، أما الأمور القلبية كالميل والحب فهذا ما ليس في وسعه، ولذا كان الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «هذا قسمي فيما أملك فلا تؤاخذني فيما لا أملك» وقد كان يحب عائشة أكثر من غيرها ومع هذا ما كان يخصها بشيء إلا بعد أن يستأذن أخواتها. تعدد الزوجات طبيعة الحياة الزوجية تقتضي- بالفطرة- أن يختص الزوج بالزوجة والزوجة بالزوج، فكما أن الزوج يغار جدا على زوجته كذلك الزوجة. ونحن نرى أن البيت الذي فيه ضرّتان فيه خلاف ونزاع وشقاق قد يؤدى إلى الموت والهلاك والعداوات المستحكمة. لهذا يرى البعض أن في إباحة الإسلام التعدد في الزوجات شيئا يتنافى مع الطبيعة ويتنافى مع العقل فمن الخير المنع، فإن دفع المفسدة مقدم على جلب المصلحة!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ولكن الإسلام حينما أباح التعدد أباحه للضرورة وقيده بقيود تكاد تكون بعيدة المنال، فالقرآن يقول: لا تظلموا اليتيمة في مالها ونفسها، وأمامكم النساء غيرها كثيرات. تزوجوا باثنين أو بثلاث أو بأربع ولكن هذا مقيد بقيد العدل وعدم الظلم، لا فرق بين قديمة وحديثة وجميلة وقبيحة!! والقرآن قال في موضع آخر: وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ «1» والعدل المقصود منه هنا: الميل القلبي، فإن تحقق العدل الكامل بعيد جدا، والميل واقع حتما، فلم يبح التعدد بلا قيد ولا شرط، بل بشرط بعيد الحصول والتعدد أو الطلاق كحق للزوج لا غبار عليهما أبدا، بل لعلهما بعض الضرورات اللازمة للطبيعة البشرية، ولكن الخطأ الأكبر يجيء من سوء الاستعمال، أما القول بمنعهما ففيه مخالفة لصريح القرآن ومخالفة لمصلحة الرجل والمرأة على السواء. ماذا نفعل في رجل تزوج بامرأة لا تلد، وهو غنى يريد الولد وعنده القدرة على كفاية اثنتين من النساء؟ ورجل عنده نهم على النساء، ومن تحته امرأة عزوف عن الرجال أو بها مانع أو مرض فهل يزنى؟ فيضيع الدين والمال والصحة والشرف!! أم يتزوج بامرأة بشرط عدم الظلم في معاملة الاثنتين. وماذا نعمل في الأمة عقب الحروب التي تبيد أكثر رجالها فتبقى النساء كثيرات مع قلة الرجال، أمن الخير أن يتمتع بعض النساء وتبقى الأغلبية محرومة من عطف الرجل والعائل؟ وقد تضطرها الظروف إلى ارتكاب الإثم والفحش!! إذا الخير في علاج المسألة بعلاج الدين، فنحافظ على المرأة محافظة تامة ونعنى بها عناية كاملة في الحرب والسلم. ولا يضر الدين إساءة المسلمين له في تنفيذ بعض رخصه، فإنا نراهم لا يعدلون بين الأزواج ويتزوجون لمجرد الشهوة والانتقام لا لغرض شريف، ويكفى الإسلام فخرا أن قال بالطلاق ونادى بتعدد الزوجات كثير من فلاسفة الغرب. فالواجب على أولى الأمر أن يعالجوا الداء بما يحسمه مع تنفيذ روح الدين.   (1) سورة النساء آية 129. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 وآتوا النساء مهورهن اللاتي يستحقنها تشريفا لهن وتكريما وعلامة على المحبة وتوثيقا لعرى الصداقة والمودة بلا مبالغة ولا إسراف فإن طبن لكم عن شيء من أموالهن وتنازلن عنه فخذوه هنيئا مريئا. متى نعطى أموال اليتامى لهم؟ [سورة النساء (4) : الآيات 5 الى 6] وَلا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَارْزُقُوهُمْ فِيها وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5) وَابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَلا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَبِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6) المفردات: السُّفَهاءَ: جمع سفيه، والسفه: الاضطراب في العقل والفكر والخلق، والمراد به هنا: من لا يحسن التصرف في المال، ويشمل ذلك اليتامى. قِياماً: ما به تقومون وتعيشون. آنَسْتُمْ : أبصرتم وتبينتم. رُشْداً: المراد به: صلاحا للعقل وحفاظا للمال. إِسْرافاً: مجاوزة للحد في كل عمل، وغلب في الأموال. بِداراً: مبادرة ومسارعة. فَلْيَسْتَعْفِفْ: فليطلب العفة وليحمل نفسه عليها، والعفة: ملكة في النفس تقتضي ترك ما لا ينبغي من الشهوات. حَسِيباً: رقيبا.. أمر الله- سبحانه وتعالى- فيما سبق بإيتاء أموال اليتامى لهم وإعطاء النساء أموالهن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 ومهورهن، وهنا شرط ذلك بشرطين: الخلو من السفه، والاختبار حتى لا يضيعوا أموالهم. المعنى: نهى الله- سبحانه وتعالى- الأمة نهيا عاما، يدخل فيه أولياء اليتامى والسفهاء دخولا من باب أولى.. نهاهم عن إعطاء السفهاء الذين لا يحسنون التصرف في أموالهم، نهاهم عن إعطاء أموالهم لهم، فإنهم يبددونها، والدين حريص على حفظها لهم. وإنما أضاف الأموال للأولياء وقال: (أموالكم) مع أنها أموال اليتامى والسفهاء للإشارة إلى أن الولي يجب عليه أن يحافظ على المال، إذ لو ضاع لوجبت نفقة اليتيم عليه، فكأن مال اليتيم ماله، ولا يخفى عليك مبدأ التكافل في الأمة الواحدة، وانظر إلى القرآن وقد وصف الأموال بأنها جعلت قوامكم في الحياة، فبالمال تبنى الأمم صروح العمران وتقام دعائم الدنيا، وفي هذا إشارة إلى أن المال والاقتصاد مما يرغب فيه الدين. فعليكم- أيها الأولياء- أن تعطوا الأموال لأربابها بشرط ألا يكون سفيها لا يحسن التصرف، وإلا بقي المال في أيديكم حتى يتم تمرينه على المحافظة على الأموال التي جعلها الله قوامكم في الحياة. وارزقوهم منها ومن ثمرتها وكسبها لا من أصلها وذاتها، والرزق يشمل وجوه الإنفاق جميعها من أكل وكسوة وتعليم وتمريض، وخصت الكسوة بالذكر لأنها مظهر خارجى قد يتساهل فيه، وقولوا لهم قولا لينا ليست فيه خشونة، بل عاملوهم معاملة الأولاد بالعطف واللين، وأشعروهم بالعزة والكرامة وأن ما ينفق عليهم من مالهم، وسيأخذونه بعد البلوغ، ويجب عليكم أن تختبروهم لتعرفوا مدى عقلهم وحسن تصريفهم للمال، وقد أطلق القرآن الكريم الابتلاء حتى تتبينوا رشدهم وكمال تصريفهم، لأن لكل زمن وبيئة نظاما، فاختبار المتعلم غير اختبار العامي وهكذا. وهذا الاختبار يكون عند البلوغ، أى: بلوغ سن الزواج والاكتمال العقلي، فإن تبينتم رشدهم فآتوهم أموالهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 ولا تأخذوها وتأكلوها عن طريق الإسراف والتبذير، فإن طبيعة النفس التبذير في مال الغير، ولا تأكلوها مسرعين قبل أن يصل اليتيم إلى مرحلة البلوغ والإدراك السليم. أما الأكل من غير إسراف ولا تبذير وبلا إسراع ومبادرة فحكمه أن من كان غنيا فليطلب العفة ويحمل نفسه عليها حتى يتعود ذلك، وفي هذا إشارة إلى أن طبيعة النفوس ميالة إلى الاعتداء على حق الغير وإن كان صغيرا ضعيفا. ومن كان فقيرا محتاجا فليأكل بالمعروف شرعا وعرفا بلا إسراف وتبذير حتى قال بعضهم: إن الولي ليس له أن يأكل إلا قرضا أو بأجر المثل. والحكمة في ذلك أن اليتيم الصغير من الخير له أن يخالط الولي ويأكل مع أولاده حتى يتسنى للولي أن يشرف عليه إشرافا فعليا، فإن كان الولي غنيا كانت المخالطة لمصلحة اليتيم، وإن كان فقيرا فالواجب عليه أن يأكل بالمعروف من كسب المال وثمرته، وليس له أن يجمع من مال اليتيم شيئا خاصا به. فإذا اختبرتم اليتيم أو السفيه وتبينتم صلاحيته لإدارة المال فادفعوه إليه بحضور الشهود قطعا للنزاع، والله شهيد عليكم ورقيب فراقبوه فإنه لا تخفى عليه خافية في الأرض والسماء. تشريع حقوق اليتامى والنساء [سورة النساء (4) : الآيات 7 الى 10] لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَإِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 المفردات: مَفْرُوضاً: محتوما لا بد من أخذه. وَلْيَخْشَ الخشية: الخوف مع تعظيم المخفو والأمل فيه. سَدِيداً: محكما صائبا، والمراد: موافقا للدين. ظُلْماً: بغير حق. سَيَصْلَوْنَ: سيحرقون، من أصلاه إصلاء: أراد إحراقه، ومنه: صلى اللحم: شواه، واصطلى: استدفأ. سَعِيراً: النار المستعرة. سبب النزول: روى أن أوس بن الصامت الأنصارى توفى وترك امرأته أم كحلة وبنات له فمنع ابنا عمه سويد وعرفطة ميراث أوس عن زوجته وبناته، فشكت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فدعاهما رسول الله، فقالا: يا رسول الله ولدها لا يركب فرسا ولا يحمل كلّا ولا ينكى عدوا، نكسب عليها ولا تكسب، فنزلت الآية فأثبتت لهن الميراث، ثم نزلت آية المواريث فجعلت لكل حقه. المعنى: إذا توفى رجل وورثه ذكور وإناث- صغارا كانوا أو كبارا- فالله قد أوجب لكل وارث نصيبا مفروضا وقدرا محتوما في المال الموروث من الوالدين أو الأقربين يستوي في ذلك القليل والكثير، وستأتى آية المواريث وتوضح هذا المجمل وتبينه. ولقد عالج القرآن الكريم بمناسبة تقسيم المال في التركات مرضا في نفوسنا وهو تألم البعض من حضور الأقارب ساعة التقسيم، وحسد الأقارب الذين لا يرثون، فقال: إذا حضر مجلس القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فعالجوا شح النفس عندكم واقطعوا ألسنة بعض ضعاف النفوس بأن تعطوهم شيئا من المال ولو قليلا، وقولوا لهم قولا حسنا واعتذارا جميلا يسل السخائم ويهدئ النفوس، والمأمور بهذا هو الولي أو اليتيم عند البلوغ واستلام المال كل هذا تحتمله الآية، والمهم أن هذا أدب قرآنى وعلاج حكيم، ولعل أحدث الدول رجعت تقول بضريبة التركات بل بالغت في درجتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 ألا ما أحسن كلامك يا خالق الخلق!! وما أحكم دستورك يا إله السماء والأرض، ارجعوا إلى القرآن واعملوا بما فيه فهو الخير ومنه الشفاء وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «1» . وعلاج لمرض آخر وهو أن النفس الإنسانية كثيرا ما تتحامل على اليتيم وتقسو عليه فذكّرنا بشيء يهز القلب ويحرك المشاعر. تذكروا أنكم مفارقون أولادكم واخشوا ترك ذرية ضعفاء كزغب القطا لا حول لها ولا قوة، فاتقوا الله وقولوا قولا سديدا يوافق الدين وتذكّروا أنه كما تدين تدان ، ثم ختم الكلام بهذا التهديد الشديد، إن الذين يأكلون أموال اليتامى ويأخذونها بأى طريق إنما يأكلون في بطونهم ما به يدخلون النار وسيحرقون بنار مسعرة وقودها الناس والحجارة، وقانا الله منها. آيات المواريث [سورة النساء (4) : الآيات 11 الى 14] يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَإِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11) وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12) تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)   (1) سورة الإسراء آية 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 المفردات: يُوصِيكُمُ الوصية: ما تعهد به إلى غيرك من العمل في المستقبل، تقول: سافر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 فلان إلى بلد كذا وأوصيته بأن يحضر لي شيئا. حَظِّ: نصيب. كَلالَةً الكلالة: مصدر كلّ يكل كلالا، وهو من الإعياء، ثم استعمل في القرابة البعيدة غير قرابة الأصول والفروع، رجل ذو كلالة ليس له والد ولا ولد، وعلى هذا أكثر الصحابة. حُدُودُ اللَّهِ: جمع حدّ وهو المنع، وأحكام الله مانعة من الوقوع في المعصية. مُهِينٌ: ذو إهانة وذل. سبب النزول: جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله: هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في أحد شهيدا، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالا، ولا تنكحان إلا ولهما مال. فقال: يقضى الله في ذلك، فنزلت آية المواريث، فأرسل رسول الله إلى عمهما فقال: أعط ابنتي سعد الثلثين وأمهما الثّمن وما بقي فهو لكم «1» ، وهذه أول تركة قسمت في الإسلام. وهذا نظام المواريث في الحكم الإسلامى الذي يفتخر به المسلمون، وقد أصبح قاعدة عامة للمواريث في العالم- إن لم يكن هو المصدر الأول لأحدث الدساتير- ولولا العصبية الممقوتة عند غير المسلمين لأخذوه كله فإنه نظام من حكيم عليم، والآيات تتضمن حقوق الأولاد ذكورا وإناثا (الفروع) ، وحقوق الأصول كالأب والأم، وحقوق الزوجية وحقوق الإخوة لأم. أما الإخوة لأب فحكمهم سيأتى في آخر السورة. ولأن الأولاد أحق بالعطف والمعونة ولأن الأصول قد يكون لهم حق واجب على غير المتوفى، أو لهم قدرة على الكسب، ولقلة ما بقي من عمرهما بدأ بالفروع وكان لهم نصيب كبير. يوصيكم الله وصية لمصلحتكم- أيها المخاطبون والمكلفون- من المسلمين لأنهم هم الذين يقسمون التركات، ولمبدأ تكافل الأمة وأنها كالجسد الواحد، يوصيكم الله في شأن أولادكم أن يأخذوا من تركة أبيهم، وإذا كانوا إناثا وذكورا، فللذكر مثل نصيب   (1) أخرجه أبو داود في كتاب الفرائض رقم 2891 وأخرجه الترمذى وابن ماجة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 الأنثيين ولا غرابة في هذا، فالرجل محتاج إلى النفقة على نفسه وزوجته، وأخته وأخته تكفل نفسها، فإن تزوجت كانت نفقتها على زوجها. وإن كان للميت ذكر واحد لا أخت له أخذ التركة بعد أخذ أصحاب الفروض كالزوجة والأم والأخ لأم كما سيأتى. وإن كان للميت بنتان فأكثر أخذتا الثلثين فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وقد دخلت البنتان في عموم الآية، لأن البنت مع أخيها تأخذ الثلث وهو يأخذ الثلثين، والذكر له حظ الأنثيين، فإذن البنتان تأخذان الثلثين، ولأن الله صرح في آية أخرى بحق الأختين وأنهما يأخذان الثلثين، وقد ساق القرآن هنا حكم البنتين فأكثر مع بقاء التفريع على ما تقدم، وهذا ما فهمه جمهور الصحابة خلافا لابن عباس الذي يرى أن للبنتين النصف، وإن كانت واحدة فلها نصف ما ترك أبوها والباقي يورث على حسب المواريث الشرعية. حقوق الوالدين: ولأبوى الميت السدس لكل واحد منهما، لا فرق في ذلك بين الأب والأم لأن علاقتهما ومحبتهما بالنسبة له سواء، هذا إن كان له ولد، فإن لم يكن له ولد ولا ولد ابن (الولد يطلق على الذكر والأنثى) وقد ورثه أبواه فلأمه الثلث مما ترك والباقي للأب كما هو معلوم من انحصار الإرث فيهما، فإن كان للميت إخوة من ذكور أو إناث رجعت الأم من الثلث إلى السدس سواء كانت الإخوة لأبوين أو لأحدهما وليس كذلك كالأخ الواحد وقد قضى النبي صلّى الله عليه وسلّم والخلفاء الراشدون من بعده بأن الأخوين والأختين يردون الأم من الثلث إلى السدس، هذا حكم الوالدين مع ولد للميت وعدمه ومع الإخوة للميت، وبقي حكم الوالدين مع أحد الزوجين. والحكم أن الزوجين يأخذان حظهما، والأم ثلث الباقي والأب الباقي من التركة، هذا رأى جمهور الصحابة ما عدا ابن عباس- رضى الله عنهم أجمعين-. يوصيكم الله أن تعملوا بهذه القوانين فإنها خير لكم وأنفع من بعد وصية يوصى بها الميت أو دين يتركه عليه، ولعل تقديم الوصية في الذكر على الدّين لأنها أخذ شيء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 غير عوض، قد تكون ثقيلة على الورثة فقدمها للاعتناء بها، وإن كان الدّين مقدما عليها في الأداء وكان العطف للإيذان بأنهما متساويان في الوجوب متقدمان على القسمة مجموعين أو منفردين. ولا تتبعوا ما كنتم عليه في الجاهلية من حرمان الأنثى والصغير، فلستم تعرفون النافع من الضار فاتبعوا ما أمركم الله به فهو أعلم منكم، بما هو أقرب في النفع لكم، وقد فرض ما ذكر من الأحكام فريضة محكمة لا هوادة في وجوب العمل بها فريضة من الله، إنه كان عليما بكم حكيما يضع الأمور في نصابها. حقوق الأزواج: إن كان الميت أنثى فللزوج النصف، هذا إن لم يكن للزوجة ولد ولا ولد ابن سواء كان من الزوج أو من غيره ويستوي في ذلك الزوجة المدخول بها والمعقود عليها، فإن كان لها ولد أو ولد ابن من أى زوج فلكم أيها الأزواج الربع مما تركن والباقي للأقارب حسب الميراث الشرعي وذلك من بعد وصية توصى بها أو دين ثبت عليها. وإن كان الميت ذكرا فلزوجته الربع من تركته إن لم يكن له ولد ولا ولد ابن، أى: فرع وارث وإن يكن من غيرها، فإن كان له ولد أو ولد ابن فلها الثمن والباقي للورثة حسب المواريث الشرعية، وذلك من بعد وصية يوصى بها أو دين. وإن كان هناك رجل موروث كلالة بأن لم يكن له فرع وارث من ابن أو ابن ابن، وليس له أصل وارث كالأب والجد، وكان له أخ من الأم أو أخت فللأخ من الأم السدس ذكرا كان أو أنثى، فإن كانوا أكثر من ذلك فلهم الثلث كالأم. كل هذا: من بعد وصية يوصى بها أو دين حالة كونه غير مضار في الوصية بأن تكون أكثر من الثلث، وفي الدّين بأن يقر بدين لم يقبضه أو يستغرق المال كله، وشرط عدم الضرر في صاحب الكلالة فقط لأن بعض الناس قد يكره ميراث الكلالة فنهاهم الله عن الضرر في ذلك، والله عليم بالأحوال حليم بنا لا يعاجل بالعقوبة من يستحقها. وبعد أن بين الله الأحكام المتعلقة بالضعفاء من الأيتام والنساء وأحكام المواريث، أشار إلى أنها حدود الله ومحارمه التي لا يصح لمسلم أن يتخطاها ويتجاوزها، ومن حام حولها يوشك أن يقع فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 ومن يطع الله باتباع ما أنزله على رسوله وبلغه إلى خلقه ومن يطع الرسول فيما بلغ عن ربه من أحكام وآيات، يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار. وصفها الحقيقي الله أعلم به، وعلينا أن نسلم به وأنه جزاء المحسنين، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وهم فيها خالدون، وذلك هو الفوز العظيم. وأما من يتعدّ حدود الله وينتهك حرمات الله ويعص الله ورسوله يدخله نارا وقودها الناس والحجارة خالدين فيها إلى ما شاء الله وله عذاب مهين ومذل له فهو عذاب مادى وروحي. الفاحشة وجزاؤها [سورة النساء (4) : الآيات 15 الى 16] وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَالَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16) المفردات: يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ: يفعلنها، والفاحشة: ما فحش ذنبه وقبح جرمه كالزنا. يَتَوَفَّاهُنَّ يقال: توفيت مالي على فلان واستوفيته: قبضته، والمراد: توفى أرواحهن ملك الموت. المعنى: واللاتي يأتين الفعلة الممقوتة وهي الزنا، ولا شك أنها أكبر الفواحش وأحقرها، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 ومن يفعلها من النساء فاطلبوا أربعة من الرجال يشهدون عليهن، والخطاب للأمة كلها لأن هذا مرض عام يفت في عضد الأمة، فإن شهدوا عليهن فأمسكوهن في البيوت فإنهن جرثومة الفساد، وداء إذا تفشى أهلك الأمم والأفراد حتى يتوفى أرواحهن ملك الموت ويقبضها، أو يجعل الله لهن سبيلا بأن يتزوجن ويقلعن، وقيل: هو الحد عن هذا الداء الحقير ولا يكون ذلك إلا من الله وتوفيقه. واللذان يأتيان الفاحشة من الزاني والزانية غير المحصنين فآذوهما بالتأديب والتوبيخ، فإن تابا وأصلحا حالهما وأعرضا عن هذا العمل المشين فأعرضوا عنهما وكفوا الأذى، إن الله كان توابا يقبل التوبة من عباده ويعفوا عن السيئات رحيما بعباده. وفي هاتين الآيتين رأيان: رأى الجمهور القائل: إن الفاحشة هي الزنا خاصة، فالآيات الأولى في المحصنات من النساء، أى المتزوجات، والآية الثانية في الأبكار، ولذا كان عقابهن خفيفا.. والآيتان منسوختان بالحد المفروض في سورة النور من الرجم والجلد وهو المراد بالسبيل الذي جعله الله للنساء المحبوسات في البيوت. وعن أبى مسلم أن الآية الأولى في المساحقات التي تحصل بين النساء، والثانية في اللواط، وعلى هذا فلا نسخ، وقد قال بذلك مجاهد، والله أعلم. متى يقبل الله التوبة [سورة النساء (4) : الآيات 17 الى 18] إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 المفردات: السُّوءَ: العمل القبيح الذي يسوء فاعله، فيشمل الصغائر والكبائر. بِجَهالَةٍ المراد بها: الجهل والسفه بارتكاب ما لا يليق بالعاقل، لا عدم العلم، وذلك يكون عند ثورة الشهوة أو الغضب، وكل من عصى الله فهو جاهل. أَعْتَدْنا: هيأنا وأعددنا. المعنى: إنما قبول التوبة والغفران واجب على الله لسابق وعده الكريم فقد كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [سورة الأنعام آية 54] . قبول التوبة متحقق للذين يعملون المعصية ويلمون بها ولم يصروا عليها لأنهم فعلوها بدافع الهوى والشيطان، حتى إذا ما ثابوا لأنفسهم ورجعوا لعقولهم أدركوا خطأهم وأنبوا أنفسهم وتابوا إلى الله توبة نصوحا هؤلاء هم الذين يعملون السوء، أى: المعصية الواحدة التي لم تكرر حتى تصير سيئات- كما في الصنف الثاني- في ثورة الجهل والسفه، والغضب، حتى إذا زالت تلك الحال تابوا من قريب، أى: بعد وقوعها بسرعة، فأولئك يتوب الله عليهم. والله الذي أوجب قبول التوبة على نفسه عليم بخلقه إذ إن النفس الإنسانية قد تشذ ويغويها الشيطان فتقع في المعصية، فلولا باب التوبة ليئس الناس وظلوا على حالهم، وهو الحكيم في صنعه- سبحانه وتعالى-. وليست توبة الذين يعملون السوء بعد السوء حتى تصير لهم سيئات وسيئات مقبولة عند الله، وذلك أن المعصية تجعل في القلب نكتة سوداء. بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون من المعاصي، هؤلاء لا تقبل توبتهم، وكيف تقبل وهم يظلون على عملهم سادرين في غيهم؟ حتى إذا أدركهم الموت وساعته تابوا عند العجز عن المعصية والخوف من العقاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 وأما حديث أن التوبة تقبل ما لم يغرغر فمحمول على من تاب توبة خالصة لله، يدرك فيها المذنب قبح فعله السابق ويندم ندما حقيقيّا وقلما يحصل مثل هذا. ولا يقبل الله توبة الذين يموتون وهم كفار. وقد سوى الله بين من يموت كافرا وبين من يؤجل التوبة حتى تحضره الوفاة إذ هي لا تكون إلا عند التكليف والاختيار. أولئك هيأنا لهم عذابا مؤلما ومذلا لهذين الفريقين اللذين استعبدهما الشيطان إلى الموت. كيف نعامل نساءنا؟ [سورة النساء (4) : الآيات 19 الى 21] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 المفردات: وَلا تَعْضُلُوهُنَّ العضل: داء عضال، أى: شديد، وعضلت المرأة بولدها: إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه وبقي بعضه، فالعضل: الشدة والتضييق والحبس. الفاحشة: الفعلة الشنيعة القبيحة. مُبَيِّنَةٍ: واضحة ظاهرة. بِالْمَعْرُوفِ: ما لا ينكره الشرع والعرف والطبع. والبهتان: الكذب. أَفْضى: وصل إليها وصولا خاصا وهو ما يكون بين الزوجين. مِيثاقاً غَلِيظاً: عهدا مؤكدا ربط برباط قوى محكم. كانت المرأة في الجاهلية تعد من قبيل المتاع حتى كان أقارب الزوج المتوفى يستولون عليها كرها. روى البخاري: أنه كان إذا مات الرجل منهم كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها، فنزلت الآية. وقيل: كان الرجل يمسك المرأة وهو لها كاره حتى تموت فيرثها!! وكان الرجل إذا تزوج امرأة ولم تكن تكفى حاجته حبسها مع سوء العشرة لتفتدى نفسها بمالها وتختلع، فقيل: ولا تعضلوهن ... الآية. وكان من عادتهم في الجاهلية أيضا إذا أرادوا فراق امرأة رموها بفاحشة حتى تخاف وتشترى نفسها بالمهر الذي دفعه إليها. والآية الكريمة فيها دواء لهذه الأدواء وعلاج كريم ورفع المرأة إلى مكانتها اللائقة بها كشريكة في الحياة وكإنسان حي له كرامة وشخصية. وهكذا الإسلام والقرآن من أربعة عشر قرنا يعالج ولكن بحكمة لا إفراط ولا تفريط. لأنه تنزيل من حكيم عليم. فيا من اتصفتم بالإيمان بالله ورسوله لا يليق أن تعاملوا المرأة كالمتاع فتستولون عليها وترثونها وهي كارهة لهذا، لا يحل لكم أبدا أن تفعلوا فعل الجاهلية إن شاء أحد الأقارب تزوجها وإن شاء أمسكها ومنعها إلى أن تموت، تالله إن هذا عمل لا يليق بكم أبدا. ولا يحل لكم أن تضيقوا عليهن، وتضاروهن حتى يضطروا إلى الافتداء بالمال والصداق، فإن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «استوصوا بالنساء خيرا فإنهن عوان في أيديكم، أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 وهل يليق بمن اتصف بالإيمان وخالط قلبه بشاشته أن يفعل الإيذاء خاصة مع من أفضى إليها وعاشرها معاشرة الأزواج لأجل المال أو العتاد؟ تالله إن هذا لا يليق أبدا. ما دامت المرأة في طاعته وتحفظ فراشه وتقوم بخدمته، فإذا نشزن عن طاعتك وساءت عشرتهن ولم ينفع معها النصح أو التأديب أو ظهر- والعياذ بالله- أنها ارتكبت فاحشة كالزنا أو السرقة أو نحوها من الأمور الممقوتة شرعا وعرفا فلكم حينئذ أن تعاكسوهن وتعضلوهن لتذهبوا ببعض ما أعطيتموه لهن من المال والصداق، وإنما شرط في الفاحشة أن تكون ظاهرة فاضحة لئلا يستغل هذا بعض ضعاف النفوس من الرجال فيرمى المرأة العفيفة بشيء لمجرد الظن فقط، وإنما أبيح للرجل التضييق على المرأة التي تأتى بالفاحشة خشية أن يستغل بعض النساء هذا فيفحشن في القول والفعل حتى يطلقها زوجها فتتاجر بالمال والصداق مع كل رجل. ويا أيها المؤمنون عاشروا نساءكم بالمعروف وخالطوهن بما تألفه الطباع السليمة ولا ينكره الشرع ولا العرف من غير تضييق في النفقة ولا إسراف، وفي كلمة المعاشرة معنى المشاركة والمساواة، أى: كلّ يعاشر صديقه من جانبه بالمعروف معرضا عن الهفوات جالبا للسرور معينا على الشدائد حافظا للود وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً «1» فإن كرهتموهن لعيب خلقي أو دمامة في خلقتهن أو تقصير أو مرض أو لهوى في نفوسكم فاصبروا ولا تتعجلوا، فعسى أن تكرهوا شيئا وفيه الخير الكثير لكم، ومن يدرى؟ إن هذه الدميمة تكون أم الأولاد النجباء وربة البيت الأمينة المحافظة المقتصدة الصبور المعينة لك في السراء والضراء، والحوادث تثبت أكثر من هذا، فالصبر الصبر أيها المؤمنون، وحسن المعاشرة وإن أردتم استبدال زوج جديد مكان زوج سابقة كرهتموها وهي لم تأت بفاحشة ظاهرة وقد كنتم آتيتموها المال الكثير قبل ذلك، فلا تأخذوا من هذا المال شيئا لأنها لم ترتكب ذنبا تستحق أن يؤخذ منها المال وإرادة الاستبدال ليست شرطا في عدم حلّ الأخذ بل هو الكثير الغالب. وكيف تأخذونه وتستسيغون ذلك بعد أن تأكدت بينكم رابطة الزوجية بأقوى رباط حيوي وباشر كل منكم الآخر ولابسه ملابسة يتكون منها الولد، واطلع على ما لم يطلع عليه أب أو أخ؟! إن هذا الشيء عجيب، أتأخذونه بالبهتان آثمين وقد أفضى   (1) سورة الروم آية 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 بعضكم إلى بعض، وأخذن منكم ميثاقا غليظا هو حق الصحبة والمضاجعة، ووصفه بالغلظ لقوته وعظمته، وقيل: الميثاق: «إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان» . والشريعة لم تحدد مقدار الصداق بل تركته للظروف والأحوال، وإن التغالى فيه لمعوق للزواج الذي هو مطلوب الشرع. من يحرم التزوج بهن [سورة النساء (4) : الآيات 22 الى 23] وَلا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلاً (22) حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَبَناتُكُمْ وَأَخَواتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخالاتُكُمْ وَبَناتُ الْأَخِ وَبَناتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَأُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَرَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَحَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) المفردات: سَلَفَ مضى. مَقْتاً: ممقوتا ومبغوضا. ساءَ سَبِيلًا أى: بئس ذلك طريقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 المعنى: ذكر الله في هاتين الآيتين ما يحرم على الرجال نكاحهن وقد كانوا في الجاهلية إذا توفى الرجل عن امرأته كان ابنه أحق بها ينكحها إن شاء إن لم تكن أمه، أو ينكحها من شاء!! والمراد بالنكاح: العقد كما قال ابن عباس. روى ابن جرير: كل امرأة تزوجها أبوك دخل بها أو لم يدخل بها فهي حرام، والمراد بالآباء ما يشمل الأجداد، والمراد أنكم تستحقون العقاب لنكاحكم ما نكح آباؤكم إلا ما مضى فهو معفو عنه، إن هذا النكاح كان فاحشة يأباها العقل وممقوتا في الشرع وساء سبيلا، وبئس ذلك الطريق في العرف، ولذا كانوا يسمونه نكاح المقت وبعد هذا بين الله أنواع المحرمات وهي أنواع. نكاح الأصول: فقد حرم الله نكاح الأمهات وكذا الجدات. ونكاح الفروع: فقد حرم الله نكاح البنات وهن يشملن بنات الصلب وبنات الأبناء. نكاح الحواشي القريبة والبعيدة: فقد حرم نكاح الأخت سواء كانت شقيقة أو لأب أو لأم. ونكاح العمات والخالات القريبة والبعيدة كعمة الأب وخالة الأم. وقد حرم بنات الأخ وبنات الأخت من جهة الأبوين أو لأب أو لأم. ما حرم من جهة الرضاع: يحرم بالرضاع ما يحرم بالنسب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 فإذا رضع طفل من امرأة فهي أمه تحرم عليه، وزوجها أبوه وأولادها أخواته، وهكذا للرضاع أحكام كثيرة مذكورة في كتب الفقه، ويجب على المسلمين العناية به. ما يحرم بسبب المصاهرة: فقد حرم أم الزوجة التي دخلت بها أو عقدت عليها، وكالأم الجدة. وابنة الزوجة التي من غيرك- وهي الربيبة- بشرط الدخول بأمها، وكذا أولاد أولادها، فإن لم يدخل بها لا يحرم عليها بناتها، وزوجة الابن وابن الابن تحرم على الأب والجد. ما يحرم بسبب عارض: الجمع بين الأختين أو بين المرأة وقريباتها، وضابط ذلك كل امرأتين بينهما قرابة لو كانت إحداهما ذكرا لحرم عليه نكاح الأخرى كالمرأة وعمتها وخالتها ... إلخ. إلا ما قد سلف فلا يؤاخذ عليه ... وعن ابن عباس أن أهل الجاهلية كانوا يحرمون ما حرم الله إلا نكاح امرأة الأب والجمع بين الأختين. إن الله كان غفورا رحيما. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 من أحكام الزواج [سورة النساء (4) : آية 24] وَالْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24) المفردات: وَالْمُحْصَناتُ الإحصان في القرآن جاء بأربع معان: الزواج كما في قوله تعالى وَالْمُحْصَناتُ أى: المتزوجات لأنهن دخلن حصن الزواج وحمايته. العفة: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ. الحرية: وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الإسلام: فَإِذا أُحْصِنَّ أى: أسلمن عند بعض العلماء. ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ المراد بهن: ما سبين في حروب دينية وأزواجهن كفار في دار الحرب. أُجُورَهُنَّ المراد بها هنا: المهور. فَرِيضَةً: مفروضة ومقدرة. لا جُناحَ: لا إثم ولا حرج. المعنى: ذكر الله- سبحانه- في الآية السابقة المحرمات من النساء بسبب النسب أو الرضاع أو المصاهرة أو بسبب عارض كأخت الزوجة وعمتها ... إلخ. وفي الآية هنا ذكر أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 المحصنات من النساء بمعنى المتزوجات كذلك يحرمن ما دمن في عصمة رجل ... إلا اللاتي سبين في حرب دينية بيننا وبين الكفار، أى: ليست حرب استعمار واستغلال، فقد روى عن أبى سعيد الخدري أنه قال: «أصبنا سبيا يوم (أوطاس) ، ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن، فسألنا النبىّ صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية فاستحللناهن» فقد أحل الله للمسلم نكاح المسبية بعد براءة رحمها من زوجها الأول، وشرط الأحناف أنه لا بد من اختلاف الدار بينها وبين زوجها، فلو سبيت هي وزوجها لم تحل لغيره. ولعل سائلا يقول: الرق وصمة عار فكيف يبيح الإسلام هذه المعاملة؟ نعم هو وصمة عار والإسلام لم يفرضه ولم يحرمه، بل لم ترد آية واحدة في القرآن تبيح الرق، وقد ترك لإمام المسلمين الحرية فيما يراه صالحا وموافقا لمصلحة الدولة من ناحية الأسرى فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً [سورة محمد آية 4] . وفي هذا الحكم خاصة نظر القرآن إلى مصلحة المرأة نفسها، إذ غالبا زوجها قتل في الحرب وفرق بينه وبينها، فلن يعود إليها. فبدل أن تكون جرثومة فساد، أو عالة على المجتمع، ندب لها كافلا أو زوجا يكفيها مئونة العيش ولم يتركها. بل أمره بالعدل معها والرحمة، وحثه على العتق ورغبه فيه، وشرطه في كثير من الكفارات. وبالجملة فقد حرم الله علينا المحصنات من النساء إلا ما سبيناهن في حروب دينية. وعلى هذا الأساس فليس هناك رق في العالم يقره الإسلام ويرضاه إلا لضرورة. كتب الله علينا هذه المحرمات كلها، وأحل لكم ما وراء ذلك المذكور من المحرمات في قوله حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ ... إلى هنا، وكذا المطلقة ثلاثا حتى تنكح زوجا غيره، والمشركة حتى تسلم، فعل ذلك لأجل أن تبتغوا النكاح الحلال وتطلبوه بأموالكم متى تدفعونها للزوجة أو ثمنا للأمة بشرط قصد الإحصان والإعفاف. لا بقصد سفح الماء والزنا محصنين أنفسكم وزوجاتكم غير مسافحين ولا زانين. فالقصد الصحيح الشرعي من الزواج هو الإعفاف، وحفظ الماء، والنسل الطاهر، فيختص كل رجل بأنثى وكل أنثى برجل، وهذا هو معنى الإحصان وعدم سفح الماء، فإن الزاني لا يريد باتصاله بالمرأة إلا سفح الماء فقط استجابة لداعي الطبيعة الحيوانية فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 فما استمتعتم به من النساء فآتوهن مهورهن التي اتفقتم عليها وفرضتموها على أنفسكم، فريضة من الله العليم الحكيم. والمهر ليس في مقابلة المتعة للرجل، وحق الإشراف على البيت والقيامة على المرأة، وإنما هو لتحقيق العدل والمساواة ودليل المحبة والإخلاص، ولذا سماه الله نحلة وعطية، ولا جناح عليكم فيما لو تراضيتم واتفقتم بعد العقد، فزدتم في المهر أو نقصتم فيه أو تنازلت الزوجة عن شيء لمصلحة الحياة الزوجية وعلامة على الإخلاص والتعاون إن الله كان عليما بكل نية وقصد، حكيما في كل قانون يسنه لعباده. والمهر يجب بالعقد أو الدخول، وفي بعض المذاهب بالخلوة الصحيحة. متى تنكح الأمة وما جزاؤها على الفاحشة [سورة النساء (4) : آية 25] وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25) المفردات: يَسْتَطِعْ الاستطاعة: كون الشيء في طوعك. لا يتعاصى عليك. طَوْلًا: زيادة وفضلا في المال أو الحال. الْمُحْصَناتِ والمراد هنا: الحرائر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 مُسافِحاتٍ: زانيات. أَخْدانٍ جمع خدن: وهو الصاحب أو الرفيق الذي يزنى سرّا. بِفاحِشَةٍ: بفعلة قبيحة وهي الزنا. الْعَنَتَ أصله: كسر العظم بعد الجبر، ثم استعير لكل مشقة وضرر. المعنى: ومن لم يستطع منكم من جهة الطول والقدرة في المال، أو الحال لسبب من الأسباب. أن ينكح الحرائر اللاتي أحصنتهن الحرية، ومنعتهن عن الوقوع في المفاسد خاصة المؤمنات، فلينكح ما ملكته يمينه من المسبيات في الحرب الدينية من فتياتكم، والمؤمنات منهن أفضل، وانظر إلى قوله تعالى: مِنْ فَتَياتِكُمُ بدل إمائكم، للإشارة إلى أنهن أخواتكن فليعاملن معاملة كريمة عزيزة. ثم رغب القرآن في نكاحهن بقوله: وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فأنتم أيها المؤمنون أولى ببعض فلا ينبغي أن يعد نكاح الإماء عيبا، إذ المهم هو الإيمان والله أعلم به، فرب أمة خير من ألف حرة إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ «1» . فانكحوهن أيها الراغبون بإذن أهلهم، وهم الموالي المالكون، وقيل: من له ولاية عليهن كالأب والجد أو القاضي والموصى. أدوا إليهن مهورهن كاملة بالمعروف شرعا وعادة بلا نقص أو تهاون، حالة كونهن متزوجات منكم، محصنات بكم، لا مسافحات ولا زانيات، بمعنى ادفعوا المهر بقصد الزواج والإحصان لا بقصد الزنا والسفاح، بشرط ألا يكن متخذات أخدان وأصحاب يزنين بهن سرّا. والفاحشة كانت في الجاهلية على نوعين: سرّا وكان يأنف منها الأشراف، وجهرا وكان يقوم بها الإماء فقط، وينصبون علامة حمراء لهن في الجبل بل كان بعضهم يشترى الإماء لهذا، ولذا نرى الله يقول: وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ «2» وقيد هنا بقوله: غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَلا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ في جانب الإماء لأنهن أقرب إلى الوقوع في الفاحشة من الحرائر، وعند الكلام على الحرائر قال: مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ لأن الرجال أكثر منهن انقيادا لدواعى الفاحشة وهم الذين يطلبونها من النساء غالبا.   (1) سورة الحجرات آية 13. (2) سورة الأنعام آية 151. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 فإذا أحصن بالزواج، وقيل: بالإسلام، فإن أتين بفاحشة الزنا، فجزاؤهن خمسون جلدة على النصف من الحرة، وقال العلماء: المتزوجة من الإماء حدّت بالقرآن، والبكر منهن حدت بالسنة. لما ورد في الصحيحين من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال: «اجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم إن زنت فاجلدوها، ثم بيعوها ولو بضفير» «1» . وإنما كانت الأمة على النصف لأنها ضعيفة المقاومة، والحرة أبعد عن داعية الفاحشة فلذا رحم الله ضعف الأمة!! ذلك أن جواز نكاح الإماء لمن خاف العنت والمشقة في ارتكاب الإثم والفاحشة حيث لم يستطع نكاح الحرة لسبب من الأسباب. وصبركم عن نكاح الإماء خير لكم، وإن رخص الشارع في نكاحهن للضرورة، إذ فيه يعرض الولد للرق، وحق الولي فيها أقوى فلا تخلص للزوج كالحرة فهو يقدر على استخدامها كيفما يريد في سفر أو حضر وعلى بيعها، وهي ممتهنة خرّاجة ولّاجة والله غفور لمن يصبر، ستار على العيوب والذنوب، رحيم بكم حيث رخص لكم في نكاحهن للضرورة. نكاح المتعة: هو نكاح المرأة إلى أجل معين، وقد أباحه النبي صلّى الله عليه وسلّم أولا ثم حرمه تحريما مؤكدا، وليس في الآية دليل على جوازه خلافا لبعضهم. تقدير المهر: المهر في الشرع ليس له حد في القلة أو الكثرة إذ قد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «التمس ولو خاتما من حديد» «2» وفي القرآن: وَآتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً «3» ولكن المغالاة فيه ليست من المصلحة في شيء بل قد تعوق الزوج.   (1) أخرجه البخاري في كتاب البيع باب بيع العبد الزاني رقم 2153. (2) أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب التزويج على القرآن وبغير صداق 5149. (3) سورة النساء آية 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 حكم عامة للأحكام السابقة [سورة النساء (4) : الآيات 26 الى 28] يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28) المفردات: سُنَنَ: جمع سنة، وهي الطريقة والشريعة. ضَعِيفاً: غير قادر على مخالفة نفسه وهواه. المعنى: بعد ما ذكر الله الأحكام السابقة المتعلقة بالبيوت والنكاح- حلاله وحرامه- كأن سائلا سأل: ما هي الحكمة في ذلك؟ وهل الأنبياء والأمم السابقة كانت مكلفة بمثل هذا؟ وهل هذه الأحكام مقصود بها التخفيف علينا أم التشديد؟ فأجاب الله بهذه الآيات مبينا الحكم العالية في آياته وأحكامه وأنه ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ «1» .. يريد الله أن يبين لكم ما هو خفى عنكم، ويرشدكم إلى ما فيه مصلحتكم، ويهديكم إلى مناهج من قبلكم من الأنبياء والصالحين وطرقهم التي سلكوها في دينهم ودنياهم وأن دينهم الذي ارتضاه لهم سابقا لا يبعد عما اختاره لكم. يريد الله أن يرشدكم إلى طاعات وأعمال إن قمتم بها وأديتموها على وجهها كانت   (1) سورة الحج آية 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 كفارات لكم ولسيئاتكم، فيتوب عليكم، ويكفر عنكم إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ «1» والله عليهم بكل قصد، حكيم في كل عمل وقانون يسنه لعباده. والله يريد أن يتوب عليكم بما كلفكم به من الأعمال التي تطهركم وتزكى نفوسكم فيتوب عليكم بعد هذا، ويريد الذين يتبعون الشهوات ويجرون وراءها- فكأنها أمرتهم باتباعها فامتثلوا أمرها- أن تميلوا معهم حيث مالوا ميلا عظيما، فإن مرتكب الإثم يهمه جدا أن يشاركه غيره فيه إرضاء لنفسه واطمئنانا لها. يريد الله بهذه الأحكام التخفيف عليكم، حيث أحل لكم نكاح الأمة للضرورة، وحرم عليكم نكاح هذه المحرمات السابقة، وخلق الإنسان ضعيفا عن مقاومة الشهوات والوقوف أمام تيارات النساء فإنهن حبائل الشيطان. ولهذا نهانا عن الجلوس مع غير المحارم والحديث معهن لغير ضرورة، ونهى النساء عن كشف عوراتهن وتبرجهن وعن إبداء زينتهن. أخرج البيهقي عن ابن عباس- رضى الله عنهما- ثماني آيات نزلت في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، وعد هذه الآيات الثلاث (26 و 27 و 28) والرابعة إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ. والخامسة إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. والسادسة وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً . والسابعة إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ. والثامنة وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ «2» . حدود ومعالم [سورة النساء (4) : الآيات 29 الى 33] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31) وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَسْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (32) وَلِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (33)   (1) سورة هود آية 114. (2) وهي على التوالي الآيات: 31، 40، 110، 116، 152. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 المفردات: لا تَأْكُلُوا المراد: لا تأخذوا، وإنما عبر بذلك عن الأخذ لأن الأكل هو المقصود المهم. بِالْباطِلِ الباطل: ما قابل الحق. وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ: لا يقتل بعضكم بعضا. عُدْواناً العدوان: قصد التعدي على الغير. وَظُلْماً: هو تجاوز الحق بالفعل. نُصْلِيهِ ناراً: ندخله ونحرقه بالنار. تَجْتَنِبُوا: تتركوا الشيء جانبا. كَبائِرَ: جمع كبيرة، وهي المعصية التي قرن بها وعيد شديد أو حد في كتاب الله أو سنة رسوله كما في بعض الأقوال. نُكَفِّرْ: نغفر ونمنح. مُدْخَلًا كَرِيماً: مكانا طيبا وهو الجنة. وَلا تَتَمَنَّوْا التمني: طلب حصول الأمر المرغوب فيه. فَضْلِهِ: إحسانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 ونعمه الكثيرة. مَوالِيَ: جمع مولى، والظاهر أن المراد به من يحق له الاستيلاء على التركة، وقيل غير ذلك. وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ قيل: إن المراد بهم الأحلاف، فقد كان من عادة العرب أن يتحالف الرجل مع رجل آخر على تبادل النجدة والمعونة، وكان الحليف يرث السدس. وقيل وهو الظاهر: إن المراد بهم الأزواج. ونحن في بيوتنا وأسرنا ومجتمعنا الصغير والكبير أحوج ما نكون إلى معرفة حكم الله في الاعتداء على المال أو النفس، ولذا وضعت هذه الآية هنا. المعنى: المال شقيق الروح، والاعتداء عليه يورث العداوة بل قد يجر إلى الجرائم والاعتداء على النفس أقسى اعتداء وأشده، قد تنجم عنه حروب وثارات، واجتناب الكبائر وإعطاء الحقوق لأربابها من دعائم المجتمع السليم لذا عالج القرآن هذا بأحسن علاج. يا أيها المؤمنون: لا تكونوا من ذوى الأطماع في حقوق الغير، الذين يأكلون أموال الناس بغير حق، فلا يأكل بعضكم مال أخيه الذي بينه وبينه ويتخاصم لأجله بالباطل، ولكن كلوه عن طريق التجارة ما دامت عن تراض منكم ليس فيها كذب ولا خداع ولا غش ولا تدليس. والتجارة مشروعة، ومتى كانت بالتراضي مع الذكاء وحسن العرض وجذب قلوب الناس بحسن الكلام والوسائل المغرية غالبا يأتى معها الربح الكثير، وإنما أضاف الأموال إلى الجميع (أموالكم) للإشارة إلى أن مال الفرد مال الأمة، والاعتداء على مال الفرد اعتداء على مال الأمة جمعاء، فنحن خلفاء الله في هذا المال. والمال للكل، فالفقير والمحتاج له منه نصيب فلا تمنعوه ... وهذه هي الاشتراكية الإسلامية، احترام الملكية وإيجاد حق معلوم للسائل والمحروم بالزكاة المقيدة والمطلقة، وحث على العمل ومنع الاعتداء على حق الغير إلا بحق الإسلام. واستثناء التجارة من الأكل بالباطل فيه إشارة إلى أن معظم أنواع التجارة يدخل فيها أكل مال الغير، وإنما أبيحت للترغيب فيها «تسعة أعشار الرزق في التجارة» فهي عماد الحياة ودعامة العمران. متى خلت من الغش والكذب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 ولا يقتل بعضكم بعضا، وفي تعبير القرآن وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إشارة إلى أن من قتل غيره فكأنما قتل نفسه (بالقصاص) بل من قتل غيره فقد اعتدى على الأمة كلها وهو فرد منها مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً «1» فدم المسلم على المسلم حرام إلا من ارتد أو زنى وهو محصن أو قتل عمدا. وإذا كان قتل الغير على هذا الوضع. كان قتل النفس (الانتحار) أشد جرما وأفظع ذنبا لا يصح أن يصدر من مؤمن، ولذا لم ينهنا عنه القرآن صراحة. إن الله كان بكم رحيما، حيث حرم الاعتداء على الغير في المال والنفس إلا بحق الإسلام، من يفعل ذلك الاعتداء بقصد الجور والظلم فقد استحق من الله عقوبة صارمة وهي إصلاؤه النار وإدخاله فيها وبئس المصير وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً [النساء 93] وكان ذلك على الله يسيرا وسهلا تحقيقه فهو القادر على كل شيء، مالك الملك والملكوت فلا يغرنك حال الكافرين والعصاة فالله يمهل ولا يهمل، سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا. نهى الله عن أكل أموال الناس بالباطل، وعن القتل بغير حق، وتوعد من ارتكب ذلك بأقسى العقوبة، ثم ذكر في هذه الآية نهيا عامّا لكل كبيرة ووعد من يمتثل بمحو السيئة ودخول الجنة. اختلف العلماء في المعصية وتحديدها وهل فيها كبيرة وصغيرة؟ أم كلها كبائر؟ وأحسن الآراء أن لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار، فالمعصية إن صاحبها استخفاف بالدين، واستهانة به مع الإصرار فهي كبيرة من الكبائر. وإذا نظرت إلى الزنى وقبلة المرأة أو النظر إليها رأيت أن الزنى كبيرة بلا شك بالنسبة إلى النظر أو القبلة. وعلى هذا الأساس جاء حد الكبائر في الأحاديث الشريفة، فقد ثبت في الصحيحين من حديث أبى هريرة: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «اجتنبوا السبع الموبقات: - أى: المهلكات- قالوا: وما هي يا رسول الله؟ قال: الشرك بالله، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، والسحر، وأكل مال اليتيم، وأكل الربا، والتولي   (1) سورة المائدة آية 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 يوم الزحف، وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات» وقد رويت عدة روايات ثابتة، فيها غير هذه الكبائر كشهادة الزور مثلا ... إلخ. وخرج علماء الحديث ذلك على أن الرسول كان يذكر في كل مقام ما يناسبه، فلم يكن ذلك على سبيل الحصر، على أن الشارع نظر إلى عدم تحديد الكبيرة والصغيرة رجاء أن تجتنب المعاصي كلها، كما أخفى الصلاة الوسطى، وليلة القدر، وساعة الإجابة لنحافظ على الكل. واجتناب الكبيرة إنما يكفر الصغيرة إذا اجتنبها مع القدرة والإرادة كمن تدعوه امرأة ذات حسن وجمال إلى نفسها، فيأبى ذلك خوفا من الله لا لشيء آخر، فهؤلاء الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم البسيط من السيئات، والمعاصي التي تحصل لظرف طارئ كثورة أو غضب ثم يعقبها تأنيب وندم، هؤلاء يكفر الله عنهم سيئاتهم ويدخلهم جنات النعيم، نزلا من عند الله مباركا طيبا إنه واسع المغفرة. بعد أن نهى الله- سبحانه وتعالى- عن أكل أموال الناس بالباطل وقتل النفس بغير حق، نهى عن كل الكبائر، توعد على ذلك وأوعد، نهى في الآية عن سبب كل هذا وهو تمنى ما عند الغير، وحثنا على العمل والكسب حتى لا نطمع فيما في أيدى الناس. وقد ذكروا في أسباب نزول الآية عدة روايات، كلها تدور حول تمنى الرجال. مضاعفة الثواب كما ضوعف حظهم في الميراث، وتمنى النساء الجهاد مثل الرجال وغير ذلك. ينهانا الله- سبحانه وتعالى- عن أن يتمنى كل مكلف منا- ذكرا كان أو أنثى- ما فضل الله به غيره، بل الواجب على كل منا أن يعمل ويكتسب ويجد ويجتهد، فله في كل عمل أتقنه وأخلص فيه نصيبه من الحسنات، وعلينا أن نوجه أفكارنا إلى الخير وإلى ما يغذى العقل ويزكى النفس، واسألوا الله أن يهبكم من فضله ويمن عليكم من نعمه، فهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ «1» ولذا ختم الله الآية بقوله إن الله كان بكل شيء عليما. والله- سبحانه وتعالى- خص كلا من الرجال والنساء بأعمال تتفق وطبيعة كل،   (1) سورة الشورى آية 27 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وحثهم جميعا على العمل بالإشارة في قوله اكْتَسَبُوا الذي يفيد المبالغة والتكلف في العمل والكسب. وانظر إلى قوله تعالى: بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ إذ فيه إيجاز بديع، فالآية تشمل كل تفضيل واقع بين الرجال والنساء وبين النساء والرجال، أفرادا وجماعات. وهذا التفضيل يشمل الخلقي، ويشمل التفاضل فيما يدخل فيه العمل والاجتهاد كالعلم وتحصيل المال أو الجاه مثلا، وهذا هو المقصود بالنهى في الآية. ومن السخف أن يتمنى الإنسان أن يكون قوى البنية أو صحيح الجسم أو ذكرا أو أنثى. والخلاصة: إننا نهينا عن التمني مع الكسل والخمول ولا يتمنى هذا إلا ضعيف الهمة وضعيف الإيمان، ولا شك أن هذا يجر إلى التعدي على الغير والحسد والحقد ... إلخ. وينبهنا الله بقوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا إلى الكسب والعمل. وفقنا الله إلى ما فيه الخير والسداد. بعد أن نهى الله- سبحانه وتعالى- عن أكل أموال الناس بالباطل وعن تمنى ما للغير من مال أو جاه، والمال هو المقصود ويأتى عن طريق الكسب وعن الإرث، قال الله- تعالى- قطعا للأطماع ووضعا للأمور في نصابها: (ولكل) من الرجال والنساء (جعلنا موالي مما ترك) يحق لهم الاستيلاء على التركة وأخذها. والمولى: هم (الوالدان والأقربون) والأزواج، فآتوهم نصيبهم كاملا من غير نقصان، واعلموا أن الله كان ولا يزال على كل شيء تفعلونه شهيدا فيجازيكم عليه يوم القيامة، فلا يحملنكم الطمع وحسد بعضكم لبعض من جراء زيادة نصيبه في الميراث على أن يأكل من حق غيره سواء كان ذكرا أو أنثى صغيرا أو كبيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 تنظيم الحياة الزوجية [سورة النساء (4) : الآيات 34 الى 35] الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34) وَإِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35) المفردات: قَوَّامُونَ: يقومون بأمرهن ويحافظون عليهن بعناية ورعاية تامة. قانِتاتٌ القنوت: السكون والطاعة. لِلْغَيْبِ: ما غاب واستتر من أمور الزوجية. نُشُوزَهُنَّ النشوز: ارتفاع الأرض عما حولها، والمراد: عصيان المرأة وترفعها على زوجها. شِقاقَ: نزاع وخصام، كأن كلا منهما في شق وجانب. حَكَماً الحكم: من له حق الفصل بين الخصمين. المناسبة: لما نهى الله- سبحانه وتعالى- عن تمنى الرجال والنساء ما فضل الله به بعضهم على بعض، وأمرهم بالعمل والجد، وإعطاء كل وارث نصيبه في الميراث وفيه تفضيل الرجال على النساء. ذكر هنا معالم لتدعيم الرابطة الأسرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 المعنى: من حكم الله العالية أن جعل الرجال من شأنهم وطبيعتهم أن يقوموا بأمر النساء والإرعاء عليهن خير قيام، وتبع ذلك فرض الجهاد، وحماية الذمار، والإنفاق على النساء من أموالهم، ولذا جعل الله حظهم في الميراث ضعف النساء. وذلك بما فضل الله به بعض الرجال على بعض النساء، فالرجل كامل الخلقة قوى الإدراك، معتدل العاطفة، سليم البنية، كما فضلهم بوجوب الإنفاق على الزوجة والقريبة ووجوب المهر على أنه تعويض أدبى للمرأة ومكافأة على الدخول في حماية الرجل وحصن الزوجية، وفيما عدا ذلك فالرجل والمرأة متساويان في كل الحقوق والواجبات، ذلك من مفاخر الدين الإسلامى وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وهي رئاسة البيت والقيام عليه، ومعناها تصرف المرأة بكامل حريتها في حدود الشرع وحدود ما يرضاه الزوج ويحبه، فتحفظ منزله وتدبره بالحكمة وترعى أولاده. وتحفظ نفسها وعرضها، وتنفق على حسب طاقة الزوج، وفي ظل كفالة الرجل وحمايته يمكنها أن تقوم بوظائفها الطبيعية كالحمل والولادة والإرضاع ... إلخ، وليست القوامة على النساء سلطة وتحكما، ولكنها إرعاء وتفهم. هؤلاء النساء لهن في الحياة المنزلية حالتان: فالصالحات منهن قانتات مطيعات لأزواجهن، حافظات لما غاب واستتر من أمور الزوجية التي لا يصح أن يطلع عليها أحد مهما كان، كالأعراض وما يحصل في الخلوات، وذلك بما وعدهن الله من الثواب العظيم على حفظ الغيب، وبما أوعدهن من العقاب الشديد على إفشائه، عن أبى هريرة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «خير النساء: التي إذا نظرت إليها سرتك، وإذا أمرتها أطاعتك، وإن غبت عنها حفظتك في مالك ونفسها» وهؤلاء ليس لكم عليهن إلا المعاشرة بالمعروف، والمخالطة بالحسنى والآداب الإسلامية. الحالة الثانية تظهر في هذا الصنف: واللاتي تخافون أن يرتفعن عن حدود الزوجية وواجباتها فعلى الزوج أن يتبع التعليمات الآتية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 (أ) أن يعظها بما يناسبها من تخويف بالله، وأن هذه معصية ستعاقبين عليها يوم القيامة وأن يهددها ويحذرها سواء العاقبة، وأنه سيحرمها بعض الهدايا والتحف، واللبيب أدرى بحالة امرأته. (ب) الهجر والإعراض عنها فلا يضاجعها حتى تتبصر في أمرها وتفكر في فعلها فربما رجعت عن نشوزها. (ج) الضرب غير المبرح، أى: المؤذى إيذاء شديدا. وليس معنى هذا أن الضرب دواء يعطى لكل امرأة، لا: بل قد تكون هناك نساء شواذ لا يصلح لهن إلا الضرب ومع هذا فديننا يأمرنا بالإحسان في المعاملة فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ «1» وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أيضرب أحدكم امرأته كما يضرب العبد ثم يضاجعها في آخر اليوم» ؟؟ «2» فالضرب علاج مرّ قد يستغنى عنه الكريم الحر. فإن أطعنكم وعولج حالهن بواحد من هذا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ «3» ولا تبغوا في الاعتداء عليهن سبيلا، إن الله كان عليّا كبيرا، ومع هذا فهو يقبل التوبة ويعفوا عن السيئة، ولله المثل الأعلى، فعاملوا من هو أضعف منكم بالحسنى والمغفرة. قد لا ينتهى الحال عند هذا وقد تكون المرأة مظلومة فيتسع النزاع. والعلاج أن يبعث الأهل أو الجيران وكل من يهمهم الأمر رجلا حكما من جانب الزوج وحكما من جانب الزوجة بشرط العدالة فيهما والقرابة والخبرة في شئون العائلات ونظام البيوت مع توفر حسن النية، وهما إن يريدا إصلاحا وتوفيقا بين الزوجين قاصدين وجه الله فالله سيوفق ويهدى إلى الخير، وإلا فقد يكون من الخير لهما الطلاق. إن الله كان عليما بنا وبأحوالنا، خبيرا بأمورنا، وأفضل علاج يرتضيه هو العلاج الحاسم والدواء الناجع وليس علينا إلا اتباعه، والله الموفق.   (1) سورة البقرة آية 228. (2) أخرجه البخاري في كتاب النكاح باب ما يكره من ضرب النساء 5204. (3) سورة الأحزاب آية 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 وعظ وإرشاد [سورة النساء (4) : الآيات 36 الى 39] وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَبِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى وَالْجارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَماذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39) المفردات: وَالْجارِ ذِي الْقُرْبى: صاحب القرابة، أى القريب. وَالْجارِ الْجُنُبِ: البعيد منك. وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ قيل: المراد به الرفيق في السفر، أو من صاحبته وعرفته ولو وقتا قصيرا. وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ: تقدم تفسيرها في آية «ليس البر» ج 2. مُخْتالًا: ذا الخيلاء والكبر الذي يظهر تكبره في أفعاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 وأعماله. فَخُوراً: هو المتكبر الذي يعدد محاسنه وأعماله تعاظما وتعاليا. وَأَعْتَدْنا: هيأنا وأعددنا. مُهِيناً ذا إهانة وذلة. رِئاءَ النَّاسِ: للرياء والسمعة. قَرِيناً: صاحبا وخليلا. المناسبة: الكلام من أول السورة إلى هنا في ربط أواصر الصلات وتنظيم حال البيوت والأسر مع العناية بالقرابة والمصاهرة، ثم ناسب هنا ذكر بعض الحقائق التي تنظم المجتمع، وتبنى الأسرة على أساس من التعاون وحسن المعاملة، وقد صدّر هذا الإرشاد بالأمر بعبادة الله تعالى لأنها الأساس الأول ومصدر الخير والهداية. المعنى: عبادة الله- سبحانه وتعالى- هي الخضوع له غاية الخضوع، مع إشعار القلب بتعظيم الله وإجلاله، في السر والعلن، والخشية منه وحده، واعبدوا الله وحده مخلصين له الدين، ولا تشركوا به شيئا من الإشراك حتى يكون العمل لله وحده. وأحسنوا بالوالدين إحسانا، فلا تقصروا في حقوقهما، وقوموا بخدمتهما كما يجب من غير تأفف أو تألم فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً [الإسراء 23- 24] . ولأن حب الوالد لولده غريزة وطبيعة لم يأمرنا الله العطف على الأولاد. وأحسنوا لذوي القربى كالأخ والأخت والعم والخال وأبنائهما، فإن الإنسان إذا أحسن للوالدين والأقارب تكونت أسرة قوية متعاونة متساندة. وهي نواة المجتمع ومنها تتكون الدولة، لا سيما إذا كان هذا العمل بعد الإيمان بالله والإخلاص له. وأحسنوا لليتامى فقد فقدوا آباءهم ولا عائل لهم، والمساكين فقد فقدوا أموالهم لضعف أو عجز أو آفة لا لكسل أو خمول أو إسراف في الشر، وأحسنوا للجار القريب إذ له عليكم حق الجوار، وحق القرابة، وحق الإسلام، والجار البعيد عنكم في النسب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 أو الدار، وقيل: المراد به الجار ولو كان كافرا، فقد روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعطف على جار له يهودي ويزور ابنه ، وقد قال الرسول: «ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه» . «ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره» . والصاحب بالجنب كالرفيق في السفر، ومن عرفته ولو مدة قصيرة، وابن السبيل: المنقطع في سفره عن أهله وماله واللقيط من باب أولى. كل هؤلاء الإحسان إليهم من إرشادات الدين ودعائمه، وأما عبيدكم وإماؤكم فأحسنوا إليهم بالعتق أو بالمساعدة عليه بالمال، وإذا كلفتموهم فأعينوهم على أعمالهم، ولا تكلفوهم ما لا يطيقون، وليأكلوا مما تأكلون وليشربوا مما تشربون فهم إخوانكم، وهكذا تكون الاشتراكية الحقيقية للعمال، وهكذا الدين الإسلامى يعامل الأرقاء بهذا فما بال الأحرار! ثم بعد هذا كله ذكر القرآن العلة في الامتثال وأن من يخالف هذه الوصايا ينطبق عليه الوصف الآتي المفهوم من قوله إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ «1» . المختال: من تمكنت من نفسه صفة الكبر حتى ظهرت على حركاته وأعماله، والفخور: المعتد بنفسه المتحدث بعمله كبرا وانتقاصا لحقوق الغير، والمختال الفخور مبغوض من عند الله والناس أجمعين، إذ لا يعقل أنهما يمتثلان أمر الله في الوصايا، إذ العبادة خضوع وخشوع وقلبهما بعيد عن هذا، وهما لا يقومان بحق الغير لأنهما لا يشعران بحق للغير عليهما كبرا وبطرا، ولقد صدق رسول الله حيث قال ما معناه: «الكبر بطر الحق وغمط الناس» وبطر الحق: رده استخفافا وترفعا، وغمط الناس: استحقارهم والازدراء بهم، وقد فسر القرآن الكريم المختالين الفخورين بأنهم الذين يبخلون فلا يعطون، ويأمرون غيرهم بالبخل، ويكتمون ما آتاهم الله من فضله كالعلم والمال. وقد روى عن ابن عباس: كان جماعة من اليهود يأتون رجالا من الأنصار ينصحون لهم فيقولون: لا تنفقوا أموالكم، فإنا نخشى عليكم الفقر، ولا تسارعوا في النفقة فإنكم لا تدرون ما يكون، ويشمل البخل في الآية البخل بالمال وبالإحسان في الكلام وبالنصيحة. هؤلاء هيأ الله لهم وأعد لهم بسبب كبرهم وبخلهم، وكتمانهم الحق، وعدم شكرهم   (1) سورة لقمان آية 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 عذابا يهينهم ويذلهم، وقد سماهم الله كفارا للإشارة إلى أن من هذا شأنه فهو كافر بنعمة الله، ومن كان كافرا بنعمة الله فله عذاب يهينه كما أهان النعمة بالبخل والإخفاء. والذين ينفقون أموالهم للرياء والسمعة، لا شكرا لله على النعمة، ولا اعترافا لعباده بحق والمرائى أقل خطرا من البخيل ولذا أخر في الذكر. وهم لا يؤمنون بالله حقا- لأن المؤمن الكامل لا ينفق رياء بل لله- ولا يؤمنون باليوم الآخر. إذ هم لو كانوا كذلك ما راءوا أحدا بل يعملون لهذا اليوم وهؤلاء هم قرناء الشيطان يوحى إليهم ويعدهم بالفقر لو أنفقوا، ويأمرهم بالفحشاء والمنكر، ومن يكن الشيطان له قرينا فبئس هذا القرين. أى ضرر كان يلحقهم لو آمنوا حقيقة بالله وعملوا لليوم الآخر الذي فيه الجزاء وآمنوا به، وأنفقوا مما رزقهم الله ابتغاء رضوانه وامتثالا لأمره؟ وهذا الأسلوب للتعجب من حالهم إذ هم لو أخلصوا العمل لما فاتهم ما يطلبون من منافع الدنيا والآخرة، فحالهم حقيقة جدير بالعجاب. وكان الله بهم عليما وخبيرا وسيجازيهم على أعمالهم، فعلى المؤمن أن يعتقد أن الله يراه ويحاسبه على عمله فإنه إن لم يكن يرى الله فالله يراه. ترغيب وتحذير [سورة النساء (4) : الآيات 40 الى 42] إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40) فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 المفردات: لا يَظْلِمُ الظلم: النقص وتجاوز الحد. مِثْقالَ أصله: المقدار الذي له ثقل، ثم أطلق على المعيار المخصوص للذهب. ذَرَّةٍ: أصغر ما يدرك من الأجسام، وقيل: الجزء الذي لا يتجزأ، وقيل: هي ما يرى في نور الشمس إذا دخلت من نافذة، والذرة الآن لها اصطلاح علمي آخر. المناسبة: بعد الإرشادات السابقة من الأوامر والنواهي، رغب- سبحانه- في الامتثال وحذر من المخالفة والعصيان بهذه الآيات. المعنى: الله- سبحانه وتعالى- متصف بكل كمال، ومنزه عن كل نقص، ومن النقص الظلم، ومن الظلم أن ينقص أحدا من أجر عمله شيئا ولو بسيطا جدّا أو يعاقب أحدا مهما كان بغير ما يستحق وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً «1» . فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «2» . والله خلق الخلق ولهم عقول ومشاعر تدرك بعض الخير والشر، وأرسل لهم رسلا وأنزل معهم كتبا لتمام هدايتهم مع المبالغة في التحذير والإنذار، فمن اجترح سيئة بعد ذلك، ووقع فيما يضره ويؤذيه كان هو الظالم لنفسه وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «3» . ومن فضله وإحسانه أنه يضاعف الحسنة إلى عشرة، ويجزى السيئة بمثلها فقط مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها «4» والله يضاعف بعد هذا لمن يشاء، ويؤتى من لدنه أجرا عظيما فهو واسع الفضل كثير الخير. وإذا كان هذا هو النظام العام في الثواب والعقاب، فكيف حال هؤلاء الكفرة؟ إذا جاء يوم القيامة وشهد عليهم أنبياؤهم وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ «5» وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «6» .   (1) سورة الأنبياء آية 47. (2) سورة الزلزلة الآيتان 7 و 8. (3) سورة فصلت آية 46. (4) سورة الأنعام آية 160. (5) سورة فاطر آية 24. (6) سورة الإسراء آية 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 وقيل: معنى الشهادة أن أعمالهم تقاس بأعمال أنبيائهم، وتعرض عليهم يوم القيامة. وأما الرسول الأعظم خاتم الأنبياء والمرسلين فهو شهيد على الأنبياء جميعا صلّى الله عليه وسلّم روى البخاري والنسائي من حديث ابن مسعود أنه قال: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: اقرأ علىّ، قلت: يا رسول الله: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: نعم أحب أن أسمعه من غيرى، فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية فَكَيْفَ إِذا جِئْنا فقال صلّى الله عليه وسلّم: حسبك الآن. فإذا عيناه تذرفان. فانظر كيف بكى النبي صلّى الله عليه وسلّم لهذا اليوم؟! يومئذ يلاقون ما يلاقون، يومئذ يود الذين كفروا بالله وعصوا رسول الله أن يدفنوا في الأرض كالبهائم ويسوى بهم فيكونون سواءا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً «1» وأنهم يودون لو يكونون ترابا فتسوى بهم الأرض، والحال أنهم لا يكتمون الله حديثا ولا يكذبون في قولهم وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «2» لأنهم حينما يقولون ذلك تنطق عليهم أيديهم وأرجلهم بأعمالهم والشهادة عليهم بالشرك، فلشدة الأمر عليهم يتمنون لو تسوى بهم الأرض. بعض شروط الصلاة مع بيان رخصة التيمم [سورة النساء (4) : آية 43] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)   (1) سورة النبأ آية 40. (2) سورة الأنعام آية 23. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 المفردات: سُكارى: جمع سكران وهو من الخمر. جُنُباً: من أصابته الجنابة كإنزال المنى أو الجماع. الْغائِطِ: المكان المطمئن من الأرض كان بقصد قديما لقضاء الحاجة فجعل كناية عنها أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ: كناية عن الجماع، وحقيقته: اللمس المشترك من الجانبين، فَتَيَمَّمُوا أى: اقصدوا. صَعِيداً: وجها طاهرا للأرض عَفُوًّا: ذو العفو، وهو محو السيئة من أساسها. غَفُوراً: ذا المغفرة، وهي ستر الذنب وقد يبقى أثره. سبب النزول: روى أن عبد الرحمن بن عوف صنع طعاما وشرابا ودعا نفرا من الصحابة حين كانت الخمر مباحة فأكلوا وشربوا، فلما ثملوا وجاء وقت صلاة المغرب قدموا أحدهم للصلاة فقرأ: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون، فنزلت الآية فحرموا الخمر وقت الصلاة، وكانوا يشربونها ليلا حتى نزلت آية التحريم الكبرى. وروى أن السيدة عائشة كانت في سفر ففقدت عقدها فنزل النبي صلّى الله عليه وسلّم يلتمسه والناس حوله وليسوا على ماء. فنزلت الآية وصلوا بالتيمم . وقد جاء أسيد بن الحضير إلى مضرب عائشة وجعل يقول: ما أكثر بركتكم يا آل أبى بكر. ما نزل بك يا عائشة أمر تكرهينه إلا جعل الله تعالى فيه للمسلمين فرجا، والظاهر أن صدر الآية نزل لحادثة الخمر وعجزها في حادثة السفر. المعنى: لما نهى الله- سبحانه- فيما مضى عن الشرك وارتكاب الكبائر نهى هنا عما يؤدى إليه وهو السكر. يا أيها الذين آمنوا: احذروا أن يكون السكر وصفا لكم عند حضور الصلاة والقيام لها، فتصلوا وأنتم سكارى، وامتثال النهى يكون بترك السكر وقت الصلاة وفيما يقرب منها، والخطاب في الآية موجه للمؤمنين قبل السكر ليجتنبوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 حتى تعلموا ما تقولون وتدعون به ربكم: إذ السكر يتنافى مع الصلاة التي تحتاج إلى خشوع وخضوع واتجاه لله بالقلب ودعائه باللسان. ولا تقربوا الصلاة حالة كونكم جنبا إلا في حالة عبور السبيل واجتياز الطريق، وهل المراد بالصلاة حقيقتها؟ أو مكانها؟ الأصح أن يراد بها هذا وذاك، لا تقربوها مع الجنابة أصلا حتى تغتسلوا، والغسل: أن يعم الماء جميع الجسد إذ عند الجنابة توجد حالة عصبية عامة في الجسد يتبعها انحلال عام فيه، وهذا الانحلال يذهب بالغسل. الصلاة هي الركن الأول العملي في الدين، وهي الصلة بين العبد والرب تتكرر خمس مرات في اليوم، وهي مطلوبة طلبا لا هوادة فيه، إلا أن الطهارة لها قد تتعذر على المسلم لمرض أو عذر، فرخص الشارع الرحيم في التيمم لها حتى لا يعذر في تركها إنسان. وكان التيمم بالتراب إذ لا يعقل أن يفقده الإنسان بحال من الأحوال بخلاف الماء، على أنا خلقنا من التراب وكانت صورته كما ستعرف لإشعار الشخص بإجراء عملية تشبه الوضوء في أهم أركانه. وإن كنتم مرضى مرضا يتعذر معه الوضوء أو الغسل، أو في سفر من الأسفار وتعذر استعمال الماء لفقده أو لمشقة السفر، أو أحدثتم حدثا أصغر يوجب الوضوء كخروج شيء من أحد السبيلين ... إلخ، ما هو معروف في كتب الفقه الإسلامى. أو أحدثتم حدثا أكبر يوجب الغسل- كالجماع مثلا ولم تجدوا الماء لتعذر وجوده واستعماله لسبب من الأسباب. فاقصدوا وجها للأرض طاهرا لا نجاسة فيه، له غبار عند بعض العلماء والبعض لا يشترط فيكفى حجر صلب ... وتيمموا. والخلاصة: أن التيمم رخصة تغنى عن الوضوء والغسل عند تعذر استعمال الماء لسبب من الأسباب التي ذكرت بالتفصيل في كتب الفقه. وكيفية التيمم: نية وضربتان على تراب ولو كان غبارا من حشية (مرتبة) الأولى للوجه، والثانية لليدين، ثم لك بعد هذا أن تصلى وتقرأ القرآن ... إلخ، كأنك متوضئ أو مغتسل، وللتيمم أحكام كثيرة في كتب الفقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 إن الله كان غفورا حيث سهل الصلاة للمعذور بدون وضوء وغسل، ونحن يا أمة النيل لكثرة نعم الله علينا ولجريان النيل تحت أقدامنا، قد لا نشعر بفقد الماء وبالحاجة للتيمم، ولكن الدين الإسلامى دين عالمي للصحراء وللوديان، وقد عفا عمن صلى في حالة السكر قبل هذا، والله عفو عن الذنب، ومن كان عفوّا غفورا آثر التسهيل ولم يشدد علينا. سبحانه من رءوف رحيم ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج 78] . اليهود وأعمالهم [سورة النساء (4) : الآيات 44 الى 46] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَكَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45) مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنا وَعَصَيْنا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَراعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46) المفردات: نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ أى: جزءا من التوراة. يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ: يميلونه ويزيلونه عن مواضعه. غَيْرَ مُسْمَعٍ: يحتمل غير سامع مكروها، أو غير مقبول منك ولا مسموع دعاؤك. وَراعِنا يحتمل انظرنا وأمهلنا، أو بمعنى الرعونة والطيش، أو هي كلمة عبرية كانوا يتسابون بها وهي راعينا. لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ: فتلا بها وتحريفا. طَعْناً فِي الدِّينِ قدحا فيه وذمّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 المناسبة: بعد ذكر هذه الأحكام العامة المتعلقة بالفرد والجماعة، أراد القرآن الكريم أن يرشدنا إلى خطر تركها أو العمل ببعضها، بالكلام على الأمم السابقة الذين أوتوا الكتاب فنسوا حظا منه وعملوا ببعض ما فيه فكان الخطر عليهم إذ الله بهم وبنا محيط. المعنى: ألم ينته علمك أيها المخاطب إلى الذين أوتوا جزءا من التوراة، وأما بقية الكتاب فلإهمالهم أمر التدوين والحفظ ضاع شيء منه. وبتلبيس رجال الدين وإنقاصهم منه تبعا لأهوائهم وتحريفهم ضاع جزء آخر، ولذا وصفهم القرآن بأنهم أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ وبقوله: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وأما قوله في موضع آخر: أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ فلتسجيل تقصيرهم، وقيل: المراد جنس الكتاب. ألم تر إلى الذين أوتوا جزءا من الكتاب، يستبدلون الضلالة بالهدى ويأخذون الكفر بدل الإيمان، ويريدون منكم أن تضلوا معهم الطريق المستقيم، والله أعلم بأعدائكم أيها المؤمنون، فامتثلوا أمره، واحذروا أعداءكم من أهل الكتاب وكفى بالله وليّا يتولى أمركم، وكفى به نصيرا ينصركم إن نصرتموه كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ. ثم بين الله الذين أوتوا نصيبا من الكتاب وهم أعداؤنا فقال: من الذين هادوا نعم منهم قوم يحرفون الكلم الذي أنزله الله عليهم في التوراة عن مواضعه الأصلية بأن يزيلوه عن مواضعه أصلا أو يضعوه في غير مكانه، وقيل: المراد يحرفونه عن معناه، فيفسرونه بغير المراد تضليلا للناس وتلبيسا عليهم، وقد فعل اليهود كل ذلك، فغيروا وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم والبشارة به وفسروا الكلام بغير معناه كما في آية الرجم. وهم يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم: سمعنا وعصينا، بدل قولهم: سمعنا وأطعنا. وكانوا يقولون حسدا وحقدا على النبي صلّى الله عليه وسلّم واسمع غير مسموع لك دعاؤك أو غير مقبول منك، ويحتمل واسمع غير سامع مكروها كما يقال: واسمع لا سمعت مكروها، كانوا يخاطبون به النبي صلّى الله عليه وسلّم استهزاء مظهرين إرادة المعنى الأخير وهم مضمرون في أنفسهم المعنى الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 وكانوا يقولون: راعنا، وهو كلام أيضا كالذي قبله يحتمل: انظرنا وتمهل علينا، ويحتمل أنه من الرعونة والحمق، أو هي كالكلمة العبرانية (راعنا) وهي كلمة سب عندهم. فهذه جرائم ثلاث كانوا يقولونها للنبي صلّى الله عليه وسلّم تارة في مجلسه وتارة بعيدا عنه يفعلون هذا ليّا بألسنتهم وفتلا بها وصرفا للكلام عن إرادة الخير إلى إرادة الشر والسب وطعنا في الدين وقدحا فيه بالاستهزاء والسخرية. وهذا منتهى الجرأة في الباطل والعدوان على الحق، ولو أنهم قالوا عند ما سمعوا أمرا أو نهيا: سمعنا وأطعنا، بدل: سمعنا وعصينا، ولو أنهم قالوا: اسمع وانظرنا عند خطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بدل: اسمع غير مسمع، وراعنا لو ثبت هذا لكان خيرا لهم، وأهدى سبيلا، ولكن لم يقولوا ذلك فخذلهم الله ولعنهم وطردهم من رحمته فهم لا يوفقون أبدا لخير، ولذا فإنهم لا يؤمنون أبدا إلا إيمانا قليلا لا إخلاص فيه أو إلا قليلا منهم كعبد الله ابن سلام وأضرابه. تهديد ووعيد لأهل الكتاب [سورة النساء (4) : الآيات 47 الى 48] يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48) المفردات: الطمس: الإزالة، ومنه طمس الدار، أزال معالمها. وُجُوهاً الوجه: تارة يراد به الوجه المعروف، وتارة يراد به وجه النفس، وهو ما تتوجه إليه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 المقاصد، قال تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ. أَدْبارِها: جمع دبر وهو الخلف والقفا. والارتداد: الرجوع إلى الوراء في المحسوسات وفي المعاني. قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ. أَوْ نَلْعَنَهُمْ أو نهلكهم، وقيل: نمسخهم. افْتَرى: اختلق. المعنى: يا أيها الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى: آمنوا بالقرآن المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم المصدق لما معكم من التوراة والإنجيل، وقد وصفهم القرآن بأنهم أوتوا الكتاب مع أنهم ضيعوا جزءا منه وحرفوا جزءا آخر تسجيلا عليهم بالتقصير واستحقاق العقاب. والأديان السماوية متفقة في الأصول العامة كالتوحيد ونفى الشرك وإثبات البعث والدعوة إلى كريم الأخلاق والقرآن الكريم مصدق لموسى وعيسى بهذا المعنى، ومعترف بهما وبغيرهما من الأنبياء والرسل، فكيف لا يؤمن أهل الكتاب بالقرآن وبمحمد؟ مع أنه جاء مصدقا لما معهم وموافقا لملة إبراهيم- عليه السلام- بل تراهم غيروا وصفه صلّى الله عليه وسلّم وبدلوا وأنكروا فقيل لهم: يا أهل الكتاب آمنوا بما أنزلنا من قبل أن نطمس وجوه مقاصدكم التي توجهتم إليها، في كيدكم للإسلام وأهله، ونردها خاسئة خاسرة إلى الوراء، وذلك بإظهار الإسلام وإعلاء كلمته وافتضاح أمركم وكشف ستركم، فالطمس والوجه والرد على الأدبار كلها أمور معنوية وقد تحققت، أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت، وقد ورد أن الله أهلكهم، وقد تم ذلك وتحقق الوعيد في كل المعاصرين بإذلال بنى النضير وإجلائهم، وإهلاك بنى قريظة، وبعضهم فسر الطمس والوجه والارتداد على الأدبار على أنها أمور حسية، وتأول في تحقيق ذلك والله أعلم بكلامه، وأنتم تعلمون أن وعيده في الأمم السابقة قد تحقق وحصل فاحذروا وعيده وخافوا عقابه إن وعد الله كان مفعولا. بعد أن وعد الله أهل الكتاب وهددهم إن لم يؤمنوا، وكان وعده مفعولا لا محالة، ساق هذه الآية لتأكيد ما مضى وتقريره ببيان استحالة المغفرة بدون الإيمان فإنهم كانوا يفعلون ما يفعلون، ويقولون: سَيُغْفَرُ لَنا على أن المراد بالشرك في الآية مطلق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 الكفر الشامل لكفر اليهود وغيرهم، وهو يظهر في اعتقاد المرء أن لغير الله تصريفا في الكون، ودفعا للضر، وجلبا للخير، وفي أخذ الحلال والحرام في الدين عن غير الله وكتابه المنزل كما فعلت النصارى اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ [سورة التوبة آية 31] . الشرك: هو الغطاء الكثيف الذي يمنع نور الإيمان من الوصول إلى القلب وهو منتهى ما تهبط إليه عقول البشر، ومنه تتولد سائر الرذائل التي تهدم الأفراد والجماعات ولا غرابة في ذلك فالمشرك بالله يفهم في حجر أو بشر مثله أو جماد لا حياة فيه: له تأثيرا في الكون، ويعبده ليقربه إلى الله زلفى، وبالتوحيد والإيمان: الخلاص من كل ذلك والسمو بالنفس إلى عبادة الرب والاعتماد عليه وحده والتوكل عليه والإخلاص له وفي هذا نور القلب، وصفاء الروح، ونور البصيرة، والعزة الكاملة، والنص المحقق لهذا كله لا يغفر الله الشرك أبدا تغليظا لذنبه، وامتيازا له عن سائر المعاصي، ويغفر ما دون ذلك، لأن نور الإيمان يسترها، وإنما مغفرة المعاصي لمن يشاء من عباده الموفقين للتوبة والعمل الصالح إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ [سورة هود آية 114] . وأما من يشرك بالله فقد اجترح إثما عظيما، وأى إثم يقاس بجانب الشرك بالله؟ أهل الكتاب وجزاؤهم على أعمالهم [سورة النساء (4) : الآيات 49 الى 55] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52) أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 المفردات: يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ: يمدحونها. يُظْلَمُونَ الظلم: النقص وتجاوز الحد. فَتِيلًا: هو ما تكون في شق نواة التمر مثل الخيط. بِالْجِبْتِ المراد: الأصنام، وأصله الرديء الذي لا خير فيه. الطَّاغُوتِ: مصدر بمعنى الطغيان والجبروت، ويطلق على كل ما يعبد من دون الله، وعلى الشيطان. نَقِيراً: هو النقرة التي تكون في ظهر النواة: ويضرب بها المثل في القلة والحقارة. يَحْسُدُونَ الحسد: تمنى زوال نعمة للغير. المعنى: ألم ينته علمك إلى هؤلاء الذين يزكون أنفسهم، ويدّعون ما ليس فيهم. وأنهم أبناء الله وأحباؤه، لا تمسهم النار مهما فعلوا لكرامتهم على الله: وَقالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ «1» وما علموا أن تزكية النفس تكون بالعمل الذي يجعلها زكية طاهرة، وهذه التزكية محمودة عند الله والناس، أما التزكية بالقول والادعاء والاعتماد على ما كان للآباء فهي مستهجنة عند الله والناس مبعثها الغرور الكاذب، والجهل الفاضح، ولذا يقول الله: (بل الله يزكى من يشاء) من عباده بتوفيقه للعمل الصالح، ولا تنقصون شيئا من جزاء أعمالكم مهما كان بسيطا هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى «2» فلا عبرة بتزكيتكم أنفسكم يا أهل الكتاب.   (1) سورة البقرة آية 111. (2) سورة النجم آية 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وعلينا نحن المسلمين ألا ندع لهذا الداء طريقا إلى قلوبنا أبدا وألا نغتر بأننا أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وكتابنا خير كتاب، ونبينا خاتم الأنبياء وأننا الأمة الوسط، لا: اعملوا فسيرى الله أعمالكم: «اعملي يا فاطمة فلن أغنى عنك من الله شيئا» . انظروا أيها المسلمون كيف يختلقون على الله الكذب في دعواهم وتزكيتهم أنفسهم، وكفى بهذا الافتراء على الله إثما مبينا واضحا. روى عن عكرمة: أن كعب بن الأشرف انطلق إلى المشركين في مكة يؤلبهم على النبي صلّى الله عليه وسلّم يأمرهم أن يغزوه قائلا: إنا معكم نقاتله فقالوا: إنكم أهل كتاب مثله ولا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردت أن تخرج معنا فاسجد لهذين الصنمين فسجد. ثم قالوا: نحن أهدى أم محمد؟ فنحن ننحر الكوماء (الناقة الضخمة) ونسقى الحاج، ونقرى الضيف، ومحمد قطع رحمه، وخرج من بلده؟ فقال: بل أنتم أهدى سبيلا، فنزلت تلك الآيات. ألم ينته علمك إلى أولئك الذين أوتوا نصيبا من الكتاب ومع هذا يؤمنون بالأصنام والطاغوت ويقولون في شأن الذين آمنوا للذين كفروا أى من أجل مخالفتهم: هؤلاء الكفار الجاهليون أهدى من الذين آمنوا سبيلا وأقوم طريقا، يا عجبا كل العجب: يقول أصحاب الكتاب والرسل لمن لهم كتاب ورسول مصدق لما معهم مؤيد بكتبهم مبشر به عندهم مثل هذا القول. أولئك الذين قضى عليهم الله بالطرد من الرحمة بسبب كفرهم وعصيانهم ومن يلعن الله فلن تجد له نصيرا أبدا. بل ليس لهم نصيب من الملك ولو كان لهم نصيب منه فرضا، فهم لا يؤتون غيرهم من الناس أحقر شيء وأبسطه، وصدق الله فهم كذلك في حكمهم الزائل بفلسطين، وما ذلك إلا لأنهم أنانيون مطبوعون على الأثرة وحب المادة والغرور الكاذب بأنه ليس أحد غيرهم يستحق شيئا. بل هم يحسدون الناس كمحمد صلّى الله عليه وسلّم على ما آتاه الله من فضله كالنبوة والكتاب والحكمة، ولا غرابة في هذا فقد آتى الله آل إبراهيم الكتاب والحكمة والنبوة وآتيناهم ملكا عظيما، والعرب من ولد إسماعيل بن إبراهيم، واليهود من ولد إسحاق بن إبراهيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 فمن أسلافهم من آمن بما أعطى إبراهيم، ومنهم من كفر، وكذا شأن الناس دائما مع الأنبياء قديما وحديثا فلا تأس يا محمد. والخلاصة: أن حال اليهود لا تخلوا من غرور كاذب أو خطأ فاضح لسجودهم للأصنام، وشهادتهم أن الجاهليين خير من المؤمنين أو اعتقاد خاطئ في أنهم أصحاب الملك والنبوة فلا يعطى أحد مثلهم، أو من حسد كامن للعرب على ما أعطاهم الله من الكتاب والحكمة والنبوة والملك الذي ظهرت آثاره على يد محمد صلّى الله عليه وسلّم. وكفى بجهنم نارا مسعرة لهم وبئس المصير. جزاء الكفر وثواب الإيمان [سورة النساء (4) : الآيات 56 الى 57] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57) المفردات: نُصْلِيهِمْ ناراً: نشويهم بالنار. نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ: احترقت وتلاشت. ظِلًّا ظَلِيلًا: وارفا دائما لا تنسخه شمس. ولا يصيب صاحبه حر ولا برد، وقد يراد بالظل النعمة والعزة. المعنى: تقدم أن منهم من آمن، ومنهم من كفر وكان جزاؤهم جهنم، وهذا تفصيل لما تقدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 إن الذين كفروا بآياتنا الدالة علينا المنزلة على أنبيائنا وخاصة القرآن لأنه أظهر الآيات وأكملها، هؤلاء سوف نصليهم ونحرقهم بالنار التي وقودها الناس والحجارة كلما احترقت جلودهم حتى لم تعد صالحة لإيصال الألم إلى مراكز الشعور والإدراك بدلناهم جلودا جديدة غيرها، أو هذا تمثيل لدوام شعورهم بالعذاب شعورا كاملا، ولا غرابة إن الله عزيز لا يغلبه غالب، حكيم في كل صنعه، ومن حكمته وعدله تعذيب العاصي بهذا وأمثاله، وإثابة المؤمن بما يناسب عمله، ومن ثم قرن ثواب المؤمن بجزاء الكافر حتى يظهر الفرق جليا فيكون ذلك أدعى للإيمان. والذين آمنوا بالله إيمانا صحيحا، وعملوا الصالحات من الأعمال سيدخلهم ربهم الجنة التي عرضها السموات والأرض، والتي تجرى من تحتها الأنهار فلا تعب فيها ولا مشقة، وهم فيها ماكثون وخالدون، ولهم فيها أزواج مطهرة طهارة حسية ومعنوية من دنس الحيض والنفاس، وكذا العيوب النفسية، كأنهن الياقوت والمرجان ويدخلهم ربهم ظلا دائما لا حر فيه ولا برد، ولا تنسخه شمس، ولهم فيها العزة الدائمة والهناءة المستمرة، ولا حرج على فضل الله، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان: اللهم ارزقنا التوفيق والسداد حتى نكون منهم يا رب الأرباب. السياسة العامة للحكمة الإسلامية [سورة النساء (4) : الآيات 58 الى 59] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 المفردات: الْأَماناتِ: جمع أمانة، وهي: ما يؤتمن عليها الشخص وتعم جميع الحقوق المتعلقة بذمته من حقوق لله أو للناس أو لنفسه. بِالْعَدْلِ: التساوي في الشيء والمراد به إيصال الحقوق إلى أربابها من أقرب الطرق. تَأْوِيلًا التأويل: بيان المآل والعاقبة. سبب النزول: روى أنها نزلت في عثمان بن طلحة بن عبد الدار، وكان سادان الكعبة وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حين دخل مكة يوم الفتح أغلق عثمان بن طلحة الكعبة وصعد إلى السطح، وأبى أن يدفع المفتاح إليه وقال: لو علمت أنك رسول الله لم أمنعه، فأخذه علي بن أبى طالب بالقوة، وفتح الباب ودخل رسول الله وصلّى ركعتين، فلما خرج سأله عمه العباس أن يعطيه المفتاح ويجمع له السقاية والسدانة فنزلت، فأمر النبي عليًّا أن يرده إلى عثمان ويعتذر إليه ... هذا ما روى في سبب النزول: ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وعلى ذلك فهو أمر عام لكل مسلم في كل أمانة في ذمته أو تحت يده، سواء كانت عامة للأمة أو خاصة للفرد. وهذا رد على اليهود- الذين قالوا للكفار: أنتم أهدى من المؤمنين سبيلا- ببيان أسس الحكومة الإسلامية الصحيحة الموافقة للقرآن الكريم. المعنى: الأمانة كلمة عامة جامعة تشمل أمانة العبد مع ربه، بمعنى أن الله عاهده على الامتثال للأوامر واجتناب النواهي. وأمانته مع الناس بأن يرد ودائعهم ويحفظ حقوقهم، وغيبتهم، وسرهم، ولا يغشهم، ويطيع الله فيهم، وإن كان حاكما فالشعب أمانة في عنقه واجب عليه أن يحكم فيهم بما أنزل الله، وأن يتقى الله فيهم بامتثال أمره والاهتداء بسنة المصطفى فلا يسند أمرا لغير أهله ولا يضيع حقا، ولا يغش مسلما، ولا يقبل رشوة، ولا يأكل أموال الناس بالباطل، ولا يدخر وسعا في السهر على المصلحة، والإرعاء على الخلق، وأن يعامل غيره بما يجب أن يعامله به لو كان محكوما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 وإن كان عالما فالواجب عليه أن يرشد الناس إلى الخير، ويهديهم إلى طريق الحق ويوقفهم على أسرار الشرع حتى يتمسكوا بأهداف الدين وإلا اعتبر مقصرا في واجبه إن لم يكن خائنا للأمانة. وأمانته مع نفسه بأداء ما طلب منه. ألست معى أن الأساس الأول للحكومة الإسلامية هو (الأمانة) بل هي الدعامة لإقامة مجتمع طاهر ونظيف وأمة رشيدة؟ الأساس الثاني (العدل) نعم العدل أساس الملك وأصل من أصول الدين الإسلامى لأنه شريعة ودولة ودين ودنيا، فالعدل واجب على الحكام والولاة حتى تصل الحقوق لأربابها كاملة غير منقوصة، ولذا أمر الله به في كثير من الآيات اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى. [سورة المائدة آية 8] كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ [سورة النساء آية 135] . وإذا كان هذا إرشاد الله ووعظه فنعم شيئا يعظكم به أيها المسلمون، إن الله كان سميعا لكل مظلوم وصاحب حق وأمانة، وبصيرا بكل خائن أو مقصر في واجبه أو متسبب في ضياع الحق بأى شكل ولون. وعلى الشعب بالنسبة للحكام والقادة السمع والطاعة ما داموا قد أدوا الأمانة على خير وجه وحكموا بالعدل بين الناس، يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله بتنفيذ أحكامه والعمل بكتابه ودستوره. وأطيعوا الرسول فهو الذي بين لنا دستور السماء وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «1» وأطيعوا أولى الأمر وهم أهل الحل والعقد في الأمة، أى: السلطة التشريعية في البلد، وهي تتكون من الحكام والولاة والنواب والشيوخ والعلماء والزعماء، أطيعوهم متى أجمعوا على أمر من الأمور بشرط أن يكونوا أدوا الأمانة وأقاموا العدالة وأطاعوا الله ورسوله بتنفيذ دستور القرآن عند ذلك تجب طاعتهم على الناس وهذا هو المسمى بالإجماع في علم الأصول. فإن تنازعوا في شيء فالواجب رده إلى نظيره ومثله في القرآن والسنة، والذي يفهم هذا هم العلماء الأعلام العاملون المخلصون لله ولرسوله، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر فاعملوا بهذه الوصايا وامتثلوا أمر الله فذلك خير لكم في الدنيا والآخرة، وأحسن تأويلا، ويؤخذ من الآية الكريمة أن أصول التشريع في الدين أربعة:   (1) سورة النحل آية 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 1- الكتاب: وهو القرآن الكريم فقد قال الله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ. 2- السنة: وهي ما أتت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قولا أو فعلا أو تقريرا فقد قال الله: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ. 3- الإجماع: وهو إجماع أهل الحل والعقد من الأمة إذا اتبعوا الله ورسوله. 4- القياس: وهو عرض المسائل المتنازع فيها على القواعد العامة في الكتاب والسنة وذلك قوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ. هؤلاء هم المنافقون وهذه أعمالهم [سورة النساء (4) : الآيات 60 الى 63] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَتَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 المفردات: يَزْعُمُونَ الزعم في الأصل: القول حقا كان أو باطلا، ثم كثر استعماله في الكذب. صُدُوداً: إعراضا عن قبول الحكم. سبب النزول: روى أن بشرا المنافق خاصم يهوديا فدعاه اليهودي إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ودعا المنافق إلى كعب بن الأشرف، ثم إنهما احتكما إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقضى لليهودي فلم يرض المنافق بهذا الحكم ... إلخ، ما جاء في رواية الزمخشري. المعنى: ألم ينته علمك إلى الذين يزعمون كذبا وبهتانا، أنهم آمنوا بما أنزل إليك من القرآن، وما أنزل من قبلك من الكتب. هؤلاء المنافقون من اليهود والنصارى يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، قيل: هو كعب بن الأشرف سمى طاغوتا لإفراطه في الطغيان وعداوة الرسول صلّى الله عليه وسلّم والبعد عن الحق، وقد أمروا في القرآن أن يكفروا بالطاغوت ويجتنبوه وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ «1» فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى «2» . هؤلاء الذين تدّعى ألسنتهم الإيمان بالله وما أنزله على رسوله، وتدل أفعالهم على الكفر بهما والإيمان بالطاغوت وإيثار حكمه على حكم الشرع الشريف، ويريد الشيطان- وما توسوس به نفوسهم، وداعي الشر فيهم- أن يضلهم ضلالا بعيدا جدا عن الحق والصواب. وإذا قيل لهم: تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول فهو الصراط المستقيم: رأيت هؤلاء المنافقين يصدون عنك يا محمد وعن دعوتك صدودا مؤكدا بكل ما أوتوا من قوة وحجة، والحامل لهم على ذلك هو اتباع شهواتهم، فكيف يكون حال هؤلاء المنافقين إذا أصابتهم مصيبة افتضاحهم وظهور حالهم، وانكشاف سترهم بما قدمته أيديهم، كيف يكون حالهم؟   (1) سورة النحل آية 36. (2) سورة البقرة آية 256. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 ففي الآية نذير وقوع الخطر بهم حتما، ثم جاءوك بعد ظهور حالهم، يحلفون بالله- وهم الكاذبون- قائلين: ما أردنا بأعمالنا هذه إلا إحسانا في المعاملة وتوفيقا بين الخصوم بالصلح أو الجمع بين منفعة الخصمين. أولئك الذين لعنهم الله وعلم ما في قلوبهم من الكيد والحقد والحسد، جزاؤهم الإعراض عنهم وعدم مقابلتهم بالبشاشة والترحاب لعل هذا يجعلهم يفكرون في أمر أنفسهم، ويقبلون نصحك ووعظك فأعرض عنهم، وعظهم، وقل لهم قولا بليغا يصل إلى شغاف قلوبهم ويؤثر في نفوسهم، وهذه شهادة من الله للنبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه صاحب القول البليغ والكلام المؤثر الدقيق «أوتيت جوامع الكلم» «أدبنى ربي فأحسن تأديبي» حديث شريف. وأما جزاؤهم في الآخرة فمعروف لا يجهلونه. إرشادات وآداب للسلم والحرب [سورة النساء (4) : الآيات 64 الى 70] وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64) فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَإِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَلَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 المفردات: شَجَرَ بَيْنَهُمْ: فيما اختلف بينهم من الأمور واختلط. حَرَجاً: ضيقا. كَتَبْنا: فرضنا عليهم. تَثْبِيتاً: تقوية، والتثبيت: جعل الشيء ثابتا راسخا. الصِّدِّيقِينَ: جمع صديق، وهو الصادق في قوله واعتقاده المبالغ فيه كأبى بكر الصديق وأمثاله من الصحابة- رضى الله عنهم-. وَالشُّهَداءِ: جمع شهيد، وهو من يشهد بصحة الدين بالحجة والبرهان ويقاتل في سبيله بالسيف والسنان حتى يقتل. وَالصَّالِحِينَ: من صلحت نفوسهم وغلبت حسناتهم سيئاتهم. المعنى: وما أرسلنا من رسول إلا وطاعته واجبة، بإذن الله وأمره، فالطاعة لله، ولمن يأمر بطاعته، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله، ومن يعص الرسول فقد عصى الله. ثم ترشد العصاة والمذنبين- إذا وقع منهم ذنب- أن يبادروا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيستغفروا الله عنده ويبالغوا في التوبة وطلب المغفرة حتى يستغفر لهم الرسول فإنهم إن فعلوا ذلك تاب الله عليهم إنه هو التواب الرحيم، وهكذا كل من يعصى الله ورسوله ثم يبادر بالتوبة يجد الله توابا رحيما. روى أن الزبير بن العوام خاصم رجلا من الأنصار في شأن ماء، فاختصما إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب الأنصارى وقال: لأن كان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 ابن عمتك: فتغير وجه النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر ثم أرسل الماء إلى جارك. كان قد أشار على الزبير أولا برأى فيه سعة له ولخصمه فلما أحفظ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استوعب للزبير حقه في صريح الحكم الأخير ... إلخ، ما جاء في أبى السعود فنزلت آية فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ وفيها يقسم الله- سبحانه وتعالى- بنفسه الكريمة المقدسة أنهم لا يؤمنون إيمانا كاملا حتى يحكموك في كل أمورهم وما يختلط عليهم من المشاكل، فما حكمت به فهو الحق لا شك فيه، ثم لا يجدون في أنفسهم حرجا ولا ضيقا من قضائك ويسلمون به تسليما. وهكذا نحن- وربك- لا نؤمن بالله إيمانا كاملا حتى نحكّم الله ورسوله في كل أمورنا ومشاكلنا، ثم نجد في أنفسنا ضيقا من حكم القرآن والسنة، ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون الفاسقون الظالمون. لو أن الله- سبحانه- فرض على الناس أن يقتلوا أنفسهم كما أمر بنى إسرائيل قديما تكفيرا لهم عن خطيئتهم في عبادة العجل، أو فرضنا أن كتب عليهم أن اخرجوا من أوطانكم في سبيل الله ما امتثل المأمور به إلا نفر قليل منهم، ... ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به من الأوامر والنواهي التي تظهر معها الحكم وتقرن بالوعد والوعيد، لكان خيرا لهم وأحسن وأشد تثبيتا في الدين وأرسخ، وإذا لآتاهم الله من عنده أجرا عظيما لا يعرف كنهه إلا هو، ولهداهم صراطا مستقيما. روى عن عائشة- رضى الله عنها-: جاء رجل إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إنك لأحب إلى من نفسي وإنك لأحب إلى من ولدي، وإنى لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر أن آتى فأنظر إليك، وإذا ذكرت موتى وموتك عرفت أنك إذا دخلت الجنة رفعت مع النبيين، وإنى إذا دخلت الجنة حسبت ألا أراك، فلم يرد عليه المصطفى صلّى الله عليه وسلّم حتى نزل جبريل بهذه الآية ، وروى: من أحب قوما حشر معهم. كيف لا ترضون بحكم الله ورسوله؟ ومن يطع الله فيما أمر ونهى والنبىّ صلّى الله عليه وسلّم فيما بشر وأنذر، وبلغ عن ربه، فأولئك يحشرون يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وكفاهم فخرا شهادة الله لهم أنهم من شدة المحبة وتمام الألفة وعدم الفرقة رفقاء، وذلك الفضل من الله يؤتيه من يشاء، وهو أعلم بمن اتقى!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 إذا فليحذر المنافقون المراءون لعلهم يتذكرون فيثوبون إلى رشدهم وليثبت المؤمنون على حالهم ويطمئنوا على مصيرهم لعلهم ينشطون ويبالغون في الطاعة والبعد عن المعصية. السياسة الحربية في الإسلام [سورة النساء (4) : الآيات 71 الى 76] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَلَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73) فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74) وَما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 المفردات: حِذْرَكُمْ الحذر والحذر بمعنى واحد، وهو: التيقظ والاستعداد، والمراد: احترسوا واستعدوا. فَانْفِرُوا النفر: الانزعاج عن الشيء وإلى الشيء، والمراد: اخرجوا إلى الجهاد. ثُباتٍ: جمع ثبة، وهي الجماعة، أى: اخرجوا جماعة تلو جماعة. لَيُبَطِّئَنَّ: ليثبطن غيره عن القتال، أو ليبطئن هو، أى: يتباطأ. يَشْرُونَ الْحَياةَ أى: يبيعونها ويأخذون بدلها نعيم الآخرة وثوابها. الطَّاغُوتِ تقدم تفسيره وقريبا. كَيْدَ الكيد: السعى في الإفساد على جهة الاحتيال. المعنى: بعد أن بين الله لنا السياسة الدينية والاجتماعية التي بينت لنا حدود التعامل مع الناس خاصة الأقارب واليتامى والمساكين وغيرهم، وأحوالنا الشخصية من نكاح وإرث وزواج ... إلخ، وأيد ذلك بضرب الأمثال بمن سبقنا من الأمم أخذ يذكر السياسة الحربية التي بها نحمى ذمارنا ونرد أعداءنا حتى تستوي دعوتنا قائمة وحتى يكون الدين كله لله، وهذه السياسة تتلخص في وجوب الاستعداد للحرب، وفي تنظيف الجبهة الداخلية، وفي الحث على الجهاد ببيان جزائه، وبذكر أحوال الضعفاء المستعبدين إخواننا في الدين! وأن الواجب أن تكون الحرب لغرض شريف فقال ما معناه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ واحترسوا من عدوكم واستعدوا دائما لملاقاته، فالاستعداد له قد يمنع الحرب، ويكون بتنظيم الجيوش وإعداد العدة المناسبة في كل عصر وحين وبث العيون (المخابرات والجواسيس) ودراسة حاله وبلده وطرقه ... إلخ ما هو معروف في الأصول الحربية، وإذا أخذتم حذركم فاخرجوا إليه جماعات إن اقتضى الحال ذلك، وإلا فأعلنوا التعبئة العامة واخرجوا إليه مجتمعين وفي هذا إشارة إلى تنظيم الأمة عسكريا وتعليم شبابها الفنون العسكرية حتى إذا دعا داعي الوطن وجدنا الكل يحمل السلاح، أما الجبهة الداخلية فلا تخلو أمة من الأمم من الجبناء الرعاديد والمنافقين الذين يثبطون الهمم، ويعوقون عن القتال ويقعدون عنه لفرط حبهم للدنيا وانخلاع قلوبهم من الحرب لضعف إيمانهم وخور عزيمتهم، فاعرفوهم وعالجوا ضعفهم، ولذا يقول القرآن: وإن منكم لجماعة يثبطون الهمم ويقعدون عن الحرب فإن أصابتكم مصيبة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 الحرب كالهزيمة أو القتل مثلا قالوا: قد أنعم الله علينا وتفضل حيث لم نكن معكم، ولئن أصابكم فضل من الله وانتصار على العدو قالوا: يا ليتنا كنا معكم فأخذنا نصيبنا من الغنيمة، كأنه لم تكن بينكم وبينهم مودة وصلة إذ الصلة والمودة التي يظهرونها تقتضي أن يكونوا معكم في السراء والضراء، والله أعلم بقلوبهم وما عندهم من الحسد والحقد، ولكنه سمى مودة تهكما بهم وبحالهم. وإذا كان هذا واجبكم نحو العدو والاستعداد له وقد عرفتم أن فيكم المنافقين الجبناء الذين لا يخلو منهم زمان أبدا. فليقاتل في سبيل الله ولإعلاء كلمته ونصرة دينه- دين الحق والعدل والكرامة والقوة والمدينة- أولئك المسلمون المخلصون الذين باعوا دنياهم الفانية بالآخرة الباقية ونعيمها الدائم حتى تكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى والله عزيز ذو انتقام، والمقاتلون في سبيل الله ينتظرون إحدى الحسنيين إما الاستشهاد في سبيل الله وإما النصرة والغلبة على الأعداء، وفي كلا الحالين سوف يؤتيهم الله أجرا حسنا، وما لكم لا تقاتلون في سبيل الله وفي سبيل هؤلاء المستضعفين من الرجال والنساء والولدان؟ وقد كان المسلمون الذين هم في مكة قبل الفتح ولم يتمكنوا من الهجرة في عذاب أليم وتعب مقيم فكانوا يلاقون من عنت الكفار الجبابرة الشيء الكثير، وما قصص بلال وصهيب وعمار عنكم ببعيد!!. وهؤلاء يقولون من شدة الألم: ربنا أخرجنا من هذه القرية الظالم أهلها، واجعل لنا من لدنك وليا يلي أمورنا ويحمى ذمارنا، واجعل لنا من لدنك نصيرا ينصرنا فقد عز الناصر وقل المدافع وسدت الأبواب إلا بابك يا كريم يا قوى يا حكيم. والقتال الذي يضع القرآن سياسته ليس قتال ظلم وتعد وتوسع في الملكية واستعباد للشعوب كما نرى الآن، وإنما هو قتال في سبيل الله ولإعلاء كلمة الحق والإنصاف: إنصاف الشعوب والأمم، ولذا كانت الحركة الإسلامية تزحف على الشعوب وتجرف الأمم كالسيل المنهمر، وظل الحال كذلك حتى ابتعد المسلمون عن الدين. فابتعدوا عن المثل العليا وضعف فيهم الوازع الديني فطمع فيهم كل طامع وغلبهم كل مغلب. ولذا يحدد القرآن الغاية من القتال في الإسلام بقوله: الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله، وأما الذين كفروا فإنهم يقاتلون في سبيل الطاغوت الذي هو الظلم والجبروت والطغيان والتعدي على حقوق الأمم والأفراد، فقاتلوا أيها المسلمون أولياء الشيطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 ولا تغرنكم قوتهم وهم عدد، فهي على غير أساس لأن وليهم الشيطان ووليكم الرحمن، وهو ناصركم ما نصرتموه، وكيد الشيطان للمؤمنين في جنب كيد الله للكافرين أضعف شيء وأوهنه، ألا إن حزب الله هم الغالبون. بعض ضعاف النفوس [سورة النساء (4) : الآيات 77 الى 79] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمالِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78) ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79) المفردات: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ: امنعوها عن العادات الجاهلية والحروب القديمة التي كانت بين القبائل. فَتِيلًا: شعرة بسيطة بين فكى النواة، وهي مثل في البساطة والقلة. بُرُوجٍ: جمع برج، وهو القصر أو الحامية التي يحتمي فيها الجند من العدو. مُشَيَّدَةٍ: عالية، وقيل: مطلية بالجبس والجير. يَفْقَهُونَ: يفهمون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 المعنى: ألم ينته علمك إلى الذين قيل لهم لما دخلوا في الإسلام: كفوا أيديكم وامنعوا أنفسكم عن الحرب الجاهلية والإحن القبلية التي كانت تثار لأتفه الأسباب، وأدوا الصلاة مقومة الأركان تامة بالخشوع والخضوع لله، وأدوا الزكاة وغير ذلك من حدود الإسلام وتعاليمه التي ترفع صاحبها إلى مستوى المثل العليا. من المسلمين الذين أمروا بالكف عن المنكرات والإتيان بالحسنات فريق كان يتمنى القتال لإرضاء شهوته في الاعتداء، فلما فرض عليهم قتال المشركين بعد الهجرة إذا فريق منهم يخشون المشركين كخشيتهم لله أو أشد، ويفرون من الحرب كأنهم مساقون إلى الموت ويقولون: ربنا لم فرضت علينا القتال؟ لولا تركتنا نموت حتف أنوفنا ولو بعد أجل قريب. أليس هذا عجبا؟ وأى عجب؟ قل لهم يا محمد: ما لكم تقعدون عن القتال حبا في الدنيا، ومتاعها قليل فان والآخرة متاعها باق دائم لا كدر فيه ولا تعب؟ وهي لمن خاف الله وامتثل أمره وأخذ لنفسه الوقاية من عذابها فأنتم محاسبون على أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرّا فشر ولا تظلمون فتيلا. وإن كان مثقال حبة من خردل لأى إنسان أتينا بها وكفى بنا حاسبين. ما لكم تخافون الحرب؟ أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في قصور عالية وبروج مشيدة فملك الموت لا تحجزه الحواجز ولا تعوقه العوائق، وكم من محارب نجا، وقاعد عن الحرب مات حتف أنفه، فلا نامت أعين الجبناء. وأعجب العجب مقالة أولئك المنافقين إذا أصابتهم حسنة من غنيمة أو خصب أو رزق قالوا: هذه من عند الله ومن فضله وإحسانه ليس لأحد دخل فيها، وإن أصابتهم سيئة من هزيمة أو جدب قالوا- لعنهم الله-: هذه من شؤم محمد، كما حكى القرآن عن قوم موسى وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ [سورة الأعراف آية 131] . قل لهم: كل من الحسنات والسيئات والسراء والضراء من عند الله فإنه موجد وخالق للكل، فما لهؤلاء القوم لا يقربون من فهم حديث من الأحاديث؟ ما الذي دهاهم في عقولهم حتى وصلوا إلى هذا الفهم السقيم؟ فقد ربطت الأسباب بمسبباتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وإن كان الله خالقا لكل شيء فما أصابك أيها المخاطب من حسنة فمن فضل الله ونعمه وتوفيقه لك حتى تسلك سبل النجاة والخير، وما أصابك من سيئة فمن نفسك حيث لم تسلك سبيل العقل والحكمة، حتى قالوا: إن المرض بسببك بل الأمراض الوراثية بسبب الإنسان وسلوكه الطرق التي تتنافى مع الصحة!! وأما أنت يا محمد فرسول وما عليك إلا البلاغ، والخير والشر كله من عند الله خلقا وإيجادا، وعلى الله الحساب وكفى بالله شهيدا. الطاعة لله ولرسوله [سورة النساء (4) : الآيات 80 الى 81] مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَيَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81) المفردات: تَوَلَّى: أعرض. بَرَزُوا أى: خرجوا من عندك، وأصل البراز: الأرض الفضاء. بَيَّتَ: دبّر جماعة منهم ليلا رأيا غير الذي قالوه لك. وروى مقاتل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول: من أحبنى فقد أحب الله ومن أطاعنى فقد أطاع الله. فقال المنافقون: ألا تسمعون إلى ما يقول هذا الرجل لقد قارف الشرك؟ قد نهى أن نعبد غير الله ويريد أن نتخذه ربّا كما اتخذت النصارى عيسى، فأنزل الله هذه الآية. المعنى: محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وسلّم نبي كريم ورسول رب العالمين وَأَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً «1» وهو بهذا المعنى يخبر عن المولى- عز وجل- ويبلغ ما أوحى إليه، فالآمر والناهي هو الله، والرسول مبلغ فليست الطاعة له بالذات إنما هي لمن بلغ عنه وهو الله- عز وجل- فمن يطع الرسول فقد أطاع الله ... والرسول صلّى الله عليه وسلّم في أوامر الشريعة وفيما يتعلق بالقرآن وأحكام الدين وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى. عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [سورة النجم الآيات 3- 5] . أما أمور الدنيا وما يقوله باجتهاده ورأيه في غير الشرع فقد كان الصحابة يسألون النبي عنه: أوحى يا رسول الله أم رأى؟ فإن كان وحيا أطاعوا بلا تردد ولا نظر وإن كان رأيا أشاروا، وقد يرجع الرسول إلى رأيهم كما حصل في غزوة بدر وأحد. ومن تولى وأعرض عن طاعتك فلا تحزن عليهم إن عليك إلا البلاغ ولست عليهم بمسيطر، وهؤلاء الذين يخشون الناس كخشية الله أو أشد يقولون إذا أمرهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بأمر: أمرك طاعة، أى: مطاع نفاقا وانقيادا للنبي ظاهرا فقط. فإذا خرجوا من المكان الذي يكونون معك فيه منصرفين إلى بيوتهم دبر جماعة منهم في الليل رأيا غير الذي قالوه لك، والله يكتب ما يبيتونه ويطلعك عليه في كتابه المنزل فلا يهمنك أمرهم فإنا مجازوهم، وأعرض عنهم، وتوكل على الله فإن الله كافيك شرهم ومنتقم منهم، وكفى بالله وكيلا. القرآن من عند الله [سورة النساء (4) : آية 82] أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82) المفردات: يَتَدَبَّرُونَ التدبر: التأمل في أدبار الأمور وعواقبها، وتدبر القرآن: النظر والتفكير في غاياته ومقاصده التي يرمى إليها.   (1) سورة النساء آية 79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 المعنى: أعمى هؤلاء عن حقيقة الرسالة وكنه الهداية فلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها؟ ولو تدبروه لعلموا أنه الحق من ربهم إذ هو في صدق في إخباره عما تكنّه ضمائرهم وما تخفيه سرائرهم، ولكن ختم الله على قلوبهم وأضل أعمالهم!! ولو كان هذا القرآن الذي هو عماد الدعوة المحمدية من عند غير الله بأن كان من عند محمد بن عبد الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا في نظمه من جهة البلاغة فيكون بعضه عاليا بلغ حد الإعجاز وبعضه قاصرا عنه، وبعضه صحيح المعنى وبعضه سقيمه، وجزء وافق في إخباره بالغيب وجزء خالف!!! وكان بعضه موفقا صادقا في تصوير الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للأمم، فكان مثلا أعلى، وبعضه غير موافق. وناهيك بوضع الآيات وترتيبها مع أنها نزلت منجمة غير مرتبة، وسبحان الله وتعالى عما يصفون، وكيف لا يكون القرآن من عند الله وفيه تصوير الحقائق تصويرا تامّا كاملا بلا اختلاف ولا تفاوت في أى جزئية. وفيه الإخبار عن الماضي الذي لم يشاهده محمد بن عبد الله ولم يتيسر له أن يقف على تاريخه، وعن الحاضر والمستقبل، بل على مكنونات الأنفس ومخبئات الضمائر، وأما الأصول والقواعد في التشريع والسياسة العامة والخاصة للفرد والأمة فيكفى شهادة الأعداء له، والحديث فيه عن الاجتماع ونواميس العمران وطبائع الإنسان مع ضرب الأمثال والقصص الذي يسحر القلوب ويخطف الأبصار فأمر لا ينكره إلا مكابر، وأما البلاغة والجزالة فهو الذي أعجز فحول البلاغة من العرب وتحداهم فقهرهم وأذلهم على كره منهم. اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً يشبه بعضه بعضا مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ (الزمر 23) . ولو تدبر المسلمون القرآن الكريم وفهموه فهما صحيحا سليما ووقفوا على أسراره لما وصلوا إلى ما وصلوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الرقابة على الأخبار [سورة النساء (4) : آية 83] وَإِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83) المفردات: أَذاعُوا بِهِ يقال: أذاع السر وبالسر: نشره وأشاعه بين الناس. رَدُّوهُ: أرجعوه. يَسْتَنْبِطُونَهُ استنبط الماء: استخرجه من البئر، ثم استعمل فيما يستخرجه الرجل بفضل عقله من المعاني والحلول للمشكلات. المعنى: سبحانك يا رب أنت الحكيم العليم. ما تركت لنا شيئا إلا ونبهتنا إليه. حتى إذاعة الأخبار، إذ في كل أمة من الأمم جماعة يذيعون الأخبار بشغف خصوصا ما يتعلق بالحروب بقصد سيّئ كالمنافقين، أو بقصد حسن كما يحصل من عامة الشعب، فيرشدنا الله إلى أن الأمور التي تتعلق بالأمن أو الخوف يجب أن يترك الحديث فيها إلى القائد العام وهو الرسول- عليه السلام- ولأهل الرأى والحل والعقد في الأمة فهم أدرى الناس بها وبالكلام فيها، أما أن نتحدث ونهرف بما نعرف وما لا نعرف بقصد وبغير قصد فهذا ضرر وأى ضرر على الدولة!! ولذا تنبهت الأمم الحديثة إلى الرقابة على الصحف والإذاعة وغيرها حتى لا تستغل عقول الجماهير خصوصا في الحرب رقابة تكفل الحرية، وتمنع الخطأ، أما الرقابة بمعنى كمّ الأفواه والقضاء على الحرية فشيء لا يقره الدين. ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم إذ هداكم ووفقكم لطاعة الله ورسوله ولنور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 القرآن لاتبعتم وسوسة الشيطان كما اتبعه الذين يبيتون ما لا يرضى من القول ويكون لهم ظاهر وباطن، ولما آمن منكم الإيمان الخالص إلا قليل، أو لآمنتم إيمانا ضعيفا. الحث على الجهاد أيضا [سورة النساء (4) : آية 84] فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنْكِيلاً (84) المفردات: وَحَرِّضِ التحريض: الحث على الشيء بتزيينه والترغيب فيه. بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا: قوتهم وشدتهم. تَنْكِيلًا التنكيل: معاقبة المجرم عقابا يمنع غيره من أن يفعل مثله. المعنى: إذا كان الأمر كما حكى من عدم طاعة المنافقين وكيدهم وتقصير الآخرين فقاتل أنت وحدك في سبيل الله وامتثل أمره إن أردت الظفر بالأعداء إذ لا تكلف إلا فعل نفسك فقط، أما غيرك من الذين يقولون: لم كتبت علينا القتال؟ ويخشون الناس أكثر من خشيتهم الله فدعهم، والله مجازيهم على أفعالهم وما عليك إلا أن تحرض المؤمنين على القتال وتحثهم عليه ببيان آثاره في الدنيا ونتائجه في الآخرة. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم حينما حل موعد بدر الصغرى في السنة التالية لغزوة أحد صمم على الخروج فخرج ومعه ألف وخمسمائة مقاتل وعشرة أفراس، وأقاموا على بدر ينتظرون أبا سفيان كما وعدهم وكان النصر لهم، أما أبو سفيان فرجع من الطريق وصرفه الله عن النبي صلّى الله عليه وسلّم عسى أن يكف بأسهم ويزيل قوتهم، فالله ناصرك على الأعداء سواء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 كنت وحدك أو معك الألوف، فهو أشد بأسا وأشد قوة وسيعاقبهم العقاب الصارم الذي يمنع أمثالهم من الجرأة على الحق وينكل بهم. من آداب القرآن [سورة النساء (4) : الآيات 85 الى 87] مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَمَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتاً (85) وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً (86) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87) المفردات: يَشْفَعْ الشفاعة: ضم صوتك إلى صوت رجل آخر لنصرته في طلبه. نَصِيبٌ أى: حظ منصوب ومعلوم. كِفْلٌ: نصيب مكفول ومضمون. مُقِيتاً أى: حافظا ومقتدرا. بِتَحِيَّةٍ التحية: مصدر حياه إذا قال له: حياك الله، وهي في الأصل: الدعاء له بالحياة، ثم صارت اسما لكل دعاء وثناء عند المقابلة، والتحية الإسلامية: السلام عليكم، للإشارة إلى أن الدين الإسلامى دين محبة وسلام وأمن. حَسِيباً: محاسبا على العمل ومكافئا له. المعنى: الشفاعة: ضم صوتك إلى أخيك لنصرته وتوصيل الحق له، وعلى هذا الأساس يدخل فيها تحريض المؤمنين على القتال وتحبيبهم فيه فإن هذا خير لهم وأى خير؟ ومن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 هنا كانت المناسبة ظاهرة على أن بعض المنافقين كانوا يستأذنون النبي في القعود عن القتال لهم ولغيرهم، وإذا توسعنا فيها شملت شفاعة الناس بعضهم لبعض، والتحية نوع من الشفاعة، وعلى كل فهي نوعان: شفاعة حسنة، وشفاعة سيئة والضابط العام أن الحسنة ما كانت فيما استحسنه الشرع ورضيه، والسيئة فيما كرهه الشرع أو حرمه. ويجب ألا ننسى أن العبرة في القرآن الكريم بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والشفاعة الحسنة هي التي يراعى فيها حق المسلم فيدفع بها شرا أو يجلب إليه خيرا، وابتغى صاحبها وجه الله، ولم تؤخذ عليها رشوة، وكانت في أمر جائز لا في حد من حدود الله ولا في ضياع حق من الحقوق، والسيئة ما كانت بخلاف ذلك، وقد شاعت عندنا الوساطات والشفاعات السيئة الملوثة بالمادة لتضييع الحقوق وهضمها والاستيلاء على مال الغير، وهذا داء حقير يتنافى مع مبدأ الدين وأصوله، ولكل من الشفعاء نصيب إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وكان الله على كل شيء مقيتا ومقتدرا على إيصال الجزاء لكل شافع. بعد أن علم الله الناس طريق الشفاعة الحسنة وجزاءها وطريق الشفاعة السيئة ومآلها، علم الناس سنة التحية وآدابها، فكلاهما من أسبابها التواصل بين الناس، ولذا عدت التحية من الشفاعة، وإذا حييتم بتحية فالواجب ردها على أن تكون مثل الأولى أو أحسن منها، وحسن الرد يكون بزيادة الألفاظ فإذا قال لك: السلام عليكم، تقول: وعليكم السلام ورحمة الله. ويكون بزيادة معنوية كالبشاشة وحسن الاستقبال ... إلخ، ما هو معروف. وأحكام السلام موضحة في كتب الحديث، ومنها أن بدأه سنة ورده واجب، ويجوز بدء السلام ورده على غير المسلمين عند بعض الأئمة، وأن يسلم القادم على الجالس، والراكب على الماشي، والقليل على الكثير، والصغير على الكبير، ولا يسلم الرجل على المرأة الأجنبية ويسلم على زوجته. إن الله كان على كل شيء تعملونه حسيبا ومكافئا. ثم ختم الآيات بالأساس العام للدين، وهو إثبات التوحيد والبعث ولا شك أن ذلك يدفع المسلم إلى العمل والامتثال لأمر الله، لا إله إلا هو، ليجمعنكم إلى يوم القيامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 ليأخذ كلّ جزاءه فلينظر الإنسان ما قدم، وليحاسب نفسه قبل أن يحاسب، ومن أصدق من الله حديثا، فكلامه- سبحانه- كلام عالم الغيب والشهادة الذي لا يضل ولا ينسى، وهو القوى القادر فكيف لا يكون صادقا في وعده؟! المنافقون وكيف تعاملهم [سورة النساء (4) : الآيات 88 الى 91] فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 المفردات: فِئَتَيْنِ الفئة: الجماعة. أَرْكَسَهُمْ الركس: رد الشيء مقلوبا، والمراد ردهم إلى الكفر والقتال. يَصِلُونَ: يتصلون. مِيثاقٌ: عهد. حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ: ضاقت عن قتالكم وقتال قومهم. السَّلَمَ: الاستسلام والسلام. الْفِتْنَةِ: الشرك والضلال واضطراب الأحوال. ثَقِفْتُمُوهُمْ: وجدتموهم وصادفتموهم. سُلْطاناً مُبِيناً: حجة واضحة. سبب النزول: روى أن قوما من المنافقين استأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في الخروج إلى البدو معتلين بجو المدينة فلما خرجوا لم يزالوا راحلين حتى وصلوا مكة قلب الشرك، وقيل: هم قوم أظهروا الإسلام وقعدوا عن الهجرة يظاهرون المشركين، وقد رويت عدة روايات في سبب النزول كثيرة، ولكن المعقول منها الموافق لروح الآية الروايات التي يشم منها أنها في جماعة خارج المدينة. ويظهر أن النفاق نوعان: نفاق في الإسلام وادعائه، وهؤلاء هم الذين كانوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة ونزل في شأنهم آيات النفاق في سورة البقرة وسورة المنافقون بدليل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يقتلهم أينما وجدوا، فهذا زعيمهم عبد الله بن أبىّ يسرح ويمرح على الملأ، وبدليل عدم اتخاذ الأولياء منهم حتى يهاجروا، فدل كل ذلك على أن هؤلاء الذين نزلت فيهم هذه الآية نوع آخر لم يكونوا في المدينة وإنما كانوا خارجها، نافقوا في الولاء للإسلام وادعوا أنهم مع المسلمين، والواقع أنهم عليهم، وهذا ما ظهر والله أعلم. المعنى: خاطب الله- جل شأنه- المؤمنين خطابا يتعلق بما قبله، ولذا أتى بالفاء: فما لكم اختلفتم في شأن المنافقين فئتين؟ جماعة يشهدون لهم بالخير، وأخرى تشهد لهم بالكفر والشرك، وكيف هذا؟ والحال أن الله صرفهم عن الحق وأركسهم في الضلال وردهم إلى الشرك على أقبح صورة، بما كسبوا من أعمال الضلال، والبعد عن حظيرة الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 وعدم الهجرة مع رسول الله، أتريدون أن تبدلوا سنة الله في الخلق؟ وأن تجعلوا الضال مهتديا والكافر مسلما، لا يعقل هذا!! إنهم ينظرون إليكم نظرة الأعداء ويودون أن تكفروا مثلهم، فتكونوا سواء، ومن كان هذا حاله فلا يصح أن تختلفوا في شأنه، بل أجمعوا على أنه منافق خارج عن حدود الإسلام. ولا تتخذوا منهم أولياء تعتمدون عليهم، وتركنون إليهم، حتى يهاجروا في سبيل الله هجرة خالصة لوجه الله ورسوله فإن تولى هؤلاء الموصوفون بما ذكر، وأعرضوا عن الهجرة في سبيل الله ولزموا مواضعهم وأساليبهم السابقة وكانوا حربا عليكم فخذوهم إن قدرتم عليهم في أى مكان أو زمان واقتلوهم حيث وجدتموهم في الحل أو الحرم، ولا تتخذوا منهم وليّا ولا نصيرا. وقد استثنى الله منهم طائفتين: (أ) الذين يتصلون بقوم معاهدين بينكم وبينهم ميثاق وعهد بعدم الاعتداء فيلحقون بهم، ويدخلون معهم في عهدهم. (ب) الذين جاءوكم وقد ضاقت صدورهم بقتالكم وقتال قومهم المشركين وأعلنوا الحياد، فهؤلاء اتبعوا فيهم أيضا قوله تعالى: وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ [سورة البقرة آية 190] فهاتان الطائفتان لا يصح قتالهم. واعلموا أن الله لو شاء لسلط هؤلاء وأولئك عليكم فانضموا إلى معسكر المشركين الذين يجاهرونكم بالعداوة والحروب، لكنه ألقى في قلوبهم الرعب والخوف منكم، فإن اعتزلوكم ولم يقاتلوكم بأى نوع من أنواع القتال وألقى المذكورون إليكم الاستسلام وزمام أمورهم فاعلموا أن الله لم يجعل لكم عليهم سبيلا تسلكونها للاعتداء عليهم. وقال الرازي: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم وادع وقت خروجه إلى مكة هلال بن عامر السلمى على ألا يعينه ولا يعين عليه، وعلى أن كل من وصل إلى هلال ولجأ إليه فله جواره. ستجدون آخرين، أى: فئة أخرى غير السابقة، مردوا على النفاق ومرنوا عليه يريدون أن يأمنوا على أنفسهم وأموالهم. حكى ابن جرير أنها نزلت في قوم هم بنو أسد وغطفان وقيل غيرهم، كانوا يأتون النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة، فيسلمون رياء ونفاقا ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 ويرتدون إلى الشرك، يبتغون أن يأمنوا هاهنا وهاهنا، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا أنفسهم. هؤلاء كلما ردوا إلى الفتنة والشرك ودعوا إليها أركسوا فيها على أسوأ حالة، وبالغوا في الضلال، فهؤلاء إن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم زمام السلام فاقتلوهم إن تمكنتم منهم، وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا واضحا ظاهرا وحجة قوية في قتالهم. قتل المؤمن وجزاؤه [سورة النساء (4) : الآيات 92 الى 93] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93) المفردات: خَطَأً: بغير قصد للقتل. فَتَحْرِيرُ: فعتق. رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ: نفس مؤمنة. وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ: مال يدفع لأهل القتيل جبرا لخاطرهم وعوضا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 عنه. أَنْ يَصَّدَّقُوا: أن يعفوا عنها. مِيثاقٌ: عهد، أو ذمة، أو أمان. مُتَتابِعَيْنِ: المراد شهرين قمريين لا يتخللهما فطر إلا لعذر شرعي. تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ: تطهيرا لأنفسكم ولأما لجرحكم. سبب النزول: روى أن الحارث بن يزيد من بنى عامر بن لؤي كان يعذب عياش بن أبى ربيعة ثم خرج الحارث مهاجرا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يعرف إسلامه بعد، فلقيه عياش بالحرة (ضاحية من ضواحي المدينة) فعلاه بالسيف وهو يظن أنه لا يزال كافرا، ثم جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فأخبره الخبر، فنزلت الآية ثم قال له: قم يا عياش فحرر، أى: أعتق رقبة مؤمنة. المعنى: الإيمان بالله ورسوله إذا وصل إلى القلب منع صاحبه من ارتكاب الفواحش خاصة التعدي على النفس بغير حق، والمؤمن يشعر بحقوق الله عليه وحقوق إخوانه المؤمنين. ويؤمن بقوله تعالى: ومَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً «1» وروى في الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأنى رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة» والأحاديث التي تقرن القتل بالشرك كثيرة، ولذا يقول الله وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً «2» أى: ليس من شأن الإيمان وطبعه أن يقتل المؤمن مؤمنا، وأن يقترف هذا الجرم الفظيع عمدا وبقصد!! ولكنه قد يقع منه ذلك خطأ وبغير قصد. ومن قتل مؤمنا خطأ فعليه عقاب إذ الخطأ ينشأ من التهاون وعدم الاهتمام والاعتناء. والقتل الخطأ: كأن يقصد طيرا فيصيب إنسانا، أو يظن شخصا كافرا حربيا فيظهر أنه مسلم، كما حصل لعياش- رضى الله عنه- أو يقصد إنسانا بما لا يقتل غالبا كالعصا البسيطة واليد فيقتله.   (1) سورة المائدة آية 32. (2) سورة النساء آية 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وعقابه في شيئين: كفارة للقتل، وهي: عتق رقبة مؤمنة، لأنه أعدم نفسا مؤمنة. فيحيى بالعتق نفسا مثلها. ودية مسلّمة إلى ورثة القتيل عوضا عن دمه، وإزالة للعداء، وقطعا للإحن والبغضاء. وقد بينتها السنة، وهي مائة من الإبل مختلفة الأسنان، أو قيمتها، وتجب على أسرة القاتل، فإن عجزت أخذت من بيت المال (وزارة المال) ، وهي واجبة كما قلنا إلا إذا عفا أهل القتيل وتصدقوا بها، ولها أحكام كثيرة في كتب الفقه. فإذا كان القتيل مؤمنا وهو من قوم أعداء لكم فالواجب تحرير رقبة مؤمنة فقط، بلا دية إذ لا يعطى لهم مال يحاربوننا به. وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق أو عهد أو ذمة كالذي بين الدول الآن، فالواجب دية مسلّمة إلى أهله احتراما للعهود والدماء، وعتق رقبة مؤمنة، واختلف العلماء في دية غير المسلم فقيل: دية كاملة، وقيل: على النصف، والظاهر أن القرآن نكّر الدية للإشارة إلى أنها مال يتفق عليه ويحكم به الحاكم حسب ما يمليه عليه دينه وضميره، ويوافق العصر الذي هو فيه وتزال آثار القتل به، فمن لم يجد رقبة يعتقها فعليه صيام شهرين متتابعين، تطهيرا لنفسه وتكفيرا عن فعلته، ومعنى التتابع أنه إذا أفطر لغير عذر شرعي في أثناء الصوم لم يحسب له ما مضى. وكان الله عليما بكم حكيما في حكمه. ومن يقتل مؤمنا عامدا قاصدا قتله بما يقتل غالبا كالرصاص أو الآلة الحادة كالسيف مثلا، فجزاؤه جهنم، خالدا فيها، وغضب الله عليه، وطرده من رحمته وأعد له عذابا عظيما لا يدرى كنهه إلا المنتقم الجبار!! لأنه هدم ما بناه الله بغير حق. هذا غير القصاص في القتل كما ثبت في آية البقرة وآية المائدة. وهذا التهديد الشديد والوعيد الكثير المفهوم من الآية جعل بعض الأئمة كابن عباس يقول: ليس للقاتل توبة، وفيه أحاديث صحيحة تثبت ذلك. وقال بعضهم: هذا من التغليظ، وقوله تعالى: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً «1» يشمل القاتل وقيل: إن هذا الجزاء لمن استحل قتل المؤمن. والله أعلم.   (1) سورة الفرقان آية 70. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 التسرع في الحكم [سورة النساء (4) : آية 94] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94) المفردات: ضَرَبْتُمْ: سرتم في الأرض للتجارة أو الحرب. فَتَبَيَّنُوا قرئ: فتثبتوا، والمراد: اطلبوا بيان الأمر وحقيقته ولا تتسرعوا. السَّلامَ: الاستسلام والانقياد، أو التحية. عَرَضَ الْحَياةِ: متاعها الفاني. مَغانِمُ كَثِيرَةٌ المراد: أرزاق ونعم كثيرة. سبب النزول: رويت روايات كثيرة كلها تدور حول قتل مسلم أظهر إسلامه ساعة القتال وهو في أرض المشركين، عن ابن عباس- رضى الله عنهما-: مر رجل من بنى سليم بنفر من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يسوق غنما له فسلم عليهم فقالوا: ما سلّم علينا إلا ليتعوذ منا. فعمدوا إليه فقتلوه واستاقوا غنمه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فنزلت الآية. المعنى: بعد بيان حكم قتل المسلم خطأ وعمدا، شرع في بيان نوع من قتل الخطأ الناشئ عن التسرع في الحكم على الرجل بعدم الإسلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 يا أيها الذين آمنوا بالله وصدقوا رسوله: إذا سافرتم في سبيل الله، ولإعلاء كلمته فالواجب عليكم أن تتمهلوا في الحكم على من يقابلكم، وتتبينوا جلية الأمر. هل هو مؤمن يظهر عليه علامة الإيمان من التهليل والتكبير وإلقاء تحية الإسلام؟ فمتى ظهر عليه شيء من ذلك، فلا تتعرضوا له أصلا فأنتم مأمورون بالحكم بالظاهر، والله يتولى السرائر، وليس لكم أن تقولوا: قال هذا تعوذا منا ليفر بنفسه وليس مؤمنا فالله أعلم به، تبتغون بذلك عرض الدنيا الفاني وحطامها الزائل من الغنيمة التي معه، فعند الله أرزاق ونعم كثيرة لا تحصى، وله خزائن السموات والأرض، فلا يصح منكم ولا يليق بكم أن تفعلوا هذا الفعل وتتسرعوا في الحكم، على أنكم كنتم هكذا من قبل، آمنتم سرا ثم أظهرتم الإسلام علنا فقبلتم في عداد المؤمنين وصرتم آمنين مطمئنين، إن الله كان بما تعملون خبيرا وبصيرا سيجازيكم على نواياكم فاحذروه وخافوا عقابه. الجهاد في سبيل الله وفضله [سورة النساء (4) : الآيات 95 الى 96] لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96) المفردات: الضَّرَرِ: المرض والعلة كالعمى والعرج. الْحُسْنى: هي الجنة. المعنى: لا يستوي القاعدون عن الجهاد بأموالهم بخلا بها، وحرصا عليها، وضنّا بها عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 الإنفاق في سبيل الله، والقاعدون بأنفسهم حرصا على الراحة والنعيم، نعم لا يستوي هؤلاء مع المجاهدين في سبيل الله. ولكن القعود عن الجهاد يكون مذموما حيث لا عذر يمنع منه، فإن كان هناك عذر شرعي فلا لوم ولا عتاب، بل قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عند دخوله المدينة بعد غزوة تبوك: «إن في المدينة لأقواما ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا كانوا معكم فيه. قالوا: يا رسول الله: وهم بالمدينة؟ قال: نعم وهم بالمدينة حبسهم العذر» . فضل الله المجاهدين في سبيل الله بالنفس والنفيس على القاعدين بعذر درجة وفضلا والله أعلم به، وإن كان قد وعد كلا الجنة والمثوبة الحسنى. أما القاعدون بغير عذر. فقد فضل الله عليهم المجاهدين أجرا عظيما، ودرجات كثيرة ومغفرة من الله كبيرة، ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة، أى: جوع في سبيل الله ولا يطئون موطئا يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو نيلا إلا كتب لهم به عمل صالح، ورحمة من الله ورضوان فوق هذا وذاك، ولا غرابة فالله غفور لمن يستحق المغفرة رحيم بمن يتعرض لنفحات الرحمة. المهاجرون في سبيل الله والمتخلفون عنها [سورة النساء (4) : الآيات 97 الى 100] إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99) وَمَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 المفردات: تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ توفى الشيء: أخذه وافيا تامّا، وتوفى الملائكة الناس: قبض أرواحهم حين الموت. سَبِيلًا طريقا يوصلهم. مُراغَماً الرغم: الذل والهوان. وأصله لصوق الأنف بالرغام، أى: التراب، والمراد: مكانا للهجرة ومأوى يصيب فيه الخير فيرغم بذلك أنوفهم. وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ أى: وجب، ألا ترى إلى قوله تعالى: وَجَبَتْ جُنُوبُها أى: وقعت جنوبها على الأرض. نزلت في قوم أسلموا بمكة، وتركوا الهجرة ثم ماتوا. وقيل: ماتوا في غزوة بدر وكانوا يحاربون في صفوف الكفار على كره منهم فقتلوا. المعنى: لما اشتد إيذاء الكفار للمسلمين في أول الأمر وهاجر بعضهم إلى الحبشة ثم هاجر الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة، وولدت الدولة الإسلامية. في هذا الوقت كانت الهجرة واجبة وكان بعض المسلمين قد هاجر مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يدخر وسعا في ذلك. وبعضهم قعد عنها حبّا في وطنه وإيثارا للدنيا وعرضها، ومنهم من كان ضعيفا لا يقدر عليها لمرض أو كبر أو جهل بالطريق، ومنهم من هاجر ومات في الطريق. إن الذين قبضت أرواحهم الملائكة وهم في دار الشرك حالة كونهم ظالمي أنفسهم برضاهم الإقامة في دار الشرك وإيثارهم الدنيا وعرضها على نصرة الحق، والهجرة مع رسول الله، وبقبولهم الظلم والتضييق عليهم في عدم إقامتهم الشعائر الدينية. هؤلاء قالت لهم الملائكة توبيخا لهم وتأنيبا: في أى شيء كنتم من أمور دينكم؟ فإنهم تركوا الهجرة التي كانت طريق نصرة الإسلام في مهده وهم قادرون عليها قالوا معتذرين بغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 العذر الحقيقي: كنا مستضعفين ومستذلين في مكة، فلم نقدر على إقامة الدين وواجباته، وهذه حجة واهية، ولذا قالت لهم الملائكة: ألم تكن أرض الله التي يمكنكم فيها القيام بواجبات الدين والهجرة مع الرسول بدون تعرض لكم، ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها؟؟ نعم هي واسعة ولكنكم رضيتم بالذل، وآثرتم الدنيا على نصرة الحق. فأولئك جزاؤهم جهنم وبئس المصير مصيرهم. وفي هذا إشارة إلى أنه يجب على المسلم أن يفر بدينه إلى حيث يمكنه أن يقيم حدوده وواجباته حسبما أمر الله، وقد استثنى الله من هؤلاء صنفا وهم المستضعفون حقيقة الذين لهم عذر مقبول كالشيوخ الضعفاء، والعجزة من النساء والولدان الذين لا يستطيعون الهجرة، وقد ضاقت بهم الحيل، وعميت عليهم الطرق فلا يهتدون إلى سبيل منها، مثل عياش بن ربيعة. ومسلمة بن هشام، وأم عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عباس، وغيرهم، على أن المراد بالولدان المراهقون لا الصبيان، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم، ولا يؤاخذهم بالإقامة في دار الشرك وترك الهجرة، وفي هذا إشارة إلى أن ترك الهجرة ذنب كبير، وكان الله كثير العفو عن الذنوب غفورا لأصحابها. وأما المهاجرون في سبيل الله وإن كان بهم ضعف فمن يهاجر منهم يجد في الأرض مكانا للهجرة، ومأوى يسلكه، فيه الخير والسعة والرزق والعزة، وهذا ترغيب في الهجرة، ووعد صريح لمن يخشى ترك المال والأهل ومشقة السفر والبعد عن الديار بأنه سيجد ما يغنيه ويرغم به أعداءه متى كانت هجرته خالصة لوجه الله!! ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت قبل الوصول إلى المدينة، فقد ثبت أجره على الله، والله هو الذي أوجب هذا تفضلا وإحسانا «إنما الأعمال بالنيات» . روى أنها نزلت في جندب بن ضمرة وكان قد بلغه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ (الآية) ، فقال لأولاده: احملوني إلى المدينة فلن أبيت بمكة الليلة، فحملوه ومات بالطريق فنزلت هذه الآية. وما أعظم الفرق بين هذا الوعد المؤكد الذي لا يعلم كنهه إلا هو وبين الوعد بالمغفرة لمن ترك الهجرة لضعفه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 والهجرة قبل الفتح كانت واجبة ليعز المسلم دينه ويقيم حدوده وأركانه، ويتعلم الفقه ويأخذه من معينه الأول ولتقوية شوكة المسلمين ونصرة النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى إذا فتحت مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا، وانتشر الصحابة يعلمون الناس ويفقهونهم في دينهم، وقويت شوكة الإسلام لم تعد الهجرة واجبة «لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا» (رواه الشيخان) . كيفية الصلاة في السفر والحرب [سورة النساء (4) : الآيات 101 الى 103] وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101) وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَلْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 المفردات: ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ: سافرتم فيها لأن المسافر يضرب الأرض برجليه أو بعصاه أو بقوائم راحلته. تَقْصُرُوا أى: تتركوا شيئا منها. يَفْتِنَكُمُ: يؤذونكم بالقتل أو غيره. كِتاباً: فرضا ثابتا ثبوت الكتابة في اللوح. مَوْقُوتاً: منجما في أوقات معلومة. لا زال الكلام في الجهاد والهجرة وما يتصل بهما، وفيهما سفر وخوف فمن الحكمة بيان الصلاة فيهما. المعنى: يا أيها الذين آمنوا إذا سرتم في الأرض وسافرتم فيها لقصد الهجرة أو للحرب أو التجارة فليس عليكم جناح ولا إثم في قصر الصلاة الرباعية، وهذه صلاة السفر المسماة في كتب الفقه بصلاة القصر، وذلك أن السفر شدة ومشقة رخص الشارع فيها قصر الصلاة، وقد ثبتت كيفيتها بالسنة المتواترة، أما صلاة الخوف الآتية في الآية فثبتت كيفيتها بنص القرآن. والثابت عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وعن أبى بكر وعمر وكبار الصحابة وصدر من خلافة عثمان أنهم كانوا يصلون في السفر الظهر، والعصر، والعشاء ركعتين، ولذا قال الأحناف: إن قصر الصلاة في السفر عزيمة، أى: واجب، والشافعى يقول: إنها رخصة، أى: جائز لك أن تتم وأن تقصر، والظاهر أن الحق مع الأحناف. وعثمان- رضى الله عنه- قيل: إنه أتم وهو بمنى صلاته، وقد تأولوا ذلك بأنه كان متزوجا ونوى الإقامة ... ومسافة السفر التي تبيح قصر الصلاة وتبيح الفطر في رمضان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 حددوها بمسيرة ثلاثة أيام بلياليها على القدم أو على البعير وحددت الآن بالكيلومتر حوالى 81 كيلو متر، وبعضهم يرى القصر مع أى سفر كان. إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا بمعنى أن يتعرضوا لكم بما تكرهونه من القتال وغيره فليس عليكم جناح، قال العلامة أبو السعود في تفسيره: «وهذا شرط معتبر في شرعية ما يذكر بعده من صلاة الخوف المؤداة بالجماعة، وأما في حق مطلق القصر فلا اعتبار له اتفاقا لتظاهر السنن على مشروعيته» وقد روى عن عمر- رضى الله عنه- أنه سئل عن قوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وعن أمن الناس فقال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته» . فالظاهر- والله أعلم- أن السفر مطلقا يقتضى القصر، وقوله تعالى: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ كقوله تعالى: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً «1» حيث إن الإكراه حرام مطلقا أردن التحصن أم لم يردن. إن الكافرين كانوا لكم عدوّا مبينا ظاهرا فاحذروهم في السفر والإقامة ... ولقد ذكر القرآن الكريم كيفية صلاة الخوف بعد ذكرها مجملة، وأنه لا إثم فيها لأنها تزيد على صلاة القصر بكثرة التغير عن الهيئة العامة مع القصر. وإذا كنت يا محمد فيهم- وكذلك كل إمام قائم مقامك- فأقمت لهم الصلاة وناديتهم لها بالأذان والإقامة. فالواجب أن يقسم الجيش طائفتين، فلتقم طائفة منهم معك في الصلاة وليأخذوا أسلحتهم معهم حتى لا يحتاجوا إلى مجهود عقب الصلاة، وربما باغتهم العدو فيكونون على استعداد، فإذا سجدوا فليكن الذين يحرسون من ورائكم في اتجاه العدو مستعدين لرده إن حدثته نفسه بالاعتداء، والظاهر أن المراد بالسجود هنا إتمام الصلاة، فإذا أتمت الطائفة الأولى صلاتها وأنت واقف في أول الركعة الثانية فلتأت الطائفة الثانية التي كانت حارسة، وتقتدى بك وتأخذ حذرها وأسلحتها، ولعل الحكمة في الأمر بأخذ الحذر لها أن العدو قد يكون تنبه في صلاة الطائفة الأولى فمن الحكمة أن تحذر الثانية وتتنبه ثم تصلى بها الركعة الثانية لك وتنتظرها في جلوس التشهد الأخير حتى تقوم هي وتصلى الركعة الثانية لها ثم تسلم بها، وعلى هذا تحظى الطائفة الأولى بالتكبير مع الإمام والثانية بالتسليم معه.   (1) سورة النور آية 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 ولصلاة الخوف أحكام كثيرة في كتب الفقه وصفات الصلاة كلها تدور حول الآية وتختلف باختلاف ما إذا كان العدو في جهة القبلة أو غيرها. والحكمة العامة في الأمر بأخذ الحذر والسلاح حتى في الصلاة، أن الكفار يودون من صميم قلوبهم أن تغفلوا عن أسلحتكم وأمتعتكم ولو بانشغالكم في الصلاة، فينقضون عليكم ويميلون عليكم ميلة واحدة بالقتل والنهب ولكن الله يريد لكم النصر والغلبة، فيأمركم بالاستعداد والحذر. ولا جناح عليكم إذا كان بكم أذى كمطر أو مرض أو عذر أن تضعوا أسلحتكم مع أخذ الحذر والاستعداد للعدو، ولتعلموا أن النصر لكم ما نصرتموه. وأن الله يدافع عنكم إذا دافعتم عن قرآنه ودينه، وأنه أعد للكافرين عذابا شديد الإهانة في الدنيا والآخرة. وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم يوم ذات الرقاع ما معناه أنه صلّى بطائفة ركعة ثم ثبت قائما فأتموا لأنفسهم الركعة الثانية وسلموا وانصرفوا تجاه العدو، وجاءت الطائفة الثانية فصلى بهم الركعة الثانية التي بقيت لهم ثم أتموا فسلم بهم. وقال بهذه الصلاة أكابر الصحابة ومالك والشافعى رضى الله عنهم جميعا. فإذا أديتم الصلاة- أى: صلاة الخوف- فاذكروا الله في أنفسكم بتذكر نعمه، وبألسنتكم بالحمد والتكبير والدعاء في أى حال تكونون من قيام وقعود واضطجاع. وإذا كنا مأمورين بالذكر في الحرب على كل حال ولا عذر في تركه!! فما بالنا في السلم، فإذا اطمأننتم بانتهاء الحرب أو الحلول في دار الإقامة بعد السفر فأقيموا الصلاة كالمعتاد تامة الأركان والشروط، إن الصلاة عماد الدين قد فرضها الله فرضا ثابتا كالكتابة في اللوح، موقوتا بأوقات معلومة، فلا يصح أن يترك وقتها أبدا حتى في الحرب وساعة الخوف فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة آية 239] . وإتمام صلاة الخوف بالجماعة يدل على أن الجماعة مطلوبة في أشد الأحوال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 في الحث على القتال أيضا [سورة النساء (4) : آية 104] وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104) المفردات: وَلا تَهِنُوا: لا تضعفوا. فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ: في طلب القوم ورد عدوانهم. المعنى: يرشدنا الله إلى أننا لا نضعف ولا نهن في طلب القوم الذين ناصبونا العداء. وجاهرونا بالبغضاء، إن كنتم تتألمون من الحرب وشدتها فإنهم كذلك يتألمون مثلكم ولكنكم تنتظرون إحدى الحسنيين وترجون من الله نصرة دينه، وفوز حزبه والثواب الجزيل على حرب الأعداء، وكان الله عليما حكيما فيما يأمركم به وينهاكم عنه. وهذا من باب تقوية الروح المعنوية، وشحذ العزائم بالنسبة لمن يتربص بالإسلام الدوائر، ويناصبونه العداء بل ويعتدى علينا بالفعل. أما من لم يقاتلنا في الدين ولم يخرجنا من ديارنا فلا جناح علينا أن نبرهم ونقسط إليهم، ونعاملهم معاملة حسنة، وصدق الله: لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (الممتحنة آية 8) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 حفظ الحقوق وعدم المحاباة في الأحكام [سورة النساء (4) : الآيات 105 الى 113] إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106) وَلا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 المفردات: لِلْخائِنِينَ: الذين يخونون أنفسهم بارتكاب المعاصي. وَلا تُجادِلْ المجادلة: أشد أنواع المخاصمة. خَوَّاناً أَثِيماً : مبالغا في الخيانة وركوب الآثام. يَسْتَخْفُونَ : يستترون من الناس حياء وخوفا. يُبَيِّتُونَ : يدبرون، والأكثر أن يكون هذا ليلا. وَكِيلًا : حفيظا يوكل إليه الأمر في الحفظ والحماية. خَطِيئَةً : ذنبا بلا قصد، والإثم: الذنب المقصود. يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً : يقذفه به ويسنده إليه. بُهْتاناً : كذبا يبهت الغير ويجعله يتحير عند سماعه. سبب النزول: روى أن طعمة بن أبيرق أحد بنى ظفر من الأنصار سرق درعا- من جار له- في جراب دقيق فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه، وخبأها عند زيد بن السمين من اليهود، فالتمسوا الدرع عند طعمة فلم يجدوها وحلف بالله ما أخذها، فساروا في أثر الدقيق حتى انتهوا إلى منزل اليهودي فأخذوها، فقال: دفعها إلىّ طعمة، وشهد له ناس من اليهود بذلك ولكن طعمة أنكر ذلك، فقالت بنو ظفر: انطلقوا بنا إلى رسول الله، فسألوه أن يجادل عن صاحبهم، وقالوا: إن لم تفعل هلك وافتضح وبرىء اليهودي فهم النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يفعل وأن يعاقب اليهودي، فنزلت. وروى أن طعمة هرب إلى مكة وارتد، وقد سقط عليه حائط في سرقة فمات. المعنى: أراد الله- سبحانه وتعالى- أن يأمر رسوله بإقامة العدل والحكم بما أنزل الله، والرسول صلّى الله عليه وسلّم في المكان الذي نعرفه، فما بال الناس والحكام غيره؟! إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن هاديا إلى صراط الله العزيز الحكيم، وهو الحق من عنده، والحق في خيره وطلبه وحكمه، أنزله لتحكم بين الناس بما علمك الله وأرشدك إليه، فاحكم بين الناس به، ولا تكن لمن خان نفسه وغيّر ضميره مخاصما ومدافعا تدافع عنه وترد من طالبه بالحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 فعلى الحكام أن يبحثوا في القضية، ويدققوا النظر في شكلها وموضوعها، ولا تغرنهم بلاغة الخصم ولحنه في القول، ولا تأخذهم العاطفة الدينية أو الجنسية فيميلوا لبنى جنسهم أو دينهم، ولعل السر فيما دار في خلد النبي صلّى الله عليه وسلّم أن طعمة المسلم يغلب عليه الصدق، وذاك اليهودي يغلب عليه الكذب والخداع. والثابت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يحكم في هذه القضية قبل نزول القرآن ولم يعمل بغير ما يعتقد لكنه أحسن الظن في المسلم، فبين له علام الغيوب حقيقة الأمر. واستغفر- يا محمد- الله مما يعرض لك من شئون البشر وميلك إلى من هو ألحن بحجة أو إلى من هو مسلم لإسلامه فهذا وإن لم يكن ذنبا إلا أنه في صورة الذنب. إن الله كان غفورا لذنوب عباده، ستارا رحيما بهم. ولا تجادل- يا محمد- عن الذين يخونون أنفسهم بتعديهم على حقوق الغير، إن الله لا يحب بل يبغض من كان كثير الخيانة دائبا على ارتكاب الإثم، واجتراح السيئة!! والخيانة مطلقا تقتضي عدم المحبة من الله لصاحبها، ولكن الوصف المبالغ فيه في الآية لبيان ما كان عليه من طعمة وأقاربه، هؤلاء وأمثالهم الذين يأخذون المال خفية يستخفون من الناس، ويستترون منهم حياء وخوفا، ويا للعجب العجاب!! يستخفون من الله عالم الغيب والشهادة الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وبالضرورة يعلمهم ويشاهدهم وقت أن يدبروا ليلا ما لا يرضى الله ورسوله، تبرئة لأنفسهم ولصاحبهم ولرمي غيرهم بالجريمة وهم يعلمون أنه برىء، وما ذاك إلا لضعف دينهم ولصدأ قلوبهم، وكان الله بما يعملون محيطا وحافظا لهم، فكيف ينجون من عقابه؟ أيها الأقارب لطعمة: ها أنتم أولاء جادلتم عن صاحبكم ومن وقف معه تبرئة له، زورا وبهتانا، جادلتم في الدنيا، فمن يجادل عنهم يوم القيامة؟ يوم تكشف السرائر، يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله؟ بل من يكون عليهم وكيلا ومدافعا عنهم؟ لا أحد إلا أعمالهم تنطق عليهم، فلينظر كل إلى عمله. ومن يعمل سوءا يتعدى جرمه إلى غيره أو يظلم نفسه بفعل معصية خاصة، ثم هو يرجع إلى الله ويتوب نادما على فعله فإنه يجد الله غفورا رحيما يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، لأنه كتب على نفسه الرحمة، فلا تيأسوا من رحمته، ومن يفعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 إثما ويرتكب جرما ظنّا منه أنه كسب لنفسه شيئا فإنما مكسبه وبال وضرر عليه لا يتعداه إلى غيره، فليبق على نفسه من كسب السوء، وليعلم أن الله عليم به، وحكيم في وضعه العقاب الصارم للمذنب. ومن يكسب ذنبا خطأ بلا قصد أو ذنبا آثما فيه وقاصدا له ثم يجنى جناية أخرى بأن يرمى به شخصا بريئا لا ذنب له مهما كان دينه وجنسه ولونه، فقد احتمل بشدة وألم بهتانا حيث كذب على الله في ادعائه البراءة واتهامه البريء الذي يبهت ويتحير عند سماعه هذا الاتهام، وقد احتمل إثما في ارتكاب الذنب. فانظر يا أخى كيف ينشد الإسلام العدالة حيثما كانت ويطبقها على المسلم وغيره!! ولولا فضل الله عليك يا محمد أنت وأمتك ورحمته بك وأنه عصمك من الوقوع في الخطأ العملي والقولى، ويمنع عنك أذى الأشرار الذين يحاولون إضلالك وتلبيس الحق بالباطل وإخفائه عليك، لهمت طائفة منهم أن يضلوك، فإن الإنسان مهما كان إذا أحيط بجماعة كهؤلاء يحتاج إلى بحث وفكر حتى يميز حقهم من باطلهم، ويكشف حيلهم ويرد كيدهم، ومن ثم تفضل الله بزحزحة الأشرار عن النبي صلّى الله عليه وسلّم وصرف كيدهم عنه حتى يسير على طريق الله وهدى القرآن والنور الذي أنزل عليه كاشفا له الحقائق ليكون حكمه سليما عادلا. والواقع أنهم بهذا لا يضلون إلا أنفسهم، إذ الوزر عليهم فقط، وما يضرونك أبدا وقد عصمك الله من كل مكروه وأنزل عليك القرآن، والحكمة- وهي فقه مقاصد الدين وأسراره- وعلمك ما لم تكن تعلم قبل ذلك، ولا غرابة ففضل الله عليك عظيم إذ أرسلك للناس كافة وجعلك خاتم الأنبياء، وشهيدا عليهم يوم القيامة، وعصمك من الناس، وجعل أمتك وسطا، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 إرشادات [سورة النساء (4) : الآيات 114 الى 115] لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114) وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (115) المفردات: نَجْواهُمْ: مسارتهم بالحديث. أَوْ مَعْرُوفٍ: ما يعرفه الشرع ويقره العقل. يُشاقِقِ المشاقة: المعاداة والمخالفة، وذلك أن كل واحد من المتعادين يكون في شق. سبب النزول: نزلت في تناجى أهل طعمة ليلا بالفساد وتعاونهم على الشر وروى أن طعمة ارتد ومات مشركا فنزلت آية وَمَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ في حقه. المعنى: يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ولكن تناجوا بالبر والتقوى وفعل الخير والمعروف، وذلك أن التناجي وحديث السر مظنة لارتكاب الإثم: إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ «1» إذ «الإثم ما حاك في الصدر وخفت أن يطلع عليه غيرك»   (1) سورة المجادلة آية 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 (حديث شريف) ، ولما كان التناجي قد يكون في الأمور العادية كالزراعة والتجارة مثلا، وفيما يضر شرعا قال الله: لا خير في كثير من تناجى الناس إلا نجوى من أمر بصدقة أو بما تعارف عليه الشرع من كل خير عام، أو بإصلاح بين الناس في الخصومة والنزاع، والخيرية في هذه الأشياء الثلاثة إنما يكون في السر دون الجهر: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «1» وكذلك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا ما كان في السر كان أجدى لمن يسدى له النصيحة، والإصلاح بين الناس قد يكون في السر أدعى لإزالة الخصومة وسل السخيمة وتقريب الشقة. ومن يفعل ذلك بقصد طلب الرضا من الله بأن يكون الدافع له على هذا العمل في السر الرغبة في رضوان الله فسوف يؤتيه أجرا عظيما والله أعلم به. ومن يشاقق الرسول بارتداده عن الإسلام وإظهاره عداوته له من بعد ما ظهرت له الهداية على لسان رسوله، ويعادى سنته ويتبع غير سبيل المؤمنين ويخالف إجماعهم وما اتفقوا عليه فجزاؤه أن الله يوليه ما تولى ويتركه يتخبط في دياجير الظلام والضلال: فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ [سورة الصف آية 5] وجعل النار مصيرهم وساءت مصيرا، ويمكن أن نفهم من هذه الآية أن الوجهة التي يتوجه إليها الإنسان ويرضاها لنفسه يوليه الله إياها ويسيره في طريقها، وعلى ذلك فاستحقاقه العقاب أمر طبيعي لاختياره طريق الشر وبعده عن الصراط المستقيم. الشرك وخطره، والشيطان وأثره [سورة النساء (4) : الآيات 116 الى 122] إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَلا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)   (1) سورة البقرة آية 271. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 المفردات: يَدْعُونَ: يتوجهون ويطلبون المعونة، وهذا نوع من العبادة. شَيْطاناً قيل: إنه الخبيث من الجن والإنس. مَرِيداً: متمرنا على الخبث والخبائث. لَعَنَهُ: طرده من الرحمة مع السخط والإهانة. مَفْرُوضاً: معينا ثابتا. وَلَأُضِلَّنَّهُمْ: لأدفعنهم إلى الضلال والفساد. وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ: أزين لهم الأمانى الباطلة المبنية على غير أساس. فَلَيُبَتِّكُنَّ البتك: القطع، والمراد قطع آذان الأنعام لأجل تمييزها للآلهة. مَحِيصاً: مهربا ومخلصا. المناسبة: بين الله جزاء العصيان والخروج عن الشرع ومشاقة الرسول والمؤمنين، وهنا بين أن الله لا يغفر الشرك به أصلا ويغفر غيره لمن يشاء، وهذا تحذير وإطماع. المعنى: الشرك بالله لا يصدر عن قلب فيه مثقال ذرة من إيمان، ولذلك لا يغفر الله الشرك أصلا، ولكنه يغفر ما دون ذلك- لأن القلب فيه بقية من نور الإيمان- لمن يشاء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 عباده الذين تابوا إلى الله وأنابوا إليه قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها «1» والقرآن الكريم ساق مثل هذه الآية قريبا تسجيلا لفظاعة جرم الشرك بالله بالنسبة لغيره من المعاصي، وليس هناك تكرير للآية وإنما هو مبدأ قرآنى وقاعدة مهمة في الدين تذكر عند ما يناسبها كرأى السياسى أو مذهبه الذي يذكره ويكرره في كل خطبة مع ما يناسبه من قول محكم ومعنى دقيق، ومن يشرك بالله شيئا من الإشراك في القول أو الفعل أو الاتجاه أو التقديس فقد ضل ضلالا بعيدا عن الخير والرشد، ما يعبدون بدعائهم غير الله إلا أمواتا لا ينفعون ولا يضرون بل إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ «2» وقيل: سماها إناثا لأنها اللات والعزى ومناة، وما يدعون بذلك إلا شيطانا متمرنا على الإيذاء والخبائث لعنه الله وطرده من رحمته مع الذل والهوان، فإنه داعية الشر والفساد، ولذا يقسم: لأتخذن من عبادك جزءا من الناس معينا لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «3» وقيل: ما من إنسان إلا وفيه استعداد للخير وللشر ووسوسة الشيطان وهذا معنى وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «4» ولأضلنهم وأصرفنهم عن العقائد الصحيحة والطرق المستقيمة مغريا لهم بالأمانى الباطلة، كما إذا وسوس لإنسان بارتكاب المعاصي وغره بالمغفرة أو الشفاعة ... إلخ، من الأمانى الكاذبة، وهذا ديدن الشيطان وطبعه إضلال العباد وملء عقولهم بالأمانى الباطلة، ولآمرنهم بكل سوء وضار فليقطعن آذان الأنعام للآلهة كما كانوا يفعلون في البحيرة من شق الآذان أو قطعها. ولآمرنهم فليغيرن خلق الله وفطرته التي فطر الناس عليها وهي الاهتداء إلى الحق والدين الصحيح فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها «5» إذ «كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه» (حديث شريف) . وقيل: المراد بتغيير خلق الله الأمور الحسية كالخصاء وغيره، وقد روى المعنيان عن السلف الصالح، ومن يتخذ الشيطان وليّا وإماما من دون الله فقد باء بالخسران المبين، وهل هناك خسران أكثر من ترك هدى القرآن واتباع أساليب الشيطان؟   (1) سورة الشمس الآيتان 9 و 10. (2) سورة الحج آية 73. [ ..... ] (3) سورة ص الآيتان 82 و 83. (4) سورة البلد آية 10. (5) سورة الروم آية 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 وهو يعدهم الباطل ويمنيهم بالكاذب، يعدهم بالفقر والمرض والتأخر والبعد عن الحضارة ويمنيهم الأمانى الواسعة الكاذبة، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا وباطلا، أولئك المتبعون للشيطان التاركون للقرآن مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا ولا مهربا وبئس المصير مصيرهم. والذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات ولم يقترفوا المنكرات وخالفوا أنفسهم وشياطينهم وكانوا من عباد الله المخلصين الذين قوى الله إيمانهم وأنار بصيرتهم أولئك سيدخلهم ربهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين ولهم فيها ما يدّعون نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ «1» وعد الله ومن أصدق من الله حديثا؟ فانظر يا أخى- رعاك الله ووفقك- أين أنت من هؤلاء وأولئك!؟ وهل أنت من حزب الرحمن؟!! الأمانى وعاقبتها، والعمل وجزاؤه [سورة النساء (4) : الآيات 123 الى 126] لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً (126)   (1) سورة فصلت آية 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 المفردات: بِأَمانِيِّكُمْ الأمانى: مفردها أمنية، وهي تمنى الشيء المحبوب. وَلِيًّا: يتولى أمره ويدافع عنه. نَقِيراً: هو النقرة في النواة، ويضرب بها المثل في القلة. حَنِيفاً: مائلا عن الزيغ والضلال. خَلِيلًا الخليل: المحب الذي يدفع الخلة، أى: الحاجة عن صاحبه وقد تخللت محبته قلبه. المناسبة: مر أن الشيطان يعد أصحابه ويمنيهم الأمانى الكاذبة وقد كان لهذا أثر في نفوس أهل الكتاب وبعض ضعاف الإيمان من المسلمين فناسب بيان حقيقة الأمانى وأثرها والعمل وجزائه. المعنى: ليس الثواب يوم القيامة يحصل بالأمانى منكم أيها المسلمون أنتم وأهل الكتاب، ولكن الثواب المعد في الآخرة إنما هو منوط بالعمل، فمن يعمل مثقال ذرة من سوء يجز به الجزاء المساوى لعمله حسبما وعد الله، ولا يجد له من غير الله وليا يتولى أمره أو يدافع عنه ولا نصيرا ينصره يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، ومن يعمل مثقال ذرة من الصالحات سواء كان ذكرا أو أنثى عربيا أو عجميًّا وقد جمع مع ذلك الإيمان الخالص بالله ورسوله فأولئك يدخلون الجنة التي وصف لهم بعض ما فيها في القرآن وصفا قريبا من المشاهد المحسوسة حتى تتصوره عقول البشر، ولا يظلم أحد نقيرا، والنقير مثل في القلة، والله أرحم الراحمين لا يظلم أحدا من العالمين، ولا يزيد في عقاب المقصرين وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «1» وبعد أن بيّن- سبحانه- أن الجزاء منوط بالعمل لا بالأمانى ولا الغرور الكاذب أردف ذلك بذكر درجات الكمال فقال: لا أحد أحسن دينا من دين من أسلم وجهه لله وجعل قلبه خالصا له، وفوض أمره إليه لا يعرف رباّ سواه وبالطبع لا أحد يساويه، وقد عبر عن توجه القلب بإسلام الوجه   (1) سورة الزلزلة آية 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 لأن الوجه هو المرآة لما في القلب، ومع هذا الإيمان الكامل هو محسن للعمل، والإحسان: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، واتبع ملة إبراهيم وطريقته حالة كونه حنيفا ومائلا عن الشرك، فهو الذي تبرأ من الوثنية وأهلها وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ. وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «1» . وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا جملة اعتراضية تفيد مبلغ تفانى إبراهيم الخليل في الذات العلية وإخلاصه في إيمانه إخلاصا جعله خليل الرحمن عدو الشيطان، وقد اختصه الله بكرامات ومنزلة يشبه بها الخليل لدى خليله، ومن كان كذلك كان جديرا بأن تتبع ملته وطريقته. واعلموا أن لله ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وتصريفا وعبيدا فهو القادر على جزاء العاملين خيرا أو شرا. إذ الكل ملكه فلم يخرج أحد من ملكوته، وهو المستحق للطاعة والعبادة وحده إذ هو المالك ومن عداه مملوك، ولم يتخذ إبراهيم خليلا لحاجة إذ له ملك السموات والأرض وما فيهن، وإبراهيم عبد خاضع، والمولى سيد قاهر جل شأنه، وكان الله بكل شيء محيطا بعلمه وقدرته وتدبيره وخلقه. حقوق الضعفاء وعلاج المشاكل الزوجية [سورة النساء (4) : الآيات 127 الى 130] وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَإِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)   (1) سورة الزخرف آية 26- 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 المفردات: يَسْتَفْتُونَكَ: يطلبون منك الفتيا. يُفْتِيكُمْ: يبين لكم ما أشكل من أمورهن. ما كُتِبَ لَهُنَّ أى: فرض لهن من ميراث وصداق. وَأَنْ تَقُومُوا: وأن تعنوا عناية خاصة بهن. بِالْقِسْطِ: العدل. خافَتْ مِنْ بَعْلِها: توقعت من زوجها. نُشُوزاً: تكبرا وتعاليا. إِعْراضاً: ميلا. وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ: جعلت مطبوعة عليه وحاضرة له لا تنفك عنه أبدا. كَالْمُعَلَّقَةِ: التي ليست مطلقة ولا ذات بعل. سَعَتِهِ السعة: الغنى. المناسبة: كان الكلام أول السورة في الأحكام المتعلقة باليتامى والنساء والقرابة والإرث والمصاهرة، ومن قوله تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً في أسس الدين وما يتعلق بذلك من ذكر أهل الكتاب، والقتال، وقد كثر السؤال بشأن حقوق النساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 واليتامى والعدل بينهن وهل يحل أن يمنع اليتيمة ما كتب لها من الإرث حين يرغب في نكاحها؟ وبماذا يصالح امرأته؟ كل هذا مما تشتد الحاجة إلى معرفته والسؤال عنه، ولذا سئل الرسول صلّى الله عليه وسلّم في ذلك كثيرا فما بين حكمه فيما سلف أحيل بيانه على ما ورد في ذلك الكتاب، أى: هذه السورة وما لم يبين حكمه بعد بين هنا. المعنى: ويستفتونك يا محمد في حقوق النساء على الإطلاق الشاملة للميراث وحقوق الزوجية والمعاشرة، قل: الله يفتيكم فيهن ويبين لكم ما أشكل من أمرهن وكذلك يوضح لكم هذا ما أنزله الله من الآيات السابقة في أول السورة التي تتلى عليكم كأحكام معاملة النساء اليتامى في المواريث فقد جرت عادتكم ألا تعطوهن ما كتب لهن من الإرث إذا كان في أيديكم، وما يتلى عليكم في هذا قوله: وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ ولا تأكلوها (الآية) . وترغبون في أن تنكحوهن لجمالهن والتمتع بأموالهن. وقيل: المعنى: وترغبون عن أن تنكحوهن لدمامتهن فلا تنكحوهن، وما يتلى عليكم قوله: وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا (الآية) . وقد كان الرجل منهم يضم اليتيمة ومالها إلى نفسه فإن كانت جميلة تزوجها وأكل مالها وإن كانت دميمة عضلها عن التزوج حتى تموت فيدفنها. وما يتلى عليكم كذلك في شأن المستضعفين من الأولاد لا تعطونهم حقهم في الميراث وذلك قوله تعالى: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ (الآية) . والله يذكرهم بالآيات السابقة ليتدبروا معناها فإن النفس كثيرا ما تتغافل عن دقائق الأحكام خصوصا إذا كانت الآيات تخالف طبائعهم وما ألفوه من الظلم والجور، والله يرشدكم إلى أن تقوموا لليتامى من هؤلاء النساء والولدان الضعفاء بالعدل وأن تعنوا بهم عناية خاصة. وما تفعلوا من خير- قل أو كثر- فإن الله عليم فسيجازيكم عليه أحسن الجزاء، وما تفعلوا من شر- قل أو كثر- فإن الله به عليم ومجازيكم عليه. وإن كانت امرأة تتوقع من زوجها استكبارا وعلوّا عليها بأن يمنعها نفسه ويغلظ لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 القول أو يعاملها معاملة قاسية لا تتناسب مع رابطة الزوجية التي عبر عنها القرآن بقوله: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [سورة الروم آية 21] . وعلى المرأة الانتظار والتريث فربما يكون الزوج مضطرّا إلى هذا العمل لظروف خاصة له فإذا أحست منه ذلك لكراهته إياها ورغبته عنها، فلا إثم عليها ولا حرج في أن يصلحا بينهما بأن تعرض على زوجها التنازل عن بعض حقوقها ونفقاتها لتبقى في عصمته إن كان ذلك خيرا لهما أو تتنازل عن نفقة العدة أو عن بعض الصداق ومتعة الطلاق ليطلقها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ «1» إن كان في هذا خير لها. وقد روى أن امرأة أراد زوجها أن يطلقها لرغبته عنها وكان لها منه ولد فقالت: لا تطلقني ودعني أقم بتربية ولدي وتقسم لي في كل شهرين فقال: إن كان هذا يصلح فهو أحب لي، والصلح خير من الطلاق والشقاق والخلاف الذي يهدم كيان الأسر ويقطع رابطة من أقدس الروابط، وناهيك أن الطلاق أبغض الحلال إلى الله فالصلح هو الخير حتى لا يمنى المجتمع بداء التفرق فإن فيه القضاء على الأولاد الصغار وضياعهم ماديا وأدبيا، ويشير القرآن إلى أن الشح طبع في النفوس فقد جعلت حاضرة له ومطبوعة عليه فتجد المرأة تشح نفسها ولا تسمح بحقوقها التي قبل الرجل وترى الرجل شحيحا لا يجود بحسن المعاشرة وطيب المعاملة، هكذا جبلت النفوس. وعلى هذا طبعت، وأحضرت الأنفس الشح وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «2» فالقرآن يحث كلا من الزوجين على التنازل عن بعض الحقوق وعلى معالجة شح النفس، ويقول لهم أيضا: وأن تحسنوا المعاملة وتتقوا النشوز والإعراض والمعاكسة وتصبروا على ما يبدو من أحد الزوجين مراعاة لحقوق الزوجية وهناءتها، أن تفعلوا ذلك فإن الله بما تعملون خبير وبصير. ولن تستطيعوا العدل بين النساء ولو كنتم حريصين على ذلك ففي المعاملة أمور مادية وأخرى غير مادية، وأما المادية فتستطيعون فعلها والعدل فيها كالمبيت والنفقة والكسوة ... إلخ، أما الأمور القلبية كالميل والحب وغير ذلك مما يكون الباعث عليه   (1) سورة البقرة آية 229. (2) سورة الحشر الآية 9 والتغابن 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 الوجدان والشعور النفسي، فهذا مما لا تملكونه، ولهذا خفف الله عنكم ورفع الحرج فيه. ولكن لا تميلوا كل الميل بحيث تترك المرأة الثانية كالمعلقة لا هي مطلقة ولا هي متزوجة بل عليكم إرضاؤها وحسن عشرتها ومحاربة الميول الجارفة لضرتها حتى لا تتألم. وإن لم ينفع العلاج واستفحل الداء حتى صار البيت كالمرجل المغلق المليء بالبخار المعرض للانفجار في أى وقت وانفجاره قد يودى بشرف الأسرة كلها وهتك حجابها فإن الكريم العليم الخبير بطبائع النفوس قد فتح بابا للتخلص من هذا حتى تهدأ النفوس وتسكن، ألا وهو باب الطلاق، وإن يتفرقا يغن الله كلا منهما من سعته وقدرته، وربما بعد الانفصال يعودان على أحسن حال وقلوب العباد بين أصابع الرحمن يقلبها كيفما شاء. وكان الله واسع الفضل والتدبير حكيما فيما شرعه لعباده. كمال القدرة [سورة النساء (4) : الآيات 131 الى 134] وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133) مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 المعنى: واعلموا أن لله ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وإيجادا وتصريفا له الحكم وإليه ترجعون. ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب كالتوراة والإنجيل والزبور من قبلكم وهم اليهود والنصارى، ووصيناكم أنتم يا أمة محمد كذلك بأن اتقوا الله جميعا، وفي هذا إشارة إلى أن الأديان جميعها متفقة على مبدأ التوحيد وتقوى الله ومختلفة في الفروع تبعا للزمان والمكان، وإن تكفروا بالله فاعلموا أن له ما في السموات وما في الأرض وكان الله غنيا عن عبادتكم ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ «1» ولله ما في السموات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا. ثم هدد تهديدا عاما صريحا إن يشأ الله يذهبكم أيها الناس ويستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم، وكان الله على ذلك قديرا. أيها الناس: من كان يريد بعمله ثواب الدنيا فقد أخطأ فعند الله ثواب الدنيا والآخرة فليرجوا ثوابهما معا رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ «2» فبدل أن يبغى بالجهاد الدنيا فقط كالغنيمة فليرج بعمله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا لكل قول، بصيرا بكل قصد وعمل. وفي هذه الآية إشارة صريحة إلى أن الدين الإسلامى كفل لأتباعه وكل من سار على هديه سعادة الدنيا والآخرة، وقد تحقق هذا في صدر الإسلام بما لم يتفق لأمة في المعمورة إلى الآن، ولو استقام المسلمون على سنة كتابهم وهدى دستورهم ورجعوا إلى الدين لاستردوا مكانتهم التي بهرت العالم قرونا طويلة.   (1) سورة الذاريات آية 57. (2) سورة البقرة آية 201. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 العدل والشهادة لله والإيمان به وبكتبه [سورة النساء (4) : الآيات 135 الى 136] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَالْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136) المفردات: قَوَّامِينَ: جمع قوّام، وهو المبالغ في القيام بالشيء حتى يأتى على خير وجه. انظر إلى قوله تعالى: أَقِيمُوا الصَّلاةَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ. تَلْوُوا أى: ألسنتكم بالشهادة، والمراد تحرفونها ولا تأتون بها على وجهها. فإن اللّيّ هو التحريف وتعمد الكذب. تُعْرِضُوا: لا تؤدوها. المعنى: يأمر الله- سبحانه وتعالى- عباده بأن يكونوا قوامين بالعدل ومبالغين في الإتيان به على خير وجه، لا تأخذهم في الله لومة لائم، لا يصرفهم عنه صارف مع التعاون والتساند والتناصر، وأن يؤدوا الشهادة لله ابتغاء رضوانه وحينئذ تكون شهادة عامة خالية من التحريف والتبديل والكتمان ولو كانت على أنفسكم فاشهدوا الحق ولو عاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 ضرره عليكم أو على الوالدين والأقربين فإن بر الوالدين وصلة الأقارب لا تكون بالشهادة لغير الله، ولا تراعوا غنيا لغناه أو ترحموا فقيرا لفقره بل اتركوا الأمر لله، فالله يتولى أمرهما وهو أعلم بما فيه صلاحهما فلا تحملنكم العصبية وهوى النفس وبغضكم الناس على ترك العدل فيما بينكم وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «1» ومن هذا ما روى أن عبد الله بن رواحة لما بعثه صلّى الله عليه وسلّم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزرعهم فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال: والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إلىّ، ولأنتم أبغض إلىّ من أعدائكم من القرود والخنازير، وما يحملني حبى إياه وبغضي لكم على ألا أعدل فيكم. فقالوا: بهذا قامت السموات والأرض. وأن تلووا ألسنتكم بالشهادة وتحرفوها أو تعرضوا عن إقامة الشهادة وتكتموها فاعلموا أن الله بما تعملون خبير وسيجازيكم بذلك. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ: المعنى: اثبتوا على ذلك وداوموا عليه وازدادوا يقينا، وآمنوا بالكتاب الذي أنزله الله على رسوله وهو القرآن وجنس الكتاب الذي أنزله على رسله كالتوراة والإنجيل، ومعنى الإيمان بالقرآن التصديق بأنه أنزل من عند الله على خاتم الأنبياء والمرسلين وهو الناسخ لما قبله ليس بعده شيء، والإيمان بالكتب السابقة على أنها من عند الله نزلت على موسى وعيسى. وقيل: هو خطاب لمؤمنى أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأضرابه أتوا رسول الله قالوا: نؤمن بك وبكتابك والتوراة وبموسى ونكفر بما عدا ذلك، فقال- عليه السلام-: بل آمنوا بالله ورسوله والقرآن وبكل كتاب قبله. فقالوا: لا نفعل، فنزلت، فآمنوا كلهم، ثم توعد من لم يؤمن بما ذكر بقوله: ومن يكفر بالله وملائكته الذين هم رسل الله إلى أنبيائه وبرسله إلى خلقه واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا عن طريق الحق ونور الهدى، فاليهود والنصارى الذين يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض إيمانهم لا يعتد به إذ الكفر بكتاب أو برسول كفر بالكل، لأنه لو آمن إيمانا صحيحا بنبيه وكتابه لما كفر بمحمد المبشر به عندهم.   (1) سورة المائدة آية 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 المنافقون وصفاتهم [سورة النساء (4) : الآيات 137 الى 143] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَيُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَالْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141) إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ وَإِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَلا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَلا إِلى هؤُلاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 المفردات: بَشِّرِ: المراد أنذر، وإنما قال: بشر تهكما بهم. الْعِزَّةَ: القوة والمنعة. يَخُوضُوا: يدخلوا. يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ: ينتظرون وقوع أمر بكم. نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ الاستحواذ: هو الاستيلاء، والمراد: ألم نغلبكم ونتمكن من قتلكم فأبقينا عليكم. المعنى: من الناس من ران على قلبه ظلمات الغي والضلال فختم الله عليه وحجب بصره كثرة الفسوق والعصيان حتى لم يعد عقله يرى نور الإيمان، ولا قلبه يهتدى بهدى القرآن، أولئك هم الذين تذبذبوا واضطربوا، فمرة هم مؤمنون في الظاهر وإذا خلوا إلى شياطينهم فهم كافرون، وإذا عادوا مع المؤمنين آمنوا ثم ارتدوا كافرين بل أشد كفرا وعنادا مما جاهر بالكفر وثبت عليه، أولئك هم المنافقون الذين كانوا حربا على الإسلام وخطرا داهما على الدولة، وهؤلاء بطبيعتهم التي وصفها القرآن يستحيل عليهم الهداية فإن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد، وقلوب هؤلاء تراكم عليها الصدأ حتى أكلها وأفناها، فإن الله لن يغفر لهم ولن يهديهم سبيلا إلى الخير لأنهم لم يحاولوا الهداية ولم يفتحوا عيونهم للنور أبدا. أنذر هؤلاء المنافقين بأن لهم عذابا أليما إذ هم في الدرك الأسفل من النار، هؤلاء هم الذين يتخذون الكافرين أولياء متجاوزين المؤمنين اعتقادا منهم أن الدولة للكافرين ولم يعلموا أن العاقبة للمتقين لأن الله معهم. وكذبوا وافتروا: أيبتغون العزة عند هؤلاء؟ كيف يطلبون من هؤلاء القوة والمنفعة وهم أعداء الله ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين وأوليائه. وقد نزل عليكم في الكتاب حيث قال: وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ. والخطاب موجه إلى المؤمنين مطلقا الصادقين والمنافقين، أى: إذا سمعتم آيات الله يكفر بها الكافرون ويستهزئون بها فلا تستمعوا لهؤلاء ولا تجالسوهم حتى يتكلموا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 حديث آخر غير حديث الكفر والإلحاد إنكم إن قعدتم معهم وهم يتكلمون بالباطل في الدين ويستهزئون بالقرآن تكونوا مثلهم، وقد كان المنافقون يجالسون اليهود ويستعمون إليهم وهم يجعلون القرآن موضع الهزء والسخرية، إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا، فإنهم بين مرتكب للإثم وراض عنه غير منكر بل مشجع على ارتكابه. هؤلاء المنافقون الذين يتربصون بكم وقوع الأمر المؤلم وأن تدور الدائرة عليكم وينتظرون ما يحدث لكم من خير وشر، فإن كان لكم نصر من الله وفتح قالوا: نحن معكم نستحق في الغنيمة، وإن كان للكافرين نصيب في النصر كما حصل يوم أحد قالوا: ألم نستحوذ عليكم ونتمكن من قتلكم فأبقينا عليكم ونحن نمنعكم من المؤمنين بتخذيلهم وإذاعة الأخبار التي تثبط قلوبهم وتلقى الرعب فيها، وإذا كنا نهينا عن مجالسة هؤلاء فكيف بنا إذا اتخذناهم أولياء؟ فالله يحكم بينكم يوم القيامة فيجازى كلا على عمله، ففريق في الجنة وفريق في السعير، ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا يغلبونكم به على أمركم، وحيث وصف المؤمنين بهذا الوصف وهو الإيمان فإن تحقق الإيمان تحقق وعد الله بالنصر وغلبة المؤمنين على الكافرين، وقريب من هذا قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا «1» كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ «2» وأين هم المؤمنون الصادقون في الإيمان؟ المنافقون لجهلهم، وقلة علمهم، وسوء تقديرهم، يفعلون ما يفعل المخادع، حيث يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر، والله- سبحانه- فاعل بهم ما يفعله المخادع حيث أجرى عليهم الأحكام العامة التي عصموا بها دماءهم وأموالهم وأعد لهم في الآخرة الدرك الأسفل من النار، وفي الحقيقة الله لا يخادع فإنه العالم بالسر وأخفى، فقيل: إن المراد يخادعون رسول الله والمؤمنين، وإنما آثر القرآن هذا التعبير ليسجل عليهم عظم جرمهم وليشير إلى أن من يخادع الله كما في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «3» وهكذا يكون مركز الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم.   (1) سورة الحج آية 38. (2) سورة الروم آية 47. (3) سورة الفتح آية 10. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 وقال بعضهم: إنهم يخادعون الله يوم القيامة حيث يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة وسائرين على الطريق يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ والله خادعهم حيث يستدرجهم في طغيانهم ويبعدهم عن الحق والنور يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً [سورة الحديد آية 13] . ولا غرابة في ذلك فها هم أولاء المنافقون مع أشرف الأعمال وأفضلها وهي الصلاة إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها لأنه لا نية لهم فيها، ولا إيمان لهم بها ولا خشية ولا هم يعقلون معناها! وأما قلوبهم ففاسدة، ونواياهم سيئة يفعلون بلا إخلاص، ولا يعاملون الله ولكن يعاملون الناس، ألا تراهم يراءون في كل عمل، ويستخفون من الناس والله معهم. وإذا قاموا إلى الصلاة خشية من الناس بالطبع لا يذكرون الله إلا قليلا بل كما يقول الحديث: «تلك صلاة المنافق. كررها ثلاثا. يجلس يرقب الشمس إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعة لا يذكر الله فيها إلا قليلا» . وهم- لعنهم الله- مضطربون دائما بين الإيمان والكفر كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا «1» وتراهم مرة مع المؤمنين في الظاهر وأخرى مع الكفار في الباطن، فهم لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء، وحقيقة من يضله الله ولا يوفقه، فلن تجد له سبيلا إلى الخير والسداد. موالاة الكافرين.. وجزاء المنافقين [سورة النساء (4) : الآيات 144 الى 147] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146) ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)   (1) سورة البقرة آية 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 المفردات: سُلْطاناً: حجة قوية ظاهرة. الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ: الطبقة التي في قعر جهنم. المعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تتخذوا الكافرين أولياء متجاوزين المؤمنين تبغون بذلك العزة عندهم، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، وكيف يصدر منكم هذا وهو دأب المنافقين وصفتهم أتريدون بهذا أن تجعلوا لله عليكم حجة قوية ظاهرة في استحقاق العذاب، وإذا اتخذتم الكافرين أولياء من دون المؤمنين فإن هذا لا يصدر إلا من منافق، مع أن المنافقين لسوء أعمالهم وفساد أرواحهم يوم القيامة يكونون في الدرك الأسفل من النار، والنار ذات دركات والجنة درجات، فالمنافقون في أسفل الدرك من النار، ولا شك أنهم يستحقون، فهم خالطوا الإسلام وعرفوه ثم أنكروه اتباعا للشيطان وإيثارا للهوى وزخرف الدنيا، أما الكفار فقد يغلبهم الجهل ويعميهم التقليد لذلك كانوا في درك أقل من المنافقين في النار ولن تجد لهم نصيرا أبدا يمنعهم من العذاب أو يخفف عنهم ما هم فيه، هذا جزاؤهم، أما من تاب منهم عن النفاق وتوفرت فيه شروط التوبة الصحيحة وأتبعوها بثلاثة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 (أ) الاجتهاد في صالح الأعمال التي تستر ما مضى من سيئ النفاق. (ب) الاعتصام بالله والتمسك بكتابه والاهتداء بهدى الرسول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم كل ذلك طلبا لرضا الله. (ج) الإخلاص لله بأن يدعوه وحده ويتجهوا إليه اتجاها خالصا إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة الآيتان 5 و 6] . فأولئك الموصوفون بما ذكر مع المؤمنين، وسوف يؤت الله المؤمنين الأجر العظيم الذي لا يدرى كنهه إلا الله فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة السجدة آية 17] . ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ماذا يريد الله بعذابكم أيها الناس أيعذبكم انتقاما؟! لا ... أيعذبكم لدفع ضرر وجلب خير؟! لا.. إنه هو القوى الغنى، ولكن الله عادل حكيم لا يسوى بين الصالح والطالح، فالكافرون والمنافقون والعاصون لم يؤدوا حق الشكر لله وواجبه، ولم يصرفوا ما أعطى لهم من نعم في الخير ولكن في غير ما خلقت لأجله، ولو شكروا الله وآمنوا به حقا لاستحقوا الثواب المعد لأمثالهم فالله شاكر يجازى من شكر عليم بخلقه لا تخفى عليه خافية لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ «1» فهو الكريم يعطى، ويجازى بل ويضاعف الحسنة بعشر إلى أضعاف.. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، واجعلنا يا رب من عبادك المخلصين الأبرار، إنك سميع الدعاء.   (1) سورة إبراهيم الآية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 الجهر بالسوء وخطره [سورة النساء (4) : الآيات 148 الى 149] لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149) المفردات: الْجَهْرَ: الإعلان، يقال جهر برأيه: أعلنه. المناسبة: كان الكلام إلى هنا في المنافقين والكفار من أهل الكتاب، وبعد هذه الآيات رجع القرآن إلى الكلام عليهما، وكل ذلك بذكر عيوبهم والتعرض لسوءاتهم، حتى يقف المسلمون عليها فيبعدوا عنها وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ «1» وقد جاءت هاتان الآيتان في الوسط، لإرشاد المسلمين إلى أن الجهر بالسوء لا بأس به. وخاصة بعد أن تعرض القرآن الكريم لإذاعة السوء عن الكفار، وسنعرف أن الجهر بالسوء فيه خطر على الأمة والفرد. المعنى: لا يحب الله الجهر بالسوء حالة كونه من القول لأنه يؤجج نيران العدوان، ويولد البغضاء والكراهية، ولا تنس أنه يؤثر في نفوس السامعين تأثيرا سيئا من ناحية تقليد صاحبه في إذاعة السوء، وتقليد نفس السوء الذي يحكى للناس وهذا أمر مسلّم به ومعروف. لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا إذا كان صادرا من مظلوم، إذ له بالطبع أن يشكو ظلمه للناس، ويشرحه للقضاء لعله ينصفه، ودعوة المظلوم ليس بينها وبين الله حجاب، ويقول الله: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين.   (1) سورة الحديد آية 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 والظالم لنفسه هو الذي يحب الجهر بالسوء وإذاعة الفاحشة بين الناس، والسوء من القول يشمل إذاعة الفاحشة والغيبة والنميمة والسعاية والكذب والبهتان ... إلخ. والله سميع لكل قول من ظالم أو مظلوم، عليم بكل فعل ونية، وسيجازى كلا على عمله. وإن تبدوا خيرا من قول أو فعل أو تخفوه فلا تظهروه، أو تعفوا عن سوء منكم وضرر ألمّ بكم، فاعلموا أن الله عفو عن السيئات، يحب العافين عن الناس مع القدرة، قدير على أن يجزل الثواب للطائعين. وفي هذا ترغيب لفعل الخير، والعفو عند القدرة. أما إبداء الخير فحسن لمن يأنس من نفسه عدم الرياء وكان قلبه عامرا بالإخلاص والإيمان، وهو قدوة لغيره، والإخفاء حسن إن خاف شيئا من الرياء والنفاق وكان فيه حفظ للكرامة وستر على الفقراء والمحتاجين. الكفر والإيمان وعاقبة كل [سورة النساء (4) : الآيات 150 الى 152] إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152) المفردات: سَبِيلًا: طريقا. وَأَعْتَدْنا: هيأنا وأعددنا. مُهِيناً: ذا إهانة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 المعنى: الكفر والإيمان ضدان لا يجتمعان في قلب أبدا، وهل تستوي الظلمات والنور ... ؟ ومن الناس من يكفرون بالله ورسله جميعا في الواقع ونفس الأمر وإن لم يصرحوا بذلك، ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله، فيؤمنوا بالله ويكفروا بالرسل وكتبهم، وهؤلاء هم أكثر سكان العالم. ومن الناس من يؤمن بالله وببعض الرسل كاليهود والنصارى. يؤمنون بموسى أو عيسى ويكفرون بمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبكتابه المنزل عليه. ويريدون بهذا أن يتخذوا سبيلا وسطا بين الإيمان والكفر، أولئك المذكورون هم الكافرون الكاملون في الكفر، والراسخون في الضلال حقا. وأى حق يكون أثبت وأصح مما يجعله الله تعالى حقا؟؟ وأعتدنا وهيأنا للكافرين منهم ومن غيرهم عذابا ذا إهانة في الدنيا والآخرة. ولا غرابة في هذا الحكم الشديد، لمن يؤمن بالله ويكفر برسله، أو يؤمن ببعض الرسل ويكفر بالبعض الآخر، إذ الإيمان بالله حقيقة يقتضى عبادته على وجه يرتضيه، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالإيمان بالرسل واتباع تعاليمهم فهم السفراء بين الله وخلقه، فكيف يتصور إيمان بالله وكفر برسله؟ وأما الإيمان برسله كموسى أو عيسى كما فعلت اليهود أو النصارى. والكفر بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والأنبياء فليس بشيء. إذ لو آمن اليهود بموسى حقيقة لآمنوا بمحمد كذلك، ولو آمن النصارى بعيسى حقيقة لآمنوا كذلك بمحمد صلّى الله عليه وسلّم فهو مذكور في كتبهم ومبشر به عندهم ومصدق لما معهم، على أن دلائل الرسالة عند محمد صلّى الله عليه وسلّم أوضح من غيرها فهو الأمى العربي الذي نشأ في الجاهلية ثم أنزل عليه القرآن الكامل في كل شيء ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة آية 2] . ألست ترى أن الرسل وكتبهم كأمراء الأقاليم، والقوانين التي تصدر إليهم من الرئيس الأعلى، والشعب ملزم بطاعة الرئيس وقانونه، حتى إذا انتهت مدته وجاء رئيس آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 بقانون آخر وجب أن يترك السابق ويؤمن بالجديد وهكذا فالله وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى «1» أرسل رسله قديما بالهدى ودين الحق حتى ختم الرسالة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم والقران دستوره الباقي ما بقيت الأرض والسماء لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً «2» فالواجب اتباعه والإيمان به. والمسلمون هم الذين يؤمنون بالله ورسله ولا يفرقون بين أحد من رسله إيمانا خالصا لله، أولئك سوف يؤتيهم ربهم أجورهم كاملة يوم القيامة، وكان الله غفورا لمن يأتى بهفوة مع الإيمان الصحيح، رحيما بعباده جميعا، حيث أرسل لهم الرسل لهدايتهم الطريق المستقيم. من قبائح اليهود وأفعالهم [سورة النساء (4) : الآيات 153 الى 159] يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159)   (1) سورة الروم الآية 27. (2) سورة المائدة الآية 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 المفردات: جَهْرَةً المراد: رؤية جهرة. الصَّاعِقَةُ: نار تنزل من السماء، والظاهر أنها الشرارة الكهربائية التي تظهر في السماء. الْبَيِّناتُ: الدلائل الواضحة على نبوة موسى: كفلق البحر، واليد البيضاء، والعصا. الطُّورَ: اسم الجبل الذي كانوا مقيمين أسفله. سُجَّداً المراد: خاضعين متذللين. لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ: لا تتجاوزوا ما أبيح لكم، أو لا تظلموا أنفسكم بالصيد فيه. غُلْفٌ: جمع غلاف، وهو الظرف، والمراد: أوعية العلم فليست في حاجة إلى ما نقول، ويصح أن يكون جمع أغلف، والمراد: مغطاة بأغطية خلقية لا يصل إليها شيء مما نقول. طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها: ختم عليها بالخاتم. وقيل صارت كالنقود المسكوكة فلا تقبل غير النقش الذي عليها. بُهْتاناً: كذبا يبهت صاحبه عند سماعه ويتعجب منه. المعنى: يسألك أهل الكتاب من اليهود أن تنزل عليهم كتابا مكتوبا بخط سماوي يشهد أنك رسول الله إليهم، وقيل: ينزل باسم جماعتهم أو أسماء الأحبار منهم، وهذا الطلب دليل على عدم فهمهم حقيقة الرسالة وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ «1» يسألك هؤلاء اليهود على سبيل التعنت والتعجيز، ولا تعجب أيها الرسول من سؤالهم ولا تستكثره عليهم فقد سألوا موسى قديما أكبر من هذا، وقالوا: أرنا الله رؤية جهرة عيانا بلا حاجز ولا حجاب، وقد مر كثيرا أن فعل آبائهم ينسب إلى المعاصرين منهم، لأنهم وارثوهم ومقلدوهم ومعتزون بهم، ولا تنس مبدأ تكافل الأمة الواحدة، وقيل: إن أهل الكتاب جنس عام يدخل فيه المعاصرون وآباؤهم ... وسؤالهم رؤية الله عيانا يدل على جهلهم بالله وما يجب له من صفات الكمال، إذ كيف تحيط به الأبصار والعيون؟ لذا كان أكبر جرما من سؤالهم كتابا من السماء، وقد عوقبوا على هذا الطلب بنزول الصاعقة وَإِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ [البقرة 55] . ثم هم بعد أن ماتوا بالصاعقة أحياهم الله فاتخذوا العجل إلها من بعد ما جاءتهم الآيات البينات الواضحات، كالعصا وفلق البحر وغيرها من الحجج القوية التي تثبت الألوهية والوحدانية لله- سبحانه وتعالى- فعفونا عن ذلك الذنب حين تابوا منه تلك التوبة النصوح، وآتينا موسى سلطانا مبينا وحجة قوية حيث طلب منهم القتل فقتلوا أنفسهم وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة آية 54] . ومن عجائب أحوالهم أن الله أخذ عليهم الميثاق. وكلفهم بالشريعة ورفع فوقهم الطور بسبب هذا الميثاق ليأخذوه بقوة ونشاط. وقد كان رفع الطور فوقهم من الآيات الكونية، حتى يؤمنوا، ولكنهم اليهود وكفى!! وقلنا لهم: ادخلوا باب القرية (والله أعلم بها) خاضعين لله متذللين له ذلة وانكسارا لعظمته وجبروته، وقلنا لهم، لا تتجاوزوا الحدود المرسومة لكم، ولا تصطادوا يوم السبت- وقد كانت حيتانهم تأتيهم يوم سبتهم شرعا- ابتلاء لهم واختبارا، فظلموا أنفسهم واصطادوا فيه وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [البقرة 65] . وأخذنا منهم ميثاقا شديدا ليأخذنّ التوراة بقوة وجد،   (1) سورة الأنعام الآية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 وليعملن بها، ولا يكتمون بشارة عيسى ابن مريم ومحمد صلّى الله عليه وسلّم روى أنهم بعد ما قبلوا ما كلفوا به من الدين أعطوا الميثاق على أنهم إن هموا بالرجوع عنه فالله يعذبهم بأى نوع من العذاب وهذا هو الميثاق المؤكد. ثم انظر بعد هذا الميثاق المؤكد والعقود الموثقة ماذا هم فاعلون؟؟ لقد سجل القرآن عليهم هنا أقبح المخالفات وأشد العناد فقال ما معناه: فبسبب نقضهم الميثاق الذي واثقهم الله عليه، فقد أحلوا حرامه وحرموا حلاله، وبكفرهم بآيات الله التي أراهم منها ما لم ير سواهم، وبسبب قتلهم الأنبياء بغير ذنب إلا أنهم قالوا: ربنا الله، قتلوهم بغير حق كزكريا ويحيى- عليهما السلام- وبسبب قولهم: قلوبنا في غلاف فلا يصل إليها شيء مما تدعون إليه، أو هي أوعية مليئة بالعلم فليست في حاجة إلى شيء!! لا بل طبع الله على قلوبهم بكفرهم وختم عليها فلا يصل إليها نور الهدى فهي كالنقود المضروبة لا تقبل نقشا آخر، ولذلك فهم لا يؤمنون إلا قليلا منهم كعبد الله بن سلام وأضرابه. وبكفرهم بعيسى والإنجيل ورميهم بالفاحشة مريم البتول رموها بيوسف النجار وكان صالحا فيهم، ولا شك أن هذا بهتان يبهت من يقال فيه ويدهش عند سماعه لبعده عن الحق وغرابته، وبادعائهم أنهم قتلوا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ووصفهم له بالرسالة تهكما به ووصف القرآن له بأن ابن مريم رسول الله للرد على من يزعم من النصارى أنه الإله أو ابنه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وما قتلوه، وما صلبوه: كما زعموا وادعوا وشاع بينهم ولكن وقع لهم الشبه فظنوا أنهم صلبوه والواقع أنهم صلبوا شخصا غيره.. وكيف يقتل عيسى والله قد عصم أولى العزم من الرسل جميعا فنجى نوحا من الغرق، وإبراهيم من النار، وموسى من فرعون، وعيسى من اليهود، ومحمدا من المشركين. وإن الذين اختلفوا في شأن عيسى من أهل الكتاب لفي شك منه وحيرة، ما لهم به من علم قاطع بقتله، لكنهم يتبعون الظن والشك في أمره، ويرجحون هذا على ذلك بالظنون والشبه لا بالعلم القاطع. وفي الأناجيل المعتمدة عند النصارى، أنه قال لتلاميذه والمقربين إليه، وفي الليلة التي طلب فيها للقتل «كلكم تشكون في هذه الليلة» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 وقيل: اختلافهم قولهم: إن كان هذا صاحبنا فأين عيسى؟ وإن كان المقتول عيسى فأين صاحبنا؟ وما قتلوه قتلا يقينا، لأن الجند الذين قاموا بقتله من الثابت أنهم كانوا يعرفون شخص المسيح، وقد مات في شبه ثورة. وفي الأناجيل الموجودة الآن، أن الذي سلمه هو يهوذا الأسخريوطى، وفي بعض الأناجيل أن الجند أخذوا يهوذا نفسه ظنا منهم أنه المسيح، فالذي لا خلاف فيه أن الجند ما كانوا يعرفون عيسى وأنهم قتلوا شخصا هل هو المسيح أو شخص يشبه إلى أبعد حد. وقيل: المعنى ما قتلوا العلم يقينا من جهة البحث والنظر في أمر قتله وصلبه. رفع عيسى- عليه السلام-: المسلمون يعتقدون كما أخبر القرآن أن عيسى لم يقتل ولم يصلب وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وأنه نجاه من الذين مكروا به وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «1» وهذا هو معنى (متوفيك) عند بعض العلماء، أى: موفيك أجلك كاملا وعاصمك من الناس كغيرك من الأنبياء، وهل هو بعد النجاة رفع إلى السماء بروحه وجسده أو رفع بروحه فقط، وأما جسده فانتهت حياته كغيره من الناس؟ أو لم يحصل له رفع لا بالروح ولا بالجسد؟ ويتبع ذلك تفسير قوله تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ «2» أما جمهور المفسرين: فيرون أن الله رفع عيسى بروحه وجسده إلى السماء وسينزل آخر الزمان يحكم بالقرآن ويقتل الخنزير ويكسر الصليب بدليل الآية الآتية وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وكما هو ثابت في حديث البخاري. وهناك آراء أخرى في رفع عيسى إلى السماء، والقرآن الكريم لا يثبت الرفع ولا ينفيه (والله أعلم بكلامه) وكان الله عزيزا لا يغالب أبدا، فهو الذي أنقذ عيسى من كيد اليهود وعصم محمدا من الناس جميعا، حكيما في كل فعل وعمل. وما من أحد من أهل الكتاب سواء كان يهوديا أو نصرانيا إلا ليؤمنن بعيسى إيمانا صحيحا قبل موته، أى: عند خروج روحه بلا إفراط ولا تفريط، فاليهودى يؤمن أنه   (1) سورة آل عمران الآية 54. (2) سورة آل عمران الآية 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والنصراني يؤمن بأنه رسول الله وعبده وكلمته فليس إلها ولا ابن الإله. وإذا كان حالهم هكذا قبل الموت ولا ينفعهم الإقرار حينئذ فما بالهم لا يسرعون في الإيمان بعيسى إيمانا صحيحا؟ وقيل: وما من أهل الكتاب أحد من المعاصرين لنزول عيسى آخر الزمان إلا ليؤمنن بعيسى قبل موته، أى: موت عيسى أو موت ذلك الكتابي، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا، يشهد بإيمانهم به وبكفرهم فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [سورة النساء آية 41] . ودعاة المسيحية: يقولون بصلب المسيح- عليه السلام- وينسجون لهذا قصة الخطيئة الخاصة بأبينا آدم وأن العدل والرحمة تقاتلا حتى انتهى الأمر إلى صلب المسيح كفارة لخطايا شعبه أو للعالم ... إلخ، ما هو مدون في كتبهم، ونحن إذ ننكر هذه العقيدة لا نقول باستحالتها على عيسى كبشر وإنما لأن القرآن نفاها نفيا باتا وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ. على أن مسألة القتل، لا مجال للعقل فيها، بل لا بد أن نستقيها من مصدر صحيح، يكون موضع الثقة، ونحن المسلمين نقلنا نفى القتل والصلب عن القرآن. وهو الكتاب الوحيد الذي نقل بالتواتر نقلا سليما لا شبهة فيه لأى منصف بدليل أنه لا يختلف في أى بلد من بلاد العالم في كلمة وأما الكتب الأخرى التي فيها الصلب فهي كتابة أفراد لم تنقل بالتواتر وليس مصدرها واحدا ولذا نراها مختلفة جدا في الشكل والموضوع اقرءوا إن شئتم إنجيل برنابا وبعض الأناجيل الأخرى وهل من كتب من أتباع المسيح بالصلب شاهده أو هو خبر يحتمل الصدق والكذب؟؟! وكيف يتصور عاقل أن قوما يؤمنون بأن عيسى إله أو ابنه أو واحد من ثلاثة ثم يؤمنون مع هذا بأنه صلب على خشبة مع اعترافهم بأن المسيح تألم وبكى من هذا القتل وتضرع إلى الله أن يكشف عنه هذا السوء فقد ورد في الإنجيل: (يا أبتاه إن أمكنك فلتعبر عنى هذه الكأس إن لم يمكن أن تعبر عنى هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 ثم كيف يتصور عاقل قصة الخطيئة وصلب عيسى كفارة؟ - وفيها: (أ) طول تفكير الإله من وقت خطيئة آدم إلى قبيل ظهور عيسى، بل كيف نتصور العراك والنزاع بين العدل والرحمة!! ما شاء الله ما شاء الله!!! (ب) وكيف نحكم على أمثال أبينا إبراهيم الخليل وقد مات قبل ظهور المسيح وصلبه أمات عاصيا لم تكفر ذنوبه! (ج) وكيف يبيح شرع لأتباعه أن يرتكبوا كل شيء لأن نبيهم عيسى صلب تكفيرا لخطاياهم، إن هذا لشيء عجيب!! وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة آية 146] وأعجب من هذا إيمان كثير من المسيحيين بتلك الخرافات. بعض قبائحهم وجزاؤهم عليها [سورة النساء (4) : الآيات 160 الى 162] فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162) المفردات: هادُوا: تابوا ورجعوا بعد عبادة العجل. بِصَدِّهِمْ: منعهم. الرَّاسِخُونَ: الثابتون في العلم المتقنون له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 المعنى: كان اليهود قديما كلما ارتكبوا ذنبا خاصة بعد ما تابوا من عبادة العجل، حرم الله عليهم نوعا من الطيبات التي كانت حلالا لهم ولأسلافهم من قبل، فبسبب هذا الظلم الذي لا يعرف كنهه إلا الله حرم عليهم ما حرم، ومع هذا كانوا يفترون على الله الكذب ويقولون: هذه المحرمات كانت جراما علينا وعلى نوح وإبراهيم ومن بعدهما، ولذا كذبهم الله تعالى في كثير من الآيات: كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ [آل عمران 93] . وقوله: وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما [سورة الأنعام آية 146] .. ثم شرع القرآن في بيان مجمل الظلم الصادر منهم فقال: وبسبب صدهم عن سبيل الله كثيرا من الناس لقد منعوا أنفسهم وغيرهم من الإيمان بالله بسبب عصيانهم موسى وعنادهم مرارا، وبالقدوة السيئة لغيرهم في الكفر، وأمرهم بالمنكر، ونهيهم عن المعروف، وكتمانهم البشارة ووصف النبي صلّى الله عليه وسلّم وبسبب أخذهم الربا من غيرهم وأكله معتقدين حله، وقد كتب في التوراة المحرفة: إن الربا حلال مع غير اليهود حرام مع اليهود، وبسبب أكلهم أموال الناس بالباطل من طريق الرشوة والنصب والاحتيال والغش سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ «1» وجزاء هؤلاء الظلمة لأنفسهم ولغيرهم أن الله هيأ للكافرين منهم عذابا ذا إهانة وذل لهم في الدنيا والآخرة، وقد ذكر أن تحريم الطيبات كان عاما، أما العذاب فكان للمصرين منهم على الكفر، وبعد أن بيّن الله قبائحهم وجزاءهم عليها! وأنه شامل للكل استدرك على ذلك بقوله: لكن الراسخون في العلم الثابتون فيه، الذين لا يشترون الضلالة بالهدى، وهم المنتفعون به المؤمنون إيمانا صادقا بالله وبما أنزل عليك، وبما أنزل على من قبلك من الرسل، وهم لا يفرقون بين أحد منهم، وأخصّ المقيمين الصلاة المؤدين لها تامة الأركان، مستوفية الشروط بالجوارح والقلب، والمؤتون الزكاة لمن يستحقها، والمؤمنون بالله واليوم الآخر إيمانا حقيقيا فلا يقولون: عزير ابن الله ولا المسيح ابن الله، ولا يقولون: لن تمسنا النار إلا أياما معدودة أولئك البعيدون في درجات الكمال سيؤتيهم ربهم أجرا لا يعلم قدره إلا هو، أجرا عظيما من عنده.   (1) سورة المائدة الآية 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 وحدة الوحى وحكمة إرسال الرسل [سورة النساء (4) : الآيات 163 الى 166] إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165) لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) المفردات: أَوْحَيْنا الإيحاء يأتى في اللغة على معان، منها: الإشارة كقوله تعالى: فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا والإلهام: وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ وعلى ما يكون غريزة: وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وعلى الإعلام في خفاء: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً والمراد بالإيحاء في الآية ما يلقى إلى الأنبياء من عند الله. الْأَسْباطِ جمع سبط، وهو: ولد الولد، والمراد: أبناء يعقوب لصلبه أو أولاد أولاده. زَبُوراً: مكتوبا، وكل كتاب زبور، والمراد به: الكتاب المنزل على داود عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 المناسبة: نعى الله على أهل الكتاب عموما أنهم يفرقون بين الأنبياء فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. ثم تعرض القرآن لليهود خاصة وأنهم سألوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم- عنادا واستكبارا- أن ينزل كتابا من السماء آية لهم ولم يكن هذا العناد جديدا على اليهود فقد سألوا موسى قديما أكبر من هذا، وفعلوا القبائح، وكفروا بعيسى، وبهتوا أمه وحاولوا قتله وصلبه ... إلخ، ما ذكر. ولو فعلت هذا لآمنوا بك وصدقوك، فأنت أوضح دليلا وأقوم قيلا، على أن الإيحاء من الله إليك كان كالأنبياء السابقين، فما لهم يفرقون بين نبي ونبي؟؟ وما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟!! المعنى: إنا بما لنا من العظمة والقدرة قد أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن إيحاء كإيحائنا إلى الأنبياء قبلك، فلست بدعا من الرسل، وهم قد آمنوا بهم، فكيف يطلبون منك أن تنزل عليهم كتابا من السماء، على أنهم لو آمنوا حقيقة بالرسل لآمنوا بك فالوحى جنس واحد لم يتغير، وفي كتبهم البشارة بك ووصفك. وحقيقة الإيحاء كما قال المرحوم الشيخ محمد عبده في رسالة التوحيد: (عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة) .. إنا أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى المشهورين من الأنبياء قبلك كنوح، وخص بالذكر أولا لأنه أقدم نبي مرسل، على أن قومه كذبوه فعذبوا. وهو الأب الثاني للبشر، وأوحى إلى النبيين من بعده لا سيما إبراهيم- عليه السلام- أبو الأنبياء، والذي يدين له العرب وأهل الكتاب، وإسماعيل ابنه الأكبر وأبو العرب وجد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وإسحاق ابن إبراهيم أبو يعقوب المسمى بإسرائيل وإليه تنسب اليهود، والأسباط وهم حفدة يعقوب، وقيل: أولاده لصلبه وعددهم عشرة أولاد يوسف واثنان فكان المجموع اثنى عشر، وهم في نسل إسحاق كالقبائل في نسل إسماعيل، وعيسى ابن مريم وقدم على غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 لأنه محل طعن اليهود، وأيوب ويونس وهارون وسليمان بن داود، وخص هؤلاء جميعا بالذكر مع اندراجهم في لفظ النبيين لشرفهم وكرامتهم على الله. وآتينا داود كتابا زبورا، قال القرطبي: كان فيه مائة وخمسون سورة ليس فيها حكم من الأحكام وإنما هي حكم ومواعظ وتمجيد وثناء على الله تعالى ... وأرسلناك كما أرسلنا رسلا غير هؤلاء قد قصصناهم عليك من قبل في سورة الأنعام وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [سورة الأنعام آية 84] الآيات وأجمع السور لقصصهم سورة هود والشعراء. وهنا أرسلنا رسلا لم نقصصهم عليك لأن أممهم مجهولة غير معروفة وليس في ذكرهم كبير فائدة وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ [هود 120] . وكلم الله موسى تكليما، وخص موسى بهذه الكرامة على سبيل التأكيد لأن قومه هم المقصودون بالحديث، وقد كلم الله موسى تكليما خاصا ممتازا عن غيره، أما كيف كان؟ وهل كان مشافهة أم لا. فالله أعلم بذلك كله، على أن وقوفنا على أسرار الأثير واستخدامه، ونقل الحديث بالراديو والتليفزيون جعل الاعتراضات القديمة شيئا بسيطا لا يعبأ به، فالله الذي أقدر بعض المخلوقات على الوصول إلى هذا قادر جدا على خلق أشياء ليس لها مقياس معروف ولا حد مألوف. وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ [سورة الشورى آية 51] والظاهر أن تكليم موسى- عليه السلام- كان من النوع الثاني. والخلاصة: أنا أوحينا إليك يا محمد كما أوحينا إلى فلان وفلان من الأنبياء وآتيناك كتابا كما آتينا بعضهم كتابا، وأرسلناك للناس كافة رسولا كما أرسلنا لهم رسلا، فما لهؤلاء القوم يفرقون بين نبي ونبي؟! ويؤمنون ببعض ويكفرون ببعض. أرسلنا أولئك الرسل الذين قصصنا عليك بعضا منهم، مبشرين من يؤمن بالله ورسله واليوم الآخر بالثواب الأبدى: جنة المأوى خالدين فيها أبدا، ومنذرين من يكفر بالله ورسله واليوم الآخر بالعقاب الصارم نارا وقودها الناس والحجارة، أرسلنا رسلنا لئلا يكون للناس على الله حجة وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى [سورة طه آية 134] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 وحجتهم أنهم يقولون: لولا أرسلت إلينا رسلا تبين لنا الشريعة وتعلمنا ما لم نكن نعلم! إذ القوة البشرية مهما تكن تعجز عن إدراك كل جزئيات الخير والشر، على أن عامة الناس لا يفرقون بين الضار والنافع مع احتياج الكل إلى قادة يقودونهم إلى الصراط المستقيم صراط الله العزيز الحميد: ومن الذي كان يأتى بأخبار الغيب من حساب وجزاء، وثواب وعقاب؟؟ ... وما أتى به الرسل موافق لسنن الفطر السليمة، ملائم للطبائع الزكية، ومع ذلك يترتب عليه ثواب عظيم وعقاب أليم. وكان الله عزيزا لا يغلبه متعنت ولا مكابر، حكيما في كل صنع صنعه وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [سورة الإسراء آية 15] . وهؤلاء اليهود قد أنكروا نبوة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولم يشهدوا برسالته وهي أوضح من الشمس فسألوه كتابا من السماء. إنهم لا يشهدون بذلك ولكن الله يشهد بالقرآن وكفى به شاهدا، فالله أنزله عليك بعلمه الخاص لا يعلمه سواه، ولقد صدق الله في وصفه ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ «1» تحدى به الكل فعجزوا قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «2» وهو القرآن الكامل في كل شيء المشتمل على قوانين وشرائع تكفل لمن يتبعها حياة سعيدة وعزة ورخاء!! وانظر إلى قوله: أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ تجد القرآن لا يمكن أن يصدر عن علم بشر، وخاصة إذا كان يعيش في البيئة العربية قبل الإسلام، ولعل هذا هو محط الشهادة. فكأن القرآن بهذا يشهد للنبي بصدقه، ولسان حاله: صدق محمد في كل ما يبلغه عن ربه، والملائكة ومنهم جبريل يشهدون لك بالرسالة فثبتت شهادة الله تعالى بما أنزله عليك من القرآن إذ لا يستطيع أحد أن يأتى بمثله ولو اجتمع الإنس والجن، ولا يعقل أن يكون من وضعك فأنت النبي الذي نشأ في بيئة جاهلة. قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ «3» .   (1) سورة البقرة الآية 2. (2) سورة الإسراء الآية 88. (3) سورة الأنعام الآية 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 جزاء الكافرين [سورة النساء (4) : الآيات 167 الى 170] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169) يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170) المعنى: بعد أن دلت الآيات على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وأنه لا حجة للكفار المعاندين، وأن الله شهيد له بما أنزله عليه بعلمه من آيات القرآن، أخذ ينذر الكفار ويهددهم بالعذاب الشديد، وينذرهم سوء العاقبة وبئس المصير، إن الذين كفروا بالله ورسوله وصدوا عن سبيل الله بأعمالهم التي يقلدهم فيها غيرهم. قد ضلوا وأضلوا ضلالا بعيدا عن الصواب جدا. إن الذين كفروا وظلموا أنفسهم وغيرهم باتباعهم الشيطان وبعدهم عن هدى الرحمن، لم يكن من شأن الله وصفته أن يغفر لهم، فالله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ولم يكن ليهديهم ويوفقهم إلى طريق أبدا إلا طريق جهنم وبئس المصير، فهم قد ملأوا النفس والقلب من ظلام الكفر والضلال حتى لم يعد فيه متسع للنور والهداية، هؤلاء لهم جهنم خالدين فيها خلودا أبديا الله أعلم به يتناسب مع ما قدموا من أعمال، وما جبلوا عليه من خصال، وكان ذلك على الله سهلا ويسيرا. يا أيها الناس: وقد جاءكم الرسول الكامل والمعهود عند أهل الكتاب، جاءكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 بالقرآن والحق والخير والهدى والعلاج، فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم، آمنوا واقصدوا خيرا لكم وإن تكفروا فاعلموا أن الله معذبكم ومجازيكم على كفركم فليس هناك عذر لمعتذر وليس وراء الموت إلا الجنة أو النار، وليس يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض، ولا يجهل شيئا فيهما، وهو الغنى عن عبادتكم، وما ذلك كله إلا أن لله ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا وحكما، سبحانه وتعالى العليم بخلقه الحكيم في صنعه. المسيح ابن مريم في نظر القرآن [سورة النساء (4) : الآيات 171 الى 173] يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171) لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (173) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 المفردات: لا تَغْلُوا الغلو: مجاوزة الحد من جهة التفريط أو الإفراط. وَكَلِمَتُهُ المراد أنه حدث بكلمة (كن) التكوينية لا بمادة أخرى كغيره من الناس. وَرُوحٌ وجد بنفخ من روح الله وهو جبريل. سْتَنْكِفَ الاستنكاف: الامتناع عن الشيء أنفة وكبرا. الاستكبار: أن يجعل الإنسان نفسه كبيرة غرورا منه وإعجابا بها. المناسبة: بعد أن حاج اليهود وألزمهم كلمة التقوى والطريقة المثلى، أردف ذلك بمحاجة النصارى، وألزمهم جميعا الرأى الوسط في عيسى ابن مريم. المعنى: يا أهل الكتاب لا تكونوا مغالين في الدين ومجاوزين الحدود فيه، فلا تكفروا بعيسى وتبهتوا أمه، وتحقروه وتهينوه كما فعلت اليهود، ولا تعظموه وتقدسوه حتى تجعلوه إلها أو ابن الإله كما فعلت النصارى، ولا تقولوا على الله إلا القول الحق الثابت بالنقل المتواتر، الذي يستحيل معه الكذب، أو المؤيد بالحجج الدامغة، أما القول بالحلول واتخاذ الصاحبة والولد فكذب وبهتان وخرافة ووثنية وموسى وعيسى والأنبياء جميعا برآء منها. إنما المسيح عيسى ابن مريم البتول الطاهرة الصديقة النقية التي أنبتها الله نباتا حسنا، وكفلها زكريا الرجل الصالح والتي برأها القرآن الكريم. إنما المسيح عيسى رسول الله إلى بنى إسرائيل، أمرهم بالمعروف، ونهاهم عن المنكر، وأمرهم بعبادة الله وحده، ونهاهم عن الكفر به والشرك والتثليث وزهدهم في الدنيا، وحثهم على التقوى، وبشرهم بخاتم النبيين والمرسلين وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ ... [سورة الصف آية 6] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وهو مكون بكلمة (كن) التكوينية إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران 47] نعم كل مولود له سبب ظاهر وهو اتصال الجنسين، وله سبب حقيقى وهو إرادة الله المعبر عنها بكلمة (كن) فلما انتفى مع عيسى السبب الأول بالبرهان ثبت أن عيسى خلق بالسبب الثاني وهو كلمة (كن) أوصلها الله مريم بواسطة جبريل إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ [سورة آل عمران آية 45] . وهو مؤيد بروح كائنة منه- سبحانه وتعالى- لا بعضا منه كما فهم المسيحيون، وإلا لكان كل شيء بعضا من الله بدليل قوله: وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ [الجاثية 13] وكونه مؤيدا بروح منه يؤيده قوله: وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ [البقرة 87 و 253] وقيل: المعنى: أن عيسى خلق بنفخ من الله وهو جبريل، ويوضحه قوله تعالى: وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا [الأنبياء 91] فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا [سورة مريم آية 17] . وقال بعضهم: المعنى: أن المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم ورحمة منه ويقويه قوله تعالى: وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا [سورة مريم آية 21] ، وما لنا نعجب من خلق عيسى بلا أب؟ حتى تنكب المسيحيون طريق الحق وانغمسوا في الشرك والتثليث هذا!! فهذا آدم خلق بلا أب وأم إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ [سورة آل عمران آية 59] وهذه حواء خلقت من آدم فقط!! وبماذا نرد أصول الحيوانات جميعا!! وكما يقولون: هل البيضة أصل أم الفرخة؟ أيا كان فمن الذي أوجد الأصل الأول من الفرخة أو البيضة؟ هو الله: بلا تناسل وبدون تزاوج معروف. ومن الغريب أن بعض النصارى يفهمون قوله تعالى: رُوحٌ مِنْهُ أن عيسى ابن الله أو جزء الإله أو ثالث ثلاثة، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، والذي أوقع المسيحيين في هذا هو التشابه في التوراة والإنجيل، وما وصل إليهم عن طريق الوثنيين من اليونان والرومان والمصريين القدامى والبراهمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 فالديانة المسيحية الصحيحة مبنية على أساس التوحيد البريء لله سبحانه ذاتا وصفة وفعلا، ولكن الكنيسة أدخلت هذه الوثنيات والعقائد الزائفة في عقول أبنائها لأمر في نفوس القوم، ولما رأوا القرآن يعارضهم في ذلك كذبوه وأنكروا، وهو الذي برأ مريم من قول اليهود!! ووضع عيسى الموضع اللائق ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ [سورة مريم آية 34] وفي أقوال الأحرار من المسيحيين ما يؤيد هذا وهي موجودة في كتاب الشيخ رشيد رضا (تفسير الشيخ محمد عبده) الجزء السادس من تفسير هذه الآية. وفي كتاب (إظهار الحق) . وإذا كان الأمر كذلك فآمنوا بالله الواحد الأحد، الفرد الصمد، لم يلد، ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ... وآمنوا برسله جميعا لا فرق بين نبي ونبي، ولا تقولوا الآلهة ثلاثة (الأب والابن وروح القدس) أو الله ثلاثة أقانيم كل منها عين الآخر وكل منها إله كامل ومجموعها إله واحد. فإن هذا إشراك بالله وترك للتوحيد الذي هو ملة أبيكم إبراهيم وهذا كلام ينافي العقل الراجح والفكر السليم إذ كيف يكون واحدا وثلاثة وكيف يحل الإله في بعض خلقه؟ وكيف يتحدد، وهل طبيعة الإله كطبيعة البشر؟ أظن لا!! بل طبيعة البشر تتنافى مع طبيعة الملك فهذا لا يأكل ولا يشرب، وعيسى وأمه يأكلان ويشربان! وما ميزة عيسى على غيره من الأنبياء؟ أرسل مؤيدا بالمعجزات وكانت كغيرها لم تجر على سنن الطبيعة بل بقدرة الله وقوته كما نص القرآن الكريم، وموسى الكليم، ومحمد كذلك. فكيف تقولون: عيسى إله؟ - انتهوا خيرا لكم، وقولوا قولا حسنا يكن خيرا لكم، وأجدى من هذا العبث والوثنية والعصبية الحمقاء. إنما الله إله واحد، لا إله إلا هو، سبحانه وتعالى عما يشركون! سبحان أن يكون له ولد فليس المسيح ابنه إذ الولد يقتضى اتصالا جنسيا بالأم، وحاجة إليه، وإلى أمه، حتى يبرز إلى الوجود أفيليق هذا! لا: يا قوم! الله له ما في السموات وما في الأرض، ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً [سورة مريم آية 93- 95] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 لا فرق في ذلك بين الملائكة والنبيين والناس أجمعين! وهل الإله في حاجة للولد؟ ليقيم اسمه، ويحفظ ذكره، ويرثه بعد موته، وهل هو في حاجة إلى الولد ليعينه؟ كلا فالله قوى قادر، مالك الملكوت، حي دائم باق بعد فناء خلقه، صاحب الأمر والتصريف، وكفى بالله وكيلا!؟ وهذا عيسى نفسه يقول في إنجيل يوحنا: (وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته) فهذا نص صريح في أن المسيح رسول الله فقط، وفي الإنجيل أيضا: (من يقبلكم يقبلني ومن يقبلني يقبل الله الذي أرسلنى لن يتكبر المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة الذين هم أعظم من المسيح خلقا وقوة، فهم أعلم بذات الله ومكانته) . ومن يستنكف عن عبادة الله وحده ويتكبر ويدعى الإشراك أو التثليث فسيحشرهم إليه جميعا ويجازيهم على كل ذلك. فأما المؤمنون بالله وحده والعاملون الصالحات فيوفيهم أجورهم كاملة، ويزيدهم من فضله فهو واسع الفضل كثير الخير. وأما الذين استنكفوا وتكبروا فهم المعذبون عذابا أليما في الدنيا والآخرة ولا يجدون لهم من دون الله وليّا ولا نصيرا يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ الدعوة العامة [سورة النساء (4) : الآيات 174 الى 175] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 المناسبة: بعد أن حاج القرآن النصارى فأفحمهم. ومن قبل حاج اليهود فألزمهم، وناقش المنافقين وكشف سترهم، وظهرت نبوءة محمد صلّى الله عليه وسلّم ظهور الشمس في رابعة النهار، نادى الناس جميعا ودعاهم إلى اتباعه. المعنى: أيها الناس: قد جاءكم برهان واضح، ونور ساطع، يبين لكم حقيقة الإيمان بالله، وهو رسول من أنفسكم، عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم، بالمؤمنين رؤوف رحيم، ذلك البرهان هو محمد صلّى الله عليه وسلّم النبي العربي الأمى، الذي نشأ في الجاهلية. لم يجلس إلى معلم، ولم يؤدبه مؤدب، ولم يتعلم في جامعة ولم يتخرج في معهد. ولم يعد إعدادا لتحمل أكبر رسالة في الوجود من إنسان!! كان في شبابه الأمين الصادق، وعند رجولته الكاملة كان الداعية إلى الله بأقوى أسلوب، وأوضح بيان، وقد كان المثل الأعلى في عمله، وعلمه، ورسالته، وسياسته وقيادته، وزعامته، فحقا أدبه ربه فأحسن تأديبه، نعم كان برهانا على صدق رسالته اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سورة الأنعام آية 124] . وأنزل الله إليكم مع هذا البرهان، نورا مبينا هو القرآن الكريم، ظهر في الوجود، بعد ما عميت القلوب، وغشيت الأبصار من الوثنية المشركة، واليهودية الكاذبة، والمسيحية الضالة، ظهر في الكون فأنار الوجود، وأضاء القلوب، وأحيا النفوس. وأوضح الطريق لعبادة الله حق العبادة، وكان محكم التنزيل، كاملا في السياسة والاقتصاد، والاجتماع والعمران والعلوم الكونية والإلهية والسياسة الحربية للأمم، فحقا هو حبل الله المتين وهو النور المبين وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [سورة الشعراء آية 192- 195] .. فمن تأمل هذا البرهان القوى، وذلك النور السماوي، ظهر له أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم برهان من الله وحجة على أحقية هذا الدين، وأن كتابه القرآن أنزله الله بعلمه وشهد له بصدقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 فأما الذين آمنوا به واتبعوا نوره واعتصموا بحبله فسيدخلهم ربهم في رحمته وفضله في الدنيا والآخرة ويهديهم إلى صراطه المستقيم، فمن يعمل بالقرآن وحكمه كانت له العزة في الدنيا والكرامة، وفي الآخرة الجنة والرضوان والسلامة. حق الإخوة في الميراث [سورة النساء (4) : آية 176] يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَنِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176) المفردات: الْكَلالَةِ تقدم تفسيرها. هَلَكَ: مات. سبب النزول: روى أحمد والشيخان عن جابر بن عبد الله قال: دخل علىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا مريض لا أعقل، فتوضأ ثم صب فعقلت فقلت: إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فنزلت آية المواريث ، يريد هذه الآية. وقال الخطابي: أنزل الله في الكلالة آيتين إحداهما في الشتاء وهي التي في أول السورة وفيها إجمال، ثم أنزل الأخرى في الصيف وفيها كمال البيان وقيل: إنها من آخر الآيات نزولا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 المعنى: يطلبون منك الفتيا أيها الرسول فيمن يورث كلالة جابر بن عبد الله الذي ليس له ولد وارث ولا والد، وله إخوة من أب وأم. وإن هؤلاء لم يفرض لهم شيء. وإن الذي تقدم أول السورة في الأخ لأم ونصيبه السدس، فإن زاد فالثلث فقط كنصيب أمه. إن امرؤ مات، وليس له ولد ولا والد وله أخت لأب أو شقيقة (لأب وأم) فلها نصف ما ترك. وهو يرثها إن لم يكن لها ولد ذكر أو أنثى على الصحيح. فإن كان يرث بالأخوة أختين فلهما الثلثان مما ترك أخوهما، وكذا إن كن أكثر من اثنتين كأخوات جابر فقد كن تسعا، وفي رواية: سبعا، فلهن الثلثان والباقي لمن يوجد من العصبة على ما هو مفصل في أبواب الميراث. وإن كان الإخوة رجالا ونساء فللذكر مثل الأنثيين في حظهما وهو الثلثان. يبين الله لكم هذه الأحكام لتعرفوها وتعملوها بها فلا تضلوا أبدا، والله بكل شيء عليم، فعليكم التمسك بهذه الأحكام إذ هي مصدر الخير والبركة لكم.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 سورة المائدة مدنية إلا قوله تعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ (الآية) ، فقد روى في الصحيحين عن عمر أن هذه الآية نزلت عشية عرفة يوم الجمعة عام حجة الوداع، وآياتها مائة وعشرون آية. وهي كسورة النساء كلاهما مشتمل على عدة عهود وأحكام، وفيهما ذكر لأهل الكتاب والمنافقين، وقد مهدت سورة النساء لتحريم الخمر ثم جاء تحريمها قاطعا في المائدة، وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قرأ سورة المائدة في حجة الوداع وقال: «يا أيها الناس إن سورة المائدة آخر ما نزل فأحلوا حلالها وحرموا حرامها» . الوفاء بالعهود [سورة المائدة (5) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ وَلا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْواناً وَإِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى وَلا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 المفردات: أَوْفُوا الوفاء: الإتيان بالشيء وافيا كاملا لا نقص فيه. بِالْعُقُودِ: بالعهود المؤكدة الموثقة، وهي تشمل عقود الشرع فيما أحل وحرم وفرض، وعقود الناس بعضهم مع بعض في البيع والشراء والمناكحة وغير ذلك. بَهِيمَةُ: وهي ما لا عقل لها، سميت بذلك لإبهام أمرها من جهة نقص نطقها وفهمها وعدم تمييزها وعقلها، وخصها العرف بذوات الأربع من حيوان البر والبحر. الْأَنْعامِ: هي الإبل، والبقر، الشامل للعراب الجواميس، والضأن الشامل للخراف والمعز، وألحق بها الظباء وبقر الوحش وحمره. شَعائِرَ: جمع شعيرة، مأخوذ من الشعور والإعلام، والمراد معالم دينه، وخصت بمناسك الحج. الْهَدْيَ: ما يهدى إلى الحرم ويذبح فيه للفقراء. الْقَلائِدَ: جمع قلادة، وهو ما يعلق في العنق. آمِّينَ: قاصدين. لا يَجْرِمَنَّكُمْ: لا يحملنكم ولا يكسبنكم. شَنَآنُ: بغضهم بغضا شديدا. الْبِرِّ: ما اطمأن إليه القلب. الْإِثْمِ: كل ذنب ومعصية، وهو ما حاك في الصدر وخفت أن يطلع عليه الغير. المعنى: هذا بيان للناس من الله ورسوله، فيا من اتصفتم بالإيمان وتطهرت قلوبكم من دنس الشيطان أوفوا بالعقود التي عقدتموها بينكم وبين الله أو بينكم وبين أنفسكم، أو بينكم وبين الناس. ومن كل ما أمر به الشرع ونهى، أو تعاقدتم عليها كالبيع والشراء والنكاح ... إلخ، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «المسلمون عند شروطهم» وقال: «كل شرط ليس في كتاب الله فهو باطل» وقال: «من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد» فإذا يجب الوفاء بالعقود والعهود، بشرط أن توافق الشرع الشريف. ولقد أخذ القرآن الكريم يفصل تلك العهود المأخوذة علينا من قبله، مع أن فيها بيانا لنعمه التي تحملنا على الوفاء بالعهود. أحلت لكم بهيمة الأنعام كلها إلا ما يتلى عليكم من المحرمات العشر الآتية، والأنعام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 لا تشمل ذوات الحافر من الخيل والبغال والحمير، وكذلك السباع وكل ما له ناب يعتمد عليه في الاعتداء على غيره. حالة كونكم غير محلى الصيد في الإحرام، فالذي يجلس في الحرم ولو لم يحرم أو من أحرم بالحج والعمرة ولو لم يكن في الحرم. يحرم عليه الاصطياد والأكل منه. إن الله يحكم بما يريده من الخير لكم أيها المؤمنون، فانظروا مواقع أحكامه تجدوها عين الخير والصواب. وانظر- رعاك الله ووفقك- تجد الآية اشتملت على أمر بالوفاء بالعهد ونهى عن نقض الوعد، وإحلال الأنعام، واستثناء بعد استثناء، وإخبارا عن قدرته وحكمته، كل ذلك في سطرين، وتبارك الله أحسن الخالقين. يا أيها الذين آمنوا: لا تحلوا شعائر الله ولا تتهاونوا في معالم الدين مطلقا خصوصا مناسك الحج ومشاعره، على معنى: لا تتعدوا حدود الله، ومكنوا المسلمين جميعا من أداء مناسك الحج. ولا تتهاونوا في حرمة الشهر الحرام وهو جنس يشمل الأربعة الحرم (ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب) تلك الأشهر الحرم لا تقاتلوا فيها المشركين كما روى عن ابن عباس وقتادة، ولا تبدلوها بغيرها ولا تعترضوا الهدى الذي أهدى للحرم بالأخذ أو التعرض له حتى لا يصل إلى الكعبة، ولا ذوات القلائد من الأنعام، وخصت بالذكر مع اندراجها في الهدى تشريفا لها واعتناء، وقيل: المراد أصحاب القلائد من الكفار، ولا تعترضوا الآمّين البيت الحرام والقاصدين له، فالمعنى: أن الله يوجب على المسلمين أن يكون زمان الحج ومكانه وقت أمان واطمئنان، لا خوف ولا قلق للحاج حتى يكون آمنا على نفسه وماله فالحجاج يبتغون فضلا من الله ورضوانا، ومن كان كذلك وجبت المحافظة عليه. وإذا تحللتم وخرجتم من الإحرام وأنتم في غير أرض الحرم فاصطادوا كما تشاءون، فإن المحّرم الصيد وأنتم محرمون أو أنتم في أرض الحرم وإن لم تكونوا محرمين، فإذا تحللتم من هذين فلا إثم عليكم في الصيد وأكله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 ولا يحملنكم بغض قوم لأنهم صدوكم عن المسجد الحرام عام الحديبية، لا يحملنكم هذا على الاعتداء عليهم بغير حق، فالعفو والصفح خير. وتعاونوا على البر وهو ما تطمئن إليه القلوب وتسكن من كل خير وطلب الشرع الشريف على سبيل الأمر والنهى، ولا تتعاونوا على الإثم وهو ما حاك في الصدر وخفت أن يطلع عليه غيرك من كل ذنب ومعصية لله، ولا تتعاونوا على العدوان على حق الغير، وهذا من جوامع الكلم الشامل لكل معروف ومنكر وكل خير وشر. فالقرآن يأمرنا بالتعاون على كل ما ينفع الأمة في دينها ودنياها، ولا شك أن هذا مبدأ اجتماعي خير، فالأمم وقد تكاثرت أفرادها وتشعبت اتجاهاتها، وتعددت مصالحها، أصبح لا يؤثر فيها مجهود الفرد مهما كان قويا، بل لا بد من تعاون غيره وتسانده معه، ومن ثم كانت الجمعيات الدينية والتكتل للخير، من أقوى دعائم النجاح والفلاح في هذا العصر. وقد كان المسلمون في العصر الأول يتعاونون على البر والتقوى بدون حاجة إلى تكتل وارتباط لأن الكل مرتبط بعهد الله وميثاقه، أما نحن اليوم ففي أشد الحاجة إلى توحيد الاتجاهات حتى تأتى الدعوة إلى الله بثمرها الطيب، واتقوا الله أيها الناس إن الله شديد العقاب فاحذروه. وإياكم ومخالفة أمره. المحرمات من المطعومات [سورة المائدة (5) : آية 3] حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 المعنى: إن الله تعالى أحل لنا أكل بهيمة الأنعام وسائر الطيبات من الحيوان الذي يعيش في البر والبحر والجو يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ. أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ وإنما حرم علينا أربعة أنواع بالإجمال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ [سورة النحل آية 115] . وفي هذه الآية ذكر المحرم وهو عشرة: الميتة: وهي ما ماتت وحدها بدون فعل فاعل، وفي الشرع: هي التي لم تذكّ ذكاة شرعية، وقد حرمت لما فيها من الضرر إذ الغالب أنها ماتت من مرض، وبقي فيها مكروبه وجراثيمه التي تعيش في الدم بعد الوفاة، أما إذا ذكيت فإن الدم الذي يحمل الجراثيم أو أغلبه ينزل منها، على أنها مما تعافها النفوس الطيبة وتأنف من أكلها الطباع السليمة. الدم: والمراد به المسفوح لا المتجمد كالكبد والطحال، إذ هو مباءة للجراثيم الفتاكة، على أنه مستقذر عند الطبع السليم، مما يعسر هضمه وهو من فضلات الجسم الضار، كالبراز، فدل ذلك على أنه لا يحل أكله أبدا. ولحم الخنزير: وهو ثالثة الأثافى، والمراد لحمه وعظمه ودهنه، وهو حيوان قذر لا يأكل إلا القاذورات والمواد العفنة، وقد أثبت الطب الحديث أن أكله يولد الدودة الشريطية، والدودة الوحيدة، والحلزونية، على أنه عسير الهضم، ضار بالمعدة ضررا بالغا، ولولا ما يستعين به بعض الغربيين من الأدوية ما أكلوه، على أن أكثر الدول حرمت ذبحه، وهل تقبل النفوس الطيبة على أكل حيوان كهذا؟ والإسلام حينما حرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 الكلب والخنزير لم يكن متعديا ولا متجنيا، بل لما فيهما من الضرر والخطورة، وإنما ينظر الشرع للجماهير والشعب لا لبعض أفراد يعنون بكلابهم مثلا فلا يطعمونهم إلا شهى اللحم!!! ما أهل لغير الله به: والإهلال رفع الصوت، وقد كانوا يرفعون صوتهم عند الذبح في الجاهلية بقولهم: باسم اللات والعزى ... إلخ. فما ذبح وقد ذكر عليه اسم غير الله كان حراما أكله، إذ أكله مشاركة لأهله في عبادة غير الله، وهذا مما يجب إنكاره لا المشاركة فيه. المنخنقة: هي ما ماتت خنقا بأى شكل كان، وهي نوع من الميتة التي لم تذك ذكاة شرعية، وإنما خصها القرآن بالذكر مع اندراجها في الميتة لئلا يظن أنها ماتت حتف أنفها بل بفعل فاعل فتحل، ولكن الشرع شرط الذكاة ليتأكد الإنسان مما يأكل ويثق من أن ما يتغذى به سليما من هذا الدم الفاسد الذي يراق بالذبح. الموقوذة: هي التي ماتت بعصا أو بحجر بلا ذكاة شرعية وكانوا يأكلونها في الجاهلية، والوقذ يحرم في الإسلام لأنه تعذيب للحيوان شديد، وليست معه ذكاة ومن هنا حرمت. ويدخل في الموقوذة ما رمى بعصا أو حجر ليس له حد، وما رمى بالبندق «وهو كرة من الطين تجفف ويرمى بها بعد يبسها» وكذا الحصاة فإن هذا كله لا يفقأ عينا ولا ينكى عدوا ولا يحرز صيدا وليس سببا للقتل غالبا أما الرصاص المستعمل الآن في سلاح الصيد فجائز شرعا على الصحيح. المتردية: هي ما سقطت من مكان عال كجبال، أو هوت في بئر بسبب ذلك هي كالميتة لا يحل أكلها بدون تذكية، ويجوز عقرها في أى مكان للضرورة فتحل. النطيحة: وهي ما نطحتها بهيمة أخرى فماتت، وهي حرام كالميتة. ما أكل السبع: وهي ما قتلت بافتراس حيوان كالسبع والذئب والنمر مثلا، والمراد ما بقي منها بعد السبع لا ما أكلت كلها، وكانوا في الجاهلية يأكلون ما بقي من السباع والوحوش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 إلا ما ذكيتم: أى: إلا ما أدركتموه حيا مما سبق فذكيتموه من المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، وما أكل السبع جزءا منه، وما أهل لغير الله به. فإذا كانت فيه حياة ولو بسيطة بأن يطرف عينا أو يضرب برجل أو يد ثم ذكيتموه ذكاة شرعية صار حلالا، وإلا فلا. أما الميتة والدم ولحم الخنزير فلا تحل أصلا ذكيت أم لا. ما ذبح على النصب: وهو آخر المحرمات العشر، والنصب: حجارة حول الكعبة، قيل: كان عددها ثلاثمائة وستون حجرا، وكان أهل الجاهلية يذبحون عليها تقربا للأصنام، وهو نوع مما ذكر عليه اسم غير الله فحرم أكله لهذا. وقد أضاف القرآن الكريم إلى محرمات الطعام التي كان الجاهليون يستحلونها خرافة أخرى كانوا يعملونها وهي: الاستقسام بالأزلام: أى معرفة ما قسم له بواسطة الأزلام وكانت ثلاثة أنواع في الجاهلية، نوع كان مع الشخص وعدده ثلاثة مكتوب على واحد (افعل) والثاني (لا تفعل) والثالث غفل. النوع الثاني سبعة قداح، واحدها قدح، وكانت عند هبل في جوف الكعبة، مكتوب عليها ما يدور بين الناس من النوازل. النوع الثالث قداح الميسر، وعددها عشرة، سبعة منها فيها حظوظ وثلاثة غفل ... إلخ، ما هو معروف. أى: حرم عليكم معرفة ما قسم لكم بالأزلام، والحكمة في هذا أنه من الخرافات والأوهام التي تعوق نشاط الفرد والأمة ومدعاة للكسل والسير على غير بصيرة وهدى، على أنها تجعل الناس ألعوبة في يد الكهان، والإسلام برىء من هذا كله. وفي هذه الأيام شاعت معرفة الحظ والاستقسام بأوراق (الكوتشينة) و (الودع) و (الفنجان) وهذا كله منكر شرعا لا يليق بعقل المسلم. على أن معرفة الحظ والنصيب بواسطة المسبحة أو المصحف شيء لا يعرفه الشرع ولا القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 والاستخارة الواردة شرعا: أن يصلى الإنسان ركعتين نفلا للاستخارة ثم يدعو الله بدعاء يشرح به صدره لما يريده إن كان خيرا له في دينه ودنياه، وللنبي صلّى الله عليه وسلّم دعاء في الاستخارة موجود في كتب الحديث. كل المحرمات التي ذكرت لكم فسق وخروج عن الدين والمألوف من الحكمة والعقل. اليوم وهو يوم عرفة في حجة الوداع يئس الكفار من التغلب على دينكم ويئس الشيطان من أن يعبد غير الله في أرضكم، وعلى ذلك فلا تخشوا أحدا إلا الله، ولا يهمنكم أمر الكافرين فقد عصمكم الله منهم، واخشوا الله واتقوه ولا تخالفوه في شيء أبدا. اليوم أكملت لكم دينكم بإحلال الحلال وتحريم الحرام حتى صار كل شيء بينا واضحا لا لبس فيه ولا غموض، وكفيتكم أمر عدوكم وجعلت اليد العليا لكم، وأتممت عليكم نعمتي فلم يحج معكم مشرك أبدا، وقد تحقق الوعد، وفتحت مكة، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وجاءكم النصر ورضيت لكم الإسلام دينا، واخترته لكم وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «1» . كل ما ذكر من المحرمات العشر حرام على المسلمين جميعا إلا المضطر الذي حمل قهرا على تناول ما يضره كأن يكون في مخمصة تخمص لها البطون، أى: تضمر، فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر من المحرمات بشرط أن يكون غير مائل إليه لذاته ولا جائر فيه ولا متجاوز قدر الضرورة، فإن الله غفور له ولمثله رحيم بخلقه.   (1) سورة آل عمران آية 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 الحلال من المطعومات [سورة المائدة (5) : الآيات 4 الى 5] يَسْئَلُونَكَ ماذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4) الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَطَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَالْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5) المفردات: الطَّيِّباتُ: جمع طيب، وهو ضد الخبيث. الْجَوارِحِ: جمع جارحة، وهي الصائدة من الكلاب والفهود والطيور. مُكَلِّبِينَ: من التكليب وهو: تعليم الكلاب ثم استعمل في تعليم الجوارح مطلقا. وَالْمُحْصَناتُ قيل: هن الحرائر، وقيل: العفيفات عن الزنا. مُسافِحِينَ: مجاهرين بالزنا. مُتَّخِذِي أَخْدانٍ: مسرين بالزنا، والخدن: الصديق. حَبِطَ عَمَلُهُ: بطل ثواب عمله. سبب النزول: روى أن عدى بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين سألا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالا: يا رسول الله قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا؟ فنزلت ، وروى أن عدى بن حاتم الطائي أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فسأله عن صيد الكلاب فلم يدر ما يقول حتى أنزل الله هذه الآية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 المعنى: الله- سبحانه وتعالى- سخر لنا ما في السموات والأرض لننتفع به في وجوه النفع من الأكل والشرب واللباس والزينة ... إلخ. ولذا كان الأصل في الأشياء الحل إلا أن هناك نفوسا حرمت الطيب وأحلت المحرم وخاصة في المطعومات فبين الله لنا ما حرم وما أحل لا سيما بعد سؤال الناس عن هذا. يسألك المؤمنون أيها الرسول: ماذا أحل لهم من الطعام واللحوم؟ قل: أحل لكم الطيبات، أى: غير الخبيثات، وصيد ما علمتم من الجوارح المعلمة، وما هي الطيبات؟ هي: كل ما لم يرد نص بتحريمه واستطابته النفوس الطيبة المعتدلة المزاج، والمتوسطة في المعيشة. فقد ورد نص بتحريم المحرمات العشر الماضية في القرآن، وورد عن ابن عباس (نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن كل ذي ناب من السباع وكل ذي مخلب من الطير) والسبع عند الشافعى ما يعدو على الناس والحيوان، وعند أبى حنيفة كل ما أكل اللحم ويمكن أن يقال: ما لم يرد فيه نص قسمان: حلال طيب، وحرام خبيث. وهل العبرة في التميز ذوق أصحاب الطباع السليمة من العرب أو يعمل كل أناس وجماعة بحسب أذواقهم؟ قولان. وقد ثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عاف أكل الضب وأجاز أكله لمن سأله كما في حديث خالد ابن الوليد في الصحيحين وغيرهما. هذا في صيد البر وحيوانه، أما حيوان البحر فكله حلال أكل العشب أو أكل اللحم، أما ما يعيش في البر والبحر كالضفدع والتمساح فلا يحل أكله، وكذا الثعبان والسلحفاة للاستخباث والسم الذي في الثعبان. أما صيد الجوارح فقد اشترط أن تكون الجارحة معلمة ومرسلة من الصائد حتى يكون قتل الجارح للصيد ذكاة شرعية. وإن أتى به حيا ذكاه صاحبه، وضابط التعليم أن تكون الجارحة إذا أغراها صاحبها بالصيد ذهبت إليه، وإذا كفها انكفت وتمسك عليه الصيد فلا تأكل منه شيئا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 فإن أكلت منه فالجمهور على أنه لا يحل لأنه مثل فريسة السبع المحرمة سابقا، وذلك لحديث عدى بن حاتم: أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أرسلت كلابك المعلمة وذكرت اسم الله فكل مما أمسكن عليك إلا أن يأكل الكلب فلا تأكل، فإنى أخاف أن يكون إنما أمسك على نفسه» وفي رواية أخرى: «وإذا أرسلت كلبك المعلم فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حيا فاذبحه وإن أدركته قد قتله ولم يأكل منه فكله، فإن أخذ الكلب ذكاة» . وبعضهم يرى حل ما بقي من الكلب لظاهر الآية ولحديث أبى ثعلبة الخشني: «فكل وإن أكل منه» وبعضهم لا يأكل بقية الكلب ويأكل بقية الطائر. وفي رواية: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن صيد القوس فقال: «ما صدت بقوسك فذكرت اسم الله عليه فكل» وفي رواية أخرى: ذكى أو لم يذك (ذبح أو لم يذبح) وصيد البندقية كالقوس، وبعضهم يشترط في حله الذبح إن أدرك حيا. وما علمتم من الجوارح مكلبين، تعلمونهن مما علمكم الله من أنواع الحيل والتأديب فكلوا مما أمسكن عليكم، واذكروا اسم الله عليه، أى: عند إرسال الكلب، وقيل: عند الأكل، وعلى ذلك فهل التسمية في الآية سنة إن نسيها الشخص فلا حرج؟ روى ذلك عن ابن عباس، وبعضهم يرى أنها واجبة. واتقوا الله في هذه الحدود، وقفوا عندها: إن الله سريع الحساب، لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض. روى أنه يحاسب الناس جميعا في مقدار نصف يوم. أحل لكم الطيبات على سبيل التفضيل، وذبائح الذين أوتوا الكتاب من اليهود والنصارى حلال لكم دون ذبائح المشركين عبدة الأصنام والأوثان، والتسمية عند الذبح قيل: لا بد منها، والأرجح إن ذكر اسم غير الله فلا تأكل من المذبوح، هذا إن سمعته، فإن لم تسمعه يذكر شيئا فكل وهو حلال. وطعامكم أيها المؤمنون حل لهم، فلا جناح عليكم أن تطعموهم أو تبيعوهم شيئا. والمحصنات، أى: الحرائر العفيفات من المؤمنات، والذين أوتوا الكتاب من قبلكم حلال لكم، بشرط أن تؤتوهن مهورهن بقصد الإحصان والإعفاف، لا سفح الماء على طريق الزنا العلنى، ولا عن طريق الزنا السرى وهو اتخاذ الأخدان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 ومن يكفر بالإيمان وفروعه وأصوله، وأحكامه وقوانينه، فقد حبط عمله وبطل أجره وهو في الآخرة من الخاسرين. وعلى العموم: للصيد والذبائح باب واسع في كتب الفقه والحديث يحسن الرجوع إليه لمن أراد المزيد. الوضوء والغسل والتيمم [سورة المائدة (5) : الآيات 6 الى 7] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6) وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) المفردات: وُجُوهَكُمْ: جمع وجه، وهو ما تقع به المواجهة، وحدّه طولا ما بين منبت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 شعر الرأس إلى منتهى اللحيين، وعرضا ما بين الأذنين. الْمَرافِقِ: جمع مرفق، وهو أعلى الذراع وأسفل العضد. الْكَعْبَيْنِ: العظمين الناتئين عند اتصال الساق بالقدم من الجانبيين. جُنُباً أى: أصابتكم جنابة بمجامعة النساء، أو إنزال المنى. بِذاتِ الصُّدُورِ: بصاحبة الصدور، والمراد بها: السر الذي لم يبارح الصدور. المناسبة: بعد أن بين الله- سبحانه وتعالى- عهوده الخاصة بالحلال والحرام في الطعام والنكاح، أخذ يبين ما يقتضيه هذا من الشكر لله والصلاة، ومفتاحها الوضوء والغسل والتيمم، وختم الآية ببيان الحكمة في الطهارة وتذكيرنا بالعهود والمواثيق التي التزمناها، روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «مفتاح الجنة الصلاة، ومفتاح الصلاة الطهور» . المعنى: يا أيها الذين آمنوا: إذا أردتم القيام إلى الصلاة وأنتم محدثون وهذا التقيد بالحدث أتى من السنة الشريفة، فعليكم بالوضوء، فالوضوء واجب عند كل صلاة على المحدث حدثنا أصغر، وإنما يستحب على غير المحدث عند كل صلاة. فقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا يقبل الله صلاة أحدكم إذا أحدث حتى يتوضأ» وروى البخاري عن عمر ابن عامر الأنصارى: سمعت أنس بن مالك يقول: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يتوضأ عند كل صلاة، قال: قلت: فأنتم كيف تصنعون؟ قال: كنا نصلى الصلوات بوضوء واحد ولم نحدث» . فرائض الوضوء: إذا أردتم القيام إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم، واغسلوا أيديكم إلى المرافق، فالمرافق تغسل من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، وامسحوا برءوسكم، امسحوا ولو شعرة واحدة عند الشافعى- رضى الله عنه- وربع الرأس عند الإمام الأعظم أبى حنيفة النعمان، وعلى كل الرأس عند مالك للاحتياط وقد فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 هذا كله، والآية تحتمل كل هذا. إذ الباء في قوله تعالى: بِرُؤُسِكُمْ هل هي للإلصاق أو للتبعيض أو زائدة صلة؟؟ ولا تنس أن خلافهم رحمة، ومن هنا كانت دراسة الأزهر للغة دراسة حرفية أمرا واجبا حتى يتسنى استخلاص الأحكام أو فهمها فهما صحيحا! وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ أى: واغسلوا أرجلكم إلى الكعبين، وهما داخلان كالمرفقين. ومن فرائض الوضوء النية عند الشافعى، واستدل بقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ وبحديث «إنما الأعمال بالنيات» والترتيب كذلك لقوله صلّى الله عليه وسلّم: «أبدأ بما بدأ الله به» وتوسط مسح الرأس بين غسل اليدين والرجلين يدل على الترتيب، وعلى ذلك فتكون فروض الوضوء: النية، وغسل الوجه، وغسل اليدين، ومسح بعض الرأس، وغسل الرجلين، والترتيب، وله سنن كثيرة مذكورة في كتب الفقه. روى الترمذي وغيره عن بعض الصحابة قال: رأيت عليا توضأ فغسل كفيه حتى أنقاهما، ثم مضمض ثلاثا واستنشق ثلاثا، وغسل وجهه ثلاثا، وذراعه ثلاثا، ومسح رأسه مرة ثم غسل قدميه إلى الكعبين ثم قال: «أحببت أن أريكم كيف كان طهور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم» أى: وضوءه. وفي هذا الحديث فروض الوضوء وبعض السنن، وصح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم توضأ مرة مرة، ومرتين مرتين، وأما التثليث فهو السنة التي جرى عليها العمل في الكثير. نواقض الوضوء: ما خرج من السبيلين، النوم على غير هيئة المتمكن، وتلاقى بشرتي ذكر وأنثى، وعند الأحناف: اللمس لا ينقض مطلقا، وقيل: بالشهوة ينقض فقط، وعند الإمام مالك: اللمس ينقض إذا كان بشهوة مقصودة أو وجدها بدون قصد، فإن لم يقصد اللذة ولم يجدها، فلا ينتقض وضوؤه، ومس فرج الآدمي بباطن الكف، وخالف بعضهم في هذا، وليست نواقض الوضوء في الآية ولكن تعميما للفائدة ذكرت، وعلى العموم فللوضوء أحكام كثيرة في كتب الفقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 الغسل: هو تعميم البدن بالماء الطاهر، وله أسباب منها: الجنابة وتكون بإيلاج الحشفة أو قدرها من الذكر في فرج، أو بنزول المنى، وكذا الولادة، وكذا الحيض والنفاس، فمن كان جنبا أو عنده سبب من أسباب الغسل المتقدمة وأراد الصلاة فعليه الغسل مع النية وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا. التيمم: هو ضربتان للوجه واليدين بنية من تراب طاهر له غبار، وقيل: لا يشترط، وله أسباب: وهي تعذر استعمال الماء لمرض أو سفر أو أحدث الشخص حدثا أصغر أو حدثا أكبر (كما تقدم في الغسل) وطلب الماء فلم يجده أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ جامعتم فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً. حكمة مشروعية الوضوء والغسل: غسل البدن كله أو أطرافه مما يبعث النشاط والهمة فيقف العبد بين يدي ربه نشيطا حاضر القلب صافى الروح، وعند حصول سبب من أسباب الغسل كالجنابة أو الجماع مثلا وهو ما يسمى بالحدث الأكبر يعترى الجسم استرخاء وفتور يزولان بالغسل، على أن النظافة من الإيمان (وهي أمر لازم للمسلم من حيث كونه مسلما. ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج حيث أوجب الغسل والوضوء للصلاة وعند فقد الماء أوجب التيمم، ولكن يريد ليطهركم ماديا من الدنس والرجس، ومعنويا من الكسل والفتور ويبعث النفس صافية مشرقة لتناجى ربها، وليتم نعمته برسمه طريق العبادة لكم، بهذا تقومون بالشكر الواجب عليكم. واذكروا نعمة الله عليكم الذي وفقكم للإسلام وهداكم للقرآن، واذكروا ميثاقه الذي أخذه عليكم وأنتم في عالم الذرة، وحين الإيمان بالرسول والشهادة لله (إذ قلتم بلسان الحال: سمعنا وأطعنا) . واتقوا الله في كل شيء ولا تنقضوا الميثاق إن الله عليم بذات الصدور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 إتقان العمل والشهادة بالقسط مع التذكير بنعم الله [سورة المائدة (5) : الآيات 8 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) المفردات: قَوَّامِينَ: جمع قوّام، وهو المبالغ في القيام بالشيء والإتيان به مقوما تاما كاملا. بِالْقِسْطِ: بالعدل. يَجْرِمَنَّكُمْ: يحملنكم ويكسبنكم. خَبِيرٌ الخبرة: العلم الدقيق الذي يؤيده الاختبار. يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ يقال: بسط إليه لسانه: إذا شتمه، وبسط إليه يده: إذا بطش به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 المعنى: يا أيها الذين آمنوا: كونوا من أصحاب النفوس الطيبة والأرواح العالية الذين يتقنون أعمالهم، ويخلصون فيها إخلاصا لله ولرسوله، سواء منها الأعمال الدينية والدنيوية، فإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا، والإتقان والإخلاص أساس النجاح، وأما الشهادة بالقسط وتحرى العدل فهي الدعامة الأولى لسعادة الأمم، وبناء المجتمع وانتشار الطمأنينة، وانصراف كل إلى عمله. وأنت إذا لم تحاب أحدا في شهادتك، وقمت بها عادلا. لم تراع قرابة ولا صداقة ولم تخش في قول الحق لومة لائم، ولم تحملك عداوة قوم لك ولا بغضهم على الجور وعدم العدل، كنت من القوامين لله والشهداء بالقسط ولو على أنفسهم. فالعدل العدل!!! فهو أقرب طريق إلى التقوى، والخلوص من المهالك والمعاصي، واحذروا عقاب الله فإنه بكم خبير وبعملكم بصير، وسيجازيكم عليه إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. فهذه الآية الكريمة والآية التي تقدمت في سورة النساء كلاهما يعالج داء خطيرا من أكبر الكبائر وهو كتمان الشهادة، وشهادة الزور، والله قد وعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات مغفرة وأجرا عظيما لا يقدر قدره ولا يعرف كنهه إلا هو سبحانه وتعالى. وأما الذين كفروا، وكذبوا بآيات الله الكونية، وآياته المنزلة على رسله مع العلم بأن من يؤمن بالبعض ويكفر بالبعض فقد كفر بالكل، فهؤلاء أصحاب النار الملازمون لها، وهي بئس المأوى وبئس المصير. يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعم الله عليكم التي لا تحصى، ومن نعمه السابغة أن دفع عنكم كيد أعدائكم ورده في نحورهم، على كثرتهم وقوتهم، وضعفكم وقلتكم، وقد هموا وعزموا بل وأنفقوا جهدهم أن يمدوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء ولكن الله مؤيد رسله وناصر دينه ومتمّ نوره ولو كره الكافرون، ولقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده!!! وقد روى في أسباب النزول لهذه الآية روايات كثيرة كلها تدور حول رجل هم بقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم حفظه الله منه مع أنه مسلح. وكان النبي أعزل، ولقد منّ الله على المؤمنين عامة بحفظ النبي- عليه الصلاة والسلام- والصحابة من أعدائهم ولا شك أن ذلك حفظ للدين، وذكرهم بهذا ليقتفى المؤمنون آثار من تقدمهم والله ناصرهم ما نصروه، وحافظهم من أعدائهم إن كانوا قوامين لله شهداء بالقسط عدولا. واتقوا الله أيها الناس وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون، لا على قوتهم وبأسهم، ولا يغرنهم الذين كفروا مهما كثروا وتفننوا في أساليب الخراب والدمار، فالله معهم وناصرهم ما داموا مؤمنين. كيف نقض اليهود والنصارى المواثيق؟ [سورة المائدة (5) : الآيات 12 الى 14] وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَبَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَقالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 المفردات: نَقِيباً نقيب القوم: كبيرهم الذي يعنى بهم وبمصالحهم ويعرف دخائلهم وهو الضامن لهم. وَعَزَّرْتُمُوهُمْ: نصرتموهم ومنعتموهم من الأعداء. لَعَنَّاهُمْ: طردناهم من رحمتنا. قاسِيَةً: شديدة مغلقة لا تقبل خيرا. خائِنَةٍ أى: خيانة، أو نفس خائنة. فَأَغْرَيْنا: ألزمهم وألصقنا بهم. المناسبة: بعد أن أمرنا بالوفاء بالعهود وذكرنا بموجب هذا الوفاء من إحلال الحلال وتحريم الحرام، وتبصيرنا بالاستعداد للصلاة وإقامة الشهادة بالعدل، وقد ذكرنا بنعمه والمواثيق التي أخذها علينا. بعد هذا كله أخذ يعرض لنا حال أهل الكتاب وقد نقضوا الميثاق. وكيف كان جزاؤهم في الدنيا والآخرة، لعل المسلمين يتعظون بمن سبقهم من الأمم. روى أنه لما نجا بنو إسرائيل من فرعون وصحبه، أمرهم الله بالسير إلى بيت المقدس وكان يسكنها الكنعانيون الجبابرة، وقال لهم: إنى جعلتها لكم وطنا، فاخرجوا إليها وجاهدوا من فيها، وإنى ناصركم، وأمر نبيه موسى- عليه السلام- أن يأخذ من كل سبط نقيبا يكون كفيلا بتنفيذ ما أمروا به، فاختار النقباء، وأخذ الميثاق على بنى إسرائيل وتكفل النقباء بما طلب وسار بهم فلما دنا من بيت المقدس بعث النقباء يتحسسون الأخبار، فرأوا أجساما قوية، وشوكة وقوة، فهابوهم ورجعوا وحدثوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 قومهم بما رأوا. وكان موسى قد أمرهم ألا يخبروا أحدا بما يرون فنقضوا العهد إلا نقيبين منهم وهما اللذان قال فيهم القرآن: قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ وسيأتي خبرهما بعد في الآية 23. المعنى: ولقد أخذ الله العهود والمواثيق على بنى إسرائيل بواسطة نبيهم موسى ليعملن بالتوراة وليقبلنها بجد ونشاط خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ [سورة البقرة الآيات 63 و 93] ولا يزال هذا العهد موجودا في التوراة، وأمرناه أن يختار اثنى عشر نقيبا منهم، يتولون أمور الأسباط، ويقومون على رعايتهم، وبعثناهم يتحسّسون العدو ليقاتلوه، وقال الله على لسان موسى: إنى معكم وناصركم على عدوكم ومطلع عليكم ومجازيكم على أعمالكم. ثم أعطاهم العهد الموثق: لئن أقمتم الصلاة وأديتموها تامة كاملة الأركان مستوفية الشروط، وأنفقتم بعض المال الذي به تزكو نفوسكم وتطهر. وآمنتم برسلي التي سترسل لكم بعد موسى- عليه السلام- كداود وسليمان ويحيى وزكريا وعيسى ومحمد- عليهم الصلاة والسلام- ونصرتموهم، ومنعتموهم من الأعداء، ووقفتم إلى جانبهم في السراء والضراء، وأقرضتم الله قرضا حسنا طيبة به نفوسكم، مع أنكم تقرضون ربّا له خزائن السموات والأرض قادرا كريما، يضاعف الحسنة إلى عشرة أمثالها بل إلى سبعمائة. تالله إنكم إن فعلتم هذا (إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والإيمان بالرسل ونصرتهم والقرض الحسن) لأكفرن عنكم سيئاتكم، فإن الحسنات يذهبن السيئات، وأنتم بذلك تستحقون الرضوان ودخول الجنات التي تجرى من تحتها الأنهار، ومن يكفر بعد ذلك منكم، وينقض الميثاق فقد ضل السبيل الواضح وأخطأ الطريق المستقيم الذي رسمه الله لعباده الأبرار. وهؤلاء اليهود- كما وصفهم القرآن غير مرة- دأبهم العناد، وديدنهم الكفر والعصيان، وجزاؤهم الطرد والحرمان، فبنقضهم الميثاق، وكفرهم بالله ورسله وعدم نصرتهم لهم وعدم تعظيمهم وتوقيرهم، استحقوا المقت والغضب واللعن والطرد من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 رحمة الله، وكان نقضهم الميثاق مفسدا لفطرتهم مدنسا لنفوسهم، فإن الذنب الذي يرتكبه الإنسان يترك نكتة سوداء في القلب. فإذا كثرت المعاصي اسود القلب وأصبح في أكنة، لا يصل إليه النور والهدى خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «1» ولذلك رأيناهم يقتلون الأنبياء بغير حق، ويفترون على مريم البتول وابنها عيسى الذي أرسل لهم يهديهم سواء السبيل، بل حاولوا قتله وافتخروا بذلك وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ «2» فبسبب هذا بعدوا عن رحمة الله وطردوا منها شر طردة وأصبحت قلوبهم قاسية كالحجارة أو أشد قساوة، وصاروا يحرفون الكلم عن مواضعه فيقدمون ويؤخرون، ويحذفون منه، ويغيرون معناه ويبدلون، ليّا بألسنتهم وطعنا في الدين، وقد نسوا حظا من التوراة كبيرا. ذلك أن موسى- عليه السلام- توفى والتوراة التي كتبها وأمر بحفظها نسخة واحدة قد فقدت باتفاق المؤرخين من اليهود والنصارى عند سبى البابليين لهم وإغارتهم عليهم، ولم يكن عندهم غيرها وما كانوا حفظوها كلها، نعم هناك أسفار خمسة تنسب إلى موسى- عليه السلام- فيها أخبار عن موته وحياته وأنه لم يقم أحد بعده مثله، كتبت بعد موته بزمن طويل، قيل: كتبها عزرا الكاهن معتمدا على ما بقي عند شيوخهم الذين بقوا بعد الأسر والقتل. أفلا تراهم نسوا حظا كبيرا، وكما يقول القرآن في موضع آخر: أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ «3» ومن العلماء من يرى أن معنى الآية أنهم تركوا أحكاما كثيرة من التوراة. والله أعلم بكتابه. ألا ترى أن هذا من أعظم المعجزات على صدق الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم حيث أخبرهم بدخائل نفوسهم!! وأما أنت يا محمد فلا تأس عليهم، ولا تعجب من عنادهم فها هم قديما قد فعلوا كل شيء، ولا تزال تطلع منهم على خيانة تصدر منهم على سبيل المبالغة، إلا قليلا منهم ممن آمن وحسن إيمانه. وإذا كان الأمر كذلك فاعف عنهم واصفح إذا تابوا، أو بذلوا الجزية، إن الله يحب المحسنين.   (1) سورة البقرة الآية 7. [ ..... ] (2) سورة النساء الآية 157. (3) سورة آل عمران الآية 23 والنساء 44 و 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 ولقد أخذ الله ميثاق الذين أتوا الكتاب من النصارى، فنسوا حظا عظيما مما ذكروا به ولذلك كان جزاؤهم أن الله ألزمهم العداوة والبغضاء حتى صارت صفة لازمة لهم لاصقة بهم إلى يوم القيامة وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون. والمنصف للتاريخ يعرف أن المسيح توفى، ولم يكن هناك إنجيل مكتوب، وقد اضطهد اليهود أتباعه وتلاميذه وشردوهم حتى قتلوا أكثرهم فلما هدأت الأحوال ودخل الملك قسطنطين الديانة المسيحية أخذوا يكتبون الأناجيل، ولذلك كانت كثيرة ومختلفة ومتباينة. وسوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون في الدنيا، ويجازيهم عليه حتما. القرآن وما يخفيه أهل الكتاب [سورة المائدة (5) : الآيات 15 الى 16] يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16) المعنى: يا أهل الكتاب. قد جاءكم محمد صلّى الله عليه وسلّم مؤيدا بمعجزة القرآن المعجزة الباقية الخالدة، فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله. هذا النبي قد بين لكم كثيرا من الأحكام والآيات التي كنتم تخفونها عن العوام، فقد روى أن هذه الآية نزلت حينما كتموا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 حكم الزاني المحصن وأقسم النبي صلّى الله عليه وسلّم على حبرهم ابن صوريا وناشده الله حتى اعترف به. وقد أنكروا غير ذلك من بشارة النبي ووصفه فبينه القرآن لهم، ولقد كان بيان القرآن لما كتموه سببا في إسلام كثير من أحبارهم وعلمائهم. يبين الله بواسطة رسوله كثيرا مما يخفون، ويعفو عن كثير مما لا تمس الحاجة إليه، ولا يفيد الدعوة في شيء، وهم يعلمون أنهم يخفون غير الذي أبداه الرسول ... يا أهل الكتاب: قد جاءكم من الله نور هو النبي محمد، أو هو القرآن، أو دينه، وجاءكم كذلك كتاب مبين بين الحق وأظهر المكنون، يهدى به الله من اتبع رضوانه طريق الخير التي تنجيه من العذاب الأليم، ويخرج من اتبعه من ظلمات الشرك والخبث والخرافة والأوهام الباطلة إلى نور الإسلام وهدى القرآن الذي أنزل بعلمه ومشيئته وتوفيقه، ويهدى من اتبعه صراطا مستقيما يوصل إلى خير الدنيا والآخرة. مناقشة النصارى في عقائدهم [سورة المائدة (5) : الآيات 17 الى 19] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18) يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 المفردات: يَمْلِكُ: يدفع ويمنع، وأصل الملك: الضبط والحفظ التام. يُهْلِكَ: يميت ويعدم. فَتْرَةٍ: سكون وهدوء من الرسل، والمراد انقطاع الوحى، وعدم ظهور الرسل مدة من الزمن. المعنى: المسيحيون في هذا العصر طوائف أشهرها ثلاث: البروتستانت، والكاثوليك، والأرثوذكس. يقولون بألوهية المسيح وأن الله هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، وقد كان المسيحيون القدامى لا يصرحون بهذا الرأى وإن كان لازما لأقوالهم بالحلول والاتحاد، على أن فرقة منهم هي اليعقوبية كانت تقول: إن المسيح هو الله. والمسيحيون المعاصرون خصوصا الكاثوليك والأرثوذكس لا يعدون الموحد مسيحيا، وأساس هذه العقيدة عبارة وردت في إنجيل يوحنا (في البدء كانت الكلمة والكلمة كان عند الله: والله هو الكلمة) وقد أطلقوا لفظ الكلمة على المسيح، فصار معنى الفقرة: الله هو المسيح، كما وصفهم القرآن الكريم. على أن الثابت أن يوحنا كتب إنجيله في آخر حياته وكتبه بإلحاح عليه. فإذا المسيح برىء منها ولم يدع إليها أبدا بل سيأتى أنه دعا إلى التوحيد وإلى تمجيد الله فقط كما نقل عنه في الإنجيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 وقد ذكر الدكتور (بوست) في تاريخ الكتاب المقدس: طبيعة الله ثلاثة أقانيم متساوية الجوهر: الله الأب، والله الابن، والله روح القدس، فإلى الأب الخلق، وإلى الابن الفداء، وإلى روح القدس التطهير، غير أن الثلاثة أقانيم تتقاسم جميع الأعمال على السواء. ولقد رد القرآن هذا الزعم الباطل، وأبطل تلك العقيدة الوثنية فقال: يا أيها الرسول قل لهؤلاء الذين تجرأوا على مقام الألوهية: من يملك من الله شيئا إذا أراد أن يهلك المسيح ابن مريم وأمه؟ من يمنع الله إذا أراد أن يميت المسيح وأمه؟ لا أحد يقدر على هذا!! فالله لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه!! بل لا يستطيع أحد أن يشفع عنده إلا بإذنه وأمره وها هو ذا المسيح وأمه قد حصل لهما ما حصل لبقية الخلق فهل منعا عن أنفسهما شيئا؟؟. وإذا كان المسيح لم يستطع أن يدفع شيئا عن نفسه ولا عن أمه ولم يستطع أحد أن يدفع عن المسيح شيئا فهل يكون هو الله الذي بيده ملكوت كل شيء؟ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!! ولنا أن نرد عليهم بكلامهم. إذا كان المسيح إلها فكيف لم يرد عن نفسه الصلب الذي هو شر أنواع الهلاك؟ فقد قيل في الإنجيل: «ملعون كل من علق على خشبة» من إحدى رسائل بولس الرسول، وثبت أن المسيح استغاث بربه ضارعا خائفا وجلا ليصرف عنه ذلك الكأس فلم يجب إلى طلبه، في إنجيل متى: (إلهى إلهى لماذا تركتني؟) . (يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عنى هذه الكأس. إن لم يمكن أن تعبر عنى هذه الكأس إلا أن أشربها فلتكن مشيئتك) . فإذا عيسى- كما هو منصوص عندهم- نبي ورسول كما أنه بشر كبقية الخلق خائف وجل متضرع إلى الله- جل جلاله- شاعر بأن الصلب شر أنواع الهلاك، ولإخلاصه وصدقه نجاه الله من الذين مكروا به وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ [النساء 157] . لا أحد يمكنه أن يرفع الهلاك ويمنع الموت عن عيسى وأمه ومن في الأرض جميعا وكيف يكون غير هذا؟ ولله وحده ملك السموات والأرض وما بينهما. ولقد كان السبب في تخبط النصارى وضلالهم كثرة المتشابه عندهم في الأناجيل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 وأن عيسى خلق على غير السنن المألوف، وقد عمل أعمالا غريبة لم تصدر عن عامة البشر. ولذلك رد الله عليهم هذا بقوله: يَخْلُقُ ما يَشاءُ فهو مالك الملك، وصاحب الأمر في السماوات والأرضين يخلق ما يشاء على حسب حكمته وإرادته فقد خلق أبانا آدم بلا أب ولا أم، وحواء بدون أم، وعيسى بلا أب وأصول الحيوانات جميعا من مادة لا توصف بذكورة ولا أنوثة. ولقد أرسل رسله مبشرين ومنذرين، وأيدهم بروح من عنده وأجرى على أيديهم المعجزات المناسبة لزمانهم، فهذا موسى وعصاه السحرية لأن السحر كان أبرز علم عندهم، وهذا عيسى وإبراؤه الأكمه والأبرص وإحياؤه الميت لأن الطب كان أبرز شيء عند قومه، وهذا خاتم النبيين محمد صلّى الله عليه وسلّم كانت معجزته القرآن لأنه بعث في العرب المعتزين بالفصاحة وكانت رسالته خاتم الرسالات فكان قرآنه باقيا كاملا في كل شيء، هذا القرآن الذي وقف وحده آلاف السنين يرد هجمات أعدائه على كثرتهم. فلا يغرنكم أيها المسيحيون إحياء عيسى للميت. أخوك عيسى دعا ميتا فقام له ... وأنت أحييت أجيالا من العدم ولا غرابة في ذلك فالله يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير. وإذا كان عيسى إلها فمن كان الإله قبله؟ وعلى أى وضع كان؟ وسيأتى مزيد من الرد على ألوهية عيسى ابن مريم قريبا. روى أن اليهود تكلموا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم فدعاهم إلى التوحيد وحذرهم من عذاب يوم القيامة، فقالوا: ما تخوفنا يا محمد؟ ونحن أبناء الله وأحباؤه!! وقد قالت النصارى ذلك فنزلت هذه الآية. والمعنى: قالت اليهود كما قالت النصارى: نحن أبناء الله وأحباؤه!! فالله يعاملنا معاملة الأب لأبنائه يعطف علينا ويرحمنا، وبعض النصارى بالغوا في ذلك فقالوا: عيسى ابن الله حقيقة ونحن أبناء مجازا. وقد رد الله عليهم بقوله: قل لهم يا محمد: إذا كان الأمر كذلك!! فلم يعذبكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 بذنوبكم في الدنيا كما ترون من تخريب دياركم وهدم الوثنيين لمسجدكم في بيت المقدس، ومن لصوق العداوة والبغضاء فيكم أيها النصارى، فأنتم تتحاربون وتتقاتلون إلى الأبد، فبعضكم رأسمالي وستظل الحرب بينكم دائما حتى تفنوا جميعا إن شاء الله. وأما في الآخرة فيكون العذاب عسيرا عليكم أهل الكتاب، والأب لا يفعل هذا مع أبنائه والأولاد لا يعصون آباءهم كما تفعلون!! بل أنتم وغيركم من جميع الطوائف والملل بشر وخلق من خلق الله لا فضل لأحد على أحد إلا بالإيمان الصادق الخالص من شوائب الوثنية. لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً [سورة النساء آية 123] . ولله ملك السموات والأرض وما بينهما وإليه المصير في الآخرة إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً «1» وسيعذب الكافر والعاصي ويثيب الطائع والصالح. يا أهل الكتاب لا حجة لكم، قد جاءكم رسولنا محمد صلّى الله عليه وسلّم يبين لكم ما اندثر من الأحكام، وضاع من القوانين وقد بشرت به كتبكم وهو مصدق لما معكم، جاءكم على فترة من انقطاع الرسل والوحى عليكم فيما بينه ما كنتم تخفونه وتكتمونه، ولولا أنه رسول ما أمكنه ذلك، أرسله ربه بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، لئلا تقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير فقد جاءكم بشير ونذير، والله على كل شيء قدير.   (1) سورة مريم آية 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 من مواقف اليهود مع موسى عليه السلام [سورة المائدة (5) : الآيات 20 الى 26] وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20) يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25) قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26) المفردات: مُلُوكاً: أحرارا عندكم ما يكفيكم. الْمُقَدَّسَةَ: الطاهرة من الأوثان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 وعبادتها. وَلا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ: ترجعوا عما أمرتم به. جَبَّارِينَ: جمع جبار، وهو الطويل القوى المتكبر العاتي، مأخوذ من قولهم: نخلة طويلة لا ينال ثمرها. يَتِيهُونَ التيه: الحيرة، ومنه صحراء تيهاء: إذا تحير سالكها لعدم الأعلام التي يهتدى بها. المناسبة: بعد أن أقام القرآن الدليل على صحة نبوة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وتعرض لأهل الكتاب في ذلك، ساق قصة لليهود تثبت عنادهم وكفرهم مع أنبيائهم لتكون تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتسجيلا عليهم. وقد ذكرنا هذه القصة عند الكلام على الميثاق والنقباء في آية (12) من هذه السورة. المعنى: واذكر يا محمد لبنى إسرائيل ولسائر الناس الذين تبلغهم دعوتك وقت قول موسى لقومه: تذكروا نعمة الله عليكم واشكروه عليها، فقد جعل فيكم أنبياء كثيرة إذ غالب الأنبياء من سلالة يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليه السلام- ولم يكن من ولد إسماعيل إلا النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وبنو إسرائيل من نسل يعقوب. وجعلكم ملوكا أحرارا عندكم ما يكفيكم ويقيكم ذل السؤال من زوجة وخادم ودار كما ورد في ذلك الآثار. وآتاكم ما لم يؤت أحدا من عالمي زمانكم، فالمن والسلوى. وتظليلكم بالغمام، وفرق البحر، وإنجاؤكم وغرق عدوكم ... إلخ، ما هو مذكور في الجزء الأول. يا قوم: ادخلوا الأرض الطاهرة من عبادة الأوثان لكثرة الأنبياء فيها، واختلف المفسرون فيها هل هي فلسطين أم غيرها. والظاهر أنها فلسطين المنكودة، التي كتب الله لكم فيها حق السكنى ووعد بها إبراهيم وبنيه ففي سفر التكوين من التوراة: (لنسلك أعطى هذه الأرض) على أنها لا تكون ملكا لا يزاحم فيها أحد بل لهم السكنى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 فقط. فاستنباط اليهود من ذلك الوعد أنهم لا بد أن يعود لهم ذلك الملك ليس بصحيح، ولعل ما هم فيه من الضيق والشدة يؤذن بضياع ملكهم الذي أسسه الانجليز والأمريكان لأمور سياسية!! وقال موسى: يا قوم: لا ترجعوا عما جئتكم به من التوحيد والعدل الإلهى، إلى الوثنية والفساد في الأرض، وقيل: لا تراجعوا عما أمرتم به مطلقا من الدخول في الأرض المقدسة وغيره فتنقلبوا خاسرين. قال النقباء الذين أرسلوا للتجسس لموسى: إن فيها قوما طوالا جبارين، أولى بأس وقوة، وإنا لا ندخلها أبدا ما داموا فيها. وكان يسكنها في هذا الوقت بنو عناق من الكنعانيين. وقد بالغ اليهود في وصفهم بما لا يصدقه عقل ولا منطق. ولا غرابة في إحجامهم عن الدخول فيها وقتالهم الجبارين فكل قوم تربوا في أحضان الذل والاستعمار يألفونه ولا يألفون الحرية والكرامة، ولذلك قالوا معتذرين: لن ندخلها أبدا حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون!! قال رجلان من الذين يخافون الله وقد أنعم عليهما بالتوفيق والسداد: ادخلوا يا قوم عليهم الباب فإنكم إذا دخلتموه كان الله معكم وناصركم عليهم، وعلى الله وحده فتوكلوا إن كنتم مؤمنين. قالوا: يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فإنهم أولو قوة وبأس. وعلى ذلك فاذهب أنت وربك الذي أمرنا أن نخرج من مصر ونأتى إلى هنا فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون ومتخلفون عن الحرب. قال موسى وقد عرف قومه وإباءهم، وخشي أن يفتنوا الرجلين الصالحين قال: رب إنى لا أملك إلا نفسي وأخى هارون الذي عرفت فيه الامتثال والطاعة، يا رب فافصل بيننا وبين هؤلاء القوم الفاسقين، قال الرب- سبحانه وتعالى-: إذا كان الأمر كذلك فإن هذه الأرض محرمة عليهم أربعين سنة وهم في هذه المدة يتيهون في البيداء لا يعرفون لهم قرارا، وهكذا ينزل عذاب الله على كل من يخالف أمره، فهؤلاء هم اليهود وهذه أعمالهم من قديم مع أنبيائهم فلا تأس يا محمد عليهم ولا تحزن!. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 قصة أول قتيل في الوجود [سورة المائدة (5) : الآيات 27 الى 32] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 المفردات: وَاتْلُ: التلاوة القراءة. نَبَأَ: هو الخبر المهم. قُرْباناً: ما يتقرب به إلى الله- سبحانه وتعالى- من الذبائح وغيرها. بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ: مددتها لتعتدى علىّ. تَبُوءَ: ترجع بعقاب يعادل الإثم ويساويه. يا وَيْلَتى: يا فضيحتي احضرى، والويل: الشر، والويلة: الفضيحة والبلية. يسوق الله هذه القصة ليبين طبائع النفوس الموروثة وما يفعله الحسد الكامن والداء الباطن، الذي يقضى على أقوى سبب وأمتن رابطة وهي الأخوة، وكيف كان السبب في أول قتيل في الأرض؟؟ فإذا لا تيأس يا محمد، ولا تعجب من فعل اليهود إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ [سورة المائدة آية 11] فهم قوم يحسدون الناس على ما آتاهم ربهم من فضله، على أن هذا طبع متأصل في أبناء آدم. واتل يا محمد على قومك وعلى كل من تبلغه دعوتك، اتل عليهم نبأ هاما وخبرا متلبسا بالحق والصدق، لا مبالغة فيه ولا كذب كما يفعل اليهود في أخبارهم وكتبهم من التحريف والتبديل. اتل خبر ابني آدم لصلبه- على الأصح- قيل: هما قابيل القاتل، وهابيل القتيل، وكانت عادتهم أن يتزوج ذكر البطن الأولى أنثى البطن الثانية، وبالعكس، فصادف أن قابيل معه توأم جميلة، ومع هابيل توأم دميمة رغب عنها قابيل، وطلب توأمه وحسد هابيل عليها، فلما احتكما إلى أبيهما آدم قال: كل منكم يقرب قربانا، والذي يقبله الله منه بالحريق يأخذ الجميلة، فقدم قابيل وكان زارعا قليلا من سنبل القمح، وقدم هابيل وكان راعيا للغنم كبشا سمينا، فتقبل الله من هابيل ولم يتقبل من قابيل، فحنق عليه أكثر، وقال: لأقتلنك، قال هابيل: ولم يا أخى؟ وما ذنبي في أن الله لم يتقبل منك؟ فأصلح نفسك، وقدم مخلصا لوجه الله، فإنما يتقبل الله من المتقين. يا أخى: لئن مددت إلىّ يدك بالسوء، أن تقتلني ظلما وعدوانا، ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك أبدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 وذلك لأنى أخاف الله رب العالمين، الذي تعهدنا بالعناية والرعاية، وخلقنا على أتم خلق وأكمله، فمن يتعدى على هذا الخلق السوى فقد استحق العقاب الشديد!! يا أخى: إنى لا أريد مقابلة الجريمة بالجريمة أصلا، فإنك إن فعلتها تبوء بإثم قتلى وإثمك الخاص بك الذي كان من شأنه عدم قبول قربانك، فارجع عما أنت مقدم عليه! وكيف يريد المؤمن أن يأثم أخوه. والجواب أنه أراد ذلك حينما بسط إليه يده بالقتل فعلا وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» . إنك يا أخى إن فعلت هذا الجرم فستكون من أصحاب النار الملازمين لها، وذلك جزاء الظالمين!!! ترى أنه نفره من القتل بثلاث: الخوف من الله، أن يبوء بإثمه وإثم نفسه، كونه من أصحاب النار ... ومن الظالمين. والقاتل مهما كانت نفسه ملوثة بحب الانتقام والقتل يرى في الإقدام على هذا العمل جرما وفظاعة فيتردد، ولا يزال كذلك حتى تشجعه نفسه الأمارة بالسوء فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ وهدم ما بناه الله وأتقنه فأصبح من الخاسرين، وأى خسارة أكبر من هذه الخسارة في الدنيا والآخرة؟! روى أنه لما قتله، ولم يعرف كيف يوارى جثته، وتحير في ذلك، فبعث الله غرابا يبحث في الأرض منقبا في غذائه، فحفر حفرة، فرآه قابيل ففطن إلى مثل عمله، ففعل لأخيه مثلها وواراه فيها، وقال: يا ويلتى احضرى فقد حان وقتك، أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب؟ والندم الذي حصل لم يكن على القتل بل على عجزه عن مواراة أخيه. بسبب هذا الجرم التشنيع والفعلة القبيحة، التي فعلها أبناء آدم كتبنا على بنى إسرائيل وإنما خصهم القرآن بالذكر، وإن كان القتل محرما قبلهم في الأمم السابقة، لأن التوراة أول كتاب حرم فيه القتل كتابة بسبب طغيانهم وسفكهم الدماء وقتلهم الأنبياء بسبب الحسد الكامن في نفوسهم ...   (1) سورة الشورى آية 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 كتبنا على بنى إسرائيل ومن بعدهم: أنه من قتل نفسا بغير نفس، أى: بدون قصاص أو بدون فساد في الأرض يزلزل الأمن والطمأنينة، ويهلك الحرث والنسل، وذلك مثل قطع الطريق، من يفعل شيئا من ذلك فكأنما قتل الناس جميعا، واعتدى على المجتمع البشرى كله!! أفلا يكون هذا الجرم فظيعا؟ إنه لقطيع، ولذلك كان من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً الآية من سورة النساء. آية 93. ومن هنا تعلم أن نفس القتيل ليست ملكه، بل هي ملك للمجتمع الذي يعيش فيه، فمن اعتدى على نفس ولو كانت نفسه (بالانتحار) استحق عقاب الله الشديد يوم القيامة ... ومن أحيا نفسا بأى سبب كان، فكأنما أحيا الناس جميعا إذ كل نفس عضو في المجتمع. ولقد جاءتهم رسلنا بالبينات الواضحات كالشمس أو أشد. ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون بعد هذا البيان الرائع. وهذه الآية الكريمة تقرر بوضوح مبدأ تكافل الأمة الواحدة وتضامنها كوحدة خاصة. حكم قطاع الطرق [سورة المائدة (5) : الآيات 33 الى 34] إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 المفردات: يُحارِبُونَ الحرب: ضد السلم والأمن على النفس والمال. فَساداً الفساد: ضد الصلاح، وكل من أخرج شيئا عن وضعه الصالح له يقال: إنه أفسده. يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ: ينقلوا من البلد أو القطر الذي أفسدوا فيه إلى غيره، وقيل: المراد يسجنوا. سبب النزول: روى البخاري ومسلم عن أنس أن ناسا من عكل وعرينة قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم وتكلموا بالإسلام، فاستوخموا المدينة- وجدوها رديئة المناخ- فأمر لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بزود من الإبل- الزود من ثلاثة إلى تسعة- وراع وأمرهم أن يخرجوا إلى الصحراء فيشربوا من «أبوالها وألبانها» فانطلقوا حتى إذا كانوا بناحية الحرة كفروا بعد إسلام، وقتلوا الرعي ، وفي رواية، مثّلوا به، واستاقوا الزود من الإبل. فبلغ ذلك الرسول صلّى الله عليه وسلّم فبعث في طلبهم فأتوا بهم فسملوا أعينهم (كحلوها بمسامير الحديد المحماة) وقطعوا أيديهم وأرجلهم من خلاف وتركوا حتى ماتوا، فنزلت الآية. والظاهر- والله أعلم- أن هذه الآية عامة لكل من يفعل هذا العمل الشنيع في دار الإسلام سواء كان مسلما أو غيره. والله تعالى أنزل هذه الآية بهذا التشديد في العقاب لسد ذريعة هذه المفسدة، وهي إزالة الأمن من بين ربوع الدولة، واضطراب الناس فيها، ومع هذا حرم المثلة وتشويه الأعضاء. المعنى: لا جزاء للذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فسادا، إلا ما ذكره الله من التقتيل أو الصلب أو تقطيع الأيدى والأرجل من خلاف، أو النفي من الأرض. ومحاربة الله ورسوله تكون بالاعتداء على شرعة الأمان والسلم والحق والعدل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 والطمأنينة بين الناس، كما أنها تكون بالاعتداء على الحقوق الشرعية، كمنع الزكاة مثلا، كما حصل لأبى بكر فقد حارب المانعين لها بكل قواه. هذا كله يلزمه الفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل: وقد وضع الله للقتل والسرقة والاعتداء على المال حدودا خفيفة، فمثلا في القتل القصاص إلا إذا عفى له عن شيء، وفي السرقة قطع اليد والاعتداءات على المال بالضمان مثلا لأنها اعتداءات فردية. أما هنا في هذه الآية فتلك حدود قطاع الطريق المجاهرين بالمعصية المجتمعين للاعتداء. لذلك شرط بعضهم شروطا ثلاثة للمحاربين: 1- أن يكون معهم سلاح يعتمدون عليه. 2- أن يكون ذلك في صحراء أو في مكان لا تنفع فيه الاستغاثة. 3- أن يأتوا مجاهرين معتمدين على القوة والغلب، لا على الخفية واللصوصية. أما جزاؤهم فأخذهم بلا رحمة ولا هوادة، وإن كانوا جماعة. يشير إلى هذا قوله تعالى: أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا. وعند الجمهور أن القتل في الآية للقاتل، والصلب مع القتل لمن أخذ المال وقتل، وقطع اليد اليمنى والرجل اليسرى لمن أخذ المال وأخاف. والنفي لمن أخذ المال فقط، وليس للولي العفو في حد من هذه الحدود، فمثلا في القتل العادي يجوز للولي العفو وترك القصاص. وهنا لا بد من القصاص وإن عفا، وهذا معنى التشديد الذي يشير إليه لفظ (يقتّلوا) . ذلك لهم خزي وأى خزي بعد هذا العقاب الصارم؟، ولهم في الآخرة بعد ذلك عذاب عظيم جدا. إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم ولم يكن للإمام عليهم من سبيل فاعلموا أن حد الله يسقط عنهم، ويؤخذون بحقوق الآدميين، أى: يقتص منهم عن النفس والجراح، وكان عليهم ما أتلفوه من مال ودم، ويجوز لولى الدم العفو كسائر الجنايات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 من غير المحاربين، يشير إلى هذا قوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ فإن توبتهم قبل القدرة دليل على أنها توبة خالصة لوجه الله. واعلموا أن هؤلاء المحاربين لله ولرسوله بالعصيان والفساد، واجب على الإمام قتالهم، وعلى المسلمين المعونة له وكفهم عن فعلهم. أساس الفلاح في الآخرة [سورة المائدة (5) : الآيات 35 الى 37] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37) المفردات: الْوَسِيلَةَ: ما يتوصل به إلى تحصيل المقصود وهي القربة، وتطلق على أعلى منزلة في الجنة. المعنى: يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان، خذوا لنفسكم الوقاية من عذاب الله بامتثال أمره واجتناب نهيه، وتقربوا إليه بالطاعات والعمل بما يرضيه، فإن هذه هي الوسيلة إليه أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ «1» ... وجاهدوا أنفسكم بكفها عن   (1) سورة الإسراء آية 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 المحرم، والتزامها الصراط المستقيم، وجاهدوا أعداء الإسلام حتى يكون الدين كله لله، وجاهدوا في سبيل الحق والحرية والخير للأمة والوطن. فكل هذا جهاد في سبيل الله. واتقوا الله وابتغوا إليه القربى بالطاعة واجتناب المنهيات، واحتملوا الجهد والمشقة في سبيل الله، كل ذلك رجاء الفوز والفلاح في المعاش والمعاد. واعلم أن لفظ التوسل جاء بثلاث معان: القربى إلى الله بالطاعة كما مر، دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وشفاعته كما ثبت عن عمر- رضى الله عنه-: «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا توسلنا إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا» فكان يدعو العباس وهم يؤمّنون عليه، ترى أنها الدعاء والشفاعة، وكانت في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم أما بعد موته فبدعاء أقرب الناس إليه كعمه العباس، ويوم القيامة تكون بشفاعته. أما المعنى الثالث فهو: الوسيلة، أى: التوسل بالإقسام على الله بالصالحين والأولياء المقربين، وهذا لم يرد به نص صحيح، بل قال أبو حنيفة وأصحابه: إنه لا يجوز. والتوسل بهذا المعنى ينكره العقل، ويأباه الشرع ولا دليل عليه في هذه الآية ولا في غيرها. إن الذين كفروا بالله، وجحدوا آياته، وكذبوا رسله لو فرض أن لهم ملء ما في الأرض ذهبا بل وضعفه ليفتدوا به أنفسهم من عقاب الله وعذابه، على كفرهم وعنادهم، فافتدوا به ما تقبل الله منهم ذلك، فداء وعوضا، بل هم معذبون عذابا دائما وهذا تمثيل لحالهم يوم القيامة. يود الواحد منهم لو يفتدى نفسه من عذاب يومئذ ببنيه، ولكن هيهات له ذلك! يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها، ولهم عذاب مقيم دائم. فانظر يا أخى في أساس الفلاح في الإسلام، وأنه محصور في التقوى والطاعة لا في شفاعة ولا في غيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 السارق وجزاؤه [سورة المائدة (5) : الآيات 38 الى 40] وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) المفردات: السَّارِقُ: من يأخذ المال خفية من حرز مثله. نَكالًا: مأخوذ من النكل، وهو القيد، ولا شك أن هذه عقوبة تمنع الناس من ارتكاب السرقة. المعنى: بعد أن تعرض القرآن الكريم للمحاربين الذين يسعون في الأرض فسادا وبين جزاءهم، ثم أمر الناس بعدها بالتقوى واللجوء إلى الله وحده، بين هنا جزاء من يعتدى على الناس ويسرق أموالهم خفية. مما يتلى عليكم حكم السارق والسارقة، فمن يسرق منكم ذكرا كان أو أنثى. فاقطعوا أيديهما جزاء لهما على ارتكاب فعلهما، وانتهاك حرمة الغير بأخذ ماله، ولأن السرقة قد تجر إلى الدفاع عن المال وإلى القتل.. ولا بد أن يكون المسروق موضوعا في مكان يحفظ فيه أمثاله (وهو حرز المثل) وهل تقطع اليد في كل سرقة ولو در هما؟ أو لا بد أن يكون المسروق ربع دينار أو ثلاثة دراهم لقول عائشة- رضى الله عنها-: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقطع في دينار فصاعدا، وعند الأحناف لا قطع إلا في عشرة دراهم فصاعدا. وتثبت السرقة بالإقرار أو الشهود، ويسقط الحد بالعفو عن السارق أو التوبة قبل رفع الأمر إلى الإمام، وأما المال المسروق فلا بد من رده إلى صاحبه بعينه أو قيمته. حدّ الله هذا الحد، جزاء للسارق، ونكالا للغير ومنعا له، حتى لا يقع غيره في مثل ما وقع، فإن قطع اليد ميسم الذل والعار الذي لا يمحى أبدا، والله عزيز لا يغالب، حكيم في كل ما سنّه لنا من قوانين أما القوانين الوضعية فإنها تجعل من السجن مدرسة يتعلم فيها اللص أنواع الإجرام، ولذا نرى معها تعدد السرقات. فمن تاب من بعد ظلمه بالسرقة وأصلح نفسه فإن الله يتوب عليه إنه هو الغفور الرحيم. ألم تعلم أيها المؤمن: أن الله ملك السموات والأرض يتصرف فيهما بحكمته، وعدله وعلمه الواسع وفضله العميم فمن حكمته وعدله وضع حد للسرقة، حتى يشيع الأمن في ربوع الدولة وتطمئن النفوس لتنصرف إلى أعمالها، ومن فضله ورحمته أنه يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات وهو على كل شيء قدير. يرى البعض أن في هذا القطع لليد شدة وغلظة وأن هذه شريعة الغاب والقفار، لا شريعة الحضارة والمدنية. ولقد كذبوا فها هي ذي قوانينهم تحمى الرذيلة في كل ميادينها، وتساعد على ارتكابها والمفروض أن الحدود موانع وزواجر، ولا مانع أحكم وأعدل من حدود الله، أما ترى الدول التي تحكم بكتاب الله كيف استتب فيها الأمن واختفت منها السرقات ولكن أكثر الناس لا يعلمون!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 اليهود ومواقفهم من أحكام التوراة [سورة المائدة (5) : الآيات 41 الى 43] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 المفردات: لا يَحْزُنْكَ: لا يؤلمك هؤلاء. يُسارِعُونَ أى: يقعون في الكفر بسرعة ورغبة، والمراد أنهم ينتقلون مسرعين من بعض فنون الكفر إلى بعض آخر. فِتْنَتَهُ: اختباره حتى يظهر ما تنطوى عليه نفسه. لِلسُّحْتِ: الخبيث من المكاسب، وهو في اللغة: الهلاك والشدة، وسمى المال الحرام سحتا لأنه يسحت الطاعات والبركات، أى يذهبها. سبب النزول: روى أبو داود أنه زنى رجل وامرأة من اليهود، فقال بعضهم لبعض: اذهبوا إلى هذا النبي فإنه بعث بالتخفيفات، فإن أفتى بفتيا دون الرجم قبلناها، واحتججنا بها عند الله، وقلنا: فتيا نبي من أنبيائك، قال: فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو جالس في المسجد مع أصحابه فقالوا: يا أبا القاسم: ما ترى في رجل وامرأة زنيا، فلم يكلمهم النبي صلّى الله عليه وسلّم حتى أتى بيت مدارسهم، أى: مدارسهم فقام على الباب فقال: «أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ما تجدون في التوراة على من زنى إذا أحصن؟ فقالوا: يحمم وجهه، أى: يوضع عليه السواد، ويجبه- يحمل الزانيان على حمار مع تقابل أقفيتهما ويطاف بهما- ويجلدان، قال: وسكت شاب منهم يقال له ابن صوريا، فلما رآه النبي صلّى الله عليه وسلّم ألظ به النشدة- ألح في سؤاله- فقال ابن صوريا: اللهم إذ أنشدتنا فإنا نجد في التوراة الرجم. فقال الرسول: فإنى أحكم بما في التوراة فأمر بهما فرجما- انتهى كما في القرطبي. ورويت روايات أخرى كلها تدور حول إنكارهم الحكم، وعبثهم بالشريعة والتوراة. المعنى: يرشدنا الله- سبحانه وتعالى- إلى أدب الخطاب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بقوله: يا أيها الرسول، حتى لا نناديه، كما كان يفعل بعض الأعراب، ولقد كان نداء أفاضل الصحابة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 يا رسول الله، وانظر إلى تكريم الله له فإنه ينادى الأنبياء بأسمائهم وما ناداه باسمه قط. يا أيها الرسول: لا يهمنك أمر الذين يسرعون بالوقوع في الكفر، ولا تأس عليهم فالله بهم محيط، وهو ناصرك عليهم حتما، مهما أظهروا من عداوة، وتعاونوا مع المشركين وألبوهم عليك. والمراد من النهى عن الحزن النهى عن لوازمه التي يفعلها الشخص مختارا كتذكر المصائب وتعظيم شأنها. ومن هم المسارعون بالوقوع في الكفر، والتنقل في أساليبه وألوانه؟ هم المنافقون الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، وبعض اليهود الذين يبلغون في سماع الكذب من أحبارهم الذين يلقون إليهم الأخبار الكاذبة في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل: سماعون للأخبار من النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم ينقلونها إلى الأحبار فيحيكون الأكاذيب على النبي صلّى الله عليه وسلّم موافقة لبعض ما يصدر عنه صلّى الله عليه وسلّم فيكون عملهم التجسس على النبي. سماعون الكذب للأخبار، وسماعون لقوم آخرين لهم رأى خاص واتجاه آخر، موصوفون بأنهم لم يأتوك من شدة الكراهة لك، والحسد عليك، وقد كان بعض زعماء اليهود، يأبون على أنفسهم أن يجلسوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم!! وهم يحرفون الكلم من بعد مواضعه بنقل كلمة مكان أخرى، أو إخفائها وكتمانها، أو بحمل الألفاظ على غير ما وضعت له. وهم يقولون لأتباعهم- كما ورد في سبب النزول- إن أعطاكم محمد رخصة بالجلد عوضا عن الرجم فخذوها، وإن حكم بالرجم فاحذروا قبوله، وما لك تحزن عليهم؟ والحال أنه من يرد الله أن يختبره في دينه، ويظهر أمره ويكشف سره، فلن تملك له من الله شيئا يمنع ذلك، وهؤلاء المنافقون واليهود قد أظهرت فتنة الله لهم مقدار فسادهم، فهم الذين وضعوا أنفسهم للكذب ونقله وتحريف الكلم وكتمانه اتباعا لأهوائهم، ومرضاة لرؤسائهم وذوى الجاه فيهم، فلا تحزن عليهم ولا تطمع فيهم أبدا. أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم، ويزكى نفوسهم، لأن سنة الله في خلقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا «1» وأن النفس إذا مرنت على السوء والشر لم يعد لها طريق للخير، ولا سبيل للنور!! لهم في الدنيا خزي بفضيحتهم وهتك سترهم، وظهور الإسلام والقضاء عليهم، ولهم في الآخرة عذاب عظيم هوله شديد وقعه. ولا غرابة في ذلك فهم قوم سماعون للكذب، مروجون له، أكالون للسحت آخذون الرشوة، سباقون للمحرم، وهكذا كل أمة في طور انحلالها ينتشر فيها الخلق الرديء خاصة الكذب والبهتان والرشوة والسحت ... فإن جاءوك فاحكم بينهم بما ترى، أو أعرض عنهم، قيل: هذا الحكم نسخ بقوله: وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ «2» وقيل: هذا في غير أهل الذمة، أما هم فقانون الإسلام قانونهم. وإن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا أبدا. وإن حكمت فاحكم بينهم بالعدل الذي لا شك فيه وهو قانون القرآن. وكيف يحكمونك وعندهم التوراة فيها حكم الله ظاهر واضح، ثم هم يتولون ويعرضون من بعد ذلك. وما أولئك بالمؤمنين أبدا، ذلك أن أمرهم عجب. كيف يدّعون الإيمان بالتوراة، ولا يحكمون بها ويطلبون الحكم من غيرها؟؟ والأعجب من هذا أنهم تركوا التوراة لأنها لم توافق أهواءهم، وجاءوا يحكمون القرآن ثم تولوا وأعرضوا لأنه لم يوافق أهواءهم فهذا حالهم وديدنهم، وما أولئك بالمؤمنين أبدا. أما نحن المسلمين فأخشى ما أخشى- وقد تركنا حكم القرآن، وجئنا نحكم أهواءنا بل وأحكام من ليسوا على ديننا وشاكلتنا- أن ينطبق علينا قوله تعالى: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ «3» الظالمون الفاسقون!   (1) سورة الأحزاب آية 62 والفتح آية 23. (2) سورة المائدة آية 49. (3) سورة المائدة آية 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 في التوراة حكم الله وقد أعرض عنها اليهود [سورة المائدة (5) : الآيات 44 الى 47] إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44) وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 المفردات: التَّوْراةَ: اسم للكتاب الذي أنزل على موسى. الرَّبَّانِيُّونَ: مفردة رباني، نسبة إلى الرب، وهو الذي يسوس الناس بالعلم ويربيهم. وَالْأَحْبارُ: جمع حبر، هو العالم بتحبير الكلام وتحسينه. بِمَا اسْتُحْفِظُوا: بما طلب إليهم حفظه منهم. شُهَداءَ: رقباء وحفاظا. وَقَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ: جعلنا عيسى يقفو أثرهم ويتبعهم. المناسبة: بعد أن نعى الله على اليهود عدم رضائهم بحكم التوراة وطلب حكم النبي صلّى الله عليه وسلّم إن وافق هواهم ثم إعراضهم عن حكمه صلّى الله عليه وسلّم ذكر هنا التوراة وما فيها من الهدى والنور والحكم والقانون مسجلا عليهم جرمهم. المعنى: إنا أنزلنا التوراة على موسى الكليم، فيها هدى يهدى به الله من اتبع رضوانه سبل السلام والحق، وفيها نور يستضاء به ويكشف ما تشابه عليهم وأظلم، هذا في التوراة المنزلة من عند الله لا في صحفهم المبدلة المحرفة التي سموها توراة. هذه التوراة قانون يحكم بها النبيون الذين نزلوا بعد موسى حتى عيسى ابن مريم، وأسلموا وجوههم لله قانتين مخلصين، حكموا بها بين اليهود، فهي شريعتهم الخاصة بهم، حتى نزل عيسى ابن مريم، وكان آخر نبي نزل على بنى إسرائيل، وقد نقل عن عيسى- عليه السلام- في الإنجيل: (ما جئت لأنقض الناموس- شريعة موسى- وإنما جئت لأتمم..) فالإنجيل مكمل لها وقد حكم بها عيسى- عليه السلام-. وحكم بها وحافظ عليها الربانيون والأحبار وهم الصالحون من ولد هارون في الأزمنة التي لم يكن بها أنبياء، وذلك بسبب ما أخذه الأنبياء عليهم من العهد المؤكد، وسألوهم حفظها والعناية بها، وكانوا على كتاب الله شهودا ورقباء يحمونه من التغيير والتحريف، وشاهدين عليه أنه الحق لا مرية فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 فأين أنتم أيها اليهود؟ وأين علماؤكم الآن من الربانيين والأحبار السابقين؟ فهؤلاء يحافظون عليها، وأنتم تحرفون وتكتمون!! وإذا كان الأمر كذلك فلا تخشوا الناس أيها الأحبار المعاصرون فتكتموا الحق، من صفة النبي والبشارة بها، طمعا في الدنيا وعرضها الزائل، واخشوا الله ربكم واقتدوا بالصالحين السابقين من أمتكم، واحفظوا التوراة، وإياكم والتحريف، روى عن الحسن: أخذ الله على الحكام ألا يتبعوا الهوى، وألا يخشوا الناس، وألا يشتروا بآياته ثمنا قليلا، ولا تشتروا بآياتنا ثمنا قليلا، ومنفعة حقيرة تأخذونها، من رشوة أو جاه أو رئاسة كاذبة! وكيف تستبدلون الثمن القليل والعرض الزائل بالآيات البينات التي استحفظتم عليها وكنتم عليها شهودا؟!! واعلموا أن من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون وقد حكم اليهود في الزاني المحصن بالجلد وتركوا الرجم، وفي القتل بالتفريق بين بنى قريظة والنضير وتركوا العدل والقصاص. والله في التوراة قد سوى بين الجميع لا فرق بين أمير وخفير، ولا بين شريف ووضيع. ومن لم يحكم بما أنزل الله مستحلا له، منكرا بالقلب حكم الله، وجاحدا باللسان فهو من الكافرين، ومن لم يحكم وهو معتقد أنه مخطئ ومذنب فهو خارج عن الدين ومؤاخذ على شهادته ورضائه الحكم بغير حكم الله، وتقصيره في طلب تحكيم ما أنزل وهذا حكم عام في كل من يترك كتاب الله والحكم به. إنا أنزلنا التوراة، وفرضنا عليهم فيها أن النفس تقتل بالنفس والعين بالعين، والسن بالسن وهكذا بقية الأعضاء بالقياس، وكذا الجروح على تفصيل فيها وبيان لحدها بالضبط. فيها القصاص، وهذا الحكم في القتل أو التعدي العمد، أما الخطأ ففيه الدية، وأن تصدقوا خيرا لكم فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ يكفر الله بها ذنوبه ويعفو عنه وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [البقرة 237] روى عبادة بن الصامت عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «من تصدق من جسده بشيء كفر الله تعالى عنه بقدره من ذنوبه» . ومن لم يحكم بما أنزل الله، ويعرض عما شرعه الله من القصاص والعدل والتساوي بين الأفراد فهو من الظالمين الذين يغمطون الناس حقوقهم المشروعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 وقفينا على آثار أنبياء بنى إسرائيل بعيسى بن مريم فكان آخر نبي لبنى إسرائيل، مصدقا لما بين يديه من التوراة حاكما بها. حافظا لها لم يغير منها شيئا، وإنما أتى متمما لها كما نقل عنه في الإنجيل. وآتيناه الإنجيل الذي نزل عليه، فيه الهدى والنور. والإرشاد والوعظ الذي يهدى إلى طريق الحق، وكان مصدقا للتوراة، مؤيدا لها مع اشتماله على الهدى والموعظة الحسنة: ومن الثابت الذي لا يقبل الشك أنه كان في التوراة والإنجيل نور البشارة بمحمد صلّى الله عليه وسلّم ووصفه وأن شريعته تامة كاملة عامة، وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين، ولكن لا ينتفع بهذا كله إلا المتقون. وقلنا لأهل الإنجيل: احكموا بما أنزل الله فيه من الأحكام والمواعظ، ومما كان فيه اتباع التوراة وأحكامها حتى يرسل النبي العربي خاتم الأنبياء ولكن النصارى غيروا الإنجيل وحرفوا كلمه من بعد مواضعه ولم يحكموا به ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون والخارجون عن حدود الدين والعقل. يروى أن حذيفة سئل عن هذه الآيات أهي في بنى إسرائيل؟ قال: نعم هي فيهم، ولتسلكن سبيلهم حذو النعل بالنعل، والأوصاف الثلاثة باعتبارات مختلفة: فلإنكارهم وصفوا بالكفر، ولوضعهم الحكم في غير موضعه وصفوا بالظلم، ولخروجهم عن الحق وصفوا بالفسق، وقيل في تخريج الأوصاف: إن من يترك حكم الله معتقدا أنه لا يصلح فهو الكافر، ومن يترك لسبب آخر من ضياع الحقوق فهو ظالم، وإلا فهو فاسق. الحكم بكتاب الله ودستور القرآن [سورة المائدة (5) : الآيات 48 الى 50] وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 المفردات: مُهَيْمِناً: رقيبا حافظا لما تقدّمه من الكتب وشاهدا عليه. شِرْعَةً الشرعة في اللغة: الطريق الذي يتوصل به إلى الماء. والطريقة الظاهرة التي يتوصل بها إلى النجاة، وفي لسان الشرع: ما شرعه الله لعباده من الدين وأحكامه. وَمِنْهاجاً: طريقا مستمرا واضحا. فَاسْتَبِقُوا: تسابقوا وسارعوا إلى الطاعات. أَنْ يَفْتِنُوكَ: أن يميلوا بك من الحق إلى الباطل. المناسبة: فيما مضى تكلم القرآن عن التوراة والإنجيل وما فيهما من نور وهدى وموعظة للمتقين، أما القرآن الكريم والدستور المبين الذي نزل على الرسول الأمين خاتم الأنبياء والمرسلين فها هو ذا. المعنى: وأنزلنا إليك يا محمد الكتاب الكامل، الذي يحق أن يطلق عليه اسم الكتاب فقط، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 ذلك الكتاب، لا ريب فيه، هدى للمتقين، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. أنزلناه عليك ملتبسا بالحق داعيا إليه، مؤيدا به مشتملا عليه، مقرا له، مصدقا لما بين يديه من الكتب كالتوراة والإنجيل. إذ قال: هما من عند الله، وإن موسى وعيسى رسولان من عنده، لم يفتريا على الله كذبا وبهتانا، وإنما حرفتم أنتم وآباؤكم، وكتمتم ونسيتم كثيرا مما أوتيتم. حالة كونه مهيمنا على جنس الكتاب المنزل على الرسل السابقين رقيبا عليه. حيث بين حقيقة هذه الكتب وشهد لها بالصحة وبين عمل أصحابها فيها من نسيان وتحريف، فها هو ذا قد حفظها وهيمن عليها وأظهر حقيقتها للناس. وإذا كان هذا شأن القرآن ومنزلته. فاحكم يا محمد وكذا كل حاكم. احكم بينهم بما أنزل الله، فهو واحد لم يتغير في القرآن والإنجيل والتوراة. على أن ما في القرآن كان ناسخا للكل متمما شاملا وما قبله كان كالمقدمة. ولذلك قال: احكم بينهم بما أنزل الله، فإنه الحق الذي لا محيص عنه. والمشتمل على جميع الأحكام الشرعية التي تصلح للعالم إلى يوم القيامة. ولا تتبع أهواءهم فيما حرفوا وبدلوا. من حكم الرجم والقصاص في القتل، والمعنى: لا تعدل عما جاءك من الحق متبعا لأهوائهم لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً قال الآلوسي ما معناه: وهذا استئناف مسوق لحمل أهل الكتاب المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم على الانقياد لحكمه. واتباع شرعه. ذلك أنهم كلفوا بالعمل بالقرآن دون غيره من الكتب، لكل أمة منكم أيها الناس- الشاملون للموجودين أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم والسابقين لهم أيام موسى وعيسى- وضعنا شرعة ومنهاجا خاصين بتلك الأمة لا تكاد تتخطاهما، فالأمة من بنى إسرائيل التي كانت موجودة من مبعث موسى إلى مبعث عيسى شرعتها التوراة، وهم من مبعث عيسى إلى مبعث محمد شرعتهم الإنجيل، والأمة من الناس أجمعين من مبعث محمد صلّى الله عليه وسلّم إلى يوم القيامة شرعتها ومنهاجها القرآن لأن محمدا خاتم الأنبياء، وأرسل للناس جميعا إلى يوم القيامة ودستوره أتم دستور وكتابه أكمل كتاب، وليست هذه دعوة، وإنما الواقع يؤيد ذلك. ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة، لها دين واحد وكتاب واحد ورسول واحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 لجعلكم كذلك، ولكنه لم يشأ ذلك بل شاء غيره. ليعاملكم- سبحانه وتعالى- معاملة من يبتليكم فيما آتاكم من الشرائع لحكم إلهية يقتضيها كل عصر. إذا كان الأمر كذلك فسارعوا إلى مغفرة من ربكم وتسابقوا في عمل الطاعات، واعلموا أن المرجع إلى الله وحده وإليه المصير! فينبئكم بما كنتم تختلفون، وسيجازيكم على ذلك كله. وأنزلنا إليك الكتاب: وأنزلنا أن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم، وقد كرر الأمر بالحكم بالقرآن لأن الاحتكام إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم كان في حادثة الرجم وحادثة القصاص في القتلى. أخرج ابن جرير عن ابن عباس: قال كعب بن أسد وعبد الله بن صوريا وشاش بن قيس من اليهود: اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه، فأتوه فقالوا: يا محمد إنك عرفت أنا أحبار يهود وأشرفهم وسادتهم، وأنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا، وأن بيننا وبين قوم خصومة، فنخاصمهم إليك، فتقضى لنا عليهم ونؤمن بك ونصدقك، فأبى ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وأنزل الله- عز وجل- وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك ... الآية. فكانت إقرارا للنبي صلّى الله عليه وسلّم على ما فعل، وأمرا بالثبات على الحق وعدم الانخداع بأقوال هؤلاء وأمثالهم. فإن تولوا وأعرضوا، فلا يهمنك أمرهم ولا تبال بهم، واعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم، وهو التولي والإعراض. أما بقية ذنوبهم وما أكثرها فلهم عذاب أليم، والله أعلم به، وإن كثيرا منهم لفاسقون وخارجون عن حدود العقل والدين والمروءة. عجبا لهؤلاء! أيتولون عن قبول حكمك بما أنزل الله وهو الحكم العدل والرأى الوسط الرشيد. فيبغون حكم الجاهلية؟ لعجب وأى عجب هذا؟! أهناك من يترك دستور الرحمن وهدى القرآن لرأى الجاهلية الحمقاء؟ وما كانوا عليه من التفاصيل وضياع الحقوق. ولعمري نحن الآن وقد تركنا ديننا ونبذنا دستورنا، لأنّا أشدّ من هؤلاء! إذ هم خارجون عن الإسلام لا يعترفون به كدين إلهى أو على الأقل لا يعرف حقيقته إلا أحبارهم، أما نحن فندعى الإسلام، ونأمل في الجنة وثواب الله، ومع هذا تركنا حكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 القرآن إلى رأى هو كرأى الجاهلية بل أشد ميوعة ومحاباة، فالقانون الوضعي يحمى الجرائم والمجرمين! هذا الخطاب في الآية وهذا الاستفهام والتعجب والإنكار إنما هو لقوم يوقنون أنه لا أعدل من الله ولا أحسن حكما منه..! موالاة اليهود والنصارى وعاقبتها [سورة المائدة (5) : الآيات 51 الى 53] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53) المفردات: مَرَضٌ: شك ونفاق. دائِرَةٌ: ما يدور به الزمان من المصائب والإحن التي تحيط بالمرء إحاطة الدائرة بما فيها. حَبِطَتْ: بطلت أعمالهم. سبب النزول: روى الرواة أنه جاء عبادة بن الصامت من بنى الخزرج إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله إن لي موالي من اليهود كثيرا عددهم، وإنى أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود، وأتولى الله ورسوله. فقال عبد الله بن أبى: إنى رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 موالاة موالي. فقال الرسول صلّى الله عليه وسلّم لعبد الله بن أبى: «يا أبا الحباب: أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة، فهو لك دونه» قال: إذن أقبل، فنزلت هذه الآية . المعنى: يا من اتصفتم بهذا الوصف وهو الإيمان بالله ورسوله، سواء كان هذا باللسان فقط ولا إخلاص معه. أو كان إيمانا صادقا ومعه الإخلاص. لا يليق بكم أن تفعلوا ما نهاكم الله عنه من اتخاذ اليهود والنصارى أولياء تلقون إليهم بالمودة، وتسرون إليهم بما أخفيتم وما أعلنتم، وتتحابون إليهم وتصادقونهم، إذ بعض اليهود أولياء بعض، وبعض النصارى أولياء بعض، والكل متفق على كلمة واحدة هي بغضكم بغضا شديدا. ومن يتولهم منكم فإنه منهم، أى: من جملتهم، وحكمه حكمهم. وهذا تشديد على المنافقين الذين يتخذون صداقات، ويربطون صلات باليهود والنصارى وأعداء الدين. إن الله لا يهدى الظالمين أنفسهم بموالاة الكفار أيا كان السبب. فترى يا محمد وكذا كل من تصح منه الرؤية. ترى الذين في قلوبهم مرض: الشك والنفاق كعبد الله بن أبى وأضرابه، يسارعون في موالاتهم، ويرغبون فيها رغبة أكيدة خاصة للشيطان، وانظر إلى تعبير القرآن (يسارعون فيهم) بدل (يسرعون إلى موالاتهم) للإشارة إلى أنهم منتقلون من بعض مراتبها إلى بعض فهم مستقرون فيها. يقولون متعللين: نخشى أن تصيبنا دائرة تدور علينا من دوائر الدهر. ودولة من دولة، بأن ينقلب الأمر للكفار واليهود وتدول الدولة على المسلمين فنحتاج إليهم فلا يسعفوننا بالميرة والطعام- أرأيت كيف لا يثق المنافقون بوعد الله؟ وأن حزب الله هم المفلحون. وعسى الله أن يأتى بالفتح، و (عسى) في القرآن وعد محتوم فإن الكريم متى أطمع أطعم، وإذا وعد حقق، فما ظنك بأكرم الأكرمين؟ وهو على كل شيء قدير. والمراد بالفتح: فتح مكة، أو فتح من عنده شامل لتأسيس الدولة، وانتظام شؤونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 واستقرارها في الوجود، أو أمر من عنده يفضح حال المنافقين، ويهتك سترهم، ويرد كيدهم في نحورهم وقد صدق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده فيصبح أولئك المنافقون نادمين على ما أسروا وكتموا!! ويقول الذين آمنوا تعجبا وتعريضا وشماتة بهم مخاطبين اليهود، ومشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم، وقد بدت الأمور على غير ما كانوا يرجون: أهؤلاء (المنافقون) الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم أيها اليهود؟ حبطت أعمالهم التي كانوا ينافقون بها من صلاة وصوم ... إلخ. فأصبحوا خاسرين دنيا وأخرى. وهذا مرض خطير ينتشر في الأمم الضعيفة المستعبدة، ترى الكثير من أبنائها الذين في قلوبهم ضعف وفي نفوسهم مرض يلجئون إلى الأعداء من الأجانب يتخذون عندهم يدا لأنهم ليسوا مؤمنين بالنصر وأن الدولة لهم. يا قوم: اسمعوا وعوا واعتبروا. فإنما يتذكر أولوا الألباب!! المرتدون والمحاربون لهم [سورة المائدة (5) : الآيات 54 الى 56] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 المفردات: يَرْتَدَّ الارتداد: الخروج من الإسلام والدخول في الكفر مطلقا، أو بسبب ترك ركن كالزكاة جهارا وعنادا. يُحِبُّهُمْ: يجازيهم على أعمالهم أحسن الجزاء وأتمه. وَيُحِبُّونَهُ: يخلصون له في العمل، يطيعونه في كل أمر ونهى. أَذِلَّةٍ: جمع ذليل، بمعنى عاطفين عليهم. أَعِزَّةٍ: جمع عزيز، بمعنى أنهم متعالون عليهم. راكِعُونَ: خاشعون وخاضعون. حِزْبَ اللَّهِ: الجماعة المجتمعة التي حزبها أمر من الأمور وألمّ بها اتجاه خاص. روى أنه ارتد عن الدين إحدى عشرة قبيلة: ثلاث أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم وسبع أيام أبى بكر- رضى الله عنه- وجبلة بن الأيهم أيام عمر- رضى الله عنه- فالذين ارتدوا أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم: (أ) بنو مدلج ورئيسهم الأسود العنسي تنبأ باليمن، وكان كاهنا وأهلكه الله على يد فيروز الديلمي. (ب) بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، الذي تنبأ وأرسل كتابا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وفيه: أنه شريك وأن الأرض قسمان، فكتب له النبي صلّى الله عليه وسلّم: من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب، والسلام على من اتبع الهدى. أما بعد: فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ، وقاتله أبو بكر- رضى الله عنه- والذي قتله وحشي قاتل حمزة. (ج) بنو أسد وزعيمهم طلحة بن خويلد ارتد أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم وقاتله أبو بكر في خلافته، ففر إلى الشام وأسلم وحسن إسلامه. المرتدون أيام أبى بكر: (1) غطفان وزعيمهم قرة بن سلمة. (2) فزارة قوم عيينة بن حصن. (3) بنو سليم قوم الفجاءة عبد ياليل. (4) بنو يربوع قوم مالك بن نويرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 (5) بعض بنى تميم وزعيمتهم سجاح بنت المنذر الكاهنة. (6) كندة قوم الأشعث بن قيس. (7) بنو بكر بن وائل. وقد ارتد أيام عمر جبلة بن الأيهم من الغسانيين تنصر ولحق بالشام، وله في ذلك شعر وحوادث، وسبب ارتداده أنه كان بمكة يطوف فوطئ إزاره رجل من بنى فزارة فلطمه جبلة فهشم أنفه، فاستعدى الفزاري عليه عمر- رضى الله عنه- فحكم إما بالعفو أو القصاص، فقال جبلة: أتقتص منى وأنا ملك وهو سوقة؟ ... إلخ ما هو مذكور في كتب التاريخ. المعنى: يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه في المستقبل- والعياذ بالله- كالقبائل التي ذكرناها، فسوف يأتى الله بقوم هو أعلم بهم، قيل: هم من اليمن أو فارس، والظاهر أنهم أبو بكر والصحابة- رضوان الله عليهم أجمعين- وقد وصفهم القرآن بصفات: أنهم يحبون الله باتباع أمره واجتناب نهيه، ويحبهم الله بعطفه وتوفيقه ورضوانه ومجازاتهم أحسن الجزاء. وهم أذلة عاطفون على المؤمنين، مكانتهم عالية ولكنهم متواضعون يرأفون بالمؤمنين ويخفضون لهم جناح الذل من الرحمة، وعلى الكافرين أعزة، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، غلاظ شداد عليهم إذا حاربوهم، لا يقبلون الدنية في دينهم. يجاهدون في سبيل الله وفي سبيل نصرة الحق والفضيلة والدين وإعلاء كلمته وفي سبيل خدمة الوطن وأهله، يجاهدون ببذل النفس والنفيس ولا يخافون في الحق وإظهاره لومة لائم. ولا يرجون ثوابا من أحد، ولا يخافون عذابا من أحد، بل تصدر أعمالهم بإخلاص لله ورسوله. وفي هذا تعريض بالمنافقين في كل عصر وزمان. وذلك فضل الله وتوفيقه وهدايته وإرشاده يؤتيه من يشاء من عباده الذين فيهم الاستعداد للخير والميل بطبعهم وفطرتهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 وأحسن ما قيل في مثل هذا الموضوع أن القوى النفسية والبدنية التي في العبد من الله قطعا، والاتجاه بها إلى الخير أو الشر من العبد، وهذا مناط الثواب والعقاب في الدنيا والآخرة. وهب أنك تقود سيارة لشخص وقد حذرك مرارا من المخالفات وأمرك بطاعة أوامر الحكومة، وعلى كل طريق لافتة واضحة تعلن الثواب والعقاب، فقدتها مرة في الطريق السهل وحافظت على الأوامر فلم يهلك حرثا ولا نسلا، ومرة خالفت الأوامر فأهلكت الحرث والنسل، أمن العدل أن تترك في الحالتين؟ أمن العدل أن تحاسب صاحب السيارة أم قائدها؟؟ المعقول أننا نحاسب القائد ونجازيه في الحالتين، وهكذا نحن في الدنيا!! والله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم، والله ذو الفضل العظيم. وإنما وليكم الواجب الاتجاه إليه هو الله ومعه رسوله والمؤمنون الذين يقيمون الصلاة كاملة تامة ويؤتون الزكاة في ركوع وخشوع وخضوع، بلا نفاق وبلا رياء. ومن يتول الله ورسوله والمؤمنين فإنه هو الناجي الفائز، لأن حزب الله وجماعته هم الغالبون إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ «1» . النهى عن موالاة الكفار والسبب في ذلك [سورة المائدة (5) : الآيات 57 الى 63] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَلَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63)   (1) سورة محمد آية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 المفردات: هُزُواً سخريا. وَلَعِباً اللعب: ضد الجد. نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ: دعوتهم لها بالأذان والإقامة. تَنْقِمُونَ نقم ينقم: أنكر وعاب عليه قولا أو عملا. مَثُوبَةً: جزاء وثوابا، من ثاب إليه: إذا رجع، ولا شك أن الجزاء يرجع إلى صاحبه. الطَّاغُوتَ: كل ما عبد من دون الله، وعبادته مجاز عن طاعته. المعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وكذا المشركين. لا تتخذوهم أولياء أبدا فإنهم يودون عنتكم ومشقتكم، وقد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفى صدورهم أكبر، بعضهم أولياء بعض، مع أن موالاتهم تغضب الله ورسوله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 وهم الذين اتخذوا دينكم ومشاعره هزؤا وسخرية، ومظهرا من مظاهر اللعب والضحك ولا شيء أشق على النفس من استهزاء المعاند له وسخريته به وبرأيه وشعاره، واتقوا الله أيها الناس واخشوا عذابه ووعيده على الموالاة إن كنتم مؤمنين. كرر الله نهى المؤمنين عن موالاة أعدائهم من الكفار تنفيرا لهم عنها، وتسجيلا على الكفار فعلهم. وبعد أن أثبت الله استهزاءهم بالدين على وجه العموم وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ «1» سجل عليهم استهزاءهم بنوع خاص هو عماد الدين وأساسه: هو الصلاة. وإذا ناديتم إلى الصلاة بالأذان والإقامة اتخذوا هذه المناداة والصلاة هزؤا ولعبا، ما ذلك الاستهجان القبيح إلا لأنهم قوم لا عقل لهم يرشدهم ولا رأى يهديهم بل هم في ضلالهم يعمهون. إذا ما أروع هذا النداء الذي يهز القلوب ويجلوها، ويطهر النفوس ويزكيها، يا سبحان الله!! أهذا النداء يضحك؟ الله أكبر. الله أكبر. نعم، الله أكبر من كل شيء في الوجود، استفتاح يا له من استفتاح! وانظر إلى إتباعه بالشهادتين لله ورسوله وهما ركنا الإيمان ودعامته! وما أروع قول المؤذن: حي على الصلاة! أقبلوا عليها بجد ونشاط ونفس راضية مطمئنة، حي على الفلاح: وهل هناك فلاح أكثر من هذا وأعلى؟! قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [سورة الشمس الآيتان 7 و 8] الله أكبر، لا إله إلا الله! روى ابن جرير عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نفر من اليهود: أبو ياسر ابن أخطب، ورافع بن أبى رافع في جماعة فسألوه عمن يؤمن به من الرسل؟ فقال: آمَنَّا بِاللَّهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ «2» فلما ذكر عيسى جحدوا نبوته وقالوا: لا نؤمن بمن آمن به، وروى أنهم قالوا: لا نعلم شرا من دينكم ، فنزلت الآيات الآتية:   (1) سورة البقرة آية 14. (2) سورة البقرة آية 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 قل يا أهل الكتاب ما تنقمون منا، وما تعيبون علينا إلا إيماننا بالله ورسله إيمانا صادقا خالصا، مع وصف الله- سبحانه وتعالى- بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص، وكذا الرسل جميعا- عليهم السلام- لا نفرق بين أحد منهم مع وصفهم بما يليق بهم شرعا، وكذا ما أنزل عليهم من الكتب. وإن أكثركم لفاسقون وخارجون عن حدود العقل والرأى والدين الصحيح، يا عجبا كل العجب! أيكون مناط المدح عنوان الذم؟ ولله در الشاعر العربي حيث يقول: ما نقموا من بنى أمية إلا ... أنهم يحلمون إن غضبوا قل يا محمد لهم: من أنبئكم أيها المستهزئون بديننا القائلون: لا نعلم شرا من دينكم- بما هو شر من ذلك الدين الذين تنقمون به علينا؟ دين من لعنه الله وغضب عليه بسبب سوء فعله، وهذا تبكيت لهم شديد بذكر جرائم آبائهم، وجزائهم عليها إذ اللعن والغضب نهاية العقاب والمؤاخذة من الله لهم. ودين من جعل منهم القردة والخنازير وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ [سورة البقرة آية 65] . أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل، وكان التعبير ب (شر) مع أن هذا الدين خير محض مجاراة لهم في اعتقادهم ومشاكلة للفظهم. وهاك سيئة أخرى تقتضي وحدها عدم الموالاة. وإذا جاءوكم وحضروا مجالسكم وخاصة مجلس الرسول قالوا: آمنا باللسان فقط، والحال أنهم دخلوا متلبسين بالكفر مؤتزرين به لا يفارقهم، وهم قد خرجوا به والله أعلم بما يكتمون- حين الدخول- من النفاق وعند الخروج من العزم والكيد والمكر، وما ملئت به قلوبهم من الحسد والبغضاء لكم. فاحذروهم ولا توالوهم. وترى كثيرا منهم يسارعون في ارتكاب الإثم والعدوان ويقبلون عليهما راغبين فيهما بجد ونشاط، ويقبلون على أكل السحت والدنىء من المحرم، تالله لبئس العمل عملهم. ويا ضلال هؤلاء أما وجدوا من يرشدهم؟ أما وجدوا من ينكر عليهم؟ لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم والكذب والبهتان في أمور الدين، وأكلهم السحت؟ تالله لبئس ما كان يصنع هؤلاء الأحبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 ولعل سائلا يقول: لم يقال في جانب الشعب لبئس ما كانوا يعملون وفي جانب الأحبار والعلماء لبئس ما كانوا يصنعون؟ والجواب: أن الفعل ما يصدر عن الإنسان مطلقا، فإن قصد كان عملا، وإن صاحبه دوام ومرونة كان صنعة، وكان صاحبه صانعا. على أن فاعل المعصية من الناس تدفعه شهوته ونفسه إليها، وأما الذي ينهاه من الأحبار والعلماء بالطبع لا شهوة معه تدفعه إلى العمل ولا إلى عدم الإنكار، أشد إثما وأعظم جرما من الفاعل نفسه. روى عن ابن عباس: (ما في القرآن أشد توبيخا من هذه الآية) يريد أنها حجة على العلماء إذا هم قصروا في الهداية والإرشاد!! من سيئات اليهود وطريق السعادة في الدارين [سورة المائدة (5) : الآيات 64 الى 66] وَقالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 المفردات: اليد تطلق على الجارحة وتطلق مجازا على النعمة وعلى العطاء. مَغْلُولَةٌ: ممسكة عن الإنفاق. غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ: أمسكت عن الإنفاق والخير. مَبْسُوطَتانِ المراد: كثيرة العطاء. أَقامُوا التَّوْراةَ: عملوا بما فيها على أتم وجه وأكمله، وكذا الإنجيل. مُقْتَصِدَةٌ: معتدلة. سبب النزول: روى الطبراني عن ابن عباس قال: قال رجل من اليهود- قيل: هو النباش بن قيس، وقيل هو فنحاص كبير بنى قينقاع- قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن ربك بخيل لا ينفق، فأنزل الله هذه الآية. المعنى: بعد أن عدد من سيئاتهم، وسجل عليهم بعض أعمالهم الموروثة، يذكر سيئة من أفظع سيئاتهم ألا وهي وصف الله- سبحانه- بما لا يتفق أبدا مع العقل، ولا يقول به رجل من أهل الكتاب. وقالت اليهود- أى بعضهم-: يد الله مغلولة. وغل اليد وبسطها مجاز عن البخل والجود، ألا ترى إلى قوله سبحانه: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [سورة الإسراء آية 29] وقول النبي: «أطولكن يدا أسر عكن لحوقا بي يوم القيامة» . والمراد بطول اليد: الجود والكرم. قال بعضهم: هذا لما أصابتهم أزمة مالية. غلت أيديهم، وأمسكت عن الجود والخير، فهم القوم البخلاء الأنانيون لعنهم الله بما قالوا، فهو الكريم ويحب كل كريم، ويداه مبسوطتان للعطاء، ينفق كيف يشاء، على وفق الحكمة الإلهية فهو يعطى ويمنع، ويقبض ويبسط لحكم هو أعلم بها اللَّهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ [سورة الرعد آية 26] ، وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ [سورة الشورى آية 27] . وتالله ليزيدن الذي ينزل عليك من الآيات البينات التي تكشف سترهم وتطلعك على أعمالهم ونواياهم، ليزيدنهم ذلك طغيانا وظلما وجحودا وبطرا، يا سبحان الله! إنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور. ما كان سببا في الخير يكون عندهم سببا في الشر! ولقد حكم عليهم بأن ألقى بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة، تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى، فلا يهمنك أمرهم، ولا تغتر باتفاقهم في فلسطين المنكودة، فهي سحابة صيف لهم، وتنبيه من الله لنا علّنا نثوب إلى رشدنا ونرجع إلى ديننا. وكلما أوقدوا نارا للحرب في الخارج أو الداخل كإثارة الفتن وتشتيت الكلمة وتأليب العدو، كلما فعلوا هذا أطفأ الله نارهم، وأبطل عملهم، وهم دائما يسعون في الأرض فسادا، والله لا يحب المفسدين وسيجازيهم على ذلك بأقسى أنواع العقاب. وفي كتب التاريخ القديم والحديث ما يشهد على هذا! ثم بعد هذا وسعت رحمته كل شيء وفتح باب كرمه للتائبين الذين يقبلون عليه ولو كانوا من أهل الكتاب أو غيرهم. ولو أن أهل الكتاب آمنوا بكتبهم وبالقرآن ولم يحرفوا ولم يركبوا رءوسهم واتقوا الله في كل أعمالهم لكفرنا عنهم سيئاتهم التي اقترفوها ومحونا عنهم أوزارها ولأدخلناهم جنات النعيم. ولو أنهم أقاموا التوراة والإنجيل المنزلين من عند الله بنور التوحيد والهداية ولم يسمعوا لأحبارهم ومفترياتهم، وآمنوا بما أنزل إليهم من ربهم: لا سيما القرآن الكريم، وعملوا بما فيها على خير وجه وأتمه لبسط الله الرزق لهم وأنزل عليهم الخير والتوفيق وأكلوا من كل جهة وجانب. وفي هذا إشارة إلى أن العمل الصالح من الإيمان الكامل مدعاة لرضا الرب وسعة الرزق، والسعادة في الدنيا والآخرة مع سلوك الطرق المعروفة والنظم المألوفة في عالم الاقتصاد! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 من أهل الكتاب وكذا كل أمة في الوجود جماعة قليلة معتدلة في الرأى، والكثير الغالب منهم فاسقون وخارجون عن أصول الدين والعقل، وصدق رسول الله: «الناس كإبل لا تجد فيها راحلة» . تبليغ الرسول للدين [سورة المائدة (5) : الآيات 67 الى 69] يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَكُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) المفردات: يَعْصِمُكَ: يحفظك، مأخوذ من عصام القربة، وهو ما يربط به فمها من خيط أو سير جلد. الصَّابِئُونَ الخارجون من الأديان كلها، وقيل: هم قوم عبدوا الملائكة وصلّوا إلى غير القبلة. روى ابن مردويه عن ابن عباس قال: سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أى آية من السماء أنزلت أشد عليك؟ فقال: كنت بمنى أيام الموسم، واجتمع مشركو العرب وأفناء الناس فنزل علىّ جبريل فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ (الآية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 فقلت: أيها الناس: من ينصرني على أن أبلغ رسالات ربي ولكم الجنة؟ أيها الناس لا إله إلا الله وأنا رسول الله إليكم تفلحوا وتنجوا ولكم الجنة. قال صلّى الله عليه وسلّم: «فما بقي رجل ولا امرأة ولا صبي إلا يرمون علىّ بالتراب والحجارة ويقولون: كذاب صابئ» فجاء عمه العباس فأنقذه منهم وطردهم عنه. المعنى: نادى الله- سبحانه وتعالى- حبيبه بوصف الرسول، التي تقتضي التبليغ التام الكامل، أيها الرسول: بلغ جميع ما أنزل إليك من ربك ولا تخش أحدا، ولا يهمك شيء أبدا، فإنك إن لم تبلغ الكل فما بلغت رسالته، فكأن كتمان شيء من الرسالة، ولو إلى أجل هو كتمان للكل تفظيعا لجرم الكتمان، وكيف يكتم الرسول صلّى الله عليه وسلّم شيئا من الرسالة خوفا أو خشية؟ والله يعصمك من الناس أجمعين. ويعصمك من القتل والفناء، أما العذاب والشدائد والآلام والحروب والإحن فهي الحوادث التي تخلق الرجال، والبوتقة التي صهرت الناس فظهر المؤمن الصادق من المنافق الكاذب، كما بينا ذلك في العزوات. وكيف يكون رسول الله والله لا يعصمه؟ وهو المعصوم من كل سوء!! انظر كيف يضل المسيحيون حين يعتقدون صلب المسيح وقتله؟ ولعل الحكمة في هذه الآية، أن يعرف الجميع أن النبي صلّى الله عليه وسلّم رسول رب العالمين، بلغ جميع ما أنزل إليه من ربه لم يكتم شيئا، ولم يخص أحدا بشيء وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام آية 153] إن الله لا يهدى القوم الكافرين الذين يؤذونك ويعاندوك. قل لهم: يا أهل الكتاب من اليهود والنصارى لستم على شيء يعتد به من أمر الدين، ولا ينفعكم الانتساب إلى موسى وعيسى والنبيين حتى تقيموا التوراة والإنجيل، وإقامتها العمل بكل ما فيها من التوحيد الخالص والبشارة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وصفته، وحتى تقيموا ما أنزل إليكم من ربكم على لسان محمد صلّى الله عليه وسلّم وهو القرآن المصدق لما تقدمه من الكتب والمكمل للرسالات السابقة، ونحن أيها المسلمون لسنا على شيء أبدا حتى نقيم القرآن ونعمل بأحكامه. ونهتدي بهديه في كل أمورنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 وأقسم الله ليزيدن كثيرا منهم ما أنزل إليك من ربك وهو القرآن طغيانا على طغيانهم وكفرا على كفرهم وذلك بسبب حسدهم الكامن حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ من ربّهم. «1» أما القليل منهم الذين يؤمنون بالله وبكتبه فلا يزيدهم القرآن إلا هدى ورشادا وخيرا وإسعادا. وإذا كان هذا شأن القرآن، فلا يهمنك أمرهم، ولا تأس على القوم الكافرين. وهاك قانونا عاما وحكما شاملا للجميع على اختلاف أشكالهم وألوانهم، ولا غرابة فهي الرسالة العامة وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ «2» إن الذين آمنوا باللسان كالمنافقين، والذين هادوا من أتباع موسى- عليه السلام- والذين صبئوا وخرجوا عن حدود الأديان، والنصارى من أتباع المسيح- عليه السلام- من آمن بالله ورسله واليوم الآخر إيمانا صادقا، وعمل عملا صالحا، فلا خوف عليهم أبدا من عذاب يوم القيامة. ولا هم يحزنون أبدا بل هم في جنات النعيم، وعلى الأرائك ينظرون. من قبائح اليهود أيضا [سورة المائدة (5) : الآيات 70 الى 71] لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَأَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)   (1) سورة البقرة آية 109. (2) سورة سبأ آية 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 المعنى: لا يزال الكلام في أهل الكتاب وتعداد سوءاتهم وقبائحهم وخاصة اليهود. تالله لقد أخذنا العهد الموثق على بنى إسرائيل ليؤمنن بالله ورسله ولا يكتمونه أبدا، وأرسلنا إليهم رسلا، يؤكدون هذا العهد، ويحددون هذا الميثاق، حتى يكونوا على ذكر منه أبدا ولكنهم اليهود، كلما جاءهم رسول من عند الله بما لا تهواه أنفسهم لأنهم لا يهوون إلا الشر، ناصبوه العداء، وساموه سوء العذاب، وكأن سائلا سأل وقال: ماذا كانوا يفعلون؟ فأجيب: فريقا منهم كذبوا وفريقا منهم كانوا يقتلون الأنبياء من غير ذنب ولا جريرة إلا أنهم كانوا يقولون: ربنا الله.. لعنهم الله!! قد ظنوا ظنا يكاد يكون كاليقين أنهم لا تكون لهم فتنة أبدا، ولا يختبرون بالشدائد أصلا، وكيف يكون هذا وهم (كما يعتقدون) أبناء الله وأحباؤه وهم من نسل الرسل الكرام فلا يعذبون بذنوبهم أبدا. فعموا لهذا وصموا عن آيات الله التي أنزلها في كتبه وعموا عما يحصل لهم من الإنذارات والشدائد فلم يتعظوا بشيء أبدا، وصموا عن سماع القوارع من الحجج والآيات البينات. ثم تابوا بعد عبادتهم العجل وقبل الله توبتهم، ثم عموا وصموا مرة ثانية حيث طلبوا رؤية الله وقتلوا الأنبياء كزكريا ويحيى وحاولوا قتل عيسى ابن مريم وخالفوا أوامر الله ورسله. وقوله تعالى: كَثِيرٌ مِنْهُمْ يفيد أن أكثرهم العصاة وأقلهم المؤمنون الصالحون. وأما نحن- أيها المسلمون- حذار حذار من ادعائنا وغرورنا بدون العمل، حذار حذار ألا نلتفت إلى التنبيهات والقوارع التي تصيبنا، حذار من أن ينطبق علينا هذا الكلام!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 الإله عند المسيحيين [سورة المائدة (5) : الآيات 72 الى 76] لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْواهُ النَّارُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) المعنى: بعد أن عدد قبائح اليهود أخذ يذكر شيئا من عقيدة النصارى في الإله! تالله لقد كفر الذين قالوا: إن الله هو المسيح ابن مريم، وكيف لا يكفرون وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 ضلوا ضلالا بعيدا جدا، عن العقل والدين إذ هم يقولون: إن الله مركب من ثلاثة أقانيم، أى: أصول: الأب، والابن، وروح القدس. وقد حل الأب والابن واتحد وكون روح القدس، وكل واحد من هذه الثلاثة عين الآخر، والثلاثة واحد والواحد ثلاثة، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا. على أن خلاصة أقوالهم أن الله هو المسيح والمسيح هو الله. ولقد رد القرآن عليهم: كيف تقولون هذا البهتان وقد قال المسيح ابن مريم: يا بنى إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، فقد أمرهم بعبادة الله وحده معترفا بأنه ربه وربهم ودعاهم إلى التوحيد الخالص من كل شرك. وهذا هو عيسى يحذرهم عاقبة الشرك والوثنية: إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة، ومأواه النار، وما للظالمين لأنفسهم باتخاذ الشركاء والآلهة من نصير ينصرهم ولا شفيع يشفع لهم وينقذهم مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة 255] لقد كفر الذين قالوا: إن الله ثالث ثلاثة، أى: واحد من ثلاثة التي هي الأقانيم الثلاثة. وما من إله في الوجود يستحق العبادة إلا إله واحد، فرد، صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، سبحانه وتعالى عما يشركون!. وإن لم ينتهوا عما يقولون ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم. أعموا فلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه ويرجعون إليه؟ والله كتب على نفسه الرحمة وهو الغفور الرحيم. أما حقيقة المسيح عيسى بن مريم، فهو رسول كبقية الرسل أيد بالمعجزات الخوارق للعادة كالنبيين السابقين، وكما أيد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بالمعجزة الباقية الخالدة: القرآن. إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ. [سورة النساء آية 171] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 وأما أمه فهي الصديقة الطاهرة نفخ الله فيها من روحه وصدقت بكلمات ربها فكانت من القانتين. وأما حقيقتها الشخصية والنوعية فمساوية لسائر البشر بدليل أنهما يأكلان الطعام ليقيما به أودهما، ومرت بهما ظروف خاصة وعامة كغيرهما، وهما يذهبان إلى الخلاء ليقضيا حاجتهما فهل يكون أمثال هذين آلهة تعبد؟!! انظر يا من يتأتى منك النظر! كيف نبين لهم الآيات، ثم بعد هذا يغالون في البعد عن المنطق السليم، وكيف يصرفون عن استبانة الحق كأن عقولهم فقدت- بسبب التقاليد- وظيفتها؟!! خلاصة نظرية القرآن في المسيح تعرض القرآن الكريم إلى المسيح عيسى ابن مريم وقد غالى فيه أهل الكتاب، فاليهود ينكرون نبوته ويفترون عليه الكذب، ويقولون عليه وعلى أمه البهتان. والمسيحيون يغالون في رفع عيسى عن البشر، فتارة يجعلونه إلها، أو الآلهة ثلاثة والمسيح بن مريم واحد منهم، وتارة يقولون: هو ابن الله. فقال القرآن القول الحق، والرأى الوسط في عيسى ابن مريم ذلك في الآيات 71، 172 من سورة النساء وقد مر تفسيرهما، وفي آية 17 من سورة المائدة والآيات 72، 73، 74، 75، 76 من السورة نفسها (هذه الآيات كلها مفسرة في هذا الجزء) . وخلاصته أن المسيح عيسى ابن مريم نبي من الأنبياء ورسول الله إلى بنى إسرائيل، وقد خلق بكلمة الله التكوينية، ومؤيد بروح منه تعالى، وهو عبد الله وخاضع له ولن يستنكف من هذا بل ظل يدعو إليه كما في الإنجيل. وعيسى رسول كبقية الرسل أيد بالمعجزات الموافقة لعصره كأى نبي أرسل، والله يخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير. ولا غرابة في شأن ولادته فهذا آدم وهذه حواء، وهذه أصول الحيوانات جميعا!!! والله- سبحانه وتعالى- هو الدائم الباقي القوى القادر، لا راد لقضائه ولا معقب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 لحكمه، إذا أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه ومن في الأرض جميعا، فهل يمنعه مانع! والمسيح نفسه يقول: يا بنى إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم، ثم يحذرهم الشرك وعاقبته، ويبين القرآن أن التثليث خطأ، وما من إله إلا إله واحد، لا إله إلا الله سبحانه وتعالى عما يشركون ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ [المائدة 117] . على أن المسيح وأمه بشر كبقية البشر إلا أن عيسى رسول من الله وأمه صديقة طاهرة كانا يأكلان الطعام ويذهبان إلى الخلاء، ولهما كل عوارض البشر وصفاتهم، وهما لا يملكان لأنفسهما نفعا ولا ضرا فكيف يعبدان!! هذه هي خلاصة لما في هذه الآيات القرآنية بالنسبة لعيسى ابن مريم. ولقد قرأنا الكثير من الأناجيل فوجدنا فيها آيات متشابهة جعلت النصارى يقولون بالتثليث تارة، وبأن الله هو المسيح مرة أخرى، أما الآيات المحكمة في الإنجيل فلإثبات الوحدانية لله تعالى، ولبيان حقيقة المسيح وهي كما في القرآن مع فارق بسيط جدا (اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون) وكان للوثنية عند اليونان والرومان والمصريين أثر كبير في انحراف النصارى عن تعاليم المسيح المحكمة، ففي إنجيل مرقص الإصحاح السابع الآية 7، 8 (وباطلا يعبدونني وهم يعلمون تعاليم هي وصايا الناس. لأنكم تركتم وصية الله وتتمسكون بتقليد الناس) . المتشابه في الإنجيل: في إنجيل يوحنا الإصحاح الأول العدد 1 (في البدء كان الكلمة والكلمة كان عند الله والكلمة الله) وعندهم أن الكلمة هي المسيح، ينتج أن الله هو المسيح كما وصفهم القرآن وكما جاء في الرسالة الأولى ليوحنا الرسول بالإصحاح الخامس والعدد 7، 8 (فإن الذين يشهدون في السماء هم الأب والكلمة والروح القدس، وهؤلاء الثلاثة هم واحد، والذين يشهدون في الأرض هم ثلاثة الروح والماء والدم والثلاثة هم الواحد) هذا صريح في عقيدة التثليث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 فيم يشهد الثالوث الأول والثالوث الثاني؟ وما هذا الثالوث الثاني، وما الفرق بين الاثنين؟ بأيهما نؤمن وكيف نستسيغ أن الأب والابن وروح القدس والماء والدم يشهدون؟ وما معنى أن الثلاثة هم واحد أو في الواحد أو بالعكس؟ إن هذا لشيء عجاب، ويمكننا أن نرد على دعواهم ألوهية المسيح من الإنجيل نفسه وهي الآيات المحكمة فيه. 1- في إنجيل متى الرابع والعدد 10: (لما جاء الشيطان للمسيح وهو يجربه وقال له: إن خررت وسجدت لي أعطيك هذه الممالك جميعا، حينئذ قال يسوع: اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد) . وهذه شهادة المسيح بأن الله هو بارئ السموات والأرض وله وحده السجود والعبادة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (الفاتحة) . 2- في إنجيل يوحنا الإصحاح السابع عشر العدد 3 يقرر المسيح بأنه رسول الله وأنه رسول الإله الحقيقي (وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك، إنك الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته) . وفي الآية الرابعة من الإصحاح نفسه يقول المسيح: (أنا مجدتك على الأرض، العمل الذي أعطيتنى لأعمل قد أكملته) إذا هو عبد خاضع لله قدم له العبادة والتمجيدنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ [سورة النساء آية 172] . 3- والمسيح رسول قد خلت من قبله الرسل له رسالة خاصة ومهمة خاصة إذا أتمها انتهى، يقول بولس الرسول في الرسالة الأولى لأهل كورنثوس الإصحاح الخامس عشر العدد 28: (ومتى أخضع له الكل فحينئذ الابن نفسه سيخضع للذي أخضع له الكل كي يكون الله الكل في الكل) . 4- المسيح وأمه كانا يأكلان الطعام، ويذهبان إلى الخلاء ولهما أعراض البشر، وهذا هو المسيح عند إحيائه العازر بعد موته بأربعة أيام وقد ذهب إلى القرية التي مات فيها وتقابل مع أختيه مريم ومرثا ورأى مريم تبكى (فلما رآها يسوع تبكى واليهود الذين جاءوا معها يبكون انزعج بالروح واضطرب وقال: أين وضعتموه؟ قالوا له: يا سيد تعال وانظر، بكى يسوع) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 فهل يتصور إنسان يدرك أن الإله يضطرب وينزعج، وكان يجهل الموضع الذي فيه دفن الميت، ويبكى ويضعف، وهذه كلها علامات البشرية ولا يتصور أن فيه لاهوتا وناسوتا زيادة على ما في البشر ثم يحصل منه هذا. وفي الآية 42 نرى أن المسيح يصلى إلى الله: (أيها الأب أشكرك لأنك سمعت لي، وأنا علمت أنك في كل حين تسمع ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت ليؤمنوا: إنك أرسلتنى) نرى أن منتهى الأمل الذي كان يرجوه أن يعرفوا أنه الرسول فقط. وبعد: فهذا شيء يحار له كل إنسان عاقل!!! إذ كيف يقبل هذا ويدين به أناس يعتقدون هذه العقائد؟؟ وأختتم كلمتي بقرار اللجنة الخاصة لوضع التسابيح والتراتيل للكنائس الإنجيلية البروتستانتية فقد وضعت إحدى الترنيمات وهذا مطلعها: للواحد الرحمن الخالق الأكوان تسبيحنا للأب بارينا- والابن فادينا- والروح محيينا نهدي الثنا السبب في استشراء الفساد فيهم [سورة المائدة (5) : الآيات 77 الى 81] قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَلَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَلكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 المفردات: لا تَغْلُوا الغلو: الإفراط وتجاوز الحد. أَهْواءَ: آراء قوم دعت إليها الشهوة دون الحجة والبرهان. لُعِنَ اللعن: الطرد من الرحمة. المعنى: يا أيها الرسول قل لهؤلاء النصارى: أتعبدون عيسى متجاوزين الله، وعيسى وكذا كل معبود من دون الله لا يملك ضرا ولا نفعا لأعدائه وأوليائه على السواء، فهذا عيسى مع أعدائه اليهود هل أمكنه أن يصيبهم بضر، لا. بل حاولوا قتله وصلبه، والصلب أحقر أنواع القتل وأشده وملعون صاحبه، هل فعل شيئا، وهل دفع عن نفسه ضرا؟ هل أوقع عذابا على أعدائه؟ كل الذي فعله التجأ إلى الله وفوض أمره إليه. وهذا عيسى كذلك مع أنصاره وأتباعه وقد كانوا مطرودين معذبين، هل أوصل نفعا لهم؟ والله هو السميع لكل صوت بل لكل همس في القلوب، العليم بكل شيء فهو الذي يستحق العبادة وحده دون سواه. قل لهم يا محمد: لا تغلوا يا أهل الكتاب ولا تتجاوزوا الحدود في عيسى بين إفراط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 وتفريط، فاليهود يبالغون في إهانته هو وأمه، والنصارى يرفعونه إلى مقام الألوهية بل يعبدونه. فالوسط الوسط. والحق الحق، في المسيح وأمه الذي ذكر في القرآن!! يا أهل الكتاب لا تتبعوا أهواء قوم وآراءهم المدفوعة بالشهوة لا بالحجة والبرهان، هؤلاء القوم ضلوا من قبل، وأضلوا كثيرا من غيرهم، وهذا خطاب لأهل الكتاب المعاصرين. وبعد أن بيّن الله أنهم ضلوا وأضلوا كثيرا، وضلوا عن السبيل الوسط والرأى المعتدل، بين سبب ذلك فقال: لعن الذين كفروا من بنى إسرائيل في الزبور على لسان داود، وفي الإنجيل على لسان عيسى بن مريم. وذلك اللعن بسبب عصيانهم، فقد لعن داود من اعتدى منهم يوم السبت وكذلك عيسى، وما كان هذا إلا بسبب تماديهم في العصيان والمخالفة: فاحذروا أيها المعاصرون ذلك. وقد بين الله سبب استمرارهم في المعاصي بقوله: كان من دأبهم ألا ينهى أحد منهم أحدا عن منكر ارتكبه، وذنب اقترفه، بل العاصي منهم لا يجد من يأخذ على يديه، والظالم لا يجد من يمنعه فانتشرت الفوضى وعم سوء الخلق، وهذا نذير الفناء ودليل الهلاك، تالله لبئس الفعل فعلهم وما كانوا يعملونه. والمنكر إذا فشا في قوم ولم يجد من ينكره. ورأى العامة ذلك زالت الهيبة من النفوس والحياة من الضمائر. وصار عادة للناس، وبالطبع زال سلطان الدين من القلوب. والنهى عن المنكر هو حفاظ الدين وسياجه، وتركه جريمة خصوصا من رجال الدين وأهله، وفي هذا الوقت العصيب لا يدفع السوء الذي استشرى وبلغ الغاية إلا تكتل القوى، وتضافر الأفراد والجماعات حتى تستأصل شأفة الفساد. وإنى نذير لقومي أن يطبق عليهم هذا الجزاء الطبعي لكل جماعة يموت بينهم التناهى عن المنكر والأمر بالمعروف، ولعل هذا هو السبب في سياق هذه الآيات تحذيرا وإنذارا لنا. روى أبو داود والترمذي عن ابن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن أول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 ما دخل النقص على بنى إسرائيل أنه كان الرجل يلقى الرجل فيقول: يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنه لا يحل لك، ثم يلقاه من الغد وهو على حاله فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوبهم بعضهم ببعض، ثم تلا قوله: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله فاسِقُونَ ثم قال صلّى الله عليه وسلّم: «كلا، والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذون على يد الظالم ولتأطرنه (تعطفنه) على الحق أطرا ولتقسرنه على الحق قسرا أو ليضربن قلوب بعضكم ببعض ثم يلعنكم كما يلعنهم» «1» . والأحاديث في خطر ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر كثيرة. وإلى متى يا قوم؟ إلى متى نعرض عن ديننا ولا نرعوى عن غينا؟ ... هذه هي أحوال أسلافهم أما المعاصرون منهم فهاك حديثا عنهم: ترى كثيرا من أهل الكتاب خصوصا اليهود منهم يتولون الذين كفروا من مشركي مكة ويتحالفون معهم بل ويؤلبونهم على النبي صلّى الله عليه وسلّم. إنه لعجب وأى عجب يتحالف أهل الكتاب مع من لا كتاب له ولا رسول على النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه!!! وقد روى أن كعب بن الأشرف وأصحابه ذهبوا إلى مكة واستجاشوا المشركين على الرسول صلّى الله عليه وسلّم ومع هذا لم يتم لهم ما أرادوا. لبئس شيئا قدموه لأنفسهم في الآخرة وهو الأعمال التي أوجبت سخط الله وغضبه عليهم، ولعنه لهم وهم في العذاب خالدون. ولو كانوا، أى: اليهود يؤمنون بالله والنبي موسى كما يدعون، ويؤمنون بما أنزل إلى موسى من التوراة ما اتخذوا المشركين من قريش وغيرهم أولياء وحلفاء ضد النبي صلّى الله عليه وسلّم. ولكن كثيرا منهم فاسقون وخارجون عن حدود الدين ويريدون رئاسة كاذبة وعرضا زائلا. وفقنا الله للخير، والاهتداء بهدى القرآن والسنة المطهرة إنه سميع الدعاء.   (1) أخرجه أبو داود في كتاب الملاحم باب الأمر والنهى 4/ 508 رقم 4336 والترمذي وابن ماجة. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 اليهود والنصارى وعلاقتهم بالمؤمنين [سورة المائدة (5) : الآيات 82 الى 86] لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْباناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86) المفردات: عَداوَةً العداوة والمحبة: صفتان من صفات النفس، يظهر أثرهما في القول والعمل. قِسِّيسِينَ واحده: قسّ وقسيس، وهو رئيس من رؤساء النصارى، والأصل فيه أن يكون عالما بدينهم وكتبهم. وَرُهْباناً واحده: راهب، وهو العابد المنقطع للعبادة. تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ: تفيض دمعا حتى يتدفق من جوانبها لكثرته. فَأَثابَهُمُ: جازاهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549 سبب النزول: اختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلت في قوم من النصارى، صفتهم كما ذكر القرآن، أما كونهم من الحبشة أو من نجران، وكون عددهم كذا أو كذا فالله ورسوله أعلم بذلك، والغرض المهم ما تشير إليه الآيات. المناسبة: بعد أن تعرض القرآن الكريم لليهود وأعمالهم، وللنصارى وعقائدهم، ذكر هنا أحوالهم في عداوتهم ومحبتهم للمؤمنين، وتعرض للمشركين كذا بالتبع. المعنى: تالله لتجدن أشد الناس عداوة للمؤمنين اليهود، وما ذلك إلا أنهم أهل عناد وجحود، وغمط للحقوق يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله، خاصة أهل العلم ورجال الدين، ولذا نراهم قتلوا الأنبياء بغير حق، وقتلوا الذين يأمرون بالقسط من الناس، ووقفوا مع النبي صلّى الله عليه وسلّم مواقفهم المشهورة. فقد هموا بقتله، وحاولوا ذلك مرارا فسمّوه، وسحروه، وألّبوا عليه القبائل، وكانوا مصدر النفاق والشغب، هذا شأنهم دائما، فهم أهل مكر وخيانة، غلبت عليهم الأنانية وحب المادة، ولؤم الطبع وسوء الصنع، ويقاربهم في هذا أهل الشرك وعبّاد الأوثان، فهم مشتركون معهم في أخص الصفات وإن فاقهم اليهود. وأشد ما لاقى النبي صلّى الله عليه وسلّم من العداوة والإيذاء كان من يهود الحجاز في المدينة وما حولها، ومن مشركي العرب ولا سيما أهل مكة وما قرب منها. والتاريخ قديما وحديثا ملئ بالشواهد على ذلك، وإن مالأ اليهود المسلمين في بعض الظروف فلأمور سياسية عارضة دفعهم إليها حب المادة وعدل المسلمين. ولتجدن- أيها الرسول- أقرب الناس مودة وأكثرهم محبة للذين آمنوا بك وصدقوك، الذين قالوا: إنا نصارى وهم أتباع المسيح عيسى ابن مريم رسول الله، لما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 550 غرست تعاليمه فيهم من الرقة والرأفة والبعد عن التعصب الديني نوعا ما بالنسبة إلى اليهود وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها «1» وفي تعاليمهم: «من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر» . ولقد أشار القرآن الكريم إلى سبب المودة فقال: ذلك بأن منهم قسيسين يقومون بالتعليم وتهذيب الخلق، وتربية الفضائل وغرس المثل العليا، ومنهم رهبانا يعبدون الله رهبة منه وخوفا، وطمعا وأملا في ثوابه، فهم بعلمهم هذا يعوّدون الناس الزهد والتقشف والبعد عن الدنيا وغرورها، وبأنهم متواضعون لا يستكبرون. وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول من القرآن ترى أعينهم تفيض من الدمع حتى يتدفق من كل جانب، فيضانا مما عرفوا من الحق الذي نزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم إذ هو مصدق لما معهم من الكتاب، ومطابق لما وصف عندهم، ولم يمنعهم عن ذلك عتوّ وعناد متأصل فيهم. هذا حالهم، أما مقالهم فيقولون: ربنا آمنا بك وبرسلك خاصة محمدا صلّى الله عليه وسلّم فاكتبنا مع الشاهدين، الذين يشهدون يوم القيامة للأنبياء والرسل وهم أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «2» . أىّ مانع يمنعنا من الإيمان بالله الذي لا إله إلا هو؟ ويصدنا عن اتباع ما جاءنا من الحق على لسان ذلك الرسول المبشّر به في كتابنا إذ هو روح الحق، وإنا لنطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الذين صلحت نفوسهم، وطهرت أرواحهم بالعقائد الصحيحة والمثل العليا وهم أتباع هذا النبي الكريم. والمعنى: لا مانع من الإيمان بعد أن ظهرت الحجة ووضح الطريق، ونحن نطمع في أن نكون في عداد الأبرار والأخيار من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم. فأثابهم الله وجازاهم بما قالوا عن عقيدة راسخة ونفس مطمئنة راضية، وآتاهم جنات تجرى من تحتها الأنهار أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار، هؤلاء هم المسيحيون الأحرار الذين نظروا في تعاليم المسيح الحقيقية فوقفوا على سرها وتكشفت لهم جنباتها،   (1) سورة الحديد آية 27. (2) سورة البقرة آية 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 551 ورزقوا فكرا حرّا وعقلا رشيدا وروحا طيبة بعيدة عن التعصب تدين بمبدأ (الحكمة ضالة المؤمن يأخذها من أى وعاء خرجت) . أما السواد الأعظم من المسيحيين الذين غرقوا في بحار التعصب، ولم ينظروا ولم يكفروا وقالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمة، أو من عرفوا الحق وأعرضوا عنه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ «1» فهؤلاء وهؤلاء يقول الله فيهم: والذين كفروا وكذبوا بآياتنا الدالة على صدق نبينا أولئك هم أصحاب الجحيم الملازمون لها. التشدد في الدّين [سورة المائدة (5) : الآيات 87 الى 88] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) المفردات: طَيِّباتِ الطيب: ما تستلذه النفس ويميل إليه القلب. لا تَعْتَدُوا: لا تتجاوزوا الحدود المرسومة لكم. طَيِّباً: غير مستقذر حسّا أو معنى. سبب النزول: روى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وصف القيامة يوما لأصحابه فبالغ وأشبع الكلام في الإنذار، فرق فريق من الصحابة، واجتمعوا في بيت عثمان بن مظعون- وكان منهم على بن أبى طالب، وابن مسعود، والمقداد بن الأسود، وسالم مولى أبى حذيفة، وقدامة- واتفقوا على أن يظلوا صائمين قائمين وألا يناموا على الفراش، وألا يأكلوا   (1) سورة البقرة آية 146 والأنعام 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 552 اللحم وألا يقربوا النساء وأن يرفضوا الدنيا ويلبسوا المسوح، وهموا بالاختصاء، وأجمعوا على قيام الليل وصيام النهار. فبلغ ذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال لهم: «إنى لم أومر بذلك، إن لأنفسكم عليكم حقا فصوموا وقوموا وأفطروا وناموا، فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم، وآتى النساء، فمن رغب عن سنتي فليس منى» فنزلت الآية. وعن ابن مسعود أن رجلا قال: إنى حرمت الفراش، فتلا هذه الآية وقال: نم على فراشك وكفر عن يمينك. كان وصف النصارى بالرهبنة ربما يفيد أنها خير، فكانت هذه الآية القول الفصل والحكم العدل. المعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا ما طاب ولذ من الحلال فإنه مما تستلذه النفس ويميل إليه القلب، ولا تمنعوا أنفسكم من الطيبات منع تحريم، أو لا تقولوا: حرمنا على أنفسنا كذا وكذا مما هو حلال لكم ومباح. لا تفعلوا هذا تنسكا وتقربا إلى الله، فإن الله لا يرضى عن ذلك بل ينهى عنه يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ «1» ولا تجاوزوا حدود ما أحل الله لكم إلى ما حرم فقد حرم عليكم الخبائث وحرم عليكم الإسراف والتقتير، وجعلكم أمة وسطا فلا إفراط ولا تفريط: كُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ «2» وكلوا مما رزقكم الله حالة كونه حلالا لا إثم فيه كالربا والرشوة والسحت فإنها إثم وفسوق، وكلوا الطيب الذي ليس مستقذرا في نفسه كالمحرمات العشر السابقة في أول السورة، أو لطارئ كالفساد والتغير بطول المكث. إن الله لا يحب المعتدين المتجاوزين حدود الشرع، على أن الأكل في الآية يراد به التمتع الشامل للشرب والأكل.   (1) سورة البقرة آية 172. (2) سورة الأعراف آية 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 553 واتقوا الله في الأكل واللباس والنساء وغيرها فلا تحرموا ما أحل الله، ولا تحلوا ما حرم الله ظنا منكم أن هذا خير، لا بل هو تشديد في الدين لا يرضى الله ورسوله، وكذلك لا تسرفوا في التمتع، فمن جعل شهوة بطنه وفرجه أكبر همه فهو من المسرفين إخوان الشياطين، ومن أنفق أكثر من طاقته واستدان ولم يقتصد فهو من المبذرين، ومن قتّر على نفسه وبخل عليها وقد بسط الله له الرزق فهو من المعتدين المذمومين. والناظر إلى هذه الآية الكريمة يمكنه أن يدرك أن الدين الإسلامى ينظر إلى الروح والجسد نظرة اعتبار واعتدال، «إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبتّ لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى» ، وبذا كنا أمة وسطا عدولا، وخير الأمور أوسطها، على أن تحريم الطيبات وتعذيب النفس، وإيلام الجسد عبادة مأثورة عن قدماء الهنود واليونان، قلدهم فيها أهل الكتاب خاصة النصارى. والمعروف أن سيرة الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يأكل ما وجد، فتارة يأكل أطيب الطعام كلحوم الأنعام والطير والدجاج، وتارة يأكل أخشنه كخبز الشعير بالملح أو الزيت أو الخل، فكان صلّى الله عليه وسلّم قدوة للغنى والفقير، والصحابة والخلفاء منهم الغنى والفقير فكل ينفق على قدر حاله بلا تقتير ولا إسراف لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ [سورة الطلاق آية 7] . الأيمان وكفارتها [سورة المائدة (5) : آية 89] لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 554 المفردات: بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اليمين اللغو: هو ما لا قصد فيه للحلف. عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ عقد الأيمان: توكيدها بالقصد، وتعقيدها: المبالغة في توكيدها. فَكَفَّارَتُهُ الكفارة: من الكفر وهو الستر، وهي أعمال تكفر بعض الذنوب، أى: تغطيها وتسترها. مِنْ أَوْسَطِ: المراد الوسط في الطعام بلا مبالغة في التقتير أو الإسراف. أَوْ تَحْرِيرُ عتق رقبة. المناسبة: روى ابن جرير عن ابن عباس قال: لما نزلت يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ في القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم قالوا: يا رسول الله: كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية. المعنى: لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم التي لا يتعلق بها حكم شرعي، كلا والله وبلى والله، أى: التي تلقى بلا قصد ولكن لتأكيد الكلام، فهذه لا مؤاخذة فيها، وهذا رأى الشافعى، وعن مجاهد: هو الرجل يحلف على الشيء يرى أنه كذلك وليس كما ظن، وإلى هذا ذهب أبو حنيفة، ولكن قوله تعالى: عَقَّدْتُمُ يؤيد رأى الشافعى. ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان وأكدتموها بالقصد وصممتم عليها إذا حنثتم فيها، وكانت بالله أو بصفة من صفاته، أما غير ذلك فليس بيمين: «سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عمر- رضى الله عنه- يحلف بأبيه فقال: من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت» . أما الحلف بغير الله من مخلوق كنبي أو ولى فليس بيمين بل إنه حرام. ويحرم الحنث في اليمين إذا حلفت على فعل واجب، وإذا حلفت على فعل مندوب أو مباح يندب الوفاء ويكره الحنث، وإذا حلفت على محرم وجب الحنث في اليمين والكفارة. فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 555 أما كفارة اليمين إذا حنثت فيه: فكفارته: إطعام عشرة مساكين طعاما وسطا بلا إسراف ولا تقتير، كما تطعم أهلك في الظروف المعتدلة، ومن زاد في الخير فلا بأس به، وقدر بنصف صاع من برّ أو صاع من غيره لكل مسكين، والصاع بالكيل المصرى قدحان وثلث. أو تغديهم وتعشيهم بخبز ولحم أو لبن، أو خضار، أو زيت، كل على قدر طاقته. فإن لم يكن طعام لعشرة فكسوتهم لكل فقير (جلابية) متوسطة الثمن أو قميص أو سروال أو طاقية، أو تحرير رقبة مؤمنة، فهو مخير بين الإطعام والكسوة والعتق، فمن لم يجد ذلك ولم يستطع إطعام أو كسوة أو عتقا، فعليه صيام ثلاثة أيام متتالية على الصحيح، وقد فسروا الاستطاعة بأن يكون عنده ما يزيد على إطعام أهله يوما وليلة. فإن عجز عن ذلك كله استقر الحق في ذمته حتى يستطيع، ذلك المذكور كفارة أيمانكم، إذا حلفتم حلفا شرعيّا وحنثتم، واحفظوا أيمانكم، فلا تبذلوها لأتفه الأسباب، ولا تجعلوها عرضة، وإن حنثتم فاحفظوها بالكفارة، وإن حلفتم فلا تنسوا ما حلفتم عليه، ولا تحشوا إلا لضرورة، ويكون الحنث فيها أفضل من السير مع اليمين الكاذبة. مثل هذا البيان الشافي الواضح يبيّن الله لكم آياته وأحكامه ليعدّكم ويؤهلكم لشكره على نعمه جل شأنه. واليمين الغموس: التي يضيع بها حق المسلم، أو يقصد بها غش أو خيانة، فلا يكفرها عتق ولا صدقة ولا صيام، بل لا بد فيها من توبة ورجوع إلى الله مع أداء الحقوق لأربابها، قال رسول الله: «من حلف على يمين صبر وهو فيها فاجر يقتطع بها مال امرئ مسلم لقى الله وهو عليه غضبان» (رواه البخاري ومسلم) ، ويقول الله: وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ [سورة النحل آية 94] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 556 الخمر والميسر وخطرهما [سورة المائدة (5) : الآيات 90 الى 93] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) المفردات: الْخَمْرُ: كل شراب مسكر. الْمَيْسِرُ في أصل اللغة: القمار بالقداح في كل شيء، ثم غلب في كل مقامرة، وقد مضى الكلام عليه في آية البقرة 219. الْأَنْصابُ: حجارة كانت حول الكعبة يذبحون قرابينهم عندها. الْأَزْلامُ: قطع رقيقة من الخشب كالسهم كانوا يستقسمون بها، وقد مر أول هذه السورة في آية (3) تفصيلها. رِجْسٌ: مستقذر حسا ومعنى. طَعِمُوا طعم الشيء يطعمه: ذاق طعمه عن طريق الأكل أو الشراب. المناسبة: بعد أن نهى الله- سبحانه وتعالى- عن تحريم الطيبات من الرزق، وأمر بأكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 557 الحلال الطيب بلا إسراف ولا تقتير، وكانوا يستطيبون الخمر والميسر ناسب أن يتعرض القرآن لبيان حقيقتهما. روى أن عمر كان يدعو الله تعالى قائلا: اللهم بين لنا في الخمر بيانا شافيا، فلما نزلت آية البقرة ظل على دعائه، ولما نزلت آية النساء ظل كذلك على دعائه، فلما نزلت آية المائدة، وسمع قوله تعالى: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ قال: انتهينا! وكانت هذه الآية هي الفاصلة القاضية. روى أن عمر قال حين سمع إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ الآية: أقرنت بالميسر والأنصاب والأزلام؟ بعدا لك وسحقا!!! وتركها الناس وأراقوها في الطرقات. وروى عن ابن عباس قال: إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا، وثملوا، واعتدى بعضهم على بعض، فلما صحوا جعل يرى الرجل منهم الأثر بوجهه ولحيته، فيقول: صنع بي أخى فلان هذا، ولو كان رءوفا بي ورحيما ما صنع هذا!!! وقد وقعت بينهم ضغائن فأنزل الله هذه الآية إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ فقال ناس: هي رجس وهي في بطن فلان كحمزة مثلا وقد قتل يوم أحد، وفي بطن فلان وقد قتل يوم بدر، فأنزل الله لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ الآية. ولعلك تسأل ما الحكمة من تحريم الخمر تدريجياّ؟؟ وما علمت أنها الحكمة العالية والدواء الناجع لهذا الداء المتأصل، الذي أدمنت العرب على شربه، فلو حرمت الخمر دفعة واحدة لكان ذلك أدعى لتنفير الناس من الدين كله. المعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله: اعلموا أن هذا الوصف يوجب عليكم الامتثال لأمر الله والتزام حدود الشرع، واعلموا أنما الخمر وهي: ما خامر العقل، أى: ستره فأسكره رجس من عمل الشيطان وصنعه، وهو عدوكم اللدود، الذي لا يعمل إلا للشر ولا يزيّن إلا للهلاك!!! ولقد خطب عمر بن الخطاب يوما على منبر الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقال: «قد نزل تحريم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 558 الخمر يوم نزل وهي من خمسة: من العنب والتمر والعسل والحنطة والشعير، والخمر: ما خامر العقل» ، وهذا أبين بيان في حقيقة الخمر، يخطب عمر بالمدينة على مرأى ومسمع من صحابة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهم أهل اللسان والبيان، وأعلم الناس بلغة القرآن، فلا ينكر أحد عليه ولا يستفسر أحد عن نوع دون نوع!!! ولا تنس قوله صلّى الله عليه وسلّم: «كل مسكر خمر وكل خمر حرام» فإن كل مادة مغيبة للعقل مهلكة للصحة فهي خمر وإن تعددت الأسماء، وإذا ثبت هذا بطل رأى القائلين بأن الخمر لا تكون إلا من العنب وما كان من غيره لا يسمى خمرا. والنبيذ قديما: عبارة عن تمر أو زبيب ينقع في ماء حتى يحلو الماء فيشرب، وهذا حلال حيث لم يختمر ولم يسكر، وأقرب الأشياء به ما يسمى بالخشاف في مصر، أما النبيذ المستعمل الآن فخمر وحرام ومسكر ... وفي آية 219 من سورة البقرة بيان واضح متمم لما هنا. إنما الخمر والميسر والأنصاب المنصوبة من حجارة حول الكعبة وكانوا يعظمونها والأزلام وكانوا يستقسمون بها إنما ذلك رجس وقذارة!! وأى رجس أكبر من هذا؟ فالخمر والميسر مستقذران حسا ومعنى، من ناحية الشرع والعقل، وهما من عمل الشيطان وصنعه، فاجتنبوا هذا الرجس واتركوه، واجعلوه في جانب وأنتم في جانب، رجاء أن تفلحوا وتفوزوا بما فرض عليكم من تزكية أنفسكم وسلامة أبدانكم إذ هما من أخطر الأمراض اجتماعيا ودينياّ واقتصادياّ. أما الخطر الاجتماعى فالشيطان يريد لكم- بشرب الخمر ولعب الميسر- أن تقع بينكم العداوة والبغضاء فيقضى على جماعتكم، ويشتت شملكم ويهدم كيانكم، والإسلام حريص جدّا على أخوتكم واتحادكم وتضامنكم وإزالة أسباب الشقاق والنزاع فيما بينكم. والشواهد على هذا كثيرة واضحة، ولا غرابة فالخمر تذهب العقل الواعي وتستره، وهو الذي يدرك قواعد العرف والدين التي تمنعنا عن الشر والوقوع فيه، فإذا ضاع واستتر، ظهر الإنسان بشهواته وطبيعته الحيوانية يأتى الدنية، ويقوم بأحط الأعمال وأقذرها!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 559 والميسر وما فيه من ربح وخسارة، بلا عمل وتجارة، مثار العداوة والبغضاء في نفوس اللاعبين. أما ضياع الشخصية وفناء الشباب وهلاك الصحة، والانغماس في تيار الرذيلة فشيء لا ينكره عاقل، ولا يحتاج إلى نص. وأما الناحية المالية فحدث عنها ولا حرج، فكم من بيوت هدمت وكم من أموال بددت، على الموائد الخضراء والحمراء في الليل والنهار؟؟ وأما الخطر الديني وما أدراك ما هو؟!! فهما يصدان عن ذكر الله، الذي يجلو القلوب ويزكيها، ويطهر النفوس ويهديها، وهما يمنعان من الصلاة التي هي عماد الدين إذ السكران لا عقل له ولا قلب فكيف يهتدى إلى الخير وإلى الصلاة؟؟ ولاعب الميسر يجلس الساعة والساعات بل يواصل ليله ونهاره ولا يدرى ما حوله ولا يشعر بنفسه، قد نسى بيته وأهله وولده، وإنه ليقضى الوقت بين الأوراق والنار تشتعل في بيته فلا يغيث أهله مع الناس فكيف يفكر في الصلاة؟ على أنه إذا صلّى بلا روح وبلا قلب. فهل أنتم يا من اتصفتم بوصف الإيمان وتحليتم به منتهون بعد هذا البيان اللاذع والقول الفاضح؟! وهذا أمر بالانتهاء جاء على أسلوب بليغ جدّا يدركه من يقف على أسرار بلاغة القرآن. وكيف لا يكون هذا شأن الخمر والميسر؟ وقد نفر الله منهما، وأكد تحريمهما بوجوه من التأكيد أهمها. سماهما رجسا من عمل الشيطان (الخمر أم الخبائث) بل قصرهما على الرجس لا يتعديانه إلى غيره، وقرنهما بالأنصاب والأزلام، وأنت تعرف أنهما من أعمال الشرك وخرافات الوثنية (مدمن الخمر كعابد الوثن) . وعلق الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة على اجتنابهما. وجعلهما مثار العداوة والبغضاء، ومبعث الشقاق والشحناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 560 وهما يصدان عن ذكر الله، والله يقول: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد 28] . وكان ختام الآية بقوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ على ما فيه من البلاغة والبيان أتم صارف للمسلمين عنهما وصادّ. وأطيعوا الله- تعالى- فيما أمركم به، وأطيعوا الرسول فيما بينه لكم، واحذروا عاقبة المخالفة وما تجر من الخيبة والندامة فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة النور آية 63] . فإن توليتم بعد هذا فلا تلومنّ إلا أنفسكم، واعلموا أنما على رسولنا البلاغ فقط، وعلينا الحساب والجزاء يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [الانفطار 19] . ومن مات قبل التحريم فلا شيء عليه إذ هناك قانون عام وهو: ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات كحمزة الذي استشهد قبل تحريم الخمر وغيره، ليس عليهم جناح فيما طعموه إذا ما اتقوا الله وعملوا الصالحات الباقيات التي شرعت في حياتهم كالصلاة والصيام وغيرهما، ثم اتقوا ما حرم عليهم، وآمنوا بما نزل فيه وفي غيره ثم استمروا على التقوى والإحسان وعمل الصالحات، والله يحب المحسنين المتقنين أعمالهم المخلصين فيها. التداوى بالخمر: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنه ليس بدواء ولكنه داء» ... «وما جعل الله شفاء أمتى فيما حرم عليها» ولقد ناقشت طبيبا من كبار الأطباء في ذلك فقال: ليس هناك مرض يتعين علاجه بالخمر وحدها وقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنه داء» أكده رأى الطب إذ إن الخمر تولد أمراضا كثيرة يموت بها كل عام عدد لا يحصى من الناس، وفكرة التداوى بالخمر حيلة شيطانية حتى تتمكن من النفس وتصبح عادة يصعب انتزاعها. وحكم شارب الخمر الحد أربعين جلدة، وقيل ثمانين، فقد روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم جلد أربعين ، وفعل أبو بكر مثله، فلما كان عمر استشار الناس، فقال عبد الرحمن: أخف الحدود ثمانون فأمر به عمر. والرأى أنه لا يقل عن أربعين ولا يزيد عن ثمانين. ومثل الميسر كل لعب على مال، أما الشطرنج والنرد والألعاب الأخرى فإن أورثت العداوة وصدت عن ذكر الله وعن الصلاة فهي كالميسر، وإلا فإنها مكروهة مطلقا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 561 ومثل الخمر كل مادة يحصل منها ضرر مالي أو جسمانى أو خطر اجتماعي أو خطر ديني كالحشيش والأفيون. الصيد في الإحرام وجزاؤه [سورة المائدة (5) : الآيات 94 الى 96] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) المفردات: لَيَبْلُوَنَّكُمُ: ليعاملنكم معاملة من يختبركم. تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ: يكون في متناول اليد. حُرُمٌ: محرمون بحج وعمرة، أو في مكان الحرم. عَدْلٍ: مساو له. وَبالَ أَمْرِهِ: عاقبة أمره الثقيلة. لِلسَّيَّارَةِ: جمع سيار، وهو المسافر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 562 المناسبة: أحل الله لنا أكل الطيبات من الرزق واستثنى الخمر وما شاكلها، وهنا أضاف لها الصيد في الإحرام وبيّن جزاءه. المعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله: ليبلونكم الله، وليعاملنكم معاملة من يختبركم بشيء من الصيد، أى: بعض منه وهو صيد البر لا صيد البحر، اختبركم بإرساله بحيث يسهل تناول بعضه بالأيدى، وبعضه بالرماح، وكيف لا يكون هذا اختبارا وابتلاء؟ والمصيد طعامه لذيذ، واصطياده حبيب إلى النفس في الأسفار، فإذا أضيف إلى ذلك كثرته وعدم تأبّيه، كان هذا اختبارا وأى اختبار؟ يفعل الله هذا، ليعلم علم ظهور وانكشاف من يخافه بالغيب، ومن يخافه أمام الناس فقط، كالمنافقين يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم والله عالم بكل شيء، ولكن يريد ليطهركم، وليتم نعمته عليكم بالامتثال. فمن اعتدى منكم بعد ذلك البيان، فله عذاب شديد في الدنيا والآخرة. يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان، وصدقتم الرسول، وآمنتم بالقرآن، لا تقتلوا صيد البر، وهذا النهى هو الابتلاء المذكور في الآية السابقة، لا تقتلوا الصيد وأنتم محرمون بحج أو عمرة أو في مكان الحرم وإن لم تحرموا، وذلك إجلالا للحج وشعائره، واحتراما للمكان وهيبته، إذ هو مباءة للناس والطير وأمن لهم، وهذا في الحرم المكي، أما الحرم المدني فلا يجوز فيه الاصطياد لأحد ولا قطع الشجر كحرم مكة فإن فعل هذا أحد أثم ولا جزاء عليه عند مالك والشافعى، ورد عن رسول الله في الصحيح «اللهم إن إبراهيم حرم مكة وإنى أحرم المدينة مثل ما حرم به مكة لا يختلى خلاها (الخلى: النبات الرقيق ما دام رطبا، ويختلى: يقطع) ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها» . ومن قتله منكم عامدا قاصدا له، فعليه جزاء من النّعم مماثل له في هيئته وصورته، إن وجد المثل وإلا فقيمته، وقيل: يقوّم من أول الأمر، واعلم أن ما يجزى من الصيد شيئان دواب وطير، فيجزى ما كان من الدواب بنظيره في الخلقة والصورة ففي النعامة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 563 بدنة، وفي حمار الوحش بقرة، وفي الظبى شاة ... إلخ على ما هو مذكور في كتب الفقه وفي الطير قيمته إلا حمام مكة فإن الحمامة شاة اتباعا للسلف في ذلك. وقد ورد عن جابر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «في الضبع إذا أصابه المحرم كبش، وفي الظبى شاة، وفي الأرنب عناق» «1» والعناق: الأنثى من المعز لم تبلغ سنة. واعلم أن الآية الكريمة، أفادت أن القتل العمد فيه الجزاء، والسنة النبوية أفادت أن الخطأ كذلك، عن سعيد بن جبير: لا أرى في الخطأ شيئا. أخذا بظاهر الآية والله أعلم بكتابه. والصيد الذي نهت عنه الآية: كل حيوان وحشي يؤكل لحمه، فلا شيء في قتل الحمار الأهلى مثلا، ولا ما لا يؤكل لحمه من السباع، والحشرات، والفواسق كالحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور، وألحق مالك بالكلب الذئب والأسد والنمر. ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم: يحكم به اثنان ذوا عدل منكم من أهل المعرفة والعدل من المؤمنين، وإنما احتجنا للتحكيم لأن المماثلة بين النعم والصيد، ما تخفى على كثير خصوصا في هذه الأيام، وقد توالدت أشكال وأصناف من الحيوان والطيور، وما لا مثل له يحكم فيه بالقيمة. فجزاء مثل ما قتل من النعم هديا بالغ الكعبة، وأصلا إليها، يذبح عندها ويفرق على مساكين الحرم. نعم عليه جزاء مماثل لما قتل أو كفارة هي أن يقوّم الصيد الذي أصابه فينظركم ثمنه من الطعام؟ فيطعم لكل مسكين مدّا أو يصوم مكان كل مد يوما. وعند أبى حنيفة يقوّم الصيد أوّلا وجد له مثل أولا والآية لا تمنع هذا. روى ابن جرير عن ابن عباس قال: إذا قتل المحرم شيئا من الصيد فعليه فيه الجزاء، فإن قتل ظبيا أو نحوه فعليه ذبح شاة تذبح بمكة، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام. أوجبنا هذا ليذوق عاقبة أمره وسوء فعله، حيث هتك حرمة الإحرام وعفا الله عما سلف قبل نزول الآية.   (1) أخرجه البيهقي 5/ 183. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 564 ومن عاد بعد هذا فينتقم الله منه أشد الانتقام في الآخرة، والله عزيز الانتقام، لا يغلبه عاص أو مذنب. أيها المسلمون أحل لكم صيد البحر سواء كان حيا أو ميتا، قذفه البحر أو طفا على وجهه، أو انحسر عنه الماء فهو الحل ميتته، الطهور ماؤه، أحله الله متاعا لكم وللسيارة المسافرين، فمن كان مقيما فليأكل من صيده الطازج، ومن كان مسافرا فعنده السمك المحفوظ، وحرم عليكم صيد البر من الوحش والطير ما دمتم حرما، أى: فلا مانع من أكل ما صاده غيركم، أو صدتموه في غير الإحرام، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «صيد البر حلال لكم ما لم تصيدوه أو يصد لكم» «1» واتقوا الله الذي إليه تحشرون. البيت الحرام والشهر الحرام ومكانتهما [سورة المائدة (5) : آية 97] جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) المفردات: جَعَلَ يصح أن تفسر بالجعل التكويني الخلقي أو التشريعي الْكَعْبَةَ: البيت المربع، وقيل: المرتفع، وقد غلب اسمها على البيت المقدس الذي بناه إبراهيم وإسماعيل بمكة عليهما السلام. قِياماً لِلنَّاسِ: ما به يقوم أمرهم ويصح شأنهم. وَالشَّهْرَ الْحَرامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ تقدم تفسير ذلك أول السورة. قال الرازي: الله تعالى حرم في هذه الآية المتقدمة الاصطياد على المحرمين، فكان الطير والوحش آمنا على نفسه وولده، وفي هذه الآية أفاد أن الحرم سبب لأمن الناس وهدايتهم لحصول الخيرات والسعادة في الدنيا والآخرة لهم.   (1) أخرجه أحمد 3/ 362 وأبو داود والترمذي وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 565 المعنى: جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس الذين يسكنونها، حيث يجلب إليهم الخيرات، ويرزقهم من الثمرات ويجعل قلوب الناس تهوى إليهم، وتعطف عليهم وبذلك يقوم أمرهم، ويصلح شأنهم، وكذا من حج إليها واعتمر يجدون فيها الخير والسعادة، والراحة والطمأنينة، وكل ذلك إجابة لدعاء إبراهيم- عليه السلام-: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [ابراهيم 37] . وجعلها الله قياما للناس في أمر دينهم المهذّب لأخلاقهم المزكّى لأنفسهم، أليست مكان الحج الذي هو ركن من أركان الدين؟ فيه يعقد المؤتمر العام للمسلمين الذين يهرعون إليه من كل فج عميق كبارهم وزعماؤهم. وأغنياؤهم، يتباحثون ويقفون على أمور دينهم، وتنبعث القوة في نفوسهم، ويتجدد الإسلام في أعماقهم، وتتأكد الرابطة بينهم إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «1» وجعل الله الشهر الحرام قياما للناس كذلك فهو مثابة للناس وأمن في الجاهلية والإسلام، فيه يأمنون على أنفسهم وتجارتهم وأموالهم، فيه يلقى السلاح، وتهدأ النفوس، وتسكن الفتن، وتخمد نار الحرب المستعرة، ألست معى في أنه قيام للناس؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ «2» وكان الهدى والقلائد قياما للناس فمن بذلها قوّمت له دينه، وكفرت عن ذنبه، وطهرت له نفسه، وزكّت ماله، وجعلته آمنا على نفسه وهي عند من يأخذها قوام حياته. كل ذلك لتعلموا أن هذه الأمور لحكم، الله يعلمها، ولا يمكن أن تصدر إلا من عالم بما في السموات وما في الأرض، وأنه بكل شيء عليم. والناظر إلى الحج يجده دعامة من أقوى الدعائم للإسلام، يعرفه الغربيون ويعرفون أثره في نفوس المسلمين، وما يحصل بسببه من تقوية أواصر الصلات، وإذكاء روح الدين بين المؤمنين.   (1) سورة الحجرات آية 10. (2) سورة العنكبوت آية 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 566 ترغيب وترهيب [سورة المائدة (5) : الآيات 98 الى 100] اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (99) قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) المفردات: الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ: الحلال والحرام، والرديء والجيد. الْأَلْبابِ: العقول. المعنى: الله- سبحانه- عليم بكل شيء، وعليم بما في السموات وما في الأرض. وهو القاهر فوق عباده، الرحمن الرحيم، ومقتضى هذا كله أنه لم يخلقنا عبثا ولم يتركنا هملا، بل لا بد من جزاء العاصي، وإثابة المطيع اعلموا أن الله شديد العقاب، وسريع الحساب، وقوى العذاب لمن عصى وطغى، وتجبر وبغى، وهو رءوف بالعباد غفور للسيئات، رحيم بمن عمل سوءا بجهالة ثم تاب من بعده وأصلح. وأما من نشأ طائعا ولم يدنس نفسه أبدا فهنيئا له الرضوان ثم هنيئا!. وإذا كان الأمر كذلك فاعلموا أنه ما على الرسول إلا البلاغ وعلى الله وحده الحساب وإليه المرجع والمآب، والله يعلم ما تبدون وما تكتمون، وهو الذي يعلم السر وأخفى، والغيب والشهادة فاتقوا الله واحذروا حسابه، قل لهم: يا أيها الرسول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 567 لا يستوي الخبيث والطيب، والحلال والحرام، وهل يستوي الجيد والرديء؟ وكيف يستويان؟!! أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ «1» أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ «2» !!! قل لهم: لا يستوي الخبيث والطيب أبدا، ولو أعجبك كثرة الخبيث من العصاة والكفار وقلة الطيب من المسلمين والأبرار. تعيرنا أنا قليل عديدنا ... فقلت لها إن الكرام قليل فاتقوا الله يا أولى الألباب وتذكروا فإنما يتذكر أولوا العقول الصحيحة الذين يحكمون أحكاما سليمة موفقة تفرق بين النافع حقيقة وإن شابه تعب ومشقة، وبين الضار المهلك وإن ازينت له الدنيا وازّخرفت. السؤال الضار [سورة المائدة (5) : الآيات 101 الى 102] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102) سبب النزول: روى مسلم عن أبى هريرة قال: خطبنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: أيها الناس، قد فرض الله عليكم الحج فحجوا، فقال رجل: أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو قلت نعم لوجبت، ولو وجبت لما استطعتم. فأنزل الله هذه الآية.   (1) سورة ص آية 28. (2) سورة الجاثية آية 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 568 المعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله لا تسألوا عن أشياء من أمور الدين ودقائقه التي تركت رحمة بكم وإشفاقا عليكم، وقيل المعنى: لا تكثروا من السؤال عما لا يعنيكم من أحوال الناس، وهذا مثل قوله تعالى: «وَلا تَجَسَّسُوا [سورة الحجرات آية 12] . وليس المراد النهى عن السؤال مطلقا في أمور الدين. لا، بل قد أقر الشرع سؤالهم عن توضيح أحكام العدة والخمر وغيرهما فلا حرج في مثل هذا، وإنما الحرج في التشدد في العمل وكثرة التكاليف لأن هذا قد يؤدى للإهمال وقد يؤدى إلى الخروج من الدين كما حصل في الأمم السابقة. وقد سأل سائل منهم النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أبيه من هو؟ وهل الحج واجب في كل سنة أم لا؟ وغير ذلك من الأسئلة المحرجة التي فيها العنت والمشقة على الناس. وإن تسألوا عن غير هذه المسائل الشائكة مما تمس الحاجة إليه من تحريم أو تحليل أو حكم جديد تجابون إلى طلبكم فإنه خير، فالنهي إذن في شيء لم يكن بهم حاجة إلى السؤال فيه، وكان في الإجابة عنه مشقة وزيادة كلفة. وقيل: لا تسألوا عن أشياء عفا الله عنها إن تبد لكم تسؤكم، وعلى هذا خرج حديث ثعلبة الخشني قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيعوها وحرم حرمات فلا تنتهكوها، وحد حدودا فلا تعتدوها، وسكت عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها» . قد سأل مثلها قوم قبلكم فلما أجيبوا وفرضت عليهم كفروا بها وقالوا: ليست من عند الله، وما قوم صالح وأصحاب البقرة منكم ببعيد فاعتبروا يا أولى الأبصار، ولا تشددوا فيشدد الله عليكم، فإن الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه الدين فسددوا وقاربوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 569 نوع من ضلال الجاهلية [سورة المائدة (5) : الآيات 103 الى 104] ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ (104) المفردات: بَحِيرَةٍ: هي الناقة يبحرون أذنها، أى: يشقونها شقّا واسعا إذا نتجت خمسة أبطن وكان الخامس أنثى، وكان يمنح درها للطواغيت فلا يحلبها أحد. سائِبَةٍ السائبة: الناقة التي تسيب لآلهتهم فترعى حيث شاءت، ولا يحمل عليها ولا يجز صوفها ولا يأخذ لبنها إلا ضيف. وَصِيلَةٍ الوصيلة: الشاة أو الناقة التي تصل أخاها. فقد كانوا إذا ولدت الشاة ذكرا كان لآلهتهم، وإذا ولدت أنثى كانت لهم، فإن ولدت ذكرا وأنثى قالوا: وصلت أخاها، فلم يذبحوا الذكر إلا لآلهتهم. وقيل في تفسيرها غير ذلك. حامٍ الحامى: الفحل يولد من ظهره عشرة أبطن فيقولون: حمى ظهره فلا يحمل عليه ولا يمنع من ماء ولا مرعى. أخرج ابن جرير عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول لأكثم بن الجون: رأيت عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف يجر قصبه في النار (القصب: المعى، والأقصاب: الأمعاء) فما رأيت رجلا أشبه برجل منك به ولا به منك، فقال أكثم: أخشى أن يضرّ بي شبهه يا رسول الله، فقال رسول الله: لا إنك مؤمن وهو كافر، إنه أول من غير دين إسماعيل وبحر البحيرة وسيب السائبة وحمى الحامى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 570 المعنى: أيها المسلمون ما جعل الله في الدين الإسلامى من بحيرة، ولا سيّب سائبة، ولا وصل وصيلة، ولا حمى حاميا، أى: ما شرع ذلك ولا أمر به، فما كان يفعله الجاهليون فهو رد عليهم غير مقبول منهم. ولكن الذين كفروا- إذ يفعلون ما يفعلون- إنما يفترون على الله الكذب، حيث قالوا أمرنا الله بهذا، وقالوا: لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا، ولا حرمنا من دونه من شيء!! قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا؟ إن تتبعون إلا الظن، وما تهوى الأنفس، وقد ثبت في الصحيح كما مر أن أول من سنّ هذا هو عمرو بن لحى بن قمعة بن خندف ولكن أكثرهم لا يعلمون. وإذا قيل لهم: تعالوا أيها الضالون إلى نور القرآن وإلى هدى الرسول وحكّموا عقولكم وانزعوا عنها غطاء التعامي عن آيات الله قالوا غرورا وجهلا وسفها وحمقا: حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا فآباؤنا مصدر التشريع الصحيح!! أيتبعونهم ويتركون الدين الصحيح والتشريع القويم، ولو كان آباؤهم لا يعلمون شيئا أبدا ولا يهتدون إلى خير أصلا، ولا غرابة فهم الذين عاشوا في العداوة والبغضاء والحروب والغارات وشرب الخمر ووأد البنات، وعمل الفحش والمنكرات!! وهل كانت هناك جاهلية جهلاء؟ وضلالة عمياء أسوأ من هذا؟ في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر [سورة المائدة (5) : آية 105] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) المناسبة: بعد أن بين الله ضلال أهل الشرك وعنادهم، وتفكيرهم السقيم في اتباع آبائهم، خفف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 571 الله عن المؤمنين أوزارهم، وأمر بأن يكملوا أنفسهم بالعمل الطيب، ولا عليهم شيء بعد هذا. المعنى: يا أيها المؤمنون عليكم أنفسكم، كملوها بالعلم والعمل وأصلحوها بالقرآن والسنن وانظروا فيما يقربها إلى الله حتى تكون في رفقة الأنبياء الشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وبعد هذا لا يضركم من ضل إذا اهتديتم. نعم لا يضركم شيء إذا قمتم بما عليكم من واجبات وأمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكرات، فالله يقول: وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «1» ثم إلى الله وحده المرجع والمآب وسيجازى كلا على عمله، إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر. روى ابن كثير أن أبا بكر خطب في الناس فقال: «أيها الناس إنكم تقرءون وهذه الآية (عليكم أنفسكم ... الآية) وإنكم تضعونها في غير موضعها وإنى سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن الناس إذا رأوا المنكر ولم يغيروه يوشك أن يعمهم الله بعقاب» وفي حديث أبى ثعلبة الخشني قال: «لقد سألت عنها خبيرا (أى: هذه الآية) سألت عنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر، حتى إذا رأيت شحّا مطاعا، وهوى متبعا، ودنيا مؤثرة، وإعجاب كل ذي رأى برأيه فعليك بخاصة نفسك ودع عنك العوام فإن من ورائك أياما، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون كعملكم» . وفي رواية لابن عمر: إن هذه الآية تأويلها في غير زمن النبوة بل في القرون الآتية بعد، وعن سعيد بن المسيب: إذا أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر فلا يضركم من ضل إذا اهتديتم. والخلاصة أن السلف متفقون على أن المسلم يكمل نفسه بالعمل الصالح، ويكمل غيره بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وأن هذا فرض لا يسقط إلا إذا اضمحل الزمان، وفسد الناس فسادا يؤدى إلى إيذاء الواعظ إيذاء يهلكه. والرأى- والله أعلم- أن الله يخاطب الجماعة في مقام الأمر بالمعروف والنهى عن   (1) سورة الزمر آية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 572 المنكر وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ «1» وهنا لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ هذه الجماعة لا يضرها أبدا إيذاء ما دامت أمة متحدة مستمسكة بدينها. داعية إلى الخير آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر. فإن سقط الأمر بالمعروف أو خف عن الفرد في زمن من الأزمان- والحمد لله لم يحصل بعد- فلن يسقط ولن يخف عن الجماعة. حقيقة إن الوعظ الفردى قد يكون عسيرا ولكن الوعظ الجماعى مع تقوية السناد بكثرة الأفراد الصالحين هو طريق الإصلاح والخير، وليس أجدى على الأمة من تكتل الدعاة واجتماع طلاب القرآن وحكمه ففيهم الخير فيما نعلم، وإليهم تتجه أنظار المسلمين. الشهادة على الوصية حين الموت وأحكامها [سورة المائدة (5) : الآيات 106 الى 108] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَلا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَمَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108)   (1) سورة آل عمران آية 104. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 573 المفردات: شَهادَةُ هي: قول صادر عن علم حصل بمشاهدة بصر أو بصيرة. ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ: سافرتم لأن المسافر يضرب الأرض برجليه. تَحْبِسُونَهُما: تمسكونهما. إِنِ ارْتَبْتُمْ: شككتم في صدقهما فيما يقرّان به. عُثِرَ اطّلع، وأعثر عليه: أعلمه به. سبب النزول: كان تميم الداري، وعدى بن بدّاء رجلين نصرانيين يتجران إلى مكة في الجاهلية. ويطيلان الإقامة بها، فلما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة حولا متجرهما إلى المدينة فخرج بديل مولى عمرو بن العاص تاجرا حتى قدم المدينة، فخرجوا جميعا تجارا إلى الشام حتى إذا كانوا ببعض الطريق اشتكى بديل فكتب وصية بيده ثم دسها في متاعه وأوصى إليهما أن يوصلوا متاعه إلى أهله، فلما مات فتحوا متاعه فوجدوا كتابه وعهده وما خرج به، وفقدوا شيئا فسألوهما عنه، فقالا: هذا الذي قبضنا له، ودفع إلينا فقالوا لهما: هذا كتابه بيده، قالا: ما كتمنا له شيئا، فترافعوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت هذه الآية.. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يستحلفوهما دبر صلاة العصر بالله الذي لا إله إلا هو. ما قبضنا غير هذا ولا كتمنا، فمكثا ما شاء الله أن يمكثا ثم ظهر معهما إناء من فضة منقوش مموه بالذهب، فقال أهله: هذا من متاعه، قالا: نعم ولكنا اشتريناه منه ونسينا أن نذكره حين حلفنا فكرهنا أن نكذب نفوسنا، فترافعوا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت الآية فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم رجلين من أهل بيت الميت أن يحلفا على ما كتما وغيبا ويستحقانه. ثم إن تميما أسلم وبايع النبي صلّى الله عليه وسلّم وقال: صدق الله ورسوله أنا أخذت الإناء مع صاحبي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 574 المعنى: يا أيها الذين آمنوا اعلموا أن الله- تعالى- أخبر أن حكمه في الشهادة على الموصى إذا حضرته مقدمات الموت، وأصابته مصيبته وهو في سفر فأوصى إلى اثنين عدول في ظنكم فإن لم يكونا فآخران من غيركم، أى: من الكفار للضرورة أو من غير عشيرتكم وقرابتكم، أى: من المسلمين الأجانب فأوصيتم إلى اثنين منهما، ودفعتم إليهما المال وذهبا إلى ورثتكم فارتابوا في أمرهما، وادعوا عليهما خيانة، فإن كانا أمينين وصدقوهما بلا يمين فلا شيء. أما في حالة الشك فالحكم أن تحبسوهما، وتستوثقوا منهما حتى الفراغ من صلاة العصر كما فعل النبي صلّى الله عليه وسلّم مع تميم وزميله، ولأن هذا وقت القضاء والفضل في الدعاوى، وانظر إلى اختيار الزمان والمكان وصيغة القسم ونظامه، فيقسمان بالله أنهما ما كذبا وما بدلا، وأن ما شهدا به هو الحق وما كتما من شهادتهما ولا غيّرا، ويقسمان إنا لا نشتري بيمين الله ثمنا حقيرا من متاع الدنيا الفاني. ولو كان المقسم له من أقاربنا. إنا إذا كتمنا أو غيرنا وبدلنا لنكونن من الآثمين المستحقين عقاب الله في الدنيا والآخرة. فإن عثر على أنهما استحقا إثما بكذبهما وخيانتهما بعد ذلك كما حصل في قصة بديل السابقة، فالواجب حينئذ أن ترد اليمين إلى الورثة بأن يقوم رجلان آخران مقامهما من أولياء الميت الوارثين له الأقربين منه الأحقين بالإرث، فيقسمان بالله لشهادتنا ويميننا أحق وأصدق من أيمان اللذين حضرا الوصية، وأنهما ما اعتديا عليهما بتهمة باطلة، إنا إذا حصل منا شيء من هذا، وتعدينا الحق وجاوزناه، فحلفنا مبطلين كاذبين لنكونن من الظالمين لأنفسنا بتعريضها لسخط الله وعقابه. ذلك الذي شرعناه من هذا النظم جميعا أدنى الطرق وأقربها إلى أن يؤدى الشهداء الشهادة على وجهها بلا تحريف ولا تبديل، وأن يخافوا من الفضيحة التي تعقب استحقاق الإثم برد أيمان الورثة بعد أيمانهم فإنها تكون مبطلة لأيمانهم فالواجب أن يخافوا من عقاب الله أو من رد الأيمان والفضيحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 575 واتقوا الله يا عباد الله واسمعوا وأطيعوا، والله لا يهدى القوم الظالمين الخارجين عن حدود الشرع أبدا. من مواقف يوم القيامة [سورة المائدة (5) : آية 109] يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) المعنى: يقول الله- تعالى- ما معناه: اتقوا الله واذكروا دائما يوم يجمع الله الرسل يوم القيامة، فيقول لهم على سبيل التوبيخ والتأنيب لأممهم، كما إذا سأل الموءودة والمراد من وأدها!! يقول لهم: ماذا أجبتم. والمعنى: أى إجابة أجبتم بها؟ أإجابة إيمان وإقرار أم إجابة كفر واستكبار؟ وليوم القيامة مواقف، فتارة تشهد الرسل على أممهم، وتارة يسأل الله الأمم فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ. «1» والله يسأل الرسل فيقولون: لا علم لنا، أى: بالنسبة إلى علمك فأنت تعلم السر وأخفى، إنك أنت علام الغيوب، وقال ابن عباس: المعنى: لا علم لنا إلا علم أنت أعلم به منا إنك أنت علام الغيوب. ونقل أن ما يفاجئهم من هول ذلك اليوم وفزعه يذهلهم عن الجواب، إذ ينسون أكثر الأمور. لا عِلْمَ لَنا وإذا ما هدأ روعهم، وسكنت نفوسهم بعض الشيء يشهدون على أممهم، وإذا كان هذا حال الأنبياء، فكيف يكون حالنا نحن؟ حقيقة إنه يوم الفزع الأكبر يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله، ومن هنا ظهرت المناسبة بين هذه الآية والتي قبلها، فهي تخويف وبيان أن الله عالم فلا تكتموا شيئا.   (1) سورة الأعراف آية 27. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 576 معجزات عيسى عليه السلام [سورة المائدة (5) : الآيات 110 الى 111] إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) المفردات: بِرُوحِ الْقُدُسِ: جبريل- عليه السلام- الذي يؤيد به الله رسله بالتعليم والتثبيت، وقيل: روح عيسى الطاهرة القوية. فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا: في حالتي الصغر والكبر والضعف والقوة. الْكِتابَ المراد: كل ما يكتب. وَالْحِكْمَةَ: العلم النافع. الْأَكْمَهَ من ولد أعمى. سِحْرٌ السحر: هو التمويه والتخييل بالباطل حتى يرى الإنسان الشيء على غير حقيقته. بعد أن ذكر الله- سبحانه وتعالى- سؤال الأنبياء جملة وجوابهم، مع الإشارة إلى ما يفيده السؤال والجواب من الإحراج والتوبيخ، تعرض لعيسى خاصة، لعل قومه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 577 يعرفون موقفه من الله- سبحانه وتعالى- فيرجعوا عن عقائدهم الفاسدة وكل الأمم طعنوا في نبوة أنبيائهم، أما هؤلاء فتعدى طعنهم إلى الله- سبحانه وتعالى- حيث نسبوا له الزوجة والولد. وقد غالوا في المسيح حتى رفعوه عن درجة الأنبياء بسبب سوء فعلهم في معجزاته. المعنى: واذكر يا محمد وقت قول الله: يا عيسى ابن مريم: اذكر نعمتي عليك حيث اصطفيتك بالرسالة، وشرفتك بالنبوة، وكنت من غير أب، فكنت آية على قدرة الله، واذكر نعمتي على والدتك النقية الطاهرة، مريم البتول التي برأتها مما نسب إليها، وشرفتها بنسبة عيسى لها. اذكر يا عيسى ابن مريم نعم الله عليك إذ أيدك بروح القدس جبريل، علمك وثبتك، ولقنك الحجة بأمر الله وإذنه، وأيديك بروح طاهرة قوية، فصرت بهذا تكلم الناس صبيًّا في المهد، وتكلمهم كبيرا مكتمل القوى العقلية والرجولة الكاملة، تدعو الله وتبرئ أمك فكنت مؤيدا في كل وقت فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ [سورة مريم الآيات 29- 31] . واذكر نعمتي عليك إذا علمتك قراءة الكتاب، وعلمتك الحكمة والعلم النافع في الدنيا والآخرة. خاصة التوراة والإنجيل. واذكر نعمتي عليك إذ تخلق من الطين صورة كصورة الطير فتنفخ فيها فتكون طيرا له روح وحركة، بإذن الله وإرادته، لا بقدرتك أنت، ولكنها المعجزة جرت على يدك بأمر الله، شأنك في هذا شأن جميع الرسل، وإذ تبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله، وإذ تخرج الموتى من قبورهم فيحيون بأمر الله وإذنه. فهذا عيسى وهذه معجزاته كلها بأمر الله وإذنه وفي الإنجيل يقول عيسى: «أيها الأب أشكرك لأنك سمعت لي وأنا أعلم أنك في كل حين تسمع لي ولكن لأجل هذا الجمع الواقف قلت، ليؤمنوا أنك أرسلتنى» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 578 واذكر يا عيسى إذ كففت ومنعت عنك بنى إسرائيل وقت أن جئتهم بالبينات الواضحات وقد حاولوا قتلك وصلبك، ومكروا ومكر الله، والله خير الماكرين، قد نجاك الله منهم، وكفهم عنك، فما قتلوك وما صلبوك ولكن توفاك ورفعك إليه وطهرك من الذين كفروا، وكل ما فعلوه قولهم: ما هذا إلا سحر مبين، وتلك حجة العاجزين. واذكر إذ أوحيت إلى الحواريين أصحابك وألهمتهم أن يؤمنوا بي وبرسولي عيسى بن مريم، فآمنوا، وقالوا: آمنا بالله وبرسوله واشهد بأننا مسلمون ومنقادون لله في السر والعلانية. وهكذا منّ الله على عيسى وفضّله وكرّمه، وجعل له أنصارا وأتباعا وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم. قصة المائدة [سورة المائدة (5) : الآيات 112 الى 115] إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَآخِرِنا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 579 المفردات: الْحَوارِيُّونَ: الأصحاب الخلّص للمسيح. مائِدَةً: هي الخوان الذي عليه الطعام أو الخوان نفسه. اللَّهُمَّ: يا الله. عِيداً: فرحا وسرورا، أو يوما يجتمع الناس فيه للعبادة كعيد الفطر مثلا يعود كل سنة. قصة المائدة عبرة وعظة، لمن يطلب من الله آيات غير التي أنزلت، وعاقبة ذلك، وهي في الجملة تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان لطبائع الناس وسيرتهم مع أنبيائهم. المعنى: واذكر وقت قول الحواريين لعيسى بن مريم. والمراد في مثل هذا التركيب ذكر ما حصل في الوقت لا نفس الوقت. قال الحواريون وهم المؤمنون الخلص ردّا على عيسى حين قال: مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ [ال عمران آية 52] ومع هذا قالوا: هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ!! وهذا سؤال لا يليق بهم قطعا!! ولذا خرجه العلماء على وجوه أحسنها أنّ (يستطيع) بمعنى يطيع، كاستجاب بمعنى أجاب، أو المعنى: هل تستطيع أمر ربك أى: سؤاله، وقيل: إنه سؤال عن الاستطاعة على حسب الحكمة الإلهية، أى: هل ينافي الحكمة إنزال المائدة أم لا؟ فإن ما ينافي الحكمة لا يقع قطعا وإن كان ممكنا. ولذا قالوا معتذرين عن إيراد السؤال بهذه الصورة: نريد أن نأكل منها فنحن في حاجة إليها، ونحن إذا أكلنا تطمئن قلوبنا وتهدأ نفوسنا، ونعلم أن قد صدقتنا في أن الله تعالى أرسلك نبيا، واختارنا أعوانا لك وقد رضى عنا بإجابة سؤالنا. ونكون عليها من الشاهدين بالوحدانية، ولك بالرسالة والنبوة إذ هي كالدليل على ذلك. قال عيسى ابن مريم: يا ربنا يا مالك أمرنا، ومتولّى شئوننا: أنزل علينا مائدة من السماء يراها هؤلاء، وتكون لنا معشر المؤمنين مصدر فرح وسرور، ويوم نزولها نتخذه عيدا نجتمع فيه للعبادة والشكر، ويعود علينا كل عام باليمن والإقبال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 580 وجودا وآخرنا كذلك، وتكون آية منك، ودلالة وحجة ترشد القوم إلى صحة دعوتي، وصدق رسالتي، وارزقنا ما به نقيم أودنا، ونغذي أجسامنا وعقولنا فأنت خير الرازقين، ترزق من تشاء بغير حساب. قال الله تعالى: إنى منزلها عليكم وقد نزلت إذ وعده الحق وقوله الصدق. فمن يكفر بعد نزول الآية المقترحة فإنى أعذبه عذابا شديدا لا أعذب هذا العذاب لأحد من العالمين، إذ اقتراح آية بعد الآيات الكثيرة التي نزلت كهذه المائدة آية يشترك في إدراكها جميع الحواس، ثم بعد هذا يكفر بها ويستهزأ، فإنه يستحق من الله عذابا دونه عذاب الكفار جميعا. وورد في قصة المائدة روايات كثيرة عن شكلها ولونها وطعمها. والظاهر- والله أعلم- أنه كان لخيال الإسرائيليين فيها نصيب، ونحن نلتزم حدود القرآن والسنة الصحيحة وفقنا الله إلى الصواب. تخلص عيسى مما ادعته النصارى [سورة المائدة (5) : الآيات 116 الى 120] وَإِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 581 المفردات: ما فِي نَفْسِي المراد: تعلم سرى ولا أعلم سرك. شَهِيداً: حفيظا بما أمرتهم. الرَّقِيبَ: من المراقبة، وهي المراعاة، والمراد الحافظ لهم والعالم بهم. هذا سؤال من الله- عز وجل- لعيسى خاصة حتى يجيب فتكون إجابته توبيخا لمن ادعى غير إجابته، ودليلا على أن قومه غيروا بعده وبدلوا وادعوا عليه كذبا وبهتانا لم يقله، وإنكاره بعد سؤاله أشد في التوبيخ وأبلغ في التكذيب. المعنى: واذكر يا محمد وقت قول الله لعيسى بن مريم: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمى إلهين متجاوزين بذلك توحيد الله وإفراده بالعبادة والتقديس؟! فالله يسأل للإنكار والتوبيخ، أقالوا هذا القول وافتروا هذه الفرية بأمر منك أم هو افتراء واختلاق من عند أنفسهم؟ واتخاذ الآلهة من دون الله يكون بعبادتهم، أو إشراكهم في العبادة، على معنى أن لهم تصريفا أو أنهم يقربون إلى الله زلفى ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «1» . وقد نعى الله- سبحانه وتعالى- على المسيحيين اتخاذهم المسيح إلها وكذا أمه، وعبادته وأمه معروفة في الكنائس الشرقية والغربية. نعم قد أنكرت فرقة البروتستانت عبادة أمه. وما العقيدة الجديدة التي أثبتها بابا روما في هذه السنين ورد عليه بعض العلماء ببعيدة.   (1) سورة الزمر آية 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 582 ولا أدرى أظل الدين ناقصا حتى كمل في القرن العشرين؟؟ أم أن رجال الدين عند المسيحيين لهم حق المحو والإثبات في العقائد! الله أعلم بذلك، قال عيسى: سبحانك يا رب! وتنزيها لك وتقديسا! ما يكون لي، ولا ينبغي لي أن أقول ما ليس بحق أصلا وكيف يصدر هذا منى؟ وقد عصمتني وأيدتنى بروح من عندك. إن كنت قلته فقد علمته فأنت تعلم الغيب والشهادة، وتعلم سرى وضميري، وأنا لا أعلم شيئا مما استأثرت به من بحار علمك إنك أنت علام الغيوب. يا رب ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به من التوحيد الخالص من شوائب الشرك والوثنية: أن اعبدوا الله ربي وربكم فأنا عبد مثلكم إلا أنه قد خصنى الله بالرسالة إليكم. وكنت يا رب قائما عليهم أراقبهم وأشهد على ما يقولون وما يفعلون فأقر الحق وأقاوم الباطل، وقد كانت هذه العقائد الخطيرة غير موجودة في حياتي، فلما توفيتني ورفعتني كنت يا رب الحفيظ عليهم دوني، ولا يخفى عليك شيء. وقد تقدم ما يثبت أن عيسى برىء من التثليث والحلول والإشراك كما وضحنا في الجزء السادس وهذا عيسى في الإنجيل يقول: «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» . وقد فوض أمر هذه الأمة لله فقال: وإن تعذبهم بمعصيتهم التي لم يتوبوا عنها فهم عبادك. وإن تغفر لهم سيئاتهم بعد توبتهم وصلاح أمرهم فهم عبادك وأنت العزيز الحكيم في كل صنع. قال الله: هذا اليوم هو اليوم الذي ينفع الصادقين صدقهم في إيمانهم وشهاداتهم، لهم في الآخرة جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضى الله عنهم، ورضوانه أكبر من كل نعمة وفضل، ورضوا عنه، ذلك هو الفوز العظيم. وكيف لا يكون هذا؟ ولله ملك السماوات والأرض وما فيهن من عوالم، والله أعلم بها وهو على كل شيء قدير، سبحان ربك رب العزة عما يصفون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 583 سورة الأنعام آياتها 165 آية وهي سورة مكية إلا بعض آيات قلائل، وهي سورة جامعة لأصول التوحيد شارحة للعقيدة الإسلامية وخاصة أحوال البعث وإثبات الرسالة وما يتبع ذلك. وقد تضافرت الروايات على أنها نزلت جملة واحدة، فقد روى نافع عن ابن عمر- رضى الله عنهما- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «نزلت علىّ سورة الأنعام جملة واحدة وشيعها سبعون ألفا من الملائكة لهم زجل بالتسبيح والتحميد» ولا مانع في أن يكون بعض آياتها مدنيا ثم وضعه النبي صلّى الله عليه وسلّم في موضعه من السورة. وقال القرطبي: هذه السورة أصل في محاجة المشركين وغيرهم من المبتدعة ومن كذب بالبعث والنشور، وهذا يؤيد نزولها جملة واحدة. أما مناسبتها: ففي المائدة محاجة أهل الكتاب وفي هذه محاجة المشركين، والمائدة ذكرت المحرمات بالتفصيل لأنها من آخر القرآن نزولا، والأنعام ذكرت ذلك جملة. دلائل الوحدانية والبعث مع شمول العلم [سورة الأنعام (6) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 584 المفردات: الْحَمْدُ: هو الثناء الحسن والذكر الجميل. خَلَقَ الخلق في اللغة: التقدير، أى: جعل الشيء بمقدار معين على حسب علمه، وفي أبى السعود: الجعل الإنشاء والإبداع كالخلق، غير أن الخلق مختص بالإنشاء التكويني وفيه معنى التقدير والإبداع، والجعل عام للإنشاء كما في قوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ. وللتشريع والتقنين كما مر في قوله: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ ويختص الجعل بأن فيه معنى التضمين كإنشاء شيء من شيء. يَعْدِلُونَ: يجعلون له عدلا مساويا وشريكا له منافسا. أَجَلًا الأجل: المدة المضروبة للشيء، وقضى أجلا بمعنى حكم به وضربه. تَمْتَرُونَ: تشكّون في دلائل البعث والتوحيد. المعنى: أثنى الله- سبحانه وتعالى- على نفسه، مما علّم به عباده الثناء عليه، فالحمد لله، وكل ثناء ثابت له، إذ هو متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص، وثابت له الخلق والإيجاد، والإنشاء والإبداع. وقد وصف- سبحانه وتعالى- هنا بصفتين من موجبات الحمد والثناء، وهما خلق السموات والأرض، وجعل الظلمات والنور. أما خلق السموات والأرض، وما فيهما من العوالم والنظام، والتقدير والإحكام فشيء يعترف به المشركون والمؤمنون على السواء وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» فهذه السموات وما فيها من نجوم وأفلاك وشموس وكواكب، كل له مدار، وله شروق وأفول، وهذا الهواء المحيط بالأرض، وهذا الأثير الذي ينقل الصوت، أليس هذا كله يدل على الوحدة والكمال! الحمد لله الذي خلق السموات وما فيها وسخر الشمس والقمر كل يجرى إلى أجل مسمى!! أما الأرض وما أدراك ما هي، كوكب سيار وفلك دوار، كانتا رتقا ففتقناهما وهي معلقة في الفضاء، وتدور حول الشمس، وعليها الجبال الرواسي وفيها الأنهار والبحار وعليها نسير وفيها نعيش وهي كروية، ولا يقع الماء من جوانبها،   (1) سورة لقمان آية 25 والزمر 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 585 ولا يتدفق عند قطبيها، من الذي خلق هذا وقدره؟؟ إنه هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد. الحمد لله قد جعل الظلمات والنور!! وهل الظلمات والنور في المحسوسات أم هما في المعقولات، أم اللفظ عام للجميع؟. والقرآن الكريم جرى على جمع الظلمات وإفراد النور لأن ظلمات الشرك والكفر أسبابها وأشكالها وألوانها مختلفة وكثيرة، أما نور الحق والهدى فطريقهما واحد، وللظلمات الحسية أسباب لأن الظلمة تحصل بحجب النور بالجسم والأجسام مختلفة وكثيرة، وللنور مصدر واحد وإن اختلف قوة وضعفا، وشكلا وصورة. ثم الذين كفروا بعد هذا كله يعدلون بالوحدانية إلى الشرك، ويجعلون لمن خلق وأوجد وأنشأ وأبدع شريكا مساويا له كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، أبعد هذا يكون شك في وحدانية الله وكماله؟!! ثم استأنف القرآن كلاما خاطب به المشركين والمعاندين مذكّرا لهم بما هو ألصق بهم، وهو خلقهم من طين أو من ماء مهين، فهذا أبونا آدم خلق من طين وها نحن أولاء نتكون من منىّ وبويضة، وهما من دم الذكر والأنثى، والدم من الغذاء، والغذاء من الحيوان والنبات وهما يرجعان إلى الأرض، وقيل: المعنى: خلق أباكم آدم من طين. ثم ضرب لنا أجلا نعيش به في الدنيا إلى وقت محدود فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ «1» وهناك أجل آخر مسمى عنده هو أجل الدنيا وانتهاؤها، ومصيرها إلى الحياة الآخرة لا يعلم به إلا هو، ولم يطلع عليه ملكا مقربا ولا نبيا مرسلا يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلَّا هُوَ [سورة الأعراف آية 187] . ثم أنتم بعد هذا تمترون وتشكّون في خلقكم مرة ثانية، أى: في البعث؟ فالذي خلق الجنين في بطن أمه من ماء مهين وجعله يتنفس ولو تنفس بالهواء العادي لمات، وجعله يتغذى بالدم القذر القاتل، أليست هذه حياة عجيبة؟!!! حقا إنها لعجيبة، والذي أحيانا على هذا الوضع قادر على إحياء الموتى يوم القيامة.   (1) سورة الأعراف آية 34 والنحل 61] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 586 وهو الله في السموات والأرض، نعم هو الله الموصوف بكل كمال، وخالق السماء والأرض وما فيهما، هذه حقائق معروفة، وأمر شهد به الخلق جميعا، وفي ابن كثير: معنى هذه الآية: المدعو الله في السموات والأرض، أى: يعبده ويوحده ويقر له بالألوهية من في السموات ومن في الأرض، ويسمونه الله ويدعونه رغبا ورهبا إلا من كفر، وهذه الآية كقوله تعالى: وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ أى: هو إله من في السماء وإله من في الأرض، وعلى هذا فقوله تعالى: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ خبر بعد خبر وصفة أخرى، وقيل: المعنى: هو الله يعلم سركم وجهركم في السموات والأرض ويعلم ما تكسبون، فهو سبحانه العليم الخبير. سبب كفرهم وشبهاتهم والرد عليها [سورة الأنعام (6) : الآيات 4 الى 9] وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَجَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 587 المفردات: مُعْرِضِينَ الإعراض: التولي عن الشيء. بِالْحَقِّ أى: بالأمر الثابت المتحقق في نفسه، والمراد به هنا الدين. أَنْباءُ جمع نبأ: وهو الخبر المهم. مِنْ قَرْنٍ القرن من الناس: القوم المقترنون في زمن واحد، ومدته من الزمن مائة سنة، وقيل غير ذلك. السَّماءَ المراد: المطر. مِدْراراً: مبالغا فيه في الكثرة والغزارة. كِتاباً: صحيفة مكتوبة. قِرْطاسٍ: الورق الذي يكتب فيه. وَلَلَبَسْنا اللبس: الستر والتغطية، والمراد: جعلنا أمرهم يلتبس عليهم فلا يعرفونه. ما تقدم من الآيات كان في إثبات الوحدانية، وكمال الربوبية لله- سبحانه وتعالى- وإثبات البعث، وأن الله الذي يعترفون له بخلق السموات والأرض هو الإله المعبود بحق، المحيط علما بكل شيء لا إله إلا هو!!! ولكنهم أشركوا بالله وكذبوا رسله، ولم يؤمنوا بهذه الآيات الكونية ولا الآيات القرآنية التي تناديهم ليصدقوا بها ويصدقوا برسولها صلّى الله عليه وسلّم وهذه الآيات تشير إلى سبب التكذيب والكفر!! المعنى: وما تأتيهم أية آية من آيات ربهم الذي رباهم، وتعهدهم في حالتي الضعف والقوة، وكفل لهم الرزق، وآتاهم من كل شيء، وكفل لهم جميع ما في الأرض، ما تأتيهم آية من آيات ربهم إلا كانوا عنها معرضين ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ [سورة الأنبياء آية 2] . فهم لم ينظروا نظرة اعتبار وتأمل، ولم يجردوا أنفسهم من قيد التقليد، وحمى العصبية، وحماقة الجاهلية، فهم إذا أتتهم آية أعرضوا وقالوا: سحر مستمر وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. [سورة الأعراف آية 132] . فبسبب هذا قد كذبوا بالحق والدين الصدق، الذي دعا إليه القرآن الكريم وجاء به النبي الأمين: من الدعوة إلى العقائد الصحيحة، والآداب الكريمة، والمثل العليا، ولكون الإعراض طبيعة فيهم وغريزة كذبوا بسرعة فائقة عقب الدعوة مباشرة، وكانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 588 عاقبة أمرهم خسرا، وسوف يأتيهم أخبار وأحوال الذين كذبوا به وهو القرآن، سيأتيهم نبأ هذا التكذيب وعاقبته وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ «1» وقد أتى حيث هزموا بغزوة بدر، وجاء نصر الله والفتح ودخل الناس في دين الله أفواجا، هذا في الدنيا!! وقال الرازي في تفسيره: كان حال هؤلاء في كفرهم على ثلاث مراتب: إعراض عن التأمل، ثم تكذيب، وثالثة الأثافى استهزاء بآيات الله وكلامه. عجبا لهؤلاء!! ألم يعلموا نبأ من كان قبلهم، وكيف كان مآلهم؟! .. كم أهلكنا من قبلكم من قوم أعطيناهم ما لم نعط لكم ومكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، وأرسلنا السماء عليهم مدرارا، أفكان هذا كله مانعا لنا من إنزال العقوبة الصارمة بهم لما أعرضوا وكذبوا واستهزءوا؟؟ أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ «2» لا هذا ولا ذاك!! ألم تروا قوم عاد وثمود، وقوم فرعون وإخوان لوط؟!! إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ. إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ. وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ «3» والمسلمون اليوم أخوف ما أخاف عليهم هذا الإعراض عن آيات الله والتكذيب لها عمليا، أخاف عليهم أن يحيق بهم عاقبة أمرهم فتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا. كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يضيق ذرعا بقومه من جراء تكذيبهم وعنادهم فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ «4» وكانوا يكثرون في طلب الآيات الخاصة، فرد الله عليهم بما ألزمهم. ولو نزلنا عليك يا محمد كتابا مكتوبا من السماء في قرطاس وفيه دعوتهم إلى الدين بالحجة لما آمنوا به ولما صدقوك في ذلك بل ولقالوا: ما هذا إلا سحر وخيال ظاهر ليس فيه حقيقة، وانظر إلى تعبير القرآن الكريم: نَزَّلْنا بالتشديد، وقوله كِتاباً فِي قِرْطاسٍ والكتاب لا يكون إلا فيه، ثم قوله: فلمسوه بأيديهم، وقلبوا فيه وبالغوا في   (1) سورة هود آية 8. (2) سورة القمر آية 43. (3) سورة البروج الآيات 12- 14. (4) سورة هود آية 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 589 ذلك، كل هذه أساليب تفيد المبالغة وتأكيد النزول وتأكدهم منه، ومع هذا يقولون: إن هذا إلا سحر مبين. وكان الكفار قد اقترحوا اقتراحين، أولهما: أن ينزل على الرسول ملك من السماء يرونه ويكون معه نذيرا ومؤيدا له ونصيرا، وذلك أنهم يفهمون أن الرسول بشر والرسالة تتنافى مع البشرية ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ «1» . وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [سورة الفرقان آية 7] . وقد حكى الله عنهم هذا كثيرا في سورة هود وإبراهيم وغيرهما. وقد رد الله اقتراحهم هذا بأنه لو أنزل ملكا كما اقترحوا لقضى الأمر وهلكوا ثم لا ينظرون ولا يمهلون إذ جرت سنة الله في خلقه، إذا تعصب قوم وطلبوا آية غير التي أنزلت إليهم، وأجيبوا إلى طلبهم، ثم لم يؤمنوا، يهلكهم الله بعذابه ويقضى عليهم. وهؤلاء من أمة الدعوة المحمدية، وقد قضى الله ألا يهلكهم بعذاب الاستئصال تكريما للنبي صلّى الله عليه وسلّم وعسى أن يأتى من نسلهم من يعبد الله حقا، وقد كان هذا. الاقتراح الثاني: هلا نزّلت الملائكة علينا بالرسالة، وكان الرسول ملكا لا بشرا ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً «2» فأنت ترى أن اقتراحهم الثاني مبنى على الغرور الكاذب والجهل الفاضح وأن هذا النبي الأمين الصادق الكريم لا يستحق هذه الرسالة فإن كان ولا بد من إرسال بشر فنحن أولى منه وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «3» . فيرد الله عليهم: لو جعلنا الرسول ملكا لجعلناه رجلا حتى يمكن التفاهم معه والأنس به ومخاطبته، ولو جعلناه بشرا لعاد الأمر كما كان وللبسنا عليهم واختلط الأمر عندهم، فإن هذا الرجل سيقول لهم: إنى رسول الله كما يقول محمد صلّى الله عليه وسلّم أما اختصاص محمد دون غيره بالرسالة وتشريفه بالنبوة فالله أعلم حيث يجعل رسالته.   (1) سورة المؤمنون آية 33. (2) سورة المؤمنون آية 24. (3) سورة الزخرف آية 31- 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 590 تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة الأنعام (6) : الآيات 10 الى 11] وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) المفردات: اسْتُهْزِئَ الاستهزاء: السخرية والاستخفاف والاحتقار، ويتبع ذلك غالبا الضحك. فَحاقَ: أحاط بهم فلم يكن لهم منه مخرج. المعنى: يخبر الله- سبحانه وتعالى- نبيه الكريم بصيغة القسم، أن الكفار قد استهزءوا قديما برسل كثير عددهم، عظيم شأنهم، رسل من قبلك، فليس استهزاؤهم بك بدعا، بل أنت مسبوق في ذلك، فلا تحزن عليهم، ولا تك في ضيق مما يفعلون، فهذا شأن الكفار قديما وحديثا. واعلم أنه قد أحاط بهم فلم يكن لهم منه مخرج، وليس لهم مفر ولن يفلتوا من عاقبة فعلهم أبدا. فالآية إرشاد للنبي صلّى الله عليه وسلّم ببيان سنة الله في الخلق وأن العاقبة للمتقين، وأن العذاب والخزي للكافرين والمستهزئين إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ. [سورة الحجر آية 95] . وإن ارتاب المشركون في ذلك فقل لهم: سيروا في الأرض، وتنقلوا فيها لتقفوا بأنفسكم على تاريخ من سبقكم من عاد وثمود وطسم وجديس وقوم فرعون وإخوان لوط (فما راء كمن سمعا) سيروا في الأرض ثم انظروا واعتبروا، كيف كان عاقبة المكذبين؟؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 591 أسلوب آخر في إثبات الوحدانية والبعث [سورة الأنعام (6) : الآيات 12 الى 16] قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) المفردات: كَتَبَ: فرض وأوجب على نفسه. لَيَجْمَعَنَّكُمْ المراد: ليحشرنكم. خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ المراد بالخسارة هنا: ترك ما يقتضيه العقل والعلم. ما سَكَنَ من السكون أو السكنى، والمراد: عدم الحركة. فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ: منشئهما ومبدعهما على غير مثال سابق. يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ: يبعد عنه. رَحِمَهُ: أنجاه من الهول الأكبر. ها هو ذا القرآن الكريم يعود إلى إثبات الوحدانية لله والكمال له. وإثبات البعث والجزاء بأسلوب آخر، ونمط عال في الأداء، طرقا للسمع من جميع الأنحاء حتى لا يمل السامع مع زيادة التكرير والتثبيت فهذا هو المقصود المهم والهدف المرجو للقرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 592 المعنى: قل لهم يا محمد: لمن ما في السموات والأرض؟ ولمن هذا الكون وما فيه؟ ولمن هذا الوجود وما يحويه؟ لمن هذه السماء وقد ازينت! وهذه الكواكب وقد انتثرت!! ولمن هذه الأرض وقد مدت وفيها الأنهار الجواري والجبال الرواسي والعوالم التي لا يحيط بها إلا خالقها!! قل لهم: هذا كله لله واهب الوجود، الكبير المعبود. مالك الملكوت، ذو الرحمة والجبروت، الواحد الأحد، الفرد الصمد، لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. وهذا سؤال، وجوابه قد أمر به صلّى الله عليه وسلّم في القرآن لأنه هو الجواب المتعيّن، ولا يمكن لمنصف أن ينكر هذا أبدا وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «1» فهم معترفون بهذا ولكن لسوء تفكيرهم يقولون في الأصنام: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «2» فبئس ما يصنعون، على أن السؤال وجوابه كان تبكيتا لهم وتوبيخا، وقد بنى عليه شيء آخر من لوازمه، وقد يجهله المسئولون أو ينكرونه لعنادهم وحماقتهم. فالله الذي برأ السموات والأرض، وله كل ما فيهما مما لا نعلم عنه إلا قليلا، وكالذرة بالنسبة للجبال الشم، وقد أوجب على نفسه، وقوله عَلى نَفْسِهِ لتأكيد الوعد وتحقيقه. أوجب الرحمة على عباده إذ هو الرحمن الرحيم، ليجمعنكم ليوم القيامة جمعا لا شك فيه ولا ريب، أو أنه ليجمعنكم ليوم لا ريب فيه ولا شك، نعم يجمعنا ويحشرنا لنأخذ الجزاء على أعمالنا فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «3» ، وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «4» والثواب والعقاب على الأعمال من مظاهر الرحمة بالخلق، حتى يعرف الخلق ذلك، ومتى علم هذا كف باغي الشر عن شره، وأسرع باغي الخير في عمله، مع أنه ليس من العدل والرحمة ألا يجازى المحسن على إحسانه وألا يعاقب المسيء على إساءته. وكذلك من مظاهر الرحمة هدايتنا إلى معرفته ونصب الأدلة على توحيده بما أنتم مقرون به من خلق السموات والأرض.   (1) سورة لقمان آية 25. (2) سورة الزمر آية 3. (3) سورة الزلزلة الآيتان 7 و 8. (4) سورة النجم آية 31. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 593 وقد سبقت رحمته غضبه وزادت عليه فهو يجازى الحسنة بعشر أمثالها وقد تضاعف أضعافا لمن يشاء، والسيئة بمثلها فقط مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [سورة الأنعام آية 160] . وأخص هؤلاء الذين خسروا أنفسهم ممن يجتمعون ليوم القيامة، وهم من فسدت فطرتهم، وساءت نفوسهم فلم يهتدوا بنور الدين، وحرموا أنفسهم من النظر والتفكير في هذا الكون وآياته. بعين العقل والحكمة، وإنما أعماهم التقليد وسوء الرأى وحمى العصبية وداء الحسد عن النظر الصحيح والفهم السليم، ولم تكن لهم عزيمة صادقة وإرادة حازمة، تجعلهم يتركون ما كان عليه الآباء إلى ما وافق العلم والعقل والرأى، نعم هؤلاء الذين خسروا أنفسهم، فهم لا يؤمنون أبدا بالبعث والثواب والعقاب. لله ما في السموات وما في الأرض، وله ما سكن في الليل والنهار ولم يتحرك، وله ما تحرك ولم يسكن، فهو المتصرف تصرفا كاملا في كل شيء خاصة ما سكن وخفى في الليل ومن باب أولى ما تحرك وظهر في النهار. فأنت معى أن القرآن الكريم تعرض لجميع الأمكنة في السموات والأرض ولكل الأزمنة في الليل والنهار وهذه إشارة إلى كما إحاطته وتمام تصرفه، وهو السميع لكل قول ودعاء العليم بكل فعل ونية. وهذا يقتضى عدم اتخاذ الأولياء من دون الله. قل لهم يا محمد: أغير الله أتخذ وليّا ينصرني؟ أو يدفع ضررا عنى، أو يجلب خيرا لي؟ والاستفهام لإنكار اتخاذ غير الله وليّا من الأصنام والشفعاء، أما اتخاذ الأصحاب والأصدقاء من المؤمنين فلا شيء ما دام في حدود كسبه وتصرفه الذي منحه الله لبنى جنسه. قل لهم: أفغير الله تأمرونى أعبد أيها الجاهلون؟ أغير الله فاطر السموات والأرض ومبدعهما لا على مثال سابق، أغير الله أتخذه وليّا يلي أمورى؟ فإن من فطر السماء والأرض وأبدعهما من غير تأثير ولا شفيع يجب أن يخص بالعبادة وحده إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ والله- سبحانه وتعالى- يطعم ويرزق الناس وليس في حاجة إلى أحد ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ [الذاريات 57] وفي هذا تعريض بمن يتخذون من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 594 العبادة آلهة وهم محتاجون إلى الطعام وما يتبعه من الحاجة إلى الخلاء، أما من يعبد غير الإنسان فعبادته ضرب من الخبل والجنون، أما وقد ظهرت هذه الحقائق بادية للعيان، فقل لهم يا محمد: إنى أمرت أن أكون أول من أسلم وجهه لله وانقاد، حيث ثبت أن له ما سكن وما تحرك، وهو السميع البصير، فاطر السموات والأرض واهب الرزق والحياة، غير محتاج لأحد، ليس كمثله شيء، ولهذا أمرت أن أكون أول من أسلم، ونهيت عن الشرك بالله، وإنى أخاف إن عصيت ربي عذابا عظيما يوم القيامة يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله. وإذا كان هذا حال النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر المعصوم خاتم الأنبياء والمرسلين. فما بالنا نحن وما بالك يا بن آدم؟ إنك لمسكين مغرور حيث تتعلق بالأوهام والالتجاء لغير الله. من يدفع عنه يومئذ ذلك العذاب فقد رحمه الله ونجا فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ [سورة آل عمران آية 185] وذلك الفوز هو الواضح العظيم. من مظاهر القدرة وشهادة الله للنبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة الأنعام (6) : الآيات 17 الى 19] وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَإِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 595 المفردات: الضر: ضد النفع، هو ما يسوء الإنسان في نفسه أو بدنه أو عرضه أو ماله. بِخَيْرٍ: هو ما يرغب فيه الكل وتطمع إليه النفس كالعقل والعلم والعدل. وضده الشر. الْقاهِرُ القهر: الغلبة والإذلال معا. شَهادَةً: هي إخبار عن علم ومعرفة واعتقاد مبنى على المشاهد بالبصر أو البصيرة. المعنى: يقول الله- سبحانه وتعالى- ما معناه: وإن يمسسك الله بضر من ألم أو فقر أو مرض أو أى مصيبة تحصل للإنسان فلا كاشف له ولا مزيل إلا هو- سبحانه وتعالى- إذ هو القادر على كل شيء، فيجب على المسلم ألا يتوجه لغيره إذ بيده وحده إزالة الضر وجلب النفع، والضر يزيله الله بتوفيق عبده لسلوك الطرق المنتجة المعروفة، وقد يزيله بلا عمل من الإنسان أصلا، وهو الحكيم الخبير بخلقه، وإن يمسسك بخير من غنى أو صحة أو مال، فهو من عنده وحده إذ لا يقدر على ذلك إلا هو- سبحانه وتعالى- وهو على كل شيء قدير، وفي مقابلة الخير بالضر إشارة إلى أن ما يصيب الإنسان في الدنيا ليس شرّا بل قد يكون فيه نفع.. وبعد أن أثبت الله لنفسه كمال القدرة وعظيم التصرف أثبت له كمال السلطان وتمام القهر والغلبة لعباده حتى يلجأ إليه الكل ويدعونه رغبا ورهبا فقال: وهو القاهر فوق عباده، والفوقية هنا فوقية استعلاء بالقهر والغلبة لا فوقية مكان، كما تقول: السلطان فوق رعيته، والمراد فوقهم بالأمر والغلبة، وفي القهر معنى زائد ليس في القدرة وهو منع غيره من بلوغ المراد إلا بأمره وهو الحكيم في أمره الخبير بخلقه- سبحانه وتعالى-. وكان المشركون يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم من يشهد لك بأنك رسول الله؟ فنزلت الآية وأمر رسول الله أن يسألهم أى شيء أكبر شهادة وأعظمها وأصدقها؟ ثم أمره بالإجابة فقال: أكبر الأشياء شهادة الذي لا يجوز أن يقع في شهادته كذب ولا زور ولا خطأ هو الله- تعالى- الشهيد بيني وبينكم، وأوحى إلىّ هذا القرآن من لدن الله لأنذركم به عقاب تكذيبي فيما جئت به. وأنذر من بلغه هذا القرآن في أى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 596 مكان أو زمان حتى تقوم الساعة، ولهذا كانت رسالته عامة، وشهادة الله للرسول كانت بإخباره بها في كتابه بنحو قوله: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وبتأييده بالآيات الكثيرة التي من أعظمها القرآن فهو المعجزة الخالدة الدالة على صدق النبي فيما يبلغه عن ربه، وكذا شهادة الكتب السابقة للنبي وبشارتها له، ولا تزال هذه البشارة في كتب اليهود والنصارى، والخلاصة أن شهادة الله- تعالى- هي شهادة آياته في القرآن وآياته في الأكوان ودلالة العقل والوجدان اللذين أو دعا في الإنسان. ثم أمره بالشهادة له بالوحدانية والتبرؤ من الشرك والوثنية. أإنكم لتشهدون وتقرون أن مع الله آلهة أخرى؟ قل لهم: لا أشهد بهذا أبدا، قل لهم: إنما إله واحد. وإننى برىء ممّا تشركون به من الأصنام والأوثان وغيرهما!! كتمان الشهادة والافتراء على الله [سورة الأنعام (6) : الآيات 20 الى 24] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) المفردات: فِتْنَتُهُمْ الفتنة: الاختبار، والمراد عاقبة الشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 597 روى أن كفار قريش سألوا أهل الكتاب عن رأيهم في النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي دينه. فقالوا: ليس في التوراة والإنجيل شيء يدل على نبوته ، وقد شهدوا له بالرسالة والصدق قبل أن يثبت كذب أهل الكتاب في شهادتهم ومن هنا كانت المناسبة. وقد روى أن عمر بن الخطاب لما قدم المدينة سأل عبد الله بن سلام عن هذه المعرفة فقال: يا عمر لقد عرفته فيكم حين رأيته كما أعرف ابني.. وأشهد أنه حق من عند الله. واستطرد الكلام إلى بعض مواقف المشركين. المعنى: الذين آتيناهم الكتاب قديما وهم اليهود والنصارى يعرفون محمدا صلّى الله عليه وسلّم وأنه خاتم الأنبياء والمرسلين كما يعرفون أبناءهم أو أشد، يعرفونه بما عندهم من نعته، وما ثبت من صدقه، وبالدلائل التي ظهرت معه. ولكنهم أنكروا كما أنكر المشركون والسبب أنهم خسروا أنفسهم واشتروا الضلالة بالهدى، لم تكن عندهم عزيمة صادقة تدفعهم إلى الإيمان وترك العصبية الجاهلية ولذلك فهم لا يؤمنون أبدا بالقرآن وبالنبي صلّى الله عليه وسلّم لعنادهم وحسدهم لا لجهلهم به، ولا أحد أظلم من شخص افترى على الله كذبا، واختلق بهتانا حيث قال: إن لله شريكا وله ولد، والملائكة بنات الله، وحرم البحيرة والسائبة والوصيلة والحام وكذب بالقرآن، وآياته البينات، وكذب بالآيات الكونية التي تدل على وحدانية الصانع وأن الدنيا لم تخلق عبثا، أما جزاء هؤلاء فإنه لا يفلح الظالمون أبدا في الدنيا والآخرة. وذكّرهم أيها الرسول يوم نحشرهم جميعا لا فرق بين ملة وملة إذ الكفر ملة واحدة ثم نقول للذين أشركوا: أين شركاؤكم؟! الذين كنتم تزعمون أنهم شركاء لله، وتدعونهم كما تدعون الله، وتلجئون إليهم كما تلجئون إلى الله. والسؤال للتبكيت والتأنيب!! ثم لم تكن عاقبة الشرك ونتيجته التي رأوها ماثلة للعيان يوم القيامة إلا قولهم: والله ربنا ما كنا مشركين أبدا. نعم وصلت حالهم إلى الإنكار والكذب بعد ما كانوا معتزين بالشرك وبدين الآباء والأجداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 598 عجبا لهؤلاء! أيكذبون على ربهم يوم القيامة؟ أم هي الدهشة والحيرة والخزي والوبال؟ فتارة يكذبون وتارة يصدقون ولا يكتمون الله حديثا. انظر كيف كذبوا على أنفسهم؟ يا له من كذب وخزي وعار! بعد الافتخار والاعتداد بدين الشرك والأوثان، تعجب كيف كذبوا وضل عنهم ما كانوا يفترونه ويختلقونه؟ بعض أعمال المشركين [سورة الأنعام (6) : الآيات 25 الى 26] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (26) المفردات: أَكِنَّةً الأكنّة: جمع كنان، وهو الغطاء والستر. وَقْراً: صمما وثقلا في السمع. آيَةٍ: علامة دالة على صدق الرسول. أَساطِيرُ: جمع أسطورة، وهي الخرافة. وَيَنْأَوْنَ: يبعدون عنه ويعرضون. سبب النزول: روى أنه اجتمع أبو سفيان والوليد والنضر وعقبة وشيبة وأبو جهل وأضرابهم، يسمعون تلاوة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم للقرآن فقالوا للنضر- وكان صاحب أخبار-: يا أبا قتيلة ما يقول محمد؟! فقال النضر: والذي جعلها بيته ما أدرى ما يقول إلا أنه يحرك لسانه ويقول أساطير الأولين مثل ما حدثتكم به عن القرون الماضية، فقال أبو سفيان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 599 إنى لأراه حقا، فقال أبو جهل: كلا، فنزلت ... ولكنا قلنا فيما مضى: إن الصحيح أن سورة الأنعام نزلت دفعة واحدة ... ولعلهم يذكرون حوادث وقعت تتفق مع الآيات. المعنى: ومن هؤلاء الكفار فريق يستمع إليك وأنت تقرأ القرآن المحكم الآيات البين المعجزات، والحال أنا جعلنا على قلوبهم أغطية وستائر تحول دون فهم القرآن الكريم وتدبر معانيه وجعلنا في آذانهم صمما حتى لا يسمعوا آياته سماع قبول وتدبر. وهذا تمثيل وتصوير لموقفهم من القرآن والنبي حيث قالوا: أساطير الأولين، وسحر وشعر والنبي ساحر كذاب، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً «1» إذ حالهم وما نشئوا فيه وبيئتهم وحبهم للرياسة والجاه وحسدهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم كل ذلك كان بمثابة غطاء وحجاب يمنع القلب والسمع من أن يتقبل كلام الله وكلام رسوله بقلب فاهم وسمع واع. ولذلك يقول القرآن فيهم: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها فهم كفروا بكل آية ومعجزة وذلك لصرف الله قلوبهم عن الخير لما أعماهم التقليد عن النظر الصحيح والفهم السليم. وهذه سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، حتى إذا جاءوك مجادلين يقول الذين كفروا منهم وكذبوا: ما هذا إلا خرافات وترهات فهم لم يكتفوا بالتكذيب بل وصفوه بأحط الأوصاف حيث قالوا: أساطير الأولين. وهم ينهون الناس عن القرآن حتى لا يسمعه أحد، ويصدون عن سبيل الله. وهم ينأون عنه ويبتعدون بأنفسهم إظهارا لغاية نفورهم منه وتأكيدا لنهيهم عنه، وما يهلكون إلا أنفسهم فقط وما يشعرون.   (1) سورة الكهف آية 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 600 من مواقف المشركين يوم القيامة [سورة الأنعام (6) : الآيات 27 الى 32] وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28) وَقالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (32) المفردات: وُقِفُوا عَلَى النَّارِ يقال: وقف على الشيء: عرفه وتبينه، ووقف نفسه على الشيء: حبسها، ومنه: وقف العقار على الفقراء. بَدا لَهُمْ: ظهر ووضح. السَّاعَةُ: هي الوقت المحدد المعروف، وتطلق في لسان الشرع على الوقت الذي ينقضي به أجل الدنيا وتبدأ به الحياة الأخرى. بَغْتَةً: فجأة يا حَسْرَتَنا الحسرة: الندم على ما فات كأن المتحسر قد انحسر وانكشف عنه الجهل الذي حمله على ما ارتكبه. ما فَرَّطْنا التفريط: التقصير في الشيء مع القدرة على فعله. أَوْزارَهُمْ: جمع وزر، وهو الحمل الثقيل، ويطلق في لسان الشرع على الإثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 601 والذنب كأنه لثقله على صاحبه كالحمل الذي يثقل ظهره. لَعِبٌ: هو العمل الذي لا يقصد به جلب نفع أو دفع ضر. لَهْوٌ: ما يشغل الإنسان عما يعنيه ويهمه. المعنى: هؤلاء المشركون أمرهم عجيب حقا، فإنك تراهم في الدنيا يكفرون بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم ويستهزئون به وبدينه، ولا يؤمنون بالبعث وتوابعه ويفاخرون بذلك، ولو ترى إذ يقفون على النار حتى يعاينوا ويطلعوا عليها ويتبينوها أو يدخلوها فيعرفون كنهها ويتلظون بنارها. لرأيت شيئا عجيبا تقف العبارة دون وصفه.. وهم إذ وقفوا عليها وظنوا أنهم مواقعوها حتما. قالوا: يا ليتنا نرد إلى الدنيا ولا نكذب بهذه النار وما يتبعها من أمور البعث والجزاء أو لا نكذب بأية آية من آيات ربنا، ونكون من المؤمنين بالله المصدقين برسله وآياته (بل) إضراب إبطالى لهذا التمني السابق على معنى (لا) لا. ليسوا صادقين في هذا التمني والرغبة في الإيمان أصلا، بل لأنهم ظهر لهم وبدا ما كانوا يخفونه ويكفرون به من أمور البعث والنار التي وقفوها عليها إذ من يكفر بأمر يخفيه ولا يظهره، ومن يؤمن به يبديه ولا يكتمه، والكلام في النار والعرض عليها. ولو ردوا إلى الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والعناد وعدم الإيمان، وإنهم لقوم طبعهم الكذب وديدنهم العناد، ولو ردوا إلى الدنيا لقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا فقط وليست لنا حياة أخروية أبدا، وما نحن بمبعوثين وهكذا القوم الماديون لا يؤمنون بالغيب، ولا يرجى منهم خير أبدا. ولو ترى هؤلاء المشركين المكذبين حين تقفهم الملائكة، وتحبسهم ليحاسبهم ربهم، ويحكم فيهم بما أراد يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ «1» لو رأيت هؤلاء حينئذ لهالك أمرهم واستبشعت منظرهم ورأيت ما لا تؤديه عبارة ولا يحيط به وصف وكأن سائلا سأل وقال: ماذا قيل لهم حينئذ؟ فأجيب قال لهم ربهم تبكيتا وتأنيبا: أليس هذا الذي أنتم فيه من أهوال الآخرة هو الحق لا شك فيه؟ قالوا: بلى نعم هو الحق لا شك فيه وربنا، قال لهم ربهم: فذوقوا ألم العذاب المر الذي تجدونه كما يجد من يذوق الشيء من قوة الإحساس والإدراك، كل ذلك بسبب ما كنتم تكفرون به   (1) سورة الانفطار آية 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 602 وتجحدون في الدنيا، ولن ينفعكم اليوم إذ ظلمتم هذا الإقرار منكم بأنه حق قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله، وما وعد الله به عباده الصالحين، نعم خسروا نعيم الآخرة وثوابها وسعادة الإيمان ولذته ورضوانا من الله أكبر من كل شيء. وما كان هذا إلا نتيجة لإنكارهم الحياة الأخروية فإن من ينكرها يكون ماديا شهوانيّا ليس له قلب ولا روح وهم كالأنعام بل أضل سبيلا. قد خسر الذين كذبوا حتى إذا جاءتهم منيتهم مباغتة لهم ومفاجئة قالوا: يا حسرتنا احضرى فهذا أوانك، يا حسرتنا على ما فرطنا في الحياة الدنيا التي كنا نزعم أن لا حياة بعدها ... عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من مات قامت قيامته» فتكذيبهم مستمر إلى موتهم فقط أما خسارتهم فلا حد لها ولا نهاية. وتحسرهم كذلك قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وهم يحملون أثقالهم وأثقالا مع أثقالهم، يحملونها على ظهورهم، وهذا ما كسبته أيديهم وجنته جوارحهم، ألا ساء ما يحملون وبئس ما يصنعون. وأما الحياة الدنيا التي قال عنها الكفار إنه لا حياة بعدها فهي دائرة بين عمل لا فائدة فيه كلعب الأطفال وبين عمل فائدته عاجلة سلبية كفائدة اللهو فمتاعها قليل، وأجلها قصير، وحياتها تعب، وصاحبها في كبد لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ «1» . وأما الدار الآخرة فنعم عقبى الدار! نعيمها مقيم وظلها دائم لا همّ فيها ولا نصب، ولا تعب ولا ألم وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ. لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ «2» .   (1) سورة البلد آية 4. (2) سورة الحجر الآيتان 47 و 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 603 تسلية الله لنبيه وسنة الله في خلقه [سورة الأنعام (6) : الآيات 33 الى 37] قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَلا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37) المفردات: لَيَحْزُنُكَ الحزن: ألم نفسي يكون عند فقد محبوب أو امتناع مرغوب أو حدوث مكروه. يَجْحَدُونَ الجحود: إنكار ما ثبت في القلب أو إثبات ما نفى فيه. نَبَإِ هو الخبر ذو الشأن العظيم. كَبُرَ يقال: كبر على فلان الأمر، أى: عظم عنده وشق عليه وقعه. إِعْراضُهُمْ الإعراض: التولي والانصراف عن الشيء رغبة عنه، أو احتقارا له. أَنْ تَبْتَغِيَ: أن تطلب ما في طلبه كلفة ومشقة من البغي وهو تجاوز الحد ويكون في الخير والشر. نَفَقاً: السرب في الأرض وهو حفرة نافذة لها مدخل ومخرج. سُلَّماً: المرقاة من السلامة لأنه هو الذي يسلمك إلى مصعدك. يَسْتَجِيبُ استجاب الدعاء: إذا لباه وقام بما دعاه إليه بالتدريج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 604 المناسبة: بعد هذا الحجاج والنقاش ذكر تأثير كفرهم وعنادهم في نفس النبي صلّى الله عليه وسلّم وذكر ما يسليه ببيان ما حصل لغيره من الرسل قديما. روى ابن جرير عن السّدّىّ أن الأخنس بن شريق وأبا جهل التقيا فقال الأخنس لأبى جهل: يا أبا الحكم خبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس هاهنا أحد يسمع كلامك غيرى، قال أبو جهل: والله إن محمدا لصادق وما كذب قط. ولكن إذا ذهب بنو قصى باللواء والسقاية والحجابة والندوة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟. المعنى: قد نعلم- أيها الرسول- إنه ليحزنك ويؤلم نفسك ما عليه هؤلاء القوم، وما يقولونه لك من تكذيب وطعن، وتنفير للعرب عن دعوتك، وهذه نفسك الطاهرة تتألم، وقد رأيت عشيرتك وأهلك في ضلال وخسران، وأنت تدعوهم إلى الهدى والفلاح فلا يسمعون، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، ولا تحزن عليهم، ولا تك في ضيق مما يفعلون. فإنهم لا يكذبونك فأنت الصادق عندهم الأمين في ناديهم ما جربوا عليك كذبا ولا خيانة، ولكنهم يعاندون ويستكبرون، وتدفعهم الإحن والحسد والعصبية الحمقاء، فهذا أبو جهل يقول: إنا لا نكذبك ولكن نكذب ما جئت به: فهم لا يكذبون النبي صلّى الله عليه وسلّم ولكنهم يفهمون خطأ أن ما جاء به من أمور البعث والحياة الأخرى غير مطابق للواقع، ولا يقتضى هذا أن يكون هو الذي افتراه، على أنهم ما كذبوه في أنفسهم ولكنهم كذبوه أمام الناس فقط!! وكان إصرارهم على التكذيب مع ظهور المعجزات والآيات تكذيبا لآيات الله، أما أنت أيها الرسول الكريم فلا تحزن عليهم وتذرع بالصبر والسلوان، واعتبر بمن تقدمك من الرسل الكرام، فهذه طبيعة الناس قديما وحديثا، ولقد كذبت رسل من قبلك، خاصة أولى العزم منهم، فصبروا على أذاهم إلى أن نصرهم الله وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ. [سورة البقرة آية 214] . وهذه هي سنة الله في الأمم مع رسلهم، ولن تجد لسنة الله تحويلا، فاصبر كما صبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 605 أولو العزم من الرسل، واعلم أن الله يدافع عن الذين آمنوا، وأنه لا مبدل لكلمات الله أبدا ولا مغير لوعده. ولقد جاءك من أخبار المرسلين التي تفيد تكذيب الناس لهم وصبرهم ونصر الله لهم إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ [غافر 51] . وكانوا يقترحون على النبي آيات ويعلقون الإيمان عليها: وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً إلى آخر ما ذكر في الآيات من سورة الإسراء. فرد الله عليهم بما معناه: وإن كان كبر عليك إعراضهم وما يطلبون، ورأيت أن إتيانهم بآية مما اقترحوا يدحض حجتهم ويكشف شبهتهم فيؤمنون، فإن استطعت أن تبتغى لنفسك نفقا تطلبه في الأرض فتذهب في أعماقها أو سلما في الجو فترقى إلى أطباق السماء فتأتيهم بآية مما اقترحوا فأت بها، ولكنك رسول والرسول لا يقدر على شيء أبدا مما يعجز عنه البشر، ولا يستطيع إيجاده إلا الخالق، واعلم أنه لو شاء الله لجمعهم على الهدى وما جئت به ولكنه شاء اختلافهم وتفاوتهم واختبارهم وما يترتب على ذلك. الناس فريقان، فريق في الجنة، وفريق في السعير، ولو شاء الله لجمعهم على الهدى، فريق تتلى عليه آيات الله فيسمعها سماع قبول، وينظر إليه نظرة اعتبار وتذكر، نظرة خالية من الهوى والعناد والاستكبار، وهؤلاء يستجيبون لما دعاهم الله فهم كالتربة الصالحة للإنبات تقبل الماء وتنبت الكلأ. وفريق تتلى عليه الآيات فيظل متكبرا سادرا في غلوائه، لا ينظر ولا يعتبر، ولا يسمع سماع قبول، وهم موتى القلوب، وأبعد الناس من الانتفاع بما يسمعون. هؤلاء يترك أمرهم إلى الله فهو الذي يبعثهم بعد موتهم، فيحاسبهم ويجازيهم ثم إليه يرجعون، هو القادر على ذلك وحده فلا تبخع نفسك عليهم حسرات، إذ ليس في استطاعتك هدايتهم، إنما عليك البلاغ، وعلى الله الحساب، وقال المشركون المعاندون بعد نزول الآيات تترى التي لو لم يكن فيها إلا القرآن لكفى قالوا: هلا نزل عليه آية من ربه كما اقترحنا، وقد قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 606 أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ «1» قل لهم يا محمد سبحان ربي!! كيف تطلبون منى هذه الآيات! وهل أنا إلا بشر ورسول؟ وليس يقدر الرسول على إنزال آية من الآيات وإنما القادر هو الله فقط على إجابتكم لما تطلبون. وقد مضت سنة الله في الأمم أن إجابة المعاندين إلى ما طلبوا لم تكن سببا لهدايتهم أبدا بل كانت سببا في عذابهم واستئصالهم، فإنزال آية مما اقترحوا لا يكون خيرا لهم بل هو شر، ولكن أكثرهم لا يعلمون، وطلبهم تعجيز للنبي صلّى الله عليه وسلّم لا للهداية وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «2» . من دلائل قدرة الله وكمال علمه [سورة الأنعام (6) : الآيات 38 الى 39] وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39) المفردات: دَابَّةٍ الدبيب: المشي الخفيف، والدابة: كل ما يدب على الأرض من الحيوان طائِرٍ: كل ذي جناح يطير في الهواء. أُمَمٌ: جمع أمة، وهي الجماعة يجمعهم أمر كدين أو لغة أو صفة أو عمل. الله- سبحانه وتعالى- على كل شيء قدير، ينزل الآيات حسب الحكمة والمصلحة، وها هي ذي مظاهر القدرة وشمول العلم، وكمال التدبير.   (1) سورة الإسراء الآيات 90- 93. (2) سورة القمر آية 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 607 المعنى: لا يوجد نوع من أنواع الدواب التي تدب على الأرض، ولا نوع من أنواع الطير الذي يطير في الجو إلا وهو أمم مماثلة لكم أيها الناس، لهم أرزاق وآجال ونظام محكم وطبائع تتلاءم مع خلقتهم وتكوينهم، فتبارك الله أحسن الخالقين! وقد أثبت العلماء الباحثون في طبائع الحيوان أن كثيرا من فصائله أمم لها ملك ومملكة ونظام وقيادة، وما النحل والنمل عنا ببعيد! وخص دواب الأرض بالذكر لأنها المرئية للكفار، أما ملكوت الله في السموات ففيه ما لا يعلمه إلا الله وحده، وهذه الآية توجه أنظارنا إلى البحث والدرس في طبائع الحيوان والاستفادة من ذلك فقد خلق لنا جميع ما في الأرض لننتفع منه ونسخره لمصلحتنا. وما فرطنا في الكتاب من شيء أبدا، ولا قصرنا في أى شيء أبدا، وقال ابن عباس: إن المراد بالكتاب هو أم الكتاب (وهو خلق غيبي سجل فيه كل ما كان وما سيكون على حسب السنن الإلهية) . وقيل: الكتاب هنا هو علم الله المحيط بكل شيء، شبه بالكتاب لكونه ثابتا لا ينسى. وقيل هو القرآن، والمعنى: ما تركنا في القرآن شيئا من ضروب الهداية وأصول الأحكام والقوانين: ففي القرآن السياسة العامة الإسلامية من ناحية الاقتصاد والاجتماع والدين، وفيه الأصول العامة الأخرى للدين كالسنة والقياس والإجماع، ثم إلى ربهم يحشرون ويجازون على أعمالهم. والذين كذبوا بآياتنا المنزلة الدالة على كمال القدرة، وتمام العلم والحكمة صم لا يسمعون دعوة الحق والهدى سماع قبول، وبكم لا ينطقون بما عرفوا من الحق، وهم يتخبطون في الظلمات، ظلمات الجهل والكفر والعادات القبيحة. من يشاء الله يخذله ويضله ولا يلطف به لأنه ليس من أهل اللطف حيث ثبت في علمه القديم أنه أهل لما هو فيه من شقاء وعذاب. ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم لأنه أهل لذلك في علمه، وهكذا كانت الحكمة فيما اختاره الله أزلا وفق علمه، صنع الله الذي أتقن كل شيء إنه خبير بعباده بصير بخلقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 608 إلى الله يلجأ العبد في الشدائد مع ضرب الأمثال بالأمم السابقة [سورة الأنعام (6) : الآيات 40 الى 45] قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45) المفردات: أَرَأَيْتَكُمْ أسلوب عربي يفيد التعجب وأن ما بعده غريب عن الصواب، والمراد: أخبرونى. فَيَكْشِفُ أى: يزيل ما تدعونه إلى كشفه. بِالْبَأْساءِ: بالشدة والعذاب والقوة، وتطلق البأساء على الحرب والمشقة. وَالضَّرَّاءِ: من الضر ضد النفع. يَتَضَرَّعُونَ التضرع: إظهار الضراعة والخضوع بتكلف. مُبْلِسُونَ: متحسرون يائسون من النجاة. دابِرُ الْقَوْمِ: آخرهم الذي يكون في أدبارهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 609 المعنى: يا أيها الرسول قل لأولئك المشركين: أخبرونى إن أتاكم عذاب الله الذي نزل بأمثالكم من الأمم السابقة كالخسف والريح الصرصر والغرق، أو أتتكم الساعة وهولها، والقيامة وما فيها، أخبرونى إن حصل هذا، أغير الله تدعون لينجيكم من هذا العذاب وهوله؟! إن كنتم صادقين في دعوى الألوهية لهؤلاء الأصنام الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء، ولكم شفعاء، والسؤال للتبكيت والإلزام بل- إضراب لإبطال ما تقدم- إياه وحده تدعون، وله وحده تتجهون، وبه وحده تستعينون حتى يكشف عنكم ما ألم بكم من ضر أو مسكم من شدة. يكشف ما تدعون إليه إن شاء كشفه، وكان فيه حكمة، وأنتم تنسون ما تشركون، وتتركون آلهتكم ولا تذكرون في ذلك الوقت إلا الله فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ «1» . وذلك أن الإنسان أودع في فطرته توحيده- عز اسمه- وأما الشرك فشيء عارض للإنسان بالتقليد شاغل للذهن بالفساد وقت الرخاء، حتى إذا جد الجد دعوا الله مخلصين له الدين وضل عنهم ما كانوا يعبدون فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ «2» . ثم أخذ القرآن يضرب الأمثال بالأمم السابقة فقال: ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلا مبشرين ومنذرين، ولكن أممهم عصوا وبغوا، فأخذناهم بالبأساء والشدائد، والضراء والمهالك، عسى أن يكون ذلك رادعا لهم ومؤدبا. فالشدائد قد تربى النفوس وتهذبها، وتجعل المغرور يراجع نفسه ويفكر في أمره ولذا يقول الله: لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ ويلجئون، ومع هذا فكثير من الناس لا تنفعهم هذه الزواجر ولا تردعهم هذه الشدائد. فهلا تضرعوا حين جاء بأسنا وكانوا خاشعين تائبين، ولكن أنى لهم هذا؟ وقد قست قلوبهم فهي كالحجارة أو أشد قسوة. فلم تؤثر فيهم النذر، ولم تنفعهم العبر، وزين لهم الشيطان ما كانوا يعملون، وبئس ما كانوا يصنعون.   (1) سورة العنكبوت آية 65. (2) سورة الروم آية 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 610 فلما نسوا ما ذكروا به وأعرضوا عما أنذروا به، فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ناحية ومتعناهم بالحياة الدنيا استدراجا وإملاء نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ. حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم أخذ عزيز مقتدر، بلا إنذار ولا استئذان أخذناهم بغتة فإذا هم متحسرون يائسون من رحمة الله فقطع دابر القوم عن آخره حتى لم يبق منهم أحد، والحمد لله رب العالمين، وفي هذا إشارة إلى أن إبادة القوم المفسدين نعمة من الله رب العالمين. وأن في الضراء والسراء عبرة وعظة للناس، وإنما يتذكر أولو الألباب. من أدلة التوحيد أيضا [سورة الأنعام (6) : الآيات 46 الى 49] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصارَكُمْ وَخَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49) المفردات: نُصَرِّفُ الْآياتِ: نقلبها ونكررها على وجوه مختلفة. يَصْدِفُونَ: يعرضون عن ذلك. يَمَسُّهُمُ المس: اللمس باليد بما يسيء غالبا من ضر أو شر. المعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أخبرونى ماذا أنتم فاعلون؟! إن أخذ الله سمعكم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 611 وأبصاركم، وختم على قلوبكم، إذ هو الذي وهب لكم السمع والبصر والفؤاد، وإذا سلبها منكم عدتم صما وعميا لا تسمعون قولا، ولا تبصرون طريقا، ولا تعقلون نفعا ولا ضرّا ولا حقّا ولا باطلا، ماذا تفعلون مع آلهتكم التي تدعونهم وترجون شفاعتهم لو فعل الله بكم ذلك؟ من إله غير الله يأتيكم بهذا؟ لا إله إلا الله وحده فهو الذي يقدر على ذلك، ولو كان ما اتخذتموه آلهة تنفع أو تضر لردت عليكم هذا، وإن كنتم تعلمون بلا شك أنها لا تقدر على شيء أصلا بل إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه. فلماذا تدعونهم؟ والدعاء عبادة والعبادة لا تكون إلا لله الواحد القهار، واهب الوجود، الحق المعبود، سبحانه وتعالى!! انظر يا من يتأتى منه النظر كيف يصرف الله القول ويكرره بألوان مختلفة، وعلى أساليب متعددة في غاية الوضوح والبيان، ثم هم بعد ذلك يعرضون ويصدفون عن النظر إليها بعين بريئة خالية من حجب التقليد، وغطاء العصبية وداء الحسد. قل لهم: أخبرونى إن أتاكم العذاب من الله كما أتى لمن قبلكم من المكذبين الضالين، عذاب الخسف والاستئصال والهلاك، أتاكم هذا العذاب بغتة بلا مقدمات، أو أتاكم العذاب جهرة وعيانا بمقدماته وأنتم تنظرونه. أخبرونى ماذا أنتم فاعلون؟ هل يهلك بهذا إلا القوم الظالمون الذين ظلموا أنفسهم بسلوكهم طريق الشرك والباطل! وما نرسل المرسلين إلا مبشرين من آمن بالثواب، ومنذرين من عصى بصارم العذاب ولا عليهم شيء بعد هذا أبدا، سواء عليهم آمن الناس أم كفروا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ «1» أما الله- سبحانه وتعالى- فهو المجازى. فمن آمن وأصلح نفسه فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ «2» . ومن كذب وتولى، فإنه يمسه العذاب جزاء كفره وفساده. وإن أصابه خير في الدنيا فمتاع قليل، ثم يضطره الله إلى عذاب النار وبئس المصير.   (1) سورة الشورى آية 48. (2) سورة الأنبياء آية 103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 612 مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام وتبعات الرسالة [سورة الأنعام (6) : الآيات 50 الى 53] قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَفَلا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) المفردات: خَزائِنُ جمع خزانة، وهي: ما يخزن فيه الشيء ويحفظ، والمراد القسم بين الخلق، وأرزاقهم. الْغَيْبَ: ما غاب عن جميع الخلق واستأثر الله بعلمه. الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ: المراد بهما الضال والمهتدى. الولي: الناصر. وَلا تَطْرُدِ الطرد: الإبعاد. بِالْغَداةِ الغداة والغدوة: ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. الْعَشِيِّ: آخر النهار، والمراد جميع الأوقات. فَتَنَّا: ابتلينا واختبرنا. مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ: أنعم الله عليهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 613 المعنى: كان لعناد المشركين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم أثر كبير في نفسه، وكانوا يطلبون منه آيات غريبة جهلا منهم بموقف الرسول ومهمته ورسالته، فقال الله للنبي صلّى الله عليه وسلّم ما معناه. قل لهؤلاء: أنا لا أدّعى لكم أن عندي خزائن الله أملكها وأقسمها بين الخلق، وأتصرف فيها، ولم أدع أنى أعلم الغيب الذي استأثر الله بعلمه فلم يطلع أحدا عليه من رسول أو ملك، اللهم إلا ما علمه الرسول عن طريق الوحى الإلهى فهو من العلم الضروري لا الكسبي، ولم أدّع أنى من الملائكة آتى بما لا يأتى به البشر. والمعنى: لست أدّعى الألوهية أو الملكية حتى تطلبوا منى ما ليس في طاقتي وقدرتي، وإنما أنا بشر قد شرفني الله بالنبوة، وما أتبع إلا ما يوحى إلىّ فقط، وهذه الرسالة ليست لي خاصة بل سبقني بها رسل كرام قبلي. واعلموا أن التصرف المطلق في الكون لله وحده الواحد القهار، القادر على أن ينزل الآيات التي تطلبونها وغيرها، وهو العليم بما كان وما سيكون، أما الرسول فيبلغ عنه أمر الدين، وليس قادر على ما لا يقدر عليه البشر من تفجير الينابيع والأنهار، وخلق الجنات والبساتين، وإسقاط السماء كسفا والإتيان بالله والملائكة قبيلا وغير ذلك مما يطلبه المعاندون. وإذا كان الأنبياء لم يؤتوا القدرة على التصرف فيما وراء الأسباب فمن باب أولى غيرهم من الأولياء الصالحين. قل لهؤلاء: هل يستوي الأعمى والبصير؟ والضال عن طريق الحق والهدى والمهتدى إلى سواء السبيل؟ وكيف يستويان؟، أعميتم فلا تتفكرون فيما أذكر لكم من الحجج وأدعوكم إليه؟! وتنظرون إلى القرآن وما فيه!! وإلى بلاغته ومعانيه! وأنه ليس في مقدوري أن آتى بمثله، فقد لبثت فيكم عمرا من قبله، بعيدا عن الإتيان بمثل ذلك عاطلا عن هذه المعرفة وتلك العلوم! وأنذر بما يوحى إليك الذين يخافون من الحشر، والحال أنهم يعتقدون بأن ليس لهم فيه ولى ولا شفيع بل الأمر كله لله! فهم الذين ينتفعون به، ولقد كرر القرآن هذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 614 المعنى وصدر سورة البقرة به ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ فالذين يؤمنون بالغيب، ويؤمنون بالحياة الأخروية هم المنتفعون بالقرآن، أما الماديون الذين لا يؤمنون بغير المادة، فقد ختم الله على قلوبهم وأعمى أبصارهم وجعل في آذانهم وقرا فلا ينتفعون بنور القرآن أصلا إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ [سورة فاطر آية 18] . واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى، يريدون وجهه، ولا تعد عيناك عنهم، ولا تطردهم عن مجلسك، فهم المخلصون لك المؤمنون بدعوتك، يريدون بهذا وجه الله، لا نفاقا ولا رياء ولا سمعة. روى أحمد وابن جرير والطبراني في جماعة آخرين عن عبد الله بن مسعود قال: مر الملأ من قريش على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعنده صهيب وعمار وبلال وخباب ونحوهم من ضعفاء المسلمين فقالوا: يا محمد، أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء منّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نكون تبعا لهؤلاء؟ اطردهم عنك فلعلك إن طردتهم أن نتبعك. فأنزل الله فيهم وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إلى قوله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ. وفي رواية أخرى وقع في نفس عمر بن الخطاب حسن عرضهم، فلما نزلت الآية أقبل عمر فاعتذر، فأنزل الله وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ [سورة الأنعام آية 54] . وقد كان من علامات النبوة أن يتبع النبي ضعفاء الناس لا أشرافهم، تذكر قصة هرقل، وقد سأل الوفد أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم؟؟ فقيل: بل ضعفاؤهم، فقال: هكذا الرسل من قبله وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ من قصة نوح في سورة هود [الآية 27 وما بعدها] . ولماذا تطردهم؟ ما عليك من حسابهم من شيء إن كانوا غير مخلصين، وما عليهم من حسابك من شيء، فكل نفس بما كسبت رهينة وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وما عليك أنت إلا البلاغ فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [الغاشية 21 و 22] إنك إن طردتهم تكن من الظالمين لأنفسهم بعدم امتثالهم أمر الله، ومثل ذلك الابتلاء العظيم ابتلينا بعضهم ببعض لتكون العاقبة أن يقول هؤلاء المشركون المغرورون حينما يرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 615 ضعاف الناس كبلال وصهيب من أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم: أهؤلاء الصعاليك من العبيد والموالي والفقراء والمساكين خصهم الله بهذه النعمة من جملتنا ومجموعنا كيف ذلك؟ إن هذا لا يكون لأنا نحن المفضلون عند الله بما آتانا من قوة وبسطة في العيش وثروة وجاه. فلو كان هذا الدين خيرا لوفقنا الله إليه وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف 11] فهم يقيسون التوفيق على مظاهر الدنيا الكاذبة. يا عجبا كل العجب ... أليس الله بأعلم بالشاكرين؟؟ الذين يستحقون النعم بسبب شكرهم لله وقيامهم بالواجب عليهم لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ [سورة إبراهيم آية 7] . من مظاهر رحمته بخلقه [سورة الأنعام (6) : الآيات 54 الى 55] وَإِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) المفردات: سَلامٌ عَلَيْكُمْ السلام: السلامة من العيوب والآفات، وهو الأمان، والتحية والقبول، وهو من أسمائه- سبحانه وتعالى-. كَتَبَ: فرض وأوجب. بِجَهالَةٍ الجهالة: السفه والخفة التي تقابل الحكمة والعقل. وَلِتَسْتَبِينَ: تتضح وتظهر. أراد الله- سبحانه وتعالى- أن يكرم المسلمين جميعا شريفهم ووضيعهم وأن يتقبلهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقبول والسلام والأمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 616 المعنى: وإذا جاءك يا محمد الذين يؤمنون بآياتنا ويصدقون بها تصديقا مصحوبا بالعمل الطيب فقل لهم: سلام عليكم، وأمنة لكم من أن يعاقبكم ربكم على ذنب تبتم عنه ورجعتم بعده إليه. قل لهم يا محمد: سلام الله عليكم وإكرامه لكم، قد فرض على ذاته الكريمة الرحمة بعباده فهو واسع الفضل والمغفرة كبير العفو والرحمة، وفيما منحنا الله من الخلق السوى والغرائز، ونعمة السمع والبصر والفؤاد والعقل وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ «1» وفيما خلق لنا مما في الأرض جميعا، وما آتانا من العلوم الكسبية التي بها ذللنا الطبيعة: الدليل على تمام رحمته وكمال نعمته وأنه الرحمن الرحيم بخلقه وعباده، ثم بين الله أصلا من أصول الدين في الرحمة بعباده فقال: إنه من عمل منكم أيها المؤمنون عملا سيئا يتنافى مع الدين والخلق حالة كونه متلبسا بجهالة دفعته إلى ذلك السوء، كغضب شديد أو شهوة جامحة ثم تاب ورجع إلى الله فإن الله يتوب عليه. وقيل: من عمل منكم سوءا وهو جاهل بما يتعلق به من المكروه والضرر، ثم تاب من بعده من قريب بمعنى أنه أنب نفسه، ولم يستمر على عزمه السيئ، بل ثابت نفسه إلى رشدها، وأدركت أن الشيطان مسها، فاستغفر ربه وخر راكعا وأناب، وأصلح نفسه بالعمل الطيب دليلا على صدقه وخروج نفسه من حيز الشر والضلال إلى دائرة النور والعرفان بالذات الأقدس. إذا كان هذا فاعلموا أنه غفور رحيم يقبل التوبة من عباده، ويعفو عن السيئات، وقد شرطوا في التوبة الصادقة الندم الحقيقي، والعزم على عدم الرجوع، ورد المظالم إلى أهلها وإتباعها بالعمل الصالح. مثل ذلك التفصيل المحكم المبين لأحكام الدين وأصوله نفصل الآيات كلها ليهتدى بها أولو العقل الرشيد والفكر السليم وليستبين ويظهر طريق المجرمين حيث وضح طريق الصالحين.   (1) سورة الذاريات آية 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 617 موقف النبي صلّى الله عليه وسلّم من المشركين [سورة الأنعام (6) : الآيات 56 الى 58] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) المفردات: نُهِيتُ: صرفت وزجرت. بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي البينة: كل ما يتبين به الحق من الحجج العقلية والآيات الحسية. يَقُصُّ: يذكر. الْفاصِلِينَ الفصل: القضاء والحكم. المعنى: يا أيها الرسول: قل لهؤلاء المشركين: إنى نهيت وصرفت عن عبادة ما تدعونهم وتطلبون منهم الخير ودفع الضر، من صنم أو وثن أو عبد مهما كان شأنه، صرفت عن هذا كله بالآيات القرآنية والآيات الحسية، وما ركب الله فىّ من عقل رشيد، وروح طيبة طاهرة وفطرة سليمة بعيدة عن أسر التقليد وقيد الجهل وداء الحسد. قل لهم: لا أتبع أهواءكم فإن عبادتكم غير الله سندها وحجتها الهوى فقط. إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ «1» . أما عبادة الله فلها الحجة البالغة والبرهان الساطع.   (1) سورة الزخرف آية 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 618 وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد وعبادة غير الله ضلال وشرك. فإن اتبعتكم فقد ضللت إذا، وما أنا في عداد المهتدين، وفي هذا تعريض بأنهم ليسوا من الهداية في شيء وهم في ضلال مبين. قل لهم: إنى فيما أخالفكم فيه من عبادة غير الله، وفيما أدعوكم إليه من عبادة الله على بينة من ربي وحجة واضحة، لا تقبل شكا ولا جدلا ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ فالقرآن هو الحجة البينة والمعجزة الخالدة، والآية الباقية التي تقوم مقام قول الله: «صدق عبدى في كل ما يبلغه عنى» وأما أنتم فلقد كذبتم بالقرآن واتبعتم الشيطان وكفرتم بالرحمن ... ويا للعجب تكذبون بالقرآن وما دعا إليه، وتدعون إلى اتباع الهوى والضلال والتقليد الأعمى، فبئس ما تصنعون. وكانوا يشتبهون في القرآن ورسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن الله لم ينزل عليهم ما طلبوا فأزال القرآن هذا بقوله للنبي صلّى الله عليه وسلّم. قل لهم ما عندي ما تستعجلون به وتطلبونه على عجل من الله، ولم أقل لكم إنى أقدر على هذا!! وما الحكم في هذا إلا لله الواحد القهار، وكل شيء عنده بمقدار، والله يقص القصص الحق في وعده ووعيده وهو خير الحاكمين. قل لهم: لو عندي ما تستعجلون به، ولو أن الله أمكننى من إيقاع العذاب بكم، وجعله من قوتي الكسبية لأوقعته عليكم، ولقضى الأمر بيني وبينكم، والله قد وعدني النصر، ووعده الحق، وقد تحقق ما وعد. وهناك حديث عن أبى هريرة يفيد: أن ملك الجبال ناداه وقال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وقد بعثني ربك لك لتأمرنى بأمرك فيما شئت، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يؤمن بالله. والمخلص في هذا أن الآية دلت على سؤالهم العذاب، وجوابه صلّى الله عليه وسلّم والحديث ليس فيه سؤال بل عرض عليه ملك الجبال فلهذا استأنى بهم وترفق عليهم، والله أعلم بالظالمين كيف يعاقبهم؟ ومتى يعاقبهم، وعلى أي صورة يكون جزاؤهم؟ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. [سورة الأعراف آية 34] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 619 كمال علمه سبحانه وتعالى [سورة الأنعام (6) : الآيات 59 الى 62] وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ (62) المفردات: مَفاتِحُ: جمع مفتح، وهو المخزن، أو جمع مفتح وهو المفتاح الذي تفتح به الأقفال. يَتَوَفَّاكُمْ التوفي: أخذ الشيء وافيا كاملا، والتوفية: إعطاء الشيء تامّا وافيا، وهو يطلق على الموت والنوم. جَرَحْتُمْ: كسبتم بالجوارح، ويستعمل اللفظ في الشر والخير، والاجتراح: فعل الشر خاصة. يَبْعَثُكُمْ: يوقظكم من النوم. حَفَظَةً: هم الكرام الكتبة من الملائكة. المناسبة: طلبوا من النبي آيات خاصة- كما تقدم- واستعجلوه بها فرد القرآن عليهم بأن الكل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 620 في قبضته وهو القاهر فوق عباده، ولا يملك الرسول شيئا، ثم بين هنا أن ما استعجلوه به ليس فيما يدخل في علم النبي حتى يخبرهم في أى وقت يقع وإنما هو مما استأثر الله بعلمه، وهو العليم بكل شيء. المعنى: عنده وحده- سبحانه- ما يوصل به إلى الغيب المحجوب عن الكل، أى: عنده علم الغيب. إذ العلم صفة تنكشف بها لله- سبحانه وتعالى- معلومات الغيب والشهادة، وإنما أطلق المفتاح وأراد العلم للإشارة إلى أن الغيب المستور في أماكن بعيدة لا يصل إليها أى مخلوق كالخزائن المغلقة بالأبواب والأغلاق، ولها مفاتيح محكمة، وقيل المعنى: وعنده خزائن الغيب، على أن المراد بالمفاتيح الخزائن. لا يعلمها إلا هو وحده الذي يعلم السر وأخفى، فهذه الجملة إذن توكيد للجملة السابقة. وهو يعلم كل ما في البر وكل ما في البحر، فهو يعلم المشاهدات كما يعلم المغيبات، والله يعلم ما تسقط من ورقة في أى زمان أو مكان، فهو يعلم الأحوال كلها المتعلقة بالذوات السابقة إذ سقوط الورق حال من الأحوال، وذكره إشارة إلى جميع الأحوال. وليست هناك حبة في ظلمات الأرض السحيقة. وأغوارها البعيدة، ولا شيء رطب، ولا شيء يابس، أى: ولا حي بالمعنى العام، ولا يابس إلا في مكنون علمه الثابت الذي لا يمحى، كما أن الشيء المسجل المكتوب كتابة لا يمحى، وقيل المعنى: كل ذلك في اللوح المحفوظ، والله أعلم بكتابه. والخلاصة أنه- سبحانه- يعلم الغيب والشهادة، والأحوال الظاهرة والباطنة. أما أنتم أيها الناس ... فالله يتوفاكم بالليل، أى: ينيمكم فيه، ويقبض أرواحكم إليه، فيمسك التي قضى عليها الموت، ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى، ويعلم ما كسبتم في النهار علما سابقا على عملكم، فهو يعلم أن منكم من يكفر، ومنكم من يعصى ربه ثم بعد هذا الموت الأصغر الذي فيه يقبض أرواحكم إليه ويعلم أعمالكم بعد ما يبعثكم في الدنيا نهارا ليعمل كل عمله، وليقضى أجل مسمى عنده وعمر محدود الجزء: 1 ¦ الصفحة: 621 لكل منكم، ثم إليه مرجعكم بالموت الأكبر لا إلى غيره، ثم ينبئكم، والمراد: يجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر. وهو القاهر فوق عباده المتسلط عليهم، المتصرف فيهم، يفعل بهم ما يشاء إيجادا وإعداما، وإحياء وإماتة. وهو يرسل عليكم حفظة من الملائكة يحفظون أعمالكم ويحصونها عليكم وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ [سورة الانفطار الآيتان 10 و 12] . سبحان الله!! ما أعجب شأننا، علينا رقيب وعتيد يحصون علينا أعمالنا، ويكتبون وهم لا يغفلون، ومع هذا نعصى الله جهرا وسرّا؟!!! سبحانك أنت أرحم الراحمين!!. ولعل سائلا يقول: ما الحكمة في الحفظة الكتبة والله أعلم بكل شيء؟ والجواب أن المكلف إذا عرف هذا كان أهدى له وأبعد عن الفحشاء والمنكر، وأقرب إلى عقل بعض الناس وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ [سورة الكهف آية 49] . يرسل الحفظة الكرام البررة يحصون الأعمال مدة الحياة حتى إذا انتهى الأجل وحم القضاء، وجاءت أسباب الموت ومقدماته، توفته رسلنا- وهم ملك الموت وأعوانه- والحال أنهم لا يفرطون ولا يقصرون بزيادة أو نقصان، ثم ردوا بعد هذا جميعا إلى الله وإلى حكمه، وما الحكم الحق الذي يعطى بالعدل إلا له، له الحكم وإليه الأمر، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، وهو أسرع الحاسبين: يحاسب الكل في أقل وقت وأسرعه لا يشغله شأن عن شأن. وفي الحديث: «إن الله يحاسب الكل في مقدار حلب شاة» . من مظاهر القدرة والرحمة [سورة الأنعام (6) : الآيات 63 الى 67] قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 622 المفردات: ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ: ظلمات الليل والسحب والمطر، وقيل: المراد ظلمات معنوية. تَضَرُّعاً التضرع: المبالغة في الضراعة والتذلل والخضوع. وَخُفْيَةً بالضم والكسر: الخفاء والاستتار. كَرْبٍ الكرب: الغم الشديد. يَلْبِسَكُمْ: من اللبس، والمراد: يخلط أمركم عليكم خلط اضطراب واختلاف، وأصل التركيب: يلبس عليكم أمركم. شِيَعاً: جمع شيعة، وهم كل قوم اجتمعوا على أمر واتفقوا فيه. نُصَرِّفُ: نحوّلها من نوع إلى آخر من فنون الكلام. يَفْقَهُونَ: يفهمون. المعنى: يسلك القرآن المسالك المتعددة لغرس شجرة التوحيد في قلوب العرب ببيان مظاهر القدرة والعلم والرحمة، فقال ما معناه: من ينجيكم من ظلمات البر والبحر؟ ومن ينقذكم من شدائد الأيام وهولها؟ ومن ينير لكم السبيل إذا غم الطريق وأظلم، ومن يسكن البحر الهائج والبركان الثائر؟ هو الله الرحمن الرحيم القاهر فوق عباده، القادر على كل شيء، تدعونه متضرعين متذللين، مع رفع الصوت والبكاء، وقد يكون الصوت في السر والخفاء. لئن أنجيتنا من هذه الظلمات لنكونن ممن يوحدك ويشكرك هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 623 وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ «1» قل لهم: الله ينجيكم من هذه الأهوال، ومن كل كرب وغم ثم أنتم بعد هذا تشركون بالله غيره، ومن هنا نفهم أن الإنسان بطبيعته يلجأ إلى الله في الشدة والمكروه، وفي النجاة ينسى نفسه ويعود إلى جهله. قل لهؤلاء المشركين: الله هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا لا يعرف كنهه ولا يقف على حقيقته إلا الله- سبحانه وتعالى- ينزل عليكم من فوقكم كالرجم بالحجارة والآفات أو يصعد إليكم من تحتكم كالزلازل والبراكين والخسف المعهود في الأمم السابقة، أو يخلط أمركم عليكم خلط اضطراب واختلاف، حتى تكونوا فرقا وشيعا، وأحزابا وجماعات، كل فرقة لها اتجاه خاص، تتقاتلون وتتحاربون، ويذيق بعضكم بأس بعض، حتى يقتل بعضكم بعضا. وعن ابن عباس: المراد بمن فوقكم في الآية: أمراؤكم، ومن تحت أرجلكم، أى: عبيدكم وسفلتكم. انظر يا من يتأتى منه النظر كيف نصرف الآيات ونقلبها على وجوهها المختلفة، لعلهم بهذا يفقهون الحق ويدركون السر، ولا شك أن التنويع في الآراء وطرق الأبواب في الحجج، سبيل إلى الفهم وإدراك الحقائق، ولكن عند من ينظر النظر البريء الخالي من الحجب الكثيفة الموروثة كالتقليد الأعمى. وقد كذب بالقرآن قومك، وهو الذي لا شك فيه ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد. قل لهم: لست عليكم بوكيل. نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ «2» لكل نبأ مستقر، تظهر فيه حقيقته، ولكل أمة أجل، ولكل أجل كتاب تعلمون به صدق الوعد والوعيد سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «3» .   (1) سورة يونس آية 22. (2) سورة ق آية 45. [ ..... ] (3) سورة فصلت آية 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 624 والعذاب في الآية ورد منكّرا فيشمل المجاعة والقحط، والصيحة والرجفة، والريح الصرصر والزلازل والحجارة من سجيل والبراكين، ويشمل ما تلقيه الطائرات وما تقذفه المدافع وما في السفن والغواصات من الطروبيد والألغام التي تنفجر فتبيد الناس وما القنابل الذرية عنكم ببعيد. روى عن ابن عباس من طريق أبى بكر بن مردويه عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «دعوت الله أن يرفع عن أمتى أربعا، فرفع عنهم اثنتين، وأبى أن يرفع اثنتين: دعوت الله أن يرفع عنهم الرجم من السماء، والخسف من الأرض، وألا يلبسهم شيعا وألا يذيق بعضهم بأس بعض، فرفع عنهم الخسف والرجم، وأبى أن يرفع عنهم الأخريين» . وقد تأكد كلام الرسول صلّى الله عليه وسلّم فها هي ذي الأمة المحمدية قد وقاها الله من الخسف والرجم كرمها لأجل نبيها فلم يعذبها بعذاب الاستئصال. أما الخلافات الحزبية والفرق والشيع، وقتال بعضنا لبعض فظاهر للعيان، ولا يزال الشر يأتينا من هذا الباب وأن بعضنا سبب الويل بنفاقه مع المستعمر واتحاده معه واستخدام الأجنبى له، وما الحوادث التي تترى علينا ونشاهدها ببعيدة!؟ وفي الحديث حديث ثوبان «وإنى أعطيتك لأمتك ألا أهلكهم بسنة عامة، وألا أسلط عليهم عدوّا من سوى أنفسهم، فيستبيح بيضتهم، ولو اجتمع عليهم من بأقطارها حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبى بعضهم بعضا» . أما زال ملك المسلمين بسبب نزاعهم وخلافهم واتصال بعضهم بالأجنبى العدو اللدود؟! تنبهوا يا قوم وارجعوا إلى دينكم وقرآنكم فالخير لا يمكن أن يكون إلا فيه وتذكروا إنما يتذكر أولوا الألباب. المستهزئون بالقرآن وجزاؤهم [سورة الأنعام (6) : الآيات 68 الى 70] وَإِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 625 المفردات: يَخُوضُونَ أصل الخوض: الدخول في الماء، ثم استعمل في غمرات الأشياء، أى: اتجاهها تشبيها لها بغمرات الماء، والمراد: الاندفاع في الحديث والاسترسال فيه والدخول في الباطل مع أهله. فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ: انصرف عنهم. الذِّكْرى: التذكر. وَلكِنْ ذِكْرى المراد: تذكيرا. تُبْسَلَ نَفْسٌ البسل: حبس الشيء ومنعه بالقوة، ومنه أسد باسل، وشجاع باسل، أى: يحمى نفسه ويمنعها، المراد: حبسهم في النار ومنعهم من الثواب. روى عن سعيد بن جبير أن هذه الآية نزلت في المشركين المستهزئين بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم. المعنى: وإذا رأيت يا محمد وكذا كل مسلم الذين يخوضون في آياتنا بالتكذيب والاستهزاء فأعرض عنهم، ولا تجالسهم حتى يخوضوا في غير حديث الكفر والاستهزاء ومثلهم من يخوضون في القرآن بتأويله تأويلا يوافق أهواءهم واتجاههم، لا تجالسهم وابتعد عنهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 626 وقد روى هذا الرأى عن ابن عباس- رضى الله عنه- ولعل السر في ذلك أنك إذا أعرضت عنهم، وقمت من مجلسهم كان أدل على عدم مشاركتهم فيما يقولون وعلى عدم الرضا عما يفعلون! وهذه بلا شك أدعى للكف عن الخوض والاستهزاء غالبا وإذا خاضوا في غير ذلك الحديث فلا مانع من مجالستهم والتحدث إليهم. قال القرطبي: «ودل بهذا على أن الرجل إذا علم من الآخر منكرا، وعرف أنه لا يقبل منه وعظا ولا نصيحة فعليه أن يعرض عنه إعراض منكر ولا يقبل عليه» . وإن أنساك الشيطان قبح مجالستهم والنهى عنها، ثم تذكرتها فلا تقعد بعدها مع هؤلاء القوم الذين ظلموا أنفسهم بالتكذيب والاستهزاء. وهنا بحث بسيط: هل يجوز على النبي صلّى الله عليه وسلّم النسيان؟ وإذا جاز فهل في كل شيء أم في شيء خاص؟ والجواب عن الأول يجوز النسيان عليه بغير وسوسة من الشيطان وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وقد ثبت وقوعه من آدم فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً ومن موسى لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وثبت في الصحيحين أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سها في الصلاة وقال: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون فإذا نسيت فذكروني» . وإنساء الشيطان للإنسان بعض الشيء ليس من قبيل السلطان عليه والتصرف فيه إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ [سورة النحل آية 99] . والجواب عن الثاني: أن الصحيح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لا ينسى فيما يبلغه عن ربه لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ وقيل: يجوز أن ينسى والله ينبهه حتما، وما على الذين يتقون الله ويتركون غيرهم يخوضون في الباطل ويستهزئون بالقرآن من شيء أبدا، ولكن إذا تركوهم بعد الموعظة وأعرضوا عنهم فهم يذكرونهم بهذا لعلهم يتقون الله فلا يخوضون في غمرات الشرك مرة ثانية حياء ممن يجالسهم أو كراهة إساءتهم. وقيل المعنى: ولكن عليهم أن يذكروهم فلعلهم يتقون الله. يا أيها الرسول: دع الذين اتخذوا دينهم الذي كان يجب أن يتبعوه، ويهتدوا به اتخذوه لعبا ولهوا، فإنهم لما عملوا هذه الأعمال التي ختم الله بها على قلوبهم ودس بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 627 نفوسهم، ولم يعملوا ليوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، فقد أضاعوا عمرهم فيما لا يفيد، وهذا هو اللعب، وشغلوا أنفسهم عن الجد والعمل المفيد وهذا هو اللهو. وغرتهم الدنيا، وغرهم بالله الغرور، يا أيها الرسول أعرض عنهم، ولا تبال بأمثال هؤلاء، وذكّر به من يخاف وعيدي خوف أن تبسل نفس في الآخرة بما كسبت، وترهن بما عملت، وتحبس بما قدمت كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ليس لكل نفس من دون الله ولى يلي أمرها، ويدفع عنها شرها، وليس لها شفيع يشفع لها: ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ [سورة غافر آية 18] . وكيف يكون غير هذا وإن تفد النفس نفسها بكل فدية وعدل يتساوى مع الذنب لا يقبل منها أصلا وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ، وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ [سورة البقرة آية 48] . أولئك الذين اتخذوا القرآن هزءا وسخرية واتخذوا دينهم لعبا ولهوا قد حرموا الثواب، وأسلموا أنفسهم للعذاب، وحبسوا في نير العقاب، ولهم شراب من حميم وغساق، جزاء من ربك وفاق، ولهم عذاب أليم. الإسلام والشرك [سورة الأنعام (6) : الآيات 71 الى 73] قُلْ أَنَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُنا وَلا يَضُرُّنا وَنُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَأُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 628 المفردات: أَعْقابِنا: جمع عقب، وهو مؤخر الرجل، ويقول العرب فيمن أحجم بعد إقدام: رجع على عقبيه ونكص، وارتد على عقبه ورجع القهقرى، ثم صار يطلق على كل تحول مذموم. اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ: ذهبت بعقله وهواه، وكانت العرب تزعم أن الجنون من تأثير الجن. حَيْرانَ: تائها ضالا عن الجادة لا يدرى ما يصنع. الصُّورِ: القرن، وهو كالبوق ينفخ فيه فيصعق من في السموات والأرض، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون! المعنى: قل لهم يا محمد: أتدعو من دون الله ما لا ينفعنا إذا دعوناه، ولا يضرنا إذا تركناه، وكيف نرد على أعقابنا، ونترك ديننا بعد إذ أسلمنا لله ربنا؟! أنعود إلى الكفر والشرك والضلال بعد الإسلام والهدى والنور؟ أنعود إلى ملة الكفر بعد إذ هدانا الله، ووفقنا إلى صراط مستقيم صراط الله العزيز الحكيم! إن هذا لشيء عجيب. إننا إذا فعلنا ذلك كنا كالذي استهوته الشياطين وذهبت بعقله، وأطارت صوابه ولبّه، وأصبح حيران تائها لا يدرى كيف يسير، والحال أن له أصحابا يدعونه إلى الطريق الحق ويقولون له: ائتنا، ولكن أين هو منهم؟ فقد ختم على قلبه وجعل على بصره غشاوة، فمن يهديه من بعد الله؟ نعم، من يرتد مشركا والعياذ بالله بعد إيمانه كمن أصبح هائما على وجهه، لا يلوى على شيء تاركا رفاقه على الطريق الحق وهم ينادونه: الهدى والفلاح والخير والرشاد والطريق الحق هنا. عد إلينا فلا يستجيب لهم لانغماسه فيما يضره ولا ينفعه، وفيما ظن أنه خير والواقع أنه شر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 629 ادعهم أيها الرسول وقل لهم: إن هدى الله هو الهدى، وطريق الإسلام هو الحق وهو الصراط المستقيم وقل لهم: إنا أمرنا بأن نسلم لرب العالمين فأسلمنا وجوهنا له وانقدنا لأمره إذ فيه الخير في الدنيا والآخرة، وأمرنا بأن نقيم الصلاة وأن نتقي الله في السر والعلن، فهو الذي إليه تحشرون وإليه وحده المرجع والمآب، وهو الذي خلق السموات والأرض خلقا متلبسا بالحق الذي لا شك فيه خلقا للسنن الكونية المشتملة على الحكم البالغة وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ. ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا سُبْحانَكَ واذكر يوم يقول للشيء أيا كان: كُنْ فَيَكُونُ ومن كان أمره التكويني (كن) مطاعا وحاصلا (فيكون) كان أمره التكليفي كذلك أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ وله الملك وحده، يوم ينفخ في الصور فيصعق من في السموات والأرض، ويهلك، حتى الملك الذي نفخ فيه، ثم ينفخ مرة أخرى، فإذا الكل قيام ينتظرون ماذا يفعل الله بهم وهو عالم الغيب والشهادة وهو الحكيم الخبير. فالله الموصوف بهذا، أندعو من دونه ما لا ينفع ولا يضر بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَتَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. كيف ترك إبراهيم الشرك؟ [سورة الأنعام (6) : الآيات 74 الى 79] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 630 المفردات: إِبْراهِيمُ: خليل الرحمن، وأب إسماعيل، وجد العرب، وأبو الأنبياء- عليهم السلام- جميعا. آزَرَ: أبو إبراهيم أو عمه، وقيل غير ذلك. مَلَكُوتَ: ملك الله وسلطانه فيهما. جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ: ستره بظلمته. كَوْكَباً: نجما مضيئا. أَفَلَ الأفول: غيبوبة الشيء بعد ظهوره. بازِغاً البزوغ: ابتداء الطلوع. فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ: أخرجهما إلى الوجود لا على مثال سابق. حَنِيفاً: مائلا عن الشرك والضلال. كان العرب يدينون لإبراهيم الخليل، ويعترفون به، ويدعون أنهم على ملته، وها هو ذا إبراهيم يجادل قومه ويراجعهم في عبادة الأوثان المرة بعد المرة، فهل من معتبر؟ ولقد أمر صلّى الله عليه وسلّم بأن يذكر هذا الوقت، والمراد ما حصل فيه لعل العرب يرجعون عن غيهم ويدركون خطأهم في عبادة الأوثان. المعنى: واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه آزر: أتتخذ أصناما وأوثانا تعبدهم من دون الله؟ إنى أراك وقومك في ضلال مبين واضح، وأى ضلال أوضح وأكثر من عبادتكم صنما تتخذونه من حجر أو شجر أو معدن؟ تنحتونه بأيديكم، وتعبدونه، إن هذا لضلال مبين. أتعبدون ما تنحتون؟ والله خلقكم وما تعملون فأنتم أرفع من الصنم شأنا، وأعلى مكانا، ثم تتخذونهم آلهة معبودة مقدسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 631 وكما أرينا إبراهيم الحق في شأن أبيه وقومه، وأنهم على ضلال مبين أريناه المرة بعد المرة ملكوت السموات والأرض، فاطلع على أسرار الخلق وخفايا الكون، وهل يعرف ملكوته إلا هو، وهل وقف العلماء بمراصدهم ومكبراتهم وآلاتهم الحديثة إلا على ما يوازى حبة في صحراء بالنسبة إلى ملكوت الله؟ أرينا إبراهيم الملكوت وما فيه من أسرار العظمة، وبديع النظام، وقوة التدبير، وعظمة الخلق صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ليعرف إبراهيم نواحي العظمة وسنن الله في خلقه، وحكمه في تدبير خلقه، ليقيم بها الحجة على المشركين الضالين، وليكون في خاصة نفسه من الراسخين والموقنين بالتوحيد الخالص. وهكذا أنار الله بصيرته، وأراه ملكوته، ولما جن عليه الليل، وستره بلباسه رأى كوكبا ممتازا عن الكواكب أنار الوجود وأفاض على العالم ضوءا خافتا، قال إبراهيم حينئذ في مقام المناظرة والمحاجة: هذا ربي تمهيدا لإقامة الحجة على قومه، فلما أفل وغاب وأسدل الليل عليه ستاره قال إبراهيم: ما هذا إله أبدا ... يظهر ثم يختفى؟ أنا لا أحب الآفلين، ولا أثق بهم فضلا عن كوني أعتقد فيهم الربوبية، وكيف يفيد ما يغيب ويستتر؟ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً وأراد إبراهيم أن يسلك طريقا آخر، فلما رأى القمر بازغا قد عم ضوؤه الكون، وهو أقوى من الكوكب، قال: هذا ربي، وهو أحق من الكوكب السابق، فلما أفل القمر وغاب كذلك، قال إبراهيم: ما هذا؟ تالله لئن لم يهدني ربي خالق الأكوان، والكواكب والأقمار لأكونن من القوم الضالين، وهذا تعريض بأن عبدة الكواكب والأصنام في ضلال مبين. فلما رأى الشمس بازغة وهي أعظم الكواكب المرئية لنا وأعمها نفعا، إذ هي مصدر الحياة والدفء ومبعث النور والحركة قال إبراهيم: نعم هذا ربي. هذا أكبر من القمر والكوكب نفعا وضوءا وجرما، وفي هذا مجاراة لقومه في أفكارهم واستدراج لهم حتى يسمعوا حجته. فلما أفلت واحتجبت ولفها الليل بأستاره بعد ما أدركها الاصفرار والذبول، وملأت الأفق بدم الشفق، وجاء الليل بجحافله قال: ما هذا يا قوم؟ إنى برىء مما تشركون بالله، فهذا حال الشمس والقمر والكوكب، وفيهن شيء من النفع ظاهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 632 فكيف حال الصنم من شجر أو مدر أو معدن أو طعام؟ ولعلكم يا كفار مكة تتعظون. قال إبراهيم بعد هذا: إنى أسلمت وجهى مخلصا لله متوجها لذاته الكريمة بالعبادة والتقديس إذ هو الواحد الأحد الفرد الصمد، خالق الأكوان صاحب الملك والملكوت فاطر السماء والأرض، فالق الإصباح والنور، خالق الليل والنهار، رب الشمس والقمر. ومن يسلم وجهه إلى الله وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها، وإسلام الوجه: هو توجه الذات والقلب لله، وعبر به لأن الوجه أشرف عضو في الجسم وهو الشرفة التي تطل منها الروح. وانظر في قصة إبراهيم حيث حاور وتلطف في القول، وهكذا الحكمة مع الخصم العنيد، فقال: لا أحب الآفلين، ثم قال ثانيا: لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، وثالثا صرح بالبراءة من الشرك ومن المشركين إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ «1» ثم ذكر عقيدته بعد ما هدم أساس الشرك بالدليل حيث قال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ. محاجة إبراهيم لقومه [سورة الأنعام (6) : الآيات 80 الى 83] وَحاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَتُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدانِ وَلا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)   (1) سورة الممتحنة آية 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 633 المفردات: حاجَّهُ المحاجة تطلق على محاولة الخصم في إثبات الدعوى، وعلى رد دعوى الخصم، وهي بهذا حجة دامغة أو شبهة واهية. بِظُلْمٍ المراد به: الشرك لأنه الظلم الأكبر. المعنى: ها هو ذا إبراهيم قد جاء قومه بالحق، وأورد البينات من الحجج الدامغة والأدلة القاطعة، حيث تمشى معهم ونزل إلى مستواهم، وفي النهاية أثبت أن الذي فطر السموات والأرض هو المعبود بحق لا إله إلا هو. وحاجة قومه بأوهى الحجج، وأتوا بشبهات هزيلة، لا تنهض دليلا إلا عند من ختم الله على قلوبهم وجعل على سمعهم وبصرهم غشاوة. فقد قالوا: إنا نتخذهم آلهة تقربنا إلى الله، وتشفع عنده ونحن قد وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، وإياك يا إبراهيم والآلهة، احذرهم فإنا نخاف عليك منهم. قال إبراهيم: أتحاجّونّي في الله؟! إن هذا لشيء عجيب، كيف ذلك؟ والله خلق السموات والأرض وله ملكوت لا يحيط به إلا هو، وهو القادر على كل شيء، وهذه الأصنام لا تضر ولا تنفع، ولا تسمع ولا ترى، بل هي مخلوقة لكم وإن يسلبها الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 634 أتحاجوني في الله وقد هداني إلى سواء السبيل، ولا أخاف هذه الأصنام أبدا فهي لا تنفع نفسها ولا غيرها ولا تضر، وكيف أخاف ما تشركون به ولا حول ولا قوة إلا بالله وأنا لا أخافهم في وقت من الأوقات إلا أن يشاء الله ربي وربكم لي شيئا من الضر فينزل بي ما يشاء كأن يقع علىّ صنم فيصيبني أو ينزل شهاب من السماء فيحرقنى، كل ذلك بمشيئة الله وحده! أما أن لهذه الأصنام شيئا في أنفسها أو في غيرها فهذا شيء لا يدور بخلد عاقل، ولا ينطق به إنسان كامل. أعميتم فلا تتذكرون شيئا أصلا، حتى تسووا بين الخالق والمخلوق، وبين الإله واهب الوجود وبين الحجر أو الكوكب المخلوق. عجبا لكم!! كيف أخاف آلهتكم التي ينادى العقل الحر بأنها لا تنفع ولا تضر، ولا تخافون إشراككم بالله غيره وقد قامت الحجج العقلية والنقلية على أنه الإله الواحد الأحد، الفرد الصمد. وإذا كان هذا هو الواقع، فأينا أهدى سبيلا، وأحسن رأيا، وأقوم قيلا؟! وأحق بالأمن وعدم الخوف؟ إن كنتم من أهل العلم والعقل والفكر الحر فالذين آمنوا أحق الناس بالأمن والطمأنينة، لأنهم آمنوا بالله ورسله وسلكوا طريق العقل والحكمة ولم يخلطوا إيمانهم بظلم كالشرك، أولئك لهم الأمن الكامل التام في الدنيا والآخرة، ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون، روى البخاري ومسلم أنه لما نزلت هذه الآية شق ذلك على الصحابة «1» - رضوان الله عليهم أجمعين- وقالوا: أيّنا لم يظلم؟ فقرئ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «2» . وتلك حجتنا القوية آتيناها إبراهيم حجة له على قومه، ولا غرابة في ذلك فالله يرفع من يشاء من عباده درجات بعضها فوق بعض، فهذه درجة الإيمان وأخرى درجة العلم وثالثة درجة الحكمة والتوفيق، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء إن ربك عليم بخلقه.   (1) أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب ظلم دون ظلم حديث رقم 32. (2) سورة لقمان آية 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 635 إبراهيم أبو الأنبياء ومكانتهم [سورة الأنعام (6) : الآيات 84 الى 90] وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى وَإِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَمِنْ آبائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوانِهِمْ وَاجْتَبَيْناهُمْ وَهَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90) المفردات: اجْتَبَيْناهُمْ: اخترناهم واصطفيناهم. لَحَبِطَ: بطل عنهم عملهم. الْحُكْمَ: العلم النافع والفقه في الدين، وقيل: القضاء بين الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 636 المعنى: كان إبراهيم- عليه السلام- أمّة، وكان من القانتين، وهو من أولى العزم وهو أبو الأنبياء، فما من نبي بعد إلا وهو من سلالته وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ [سورة الحديد آية 26] . ووهبنا له على كبر منه، وعقم امرأته ويأس، إسحاق فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ جزاء إيمانه الكامل، وإحسانه الشامل، ونجاحه في ابتلاء الله له بذبح ولده إسماعيل. فإبراهيم من شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء فهو من سلالة نوح وَنُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وهدينا من ذريته داود، وسليمان، وأيوب، ويوسف، وموسى، وهارون، فهي ذرية طيبة ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وإبراهيم واسطة العقد جده نوح وأولاده الأنبياء، وكذلك نجزى المحسنين. وهدينا من ذريته كذلك زكريا، ويحيى، وعيسى، وإلياس وكل من الصالحين، وهدينا من ذريته إسماعيل ابنه لصلبه وجد المصطفى صلّى الله عليه وسلّم إسماعيل واليسع ويونس ولوطا وكلا فضلنا على عالمي زمانهم. وهدينا بعض آبائهم وذرياتهم وإخوانهم، إذ لم يكن الكل مهديا إلى الخير وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ. ولقد اجتبيناهم واخترناهم وخصصناهم بمزايا كثيرة، وهديناهم صراطا مستقيما، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده، والله واسع عليم، ولو أشركوا بالله شيئا لكان جزاؤهم أن تحبط أعمالهم إذ توحيد الله- سبحانه وتعالى- هو المزكى للنفوس، والمطهر للأرواح. وهو أساس الثواب، ومناط الأجر فإذا انهار الأساس فلا يبقى معه ثواب للعمل أصلا وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [سورة الزمر آية 65] . أولئك المذكورون جميعا ينهلون من معين واحد، ولهم رسالة واحدة هي إرساء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 637 قواعد التوحيد في الدنيا لله- سبحانه وتعالى- وإن اختلفت في الشكل وطرق الأداء والمعجزات، تبعا لظروف كل زمن وأمة، أولئك الذين آتيناهم الكتاب كصحف إبراهيم وتوراة موسى، وزبور داود وإنجيل عيسى، وآتيناهم الحكم والعلم والفهم الصادق، والنبوة ولا شك أن كل نبي كذلك إذا أساس النبوة العلم، والفقه، والفهم والفطانة، فالنبوة قيادة وزعامة في الدين والدنيا وهل تتم بدون هذا؟ أما الحكم بمعنى فصل القضاء والحكم بين الناس فلم يعط لكل نبي، وهذه مراتب الفضل فيهم، فكلهم أوتى الحكم والنبوة إذ كل من أوتى النبوة أوتى الحكم وليس كل من أوتى النبوة أوتى الكتاب. فإن يكفر كفار قريش بالكتاب والحكم والنبوة التي أوتيت كلها لك يا محمد فقد وكلنا بعنايتها، والعمل على خدمتها، والدعوة إليها قوما كراما، ليسوا بكافرين بها، والمراد بهؤلاء القوم أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المهاجرين والأنصار ومن جاء بعدهم. ودعا بدعوتهم إلى يوم الدين. أولئك الذين هداهم الله، ووفقهم: أئمة الدين وأعلام الهدى فبهداهم هذا اقتد، وقد جمع نبينا خصالهم في الخير فكان خاتم النبيين وإمام المرسلين. قل لهم: لا أسألكم على القرآن أجرا ولا منفعة خاصة، وما هو إلا ذكرى للعالمين، وهدى للمتقين. إثبات رسالة الرسل وأثرها [سورة الأنعام (6) : الآيات 91 الى 92] وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 638 المفردات: وَما قَدَرُوا اللَّهَ يقال: قدرت الشيء: عرفت مقداره، والمراد ما عرفوا الله حق المعرفة. قَراطِيسَ: جمع قرطاس، وهو ما يكتب فيه من ورق أو غيره. مباركا: كثير البركة. أُمَّ الْقُرى المراد بها: مكة المكرمة. المعنى: من عرف الله حقيقة، وأدرك ما يجب في حقه، وما يستحيل، وما يجوز، لا يسعه إلا أن يعترف بالرسالة والسفارة بين الخلق والخالق- جل جلاله- فالله لا يحده مكان، وليس له زمان وهو مخالف للحوادث يستحيل عليه أن يخاطب البشر مباشرة: وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ثم يفضى الرسول إلى الخلق بالتعليمات الإلهية، فمن أنكر الرسالة ما قدر الله حق قدره ولا عظّمه حق تعظيمه، بل ما عرفه أصلا. والله العالم بكل شيء القادر لا يعجزه شيء، الذي وسعت رحمته كل شيء يعلم أن الخلق لا يمكن أن تصل إلى الغرض المقصود إلا بالهداة والمرشدين من الأنبياء والمرسلين، فمن ينكر رسالتهم ما عرف الله حق المعرفة، ولا قدره حق قدره. قل لهؤلاء يا محمد: من أنزل الكتاب على موسى؟ وأنتم تعترفون بالتوراة إذا قلتم: لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ وقد أرسلتم الوفد تسألونهم عن محمد ودينه فكيف تقولون: ما أنزل الله على بشر من شيء!!! وقيل في الآية معنى آخر ... من أنزل التوراة على موسى نورا وهدى للناس وقد كانت التوراة كذلك حتى غيروها وحرفوها ونسوا حظا كثيرا منها، وجعلوها قراطيس مقطعة، وورقات مفرقة، ليتمكنوا مما راموا من التحريف والتبديل، وقد كان الحبر يفتي بالتوراة ويظهرها، وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 639 أراد كتمان الحكم أخفاها، وقد كتموا وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم وحكم البشارة، وحكم الزنا!!! فأنتم أيها المشركون لا تثقوا بأقوال اليهود خصوصا فيما يتعلق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فهم أشد أعدائه. وهذا المعنى ظاهر على قراءة من قرأ يجعلونه أما على قراءة تَجْعَلُونَهُ بالتاء فيكون الله قد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقرأ هذه الآية على مسمع من اليهود وغيرهم بالخطاب لهم. وعلمتم أيها المؤمنون من العرب ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم منه شيئا، فبالإسلام أصبح للعرب دولة، وبحث وفن وكيان علمي معترف به، بعد جهالة جهلاء وضلالة عمياء. قل لهم: الله أرسل الرسل ومعهم الكتب أرسل مع محمد القرآن ومع موسى التوراة، ثم ذرهم واتركهم في خوضهم يلعبون. وهذا القرآن كتاب أنزلناه يهدى إلى الحق وإلى سواء السبيل، كتاب كثير البركة والخير، مصدق لما تقدمه من الكتب، ومهيمن عليهم، أنزلناه للبركة، ولتصديق الكتب السابقة ولإنذار أم القرى مكة ومن حولها، والذين يؤمنون بالآخرة وما فيها يؤمنون به ويصدقونه، وهم على صلاتهم يحافظون، وإلى كل ما أمروا به يسارعون ... الكذب على الله وعاقبته [سورة الأنعام (6) : الآيات 93 الى 94] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 640 المفردات: افْتَرى: اختلق الكذب. غَمَراتِ الْمَوْتِ: واحدها غمرة، وهي الشدة، وغمرات الموت: سكراته. باسِطُوا أَيْدِيهِمْ بسط اليد سبق شرحه في الجزء السادس آية 28. الْهُونِ: الهوان والذل، والهون: اللين والرفق خَوَّلْناكُمْ: أعطيناكم ومنحناكم، والخول: الخدم والحشم. بَيْنَكُمْ هو بمعنى الصلة، أو هو ظرف، والاتصال مفهوم من الكلام. ضَلَّ أى: غاب. المعنى: شهادة ضمنية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالصدق حيث بين عاقبة الكذب على الله لا أحد في الوجود أظلم ممن كذب على الله، وادعى أنه ما أنزل على بشر شيئا، إذ أثبت له الشريك والولد، أو قال: أوحى إلىّ ولم يوح إليه شيء، كمسيلمة الكذاب والأسود العنسي، أو قال: سأنزل مثل ما أنزل الله على رسله لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا [سورة الأنفال آية 31] . يا للعجب لهؤلاء ... ولو تراهم في غمرات الموت وشدائده والحال أن الملائكة قد بسطت أيديها لهم لتخرج أنفسهم من أجسادهم بمنتهى الشدة والعنف فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ «1» وتقول لهم الملائكة تأنيبا وتعنيفا: أخرجوا أنفسكم مما هي فيه وخلصوها إن أمكنكم ذلك، وقيل: المعنى: أخرجوها كرها وقد قيل: إن روح المؤمن تخرج بسهولة وروح غيره تنتزع انتزاعا شديدا. وقال الكشاف: هذا تمثيل لفعل الملائكة في قبض أرواح الكفرة.   (1) سورة الحديد آية 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 641 وتقول الملائكة لهم: اليوم تجزون عذاب الهون والخزي، وتلقونه على أفظع صورة بسبب ما كنتم تقولون على الله غير الحق كما مر. ويقول الله لهم: لقد جئتمونا منفردين عن الأنداد والشركاء، والأولياء والشفعاء، كما خلقناكم أولا، وها أنتم أولاء تركتم كل ما خولناكم وأعطيناكم من نعم وحشم، وخدم وولد، تركتموه ولم ينفعكم في شيء أصلا، وما نرى معكم شفعاءكم- كما كنتم تدعونهم- الذين زعمتم أنهم فيكم وفي عبادتكم شركاء لله. تبّا لكم وسحقا. لقد تقطع وصلكم بينكم، وبعد ما كان بينكم من صلات وصداقات، ضل عنكم ما كنتم تزعمون ولم تنفعكم شفاعة الشافعين يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [سورة الانفطار آية 19] . من مظاهر القدرة والعلم الحكمة والرحمة [سورة الأنعام (6) : الآيات 95 الى 99] إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 642 المفردات: فالِقُ الفلق والفتق: الشق في الشيء مع إبانة بعضه عن بعض. الْحَبِّ: الثمر يكون في الأكمام والسنبل. وَالنَّوى: جمع نواة: ما تكون في التمر والزبيب وما شاكله. تُؤْفَكُونَ: تصرفون. سَكَناً: ما يسكن فيه الإنسان مكانا كالبيت وزمانا كالليل وهو المراد. حُسْباناً: بالحساب والعدد. يَفْقَهُونَ الفقه: الفهم مع العمق في التفكير. مُتَراكِباً: يتراكم بعضه فوق بعض. طَلْعِها الطلع: أول ما يبدو ويظهر من الزهر قبل أن ينشق عنه الغلاف. قِنْوانٌ: هو العذق، كالعنقود. وَيَنْعِهِ: نضجه واكتماله. بعد إقرار مبدأ التوحيد والنبوة، وبعض مواقف البعث ذكر هنا مظاهر كمال قدرته وعلمه وآياته الكونية التي تشهد له بكل ذلك. المعنى: إن الإله الذي يستحق العبادة والتقديس هو الذي يتصف بهذا، ويعمل هذه الأعمال التي يعجز عن أقلها الأوثان والشركاء والأصنام بل والخلق مجتمعين متكتلين- سبحانه وتعالى جل جلاله-..؟؟ إن الله فالق الحب والنوى يخرج الزرع كالنجم والشجر من الحب والنوى، والحياة هنا بمعنى قبول النمو والتغذية، ولا شك أن الحب والنوى ميت بهذا المعنى، وبعضهم يتوسع في الحياة، ويقول إن الحب والنوى فيهما حياة بدليل أنه لو عقما لما أنبتا ولكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 643 اللغة لا تساعدهم وكانوا يمثلون قديما بإخراج الحيوان من النطفة أو البيضة، ولكن العلم الحديث أثبت أن في النطفة حياة وكذا في البيضة، وقيل: إن الرأى الصحيح أن الحيوان يخرج بمعنى يتكون من الغذاء، وهو ميت ويخرج من الحيوان لبنه وفضلاته وهي ميتة وكون خلايا الجسم الحي تتكون من غذاء كاللبن والنبات مع عدم الحياة في الغذاء دليل على كمال القدرة. والله مخرج الميت من الحي فيخرج الحب والنوى من النبات الحي، ويخرج اللبن والفضلات من الحيوان الحي، سبحانه وتعالى من قادر حكيم عليم، فكيف تؤفكون وتصرفون عن طريق الهدى والفلاح؟ والله فالق الإصباح، قد فلق ظلمة الليل وشقها بعمود الصبح عند طلوع الفجر، وجعل الليل سكنا للحيوان الحي، يستريح فيه من التعب، ويسكن جسمه من الألم وأعصابه من التفكير والنصب، والليل وقت سكون وراحة، والنهار وقت عمل ونشاط، وجعل الشمس والقمر يجريان بحساب وتقدير، وترتيب ونظام محكم لا يختل أبدا لتعلموا بهما عدد السنين والحساب. فانظر- وفقك الله للخير- للآيات الكونية الثلاث: شق الإصباح، وسكون الليل، ونظام الشمس والقمر وحسبانهما إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [القمر 49] . وهو الذي جعل لكم النجوم والمراد بها ما عدا الشمس والقمر مما لا يعلمه إلا هو جعلها علامات للسارى، بها يهتدى للوقت من الليل أو من السنة، ويعرف المسالك والطرق والجهات، جعلها لتهتدوا بها في ظلمات الليل والماء، أو المراد ظلمة الخطأ والضلال. ولما في عالم السماء من صنع وإحكام، وتقدير ونظام قد فصل الله الآيات القرآنية والآيات التكوينية وهما يدلان على حكم الله وتمام علمه، ولا يستخرج كل هذا ولا يهتدى به إلا أهل العلم والنظر فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ «1» ولذا اختتمت الآية بقوله تعالى: قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. هذه آيات الله الكونية في الأرض والسماء، وها هي ذي آياته في أنفسنا وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَنِساءً «2»   (1) سورة الحشر آية 2. (2) سورة النساء آية 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 644 قد خلقكم من ذكر وأنثى وجعلكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، وفي هذا إرشاد إلى التّوادّ والمحبة، والتعاطف بين الخلق جميعا، وإشارة إلى كمال القدرة وتمام العلم والحكمة، خلقكم من نفس واحدة، لكلّ مستقر في الأصلاب، ومستودع في الأرحام، والاستقرار: مكث غير محدود بزمن ولا وقت وهو أقرب إلى الثبات، والاستيداع: مكث موقوت معرض للرد والرجوع، ولهذا كان الاستقرار في الأصلاب والاستيداع في الأرحام. وبعضهم عكس، وبعضهم قال غير ذلك، والله أعلم.. قد فصلنا الآيات ووضحناها لقوم يفقهون ويقفون على الأسرار الخفية بذكائهم وعمق تفكيرهم، ولا شك أن النظر في الخلق والتكوين الإنسانى يحتاج إلى دقة ونظر وفهم. وها هي ذي آياته التكوينية في النبات. وهو الذي أنزل من السحاب الذي في السماء ماء فجعل منه كل شيء حي، فأخرج به المولى- جل شأنه- نبات كل صنف من الأصناف فالتربة واحدة والماء واحد ولكن الشكل والطعم مختلف سبحانك يا رب أنت القوى القادر يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ «1» في الشجرة الواحدة تمر حسن وآخر رديء، ثمر ناضج، وثمر نيئ، ثمر طعمه جميل وأخر قبيح، سبحان الله أليس هذا من دلائل الوحدانية والقدرة، فأخرج الله من النبات شيئا غضا أخضر وهو ما تشعب من أصل النبات، وذلك كورق النجم، وغصن الشجر، ويخرج من هذا الأخضر حبا جافّا صلبا متراكبا بعضه فوق بعض في السنبل. أما الشجر فهذا النخل عنوانه يخرج من طلعها قنوان دانية القطوف سهلة التناول ويخرج من النبات الأخضر جنات من أعناب وغيره من الفواكه والثمار كالزيتون والرمان مشتبها في الشكل والورق والثمر، وغير مشتبه في لون الثمر وطعمه فمنها الحلو والحامض والمزّ، بل منها ما هي كاليوسفى والبرتقال أو كالنارنج، انظر إلى ثمر ما ذكر نظرة اعتبار وفحص إذا أثمر النبات وكيف يصير هذا الثمر من درجة إلى درجة حتى يصل إلى كمال نضجه وتمام منفعته، وكيف يكون الثمر أجوف فارغا ثم يمتلئ بالخير والبركة، إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون بالله أو فيهم الاستعداد لذلك.   (1) سورة الرعد آية 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 645 من كذبهم على الله والرد عليهم [سورة الأنعام (6) : الآيات 100 الى 103] وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) المفردات: خَرَقُوا خلق، وخرق، واخترق، كلها بمعنى واحد، قال الراغب: الخلق: فعل الشيء بتدبير ورفق، والخرق: قطع الشيء على سبيل الفساد. بَدِيعُ: مبدع على غير مثال سابق، ومنه البدعة، لأنه لا نظير لها. لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ الإدراك: اللحاق والوصول إلى الشيء. المعنى: أشرك الناس بالله شركاء من دونه، وأقسم إبليس: لأغوينهم أجمعين، إلا عبادك منهم المخلصين، وقد عبدوا الملائكة وقالوا: إنها بنات الله، وأطاعوا الشياطين في أمور الشرك بالله، وقال المجوس: إن للخير إلها وللشر إلها هو إبليس وذلك قوله تعالى: وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ والله وحده خلقهم وما يعبدون. فكيف يعبد سواه، واختلق بعض الناس بجهلهم وحماقتهم لله بنين، وبنات، سبحانه وتعالى عما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 646 يشركون!! فقد قالت اليهود: عزيز ابن الله، والنصارى قالوا: المسيح ابن الله، وقال المشركون من العرب: الملائكة بنات الله. كيف يكون ذلك! والله مبدع السموات والأرض وما فيهن، فهو الخالق البارئ المصور كيف يكون له ولد؟ ولم تكن له صاحبة، والولد لا بد فيه من تزاوج وتناكح، وهل يعقل أن تكون له صاحبة تجانسه وتشاكله، وهو المنزه عن المثيل والشريك: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ «1» . وكيف يكون له ولد! وقد أقر الكل بأنه خلق السموات والأرض، أفيكون في حاجة إلى ولد؟ وله كل شيء!!؟ سبحانه وتعالى ذلكم الله ربكم، لا إله إلا هو، خالق كل شيء، فاعبدوه وحده، فهو الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، الخالق البارئ فاطر السموات والأرض ومبدعها وهو على كل شيء قدير. والله سبحانه لا تدركه الأبصار، ولا تراه رؤية إحاطة وشمول حتى تعرف كنهه وتحيط به: يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ «2» . والآية الكريمة لا تنفى الرؤية التي وردت بها الأحاديث الصحيحة. والله يدرك الأبصار، يراها ويدركها ويقف على حقيقتها وكنهها، وإلى هنا لم يعرف أحد حقيقة الضوء أو حقيقة البصر ولماذا لم تر الأذن؟ ولم تسمع العين ولماذا كان عصب العين ينقل إشارة الرؤية وعصب السمع ينقل إشارة السمع ولكن الله وحده هو الذي يدرك الأبصار ويعلمها وهو اللطيف بذاته الخبير بدقائق خلقه وخفاياهم. حقائق تتعلق بالرسالة [سورة الأنعام (6) : الآيات 104 الى 107] قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)   (1) سورة الشورى آية 11. (2) سورة البقرة آية 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 647 المفردات: بَصائِرُ: جمع بصيرة، وتطلق على العقيدة القلبية، وعلى المعرفة الثابتة والحجة البينة، ويقابلها البصر الذي يدرك به الأشياء الحسية. دَرَسْتَ أى: قرأت، وفي الحديث: «كان يدارسه القرآن» ومنه الدرس والمدرسة وهي تشير إلى التذليل بكثرة القراءة. المعنى: قد جاءكم كما يجيء الغائب المنتظر تلكم البصائر من الحجج والبراهين والآيات الكونية، والأدلة العقلية، التي تنير البصائر وتكشف الحجب والستائر، جاءتكم من ربكم الذي تعهدكم في الصغر والكبر والضعف والقوة فمن أبصر فلنفسه ومن أساء فعليها: إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «1» وما أنا عليكم بحفيظ، ولا برقيب، كل نفس بما كسبت رهينة، وما علىّ إلا البلاغ وعلى الله الحساب. مثل ذلك البيان الشافي نصرف الآيات في القرآن لإثبات أصول الدين، ونفصلها ليهتدى بها المستعدون للاهتداء على اختلاف عقولهم وألوانهم، وليقول الجاحدون المعاندون: إنما درست هذا وقرأته على غيرك وليس وحيا من عند الله، ولقد رموا النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه علّمه قين (حداد) كان بمكة وهو أعجمى وليس بعربي لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ «2» وكيف يصدر هذا القرآن الكامل في كل شيء عن بيئة جاهلية؟ إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «3» ولنظهر هذا القرآن لقوم عندهم عقل وعلم.   (1) سورة الإسراء آية 7. (2) سورة النحل آية 103. (3) سورة النجم آية 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 648 اتبع يا محمد ما يوحى إليك، وبلغه فالله معك، الذي لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين، ولا يهمّنك أمرهم، واعلم أنه إلى الله المرجع والمآب، ولو شاء ما أشركوا أبدا ولكنه شاء ما وقع لحكم هو يعلمها وما جعلك عليهم حفيظا ورقيبا، ولست عليهم بوكيل. النهى عن سب الذين يدعون من دون الله [سورة الأنعام (6) : الآيات 108 الى 110] وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) روى أن زعماء قريش ذهبوا إلى أبى طالب وقالوا له: أنت كبيرنا وسيدنا، وإن محمدا قد آذانا وآذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ولندعه وإلهه، وقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك. فنزلت الآية. المعنى: ولا تسبوا أيها المسلمون آلهتهم التي يدعونها من دون الله إذ ربما نشأ عن ذلك أنهم يسبون الله- عزّ وجل- عدوانا وتجاوزا للحد في السباب ليغيظوا بذلك المؤمنين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 649 وهم أجهل الناس بقدر الله، ومن هنا نعلم أن الطاعة إن جرّت إلى معصية تترك. مثل ذلك التزيين زينا لكل أمة من الكفار سوء أعمالهم، وهكذا سنة الله في خلقه، يستحسنون ما جرت عليه نفوسهم، وما تعودته عن تقليد أو جهل، أو عن معرفة وعناد والله يتركهم وشأنهم، وهو القادر على كل شيء، فالتزين أثر لأعمالهم بدون جبر أو إكراه، وإلا كان الثواب والعقاب وإرسال الرسل عملا لا يصح أن يكون. وأقسموا ليؤمننّ إذا جاءتهم الآيات التي طلبوها ... كذبوا، قل لهم: الآيات عند الله، وهم لا يؤمنون أبدا. الجزء الثامن الرد على طلب المشركين الشهادة على الرسالة [سورة الأنعام (6) : الآيات 111 الى 113] وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 650 المفردات: وَحَشَرْنا: جمعنا. قُبُلًا: جمع قبيل، كرغيف ورغف، أى: ضمناء وكفلاء، وقيل: قبلا، أى: مواجهة ومقابلة، ومنه قيل: قبل الرجل ودبره، وقرئ قبلا، أى: عيانا ومواجهة. شَياطِينَ قال ابن عباس: كل عات متمرد من الجن والإنس فهو شيطان. يُوحِي الإيحاء: الإعلام مع الخفاء والسرعة كالإيماء، والمراد ما توسوس به الشياطين من الجن والإنس. زُخْرُفَ الزخرف: الزينة، ومنه سمى الذهب زخرفا، وجعل تمويههم زخرفا لتزيينهم إياه. غُرُوراً: خداعا باطلا. وَلِتَصْغى صغى إليه: مال، وصغى فلان، وصغوه معك: ميله وهواه. وَلِيَقْتَرِفُوا اقترف المال: اكتسبه، والذنب: اجترحه. روى عن ابن عباس أنه أتى جماعة من كفار مكة وزعمائها إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وقالوا: أرنا الملائكة يشهدون بأنك رسول الله، أو ابعث لنا بعض موتانا حتى نسألهم: أحقّ ما تقول أم باطل؟ أو ائتنا بالله والملائكة قبيلا، فنزلت الآية. وهذا تفصيل لما أجمل في قوله تعالى: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ «1» مع تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم بذكر طبائع الناس وما يلاقيه الأنبياء في دعوتهم. المعنى: ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة فرأوهم بأعينهم المرة بعد المرة، كما قالوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ «2» ولو كلمهم الموتى بأن نحييهم لهم فيخبروهم بما رأوا من ثواب أو عقاب كما قالوا: فَأْتُوا بِآبائِنا «3» ولو أننا حشرنا عليهم، وجمعنا لهم من كل شيء من الآيات والدلائل غير الملائكة والموتى معاينة ومواجهة ليكون ذلك دليلا على صدق دعواك، أو جمعنا عليهم كل شيء ضمناء وكفلاء بصحة ما بشرنا به وأنذرنا. لو حصل كل هذا لما كان من شأنهم الإيمان، ولا كان استعدادهم يقتضى ذلك، لأنهم ينظرون إلى الآيات نظرة تعنت وعداوة، بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون،   (1) سورة الانعام آية 109. [ ..... ] (2) سورة الفرقان آية 21. (3) سورة الدخان آية 36. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 651 فلم ينظروا نظرا بريئا للهداية والعبرة حتى يتعظوا ويؤمنوا: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً «1» لكن لو شاء الله إيمانهم لآمنوا، ولكنه يتركهم وفطرتهم التي تتنافى مع سلوك طريق الخير والانتفاع بهدى القرآن: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ «2» مع تبصرتهم وهدايتهم إلى طريق الخير والشر: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «3» . ولكن أكثر المشركين يجهلون ذلك، فيقسمون بالله جهد أيمانهم: لئن جاءتهم آية مما اقترحوا ليؤمننّ بها، وما يشعرون بقلوبهم وما انطوت عليه، وبما ختم عليها حتى صارت كأنها في أكنة، وقيل: ولكن أكثر المسلمين يجهلون نفوس الكفار وما هي فيه، فيميلون إلى إنزال الآيات المقترحة علّهم يؤمنون. وهكذا سنة الله في الخلق. منهم مهتد وكثير منهم فاسقون. وهكذا سنته مع أنبيائه، جعل لكل منهم أعداء من الجن والإنس- خاصة أولى العزم منهم- ليحظوا بدرجات الصبر والعمل، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو إلى الخير جاهدا، والمشركون يدعون إلى ما يعتقدون جهدهم، فمن باب تنازع البقاء لا بد من حصول العداوة والبغضاء، والعاقبة للمتقين إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «4» . كما جعلنا هؤلاء أعداء لك جعلنا لكل نبي جاء قبلك أعداء، هم شياطين الإنس والجن، روى أبو ذر- رضى الله عنه- أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال عقب صلاة: يا أبا ذر: هل تعوذت بالله من شر شياطين الإنس والجن؟ قال: قلت يا رسول الله: هل للإنس شياطين؟ قال: نعم وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ «5» .   (1) سورة الأنعام آية 25. (2) سورة البقرة آية 256. (3) سورة البلد آية 10. (4) سورة غافر آية 51. (5) سورة البقرة آية 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 652 وقال مجاهد وقتادة والحسن: إن من الإنس شياطين ومن الجن شياطين، أما مظهر عداوة هؤلاء للنبي والمسلمين فإنه يوحى بعض شياطين الجن إلى بعض شياطين الإنس وكذلك يوحى بعض الجن إلى بعض، وبعض الإنس إلى بعض، وعن مالك بن دينار: إن شيطان الإنس أشد علىّ من شيطان الجن، إذا تعوذت بالله ذهب شيطان الجن عنى، وشيطان الإنس يجيئني فيجرنى إلى المعاصي عيانا. يوحى بعضهم إلى بعض بالقول المزخرف المزين، وبالوسوسة والإغراء بالمعاصي، والتمويه والخداع بالباطل، ولو شاء ربك ما فعلوه أبدا فذرهم وما يفترون، يفعلون هذا ليغروهم بالفساد، لأنه الموافق لأهوائهم، وليترتب على ذلك أن يرضوه ويطمئنوا إليه، وأن يكتسبوا معه من الآثام والمعاصي ما هم مكتسبون. الشهادة للنبي بالصدق وللقرآن بالحق [سورة الأنعام (6) : الآيات 114 الى 115] أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) المفردات: حَكَماً: الحاكم: من يتحاكم إليه الناس، ويحكم بينهم بالحق أو بغيره، والحكم: من يحكم بالحق فقط كما قال القرطبي. مُفَصَّلًا: مبيّنا فيه الحق والباطل، والحلال والحرام. وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ قال الراغب: تمام الشيء انتهاؤه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 653 إلى حد لا يحتاج معه إلى شيء خارج عنه، والمراد هنا أن كلمة الله وافية في الإعجاز والدلالة على صدق الرسول. لا مُبَدِّلَ: لا مغيّر. المعنى: ما لكم تطلبون آيات دالة على صدقى، وتحكمون بها على أنى رسول الله؟ وتقسمون أنها لو نزلت لآمنتم. عجبا! أضللت فأبتغى غير الله حكما بيننا؟! وليس لي أن أتعدى حكم الله، ولا أن أتجاوزه، إذ هو الحكم العدل، وهو الذي أنزل إليكم القرآن كتابا مفصلا فيه كل شيء، مبينا لكل حكم، جامعا لكل خير، فيه الهدى والنور، والعلم والعرفان، وهو المعجزة الباقية الدالة على صدق رسالتي لما فيه من الآيات، ولما أعجز جهابذة البلاغة وأرباب البيان، مع التحدي الصارخ لهم ... شهد لي بالصدق، وعليكم بالكذب البهتان!! والذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنصارى، يعلمون أنه الحق المنزل من عند الله مشتملا على النور والهدى، ومتلبسا بالحق والعلم إذ هو من جنس الوحى الذي نزل عليهم، وقد جاء في كتبهم البشارة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وصفته فهم أدرى الناس به: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ «1» وقد اعترف بذلك من أنار الله بصيرته منهم واهتدى. والخلاصة أنكم تتحكمون في طلب المعجزات والآيات الدالة على صدق الرسول. وقد حصل ذلك بوجهين: (أ) القرآن وهو المعجزة الباقية القائمة مقام قوله تعالى: «صدق عبدى في كل ما يبلغه عنى» . (ب) معرفة أهل الكتاب وشهاداتهم للنبي محمد بالصدق. وإذا كان هذا حاصلا فلا تكونن من الشاكّين، وهذا لون من ألوان التهييج والإلهاب كقوله: فلا تكونن من المشركين.   (1) سورة البقرة آية 146. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 654 وتمت كلمة ربك، وقرئ: «كلمات ربك» ، نعم تم كلام الله فلا يحتاج إلى شيء آخر، وأصبح كافيا وافيا في الإعجاز، والدلالة على الصدق، وقيل: تمت كلمة ربك فيما وعدك به من النصر على الأعداء، وأوعد به المستهزئين والكافرين من الخذلان والهلاك: وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «1» . نعم تمت كلمة ربك صدقا فيما أخبر به، وعدلا فيما حكم به، ومن أصدق من الله قيلا؟ من أعدل من الله حكما؟ ثم كان كل ما أخبر به- جل شأنه- من أمر ونهى، ووعد ووعيد، وقصص وخبر، صادقا عادلا، لا مبدل لكلماته، ولا راد لقضائه، فهو القادر على كل شيء، الحكيم في كل صنع، السميع لكل قول، العليم بكل حال ووضع، سبحانه وتعالى عما يشركون!! عقائد المشركين وذبائحهم [سورة الأنعام (6) : الآيات 116 الى 121] وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَباطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)   (1) سورة الصافات الآيات 171- 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 655 المفردات: يَخْرُصُونَ: يحدسون ويقدّرون، والخرص: الحدس والتخمين، والخارص يقطع بما لا يجوز القطع به إذ لا يقين معه. فَصَّلَ: بيّن وأزال عنكم اللبس في المحرمات. الْإِثْمِ: القبيح، وفي لسان الشرع: ما حرمه الله. لَفِسْقٌ: معصية وخروج عن دائرة الدين. المعنى: لا ينبغي الالتفات إلى ما يقوله الضالون والمشركون، فإنهم يسلكون سبل الضلال والإضلال ويتبعون الظنون الفاسدة، وإن تطع أكثر من في الأرض من الكفار والمشركين، إن تطعهم في أمور الدين، وتخالف ما أنزل الله عليك، يضلوك عن سبيل الله، سبيل الحق والعدل والصراط المستقيم، إذ هم لا يتبعون فيما يصدر عنهم إلا الهوى والظن، ويتجافون عن الحجج العقلية والبراهين الإلهية، إن يتبعون إلا الظن، وإن هم إلا يحدسون كالخارص في ثمر النخل، فاعتقادهم مبنى على الحدس والتخمين، لا على الحجة واليقين، وصدق الله: فكل النظريات المخالفة ليس مع أصحابها حجة ولا يقين وإنما كله ظن وتخمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 656 أليس هذا من أخبار السماء الصادقة؟ فها نحن أولاء بين الأمم كالشعرة البيضاء في الثور الأسود، ولم يكن النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم من أخبار الأمم وأحوالها إلا النزر اليسير. لا تطعهم أبدا، إن ربك هو أعلم منك ومن غيرك بمن يضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين. وإذا كان الأمر كذلك، فكلوا مما ذكر اسم الله عليه وقت الذبح. إن كنتم بآياته مؤمنين. وقد كان المشركون من العرب يجعلون الذبائح من أمور العبادات، فيتعبدون بالذبح للآلهة والأصنام، ويقولون: كيف تعبدون الله، وما قتله الله لا تأكلونه؟ أى: ما مات حتف أنفه بلا ذبح. وما قتلتموه بأيديكم تأكلونه على أنه حلال. أىّ مانع لكم من أن تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه عند الذبح، والحال أنه قد فصل لكم، وبين ما أحل وما حرم: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً [الأنعام 145] .. فقد حرم الله هذه المحرمات، وذكرها في سورة المائدة بالتفصيل، آية 3.. إلا في حال الاضطرار والضرورة فحينئذ يزول التحريم بقدر الضرورة (فالضرورات تبيح المحظورات) وإن كثيرا ليضلون بأهوائهم الزائفة، وشهواتهم الفاسدة، من غير علم منهم بصحة ما يقولون، يضلون غيرهم، ويصدونهم عن سبيل الله، إن ربك هو أعلم بالمعتدين. وذروا الإثم واتركوه، سواء منه ما ظهر للناس واكتسبته الجوارح، أو ما خفى عن الناس وكان من عمل القلب، فالله يعلم الغيب والشهادة، إن الذين يكسبون الإثم، ويجترحون الذنب سيجزون بما كانوا يقترفون. أما من يعمل السوء بجهالة ويتوب إلى الله من قريب فأولئك يتوب الله عليهم، فرحمته وسعت كل شيء. ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه، بأن ذبح للصنم، أو ذكر عليه غير اسم الله، أو مات حتف أنفه ولم يذكر عليه شيء، وإنه- أى: الأكل من هذا- لفسق ومعصية وخروج عن الدين وحدوده. وقال مالك: كل ما لم يذكر اسم الله عليه بأن ترك سهوا أو عمدا فهو حرام، أخذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 657 بظاهر الآية، وقال الأحناف: إن ترك الذكر عمدا فهو حرام. وقال الشافعى: إذا كان الذابح مسلما فهو حلال ترك سهوا أو عمدا. وإن الشياطين من الإنس والجن ليوحون إلى أوليائهم من الإنس والجن ويوسوسون لهم بالقول المزخرف، والغرور الباطل، ليجادلوكم على أساس باطل خال من الحكمة والعقل، مثلا يقولون للمسلمين: كيف تحرمون ما قتله الله وتحلون ما قتلتم بعد هذا تدعون عبادة الله؟!! وإن أطعتموهم مطلقا في أى شيء وبخاصة فيما نحن فيه من استحلال الميتة، إنكم لمشركون معهم، وفيه دليل على أن من أحل حراما أو من حرم حلالا فهو كافر ومشرك، لأنه أثبت مشرعا سوى الله، وهذا هو الشرك بعينه. مثل المؤمن والكافر [سورة الأنعام (6) : الآيات 122 الى 123] أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122) وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَما يَشْعُرُونَ (123) المفردات: أَكابِرَ أكابر القوم: رؤساؤهم. مُجْرِمِيها الإجرام: ما فيه الفساد والضرر من الأعمال، والمجرمون: الفاعلون لهذه الأعمال. قَرْيَةٍ: البلد الذي يجمع الناس كالعاصمة مثلا، وقد تطلق على الشعب والأمة. لِيَمْكُرُوا المكر: صرف الغير عما يقصده بحيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 658 المعنى: بعد أن أبان الله أن من الناس المهتدى، وكثير منهم الفاسقون، ضرب مثلا للمؤمن وآخر للكافر، فبين فيه أن المؤمن المهتدى بعد الضلالة، الموفق إلى الخير والهدى، المميز بين الحق والباطل: كمن كان ميتا فأحياه الله، وجعل له نور القرآن والحكمة يمشى به في الناس: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ «1» له نور يستضئ به في ظلمات الحياة، فيميز بين الخير والشر، وأما الكافر الذي بقي على الضلالة يتخبط في ظلمات الكفر والفساد فكمن استقر في الظلمات الحسية لا ينفك عنها، وليس بخارج منها، فهو لا يهتدى إلى سواء السبيل ولا يسير على الطريق المستقيم. أيستوى المؤمن والكافر؟ نعم لا يستويان أبدا، وهل يستوي الظلمات والنور؟ مثل هذا التزيين السابق، للمؤمن إيمانه وللكافر كفره، قد زين للكافرين ما كانوا يعملون، والذي زين هذا هو الشيطان الذي أقسم لأغوينهم أجمعين، أو هو الله- سبحانه وتعالى- نظرا إلى قوله: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [سورة النمل آية 4] . وكما جعلنا في مكة صناديدها وأشرافها ليمكروا ويصدوا عن سبيل الله فيها، كذلك جعلنا في كل قرية مجرميها وفساقها، أكابرها وأشرافها، لأنهم أقدر على المكر والخداع وترويج الباطل بين الناس لرئاستهم وسيادتهم. وهكذا سنة الله مع أنبيائه، يتبعهم الضعفاء ويكفر بهم الأشراف، ومع هذا فالعاقبة للمتقين، وما يمكر هؤلاء إلا بأنفسهم، لأن عاقبة مكرهم عليهم، وما يشعرون. غرور المشركين وعاقبته [سورة الأنعام (6) : آية 124] وَإِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)   (1) سورة الحديد آية 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 659 المفردات: صَغارٌ الصغار والصغر: الذل والهوان، والصغر: القلة في المحسوسات. أَجْرَمُوا: ارتكبوا ما فيه جرم. كان الوليد بن المغيرة يقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم لو كانت النبوة حقا لكنت أنا أولى بها منك، لأنى أكبر منك سنّا، وأكثر منك مالا، فأنزل الله هذه الآية، وقيل: نزلت في شأن أبى جهل. المعنى: أراد أكابر قريش أن تكون لهم النبوة والرسالة، وأن يكونوا متبوعين لا تابعين وقالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «1» !! وذلك حسدا منهم وغرورا، وظنّا منهم أن الرسالة مركز دنيوى، فكما بسط الله الرزق لهم وآتاهم مالا ممدودا- أى: كثيرا- وبنين شهودا- أى: حضورا للمجالس- وكبارا في القوم. يؤتيهم النبوة، ويمنحهم الرسالة. ولهذا إذا جاءتهم آية دالة على صدق محمد، وأنه رسول الله، قالوا: لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتى رسل الله من الآيات والمعجزات: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً «2» . أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ «3» أهم يقيسون الرسالة على مظاهر الدنيا الكاذبة؟ وما علموا أن الله يعلم أهل رسالته ومكان نبوته، ومن هو أهل لأداء الرسالة والقيام بالأمانة على الوجه الذي يرضاه، على أن الرسالة فضل من الله يمنحها لمن يشاء من عباده، لا ينالها أحد بكسبه، والله لا يعطيها إلا لمن هو أهل لها لسلامة فطرته، وطهارة قلبه، وقوة روحه، ومناعة نفسه، حتى يمكنه القيام بأعبائها، أما من يطلبها ويرغب فيها فليست له، ولا هو يصلح لها، ولا هي تصلح له. وها هي ذي عاقبة هؤلاء الذين أجرموا في حق الله، وطمعوا فيما لا طمع فيه سيصيبهم صغار وذلة، وعذاب ومهانة من عند الله، جزاء بما كانوا يمكرون، ويفسدون في الأرض ولا يصلحون.   (1) سورة الزخرف آية 31. (2) سورة المدثر آية 52. (3) سورة الزخرف آية 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 660 سنة الله في الخلق ودينه الحق [سورة الأنعام (6) : الآيات 125 الى 128] فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَهذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) المفردات: يَشْرَحْ صَدْرَهُ يقال: شرح الله صدره فانشرح، أى: وسّعه لقبول الإيمان والخير، وقيل: الشرح: الفتح والبيان، وقيل: هو نور يقذفه الله- تعالى- في القلب. ضَيِّقاً الضيق: ضد الواسع. حَرَجاً: هو أضيق الضيق. الرِّجْسَ: العذاب، وقيل: الشيطان. دارُ السَّلامِ: دار السلامة وهي الجنة. المعنى: ما تقدم كان جزاء للمشركين وعنادهم وغرورهم. وأما أنت يا رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 661 فلا يهمنك أمرهم ولا تحزن عليهم، فالأمر كله لله. فمن يرد الله أن يهديه للحق ويوفقه للخير يشرح صدره للقرآن، ويوسع قلبه للإيمان، فعند ذلك يستنير الإسلام في قلبه ويتسع صدره للقرآن، وقد سئل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن شرح الصدر فقال-: «هو نور يقذفه الله في قلب المؤمن فينشرح له وينفسح، قالوا: فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت» . وهذا يكون عند من حسنت فطرته وطهرت نفسه وكان فيها استعداد للخير وميل إلى اتباع الحق. ومن فسدت فطرته، وساءت نفسه، إذا طلب إليه أن ينظر إلى الدين ويدخل فيه لما استحوذ وامتلأ قلبه من باطل التقاليد والاستكبار، والعناد والحسد والغرور، إذا طلب إليه أن ينظر في الدين ويدخل فيه، يجد في صدره ضيقا- وأى ضيق؟ - وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً وهذا الصنف تكون إجابة الداعي عنده ثقيلة على نفسه جدّا، فيشعر بضيق شديد، وحرج كثير، كأنه كلف من الأعمال ما لا يطيق، أو أمر بصعود السماء، وأصبح حالهم كحال الصاعد في طبقات الجو، والمرتفع في السماء كلما ارتفع وخف الضغط عنه شعر بضيق في النفس وحرج في القلب. سبحانك ربي هذه نظرية علمية لم يقف عليها الناس إلا قريبا. وقد أخبر بها القرآن من أربعة عشر قرنا. وهذا الإسلام الذي شرح الله صدر بعض عباده له، هو صراط ربك المستقيم، صراط الله العزيز الحميد الذي يعلم خلقه وما هم عليه، فهو العلاج الوحيد، والدواء المفيد الناجع لكل داء، فعليكم به أيها المسلمون إن أردتم النجاح والفلاح في الدنيا والآخرة. قد فصلنا الآيات، وبيناها على أتم وجه، لقوم يتذكرون ويتعظون، لهؤلاء السالكين طرق الهداية، المنتفعين بنور القرآن وآياته، لهؤلاء دار السلامة والسلام، والأمان والنعيم وهي دار الجنة، والله- سبحانه وتعالى- وليهم ومتولى أمرهم، وهو حسبهم من كل ما يعنيهم وذلك بسبب ما كانوا يعملون من صالح الأعمال في الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 662 واذكر يوم يحشر ربك المخلوقات جميعا إنسهم وجنهم، ويقول لهم: يا معشر الجن قد أكثرتم من إغوائكم للإنس حتى حشروا معكم، وقال أولياؤهم وأتباعهم من الإنس: ربنا استمتع بعضنا ببعض، فاستمتع الإنس بالجن حيث دلوهم على المعاصي وإرضاء الشهوات النفسية، واستمتع الجن بالإنس حيث كانوا قادة لهم ورؤساء فامتثلوا أمرهم، وسرّ الجن بذلك، وقالوا متحسرين: قد بلغنا أجلنا الذي أجلته لنا وحددته لنا، وهو يوم القيامة. قال الله لهم عند ذلك: النار مأواكم خالدين فيها إلا ما شاء الله، إن ربك حكيم عليم. من سنن الله في الكون مع ذكر بعض مواقف الآخرة [سورة الأنعام (6) : الآيات 129 الى 132] وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها غافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) المفردات: نُوَلِّي: من الولاية والإمارة، أو: نجعل بعضهم أنصارا وأولياء لبعض. ُصُّونَ : يتلونها مع التوضيح والتبيين، وفي المصباح: قصصت الخبر قصّا من باب رد: حدثته على وجهه. دَرَجاتٌ: مراتب من أعمالهم وجزائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 663 المعنى: ومثل الذي ذكر من استمتاع أولياء الإنس والجن بعضهم ببعض في الدنيا لأنهم متشابهون ومتحدون في الاتجاه والعمل، نولي بعض الظالمين بعضا بسبب ما كانوا يكسبون من أعمال الظلم المشتركة بينهم. نولي بعضهم بعضا، ونجعلهم أنصارا وأولياء لبعض وأصدقاء. فالمؤمنون بعضهم أولياء بعض، والكافرون بعضهم أولياء بعض، وكل يقع على شاكلته، إذ الأرواح جنود مجندة. وأما ولاية المشركين لبعض فبمقتضى السنن الكونية، إذ ولايتهم لبعض مترتبة على اتفاقهم في الخلق والعقيدة والمنفعة والتحزب، مع أن الله لم يأمرهم بشيء من ذلك. وفي المأثور قيل: سمعتهم يقولون: إذا فسد الناس أمر عليهم شرارهم، وكما تكونون يولى عليكم. وعن ابن عباس «إذا رضى الله على قوم ولى أمرهم خيارهم، وإذا سخط على قوم ولى أمرهم شرارهم» فيكون الحاكم وبطانته مثلا في السوء يقلدهم غيرهم فيعم الفساد البلد، والمعنى: إنا نكل بعض الظالمين إلى بعض، ونسلطهم على أنفسهم، وهذا تهديد عام شامل لكل ظالم في الحكم أو غيره، وقال فضيل بن عياض: «إذا رأيت ظالما ينتقم من ظالم فقف وانظر فيه متعجبا» . يا معشر الجن والإنس اقرّوا واعترفوا بإرسال الرسل لكم، وقد قاموا بمهمة الرسالة خير قيام، يقصون عليكم الآيات، ويوضحون الحجج والبينات، وينذرونكم لقاء يومكم هذا، ويبشرون من آمن بالله وعمل صالحا بالثواب العظيم، وينذرون من خالف وعصى بهذا اليوم الشديد وقعه، البالغ أثره، وهذه الرسل منكم، أى: من جنسكم في الخلق والتكليف والمخاطبة، أى: من مجموعكم. وهنا بحث: هل للجن رسل من أنفسهم كما للإنس؟ أم الرسل من الإنس فقط؟ وقوله منكم من باب التغليب، كقوله: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ وهما يخرجان من الماء الملح فقط، أو المراد برسل الجن من كان يستمع إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم ينذر قومه بما سمع: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ والثابت عن ابن عباس: كانت الرسل تبعث إلى الإنس، وإن محمدا صلّى الله عليه وسلّم بعث إلى الجن والإنس، فقد قال الجن: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى [سورة الأحقاف آية 30] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 664 فماذا قالوا عند ما قيل لهم: ألم يأتكم رسل منكم في الدنيا؟! قالوا: نعم ... أتتنا الرسل وقصت علينا أحسن القصص، وبشرتنا وأنذرتنا ببليغ الكلم، يا عجبا لهم شهدوا على أنفسهم بهذا، وقد كانوا في الدنيا مخدوعين بها، مغرورين بمالها وجاهها وبريقها!!! فهم قد شهدوا على أنفسهم بأنهم كانوا كافرين. وللقيامة مواقف، فتارة يعترفون بإرسال الرسل إليهم، وتارة لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون، وتارة تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم بما كانوا يعملون وتارة يكذبون ويقولون: ما كنا مشركين. ذلك الذي ذكر من إرسال الرسل للخلق، تقص الآيات، وتتلوا البينات، لإصلاح حال الأفراد والجماعات، في شئونهم الدنيوية والأخروية، كل ذلك بسبب أن الله لم يكن من سنته أن يهلك الأمم ظالما وهم غافلون عما يجب عليهم، بل لا بد من إرسال الرسل لتنير الطريق، وتهدى السبيل فمن عصى بعد ذلك استحق العقاب، ومن آمن وعمل صالحا استحق الثواب: وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا فالله لا يظلم أحدا من خلقه، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، فاعتبروا أيها المسلمون، واعلموا أن ما نزل بكم إنما هو نتيجة لترك الدين وما فيه، واعلموا أن لكل عامل درجات ومراتب مما عمل، وجزاء عليه إن خيرا فخير وإن شرّا فشر، وما ربك بغافل عما تعملون. تهديد وإنذار [سورة الأنعام (6) : الآيات 133 الى 135] وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 665 المفردات: يُذْهِبْكُمْ: يهلككم. مِنْ ذُرِّيَّةِ: من نسل قوم آخرين. مَكانَتِكُمْ: حالكم التي أنتم عليها. المعنى: وربك الغنى عن خلقه وعن عبادتهم، والكل فقير إلى رحمته وعفوه، يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ «1» وهو ذو الرحمة بأوليائه وأهل طاعته، رحمته وسعت كل شيء، إذ كل ما عداه محتاج إليه في وجوده وبقائه. إن يشأ يذهبكم يا أهل مكة ويأت بخلق غيركم أفضل منكم وأطوع، وإن يشأ يستخلف من بعدكم من يشاء من الأقوام فإنه هو الغنى القادر على إهلاككم وإنشاء قوم آخرين من ذريتكم أو ذرية غيركم، يكونون أسمى منكم روحا وأصفى منكم نفسا، وقد صدق الله وعده، فأذهب المستكبرين المعاندين الجاحدين من زعماء الشرك، واستخلف من بعدهم قوما آخرين هم الصحابة والسابقون من الأنصار والمهاجرين، وبعد هذا الإنذار في الدنيا، إنذار في الآخرة، وهو: إن ما توعدون من جزاء وثواب آت لا شك فيه، وما أنتم بمعجزين الله بهرب ولا بمنع، وهو القاهر فوق عباده. قل لهم يا محمد: يا قوم اعملوا على مكانتكم وطريقتكم التي أنتم عليها، إنى عامل على طريقتي ومكانتى التي هداني إليها ربي، ورباني عليها، ولسوف تعلمون من تكون له العاقبة الحسنة والنهاية العظمى. قال الزمخشري في تفسيره «الكشاف» : اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ تحتمل وجهين: اعملوا على تمكنكم وأقصى استطاعتكم. وإمكانكم واعملوا على جهتكم وحالكم التي أنتم عليها، والمراد اثبتوا على كفركم وعداوتكم فإنى ثابت على الإسلام، فسوف تعلمون الذي تكون له العقبى يوم القيامة، وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «2» وهذا إنذار لطيف المسلك دقيق المآخذ، مع التوجيه إلى النظر والفكر وحسن الأدب وبيان السبب في الحكم للنبي صلّى الله عليه وسلّم إذ لا يفلح الظالمون لأنفسهم بالكفر.   (1) سورة فاطر آية 15. [ ..... ] (2) سورة سبأ آية 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 666 صور من جاهلية العرب [سورة الأنعام (6) : الآيات 136 الى 140] وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136) وَكَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَما يَفْتَرُونَ (137) وَقالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَقالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَمُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (140) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 667 المفردات: ذَرَأَ أى: خلق وأبدع. أَوْلادِهِمْ الولد: يطلق على الذكر والأنثى. لِيُرْدُوهُمْ: ليهلكوهم بالإغواء. وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ: يخلطوا عليهم دينهم. حِجْرٌ الحجر: أصله المنع، ومنه سمى العقل حجرا لمنعه صاحبه، والمراد الحرام. وَصْفَهُمْ أى: جزاء وصفهم. المعنى: أثر من آثار وسوسة الشيطان للإنسان وعمل من أعمال إبليس، وصورة من صور الجاهلية الجهلاء، التي كان عليها العرب قبل الإسلام. وجعلوا لله مما خلق من الحرث والأنعام نصيبا مفروضا وقدرا محدودا، وجعلوا كذلك نصيبا لمن أشركوهم مع الله من الأوثان والأصنام، فقالوا: هذا لله بزعمهم وبقولهم الذي لا بينة معه ولا حجة فيه. وهذا لشركائنا ومعبوداتنا، نتقرب به إليها. والمروي أنهم كانوا يجعلون في مالهم نصيبا لله ينفقونه لإطعام الفقراء والمساكين وإكرام الضيفان والصبيان، ونصيبا للآلهة يعطى لسدنتهم وخدمهم، وما ينفق على معابدهم، وما كان لشركائهم خاصة لا يصرف إلى الوجوه التي جعلوها لله، بل يجعلونه للسدنة وخدمة الأصنام والأوثان، وما كان لله فهو واصل إلى شركائهم، ألا ساء الحكم حكمهم وبئس ما يصنعون!؟؟ إذ هم اعتدوا على الله بالتشريع الفاسد، وأشركوا به غيره، وفضلوه عليه. والحال أن الله هو الذي خلق كل شيء، وما عملوه لا سند له من عقل أو شرع، أليست هذه جاهلية جهلاء وضلالة عمياء؟؟ ومثل ذلك التزيين لقسمة القرابين من الحرث والأنعام بين الله والآلهة زين لكثير من المشركين شركاؤهم قتل أولادهم. وكان مظهر التزين أنهم خوفوهم الفقر في الحاضر والمستقبل وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ «1» وخوفوهم العار، فقتلوا البنات خوف العار والفقر والزواج من غير الكفء.   (1) سورة الإسراء آية 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 668 وثالثة الأثافى أنهم كانوا يمنّونهم بأن قتلهم أولادهم قربى إلى الآلهة كما فعل عبد المطلب حين نذر قتل ابنه عبد الله. وقد سمى الله المزينين لهم من شياطين الإنس كالسدنة، أو شياطين الجن سماهم الله شركاء، لأنهم أطاعوهم طاعة الله مع التبجيل والاحترام، كما فعل أهل الكتاب مع رجال الدين: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» ، زين هؤلاء قتل الأولاد ليردوا المشركين ويهلكوهم بالإغواء. وليخلطوا عليهم أمر دينهم الذي يدعونه وهو دين إسماعيل وملة إبراهيم. والواقع أنه ليس فيه شيء من هذا، ولو شاء الله ما فعلوا هذا أبدا، ولكن مشيئة الله للناس جميعا أن يكونوا واختيارهم وما جبلوا عليه من اختيار أى الطريقين بدون جبر ولا قهر. أما أنت يا رسول الله فذرهم ولا يهمنك أمرهم ودعهم وما يفترون في حقك وحقنا. فعلى الله حسابهم. ثم ذكر صورة ثالثة من صور الجاهلية المشوهة. أنهم قسموا أموالهم وأقواتهم إلى ثلاثة أقسام: (أ) فتارة أنعام وأقوات تكون محبوسة على معبوداتهم وأوثانهم، ويقولون هي محجوزة للآلهة لا يطعمها إلا من نشاء من رجال ونساء، وقولهم هذا بزعمهم وادعائهم الخالي من الحجة والبرهان. (ب) أنعام حرمت ظهورها، فلا تركب ولا يحمل عليها، وهي البحيرة والسائبة والحامى. (ج) أنعام لا يذكرون اسم الله عليها عند الذبح بل يهلون بآلهتهم وحدها عند الذبح، وقد قسموا هذا التقسيم مفترين على الله كاذبين عليه، والله من ذلك برىء قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ «2» ؟ والله سيجزيهم الجزاء الذي يستحقونه بما كانوا يفترون.   (1) سورة التوبة آية 31. (2) سورة يونس آية 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 669 وقالوا: ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا، والمراد بها البحائر المشقوقة الآذان والسوائب، وخالصة خلوصا مبالغا فيه لذكورنا فقط ومحرم على نسائنا، وكانت السوائب إذا ولدت ذكرا جعلوه للذكور خاصة، وإذا ولدت أنثى جعلت للنتاج، وإن كان ما في بطنها ميتا جعل شركة بين الذكر والأنثى، سيجزيهم الله جزاء وصفهم، إنه حكيم عليم. ولقد نعى الله- سبحانه وتعالى- على مشركي العرب أمرين عظيمين: هما قتل الأولاد، ووأد البنات، وتحريم ما رزقهم الله من الطيبات، وحكم عليهم بالخسران والسفه، وعدم العلم والافتراء على الله، والضلال وعدم الاهتداء، إذ كيف تقتل ابنتك أو ابنك خشية الفقر أو العار، وتحرم طيبات أحلت لك؟ فأما الخسران فالولد نعمة من الله وزينة في الدنيا، فإذا سعى لإزالتها استحق الغضب من الله لاعتدائه، وقال الناس: إنه قتل ابنه خوف أن يأكل طعامه، وخسر عاطفة الأبوة، التي هي مصدر الرحمة والحنان. وجعلها مصدر الاعتداء والفناء ... وأما السفه فهل هناك سفه أكثر من قتله ابنه وفلذة كبده خوف الفقر أو خوف العار؟ وربما كان الولد مصدر الخير لأهله، وهل من يفعل هذا لا يعد في مصاف الجهلاء؟ أعوذ بالله من عادات الجاهلية. وأما الافتراء على الله، والكذب عليه، فقد جعلوه دينا وهم كاذبون، وأما ضلالهم فهم لم يرشدوا إلى الخير أصلا، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولم يسيروا وراء عقل ولا شرع. أخرجه البخاري: «إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام» . قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ.. إلى قوله.. وَما كانُوا مُهْتَدِينَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 670 قدرة الله ونعمه والرد على المشركين [سورة الأنعام (6) : الآيات 141 الى 144] وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَغَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 671 المفردات: أَنْشَأَ: خلق وأوجد بالتدريج. جَنَّاتٍ: بساتين الكروم والأشجار الملتفة الأغصان. سميت كذلك لأنها تجن الأرض، أى: تسترها. مَعْرُوشاتٍ: محمولات على العرائش والدعائم التي توضع عليها كالسقف مثلا. حَمُولَةً: ما أطاق الحمل والعمل من الإبل والبقر وغيرها. وَفَرْشاً: ما يفرش للذبح من الضأن والمعز وصغار الإبل وغيرها، أو ما يتخذ صوفه للفرش. حَصادِهِ: قطافه. الضَّأْنِ: ذوات الصوف من الغنم. الْمَعْزِ: وهي ذوات الأشعار والأذناب القصار من الغنم. المناسبة: لما افترى الكفار على الله الكذب، وأحلوا وحرموا، وأشركوا معه غيره، دلهم على وحدانيته تعالى، ومظاهر قدرته، وأنه مصدر التشريع والتحريم لأنه هو الخالق وحده، المبدع لهذه الكائنات، وصاحب هذه النعم الجليلة. المعنى: وربكم القادر الرحيم بكم، الرحمن، هو الذي أنشأ تلك الجنان، وأبدع هذه البساتين، سواء منها المعروش القائم على العمد والسقف كبستان العنب، وغير المعروش كبقية الفواكه والأشجار، حتى العنب نفسه فيه المعروش وغير المعروش، وأنشأ النخل، وخص بالذكر لكثرته عند العرب، وشيوعه في بلادهم وانتفاعهم بكل ما فيه، حتى ضربوه مثلا للمؤمن ينتفع بكل أجزائه، وأنشأ الزرع الشامل لكل ما يزرع ويحرث مما هو أساس القوت وغيره كالقمح والشعير وغيرهما، وهذا النخل والزرع مع أنه يسقى بماء واحد، وفي تربة واحدة متشابهة في المنظر العام، إلا أنه يختلف في الأكل، فهذا الجيد، وذاك المتوسط أو الرديء، وهذا الحلو، وذلك المر ... إلخ. فسبحانك يا رب!! أنت القادر الحكيم. وأنشأ الزيتون والرمان متشابها في المنظر العام، وغير متشابه في الطعم والأكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 672 يا سبحان الله!! هذه التغيرات خلقت بطبعها أم لا بد لها من مغير؟ وهل هو الله سبحانه أو غيره من الشركاء والأصنام؟ أليس هو الله الرحمن الرحيم؟ ولو شاء لخلقنا ولم ينعم علينا بغذاء جميل المنظر، لذيذ الطعم، سهل التناول. أليس هذا من مظاهر القدرة الكاملة والحكمة التامة والوحدانية الشاملة للذات والصفات والأفعال؟ فهذا الماء ذو الكثافة من رفعه في العود الأخضر إلى أعلى؟ حتى انتهى إلى ورق أخضر، ولون أزهر وجنى جديد، وطعم لذيذ، وشكل جميل، وهذا غذاء النحل يصير عسلا، وغذاء الظبى يصير مسكا، وغذاء الحيوان يصير روثا!! أين من يقولون خلق الكون بالطبع؟ أين من يكفرون بالرحمن؟! أين من يعصون الله في أرضه وتحت سمائه؟!! كلوا أيها الناس من ثمر هذا الزرع والجنات إذا أثمر، واشكروا نعمه عليكم، بأن تؤتوا حقه الذي فرض عليكم يوم حصاده وقطافه، قبل أن تشح به نفوسكم. ففيه حق معلوم للسائل والمحروم، وهذه هي الزكاة المطلقة التي وجبت في صدر الإسلام، ثم كانت الزكاة المقيدة المحددة الواجبة في الآيات المدنية، وها هي الأيام تثبت أن نظرية القرآن في وجوب الزكاة على الأغنياء كانت لمصلحة الأغنياء قبل الفقراء. ولا تسرفوا فالإسراف خطأ مطلقا ولو في الشيء الحلال، ولا تسرفوا في الأكل، ولا تسرفوا في التصدق، وقد قيل: لا سرف في الخير ولا خير في السرف، والرأى هو التوسط. وأنشأ من الأنعام كبارا تصلح للحمل والعمل، وصغارا كالفصلان والغنم والمعز مثلا، تفرش على الأرض للذبح، ويتخذ من شعرها ووبرها فرشا ولباسا. كلوا مما رزقكم الله، وانتفعوا بلحمها ولبنها ووبرها وشعرها، ولا تتبعوا خطوات الشيطان، فتحرموا ما أحل الله أو تحلوا ما حرم الله، فإن الشيطان عدوكم اللدود. إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ «1» وهذه الأنعام ثمانية أزواج، فهي إبل وبقر وغنم ومعز، وكل منها ذكر وأنثى، وقد أنشأ الله من الضأن   (1) سورة البقرة آية 169. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 673 اثنين: الكبش والنعجة، ومن المعز اثنين: التيس والعنزة، ومن الإبل اثنتين: الجمل والناقة، ومن البقر اثنتين: الثور والبقرة، قل لهم أيها الرسول تبكيتا وتوبيخا: أحرّم الله الذكرين من الكبش والتيس؟ أم حرم الأنثيين من النعجة والعنزة؟ نبئونى بعلم إن كنتم صادقين!! أم الله حرم الذكرين من الجمل والثور؟ أم حرم الأنثيين من الناقة والبقرة؟!! أم حرم الله ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين؟ وقد كان المشركون في الجاهلية يحرمون بعض الأنعام كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، فاحتج- سبحانه وتعالى- عليهم بأن لكل من الضأن والمعز والإبل والبقر ذكرا وأنثى، فإن كان قد حرم منها الذكر وجب أن يكون كل ذكورها حراما، وإن كان حرم- جل شأنه- الأنثى وجب أن يكون كل إناثها حراما، وإن كان حرم ما اشتملت عليه أرحام الأنثيين، وجب تحريم الأولاد كلها. والله- تعالى- ما حرم عليهم شيئا من هذه الأنواع، وإنهم لكاذبون في دعوى التحريم، وقد فصل الله ذلك أتم تفصيل، مبالغة في الرد عليهم، ثم زاد في الإنكار فقال: بل أكنتم حضورا؟ أو قد وصاكم الله بهذا؟ كلا ما حصل هذا ولا ذاك، وإنما أنتم تفترون على الله الكذب، وتقولون على الله ما لا تعلمون، وبعد أن نفى طريق العلم. وهو التلقي من الرسل، أو من الله، أثبت أنه لا أحد أظلم ممن ثبت أنه افترى على الله الكذب، فيضل الناس بغير علم. أما جزاؤكم: فإن الله لا يهدى القوم الظالمين، ولا يوفقهم إلى الخير أصلا. ما حرمه القرآن وما حرمته التوراة من المأكولات [سورة الأنعام (6) : الآيات 145 الى 147] قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145) وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 674 المفردات: مُحَرَّماً: محظورا أو ممنوعا. طاعِمٍ يَطْعَمُهُ: آكل يأكله. مَسْفُوحاً: مصبوبا سائلا يجرى من المذبوح. رِجْسٌ قذر قبيح. شُحُومَهُما: المراد الشحم الرقيق الذي يكون على الكرش، وكذا الشحم الذي يكون على الكلية. الْحَوايا: مجتمع الأمعاء في البطن. بَأْسُهُ: عذابه. المعنى: قل يا محمد: لا أجد فيما أوحى إلى محرما إلا هذه الأشياء، لا ما تحرمونه أنتم بشهوتكم، ووسوسة الشياطين لكم، والآية مكية، وقد أشارت إلى المحرمات بالجملة، ثم فصلت المحرمات في آية المائدة رقم (3) وحرم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المدينة «أكل كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير» على ما هو مفضل في كتاب الصيد والذبائح من كتب الفقه. لا أجد في الذي أوحى إلى شيئا محرما على طاعم وآكل يأكله إلا هذه الأربعة، والمحرم في لسان الشرع: هو المحظور الممنوع، وفي اللغة عام يشمل المكروه، ولهذا اختلف العلماء فيما حرمه النبي صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 675 إنما حرم عليكم الميتة وهي ما ماتت حتف أنفها بغير ذبح شرعي، وذلك يشمل المخنوقة والموقوذة والمتردية والنطيحة ونحوها، والدم المسفوح السائل يجرى من المذبوح، أما الجامد كالكبد والطحال فحلال، وفي الحديث: «أحل لنا ميتتان: السمك والجراد، ودمان: الكبد والطحال» ولحم الخنزير وما يشبهه كالكلب فإن هذا كله رجس وقذارة، تعافها النفوس الطيبة وهو ضار بالبدن، وحرم كذلك ما أهل لغير الله به، وما ذبح على النصب والأزلام. والمعنى: إلا أن يكون ميتة ... أو فسقا أهل لغير الله به: وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ... ومن أصابته ضرورة ملحة إلى أكل المحرم فهو حلال له بشرط ألا يكون باغيا له وقاصده لذاته، وبشرط ألا يكون معتديا ومتجاوزا حد الضرورة، فإن ربك غفور للذنوب رحيم بالعباد، فلا يؤاخذ شخصا يأكل ما يسد به مخمصته، أو يدفع ضرر هلاكه. هذا ما حرم في شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم بالإجمال، وما حرمه الله على اليهود خاصة كان تحريما مؤقتا، عقوبة لهم لا لذاته: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً [سورة النساء آية 160] . وعلى الذين هادوا- خاصة- حرمنا عليهم كل ذي ظفر، أى: ما ليس منفرج الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط، كما ورد، وحرمنا عليهم من البقر والغنم دون غيرهما شحومها الزائدة التي تنتزع بسهولة، وهو ما على الكرش والكلى، أما الشحوم التي على الظهر وفي الذيل أو ما اختلط بعظم فحلال، بدليل قوله: إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما وإلا ما حملته الأمعاء، فتلخص أن المحرم عليهم من الشحوم هو شحم الكرش والكلى فقط. وإنما حرم الله عليهم ذلك عقوبة لهم في قتلهم الأنبياء بغير حق، وصدهم عن سبيل الله، وأخذهم الربا، واستحلالهم أموال الناس بالباطل. وفي ذكر هذا تكذيب لليهود في قولهم: إن الله لم يحرم علينا شيئا، وإنما حرمنا على أنفسنا ما حرمه إسرائيل على نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 676 ولما كان هذا إخبارا عن شيء جرى قديما لم يكن للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولا لأحد من قومه علم به قال: وَإِنَّا لَصادِقُونَ ومن أصدق من الله حديثا؟ فإن كذبوك بعد هذا، وقالوا: إن الله رحيم واسع الرحمة، كريم، فكيف يحرم ما أحله؟ قل لهم: نعم ربكم ذو رحمة واسعة، ولكن من عصى وبغى لا بد من عقابه، فإنه لا يرد بأسه عن القوم المجرمين في حق أنفسهم وحق الله. شبهة واهية [سورة الأنعام (6) : الآيات 148 الى 150] سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) المفردات: تَخْرُصُونَ الخرص: الحزر والتخمين، والمراد: تكذبون. الْحُجَّةُ: الدلالة المبينة للدين الحق. هَلُمَّ أى: أحضروا. يَعْدِلُونَ: يتخذون له عدلا مساويا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 677 المعنى: بعد أن ألزمهم بالحجة، أخبر الله عنهم أنهم سيتمسكون بحجة أوهى من بيت العنكبوت، فقال: سيقولون ... ولما قالوا بالفعل حكى عنهم في آية أخرى: وقالوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا. لو شاء الله ألا نشرك نحن ولا آباؤنا من قبل وألا نحرم شيئا من البحيرة والسائبة والحام، لما أشركنا ولما أشرك آباؤنا من قبل، ولما حرموا شيئا، ولكن شاء أن نشرك به غيره من الأولياء والشفعاء ليقربونا إلى الله زلفى، بدليل وقوعه بالفعل، وكذلك تحريمنا بعض الأنعام والحرث، والله عالم بكل ما يحصل، قادر على تغييره بما يشاء وإتياننا إياها دليل على مشيئته تعالى، وعلى رضاه وأمره بها: وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ.. [سورة النحل آية 35] . مثل ذلك التكذيب الذي صدر من المشركين العرب للنبي صلّى الله عليه وسلّم فيما جاء به من الوحدانية لله، وقصر التشريع عليه- سبحانه وتعالى- كذب الذين من قبلهم رسلهم تكذيبا غير مبنى على حجة من العلم والعقل، إذ لو كانت مشيئة الله- تعالى- معناها رضاه عن عملهم، لما عاقبهم على أعمالهم حتى ذاقوا بأسه، وقال فيهم: أخذناهم بذنوبهم. قل: هل عندكم من علم وحجة تحتجون بها وتعتمدون عليها، فتخرجوها لنا حتى تقرع الحجة بالحجة، وحتى يعرف الراجح بدليله وحجته من غيره الذي لم يعتمد على حجة وبرهان؟ الواقع أنكم ما تتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس، فلا يقين معكم ولا حجة عندكم، إن أنتم إلا تخرصون وتكذبون، قل لهم يا محمد: فلله الحجة البالغة، بما بيّن من الآيات، وأيد الرسل بالمعجزات، وألزم أمره كل مكلف، فأما إرادته وعلمه وكلامه فغيب لم يطلع عليه أحد. ألم تر أن العبد لو أراد أن يفعل الخير لفعل، ولا مانع يمنعه، مع العلم بأن هناك لافتات بالخط الواضح العريض كتب عليها: «يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 678 أقصر» كان، وللخير ثواب عظيم وللشر عقاب وعذاب أليم يوم القيامة، ذلك هو أساس التكليف ومناط الثواب والعقاب. ولقد ذم الله هؤلاء المشركين لتعنتهم بالباطل، والحجج الواهية، لأنهم قالوا هذا عن هزؤ وسخرية، ولم يجتهدوا وينظروا نظر عقل وتدبر، ولو شاء الله لهداكم، وجعلكم من عباده المتقين، ولكن أراد أن يخلقكم ويترككم واختياركم فلا سلطان ولا قهر فيما كلفكم به، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، قل لهم: أحضروا شهداءكم الذين يشهدون لكم أن الله حرم هذا وإن شهدوا على سبيل الفرض فلا تشهد معهم، فهم الكاذبون ولا تتبع أهواء الذين كذبوا بآياتنا، والذين لا يؤمنون بالآخرة وأحوالها، وما فيها من حساب أمام الله- سبحانه- وهم بربهم يعدلون.. أصول المحرمات والفضائل في الإسلام [سورة الأنعام (6) : الآيات 151 الى 153] قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 679 المفردات: تَعالَوْا: أقبلوا، والأصل أن يقوله من كان في مكان عال لمن هو أسفل منه، ثم كثر واتسع فيه حتى عم. أَتْلُ: أقرأ. إِمْلاقٍ: فقر. الْفَواحِشَ: ما عظم جرمه وذنبه، كالكبائر أو الخطيئة التي بلغت الغاية في الفحش. أَشُدَّهُ : كمال رجولته، وتمام حنكته ومعرفته. المعنى: لما بيّن الله- سبحانه وتعالى- فساد رأى المشركين فيما أحلوا وحرموا، وبين المحرمات شرعا- بالإجمال- في الطعام، أخذ في هذه الآية يبين أصول الفضائل، وأنواع البر، وأصول المحرمات والكبائر، ليعلم الناس أسس هذا الدين؟ وكيف دعا إلى الخير والبر، من أربعة عشر قرنا؟ في وقت سادت فيه الجاهلية الجهلاء، والضلالة العمياء!! أليست هذه الآيات من دلائل الإعجاز وعلامات صدق النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ قل لهم: أقبلوا علىّ واحضروا، أقرأ عليكم الذي حرمه ربكم لتجتنبوه وتتمسكوا بضده، أقبلوا على أيها القوم. لتروا ما حرّم عليكم من ربكم، الذي له وحده حق التشريع والتحليل والتحريم، وأنا رسوله ومبلغ عنه فقط، تقدموا واقرءوا حقا يقينا لا شك فيه، كما أوحى إلىّ ربي، لا ظنّا ولا كذبا- كما زعمتم- وها هي ذي الوصايا العشر: خمس بصيغة النهى، وخمس بصيغة الأمر. 1- الإيمان بالله وعدم الإشراك به أساس الإسلام ولبه، ودعامته وروحه، ولذا بدأ به: ألا تشركوا بالله شيئا من مخلوقاته، وإن عظم في الخلق والشكل كالشمس والقمر، أو في المكانة كالملائكة والنبيين، فالكل- مهما كان- مخلوق مسخر له تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 680 إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً «1» فيجب عليكم أن تخصوه وحده بالعبادة والتعظيم الحقيقي، والتقديس والدعاء والإجلال: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ [سورة الإسراء آية 44] . 2- وبالوالدين إحسانا: أى أحسنوا إلى الوالدين إحسانا كاملا، بإخلاص لله سبحانه، فما بالكم بالإساءة مهما قلت؟! وأما العقوق فكبيرة من الكبائر، والقرآن الكريم قرن الأمر بعبادة الله بالإحسان للوالدين، وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً «2» . أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ «3» ولقد روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود قال: سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أى العمل أفضل؟ قال: «الصلاة لوقتها» . قلت: ثم أى؟ قال: «بر الوالدين» قلت: ثم أى؟ قال: «الجهاد في سبيل الله» . وهذا دليل على عظم العناية بحقوقهما وعلى أن مكانتهما تستحق ذلك، فهما قد خلقا الجسم في الظاهر، والله سبحانه هو الخالق حقيقة وفي الواقع ... والمراد بالإحسان إليهما معاملتهما معاملة كريمة، معاملة مبنية على العطف والمحبة، لا الخوف والرهبة، فبرهما سلف لك ودين، فقد ورد في الحديث «بروا آباءكم تبركم أبناؤكم» . وأنت في شبابك قد لا تحتاج إلى الغير. ولكن في كبرك محتاج إلى من يعينك، ويقوم بأمورك، ومحبة الوالد لولده غريزة من الغرائز، فلم يوص عليها الشرع، ومحبة الولد لوالديه جزاء ومكافأة لهما، ولذا نبه القرآن عليهما وشدد، على أن عقوق الوالدين يفسد الأبناء وتكوينهم وينشئهم على الغلظة وعدم الشفقة، وعلى الوالدين حسن الرعاية والعناية والعطف عليهم، وعدم التحكم في المسائل الشخصية الخاصة إلا بقدر محدود. 3- ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم: أليس وأد البنات، وقتل الذكور سبة وعارا؟ أليس دليلا على الجاهلية والقسوة بل ومنتهى الغلظة؟ التي تخالف غرائز الإنسان وطبائعه؟ ولم تقتلون؟ ألفقر حاصل؟ أم لفقر متوقع؟ أم لعار سيلحق؟ فالله يرزقكم وإياهم، فلا تخافوا الفقر الحاصل والله يرزقهم وإياكم، فلا تخشوا الفقر المتوقع، وأما العار خوف الفضيحة، فيرجع إلى البيئة وحسن التنشئة. 4- ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن: نعم لا تأتوا الفواحش وما عظم جرمه وإثمه، بل ولا تأخذوا بأسبابه، ولا تقربوا من مقدماته، ومن هنا كان النظر إلى   (1) سورة مريم آية 93. (2) سورة الإسراء آية 23. (3) سورة لقمان آية 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 681 الأجنبية والاختلاط بها حراما، لأنه مقدمة للزنا والباب إليه، ونحن منهيون عن القرب من الفواحش- كالزنا وقذف المحصنات المؤمنات الغافلات- سواء ما ظهر منها، وما بطن، وكانوا في الجاهلية لا يرون بأسا في الزنا سرا، أما في العلانية فكانوا يعدونه قبيحا، فحرم الله النوعين، وقد ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا أحد أغير من الله، حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن» . 5- ولا تقتلوا النفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق، فالقتل جريمة كبرى، واعتداء شنيع على صنع الخالق الذي أتقن كل شيء خلقه، ومن هنا كان من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله- سبحانه وتعالى- وقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منى دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله» ، وفي الحديث: «لا يحل دم امرئ مسلم إلا بثلاثة أمور: كفر بعد إيمان، وزنا بعد إحصان، وقتل نفس بغير حق» فكل نفس مسلمة قتلها حرام إلا إن ارتكبت إحدى ثلاث، الزنا مع الإحصان، والقتل عمدا، والردة عن الإسلام، وأما الكافر والمعاهد المقيم بيننا فله حرمة، فلا يقتل ما دام لم تكن منه إساءة للدين من قرب أو بعد، أو إساءة للوطن كذلك، ذلكم وصاكم به الله، وأرشدكم، لتعقلوا الخير والمنفعة في فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه، إذ هو مما تدركه العقول، وفي هذا تعريض بأن ما هم عليه لا يعقل له معنى، ولا تظهر له فائدة عند ذوى العقول الراجحة. 6- ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن، ولا تأكلوا من ماله إذا تعاملتم معه إلا على الصورة التي هي أحسن في حفظ ماله وتثميره، والإنفاق منه على تربيته وتعليمه، وما به يصلح معاشه، والنهى عن القرب عن الشيء أبلغ من النهى عن الشيء نفسه، لا تقربوه حتى يبلغ أشده. أى: حتى يبلغ مبلغ الرجال. ويصير ذا حنكة وتجربة تمكنه من إدارة ماله. على وجه حسن. ويكون ذلك عادة بين الخامسة عشرة والثامنة عشرة. فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ [سورة النساء آية 6] . 7، 8- وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، نعم أوفوا الكيل إذا كلتم، أى: إذا بعتم أو اشتريتم، وكذلك زنوا بالقسطاس المستقيم في البيع والشراء، فالتطفيف في الكيل والزيادة في الوزن والنقص فيهما كل ذلك من الكبائر، لما يترتب عليه من هضم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 682 للحقوق وضياع للأموال، واعتداء على الغير بوجه غير مشروع: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ. لا نكلف نفسا إلا وسعها وجهدها وطاقتها، فهذه الوصايا كلها في مقدور المؤمن العادي، وأما خصوص الكيل والميزان، فالمأمور به ما يدخل تحت وسعه وإمكانه، وما عداه فمعفو عنه. 9- وإذا قلتم فاعدلوا، ولو كان ذا قربى، أى: فاعدلوا في القول ولا تتجاوزوا فيه الحد المقبول شرعا، ولو كان الذي تقولون فيه من ذوى القربى. إذ بالعدل تبنى أسس الدولة، وتصلح شئون الأمم والأفراد. فهو ركن العمران، وأساس النجاح: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ [سورة المائدة آية 8] . 10- وبعهد الله أوفوا: أى وأوفوا بعهد الله إذا تعاهدتم، سواء أكان عهدا بين الله والناس على ألسنة الرسل في الكتب المنزلة، أو بين الناس وبعضهم: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا. أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ ذلكم وصاكم الله بهذا لعلكم تذكرون وتتعظون، أى: رجاء أن يذكره بعضكم لبعض في التعليم والتواصي الذي أمر الله به. وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، نعم هذا هو القرآن الذي أدعوكم إليه. صراط الله المستقيم، الذي لا عوج فيه، بل فيه سعادة الدنيا والآخرة وهو حبل الله المتين، من تمسك به نجا، ومن اعتصم به هدى، وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ولا تتبعوا السبل فتضلوا عن طريق الحق والخير: «ولقد خط رسول الله صلّى الله عليه وسلّم خطا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما، ثم خط خطوطا أخرى عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: وهذه السبل، ليس فيها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ. نعم الحق واحد، والنور واحد، والإله واحد، والباطل متعدد الألوان والأشكال، والظلمات كثيرة الأنواع: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ. قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ولا تتبعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 683 الطرق المختلفة في الدين أو غيره فتفرقكم أيدى سبأ، وتصبحوا نهبا للخلافات والأحزاب، التي تمزقكم شر ممزق: ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ تتقون الله وتخشونه في كل أوامره وفعلها، ونبذ النواهي وتركها، ولقد كرر التوجيه على سبيل التوكيد، ولما كان الصراط المستقيم هو الجامع لنواحى الدين في تكاليفه، ختم ذلك بالتقوى التي هي السبيل الأقوى، واتخاذ الوقاية من النار، إذ من اتبع صراطه المستقيم نجا النجاة الأبدية وحصل على السعادة السرمدية. روى عن ابن مسعود- رضى الله عنه- أنه قال: من سره أن ينظر إلى وصية محمد صلّى الله عليه وسلّم التي عليها خاتمه، فليقرأ هؤلاء الآيات: قُلْ تَعالَوْا.. إلى قوله تعالى: تَتَّقُونَ وروى عن الربيع بن خيثم: «أيسرك أن تلقى صحيفة من محمد صلّى الله عليه وسلّم بخاتمه؟ قلت: نعم. فقرأ هذه الآيات من آخر سورة الأنعام: قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ.. إلى قوله: تَتَّقُونَ. القرآن مع من يؤمن به ويكفر [سورة الأنعام (6) : الآيات 154 الى 157] ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 684 المفردات: طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا: هم اليهود والنصارى. دِراسَتِهِمْ: قراءتهم وعملهم. بَيِّنَةٌ البينة والبيان: ما به يظهر الحق. وَصَدَفَ عَنْها: ومنع الناس عنها. المعنى: لقد تكلم القرآن الكريم على أسس الدين وأصوله، ووصاياه، ثم قفّى ذلك بالحديث عن القرآن وأثره، ورد بعض شبه المعاندين، وافتتح ذلك بالكلام على التوراة، فهي أشبه بالقرآن من الإنجيل والزبور، لاشتمالها على الأحكام كثيرا. قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ وهو: كذا وكذا، إلى آخر الوصايا العشر السابقة، ثم أخبركم بأنا آتينا موسى الكتاب من قبل تماما للنعمة والكرامة والخير والهداية على المؤمن المحسن. نعم كان تماما على من أحسن، ويؤيد هذا المعنى قراءة من قرأ: (تماما على الذين أحسنوا) ، أى: في اتباعه والنظر فيه، والاهتداء بهديه وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن وتفصيلا لكل شيء، من أحكام الشريعة: عبادتها ومعاملتها، وهدى لمن اهتدى به، ورحمة لمن تمسك به، ليجعل قومه محل رجاء للإيمان بالله، والفوز في دار الكرامة ودار السلام. أرأيت إلى القرآن وهو يصف التوراة بهذا؟ وهذا القرآن الذي تليت عليكم آياته البينات بأسلوبه العربي المعجز، هو الكتاب لا ريب فيه وأنزلناه كثير البركات عظيم الشأن، كثير الخير، في الدين والدنيا، قد جاء بأكثر مما جاءت به التوراة، فاتبعوا ما هداكم إليه واجتنبوا ما نهاكم عنه، فهو حبل الله المتين، ونوره اليقين، جمع طريق الفلاح في الدنيا والآخرة، فاعملوا به لعلكم ترحمون في حياتكم ومماتكم. أنزلنا إليكم هذا الكتاب المرشد إلى توحيد الله، والهادي إلى سبيله، والموصل إلى تزكية النفوس وتطهيرها من أدران الشرك والفسوق والعصيان، لئلا تقولوا أيها العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 685 يوم الحساب: إنما أنزل الكتاب على اليهود والنصارى من قبلنا، وإن كنا عن دراستهم وقراءة كتبهم وتفهمها لغافلين، لا ندري ما هي؟ لأنها بلسان غير عربي. ولأنا مشغولون. بغيرها ولم ندع إليها. ولئلا تقولوا كذلك: لو أنا أنزل علينا الكتاب الهادي إلى سواء السبيل لكنا أهدى منهم، وأحسن حالا لصفاء نفوسنا، وقوة عزائمنا، وذكاء عقولنا وإرهاف إحساسنا وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فرد الله عليهم بقوله تبكيتا لهم وتأنيبا: إن صدقتم فيما تقولون، فقد جاءكم كتاب بيّن الحق واضح الحجج، قوى البرهان، تام الأصول والفروع والأحكام، فهو البينة الفاصلة، والحجة الكاملة، وهو هاد لمن تدبره واتعظ به، ورحمة عامة للناس، لما فيه من الدعوة إلى المثل العليا زيادة عن الدعوة إلى الدين الحق، وإذا كان الأمر كذلك، فمن أظلم ممن كذّب بآيات الله؟. نعم لا أحد أظلم ممن كذب بآيات الله! التي على هذا الوصف ومنع الناس عنها، وعن النظر فيها والإيمان بها وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ سنجزى الذين يمنعون الناس عن الإيمان بآياتنا العذاب السيئ الشديد، إذ هم يحملون أوزارهم وأوزارا مع أوزارهم: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ. تهديد وإنذار [سورة الأنعام (6) : آية 158] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158) المفردات: يَنْظُرُونَ: ينتظرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 686 المعنى: بعد ما وصف الله القرآن وأثره، وأنذر من يكذبه بصارم العقاب، أتبع هذا بحقيقة المشركين وما ينتظرون، هل ينتظر هؤلاء إلا أن تأتيهم الملائكة كما اقترحوا؟ أو يأتى ربك كما طلبوا وقالوا: لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا، أو تأتيهم بعض آيات ربك التي اقترحوها بكفرهم كقولهم: أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا.. ونحو ذلك، فهم في الحقيقة لا ينتظرون إلا مجيء الملائكة، أو مجيء ربك، أو مجيء بعض آيات ربك، فهم متمادون في التكذيب، ولا أمل فيهم أبدا، ولا خير فيهم أصلا، وقيل: هم لا ينتظرون إلا ملائكة الموت أو أمر الله، أى: وعده ووعيده. لْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة النحل آية 23] يوم يأتى بعض آيات ربك: الآيات الدالة على قرب قيام الساعة، أو بعض الآيات الموجبة للإيمان الاضطراري، لا ينفع هذا الإيمان نفسا لم تكن آمنت من قبل، فإن الإيمان تكليف وعمل واختيار، وليس في هذا الوقت واحد منها، ولا ينفع هذا الإيمان نفسا آمنت من قبل، ولم تعمل عملا صالحا. إذ ليس الإيمان وحده كافيا في سقوط العذاب عن الشخص، بل لا بد من إيمان وعمل، ولذلك كان القرآن دائما يقرن الإيمان بالعمل: إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً، إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ. وقد ورد في الحديث أن بعض الآيات هي طلوع الشمس من المغرب ، واضطراب هذا الكون ... أخرج أحمد، والترمذي عن أبى هريرة: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل: طلوع الشمس من مغربها، والدجال، ودابة الأرض» . قل لهم يا محمد: انتظروا ما تتوقعون من إماتة الدعوة، وقتل الرسول، وهلاك الدين، إنا منتظرون أمر ربنا ووعده الصادق لنا، ووعيده المتحقق لأعدائنا فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ. اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ. وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 687 وهذا تهديد ووعيد شديد، إذ هم ينتظرون أمرا قد قضى الله فيه، إذ أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. عاقبة الاختلاف والجزاء على العمل [سورة الأنعام (6) : الآيات 159 الى 160] إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (160) روى أبو داود والترمذي عن معاوية قال ما معناه: قام فينا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: «ألا إن من كان قبلكم من أهل الكتاب افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة (ملة) وستفترق أمتى على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون فرقة في النار، وفرقة واحدة في الجنة، وهي الجماعة» . وعلى هذا تكون الآية الكريمة شاملة لأهل الكتاب، ولغيرهم من فرق المسلمين، وهي مسوقة للتحذير من الاختلاف واتباع الآراء والبدع والمتشابهات، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم، واختلافهم على شرع أنبيائهم وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ [سورة آل عمران آية 105] وقد ورد: اللهم إيمانا كإيمان العوام، إيمان بعيد عن الشبه والخلافات الضارة. إن الذين فرقوا دينهم واختلفوا فيه، وأقروا ببعض وكفروا ببعض، وأوّلوا نصوصه على حسب أهوائهم ونزعاتهم، وكانوا شيعا كل شيعة تدين برأى إمامهم، وتتعصب له، لست أنت يا رسول الله من قتالهم وسؤالهم وعقابهم في شيء، وإنما عليك تبليغ الرسالة، وإظهار شعائر الدين الحق الذي أمرت بالدعوة إليه، أنت يا محمد برىء منهم وهم منك براء، إنما أمرهم وحسابهم على الله وحده، ثم ينبئهم في الآخرة ويجازيهم أحسن الجزاء بما كانوا يفعلون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 688 روى البخاري ومسلم عن ابن عباس- رضى الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه قال: «إن الله تعالى كتب الحسنات والسيئات فمن همّ بحسنة ولم يفعلها كتبت له عند الله حسنة كاملة، فإن هو همّ بها فعملها كتبها الله له عنده عشر حسنات، إلى سبعمائة ضعف، إلى أضعاف كثيرة، ومن هم بسيئة ولم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، فإن هو هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة» . من جاء يوم القيامة بالخصلة الحسنة، والفعلة الطيبة، جازاه الله عليها عشر حسنات والمضاعفة بعد ذلك إلى سبعمائة أو ما شاء بعد ذلك من زيادة فالله أعلم بها، تختلف على حسب مشيئته تعالى وعلمه بأحوال المحسنين، إذ من يبذل درهما ونفسه غير راضية لا يكون كمن ينفقه طيبة به نفسه، مسرورة بعملها. ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها فقط، وهم لا يظلمون، أى: لا ينقصون من أعمالهم شيئا: وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [الأنبياء 47] . التوحيد والإخلاص في العقيدة [سورة الأنعام (6) : الآيات 161 الى 164] قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 689 المفردات: دِيناً قِيَماً: يقوم به أمر الناس ونظامهم في الدنيا والآخرة، أو قائما مستقيما لا عوج فيه. حَنِيفاً: مائلا عن الضلالة إلى الاستقامة، والمراد: مائلا عن الأديان الباطلة إلى دين الإسلام. وَنُسُكِي: عبادتي من حج وغيره. وَمَحْيايَ وَمَماتِي المراد: ما آتيه في حياتي وموتى. وازِرَةٌ الوزر: الحمل الثقيل، والمراد النفس الآثمة المذنبة. المعنى: هذا ختام سورة جامعة لأصول التوحيد، شارحة للعقيدة الإسلامية وبخاصة أحوال البعث والجزاء، وإثبات الرسالة وما يتبع ذلك، ولهذا كان ختامها خلاصة لما تقدم. قل يا محمد: إننى هداني ربي، ووفقني إلى صراط مستقيم لا عوج فيه، هو الدين القيم الموصل إلى سعادة الدارين، الذي يقوم به أمر الناس في معاشهم ومعادهم، وبه يصلحون، هذا الدين هو ملة أبيكم إبراهيم الخليل، فالتزموه حال كونه حنيفا مائلا عن جميع وسائل الشرك والباطل إلى الدين الحق الذي من دعائه في كل صلاة: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ، وما كان إبراهيم من المشركين أبدا، فأما من يتخذ الأصنام آلهة ويعتقد أن الملائكة بنات الله، أو عزير أو المسيح ابن الله، فهؤلاء هم المشركون، وليسوا على ملة إبراهيم: وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا «1» هذا الدين هو دين الإخلاص والعمل لله، هو الذي ارتضاه لأنبيائه ورسله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ «2» . وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ «3» هذا هو التوحيد الخالص في العقيدة. قل لهم يا محمد: إن صلاتي ودعائي، ونسكي وعبادتي وما آتيه في حياتي كلها! بل وحياتي وموتى، كل ذلك خالص لله رب العالمين، لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين المنقادين إلى امتثال أمر الله.   (1) سورة النساء آية 125. (2) سورة آل عمران آية 19. (3) سورة آل عمران آية 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 690 والآية الشريفة جامعة لكل أعمال المسلم، فيجب عليه أن يوطد العزم، ويعقد النية على صلاته وعبادته، وحياته وما يأتيه فيها، وموته وما يلاقي فيه، كل ذلك لله لا لشيء آخر، فإن عاش فلله، له الحكم، وله الأمر. ولست أبالى حين أقتل مسلما ... على أى جنب كان في الله مصرعي فالمسلم لا يحرص على الحياة، ولا يرهب الموت، بل يكون الموت في سبيل الله أسمى أمانيه، لا يقعد عن الجهاد، ولا يتوانى عن الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وهكذا كان جند الرحمن، الصحابة- رضوان الله عليهم- قل لهم يا محمد: أغير الله أبغى رباّ؟ وأشركه في العبادة وأتوجه إليه في الدعاء، والله سبحانه رب كل شيء، وخالق كل شيء. فالقرآن صريح جدّا في أن كل قربى أو عبادة أو دعاء لا يكون إلا لله وحده، وهذا هو الدين الخالص. ولا تكسب كل نفس إثما أو ذنبا إلا كان عليها جزاؤه ووزره، ولا تزر نفس وزر غيرها أبدا، بل كل نفس بما كسبت رهينة لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت، وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، فهذا هو الدين. دين العمل والجد لا دين الأمانى والغرور الكاذب. وهذه الوصية من أعظم دعائم الإصلاح للمجتمع البشرى، ومن أعلى مزايا الدين الإسلامى، ومن أقوى معاول الهدم للوثنية في أى صورة من صورها. ثم إلى ربكم مرجعكم لا إلى غيره، ثم هو وحده ينبئكم ويجازيكم على أعمالكم التي كنتم فيها تختلفون. سنة الله في الخلق [سورة الأنعام (6) : آية 165] وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 691 المعنى: هذا هو الدواء ليس غير، وهذا هو العلاج فحسب، به تهدأ النفوس وتطمئن القلوب. فنحن خلائف من تقدمنا، فليس لنا بقاء، وكما وصلت إليها ستخرج منها، ونحن خلائف فلا ملك لنا ولا تصريف في الواقع: وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ «1» إذا كان هذا فلم هذا التناحر، والتهالك، والتباغض، والتكالب؟ ولماذا تبخلون بما جعلكم مستخلفين فيه؟ والله- سبحانه- رفع بعضكم فوق بعض درجات في العلم، والعمل، والغنى والفقر، ليبلوكم جميعا، كل بما عنده، فيختبر الغنى. هل يؤدى زكاة ماله؟ هل يتصدق بالفضل من ماله؟ هل يعطف على الفقير والمحتاج والمسكين أم هو نهم جشع، صلد، صلب كالحجر؟ نعم ويبلو الفقير هل يصبر ويرضى أم يشكو ويكفر؟ وإذا كان الله- سبحانه- قد رفع بعضنا فوق بعض، فما علينا إلا العمل والجد والصبر والرضا بقضاء الله وقدره، واعتقاد أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ «2» . وعلى الجملة فهذا علاج نفسي لسل السخائم والتحاسد، والعلاج الاقتصادى معروف تشير إليه الآية أيضا وهو الاشتراكية الإسلامية الممثلة في الزكاة المطلقة والمقيدة والنظم المالية المعروفة في الفقه الإسلامى فقط والذي يوحى به مجتمعنا الإسلامى العربي. إن ربك سريع العقاب، شديد العذاب، لا يهمل وإن أمهل، يمكّن للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. يخلق في الضعيف المسكين قوة يحار لها الملك الجبار، فاعتبروا بما مر بنا في هذه الأيام: وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «3» . وإنه لغفور لكل تائب رحيم بكل محسن.   (1) سورة الحديد آية 7. (2) سورة الحديد آية 24. (3) سورة الشورى آية 30. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 692 سورة الأعراف عدد آياتها خمس ومائتان، وهي مكية، قال القرطبي: كلها مكية إلا ثمان آيات وهو قوله تعالى: وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ إلى قوله: وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ. نزلت بعد سورة (ص) وهي كالأنعام بينت أصول العقائد وأسس الدين، وفيها قصص الرسل. وأحوال قومهم بالتفصيل، مع بعض الآيات والحكم القرآنية. القرآن وعاقبة المكذبين في الدنيا والآخرة [سورة الأعراف (7) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3) وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5) فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 693 المفردات: المص: هذه حروف تكتب كأنها كلمة، وعند القراءة تقرأ هكذا: ألف. لام. ميم. صاد، وهي كغيرها مما افتتح به، كسورة البقرة وآل عمران. حَرَجٌ: ضيق وألم. وَذِكْرى: تذكر نافع وموعظة حسنة. كم: كلمة وضعت للتكثير. قَرْيَةٍ: هي مكان اجتماع الناس، وقيل تطلق على الناس أنفسهم. بَياتاً: ليلا، والمراد الإغارة على العدو ليلا، والإيقاع به على غرة. بَأْسُنا: عذابنا وهلاكنا. قائِلُونَ: من القيلولة، وهي: استراحة وسط النهار، والمراد: نائمون في الظهيرة. دَعْواهُمْ: دعاؤهم وقولهم. فَلَنَقُصَّنَّ القص: تتبع الأثر بالعمل أو القول. المعنى: هكذا يبدأ الله- سبحانه وتعالى- السور التي فيها إثبات الوحدانية والبعث، والنبوة والوحى، بهذا البدء العجيب لمعنى، الله أعلم به، وهو سر بين الله ورسوله أشبه شيء بالشفرة في العصر الحديث. هذا كتاب عظيم الشأن، جليل الخطر، أنزل إليك يا محمد من عند ربك، فيه ما فيه من الخير والهداية، لتبشر به وتنذر، ولكن ستلقى إيذاء وشدة، ومقاومة وطعنا، وإعراضا وصدّا، وتلك أمور يضيق لها الصدر، وتحتاج إلى أعلى نوع في الصبر، وإذا كان الأمر كذلك فلا يكن في صدرك حرج من الإنذار به ومن تبليغه: وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ وعليك بالصبر والمثابرة: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ والمراد بهذا النهى الاجتهاد: في مقاومة الشدائد، والتسلي عنها بوعد الله، والتأسى بالرسل أولى العزم السابقين. كتاب أنزل إليك لتنذر به الناس أجمعين، وتذكر به القوم الذين قدر لهم أن يكونوا مؤمنين، تذكرهم ذكرى نافعة مؤثرة. قل لهم يا أيها الرسول: اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم وخالقكم، ومتولى شئونكم بالعناية والرعاية، فإنه لا ينزل عليكم إلا الخير والسداد، والهدى والرشاد، ولا تتبعوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 694 من دون الله أولياء من أنفسكم وشياطينكم، الذين يوسوسون لكم بكل ضرر وخطر وضلال في العقيدة، وبدع في الدين، ويوهمونكم أن الأصنام شفعاء لله وشركاء، وما هي إلا أحجار لا تضر ولا تنفع، إنكم قليلا ما تتذكرون الواجب عليكم نحو الله سبحانه وتعالى. كثير من القرى التي أرسلنا إليها رسلنا مبشرين ومنذرين، فعصوا رسلهم وخالفوا أمرهم، أردنا إهلاكهم، فجاءهم بأسنا وهلاكنا وهم في الليل آمنون، أو هم قائلون في القيلولة، أتاهم العذاب على غرة منهم، وهم آمنون مكر الله، ولا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. فما كان دعاؤهم وقولهم حين جاءهم البأس والهلاك، إلا إقرارهم بالذنب وقولهم: إنا كنا ظالمين، ولكن هل ينفع الندم يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [سورة غافر آية 52] . وفي هذه الآية عبرة وعظة لمن يعتبر. عقاب الأفراد المذنبين قد يؤجله الله إلى أجل مسمى عنده، بمعنى أنه يمهل ولا يهمل حتى يكون انتقامه مرة واحدة، هذا إذا تمادى الشخص وأمعن في السوء والعصيان، وبالغ في الفسوق والخروج عن حدود الدين، والشخص قلما يعتبر بالحوادث وبما يصيبه من مصائب فيرعوى عن غيه ويدرك حقيقة نفسه، ويتوب إلى ربه. وأما الأمم التي تفسد فعقابها سريع، وجزاؤها قريب ورادع، ولنا في عرش الملك السابق عبرة وعظة!! ولنا في العروش التي تلت والأمم التي أبيدت وأذلت أكبر شاهد ودليل. إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد 11] . وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً [الإسراء 16] . فاعتبروا يا أولى الأبصار، فإنما يتذكر أولوا الألباب!! إن ليوم القيامة مواقف تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، منها أن الله- سبحانه وتعالى- يسأل الذين أرسل إليهم الرسل ويقول لهم: ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص 65] ؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 695 امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا ؟. [سورة الأنعام آية 130] فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة الحجر الآيتان 92 و 93] . ومنها موقف لا يسأل فيه أحد عن ذنبه: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ [سورة الرحمن آية 39] . والله- سبحانه وتعالى- كما يسأل الناس يسأل الأنبياء والمرسلين: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ماذا أُجِبْتُمْ يسألهم عن تبليغهم الدعوة وعن إجابة أقوامهم لهم. فلنقصن عليهم جميعا كل ما وقع وحصل للرسل منهم، وما حصل من الناس لهم، فلنقصن عليهم بعلم وإحاطة، إذ لا يعزب عنه مثقال ذرة، وإن تكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله، إن الله لطيف خبير وَكانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً وما كان الحق- جل شأنه- غائبا في وقت من الأوقات، وفي هذا إشارة إلى أن السؤال لم يكن عن جهل أو خفاء، بل عن علم وبينة وحضور، ولكنه للتوبيخ والتأنيب. والوزن الحق والقسطاس العدل يومئذ، يوم تعرف الحقائق وتكشف الستائر ويحصّل ما في الصدور، وتبرز الأعمال كالغرض للسهام، فمن ثقلت موازينه وكثرت حسناته عن سيئاته فأولئك هم أصحاب الجنة وأولئك هم المفلحون. ومن خفت موازينه وكثرت سيئاته عن حسناته فأولئك هم أصحاب النار، الذين خسروا أنفسهم واشتروا الضلالة بالهدى وأحبوا العمى والكفر، عن الرشاد والخير. والخلاصة: أن المؤمن وإن عصى يدخل الجنة بعد ما يأخذ عذابه على سيئاته، والكافر الذي كذب بالآيات والرسل مهما فعل مأواه جهنم وبئس القرار. وهل هناك ميزان حقيقة؟ ورد بذلك آثار كثيرة، أو هذا كناية عن تمام العلم والعدل والإحاطة والقدرة. والأولى عند الإخبار بالمغيبات أن نؤمن بها كما جاء الكتاب أو الحديث الصحيح، ثم نكل أمرها وشكلها إلى الله، والله أعلم بذلك كله، على أن العلم الحديث جعل موازين لكل شيء في الكون، أفيكون كثيرا أن يضع الله ميزانا للأعمال والنوايا؟ وهو القادر على كل شيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 696 نعم الله على بنى آدم، وتكريمه [سورة الأعراف (7) : الآيات 10 الى 18] وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15) قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17) قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) المفردات: مَكَّنَّاكُمْ: من التمكين، أى: التمليك، وقيل: جعلنا لكم فيها أمكنة تتبوءونها، وتتمكنون من الإقامة بها. مَعايِشَ: جمع معيشة، وهي ما تكون به العيشة والحياة من المطاعم والمشارب. خَلَقْناكُمْ: أوجدنا أباكم بتقدير موافق للحكمة. فَاهْبِطْ الهبوط: الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه، وهو إما حسّىّ أو معنوي. أَنْ تَتَكَبَّرَ: أن تجعل نفسك أكبر مما هي عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 697 الصَّاغِرِينَ الصغار: الذلة والهوان. أَنْظِرْنِي: أمهلنى. فَبِما أَغْوَيْتَنِي: فبما أوقعتنى في الغواية وهي ضد الرشاد. مَذْؤُماً: معيبا أو مطرودا، من: ذأم الشيء: عابه. مَدْحُوراً: مطرودا مبعدا. بعد أن أبان الله حقيقة الدين وكتابه، وأنه واجب الاتباع دون غيره من الأولياء والشركاء والأهواء، مع ذكر عقاب الدنيا والآخرة. أردف ذلك بذكر نعم الله على بنى آدم الموجبة للشكر ترغيبا في الامتثال، وبيانا لمكانة الإنسان. ذكرهم ربهم بنعمه العظيمة على آدم وذريته وهذه نعم أخرى تبين مكانتهم بالنسبة لغيرهم، وخاصة الملائكة، وهي موجبة لعبادة الله وشكره. المعنى: يقسم الله- سبحانه وتعالى- لقد مكن لكم في الأرض، وخلق لكم ما فيها جميعا، إذ جعل أمكنة تقرون عليها وتستقرون بها في الدنيا، وجعل فيها المعايش التي تقوم عليها حياتكم من نبات وزرع، وفاكهة وثمر، وماء وسمك وجواهر، وحيوان، بل كل ما في الأرض وما عليها مذلل لكم، وهذه المخترعات التي مكنت لكم في الأرض حتى تغلبتم على كل ما فيها، فلم يعد هناك حاجز من بحار وجبال وصحارى وسهول، بل طار الإنسان حتى كاد يصل إلى القمر والكواكب. كل ذلك يقتضى الشكر، ولكن الشكر من العباد قليل وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ ولذا اختتمت الآية بهذا المعنى. وشكر النعم يكون بمعرفة الله معرفة تامة، وحمده، والثناء عليه بما هو أهله، وأداء حقوق النعم وصرفها فيما خلقت له، بهذا يتحقق الخير، وتتحقق السعادة في الدارين. ولقد خلقنا أباكم آدم من الصلصال والحمأ المسنون، أى: من الماء والطين اللازب، ثم جعلنا من تلك المادة بشرا مستويا على أتم صورة، وللعلماء آراء في تخريج الآية والأحسن كما قال القرطبي: إن آدم خلق من طين، ثم صور وأكرم بالسجود، وذريته صوروا في الأرحام بعد أن خلقوا فيها وفي أصلاب الآباء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 698 ثم قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم سجود تعظيم وإجلال وتكريم لآدم وذريته حتى يعرفوا نعم الله عليهم، فيقابلوها بالشكران وليقفوا على ما فعله إبليس قديما ليكونوا على حذر منه. فسجدوا جميعا إلا إبليس اللعين أبى واستكبر، ولم يكن من الساجدين، وكان إبليس من الجن ففسق عن أمر ربه، وعلى ذلك قيل: إنه ليس من جنس الملائكة، وخوطب معهم لأنه مخالطهم، وقيل: هو من الملائكة، كما هو ظاهر الآيات. ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ؟ وفي سورة (ص) آية 75 ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ فدل هذا على أن (لا) في هذه الآية صلة (زائدة) للتأكيد، وقيل: المعنى ما حملك ودعاك إلى عدم السجود؟. قال إبليس معتذرا متعللا: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين، والنار عند إبليس خير من الطين لعلوها وخفتها وصعودها ونورها. والذي هو خير لا يسجد لمن هو أقل منه وإن خالف أمر ربه: هذا قياس إبليس، وهو أول قياس، لكنه باطل، إذ كيف يستدل على الخيرية بمواد الأشياء؟! الخيرية إنما تكون بالمعاني والخصائص لا بالجنس والمادة: إذ أصل المسك دم الغزال وأصل العسل براز النحل، وأصل الماس كربون، وكيف يجهل إبليس ما حبا الله آدم به من العلوم والمعارف وتكريم الله له؟! ويرى بعض العلماء أن هذه القصة تبين غرائز البشر، وطبائع الملائكة، وموقف الجن منا، ولم يكن سؤال هناك ولا جواب، ولكن هذا يخالف ظاهر الكتاب، على أن ذلك أمر غيبي يجب الإيمان به، وندع معرفة الحقيقة لله وحده، ولا نشغل أنفسنا بأمور لا تدخل تحت طاقتنا، وليس فيها جدوى. قال تعالى: إذا كان الأمر كذلك فاهبط يا إبليس من الجنة، فهي مكان المخلصين المتواضعين، فما يكون لك، ولا ينبغي منك أن تتكبر فيها، إذ هي المعدة للكرامة والتعظيم لا للتكبر والعصيان. فاخرج إنك من الصاغرين الذليلين المهانين، وجاء في بعض الآثار: «إن الله تعالى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 699 يحشر المتكبرين في أحقر الصور إذ يطؤهم الناس بأرجلهم، كما أنه يبغضهم إلى الناس في الدنيا فيحتقرونهم ولو وفي أنفسهم» . قال إبليس: يا رب أمهلنى وذريتي إلى يوم يبعث آدم وذريته، فأشهد حياتهم وانقراضهم وبعثهم لأجد الفسحة الطويلة لإغوائهم، فأجابه الله إلى طلبه حيث قال: إنك من المنظرين إلى وقت النفخة الأولى حيث تصعق الخلائق. قال إبليس: فبسبب إغوائك إياى من أجل آدم وذريته أقسم لأقعدن لهم على صراطك المستقيم، فأصدّنّهم عنه وأقطعنّه عليهم، بأن أزين لهم طرقا أخرى كلها ضلال واعوجاج، ثم لأغوينهم ولآتينهم من الجهات الأربع مترصدا لهم كما يقعد قطاع الطريق للسابلة. ولا تجد أكثرهم شاكرين وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ... [سورة سبأ آية 20] قال: اخرج من الجنة مذموما مهينا مطرودا مبعدا. أقسم لمن يتبعك منهم ليكونن معك في جهنم: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة ص آية 85] . قصة سكنى آدم الجنة وخروجه منها [سورة الأعراف (7) : الآيات 19 الى 25] وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَفِيها تَمُوتُونَ وَمِنْها تُخْرَجُونَ (25) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 700 المفردات: فَوَسْوَسَ الوسوسة: الصوت الخفى المكرر، ومنه قيل لصوت الحلي: وسوسة، والمراد هنا ما يجدونه من الخواطر التي تزين ما يضر. ما وُورِيَ: ما ستر وغطى. مِنْ سَوْآتِهِما السوءة: ما يسوء الإنسان ويؤلمه، فإذا قيل: سوأة الإنسان كان المراد عورته لأنه يسوؤه ظهورها. وَقاسَمَهُما: أقسم لهما بجد ونشاط. فَدَلَّاهُما: حطهما عن منزلتهما من الجنة. ذاقَا الشَّجَرَةَ: أكلا منها. وَطَفِقا: أخذا وشرعا. بِغُرُورٍ الغرور: الخداع بالباطل. يَخْصِفانِ: يرقعان ويلزقان ورقة فوق ورقة. المعنى: قال الله- سبحانه وتعالى-: يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وهل هي المعدة للجزاء يوم القيامة أم غيرها؟ الله أعلم بذلك، وإن كان الظاهر أنها ليست دار الجزاء، لأنها ليست دار تكليف ولا عصيان، ولا يدخل فيها إبليس. وخاطب آدم أولا لأنه الأصل في تلقى الوحى، وتعاطى الأمور، ثم خاطبهما معا لتساويهما في الأكل، فكلا منها أكلا رغدا، لا تعب فيه ولا مشقة، أكلا كثيرا هنيئا. من أى مكان شئتما، ومن أى ثمر أردتما، ولا تقربا هذه الشجرة الخاصة (والله أعلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 701 بها) ولو كان في معرفتها خير لعرفها لنا، وانظر كيف يوسع الله على عباده في الحلال وفي الأكل ثم يحرم عليهم القليل الضار، اختبارا لهم وامتحانا. فإنكما إن قربتما منها، وأكلتما من ثمرها تكونا من الظالمين لأنفسكما الخارجين عن حدود الله. أما الشيطان إبليس العدو المبين فلم يترك آدم وزوجه يتمتعان بالنعيم، بل وسوس وزين لهما الأكل المحرم من الشجرة. فوسوس لهما الشيطان ليكون عاقبة تلك أن يبدي لهما ما ورى عنهما وستر من عورتهما، وهل هذه كناية عن شهوتهما التي ظهرت فجأة بعد استتارها. أو هي العورة الحقيقية؟ فكان عمل إبليس عمل من يثير الغرائز، ويظهر الدفائن المكنونة في الإنسان من عوامل الفساد. وقال إبليس: ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين، لكما من الخصائص ما للملائكة في القوة والبطش وطول الأجل، أو تكونا من الخالدين فيها. ثم أقسم لهما قسما مغلظا: إنى لكما لمن الناصحين المخلصين، ثم بعد هذا ما زال يخدعهما بالترغيب، وبالوعد، وبالقسم، حتى نسيا موقفهما من الله وأمره إليهما، وأسقطهما عما كانا فيه من مكانة ومنزلة وطبيعة. وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً [سورة طه آية 115] . فلما ذاقا الشجرة، وأكلا منها، بدت لهما عوراتهما، وكانت مستورة، وأحسا بالغريزة الجنسية. ونادهما ربهما: ألم أنهكما عن تلكما الشجرة؟ وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين، فاحذروه، واجتنبوه: فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى [سورة طه آية 117] . قالا: ربنا ظلمنا أنفسنا بمخالفتك وطاعة الشيطان عدونا وعدوك وإن لم تغفر لنا وتستر ذنبنا، لنكونن من الخاسرين الذين خسروا الدنيا والآخرة: فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [سورة البقرة آية 37] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 702 قال: اهبطوا- والخطاب لآدم وحواء وإبليس- اهبطوا بعضكم لبعض عدو في الدنيا، ولكم فيها استقرار وسكون إلى أجل مسمى عند الله. ولكم فيها متاع إلى أجل محدود. قال الله- سبحانه وتعالى- وحكم: في هذه الأرض تحيون وفيها تموتون. ومنها تخرجون إلى البعث والجزاء: مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى [سورة طه آية 55] . الغرض من القصة: ذكر في الجزء الأول ص 33. من نعم الله وفضله علينا [سورة الأعراف (7) : الآيات 26 الى 27] يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشاً وَلِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) المفردات: رِيشاً ريش الطائر: ما ستره الله به، والذي عليه أكثر أهل اللغة أن الريش ما ستر من لباس أو معيشة. لا يَفْتِنَنَّكُمُ الفتنة: الابتلاء والاختبار، من قولهم: فتن الصائغ الذهب أو الفضة في البوتقة ليعرف الجيد من الرديء. قَبِيلُهُ: جماعته كالقبيلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 703 المعنى: يا بنى آدم: تذكروا نعم الله عليكم وعلى أبيكم من قبل، وإياكم والمعاصي، وعليكم بتقواه في السر والعلن، فهو قد أنزل عليكم من السماء مطرا أنشأ منه نبات القطن والكتان، والصوف والوبر، وغير ذلك مما يتخذ لباسا للضرورة كستر العورة أو لباسا لستر البدن أو للزينة والتجمل، يا سبحان الله! دين الإسلام ودين الفطرة والطبيعة، لا يمنع من اتخاذ اللباس للزينة والتجمل إلا الحرير الذي يكسر قلوب الفقراء ويكون لبسه إرضاء للنفس وغرائزها. ولباس التقوى ذلك خير وأجدى وهو لباس معنوي، لباس العمل الصالح والإيمان الخالص، ولا شك أنه خير من الرياش واللباس. وخير لباس المرء طاعة ربه ... ولا خير فيمن كان لله عاصيا وذلك اللباس من آيات قدرة الله ودلائل إحسانه وفضله على بنى آدم وهذه النعم تؤهل بنى آدم لتذكر ذلك الفضل، والقيام بما يجب عليهم من الشكر، والابتعاد من فتنة الشيطان وإبداء العورات. يا بنى آدم: لا تغفلوا عن أنفسكم، ولا تتركوها غير محصنة بالتقوى، واجلوها بذكر الله دائما فإن القلب ليصدأ كما يصدأ الحديد، حتى تقوى النفس على مقاومة الشيطان وغروره، وتنجح في ابتلائه واختباره، واحذروه فإنه أخرج أبويكم من الجنة، ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوءاتهما. احذروه إنه يراكم هو وجماعته وبنو جنسه وأنتم لا ترونه، ولا شك أن العدو المباغت الذي لا يرى أشد من العدو المبارز الظاهر. والوقاية منه تكون بتقوية الروح والصلة بالله، وبمعالجة الوساوس بعد طروئها، والاستعاذة بالله منه. احذروه لأن الله جعل الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ [سورة الحجر آية 42] وهذا تحذير شديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 704 شبهات المشركين وأعذارهم الواهية [سورة الأعراف (7) : الآيات 28 الى 30] وَإِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَاللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30) المفردات: فاحِشَةً: هي الفعلة المتناهية في القبح، والمراد بها طوافهم بالبيت عرايا، أو شركهم. بِالْقِسْطِ: بالعدل والتوسط. وُجُوهَكُمْ: جمع وجه، وهو العضو المعروف، أو هو كناية عن توجه القلب وصحة القصد. المعنى: هذا أثر من آثار ولاية الشيطان للذين لا يؤمنون. وإذا فعلوا فعلة قبيحة ينكرها الشرع، ويأباها العقل والطبع السليم، كطوافهم عرايا بالبيت، قالوا معتذرين عن ذلك العمل: إنا وجدنا آباءنا هكذا يفعلون، وإنا على آثارهم مقتدون، وإن الله أمرنا بها. عجبا لكم وأى عجب!! قل لهم: إن الله لا يأمر بالفحشاء أصلا، وإنما الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 705 يأمركم بهذا هو الشيطان، ويدعوكم إليه: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ [سورة البقرة آية 268] . وكيف تعتذرون باتباعكم آباءكم؟ وهل آباؤكم حجة في التشريع؟ وهل عملوا بوحي من الله وإرشاد؟ أم كانت أعمالهم بوسوسة الشيطان وزخرفته؟!! أم أنتم تقولون على الله ما لا تعلمون؟ أما تشريع الله فلا يكون إلا بوحي منه إلى رسوله. فإذا: هم فعلوا بوحي الشيطان فقط، وافتروا الكذب على الله. قل لهم: أمر ربي بالقسط والعدل وعدم تجاوز الحد. ومن هنا كان الإسلام وسطا بين الإفراط والتفريط: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ [سورة النحل آية 90] . وأقيموا وجوهكم، وأحسنوا وجهتكم: وأخلصوا عملكم لله عند كل مسجد تدخلونه للصلاة، أو الذكر أو الطواف والمعنى: اجعلوا توجهكم وقصدكم لله فقط. وهذا يظهر في الوجه، إذ هو المرآة التي تطل منها الروح، وادعوه دعاء أو عبادة مخلصين له الدين. واذكروا دائما أنكم كما بدأكم وخلقكم أول مرة ستعودون إليه يوم الجزاء والحساب وأنتم بين فريقين: فريق هداه الله ووفقه للعبادة والإخلاص، وفريق حقت عليه كلمة العذاب، لاتباعه الشيطان وتركه القرآن، وكل فريق سيموت على ما عاش عليه، وسيبعث على ما مات عليه. ولا غرابة في ضلال الفريق الثاني، لأنهم اتخذوا الشياطين قادة وأولياء من دون الله، وهم الأخسرون أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا. ومن خطل الرأى وضعف العقل أن ينغمس الشخص في الضلال، ثم لا يلبث بغروره وحماقته أن يدّعى أنه على حق وأنه في عداد المهديين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 706 توجيهات في الملبس والمطعم [سورة الأعراف (7) : الآيات 31 الى 32] يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) المفردات: زِينَتَكُمْ: والمراد هنا الثياب الحسنة، وأخذها: التزين بها. مَسْجِدٍ: مكان السجود، والمراد به الصلاة أو نفس السجود. سبب النزول: كانت العرب تطوف ليلا بالبيت عراة إلا الخمس (وهم قريش وما ولدت) ويقولون: لا نطوف في ثياب أذنبنا فيها، فجاءت امرأة فألقت ثيابها فطافت ووضعت يدها على فرجها وقالت: اليوم يبدو بعضه أو كله ... فما بدا منه فلا أحله وكانت بنو عامر في أيام حجهم لا يأكلون الطعام إلا قوتا، ولا يأكلون دسما، يعظمون بذلك حجهم. فقال المسلمون: فإنا أحق أن نفعل ذلك، فنزلت الآيات. المعنى: يا بنى آدم خذوا زينتكم، والبسوا ثيابكم إذا صليتم أو طفتم، وأقل هذه الزينة ما به يستر المرء عورته، وهل العورة ما بين السرة والركبة، أو هي القبل والدبر؟ أقوال عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 707 الفقهاء منصوصة، وستر العورة واجب في الصلاة والطواف، وما بعد العورة فستره سنة لا واجب. وعلى العموم فالزينة تختلف باختلاف الزمان والمكان والشخص والعمل، وهذا الحكم من محاسن الدين الإسلامى التي بها نقل كثيرا من القبائل المتوحشة العريانة إلى حظيرة المدنية والحضارة، على أنه سبب في تقدم الصناعة والتجارة والزراعة. وكلوا واشربوا ما لذ وطاب من أنواع المآكل والمشارب ولا تسرفوا، بل عليكم بالعدل والتوسط فلا تقتير ولا إسراف، والإسراف يشمل الزيادة في البخل، والزيادة في الإنفاق، وتجاوز الحلال إلى الحرام في المأكل والمشرب إن الله لا يحب المسرفين. روى أحمد والنسائي وابن ماجة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة (كبر وإعجاب بالنفس) ولا سرف، فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» ، فالزينة لا بأس بها بشرط عدم الإسراف وعدم المخيلة. والإسراف في الأكل والشرب إلى ما فوق الطاقة الجسمية ضرر، وإلى ما فوق الطاقة الاقتصادية خطر، وإلى ما فوق الحدود الشرعية حرام وهلاك.. قل لهم: من حرم زينة الله التي أخرجها لعباده؟! فالله قد خلق موادها، وهدى إلى تعليمها وطرق صنعها، وغرز حب الزينة والتمتع بالطيب في نفوس البشر. ألست معى في أن الدين الإسلامى يدعوا إلى الكمال الروحي، والسمو الخلقي، مع العناية بالجسم وبالنفس وما تميل إليه ما دام في حدود الحلال؟ لم يجعل التقشف ولا الزهد المبالغ فيه أساسا له، وها هو ذا القرآن ينكر على من يحرم على نفسه الزينة، ويقول: هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا ولغيرهم من الناس وإن كانوا هم الأصل: خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [سورة البقرة آية 129] وفي الآخرة هي خالصة للذين آمنوا. مثل هذا التفصيل الدقيق الكامل في مسائل تخص الأفراد والأمم في حياتهما الاجتماعية نفصل الآيات الدالة على كمال ديننا وصدق رسولنا وتمام شريعتنا ولكن لقوم يعلمون لا لقوم يجهلون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 708 ما حرّمه الله على عباده [سورة الأعراف (7) : الآيات 33 الى 34] قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (34) المفردات: الْفَواحِشَ: الأعمال المفرطة في القبح. وَالْإِثْمَ: اسم لجميع المعاصي. الْبَغْيَ: الظلم وتجاوز الحقوق. أَجَلٌ: وقت مضروب الله أعلم به. ساعَةً: أقل وقت يمكن فيه قضاء عمل من الأعمال. المعنى: لما لبس المسلمون الثياب، وطافوا بالبيت عيّرهم المشركون بذلك فقال الله: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين حرموا ما أحل الله من الطيبات والرزق واللباس: ما حرم ربي هذا!! وإنما حرم الفواحش، وما قبح جرمها كالزنا ما ظهر منه وما بطن، وإذاعة السوء، وخيانة الوطن، والخروج على الجماعة. وهكذا كل ذنب يكون خطره جسيما، وكذا حرم الإثم الذي يوجب الذنب، وحرم البغي وتجاوز الحقوق، وقيد البغي بغير الحق لأن التجاوز إذا كان لمصلحة ومع التراضي فلا شيء فيه. وحرم الإشراك بالله غيره من صنم أو وثن لم ينزل به سلطانا وحجة: وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ [سورة المؤمنون آية 117] . وحرم كذلك أن تقولوا على الله ما لا تعلمون، أى: بغير علم ولا حجة، والقول على الله وعلى دينه يكون بتحليل حلال أو تحريم حرام، بلا سند ولا حجة، وهو القول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 709 بالرأى، وهذا منشأ تحريف الأديان، واتباع الهوى والشيطان، كما فعل أهل الكتاب. وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ «1» بل علينا ألا نتخطى أصول الدين، من كتاب أو سنة أو إجماع أو قياس، وهذه الأصول لم تترك شيئا. بعد ما ذكر الله- سبحانه وتعالى- جماع المحرمات والمفاسد التي تقضى على المجتمع وتبيد الأمم ذكر هنا حال الأمم الممتثلة وغيرها. فبين أن لكل أمة أجلا محدودا، ووقتا مضروبا يعلمه الله- سبحانه وتعالى- وتنتهي عنده كما أن لكل شيء في الوجود أجلا، كذلك فلكل أمة زمان معلوم تكون فيه سعيدة عزيزة، أو شقية ذليلة. وعزة الأمم وسعادتها تكون بامتثال الشرع وذيوع الفضيلة، والتمسك بأهداب الدين والمثل العليا، ولها في ذلك أجل محدود. وشقاء الأمم وذلها يكون ببعدها عن الفضيلة، وذيوع الرذيلة، وشيوع الغش والرشوة والفساد، والإسراف والظلم، والإثم والبغي، ولها في ذلك أجل محدود. أما فناء الأمم وهلاكها بالإبادة لمخالفتها الشرع فانتهى ببعثة الرسول صلّى الله عليه وسلّم: وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ «2» . وقد جرت سنته- تعالى- بذلك مع جميع الأمم فنرى في أمم الغرب أمة قوية عزيزة لأنها تتمسك بالفضيلة والاعتدال وعدم الإسراف ولها أجل محدود ما دامت متمسكة بالحق، وبجانبها أمة ذليلة مهينة لأنها تتمسك بالرذيلة والإسراف. والأمة الإسلامية أولى بالتمسك بالمثل العليا وعدم الإسراف ومجاوزة الحد في شيء، خاصة وأن دينها يأمرها بهذا. والله- سبحانه وتعالى- إذا قضى على أمة بالفناء في ساعة فإنها لا تتقدم ولا تتأخر أصلا، فهذا تهديد ووعيد لمن يخالف الأمر، ويسير على غير هدى.   (1) سورة النحل آية 116. (2) سورة الأنبياء آية 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 710 مهمة الرسل وعاقبة العمل [سورة الأعراف (7) : الآيات 35 الى 36] يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) المعنى: يا بنى آدم إن تأتكم رسل منكم تعرفونهم، ويمكنكم الحكم على أعمالهم يقصون عليكم آياتي ويتابعونها آية بعد آية، مبشرين ومنذرين داعين إلى الفضيلة ناهين عن الرذيلة فاستجيبوا لهم، وهذه هي مهمة الرسل قديما وحديثا، فمن اتقى وأصلح نفسه بالعمل والنية الصادقة فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والذين كذبوا بآياتنا ورفضوا كبرا وعنادا واستكبارا عن الحق وعتوا كما فعل زعماء قريش، أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. عاقبة الكذب على الله مع ذكر مشهد من مشاهد يوم القيامة [سورة الأعراف (7) : الآيات 37 الى 39] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَقالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 711 المفردات: ادَّارَكُوا: تلاحقوا، وادّارك بعضهم بعضا: اجتمعوا. ضِعْفاً: هو المثل الزائد على مثله مرة أو مرات. المعنى: لا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا، واختلق زورا وبهتانا بأن حرم حلالا أو حلل حراما، أو نسب إليه ولدا أو شريكا، أو كذب بآياته، واستكبر عنها واستهزأ بها، أولئك ينالهم نصيبهم من الكتاب المكتوب، والقدر المقدور في الرزق والعمر والمتاع والحظ في الدنيا، حتى إذا جاءتهم ملائكة الموت متوفين لهم، قابضين لأرواحهم. قالوا لهم تأنيبا وتوبيخا: أين ما كنتم تدعونهم من دون الله من الشركاء والشفعاء؟ قالوا: ضلوا عنا وغابوا، ولا ندري مكانهم، ولا نرى أثرهم، فنحن لا نرجو منهم خيرا ولا نفعا، وشهدوا على أنفسهم، واعترفوا عليها بأنهم كانوا بعبادتهم ودعائهم لهم كافرين. وهذا تحذير للكافرين الموجودين من عواقب الكفر والضلال. ويقول الله- تعالى- يوم القيامة لأولئك الظالمين المكذبين بآيات الله وهم كفار العرب: ادخلوا مع أمم قد سبقتكم في الكفر وفي دخول النار، وهم أولياؤكم من الجن والإنس. كلما دخلت جماعة ورأت ما حل بها من الخزي والنكال لعنت أختها في الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 712 والملة إذ هي قد ضلت باتباعها، والاقتداء بكفرها حتى إذا تداركوا في النار جميعا واجتمعوا، قالت أخراهم في الدخول- وهم الأتباع والسفلة- لأولاهم، أى: في شأنهم وحقهم وهم السادة والزعماء قالوا مخاطبين الله: ربنا هؤلاء- أى السادة- أضلونا وأثروا علينا فآتهم ضعفنا من عذاب النار لإضلالهم لنا، زيادة على عذاب ضلالهم في أنفسهم. قال الله لهم: لكل منكم ضعف من العذاب- بإضلاله- فوق العذاب على ضلاله ولكنكم لا تعلمون عذابهم. وقالت أولاهم لأخراهم: إذا كان الأمر كما ذكرتم من أننا أضللناكم فما كان لكم علينا من أدنى فضل تطلبون به أن يكون عذابكم دون عذابنا، فيقول الله لهم: ذوقوا جميعا العذاب كاملا بما كنتم تكسبون. جزاء الكافرين [سورة الأعراف (7) : الآيات 40 الى 41] إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَكَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) المفردات: الْجَمَلُ: البعير الذي طلع نابه. سَمِّ الْخِياطِ: ثقب الإبرة. الْمُجْرِمِينَ أجرم: قطع الثمرة من الشجر، ثم استعمل في كل إفساد. مِهادٌ: فراش. غَواشٍ: جمع غاشية، وهي ما يغشى الشيء، أى: يغطيه كاللحاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 713 المعنى: إن الذين كذبوا بآياتنا الدالة على الوحدانية والبعث، وعلى صدق الرسول مع بيانها للأحكام ولأصول الدين، إن الذين كذبوا بها واستكبروا عنها لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء ولا تصعد إليها أعمالهم، فإنها هباء منثور لا خير فيه: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ ولا يدخلون الجنة أبدا فهم مطرودون من رحمة الله، ومثل ذلك الجزاء يجزى به كل من أجرم في حق الله وفي حق نفسه، وفي حق إخوانه من المسلمين. لهؤلاء من نار جهنم فراش يفترشونه، ولحاف يلتحفون به، فهم- والعياذ بالله- بين طبقات جهنم ماكثون، وهي محيطة بهم، والله محيط بأعمالهم، وبئس المصير مصيرهم، لا غرابة في ذلك فكذلك نجزى الظالمين. جزاء المؤمنين [سورة الأعراف (7) : الآيات 42 الى 43] وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) المفردات: وُسْعَها: طاقتها وما تقدر عليه حال السعة والسهولة. نَزَعْنا: قلعنا. غِلٍّ: حقد وحسد. أُورِثْتُمُوها: صارت إليكم كما يصير الميراث إلى صاحبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 714 المعنى: هذا وعد ربك للمؤمنين بالجنة بعد ما أوعد الكافرين بنار جهنم، وهكذا نظام القرآن: وعد ووعيد ليتميز الحق من الباطل والمؤمن من الكافر. والذين آمنوا بالله ورسله، وعملوا العمل الصالح الذي ارتضاه ربهم لهم، أولئك الموصوفون بما ذكر من معاني الكمال والصدق، المشار إليهم، المتميزون لعلو درجتهم، هم أصحاب الجنة الملازمون لها، وهم فيها خالدون، وقد جاء قوله تعالى: لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها بين العمل وجزائه على سبيل الاعتراض، للإشارة إلى أن هذا العمل الصالح الذي يستحق صاحبه دخول الجنة ليس شاقا ولا فوق طاقة البشر، بل هو عمل سهل في متناول اليد متى حل في قلب الإنسان نور الإيمان وهدى القرآن. هم في الجنة خالدون، لا يحزنهم الفزع الأكبر، ولا يكدرهم كدر، ولا يؤلمهم ألم، وليس بينهم شر، لأن الله نزع ما في صدورهم من حسد وعداوة، وغل وحقد. وهكذا نعيم الجنة: أكلها دائم وظلها كذلك، وفيها الأنهار تجرى من تحتهم فيرونها تفيض بالماء وهم في غرفاتهم آمنون، فيزدادون حبورا وسرورا. وقالوا شاكرين نعمه: الحمد لله الذي هدانا لهذا العمل حتى أخذنا ذلك الثواب، وما كان من شأننا ولا من مقتضى تفكيرنا أن نهتدي إليه بأنفسنا لولا أن هدانا الله ووفقنا لاتباع الرسل. وقالوا لما رأوا كل شيء يجرى على حسب ما أخبر به الرسل: لقد جاءت الرسل بالحق وصدقنا الله وعده في الدنيا، وهذه الملائكة تناديهم: سلام عليكم طبتم، فادخلوها خالدين، فهذه هي الجنة التي أورثتموها وصارت لكم كما يصير الميراث لأصحابه، جزاء أعمالكم. وفي الآية دليل على أن الإنسان يدخل الجنة بعمله، وفي الحديث: «لن يدخل أحد منكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بفضله ورحمته» والمخرج من هذا أن عمل الإنسان مهما كان لا يستحق به ذلك النعيم الواسع العريض لولا رحمة الله وفضله، ومن ثم قيل في الحديث: «فسددوا وقاربوا» أى: لا تبالغوا. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 715 حوار بين أهل الجنة والنار وأصحاب الأعراف [سورة الأعراف (7) : الآيات 44 الى 47] وَنادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُما حِجابٌ وَعَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَنادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) المفردات: فَأَذَّنَ الأذان والتأذين: رفع الصوت بالإعلام. لَعْنَةُ اللَّهِ اللعن: الطرد من الرحمة مع الإهانة. عِوَجاً: ذات عوج، أى: غير مستقيمة ولا مستوية. حِجابٌ: سور بين الجنة والنار. الْأَعْرافِ: جمع عرف، مأخوذة من (عرف الديك والفرس) ويطلق على أعلى الشيء وكل مرتفع. بِسِيماهُمْ السيما والسيمياء: العلامة. صُرِفَتْ: حولت. المعنى: هذا فريق في الجنة وهذا فريق في النار، وقد حصل بينهما حوار حكاه القرآن إظهارا للحق، وإعلانا عن خطر الكفر والإيمان وبيانا لعاقبة كل. وما نراه الآن من مخترعات يغنينا عن الكلام في كيفية سماع الكلام ورؤية الأشخاص مع البعد في المكان، فالله على كل شيء قدير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 716 ونادى أصحاب الجنة قائلين: يا أصحاب النار يا أهل الكفر والفسوق والعصيان والضلال والبهتان، إن الحال والشأن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا ولقد جاءت رسل ربنا بالحق، وصدق الله وعده. فهل وجدتم ما وعدكم ربكم من العذاب والألم؟ هل وجدتموه حقا؟ قالوا: نعم وجدنا ما وعدنا به ربنا على الكفر، فهذه هي النار تتميز غيظا وتقول: هل من مزيد؟ فأذّن مؤذن بينهم بحيث سمع صوته أصحاب النار وأصحاب الجنة، أذن قائلا: ألا لعنة الله على الظالمين، الذين ظلموا أنفسهم بعد الإيمان، وهم الذين يصدون عن سبيل الله بغيا وعدوانا، ويطلبونها معوجة غير مستقيمة، حتى ينفر الناس منها، ويبتعدون عنها وهم بالآخرة كافرون. وبين أهل الجنة وأهل النار سور له باب، باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، وعلى أعالى ذلك السور رجال يرون أهل الجنة وأهل النار، ويعرفون كلا بعلامته: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [سورة عبس الآيات 38- 42] هؤلاء الذين على الأعراف رجال موحدون قصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، وقفوا هناك حتى يقضى الله فيهم. ونادى أصحاب الأعراف أصحاب الجنة: أن سلام عليكم طبتم فنعم أجر العاملين، وهم لم يدخلوا الجنة ولكنهم يطمعون فيها فهم بين الخوف والرجاء. وإذا صرفت أعين أصحاب الأعراف من النظر إلى أهل الجنة إلى النظر إلى أهل النار من غير قصد قالوا: ربنا لا تجعلنا مع هؤلاء القوم الظالمين! حوار بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار [سورة الأعراف (7) : الآيات 48 الى 49] وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 717 المعنى: ذلك منظر آخر فيه سؤال وتوبيخ وتأنيب للكفار المغرورين بما أوتوا في الدنيا. ونادى بعض أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بعلاماتهم وهي سواد الوجوه وما عليها من الغبرة، وعلاماتهم التي كانوا عليها في الدنيا، وقالوا لهم: أى شيء أغناه عنكم جمعكم للمال، واستكباركم على المستضعفين والفقراء من المسلمين، لم يمنع عنكم عقابا، ولا أفادكم شيئا من ثواب، وقالوا لهم، مع الإشارة إلى أولئك المستضعفين المضطهدين في الدنيا كصهيب وبلال وآل ياسر: أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمته أبدا إذ لم يعطوا في الدنيا مثل ما أعطيتم فلو كانوا على خير لأعطاهم؟! أشاروا لهم وهم يتمتعون في الجنة والكفار يتلظون في السعير. وقيل لأهل الأعراف: ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون بعد هذا، وهذا حوار له مغزى عميق، وهذه الآية تشير إلى أن كل إنسان يستحق جزاء عمله بالضبط لا زيادة ولا نقصان فالسابق ليس كالمقصر ولا كالمتوسط، ولذا رأينا أصحاب الجنة وأصحاب النار، وأصحاب الأعراف كل له مكان. من مناظر يوم القيامة [سورة الأعراف (7) : الآيات 50 الى 51] وَنادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 718 المفردات: أَفِيضُوا عَلَيْنا أفاض الماء: صبه، ثم استعمل في الشيء الكثير، وقيل: أعطاه غيضا من فيض، أى: قليلا من كثير. روى أن أهل النار لما رأوا دخول أهل الأعراف الجنة طمعوا في الفرج عنهم ، وروى أنهم يستغيثون بأقاربهم من أهل الجنة فيقول الواحد منهم: يا أخى أغثنى فإنى قد احترقت فأفض علىّ من الماء، فيقال: أجبه، فيقول: إن الله حرمهما على الكافرين. وقد طلبوا هذا الطلب مع يقينهم بأنهم لا يجابون أبدا، للإشارة إلى الحاجة القصوى للماء والشراب، وهكذا يفعل المضطر المحتاج. وهؤلاء الكفار قد حرم الله عليهم نعيم الجنة ورزقها، كما حرم عليهم دخولها، لأنهم اتخذوا دينهم الذي ساروا عليه في الدنيا أعمالا لا تزكى نفسا، بل تدنسها، فهم بين عمل لهو يشغل الإنسان عن العمل النافع، وبين عمل لعب لا يفيد فائدة صحيحة كلعب الأطفال، وقد غرتهم الحياة الدنيا، وشغلتهم بزخارفها عن الآخرة، أما أهل الجنة فقد شغلوا أنفسهم بالعمل النافع المجدي الذي يزكى النفوس ويطهرها، أولئك سعوا لها سعيا، وكان سعيهم مشكورا. فاليوم نعامل هؤلاء الكفار معاملة من ينساهم، ولا يجيب دعاءهم، والمراد يتركهم في العذاب وينساهم فيه، وذلك لأنهم نسوا لقاءنا ولم يعملوا له، وكانوا بآياتنا يجحدون، ولها منكرين. الكفار وما يلاقونه وأمانيهم [سورة الأعراف (7) : الآيات 52 الى 53] وَلَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 719 المفردات: بِكِتابٍ: المراد القرآن. فَصَّلْناهُ: بيناه أتم بيان. تَأْوِيلَهُ: ما يئول إليه أمره، أى: عاقبته. المعنى: تالله لقد جئنا أهل مكة بكتاب لا يحتاج إلى تعريف ولا بيان. هو الكامل في كل شيء، ذلك الكتاب فصلنا آياته تفصيلا بالحكم والمواعظ والقصص والأحكام والوعد والوعيد: كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ. وَهذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ. ألم يوضح القرآن أصول الدين وأسس الأحكام؟ ألم يرسم الخطوط العريضة للأمة الإسلامية في جميع النواحي: سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية أو دينية!! ألم يحث على النظر ويذم التقليد؟! فهو بحق الكتاب الكامل الذي فصله رب العالمين على علم ومعرفة بأسرار الكون والخلق وطبائعهم، وهو هدى ورحمة لقوم يؤمنون، أما غيرهم فلا ينتفعون منه بشيء. هل ينظر هؤلاء الكفار إلى عاقبة أمره، وما يئول إليه من صدق وعده ووعيده وظهور آياته، روى عن ابن الربيع أنه قال: لا يزال يقع من تأويله أمر حتى يتم تأويله يوم القيامة حين يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار فيتم تأويله يومئذ. سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة فصلت آية 53] . أما هؤلاء الكفار الذين نسوه ولم يهتدوا بهديه، فيقولون يوم القيامة عند ما يظهر صدقه وصدق كل ما جاء به: نعم قد جاءت رسل ربنا بالحق وصدقوا في كل ما قالوا وهم يتمنون أحد أمرين: إما شفاعة الشافعين، وإما أن يردوا إلى الدنيا فيعملوا غير ما كانوا يعملون، نعم يتمنون الخلاص ولات حين مناص!! وهل لهم شفعاء كما كانوا يفهمون؟ فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ [سورة الشعراء الآيتان 100 و 101] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 720 هؤلاء قد خسروا أنفسهم، حيث اشتروا الضلالة بالهدى، والدنيا بالآخرة، وأى خسارة أفدح من هذا؟ هؤلاء قد خسروا كل شيء وضل عنهم ما كانوا يفترون وتختلقون كذبا من الشركاء والشفعاء!! وحدانية الله ودعاؤه [سورة الأعراف (7) : الآيات 54 الى 56] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54) ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56) المفردات: رَبَّكُمُ الرب: السيد المالك والمربى. الله: علم على الذات الأقدس، والإله هو المعبود الذي منه النفع والضر، ويتقرب إليه بالعبادة والدعاء، وليس للموحدين إله إلا الله. أَيَّامٍ: جمع يوم، وهو الوقت المحدود بطلوع الشمس إلى غروبها. اسْتَوى: في اللغة بمعنى استقر. ومنه: استوى على الكرسي، وعلى ظهر الدابة، أى: استقر واستوى بمعنى قصد، واستوى بمعنى استولى وظهر. الْعَرْشِ قال الجوهري: هو سرير الملك: نَكِّرُوا لَها عَرْشَها والعرش: سقف البيت، وهودج المرأة، وقيل: العرش: الملك والسلطان، ومنه: ثلّ عرشه إذا ذهب ملكه. يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ: يجعل الليل كالغشاء، أى: يذهب نور النهار. حَثِيثاً الحث والحض بمعنى واحد: وهو الإعجال والسرعة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 721 و المعنى: يطلبه من غير فتور. تَضَرُّعاً التضرع: التذلل وإظهار الخضوع. خُفْيَةً الخفية: ضد العلانية. خَوْفاً: هو توقع الشر والمكروه. طَمَعاً: هو توقع الخير. المعنى: إن ربكم ومالك أمركم، ومتولى شئونكم هو الله لا إله إلا هو فاعبدوه وحده واستعينوا به وحده، فهو الذي خلق السموات وعوالمها، وقدرها وأحكم نظامها، وخلق الأرض وجعل فيها رواسى من فوقها، وبارك فيها وقدر أقواتها، كل ذلك في ستة أيام الله أعلم بمقدارها وحدودها: إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «1» ولو أراد خلقها في لحظة لخلقها إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «2» ولكنه ذكر هذه المدة ليعلم العباد التأنى والتثبت في الأمور، وأن خلق السموات والأرض ليس بالشيء الهين: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «3» . وما ورد من أن هذه الأيام الستة هي كأيام الدنيا، وأنه بدئ الخلق يوم الأحد فروايات الله أعلم بها، وأنها إسرائيليات ... إن ربكم أيها الناس جميعا الله، الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ودبر أمورها وحده، فيجب عليكم أن تعبدوه وحده. ثم إنه تعالى قد استوى على عرشه، واستقام أمره واستقر على هيئة الله أعلم بها مع البعد عن مشابهة الحوادث في شيء، ولقد سئل مالك- رضى الله عنه- في ذلك فقال: الاستواء معلوم، أى: في اللغة، والكيف- أى: كيفية الاستواء- مجهول، والسؤال عن هذا بدعة، وهذا القدر كاف، وهذا رأى الصحابة- رضى الله عنهم- ورأى السلف: قبول ما جاء من غير تكيف ولا تشبيه، وترك معرفة حقيقتها إلى الله، وأما الخلف فيؤولون ويقولون: استوى على عرشه بعد تكوين خلقه، على معنى أنه يدبر أمره، ويصرف نظامه، على حسب تقديره وحكمته إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ «4» . وإلى رأى السلف أميل، إذ هو رأى الصحابة والتابعين جميعا.   (1) سورة الحج آية 47. (2) سورة يس آية 82. (3) سورة غافر آية 57. (4) سورة يونس آية 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 722 والله- سبحانه- جعل الليل يغشى النهار بظلمته. ويستره بلباسه حتى يذهب نور النهار ليتم قوام الحياة، فالليل للسكون، والنهار للمعاش، والليل يطلب النهار دائما من غير فتور مع الإعجال والسرعة. وخلق الشمس والقمر والنجوم التي لا يعلمها إلا الله حالة كونها مسخرات ومذللات بأمره، كلّ يدور في فلكه إلى أجل مسمى عنده، ألا له الخلق، أى: المخلوقات كلها كبيرها وصغيرها فلا دخل لهذه الكواكب في شيء. وله الأمر والنهى والتصريف والتدبير، ليس لأحد دخل في شيء، سبحانه وتعالى عما يصفون، وتبارك الله رب العالمين. ادعوا ربكم الذي تعهدكم وأنعم عليكم نعمه التي لا تحصى، وبخاصة ما مضى في الآية السابقة، ادعوه متضرعين، مبتهلين مخلصين، فالدعاء مخ العبادة. ادعوه مخفين الدعاء متسترين، فالإخفاء حسن مندوب إن لم يكن واجبا، إذا هو أبعد عن الرياء والسمعة، وأنت لا تدعو غائبا أو ناسيا، فالله أقرب إلينا من جبل الوريد، وهو السميع البصير، على أن الله مدح العبد الصالح زكريا فقال: إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا «1» وقد كان دعاء الصحابة وعملهم في الخفاء، إنه لا يحب المعتدين المتجاوزين الحدود المرسومة، خاصة في الدعاء، فمن رفع صوته للرياء أو بالغ في الصيغة، أو طلب غير المشروع. كل هذا تجاوز في حدود الدعاء يجب ألا يكون. أما دعاء غير الله فشرك. ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها بما خلق فيها، وما هداكم إلى الانتفاع بها وتسخيرها. والإفساد في الأرض شامل لإفساد النفوس بالقتل والاعتداء، وإفساد المال بالسرقة والنصب، وإفساد الدين بالكفر والمعاصي، وإفساد العقل بالمسكرات. ادعوه خائفين من عقابه فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. وادعوه طامعين في ثوابه، مؤملين في جزائه، إن رحمة الله قريب من المحسنين: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «2» .   (1) سورة مريم آية 3. (2) سورة النجم آية 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 723 من أدلة البعث [سورة الأعراف (7) : الآيات 57 الى 58] وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) المفردات: الرِّياحَ: جميع ريح، ولها أسماء عند العرب، وإذا جمعت كانت في معنى الخير، وإذا أفردت كانت في معنى الشر، كما في هذه الآية وكما في قوله تعالى: وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. بُشْراً: مبشرات. أَقَلَّتْ: حملت. الْبَلَدُ: الموضع من الأرض عامرا كان أو خلاء. الثَّمَراتِ: واحده ثمرة: وهي الحمل تخرجه الشجرة. نَكِداً: لا خير فيه. نُصَرِّفُ: نغير ونبدل. المعنى: هذا أثر من آثار رحمة الله بالخلق، ودليل على قدرته على البعث. إن ربكم هو الذي يرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته بقدوم المطر رحمة من الله بالخلق، حتى إذا حملت الرياح سحابا ثقالا بالماء سقناه إلى بلد ميت فأخرجنا به ثمرات مختلفة في أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها. مثل هذا الإخراج وإيجاد أنواع النبات والثمار من الأرض الميتة بعد نزول المطر، نخرج الموتى ونبعثهم، فالله قادر على كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 724 شيء، يخرج الحي من الميت والميت من الحي، فانتبهوا رجاء أن تتذكروا وتتعظوا، فتؤمنوا بالبعث والحياة الآخرة. ومع هذا فهناك من ينكر البعث بعد ظهور أمارته، ولا غرابة في ذلك، فالناس في الفهم والإدراك كالأرض، منها طيبة ظاهرة المعدن تخرج نباتا حسنا، ومنها خبيثة التربة كالأرض السبخة أو الحجرية لا تخرج نباتا حسنا، بل نباتها لا خير فيه، مثل ذلك التصريف البديع، يصرف الله الآيات لقوم يشكرون. قصة نوح عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 59 الى 64] لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64) المفردات: عَذابَ يَوْمٍ المراد به يوم القيامة. الْمَلَأُ: أشراف القوم ورؤساؤهم، لأنهم يملؤون العيون بهجة ورواء. ضَلالٍ الضلالة والضلال: العدول عن طريق الحق والذهاب عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 725 وَأَنْصَحُ: أرشد إلى المصلحة مع حسن النية. ذِكْرٌ أى: وعظ من ربكم. الْفُلْكِ السفينة. عَمِينَ: واحده عم، وهو ذو العمى. قيل: المراد عمى البصيرة، وقيل: هو عام. أنهى الله- سبحانه وتعالى- في الآيات السابقة الكلام عن مظاهر القدرة والوحدانية، ثم ختم الكلام بذكر البعث وأنه كالخلق الأول. ثم قفى على ذلك بذكر قصص الأنبياء السابقين، وكيف لاقوا من أممهم العنت والتكذيب، وكيف آل أمر هذه الأمم، وفي هذا عبرة وعظة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وتسلية للنبي الكريم صلّى الله عليه وسلّم: وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة هود آية 120] لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ [سورة يوسف آية 111] . المعنى: أقسم الله- سبحانه وتعالى- لأهل مكة بأنه أرسل نوحا إلى قومه، ونوح هو النبي الأول الذي أرسل إلى قومه كما ثبت في حديث الشفاعة، فقال: يا قومي ويا أهلى وعشيرتي: اعبدوا الله ربكم الذي خلقكم فسواكم وعدلكم على أتم صورة وأكمل نظام، هو الذي خلق لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه- سبحانه وتعالى- هو المعبود بحق، لا إله إلا هو، ما لكم من إله غيره، تدعونه وتتضرعون إليه، آمركم بهذا لأنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم وقعه، شديد هوله. قال الملأ من قومه- وهكذا أشراف الأمم ورؤساؤهم، دائما أعداء للهداة والمرشدين- قالوا: إنا لنراك في غمرة من الضلال، أحاطت بك، إذ كيف تنهانا عن عبادة آلهتنا: ود، سواع، يغوث، يعوق، ونسر، إن هذا لضلال بين ظاهر!! قال نوع مجيبا لهم: يا قوم ليس بي ضلالة، وليس بي خروج عن الحق والرشاد إذ أمرتكم بتوحيد الله، وعبادته وحده دون الآلهة، ولكني رسول من رب العالمين أهديكم إلى سبيل الرشاد، وأدعوكم إلى ما فيه سعادتكم في الدنيا والآخرة، أبلغكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 726 رسالات ربي من التوحيد الخالص، والإيمان بالله وملائكته ورسله واليوم الآخر وما فيه من جنة ونار، وثواب وعقاب، وأبلغكم الأحكام العامة، من عبادات ومعاملات.. وأنصح لكم وأحذركم عقاب الله، وأذكركم به. وأعلم من الله ما لا تعلمون، فوعظى لم يكن عن جهل، وأنذركم عاقبة الشرك، كل ذلك عن علم.. أكذبتم وعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم، على لسان رجل منكم؟ وذلك أنهم يتعجبون من نبوة نوح- عليه السلام- ويقولون: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين، وكيف يكون الرسول بشرا! ولو شاء ربك لأنزل ملائكة؟ ومهمتى لكم أنى أحذركم عاقبة الكفر وأنذركم بين يدي عذاب شديد، لينذركم، ولتتقوا عذاب يوم عظيم. أما هؤلاء الكفار فقد كذبوه وأصروا على تكذيبه وخالفوا أمر ربهم ولجوا في طغيانهم يعمهون، ولم يؤمن معه إلا قليل، وكان عاقبتهم أنه نجى نوحا والذين آمنوا معه برحمة منه، فركبوا في السفينة ونجوا من الغرق. وأغرق الذين كذبوا بآيات الله، وكفروا بها، ولا غرابة في ذلك فهم قوم عمون عن الهدى والرشاد، قد طمس الله على قلوبهم وختم عليها. فإياكم يا أمة الدعوة أن تكونوا مثلهم، حذار ثم حذرا أن تسيروا على منوالهم، وفي سورة هود تفصيل أوسع لهذه القصة. قصة هود عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 65 الى 72] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قالُوا أَجِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 727 المفردات: أَخاهُمْ المراد: واحد من أشرافهم، كما قالوا: يا أخا العرب. فِي سَفاهَةٍ السفاهة: خفة حلم وسخافة عقل. خُلَفاءَ المراد: خلفتموهم في الأرض. آلاءَ واحدها: إلى، وهي النعمة. رِجْسٌ : عذاب، من الارتجاس: وهو الاضطراب. وَقَعَ عَلَيْكُمْ: حق عليكم ووجب. غَضَبٌ: انتقام. أَتُجادِلُونَنِي المجادلة: المماراة والمخاصمة. دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا: آخرهم، والمراد استئصالهم جميعا. عاد: قبيلة كبيرة كانت تسكن الأحقاف: (الرمل) فيما بين عمان إلى حضر موت باليمن وكانت لهم أصنام يعبدونها، وكانوا ذوى قوة وشدة، قالوا مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 728 أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً ؟ وقد بعث الله إليهم هودا، وكان من أوسطهم نسبا، وأشرفهم حسبا، وقد دعاهم إلى عبادة الله، فكفروا وعصوا وأفسدوا في الأرض، فأمسك الله عنهم القطر، وأرسل إليهم ريحا فيها عذاب أليم. تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ [سورة الأحقاف آية 25] . المعنى: وأرسلنا إلى عاد أخاهم هودا، وهو واحد من أنفسهم! ليفهموه، ويفهم منهم، ويعرفوا شمائله وأخلاقه، فيكون ذلك أقرب إلى تصديقه. ماذا قال لهم؟ قال: يا قوم اعبدوا الله وحده، لا تعبدوا غيره، فما لكم من إله غيره، أعميتم فلا تتقون ربكم؟ وتبتعدون عما يسخطه من الشرك والمعاصي، ولعله قال في مرة أخرى: أَفَلا تَعْقِلُونَ؟ كما في سورة هود. وماذا قالوا له؟ قال الملأ الذين كفروا من قومه خاصة: إنا لنراك في سفاهة وحماقة، خفة وسخافة عقل حيث تهجر دين قومك إلى دين آخر، مهما كان ذلك الدين، عجبا لهم!! حيث جعلوا السفاهة ظرفا له للإشارة إلى تمكنه فيها، كما قال قوم نوح: إنا لنراك في ضلال مبين، وقالوا له: إنا لنظنك ونعلم أنك واحد من الكاذبين الذين يكذبون على الله!! ماذا أجابهم هود؟ قال: يا قومي ويا أهلى، ليس بي سفاهة ولا حماقة، حيث دعوتكم إلى دين التوحيد الخالص، والعبادة الصادقة، ولكني رسول من رب العالمين، قد اختارني الله لأداء هذه المهمة واللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [الأنعام 124] وفي إجابته- عليه السلام- لهم، حيث نفى عن نفسه السفاهة فقط ولم ينسبها لهم- مع أنهم أضل الناس، وأسفه الناس، بل وأحقر الناس- أدب حسن، وخلق عظيم، صنعه الله على عينه، ليكون مثلا أعلى يحتذيه عباده الصالحون، يا قوم أنا رسول رب العالمين، مهمتى أبلغكم رسالات ربي، في التكاليف وأمور الدين، وأنا لكم ناصح أمين كما عرفتموني من قبل، ما كذبتكم في شيء فكيف أكذب على الله؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 729 أكذبتم وعجبتم لأن جاءكم ذكر من ربكم ووعظ على لسان رجل منكم لينذركم بأسه ويخوفكم عقابه؟! واذكروا فضل الله عليكم ونعمه، إذ جعلكم ورثة نوح، وزادكم بسطة في أجسامكم، وقوة في أبدانكم- روى أنهم كانوا طوالا أقوياء- اذكروا هذا واتقوا الله واحذروا أن يقع عليكم العذاب، مثل ما وقع على قوم نوح فأهلكهم. فاذكروا نعمة الله واشكروه واعبدوه وحده، واهجروا الأوثان والأصنام لعلكم تفلحون. ماذا ردوا عليه؟ قالوا: أجئتنا لأجل أن نعبد الله وحده ونترك ما كان يعبد آباؤنا؟ إن هذا لشيء عجاب!! فجئنا بما تعدنا من العذاب- فنحن مستعجلون- إن كنت من الصادقين في دعواك، وهذا منتهى الغرور، فأجابهم هود بقوله: قد قضى عليكم ربكم بعذاب شديد، وقد كان عذابهم ريحا صرصرا (شديدة الصوت) عاتية تنزع الناس وترميهم صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ «1» . عجبا لكم!! أتخاصمونني في أشماء لا مسميات لها ولا حقائق، وضعتموها أنتم وآباؤكم، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا حجة لكم فيها ولا برهان، وتتركون عبادة الرحيم الرحمن؟ وإذا سرتم على هذا المنوال ولم تغيروا طريقكم فانتظروا عذابا من الله شديدا إنى معكم من المنتظرين، وقد نزل بهم كما مر، ونجاه الله والذين معه برحمة منه، واستأصل الكافرين وقطع دابرهم: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَما كانُوا مُؤْمِنِينَ.   (1) سورة القمر آية 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 730 قصة صالح مع قومه عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 73 الى 79] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 731 المفردات: ثَمُودَ: قبيلة من العرب كانت تسكن الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى قرب تبوك وهم من ولد سام بن نوح، وصالح نبيهم، وكان من أشرفهم نسبا وأعلاهم حسبا. وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ: أنزلكم فيها وجعل لكم فيها منازل. وَتَنْحِتُونَ النحت: النحر في الشيء الصلب. وَلا تَعْثَوْا العثى والعثو: الفساد. فَعَقَرُوا النَّاقَةَ: نحروها بالذبح، وأصل العقر: الجرح. وَعَتَوْا: تمردوا واستكبروا، ومنه نخلة عاتية إذا كانت عالية يمتنع جناها على من يريدها. الرَّجْفَةُ: المرة من الرجف، وهو الحركة والاضطراب. جاثِمِينَ جثم الناس: قعدوا لا حراك بهم، والمراد أنهم جثث هامدة ميتة لا حراك بها. كانت قبيلة ثمود من قبائل العرب البائدة، وقد كانوا خلفاء لقوم عاد بعد أن أهلكهم الله، فورثوا أرضهم وديارهم. وآتاهم الله نعما كثيرة، وأرسل إليهم صالحا نبيا فيهم يهديهم إلى الصراط السوى، ولكنهم عصوا وتكبروا وكفروا وطالبوا صالحا بآية، فبعث الله إليهم ناقة تصديقا له، ولكنهم عقروها وعتوا عن أمر ربهم، فقال لهم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، بعدها نزل عذاب الله ووعده، ونجى الله صالحا والذين آمنوا معه، وأخذ الذين ظلموا الصيحة فأصبحوا أثرا بعد عين، أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ وتلك عقبى الظالمين ومآل الفاسقين. المعنى: ولقد أرسلنا إلى بنى ثمود أخاهم صالحا، قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره، هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها، وجعلكم خلفاء لعاد فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي قريب مجيب. يا قوم قد جاءتكم حجة من ربكم وآية منه دالة على صدقى، وكأنهم قالوا له ما هذه البينة؟ فقال: هذه ناقة الله لكم آية، وإنما أضاف الناقة إلى الله تعظيما لشأنها وتكريما، ولأنها جاءت من عنده مكونة من غير فحل وناقة، بل من صخرة صلبة، والله على كل شيء قدير، هذه الناقة آية لكم يا بنى ثمود خاصة، لأنكم المشاهدون لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 732 وحدكم، هذه الناقة من الله، فذروها تأكل في أرض الله، ولا تحولوا بينها وبين ما تطلب، ولا تتعرضوا لها بسوء، وكانت هذه الناقة تشرب جميع مياههم، ثم تحيلها لبنا لهم: هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ [سورة الشعراء آية 155] . ثم ذكرهم بنعم الله التي توجب الشكر والعبادة لله وحده، وبخاصة بعد ما قامت الحجج على صدق رسالته فقال: واذكروا نعم الله عليكم إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم عاد، في الحضارة والعمران، وأورثكم أرضهم، وأنزلكم منازلهم تجعلون بدل سهولها قصورا زاهية. ودورا عالية، بما ألهمكم من صناعة اللّبن والآجر (الطوب الأخضر والأحمر) وتنحتون من الجبال بيوتا، فقد علمكم صناعة النحت وآتاكم القوة والصبر. روى أنهم كانوا يسكنون الجبال في الشتاء، والسهول في باقى الفصول، فاذكروا هذه النعم الجليلة، واشكروا الله واعبدوه حق العبادة، ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون. قال الملأ الذين استكبروا من قومه، وكفروا بالله ورسوله، قالوا للمستضعفين الذين آمنوا منهم: أتعلمون أن صالحا مرسل من عند ربه؟ وهكذا جرت سنة الله مع أنبيائه، يتبعهم الضعفاء، ويكفر بهم الرؤساء. قال المستضعفون المؤمنون: نعلم أنه مرسل من عند ربنا علما لا يحتاج إلى بيان، وإنا بما أرسل به مؤمنون ومصدقون. قال الذين استكبروا: إنا بما آمنتم به كافرون، ولم يقولوا: إنا بما أرسل به صالح كافرون، خوفا من أن يقروا له بالرسالة ولو ظاهرا. أما أفعالهم الدالة على الكفر: فقد عقروا الناقة: نعم أجمعوا أمرهم ونادوا صاحبهم، فتعاطى هذا الفعل الشنيع، فعقر الناقة، وصاحبهم هذا هو قدار بن سالف، أشقى القبيلة، وإنما نسب العقر إليهم جميعا لأنهم بين راض عن هذا الفعل، وبين آمر به. فعقروا الناقة وتمردوا واستكبروا عن امتثال أمر ربهم الذي أمرهم به على لسان نبيه صالح، من قوله: فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ [الأعراف 73] . وقالوا يا صالح: ائتنا بما تعدنا به من العذاب، إن كنت رسولا من عند الله، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 733 وتدعى أن وعيدك تبليغ عنه، وأن الله ناصرك على أعدائه، إن كان هذا صحيحا فعجل ذلك لنا!! فأخذتهم الرجفة فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ كما في سورة هود فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ كما في سورة السجدة، والمراد أنه نزلت بهم صيحة شديدة القوة، ارتجفت لها الأفئدة واضطربت من حولها الأرض، وتصدع ما فيها من بنيان: إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ فأصبحوا في دارهم جثثا هامدة لا حراك بها، وسقطوا صرعى الصاعقة. قال لهم صالح- بعد أن جرى ما جرى-: لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، ولم أدخر وسعا في ذلك، ولكنكم لا تحبون الناصحين، فحقت عليكم كلمة العذاب. ونداؤه لهم بعد الموت، كنداء النبي صلّى الله عليه وسلّم لقتلى بدر بعد أن دفنوا في القليب: «هل وجدتم ما وعد ربكم حقا؟» . قصة لوط عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 80 الى 84] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 734 المفردات: لوط: هو ابن أخى إبراهيم عليه السلام. وكان يسكن قرب البحر الميت بشرق الأردن في قرية من قرى خمس اسمها (سدوم) كانت تعمل الخبائث التي حكاها القرآن. لَتَأْتُونَ الرِّجالَ: مأخوذ من قولهم: أتى الرجل المرأة: إذا غشيها. مِنَ الْغابِرِينَ أى: الباقين في عذاب الله، يقال: غبر الشيء: إذا مضى، وغبر: إذا بقي. المعنى: واذكر لوطا حين قال لقومه بعد أن دعاهم إلى عبادة الله: أتأتون الفعلة التي بلغت الغاية في الفحش والقبح، هذه الفعلة ما عملها قبلكم أحد من الناس فأنتم قادة لغيركم في هذا الجرم الشنيع، إنكم لتأتون الرجال لقصد الشهوة فقط وسفح الماء، فقد نزلتم عن مستوى الحيوان، فإن ذكره يأتى أنثاه بقصد الشهوة وبقاء النسل، أما أنتم فقد أعماكم الضلال وأصبح لا غرض لكم إلا إرضاء شهواتكم، وفي هذا تقريع وتوبيخ لهم شديد!! وفي قوله: مِنْ دُونِ النِّساءِ إشارة إلى أنهم تركوهن وهن محل الشهوة عند الفطر السليمة. بل أنتم قوم مسرفون متجاوزون الحد عادون، قد تجاوزتم حدود العقل والطبع السليم والصحة والأدب. وما كان جواب قومه عن هذا الإنكار وذلك النصح شيئا من الحجج المقنعة، أو رجوعا عن ذلك الغي، أو اعتذارا يخفف حدة الغضب، لم يكن شيء من هذا، بل كان جوابهم الأمر بإخراجه هو ومن آمن معه من قريتهم الظالم أهلها، وقالوا لهم مفتخرين متعللين على سبيل السخرية والتهكم: إنهم أناس يتطهرون. وكان من نبأ لوط أن أرسل الله إليه ملائكة الرحمة به، ورسل العذاب إلى قومه، استجابة لدعائه عليهم، بعد أن ضاق صدره وعيل صبره. وقالت الملائكة يا لوط: إنا رسل ربك جئنا لإنقاذك ودفع العدوان عنك، فأصبح لوط وقد كشف الله عنه الغمة وأنجاه الله وأهله المؤمنين معه إلا امرأته، فإنها كانت موالية للكفار، فكانت من الباقين في عذاب الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 735 خرج لوط وأهله وفارق تلك القرية، حتى إذا صار بعيدا عنها جاءها أمر الله وزلزلت الأرض زلزالها، فصار عاليها سافلها. وأمطر عليهم نوعا من المطر عظيما يقال: هو حجارة من سجيل. فانظر كيف كان عاقبة المجرمين، في حق أنفسهم وفي حق مجتمعهم، وفي حق ربهم؟ وهذا هو العقاب الطبيعي للترف والفسق الذي يفسد الخلق، ويبيد الأمم، وهذه سنة الله ولن تجد لسنته تبديلا. عقاب هذه الفعلة: قال الإمام مالك- رضى الله عنه-: يرجم، أحصن أو لم يحصن، وكذلك يرجم المفعول به إن كان بالغا، وروى عنه أيضا: يرجم إن كان محصنا «متزوجا» ويحبس ويؤدب إن كان لم يتزوج، وعند أبى حنيفة: يعزّر وعند الشافعى: يحد حد الزنا قياسا عليه، إلى آخر ما هو مذكور في كتاب القرطبي عند تفسير هذه الآية. قصة شعيب عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 85 الى 87] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزانَ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَلا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَها عِوَجاً وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 736 المفردات: مَدْيَنَ: قبيلة عربية كانت تسكن أرض معان من أطراف الشام، وكانوا يكفرون بالله، وقد عبدوا الأيكة من دونه، وكانوا يبخسون الناس أشياءهم، في الكيل والوزن، وقد بعث الله فيهم شعيبا. وَلا تَبْخَسُوا بخسه حقه: نقصه. تُوعِدُونَ: تخوفون الناس. تَبْغُونَها عِوَجاً: تطلبون اعوجاجها. فَكَثَّرَكُمْ: بارك الله فيكم. المعنى: ولقد أرسلنا إلى قبيلة مدين شعيبا نبيا فيهم، وهو من أشرفهم، فقال: يا قوم اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، ما لكم من إله غيره، هو الذي خلقكم وخلق كل شيء لكم. قد جاءتكم بينة من ربكم، وآية دالة على صدقى. فأوفوا الكيل إذا كلتم، وزنوا بالقسطاس المستقيم، ولا تنقصوا الناس شيئا من حقوقهم، في بيع أو شراء أو حق مادى أو معنوي، وقد أمرهم شعيب بالوفاء في الكيل والوزن، ونهاهم عن نقص الناس شيئا من حقوقهم بعد الأمر بعبادة الله مباشرة وذلك لأن هذه الخصلة كانت فاشية فيهم، كما فشا في قوم لوط الفاحشة، فقد كانوا من المطففين الذين إذا اكتالوا على الناس وأخذوا حقهم يستوفون، وإذا كالوهم وباعوا إليهم شيئا ينقصون ويبخسون، وهذا مرض نفسي وداء إذا تفشى في أمة قضى عليها وأزال ملكها وعزها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 737 وقال شعيب: يا قوم لا تفسدوا في الأرض بأى نوع من أنواع الفساد، كالظلم والرشوة وأكل أموال الناس بالباطل، وارتكاب الإثم والفواحش، وإفساد المجتمع بشيوع الانحلال الخلقي. ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، وقد أصلحها، وقد أصلحها الله بما فطر الناس على حب الخير، وبما أودع فيهم من الميل إلى الرشاد، وبما أرسل فيهم من الرسل والهداة والمرشدين. فعليكم ألا تفسدوا فيها بالبغي والعدوان على الأنفس والمال والعقول والأعراض. ذلكم الذي أمرتكم به ونهيتكم عنه هو خير لكم في الدنيا والآخرة، وهو مجلبة للسعادة في الدارين إن كنتم مؤمنين حقا بي وبرسالتي، وهكذا العلم وحده لا ينفع في قمع النفس وردها عن الشر بل لا بد معه من إيمان قلبي وتصديق روحي خالص، ومخالفة للنفس والهوى. وقال شعيب لهم: لا تقعدوا يا قوم في الطرقات تنهون الناس عن الإيمان وتخوفونهم عاقبته، وتعدونهم بالشر إن آمنوا- وقد كانت قريش تفعل ذلك، كما ورد في حديث ابن عباس- ولا تصدوا عن سبيل الله من آمن به من الناس. ولا تطلبوا اعوجاجا لسبيل الله ودينه، بما تصفون وبما تكذبون وبما تشوهون الحقائق، وتفترون على الله الكذب. واذكروا نعم الله عليكم وقت أن كنتم قلة في المال والرجال والسطوة فبارك فيكم، وزاد مالكم ونما، وكثر عددكم وربا، مع الجاه والقوة، وانظروا نظرة عبرة وعظة كيف كان عاقبة المفسدين الظالمين من قوم عاد وثمود وقوم لوط. وإن كان طائفة منكم آمنوا بالذي أرسلت به وصدقوا، وكانت هناك طائفة لم يؤمنوا، وهذا شأن الناس قديما وحديثا. إن كان هذا فاصبروا أيها المؤمنون حتى يحكم الله ويقضى بيننا، وهو الحكم العدل، وقد حكم بنصرة عباده المؤمنين وهلاك الظالمين المفسدين، وهو خير الحاكمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 738 شعيب عليه السلام وقومه [سورة الأعراف (7) : الآيات 88 الى 89] قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89) المفردات: افْتَحْ: احكم، والفاتح: الحاكم على المبالغة. المعنى: أمر شعيب قومه بعبادة الله وحده، والوفاء بالكيل والميزان، وعدم الفساد في الأرض، فما كان من أشراف قومه الذين استكبروا عن الإيمان بالله ورسله وعاثوا في الأرض الفساد، إلا أن قالوا: تالله لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك من بلادنا حتى تسكن الفتنة، وتهدأ الثورة التي أثرتموها باتخاذكم دينا غير دين الآباء والأجداد. ليكونن أحد الأمرين: إما إخراجكم من القرية، وإما عودتكم في ملتنا، ودخولكم في زمرتنا وجماعتنا. قال شعيب: عجبا لكم!! إذ تأمروننا أن نعود في ملتكم، أنعود ولو كنا كارهين؟! إنكم تجهلون موقفنا، وتأثير العقيدة في نفوسنا، فطلبتم منا هذا الطلب.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 739 رد شعيب عليهم في الأمر الثاني المهم فقال: قد افترينا على الله كذبا إن عدنا في ملتكم ملة الكفر والضلال، إذ الكافر يختلق على الله الكذب حيث يدعى أن له شريكا وولدا بل المرتد أعظم جرما، وأكثر كذبا حيث يوهم غيره أنه رجع بعد معرفة الحقيقة والواقع. أنعود إلى ديانتكم بعد أن نجانا الله منها؟ إن هذا لشيء عجيب!! ما أعظم كذبنا وكفرنا إن عدنا فيها بعد أن نجى الله أصحابى منها وأنا معهم، وما ينبغي أن نعود فيها أبدا، ولا يقدر أحد على تحويلنا إليها في حال من الأحوال إلا في حال مشيئة ربنا إذ هو المتصرف في أمرنا، وهذا رفض أبلغ. والله واسع العلم كثير الفضل، أعلم بخلقه، لا يشاء إلا الخير لهم، هذا اعتقادهم في الله، على أنهم قوم مؤمنون حقا لا يهمهم تهديد ولا يخوفهم وعيد، ويقولون: على الله وحده توكلنا، وإليه أنبنا وما عداه فشيء لا يعبأ به أبدا، وهذا رفض آخر بالدليل. ثم دعا عليهم لما يئس منهم فقال: ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق الذي مضت به سنتك في التنازع بين المرسلين والكافرين، بل وبين كل محق ومبطل، وأنت خير الحاكمين عدلا وإحاطة ونزاهة، سبحانك أنت الحكم العدل.. مآل الكافرين [سورة الأعراف (7) : الآيات 90 الى 95] وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93) وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (95) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 740 المفردات: الرَّجْفَةُ: الحركة والاضطراب، والمراد: الزلزلة والعذاب. يَغْنَوْا غنى بالمكان: أقام به. آسى الأسى: الحزن الشديد. قَرْيَةٍ: مدينة جامعة تجمع الزعماء كالعاصمة. بِالْبَأْساءِ: الشدة والمشقة من حرب أو فقر أو غيره. الضَّرَّاءِ: ما يضر الإنسان في بدنه أو معيشته. يَضَّرَّعُونَ: يظهرون الضراعة والخضوع. عَفَوْا: كثروا ونموا، من قولهم: عفا النبات: إذا كثر. المعنى: وقال الملأ الذين كفروا- وهم عيون مدين وأشرافهم- قالوا للمستضعفين المؤمنين: تالله لئن اتبعتم شعيبا وآمنتم به إنكم إذا لخاسرون شرفكم حيث تركتم دين آبائكم إلى دين لم تعرفوه ولم تألفوه، وخاسرون دنياكم حيث تركتم ما به ينمو مالكم ويزيد من التطفيف في الكيل، وأكل أموال الناس. ولقد كان وصفهم بالاستكبار أولا لمناسبة التهديد بالإخراج من الديار، ووصفهم هنا بالكفر يناسب الضلال والصد عن سبيل الله، أما جزاؤهم فأخذتهم الرجفة وعمتهم الصيحة، وزلزلوا زلزالا شديدا، حتى أصبحوا جثثا هامدة، جاثمين في مكانهم لا حراك بهم. وكان قوله تعالى: الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا بمعنى أنهم حرموا من ديارهم، وأخرجوا من أوطانهم كأن لم يقيموا فيها: ردّا عليهم في قولهم: لنخرجنك يا شعيب والذين آمنوا معك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 741 وكان قوله تعالى: الذين كذبوا هم الخاسرون على سبيل الحصر ردّا عليهم في قولهم: لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ ... «1» وحقا الكافرون هم الذين خسروا في الدنيا والآخرة دون سواهم. وأما شعيب فقد تولى عنهم وأعرض قائلا: يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربي، وبلغتكم ما فيه صلاحكم في المعاش والمعاد، ونصحت لكم، ومن بشر وأنذر فقد أعذر، ومن أعذر فكيف يحزن على قوم عصوه ولم يؤمنوا؟ وكانوا كافرين!! وما أرسلنا في قرية من القرى ولا مدينة من المدن، ما أرسلنا فيها رسولا ثم كذب أهلها وعصوا إلا أخذناهم بالشدة والمكروه وأصابتهم سنين عجاف، لعلهم بهذا يتضرعون، ويلتجئون إلى ربهم وهكذا سنة الله في الخلق، ولن تجد لسنة الله تبديلا، يرسل الشدائد لعلها ترجع الإنسان إلى ربه، وترده عن غيه، ولكن كثيرا من الناس لا تردعهم الروادع، فهؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى: فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ «2» . ثم أعطيناهم بدل الشدة سعة، ومكان الفقر والضيق غنى وفضلا، حتى عفوا وكثروا في المال والعدد، فالله- سبحانه- يريهم الحالتين ويمكن لهم في الجهتين لعلهم يعتبرون، ولكن العصاة يقولون: هؤلاء آباؤنا قد مستهم الضراء والسراء، وحل بهم الضيق والفرج والعسر واليسر. وما نحن إلا مثلهم، وهذا قول من لم يعتبر ويتعظ بأحداث الزمن، أليس ما هم فيه ابتلاء واستدراجا؟ ألم يعلموا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم؟ وهم مع ذلك قد أعرضوا ونأوا، واستكبروا وبغوا فكان جزاؤهم ما يأتى: فأخذناهم بغتة وحل بهم العذاب فجأة، وهم في غيهم سادرون، وفي عمايتهم لاهون فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ «3» . فاعتبروا يا أولى الأبصار، واتعظوا بما حل بغيركم فتلك سنة الله ولن تجد لسنته تبديلا!!!   (1) سورة الأعراف آية 90. (2) سورة الأنعام آية 43. (3) سورة الأنعام آية 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 742 من سنة الله مع الأمم [سورة الأعراف (7) : الآيات 96 الى 102] وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102) المفردات: لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ: لسهلنا عليهم. بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ: المراد خيرى السماء والأرض المعنوي والمادي كالعلوم والمطر والنبات. ضُحًى: وقت ارتفاع الشمس وامتلاء الكون بالضوء. أَوَلَمْ يَهْدِ: أو لم يبين. عَهْدٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 743 العهد: الوصية، وقد يكون بين طرفين كالمعاهدة أو طرف واحد. بأن يعهد إليك بشيء، أو تلتزم به، والميثاق: العهد المؤكد. المعنى: هكذا نظام الله في الكون، وتلك سنته مع الخلق قديما وحديثا فاعتبروا واتعظوا أيها الناس خاصة أنتم يا زعماء الشرك من العرب، ولو أن أهل القرى التي كذبت رسلها، ولم تؤمن بربها. لو أنهم بدل الكفر آمنوا ومكان العصيان اتقوا لفتح الله عليهم أنواع الخير من السماء والأرض كالعلوم والهداية والوحى والإلهام، وكذا المطر والسحاب وسهل عليهم خير الأرض من نبات ومعادن، وخصب وكنوز. والمعنى: أنهم لو آمنوا ليسر الله لهم كل خير من كل جانب. ولكن كذبوا وكفروا فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر بما كانوا يكسبون ... فعلوا ما فعلوا فأخذهم الله بغتة، وعلى غرة منهم، أبعد ذلك أمن أهل القرى أن يأتيهم بأسنا، وينزل بهم عذابنا وهم بائتون ونائمون؟!! أو أمن أهل القرى أن يأتيهم العذاب ضحى وهم يلعبون، فإن من يأتى من الأعمال ما لا فائدة فيه فهو لاعب ولاه!!! والمعنى: إن أمنتم ضربا منها لم تأمنوا الآخر. أفأمنوا مكر الله؟ وقد كرر الاستفهام الإنكارى لزيادة التوبيخ، وهو معطوف على قوله: أفأمن أهل القرى، ولذا كان بالفاء، ومكر الله عبارة عن جزائه، وأخذه العبد إذا طغى من حيث لا يشعر مع استدراجه والإملاء له، فعلى العاقل ألا يأمن مكر الله ولو كانت إحدى رجليه في الجنة، ومعنى الآية: أيأخذهم ربك بغتة في الليل أو الضحى فأمنوا مكر الله؟! إن كان الأمر كذلك فقد خسروا أنفسهم فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون. أجهل هؤلاء الناس (خاصة قريشا) الذين يرثون الأرض من بعد أهلها- بعد هذا البيان الكامل- أن سنة الله في الخلق لا تتغير؟ أكان ما ذكر ولم يتبين لهم أن شأننا معهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 744 كشأننا مع من سبقهم؟! فلو نشاء أصبناهم بذنوبهم، وعذبناهم على أعمالهم، كما أصبنا أمثالهم من قبل بغتة وهم لا يشعرون. ونحن نطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون الحكم والنصائح سماع قبول وتدبر وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ [سورة يونس آية 101] . تلك القرى التي مر عليك ذكرها نقص عليك بعض أنبائها وأخبارها، مما فيه عبرة وعظة وتسلية، ولقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينات، والمعجزات الخارقات ولكنهم لم يؤمنوا بما كذبوا به من قبل مجيء المعجزات، أى: في بدء الدعوة، فهم قد ظلوا على حالهم، ولم تنفعهم الآيات الدالة على صدق الرسل. مثل ذلك الطبع الذي طبعه الله على قلوب الكافرين من تلك الأمم يطبع الله على قلوب الكافرين من أمة الدعوة، إن هذا الجمود والعناد الذي تراه عند كفار مكة قد سبقوا بمثله عند الأمم السابقة، فلا تأس عليهم، ولا تحزن على كفرهم. وما وجدنا لأكثرهم عهدا وفوا به، سواء كان عهد فطرة أو عهد شرع أو عرف، وإننا وجدنا أكثرهم خارجين على كل عهد، وفي التعبير (بأكثرهم) إيماء إلى أن البعض قد آمن ووفى بعهده. قصة موسى عليه السلام [سورة الأعراف (7) : الآيات 103 الى 116] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَماذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 745 المفردات: مُوسى: هو موسى بن عمران نبي بنى إسرائيل. فِرْعَوْنَ: لقب كل ملك لمصر في العهد القديم، وقيل: كان اسمه منفتاح. حَقِيقٌ: جدير وخليق. تَأْمُرُونَ: تشيرون علىّ، من قولهم: مرني بكذا، أى: أشر على به. أَرْجِهْ وفي قراءة أرجئ بمعنى: أخر ولا تفصل في شأنه. حاشِرِينَ جامعين لك السحرة. أفردت قصة موسى- عليه السلام- عن قصص الأنبياء السابقين، لأن قصصهم جميعا طبع على غرار واحد إذ كلهم أرسل لأمته وقد كذبته وحل بها العذاب، وأما موسى فقد أرسل لغير قومه، وكانت معجزته ظاهرة واضحة، وآمن به أكثر قومه، وشريعته أقرب الشرائع لشريعة محمد- عليه الصلاة والسلام- لاشتمالها على أمور دينية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 746 ودنيوية وأسس أمة لها حضارة ونظام، ولذا تراها ذكرت مفصلة وكررت في القرآن وذكر اسمه أكثر من مائة مرة. المعنى: ثم بعثنا بعد هؤلاء الرسل موسى بآياتنا ومعجزاتنا الدالة على صدقه ورسالته، بعثناه إلى فرعون وملئه فظلموا بها وكفروا، ولا شك أن الظلم والكفر من واد واحد إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» على أنهم ظلموا بها أنفسهم، وظلموا غيرهم بما صدوا عنها وآذوا في سبيلها.. وإنما ذكر أن موسى بعث إلى فرعون وملئه دون قومه لأنه أرسل لإنقاذ بنى إسرائيل من فرعون وكيده، والذين استعبدهم هو فرعون وأشرافه وبطانته، أما الشعب فكانوا مستعبدين كذلك على أن فرعون وملأه لو آمنوا لآمن الشعب كله. فانظر كيف كان عاقبة المفسدين؟ هذه جملة القصة وخلاصتها والعبرة منها، مع إفادة التنبيه والتفات إلى القصة، وهاك التفصيل: وقال موسى: يا فرعون إنى رسول من رب العالمين، الذي بيده كل شيء، وأنا حقيق بأنى لا أقول على الله إلا الحق، وكيف يكون غير ذلك؟ وأنا رسول رب العالمين، فتراه بإيجاز أثبت الرسالة له من قبل المولى- جل شأنه- وأنه معصوم من الكذب وقد أيد بالمعجزات، وقد جئتكم يا قوم ببينة وحجة من ربكم، لا من وضعي أنا بل من الله- سبحانه- الواحد الأحد رب السماء والأرض ورب فرعون وهامان، فهذا فرعون مخلوق ضعيف لا رب معبود. وإذا كان الأمر كذلك فأرسل معنا يا فرعون بنى إسرائيل، ولا تعذبهم قد جئناك بآية من ربك، والسلام على من اتبع الهدى. قال فرعون: إن كنت جئت بآية- كما تدعى- فأت بها إن كنت من الصادقين في دعواك، فأجابه موسى بالفعل لا بالقول. فألقى موسى عصاه، فإذا هي ثعبان ظاهر حقيقى يتحرك وينتقل من مكان إلى مكان وأخرج يده من جيب قميصه بعد إلقاء العصا فإذا هي بيضاء ناصعة البياض، تتلألأ لكل من ينظر إليها.   (1) سورة لقمان آية 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 747 وهناك ذكرت روايات في كتب التفسير حول الثعبان والعصا، واليد، والله أعلم. إنها إسرائيليات مدسوسة من خيال وهب بن منبه وكتب الأحبار وأمثالهم. وماذا حصل بعد هذا وما قالوا؟ قال الملأ من قوم فرعون، وهم أشراف القوم وبطانة الملك: إن هذا لساحر عليم بفنون السحر وضروبه، وقد وجه همه لسلب ملككم، وإخراجكم من أرضكم، ونزع الملك من أيديكم بطرق سحرية قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ [سورة يونس آية 78] . قال فرعون لهم: فماذا تأمرون؟ وبأى شيء تشيرون؟ قالوا: أخر الفصل في أمره وأمر أخيه، وأرسل في المدائن جندك وعيونك، جامعين لك السحرة، وسائقيهم إليك، حتى يأتوك بكل ساحر عليم فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً. قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى. فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى [طه 58- 60] . وجاء السحرة من كل حدب وصوب وقالوا لفرعون: أئن لنا لأجرا كاملا يكافئ ما نقوم به من عمل عظيم يتم به الغلب على موسى وسحره؟ وقال فرعون: نعم لكم أجركم كما تطلبون، وإنكم لمن المقربين إلى مجلسنا، فيكون السحرة جمعوا بين المركزين المالى والأدبى. ولما اجتمعوا قال السحرة- في اليوم الموعود لموسى-: إما أن تلقى بسحرك، وإما أن نكون نحن الملقين، وهذا كلام الواثق من نفسه. قال موسى: ألقوا ما أنتم ملقون قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ [سورة يونس آية 81] . فلما ألقوا سحروا أعين الناس من النظارة، واسترهبوهم وملئوا قلوبهم خوفا وجاءوا بسحر عظيم في الظاهر. سحروا أعين الناس بخفة الأيدى والحركة السريعة، أو باستخدام الزئبق في العصى أو البخور المؤثر على العيون. ومن تعبير القرآن بقوله: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ. وقوله: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 748 سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى أن السحر له تأثير على خيال الشخص فقط ولا تأثير له على حقيقة الأشياء، ومن هنا كان الفرق بين السحر والمعجزة، إذ إن المعجزة تظهر على يد مدعى النبوة، والسحر على يد رجل فاسق، والسحر كان يعلم عند قدماء المصريين، وله ضروب وأنواع شتى، على أنه خيال، والمعجزة لها حقيقة واقعة، وتأتى بلا تعليم. السحرة مع موسى وفرعون [سورة الأعراف (7) : الآيات 117 الى 126] وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (122) قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126) المفردات: تَلْقَفُ لقف الشيء وتلقفه: تناوله بحذق وسرعة. ما يَأْفِكُونَ الإفك في الأصل: قلب الشيء عن وجهه الأصلى، ولذا قيل للكذاب: أفاك لقلبه الكلام عن وجهه، وكل أمر صرف عن وجهه فهو مأفوك، فالإفك يكون في القول بالكذب ويكون في العمل بالسحر. انْقَلَبُوا: عادوا. لَمَكْرٌ المكر: صرف الغير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 749 عما يقصده بحيلة. مِنْ خِلافٍ المراد: يقطع اليد اليمنى مع الرجل اليسرى وبالعكس. تَنْقِمُ: تكره. أَفْرِغْ عَلَيْنا: صب علينا صبا يغمرنا. المعنى: أوحى الله إلى موسى أن ألق عصاك فكانت ثعبانا ظاهرا، وكان على أثر ذلك أن دعا فرعون السحرة، وأوحى إليه مرة ثانية أن ألق عصاك لما حضر السحرة وسحروا أعين الناس فألقاها فإذا هي تأتى على فعل السحرة فتبطله، وتلقف ما يأفكون، قال ابن عباس: فجعلت العصا لا تمر بشيء من حبالهم وعصيهم إلا التقمته فعرفت السحرة أن هذا شيء من السماء وليس بسحر فخرّوا ساجدين. وقيل المعنى: تبطل سحرهم، وتبين حقيقته للناس وتبطل عمله المصروف من وجهة الحق إلى الباطل. ولما كان هذا شأنهم، وقد عرف السحرة حقيقتها، وأنها ليست كالسحر الذي يعرفونه ظهر الحق وثبت أن موسى رسول وليس ساحرا، وبطل ما كانوا يعملون. فغلب موسى فرعون وجموعه المجموعة في اليوم المشهود بأمر الله وقوته، وانقلبوا صاغرين أذلة، يجرون ثياب الخزي والعار، وخر السحرة ساجدين كأنما ألقاهم ملق لشدة خرورهم، إذ الحق بهرهم والنور دفعهم فلم يتمالكوا أنفسهم مما رأوا، وقالوا: آمنا برب العالمين رب موسى وهارون، سبحانه وتعالى عما يصفون!! ولما ظهر الحق وزهق الباطل، وألقى السحرة ساجدين مؤمنين وفي هذا خطر شديد على فرعون وملئه، قال فرعون: أآمنتم بموسى قبل أن آذن لكم؟ إن هذا العمل الذي عملتموه وهو أن تتظاهروا أولا بالعداوة، والاعتداد بالسحر، وإرادة الغلبة لموسى مع إصراركم على أنكم ستنحازون إليه بعد التجربة، إن هذا لمكر، وأى مكر كهذا، دبرتم العمل بالمدينة وأحكمتم الرواية فيها ثم أمامنا وأمام الشعب مثلتموها، وما دفعكم إلى هذا إلا حبكم في أن تخرجوا من البلد أهلها ثم تستقلوا بها مع بنى إسرائيل إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ «1» فسوف تعلمون ما أنا فاعل بكم.   (1) سورة طه آية 71. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 750 لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف كل يد مع رجل تنكيلا بكم وتعذيبا، ثم لأصلبنكم على الخشب جميعا حتى تموتوا، وتكونوا عبرة وعظة لغيركم. ولكنهم ردوا رد المؤمن الواثق قائلين: لا ضير علينا في هذا إن الأمر لله والمرجع إليه مهما طال العمر أو قصر، وإن الجسد فان، وإنا إلى ربنا منقلبون حتما، وما تفعلون بنا إلا تعجيل اللقاء المحتوم. وما تكرهون منا؟ إنكم لا تكرهون منا إلا إيماننا بالله ورسوله لما جاءتنا البينات. وظهرت أمامنا المعجزات، ونحن أدرى بمعرفة السحر وأثره، وقالوا: ربنا صب علينا صبرا يفيض كالماء، وثبت أقدامنا على صراطك المستقيم، وتوفنا مسلمين، فإنك أنت العزيز الحكيم. ما كان من أمر فرعون وملئه مع موسى وقومه [سورة الأعراف (7) : الآيات 127 الى 129] وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَمِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 751 المفردات: وَيَذَرَكَ: يتركك. نَسْتَحْيِي: نبقيهم أحياء. المعنى: ولما كان أمر السحرة ومن تبعهم من الناس حينما انضموا إلى موسى وآمنوا به على مشهد من الجموع المحتشدة، لما كان هذا يقض مضاجع فرعون وملئه قالوا لفرعون: أتذر موسى وقومه أحرارا في الأرض يدعون لدينهم، ويكثر سوادهم ويتركك موسى مع آلهتك فلا يعبدونك ولا يعبدونها وفي هذا فساد للأرض، وذهاب للملك؟!! قال فرعون: سنقتل أبناءهم، ونستبقى نساءهم أحياء فلا يكثرون كما كنا نفعل قبل ولادة موسى ليعلموا أنا على هذا قادرون، وأنا فوقهم قاهرون وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ «1» . ولما سمع بنو إسرائيل خافوا فطمأنهم موسى وقال: استعينوا بالله وحده فهو القادر على كل شيء، واصبروا فالصبر سلاح المؤمن، واعلموا أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، واعلموا أن العاقبة للمتقين، والنصر للمؤمنين فليس كما يظن فرعون وقومه. ولكن هذه الوصية لم تهدئ من روعهم فقالوا والأسى يحز في نفوسهم: أوذينا من قبل مجيئك، ومن بعد إرسالك، فقد كنا نسأم الخسف، ونذوق المر، وتقتل أولادنا ويسوموننا سوء العذاب، وها أنت ذا ترى اليوم ما نحن فيه!! قال موسى لهم: رجائي من الله- والله محققه إذا شاء- أن يهلك عدوكم ويجعلكم خلفاء في الأرض وسادة، وينظر كيف تعملون؟؟!   (1) سورة غافر آية 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 752 جزاء العصاة في الدنيا [سورة الأعراف (7) : الآيات 130 الى 133] وَلَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَقالُوا مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفادِعَ وَالدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) المفردات: بِالسِّنِينَ: جمع سنة، وهي بمعنى الحول، إلا أنه كثر استعمالها في السنة المجدبة كما هنا. الْحَسَنَةُ: المراد: الخصب والنماء. سَيِّئَةٌ المراد بها: ما يسوءهم من جدب وقحط، أو ما يصيبهم في البدن أو المال. يَطَّيَّرُوا: يتطايروا ويتشاءموا، ولعل السر في إطلاق التطير على التشاؤم أن العرب كانت تعقد الأمل في الخير على الطائر إذا طار يمينا وتتوقع الشر إذا طار جهة اليسار. طائِرُهُمْ: المراد: ما قضى لهم وقدر. الطُّوفانَ: ما يطوف بالإنسان ويغشاه، وغلب في طوفان الماء. الْجَرادَ: حيوان طائر يأكل النبات. الْقُمَّلَ: هو السوس الذي يظهر في القمح. وقيل هو الدود الذي يأكل الزرع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 753 المعنى: أقسم الله- سبحانه وتعالى- إظهارا لكمال العناية بمضمون المقسم عليه لما له من الأثر في تربية النفوس، أقسم أنه أخذ آل فرعون بالقحط والجدب والسنين العجاف، وقد شاع استعمال القرآن كلمة (أخذ) في العذاب والشدة وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ [سورة هود آية 102] . ولقد أخذناهم بهذا كله لعلهم يتذكرون ويتعظون، وذلك أن من سنته تعالى أن يرسل الزواجر من المصائب والآفات والنقص في الثمرات تنبيهات لعل أصحابها ترجع وتثوب، فإن ثابت واهتدت كان الخير، إلا فالهلاك المحتوم، والقضاء المعلوم، وقد كان آل فرعون من النوع الأخير ومثلهم كل شخص أو أمة لم تنتبه للزواجر، ولم تتعظ بالحوادث في كل زمان إلى يوم القيامة. فإذا جاءت أمة فرعون الحسنة من الخير والنماء، والزيادة في الثمرات قالوا: إنما أوتينا هذا على علم ومعرفة، وهذا لنا نستحقه بعملنا، وإن أصابتهم سيئة الجدب وقلة الثمر وهلاك الزرع تشاءموا واطّيّروا بموسى ومن معه يا سبحان الله!! أهكذا يكون ضيق العقل وفساد الرأى وعدم التوفيق؟ فهم يقولون عند حلول المصائب بهم: ما هذا إلا بشؤم موسى وقومه، وغفلوا عن سيئات أعمالهم، وشرور أنفسهم إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [سورة النساء آية 78] . ألا إن كل ما يصيبهم من خير وشر فهو بقضاء الله وقدره، والله قد قضى أن يكون الخير ابتلاء أيشكر صاحبه أم يكفر؟ وقضى أن يكون الشر ابتلاء كذلك هل يرجع صاحبه عن الغي والفساد أم يظل سادرا في الطغيان والضلال؟!! والله قد قضى كذلك أن تكون أعمال العباد سببا فيما ينزل بهم من خير وشر غالبا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون الحكمة الإلهية في تصريف الكون، ولا يعلمون كيف ربطت الأسباب بمسبباتها، وأن كل شيء عنده بمقدار، فليس هناك شيء بشؤم موسى أو غيره، ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون. ومع ذلك كله فقد قالوا: مهما تأتنا به من آية تستدل بها على صدقك وأنك محق في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 754 دعوتك- وسموا ما يأتى به موسى آية كما يقول فقط لا عن اعتقاد- مهما تأتنا به من الآيات لتسحرنا بها وتصرفنا عما نحن فيه بلطف ورقة فما نحن لك بمصدقين أبدا، هذا ما كان منهم. أما جزاؤهم عليه فقد أرسل الله عليهم الطوفان والسيل فأغرقهم، وأتلف زراعتهم كما ورد في التوراة وأرسل عليهم الجراد الذي يأكل ما اخضر من ثمارهم وزرعهم، وأرسل عليهم القمل وهي صغار الذر (كالدودة) التي تأتي عندنا اليوم فتأكل البرسيم وباقى الزرع في لحظة وأرسل عليهم الضفادع وجعل ماءهم كالدم. كل ذلك آيات مفصلات واضحات، لا تخفى على عاقل أنها من عند الله وأنها عبرة ونقمة لهم، وهذه آيات دالة على صدق موسى إذ قد توعدهم بوقوعها على وجه التفصيل لتكون دلالتها على صدقه واضحة لا تحتمل التآويل، وهذا معنى آياتٍ مُفَصَّلاتٍ. أما هم فاستكبروا وعاندوا ولم يعتبروا بعد هذا كله، وكانوا قوما مجرمين. وهذه الآيات تشير أولا إلى ربط الأسباب بالمسببات على حسب مشيئته تعالى. وثانيا إلى أن الآفات التي تصيب الزرع فتهلكه والثمر فتنقصه هذا كله بسبب أعمال الناس فمن أعمالنا سلط علينا، وما الآفات التي يرسلها الله كل عام علينا ببعيدة، وحذار أن تقولوا: نحن لا نستحق هذا، فاعتبروا يا أولى الأبصار، وفقنا الله للخير. عاقبة الكفر وخلف الوعد [سورة الأعراف (7) : الآيات 134 الى 136] وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 755 المفردات: الرِّجْزُ: العذاب الشديد الذي يضطرب له الناس. يَنْكُثُونَ: ينقضون العهد، والنكث في الأصل، نقض الغزل، ثم استعمل في نقض العهد. الْيَمِّ: البحر، سمى بذلك لأنه مقصود، والتيمم: القصد. المعنى: ولما وقع عليهم ذلك العذاب الشديد الشامل لكل نقمة من النقم الخمس السابقة قالوا يا موسى: ادع لنا ربك بسبب ما عهده عندك من النبوة والرسالة والكرامة والمحبة، ونحن نقسم لك لئن كشفت عنا ذلك الرجز لنؤمنن لك ولنصدقن بك وبرسالتك ولنرسلن معك بنى إسرائيل إلى أرض الميعاد. فلما كشفنا عنهم العذاب وأزلنا عنهم هذا العقاب، إلى أجل محدود هم بالغوه لا محالة فمعذبون فيه لا ينفعهم ما تقدم من الإمهال وكشف العذاب إلى حلول ذلك اليوم.. إذ هم ينكثون، وينقضون العهد من بعد ميثاقه. وقد ورد أنهم كانوا يمكثون في العذاب الواحد من الطوفان والجراد ... إلخ أسبوعا ثم يسألون موسى الدعاء برفعه، ويعدونه بالإيمان وإرسال بنى إسرائيل ثم ينكثون العهد وينقضونه. ولما حان الأجل المضروب انتقمنا منهم فأغرقناهم في البحر، وذلك بسبب تكذيبهم بالآيات كلها التي نزلت عليهم، وكانوا غافلين عما يعقبها من العذاب في الدنيا والآخرة. هذا لأكثرهم، وبعضهم آمن، وبعضهم كان يكتم إيمانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 756 من نعم الله على بنى إسرائيل [سورة الأعراف (7) : آية 137] وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَدَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَما كانُوا يَعْرِشُونَ (137) المفردات: مَشارِقَ الْأَرْضِ وَمَغارِبَهَا المراد: جميع جهاتها، والأرض هي أرض الشام ومصر. كَلِمَتُ رَبِّكَ: وعده لهم. دَمَّرْنا الدمار: الهلاك والخراب. يَعْرِشُونَ: يبنون. ما تقدم كان جزاء فرعون وملئه وهكذا جزاء الظالمين!! وما هنا عاقبة المؤمنين الصابرين من بنى إسرائيل. المعنى: وأورثنا القوم من بنى إسرائيل الذين كانوا يستضعفون بقتل أبنائهم، واستحياء نسائهم، وإسامتهم سوء العذاب، أورث الله هؤلاء المستضعفين الأرض التي باركنا فيها بالخصب والنماء، وكثرة الخيرات والأمطار. أورثناهم مشارقها من حدود الشام ومغاربها من حدود مصر، وتمت كلمة ربك الحسنى، وتحقق وعده الأسمى: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ «1» وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وهكذا نتيجة الصبر، وحسن تلقى الأمر، أما من يخلعه جزعه، ويهلكه هلعه فتكون عاقبة أمره خسرا.   (1) سورة القصص الآيتان 5 و 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 757 ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه من المبانى والقصور، والعمارات والدور، وما كانوا يقيمون من العرائش والسقف في الجنات والبساتين، وهكذا من يقوم وقلبه عامر بالإيمان، وروحه مليئة باليقين والإسلام، يقوم ضد عدو الله ولو كان فرعون مصر صاحب الحول والطول والجند والحشم والمال والخدم، يقوم لله ولإزالة الفساد والطغيان فالله معه وناصره ومؤيده. وقد كان موسى وهارون ومن معهما كذلك إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ وما حوادث الانقلاب التي مرت بنا ببعيدة!!. نعم الله على بنى إسرائيل وما قابلوها به [سورة الأعراف (7) : الآيات 138 الى 141] وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) المفردات: وَجاوَزْنا جاز الشيء وجاوزه وتجاوزه: عداه وانتقل عنه. يَعْكُفُونَ عكف يعكف على الشيء: أقبل عليه ولازمه تعظيما له. أَصْنامٍ جمع صنم، وهو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 758 ما يصنع من خشب أو حجر أو معدن أو عجوة رمزا لشيء حقيقى أو خيالي ليعظم تعظيم العبادة، والتمثال لا بد أن يكون مثالا لشيء حقيقى، فإن عبد فهو صنم. مُتَبَّرٌ التبار: الهلاك. باطِلٌ: هالك وزائل لا بقاء له. المعنى: أنعم الله على بنى إسرائيل نعما لا تحصى حيث نجاهم من فرعون وملئه، وأهلك عدوهم وأورثهم أرضهم وديارهم وأموالهم، وجاوز بهم البحر آمنين، وأغرق فرعون وقومه، ومع هذا لم يقابلوا النعم بما يجب من الشكر والطاعة، بل قابلوها بالكفر والعصيان، وهكذا كان اليهود قديما وحديثا، وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم. وجاوزنا ببني إسرائيل البحر، أى: تجاوزوه بعناية الله ورعايته حتى كأن الله معهم بذاته، فلما انتقلوا عنه ورأوا قوما «قيل: من العرب، وقيل: من غيرهم» عاكفين على أصنام لهم ومقبلين عليها ومعظمين لها تعظيم العبادة والتقديس. قالوا يا موسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، وهذا الطلب منهم دليل على أن تقديس الأصنام وعبادة غير الله كانت متأصلة في نفوسهم وفيهم حنين لها، وهذا شأن من دخل في دين الله حديثا. ولقد رد موسى على من طلب منه هذا الطلب بقوله: إنكم قوم تجهلون ما يجب لله- سبحانه- من صفات التقديس والكمال، وتجهلون حقيقة التوحيد الخالص له سبحانه، وأنه ليس في حاجة إلى شفيع أو واسطة، بل هو أقرب إلى عبده من حبل الوريد، وتجهلون حقيقة الرسالة بدليل طلبكم منى هذا!! إن هؤلاء القوم العاكفين على أصنامهم مقضىّ على ما هم فيه بالهلاك والتبار، إذ إنها لا تنفع أبدا ولا تضر، وباطل عملهم في الدنيا والآخرة، وفي تعبير القرآن إشارة إلى أن عبدة الأصنام هم المعرضون للهلاك، وأن عملهم هذا إلى زوال، أو في هذا بشارة بزوال عهد الوثنية من تلك الأرض، قل لهم يا موسى: أغير الله خالق السموات والأرض المنعم عليكم بهذه النعم أأطلب لكم إلها غيره؟!! إن هذا لشيء عجيب. وكيف تطلبون هذا وهو فضلكم على عالمي زمانكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 759 واذكروا وقت أن أنجيناكم من آل فرعون، وأنقذناكم من ذل العبودية ونار الاستعمار، وأنهم كانوا يسومونكم العذاب السيئ: يقتلون أبناءكم الذكور ويتركون نساءكم أحياء، وفي ذلكم المذكور من الإنجاء من فرعون وعمله، والإنعام عليكم بهذه النعم بلاء واختبار من ربكم عظيم، والمراد بذكر الوقت ذكر ما حصل فيه حتى يشكروا الله- سبحانه- ويخصوه وحده بالعبادة والتقديس. رؤية الله ونزول التوراة [سورة الأعراف (7) : الآيات 142 الى 145] وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 760 المفردات: مِيقاتُ رَبِّهِ: الوقت المحدد لعمل من الأعمال كمواقيت الصلاة والصوم. اخْلُفْنِي: كن خليفتي فيهم. تَجَلَّى رَبُّهُ: انكشف وظهر نوره. دَكًّا: مدكوكا. صَعِقاً: مصعوقا مغشيا عليه. أَفاقَ: رجع إليه عقله. بِقُوَّةٍ: بعزيمة ونشاط. المعنى: ذكر المفسرون أن موسى- عليه السلام- وعد بنى إسرائيل إذا أهلك الله عدوهم فرعون أن يأتيهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون، وما يذرون، فلما أهلك فرعون سأل موسى ربه أن ينزل الكتاب الموعود فأمره أن يصوم ثلاثين يوما فصامها، فلما تمت أنكر موسى رائحة فمه فاستاك، فأمره الله أن يصوم عشرا وأن يلقى الله صائما فتلك هي الأربعون ليلة التي ذكرت في البقرة مجملة وذكرت هنا مفصلة. ضرب الله- تعالى- موعدا لموسى لمكالمته فيه، وإعطائه الألواح المشتملة على أصول الشريعة، وقال موسى لأخيه هارون: كن خليفتي في القوم مدة غيابى عنهم، وعليك بإصلاح نفسك وخاصتك، وأهل مشورتك، وعملك وحكمك لتكون من الصالحين للخلافة، وإياك أن تتبع رأى أهل الفساد والضلال، هذه هي سبل النجاة للحكام. ولما جاء موسى للوقت المحدود، وكلمه ربه بلا واسطة كلاما سمعه من كل جهة استشرفت نفسه للجمع بين فضيلة الكلام والرؤية، فقال: رب أرنى ذاتك المقدسة، واجعلنى متمكنا منها بأن تتجلى لي فأنظر إليك. قال الله: لن تراني الآن ولا في المستقبل إذ ليس لبشر ما أن يطيق النظر إلى في الدنيا «حجابه النور لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه (أنواره) ما انتهى إليه بصره من خلقه» حديث شريف. ثم أراد المولى أن يخفف عليه الأمر، وأنه لا يطيقها فقال مستدركا: ولكن انظر إلى الجبل الذي يرجف بك، ويضطرب كيف أفعل به؟ وكيف أجعله مدكوكا ... ، فإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 761 استقر مكانه وثبت عند التجلي الأعظم عليه فسوف تراني إذ هو مشارك لك في الوجود، وإذا كان الجبل في قوته وثباته لم يقو على الثبات فكيف بك يا موسى؟ فلما تجلى ربه للجبل، وانكشفت بعض آياته له جعله دكا مدكوكا، وخر موسى من هول ما رأى مصعوقا، فلما أفاق من غفوته، وصحا من رقدته قال: سبحانك يا رب وتنزيها لك وتقديسا، إنى تبت إليك من سؤالى، وقيل: تبت إليك من الجرأة والإقدام على السؤال بلا إذن، وأنا أول المؤمنين بعظمتك وجلالك. ثم أراد المولى أن يطيب خاطره ويبين له مكانته فقال: يا موسى إنى اصطفيتك على الناس الموجودين معك برسالتي ونبوتي، وخصصتك بكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين القانعين، ولا تطلب ما ليس لك. وكتبنا له في الألواح من كل شيء مما يحتاجون له من أمور دينهم، موعظة مؤثرة وهداية نافعة، وتفصيلا لأحكام الشريعة. وهل هذه الألواح هي كل ما أوتيه أو بعضه؟ وهل كان عددها عشرا أو أقل؟ الله أعلم بذلك. فخذها بقوة، واقبلها بجد ونشاط، وأمر قومك يأخذوا بأحسنها فلكل درجات ومراتب، فمثلا هناك عفو وقصاص وصبر وانتصار ... إلخ فليأخذوا بالعفو والصبر وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ. سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ كعاد وثمود، أو قوم فرعون، وقيل: سترون عاقبة من يخرج من طاعتي!!! ورؤيا الله- سبحانه وتعالى- كانت ولا تزال مثار خلاف وجدل لتعارض النصوص فيها. مثلا لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ، لَنْ تَرانِي مع قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ. إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ والأحاديث الصحيحة الكثيرة. ولذا قال بعضهم: إن الرؤية محال، وبعضهم قال: إنها جائزة، وينبنى على هذا طلب موسى للرؤية. هل كان للرد على من طلب من قومه بالدليل لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً وعلى هذا فطلبه خارج، ولذا تاب وأناب، وقيل: إنها جائزة، والتوبة من التعجل بالسؤال، وعلى العموم فهذا بحث مبسوط في كتب التوحيد وكتب التفسير المطولة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 762 وجمهرة العلماء على أن رؤيا العباد لربهم في الآخرة حق والله أعلم بكتابه. وتشير الآية إلى أن الواجب على أصحاب الشرائع أن يأخذوها بجد ونشاط وينفذوا أحكامها كلها متبعين أحسن السبل وأفضلها، وأن الأمة تكون عزيزة الجانب ما دامت متمسكة بدينها، عادلة في أحكامها، حتى إذا خرجت من دينها وظلمت في أحكامها انهارت وضاعت، انظروا إلى بنى إسرائيل كيف كانوا وما آل إليه أمرهم!! السبب الحقيقي للكفر غالبا [سورة الأعراف (7) : الآيات 146 الى 147] سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَكانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147) المفردات: يَتَكَبَّرُونَ الكبر: غمط الحقوق وعدم الخضوع لها، ويصحبه احتقار الناس غالبا. الرُّشْدِ الرشد والرشاد: الصلاح والاستقامة، وضده الغي والفساد. المعنى: يبين الله- سبحانه وتعالى- سبب الطغيان والكفر، والظلم والفساد، فيقول ما معناه: سأمنع قلوب المتكبرين عن طاعتي، وعن اتباع رسلي، المتعالين على غيرهم بغير حق، سأصرفهم عن الإيمان بآياتى، وأمنعهم من فهم الأدلة والحجج الدالة على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 763 عظمتي، وما في شرعي من الهدى والنور، فالتكبر والكبر مرض نفسي خطير ينشأ من مركب النقص عند ضعفاء العقول والأفهام، ويجعل صاحبه في صندوق محكم لا يصل إليه نور أبدا ولا خير أبدا لأنه يفهم في نفسه أنه كبير، وأنه لا يحتاج إلى شيء، وهذا معنى صرفهم عن الآيات، أى: يطبع الله على قلوب المتكبرين بحيث لا يفكرون في الآيات ولا يعتبرون بها لإصرارهم على التكبر فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ «1» وقد منع الله قوم فرعون عن فهم الآيات لأنهم متعالون ظالمون متكبرون وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا «2» وهكذا يا محمد كفار قريش صرفهم الكبر والغرور عن النظر في الآيات، ألم يقولوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «3» فلا تأس عليهم ولا تحزن لهم، هؤلاء المتكبرون من صفاتهم أنهم لا يؤمنون بأى آية تدل على الحق وتثبته إذ الآيات تفيد من نفس مستعدة للفهم وتقبل الحق، وهم ينفرون من سبيل الهدى والرشاد، ولا يختارون إلا الغي والفساد، بل إن يروا سبيل الغي سارعوا إليه وانغمسوا فيه. وما ذلك كله إلا لأنهم كذبوا بآياتنا، وكانوا عنها غافلين. والذين كذبوا بآياتنا المنزلة بالحق والهدى فلم يؤمنوا ولم يهتدوا، وكذبوا بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب، أولئك تحبط أعمالهم وتذهب سدى، لأنهم اتبعوا أنفسهم وشياطينهم، وتركوا أمر الله وراءهم ظهريا فكانت أعمالهم هباء منثورا، وهل يجزون إلا بما كانوا يعملون!!! قصة عبادتهم العجل وموقف موسى [سورة الأعراف (7) : الآيات 148 الى 154] وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكانُوا ظالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَيَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْواحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَلا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَفِي نُسْخَتِها هُدىً وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)   (1) سورة الصف آية 5. (2) سورة النمل آية 14. (3) سورة الزخرف آية 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 764 المفردات: حُلِيِّهِمْ مفردة: حلى، وهو ما يتخذ للحلية من ذهب أو فضة. عِجْلًا: هو ولد البقرة. خُوارٌ: صوت البقر، كالرغاء للإبل. أَسِفاً الأسف: الغضب الشديد، أو الحزن، والأسيف: الشديد الغضب. أَعَجِلْتُمْ عجل عن الأمر: تركه غير تام، وأعجله عنه غيره: حمله على تركه ناقصا. الْأَلْواحَ مفردة لوح، وهو ما كتب في التوراة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 765 غضب المراد: ما أمروا به من قتل أنفسهم. وَذِلَّةٌ: خروجهم من ديارهم وهوانهم على الناس. نُسْخَتِها: ما نسخ وكتب منها. يَرْهَبُونَ الرهبة: الخوف الشديد. المعنى: داء التقليد يسرى في الأمة كما يسرى في الفرد من حيث لا يشعر، وبنو إسرائيل عاشوا مع المصريين دهرا طويلا وهم يعبدون الأصنام والأوثان من شمس وغيرها ولذلك كلما سنحت فرصة خاطفة عادوا إلى ما كانوا عليه، فمرة يقولون: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة، وقد مضى ذلك. وهنا عند ما فارقهم موسى لمناجاة ربه اتخذوا من حلى القبط التي استعاروها منهم. اتخذوا عجلا ذا جسد، وله خوار، اتخذوه إلها لهم، والذي اتخذه واحد منهم هو السامري، وإنما نسب إليهم جميعا لأنه عمل برأى جمهورهم، ولم يحصل منهم إنكار عملي فكأنهم مجمعون عليه. وقد اختلف المفسرون في ذلك العجل، هل له لحم ودم وخوار حقيقة؟ أم هو تمثال من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوت كالبقر. الرأى الأول لقتادة والحسن البصري وغيره، وتعليله أن السامري أخذ قبضة من أثر فرس جبريل فنبذها في جوف التمثال فحلت فيه الحياة وأصبح جسدا ذا روح وله خوار، ويؤيد هذا ظاهر القرآن الكريم. والرأى الثاني أنه تمثال خواره بسبب الريح الذي يدخل فيه بكيفية فنية عملها السامري. وهاك الرد على من اتخذ العجل إلها: ألم يروا أن هذا الإله لا ينطق، ولا يكلمهم بواسطة رسول كموسى، ولا هو يهديهم إلى خير أبدا؟ فهل يعقل أن يكون هذا إلها؟!! والإله الحق هو الله- سبحانه وتعالى- لو كان البحر مدادا لكلماته لنفد البحر قبل أن تنفد كلماته، وهو الهادي إلى الخير والرشاد بما ركب من العقول، وبما أرسل من رسل. اتخذوه بلا دليل ولا برهان، بل عن جهل وتقليد وهكذا كانوا ظالمين في كل أعمالهم. ولما تبين لهم وجه الحق ندموا ندما شديدا، وازدادت حسرتهم لما فرطوا في جنب الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 766 وسقط في أيديهم، وهذا تعبير لم يسمع قبل القرآن ولا عرفته العرب قبل هذا، وهو كناية عن الندم والحسرة، وذكرت اليد، وإن كان الندم في القلب لأن أثره يظهر فيها بعضّها أو بالضرب بها على أختها فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها [الكهف 42] . ولما سقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ضلالا بعيدا بعبادة العجل قالوا: لن يسعنا بعد هذا إلا رحمة ربنا ومغفرته، فقد وسعت كل شيء، وإن لم يغفر لنا ربنا لنكونن من الخاسرين في الدنيا والآخرة. هذا ما حصل من موسى بعد رجوعه إثر بيان ما حصل من قومه في غيابه. ولما رجع موسى إلى قومه بعد غيابه في الطور للمناجاة، ورجع غضبان شديد الأسف والحزن قال: بئسما فعلتم بعد غيبتي حيث عبدتم العجل واتبعتم السامري، وتركتم عبادة الله، فالخطاب للسامري وأشياعه، ويجوز أن يكون الخطاب للكل، والمعنى: بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم، فقد كان موسى في خلافته شديد الشكيمة قوى العزيمة، لقنهم التوحيد الخالص، وردهم حين طلبوا منه أن يجعل لهم إلها كغيرهم. أما هارون فقد رأى موسى منه أنه لين العريكة غير حازم في أمره فظن به الظنون. قال موسى: أعجلتم أمر ربكم؟ قال الزمخشري: المعنى: أعجلتم عن أمر ربكم وهو انتظاري حافظين للعهد، ولما وصيتكم به فبنيتم الأمر على أن الميعاد قد بلغ آخره عند تمام الثلاثين ليلة، ولم أرجع إليكم فحدثتم أنفسكم وغيرتم عقائدكم كما غيرت الأمم بعد موت أنبيائها. وكان من أمر موسى أن ألقى الألواح، وطرحها من يده وأخذ بشعر رأس أخيه يجره إليه ظنا منه أنه قصر في خلافته له، ولم يكن مثله مع أن حق الخليفة أن يتتبع سيرة سلفه قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا. أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي؟ [سورة طه الآيتان 92 و 93] . قال هارون: يا ابن أمّ إن القوم استضعفوني ولم يسمعوا لكلامي وهموا بقتلى، فيا ابن أمّ لا تجعلهم يشمتون بي من كثرة اللوم والتقريع، ولا تجعلني في عداد الظالمين. قال موسى: رب اغفر لي ما عساه فرط منى من قول أو فعل فيهما غلظة وجفوة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 767 لأخى، واغفر لأخى ما عساه أن يكون قد فرط في خلافته لي ومؤاخذته القوم حين ضلوا. وأدخلنا في رحمتك الواسعة وأنت أرحم الراحمين، وقد دعا موسى بهذا ليظهر لمن شمت في أخيه أنه راض عنه، وليرضى أخوه عنه ويزيل ما في نفسه إن كان ... والآية صريحة في أن هارون برىء من اتخاذ العجل إلها، وأنه لم يقصر في وعظهم، وقد غفر الله له، وهذا بخلاف ما في التوراة من أن هارون هو الذي صنع العجل لهم واتخذه إلها. إن الذين اتخذوا العجل بعد ما غاب عنهم رسولهم موسى- عليه السلام- من بنى إسرائيل كالسامرى وأشياعه. سيصيبهم غضب شديد من ربهم فلا تقبل توبتهم إلا بقتل أنفسهم فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة البقرة آية 54] هذا في الدنيا، وأما الغضب في الآخرة فلا يعلمه إلا هو. وسينالهم ذلة في الحياة الدنيا بخروجهم من أوطانهم، وتهالكهم على حب الدنيا، وهوانهم على الناس، إذ هم الماديون الأنانيون المطرودون في كل أمة، أليست هذه هي الذلة في الدنيا بأعظم معانيها؟! ولا يغرنكم ما هم فيه في فلسطين الجريحة فإن ذلك سحابة صيف عن قريب ستنقشع غيومها، فالله صادق في قوله: ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ [سورة البقرة آية 61] بكل معانيها القريبة والبعيدة. وأملنا في الله- سبحانه وتعالى- أن يهيّئ للمسلمين جميعا وللعرب خاصة الظروف التي بها يطردون اليهود المغتصبين لفلسطين حتى لا تقوم لهم دولة. ومثل ذلك الجزاء الذي نزل على الظالمين من بنى إسرائيل نجزى القوم المفترين الظالمين. وهاكم القانون العام السمح حتى لا ييأس مذنب أسرف على نفسه فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها توبة نصوحا خالصة لوجه الله مع العمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 768 الصالح والإيمان الكامل فأولئك يتوب الله عليهم. إن ربك من بعدها هو الغفور الرحيم. يقول الكشاف في قوله تعالى: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ هذا مثل، كأن الغضب كان يغريه على ما فعل ويقول له: قل لقومك: بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي [الأعراف 150] وألق الألواح وخذ برأس أخيك إليك، ولمه على ما فعل في جفوة، ثم ترك الغضب النطق بذلك وقطع الإغراء، وفي هذا من البلاغة ما فيه حيث شبه الغضب برجل وجعل دليل ذلك قوله سَكَتَ وهذه من عيون الاستعارات القرآنية. ولما سكت عن موسى الغضب وهدأت ثائرته أخذ الألواح التي كتبت فيها التوراة، وفيها هدى لكل حائر، ورحمة لكل مذنب من الذين يرهبون ربهم، ويخشون عذابه وحسابه. ما حصل لموسى أثناء المناجاة [سورة الأعراف (7) : الآيات 155 الى 156] وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 769 المفردات: الرَّجْفَةُ: الصاعقة التي تزلزل القلوب والأبدان. حَسَنَةً المراد: صحة وعافية، وغنى عن الناس، واستقلالا في الدولة. هُدْنا: رجعنا وتبنا. المعنى: ذكر المفسرون أن الله قد أوحى إلى موسى أن يختار سبعين رجلا من بنى إسرائيل ويصطفيهم، ويأتى بهم إليه وقد اختلفوا هل كان هذا عقب عبادتهم العجل ليتوبوا؟ أو كان هذا عقب طلب موسى للرؤية. فاختار موسى سبعين رجلا لميقاتنا، وأمرهم أن يصوموا، وأن يتطهروا ثم خرج بهم إلى طور سيناء، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله وقال للقوم: ادنوا فدنوا حتى إذا دخلوا في الغمام وقعوا سجدا، وسمعوا المولى- جل شأنه- وهو يكلم موسى بأمره ونهيه: افعل ولا تفعل، ثم انكشف الغمام، فأقبلوا على موسى وطلبوا منه الرؤية، قيل: لم يصدقوا أن الذي أمرهم بقتل أنفسهم هو الله حتى يروه، فوعظهم موسى وزجرهم، فقالوا: يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. فقال: رب أرنى أنظر إليك، قال: لن تراني، وبعض العلماء يقول: طلب موسى الرؤية مع علمه بعدم إمكانها ليسمعوا الرد فيكون هذا أبلغ من الرد عليهم، ولذا أجيب بلن تراني. ورجف بهم الجبل وصعقوا حينما ألحوا في طلب الرؤية، ولما أخذتهم الرجفة قال موسى: رب لو شئت أهلكتهم من قبل هذا حينما عبدوا العجل، وقيل: حين طلب الرؤية وأهلكتنى معهم كذلك قبل أن أرى ما رأيت!! قال موسى: أتهلكنا بما فعل السفهاء منا؟ حيث طلبوا الرؤية لك جهارا قياسا منهم على سماع كلامك وهو قياس فاسد.. وقيل: ما فعله السفهاء هو عبادة العجل. ما هي إلا فتنتك وابتلاؤك حين كلمتنى فسمعوا كلامك وطلبوا الرؤية، تضل بالمحنة الجاهلين غير الثابتين في معرفتك، ولست ظالما لهم أبدا بل هذا موافق لطبعهم، وتهدى بها من تشاء من عبادك الثابتين المؤمنين، وهذا موافق لطبعهم والله أعلم بعباده، فلو تركوا وشأنهم لاختار كل منهم ما هو فيه، وما قدر له، أنت ولينا يا رب فاغفر لنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 770 وارحمنا، واستر عيوبنا برحمتك، يا أرحم الراحمين، وأنت خير الغافرين، تغفر الذنوب وتعفو عن السيئات بلا سبب ولا علة، لأن رحمتك وسعت كل شيء واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة هي نعمة الصحة والعافية والرزق الحسن والتوفيق في العمل والاستقلال في الدولة، واكتب لنا في الآخرة حسنة هي نعمة الثواب الجزيل والعطاء الكثير. إنا عدنا إليك، وتبنا، ورجعنا إلى حظيرة الإيمان بالعمل لا بالقول فقط. قال الله: إن رحمتي سبقت غضبى، وإن عذابي أصيب به من أشاء من عبادي المسيئين لأنفسهم بالعمل الفاسد. وفي قراءة: إن عذابي أصيب به من أشاء. وأما رحمتي ونعمتي وفضلي فقد وسعت كل شيء في الكون، وسعت الكافر والعاصي، والمسلم واليهودي وعابد العجل ... إلخ وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ «1» فسمائى تظلهم، وأرضى تقلهم، وبرزقي يعيشون، وبخيرى يتمتعون، وأنا أدعوهم دائما إلى الصراط المستقيم، ومع ذلك كله فبعضهم خارجون عن ديني. فإذا كان الأمر كذلك من إصابة عذابي من أشاء، ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها كما دعوت يا موسى، أى: أثبتها خالصة غير مشوبة بالعذاب الدنيوي للذين يتقون الله في كل شيء ويؤتون الزكاة، وخصت بالذكر لأنه يخاطب قوما ماديين نفعيين مانعين للزكاة، وسأكتبها كتابة خاصة للذين هم بآياتنا كلها يؤمنون. محمد صلّى الله عليه وسلّم ورسالته، والمؤمنون به [سورة الأعراف (7) : الآيات 157 الى 158] الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِماتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)   (1) سورة النحل آية 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 771 المفردات: الْأُمِّيَّ: الذي لا يقرأ ولا يكتب. إِصْرَهُمْ الإصر: الثقل الذي يأصر صاحبه، أى: يحبسه عن الحركة لثقله. الْأَغْلالَ: جمع غلّ وهو الحديد الذي يجمع بين يد الأسير وعنقه، والمراد: التكاليف الشاقة. المعنى: سأكتب رحمتي الواسعة للذين يتقون ويؤتون الزكاة، وسأكتبها كتابة خاصة للذين هم بآياتنا كلها يؤمنون، وهم الذين يتبعون الرسول النبي الأمى، وهذه الأوصاف تنطبق على محمد المفرد العلم فهو رسول ونبي أمى، وقد كان أهل الكتاب يصفون العرب بأنهم أميون لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [سورة آل عمران آية 75] . وقد وصفه القرآن الكريم ووصف رسالته بأوصاف: 1- النبي الأمى، وفي هذا الوصف إشارة إلى كمال صدقه حيث أتى بالقرآن المعجز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 772 في أخباره وقصصه وحكمه وأصوله العامة في السياسة والاجتماع والدين، مع أن من نزل عليه أمى بين أميين!! يا سبحان الله!!! 2- وهو محمد الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل. فبشارته وصفته وزمانه في التوراة والإنجيل، وقد عرفوا ذلك كله كما يعرفون أبناءهم أو أكثر، وآمن به بعض علمائهم الأحرار من اليهود كعبد الله بن سلام، ومن النصارى كتميم الداري- رضى الله عنهم جميعا- وفي كتاب (إظهار الحق) لعالم هندي تحقيق لهذا الموضوع لمن أراد الزيادة. 3، 4- أنه يأمرهم بالمعروف شرعا، وهو ما تعرفه العقول الرشيدة، ولا تنكره الطباع السليمة وهو ينهاهم عن المنكر شرعا وهو ما تنكره النفوس الأبية الكاملة في العقل والسمو الروحي: وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ. [سورة النحل آية 36] . 5- يحل لهم الطيبات التي تستطيبها الأذواق السليمة من الأطعمة الحلال كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ [سورة الأعراف آية 160] . 6- ويحرم عليهم الخبائث مما تأباه النفوس السليمة كالميتة والدم المسفوح، ويأباه العقل الراجح كالخنزير خصوصا عند ما عرّفنا الطب أنه يولد الدودة الوحيدة في جسم من يأكله. 7- وقد وضع عنهم التكاليف الشاقة التي تأصرهم وتثقل عليهم والأغلال التي كانت في أعناقهم كقتل النفس عند التوبة وقطع مكان النجاسة ... إلخ، فدينه اليسر، وشريعته السمحة السهلة، والحنيفية البيضاء. فالذين آمنوا به وبرسالته وحموه ونصروه مع الإجلال والإكبار واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك البعيدون في درجات الكمال المتميزون على غيرهم هم المفلحون حقا، ويدخل في ذلك دخولا أوليا قوم موسى- عليه السلام- الذين ينطبق عليهم هذا الوصف العام. ذكر العلامة أبو السعود أنه لما حكى ما في الكتابين التوراة والإنجيل من نعوت المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وشرف من يتبعه من أهلها ونيلهم السعادة في الدارين، أمر صلّى الله عليه وسلّم ببيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 773 أن تلك السعادة غير مختصة بهم بل شاملة لكل من يتبعه كائنا من يكون وذلك ببيان عموم رسالته. قل يا محمد لجميع البشر من كل جنس ولون، وفي كل وقت وزمن: إنى رسول الله إليكم جميعا وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ «1» ، وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً «2» ، ولقد ثبت في الصحيحين في حديث خصوصياته، «وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة» صلّى الله عليه وسلّم. إنى رسول الله الذي له الملك التام، والتصريف الكامل في السموات وعوالمها، والأرضين وما فيها يدل على وحدة الصانع؟ وكمال قدرته وتمام علمه وحكمته. هو الله، لا معبود بحق في الوجود إلا هو، أما غيره فوهم وخيال، وخرافات لا تليق بعاقل، إذ هو الذي يحيى كل حي، ويميت كل ميت، بيده الحياة والموت، وله الأمر كله- سبحانه وتعالى- وأنت ترى أن الله وصف نفسه بثلاث: هو المالك المتصرف في الملكوت، والمعبود بحق في الوجود، خالق الحياة والموت. ومن كان كذلك وقد أرسل رسولا ومعه البرهان على رسالته وصدقه. فيجب أن تؤمنوا به أيها الناس فهو الرب الواحد القهار الموصوف بكل كمال، المنزه عن كل نقص، وآمنوا برسوله حيث قامت الأدلة على صدقه، الرسول النبي الأمى، آمنوا به يؤتكم كفلين (نصيبين) من رحمته، ويجعل لكم نورا تمشون به، ويغفر لكم، فهو النبي الذي يعلمكم الكتاب والحكمة ويرشدكم إلى الخير والفلاح، ويطهركم من الخرافات والرجس والأوثان والشرك والضلال، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، المبشر به كل الكتب، دينه الإسلام السمح السهل الصالح لكل زمان ومكان. وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي يؤمن بالله إيمانا كاملا لا شبهة فيه أبدا، ويؤمن بكلماته المنزلة على رسله جميعا التي هي مظهر قدرته وحكمته- سبحانه وتعالى- واتبعوه كذلك في كل ما يأتى ويذر من أمور الدين رجاء اهتدائكم وتوفيقكم. فيا أيها المسلمون: هذه هي نصيحة القرآن وكلمته اتبعوه لعلكم تهتدون، والله لا هدى إلا في القرآن، ولا خير إلا في الدين، وعلى قدر قربنا منه واتباعنا له يكون فلاحنا ونجاحنا في الدنيا والآخرة.   (1) سورة الأنعام آية 19. (2) سورة سبأ آية 28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 774 من نعم الله على بنى إسرائيل [سورة الأعراف (7) : الآيات 159 الى 162] وَمِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَأَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَما ظَلَمُونا وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162) المفردات: يَهْدُونَ: يرشدون ويدلون. يَعْدِلُونَ: يحكمون بين الناس بالعدل. قَطَّعْناهُمُ: صيرناهم قطعا وفرقا. أَسْباطاً: جمع سبط، وهو عندهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 775 كالقبيلة في ولد إسماعيل، والسبط: ولد الولد، وجعله ولد البنت أمر عرفي. فَانْبَجَسَتْ: انفجرت، بمعنى انفتحت بسعة وكثرة. وَظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ: جعلنا الغمام يظللهم في التيه، والغمام: سحاب رقيق. الْمَنَّ: شيء أبيض حلو كالعسل، والسَّلْوى: طير سماني. المعنى: هذه شهادة الحق- سبحانه وتعالى- الذي أمرنا بالقسط، وقد شهد لقوم موسى بأن منهم جماعة عظيمة تهدى بالحق، وترشد إلى الخير، وتوصل إلى سواء السبيل، وتحكم بين الناس بالعدل الذي أمر الله به. وهاكم بعض النعم التي أنعم الله بها على بنى إسرائيل ولم يقابلها بعضهم بالشكر وصيرناهم، أى: قوم موسى الذين منهم الصالحون ومنهم دون ذلك، صيرناهم قطعا وفرقناهم اثنتي عشرة فرقة، كل فرقة لها ميزة خاصة، ونظام خاص بها وتسمى جماعة. وأوحينا إلى موسى وقت أن طلب من قومه السقيا وقد لحقهم العطش في التيه، أوحينا إليه أن اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه مع السرعة والسعة والكثرة اثنتا عشرة عينا بقدر أسباطهم، كل سبط له عين خاصة به، وقد علم كل جماعة منهم مشربهم. وإذا أصابهم الحر الشديد في الصحراء المحرقة جعلنا الغمام يظلهم بظله الظليل رحمة منا وشفقة عليهم. وأنزلنا عليهم طعاما شهيا بلا تعب ولا مشقة، يقيهم شدة الجوع وغائلته، هذا الطعام هو المن والسلوى. ثم قيل لهم: كلوا من طيبات ما رزقناكم، وما متعناكم به، ولكنهم جاروا واعتدوا، ولم يقوموا بواجب الشكر، وما ظلمونا بهذا أبدا، ولكن أنفسهم فقط كانوا يظلمون، ومن ظلم نفسه وإن لم يعرف فظلمه لغيره أكثر، وفي الحديث القدسي: «يا عبادي: إنى حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضرى فتضرونى، ولن تبلغوا نفعي فتنفعونى» . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 776 تقدم مثل هاتين الآيتين في البقرة آية 58، 59، فالموضوع واحد والصياغة مختلفة اختلافا يدل على كمال الإعجاز الذي حير الألباب وزلزل العقول، إذ البلاغة: إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة، فهنا قال: اسكنوا بدل ادخلوا وكلوا بدل فكلوا، وحذف هنا رغدا، وعكس الترتيب قُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وهناك قال: خَطاياكُمْ بدل خَطِيئاتِكُمْ وهنا قال: سَنَزِيدُ وحذف الواو، كل هذا لنسق الكلام ولكمال التعبير، والله أعلم بأسرار كلامه. فالسكنى أخص من الدخول ولا عكس، فمن يسكن يدخل قطعا وليس كل من يدخل يسكن، والدخول لأجل الأكل يعقبه الأكل فجاء هناك بالفاء، والأكل عقب الدخول مباشرة له لذة، ولذا أتى هناك بكلمة رغدا. أما من يسكن فقد تقل لذة أكله بل قد تنعدم لمرض أو ألم. وفي الترتيب لا شيء إذ الواو لا تقتضي ترتيبا، والمهم أنهم أمروا بالدعاء مع الخضوع والانحناء فسواء تقدم هذا أو تأخر فلا ضرر. وحذفت الواو هنا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ دليل على أن الموعود به شيئان: المغفرة وزيادة الحسنة، على معنى أنه قيل: ماذا حصل بعد المغفرة؟ قيل: سنزيد المحسنين، والإرسال كما هنا كالإنزال في المعنى العام وإن أفاد الإرسال كثرة وزيادة، والظلم والفسق شيء واحد وإن أفاد الأول الاعتداء على الغير والثاني الخروج عن الدين، وتشير الآيتان إلى أنهما جمعا بين النقيصتين. فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم، والتبديل: التغيير في القول والفعل فهم لم يعملوا بظاهر القول ولا بحقيقته بل تركوه كله، هذا هو التبديل، وبعض العلماء يرى أنهم غيروا لفظا بدل لفظ فقالوا: حبة في شعرة، أى: حنطة في زكائب من شعر، بدل قوله تعالى لهم قولوا: حطة. أيها المسلمون العبرة من هذا القصص أن يفهم جيدا أن الله مع خلقه سنة لا تتغير ولا تتبدل، فالأمة التي تفسق وتظلم نفسها وغيرها وتبتعد عن دستورها وكتابها مآلها أن ينزل الله عليها عذابا أليما يضطرب له كل قلب، وهذا الرجز من السماء قد يختلف ويأتى بأشكال متباينة على حسب الأزمنة والأمكنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 777 عاقبة المخالفين وفوز الآمرين بالمعروف [سورة الأعراف (7) : الآيات 163 الى 166] وَسْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166) المفردات: حاضِرَةَ الْبَحْرِ: قرية قريبة منه. يَعْدُونَ: يعتدون. حِيتانُهُمْ: سمكهم. شُرَّعاً المراد: ظاهرة على وجه الماء. مَعْذِرَةً: هي العذر، وهو التنصل من الذنب. بَئِيسٍ: شديد. خاسِئِينَ: صاغرين. المعنى: واسألهم يا محمد عن حال أهل القرية التي اعتدى بعضهم يوم السبت ووقف بعضهم موقف الواعظ ووقف فريق آخر موقفا خاصا، وهكذا الحال في كل أمة شاع فيها الفساد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 778 أما القرية فالله أعلم بها، وإن قيل: إنها أبلة. وتلك قصة أخرى ما كان يعرفها النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا قومه ولكنه علمها عن طريق الوحى، وهذا سؤال تقرير، أى: قروا بهذا، والمراد التقريع والتوبيخ على أعمالهم السابقة، وبيان أن كفر المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم ليس بدعا بل هو موروث. واسألهم يا محمد عن أهل القرية القريبة من البحر وقت أن اعتدوا على حدود الله، وتجاوزوها يوم السبت- وهو يوم يعظمونه بترك العمل فيه وجعله للعبادة- إذ تأتيهم أسماكهم يوم السبت ظاهرة على وجه الماء، قريبة لا تحتاج في الصيد إلى عناء، وفي غير يوم السبت تختفى ولا تظهر. مثل ذلك البلاء المذكور نبلو السابقين والمعاصرين، ونعاملهم معاملة من يختبر حالهم ليجازى كلا على عمله، كل ذلك بسبب ما كانوا يفسقون ويخرجون عن طاعة الله. ظهرت المعاصي جهارا فكان منهم من أنكر عليهم ذلك: واذكر إذ قالت جماعة منهم عظيمة لمن يعظهم وينكر عليهم عصيانهم، قالت: لم تعظون قوما كهؤلاء قد قضى الله عليهم بالهلاك والفناء أو بالعذاب الشديد؟ قال الوعاظ للائمين: نعظهم حتى نعذر أمام ربكم عن السكوت على المنكر، ولعلهم يتقون فإذا نوقشنا الحساب يوم القيامة ماذا كان موقفكم عند شيوع المنكرات؟ نقول: قد فعلنا ما أمرتنا به فنكون بذلك معذورين، فلما نسى المرتكبون للذنب ما ذكروا به، وتركوا العمل بالمواعظ حتى كأنهم نسوها، أنجينا الذين ينهون عن السوء وهما الفريقان فريق الواعظين وفريق اللائمين، الظاهر- كما قال ابن عباس- أن بعضهم كان ينكر قولا وفعلا وهم الوعاظ، وبعضهم كان ينكر بقلبه وهم اللائمون. وأخذنا الذين ظلموا أنفسهم منهم بالمعاصي أخذناهم بعذاب شديد. والرأى- والله أعلم- أن العذاب للفريقين فريق العصاة وفريق اللائمين وإن يكن عذاب الآخرين خفيفا بظاهر الآية ولتعليل النجاة بالنهى عن السوء والنهى كان للواعظين فقط. أما من يسكت بل ويلوم الوعاظ على العمل والوعظ فهذا ذنب كبير، اللهم إلا إذا قلنا: إنه ينكر بقلبه ويائس من نصحهم، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 779 فلما عتوا وبغوا، وتمردوا وتكبروا، ولم يصغوا لوعظ الواعظين، قلنا لهم: كونوا قردة صاغرين أذلاء فهذا عذابهم في الدنيا كما نرى، وفي الآخرة عذاب شديد، وهل صاروا قردة حقيقة، أم أصبحوا كالقردة في الطباع والفساد وعدم التوفيق إلى الخير؟! هكذا اليهود في الدنيا [سورة الأعراف (7) : الآيات 167 الى 171] وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَقَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا ما فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) المفردات: تَأَذَّنَ بمعنى آذن، أى: أعلم، وهو يفيد العزم على الشيء، وإيجابه على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 780 النفس لأن العازم على الشيء يؤذن نفسه به، ويوجبه عليها، وأجرى مجرى القسم. دُونَ ذلِكَ: منحطون عنهم في الدرجة. خَلْفٌ الخلف والخلف: من يخلف غيره مطلقا، وقيل الخلف للصالح والخلف للصالح. عَرَضَ المراد: المال لأنه عرضة للزوال. دَرَسُوا: قرءوا وفهموا. نَتَقْنَا الْجَبَلَ: رفعناه من أصله. ظُلَّةٌ: كل ما أظلك من سقف أو سماء أو جناح طائر. المعنى: واذكر يا محمد إذ أعلم ربك أسلاف اليهود على لسان أنبيائهم أنه كتب عليهم وأوجب على نفسه ليبعثن عليهم من يسومهم سوء العذاب إلى يوم القيامة، يفرض عليهم الجزية، ويعطونها عن يد وهم صاغرون ويحاربهم، ويبدد ملكهم ويفرق شملهم، حتى يكونوا أذلة مساكين.. والتاريخ يحدثنا أن اليهود ذاقوا الأمرّين بسبب أعمالهم مع الله ذاقوا من البابليين ثم من النصارى ثم من المسلمين وفي العصر الحديث لا تنس (هتلر) زعيم ألمانيا الذي أذاقهم سوء العذاب وشردهم في البلاد، انظر إلى قوله تعالى: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ. والبعث يفيد القيام فجأة، ولم يعين مما يبعث؟ ولا في أى وقت يكون؟ ولا بأى كيفية يحصل. ولا تغتروا بهم في فلسطين فملكهم عرض زائل قريبا إن شاء الله، فنحن واثقون بكلام الله، قد بدت تباشير الخلاص!! إن ربك لسريع العقاب شديد العذاب وإنه لغفار رحيم بمن عصى ثم تاب من قريب، فلا يغرنكم بالله الغرور، ولا تقنطوا من رحمة الله. أما اليهود فقد كانوا في الدنيا على أسوأ حال عصاة مذنبين دائما، ولذا حكم الله عليهم بهذا، وفرقناهم في الأرض كلها أمما لا تجمعهم جامعة، ولا تربطهم رابطة، منهم الصالحون الذين آثروا الآخرة على الدنيا، ولم يعتدوا يوم السبت بل ونهوا غيرهم عن ارتكاب الذنوب، ومنهم دون ذلك، من هؤلاء غلاة الكفر والفسوق والعصيان والله- سبحانه- يعاملهم كما يعامل غيرهم، يبلوهم بالحسنات علّهم يشكرون، وبالسيئات علهم يرجعون وينتبهون، وكان فيهم الخير والشر ... فخلف من بعدهم خلف، ورثوا كتابهم وهو التوراة والظاهر أنهم هم المعاصرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم هؤلاء يأخذون عرض هذه الدنيا وحطامها الفاني وظلها الزائل من غير طريق شرعي، ومع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 781 هذا فقد غرهم بالله الغرور، وقالوا: لن تصيبنا النار إلا أياما معدودات إذ نحن أبناء الله وأحباؤه. وإن مكن لهم وصادفهم مال من طريق غير شرعي كالربا أو الرشوة أو ببيع أحكام الله أخذوه ولم يتعظوا ولم يتوبوا، إن تعجب فعجب هذا! ثم رد الله عليهم قولهم سيغفر لنا وهم مقيمون على المعاصي فقال: ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب؟! وفيه أن الكذب على الله من أكبر الكبائر، وهم قد درسوه وفهموه، وفيه أن أكل مال الغير حرام، وأن الاعتداء على الغير بأى لون حرام، ألم يعلموا أن الدار الآخرة وما فيها خير من الدنيا وما فيها، وأن الدار الآخرة خير للذين يتقون الله ويخافون عذابه، أعميتم فلا تعقلون أن الآخرة خير وأبقى؟! وليس القرآن متحديا أو متعصبا، بل الذين يتمسكون بالكتاب وما فيه من أحكام ويقيمون الصلاة، ويؤتون الزكاة سواء كانوا من اليهود أو من غيرهم فسيجازيهم ربهم أحسن الجزاء إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا [سورة الكهف آية 30] . واذكر وقت أن رفعنا عليهم الجبل لما أبوا أن يقبلوا التوراة، فلما رفعناه فوقهم حتى أظلهم، واضطربت قلوبهم منه، خروا ساجدين على حواجبهم اليسرى، وقيل لهم: خذوا ما آتيناكم بجد ونشاط واذكروا ما فيه دائما واعملوا به دائما رجاء أن تملأ قلوبكم بالتقوى فتصدر أعمالكم موافقة للدين وفي هذا فلاح لكم وخير ... الميثاق العام المأخوذ على بنى آدم [سورة الأعراف (7) : الآيات 172 الى 174] وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 782 المفردات: أَخَذَ: أخرج، وإنما عبر به لأنه يدل على الاصطفاء والتمييز. مِنْ ظُهُورِهِمْ الظهر: الجزء المهم في جسم الإنسان وهو ما فيه العمود الفقرى. هذا كلام جديد، سيق لإلزام اليهود مع غيرهم بالميثاق العام، بعد أن ألزمهم بالميثاق الخاص، وللاحتجاج عليهم بالحجج العقلية والسمعية، ولقطع أعذارهم في التقليد. المعنى: واذكر يا محمد وقت أن أخذ ربك من ظهور بنى آدم ذريتهم، والأخذ من ظهور بنى آدم يلزمه الأخذ من ظهر آدم نفسه، وفي هذه الآية الكريمة رأيان: رأى للسلف ورأى للخلف- رضى الله عنهم- جميعا، أما السلف فيقولون: إن الله خلق آدم وأخرج من ظهره ذريته كالذر وأحياهم وجعل لهم عقلا وإدراكا وألهمهم ذلك الحديث وتلك الإجابة، أما الخلف فيقولون: هذا من باب التمثيل والتصوير، فلا سؤال ولا جواب، وإنما الله- سبحانه- بما ركب في بنى آدم من العقول والإدراك وبما نصب من الأدلة الكونية على وحدانيته وربوبيته للكون كله. كأنه قال للخلق: قروا بأنى ربكم، ولا إله غيرى، وكأنهم قالوا بلسان الحال: نعم أنت ربنا، ولا إله غيرك، فنزل تمكينهم من العلم، وتمكينهم منه منزلة الشهادة والاعتراف، وهذا أسلوب في القرآن والسنة وكلام العرب كثير: فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ [سورة فصلت آية 11] . وهذه هي فطرة الله التي فطر الناس عليها، ولا تبديل لخلقه «كل مولود يولد على الفطرة وأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه» حديث شريف. فعل الله بكم هذا مخافة أن تقولوا يوم القيامة، عند سؤالكم عن أعمالكم: إنا فعلنا هذا لأنا كنا غافلين عن التوحيد، ولم ينبهنا أحد إليه، فلا عذر لكم بالجهل بعد نصب الأدلة، ووجود العقل والفطرة. ومخافة أن تقولوا: إنما أشرك آباؤنا من قبل، ونحن خلف لهم، قلدناهم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 783 أعمالهم، مع حسن الظن بهم، ولم نهتد إلى التوحيد، أفتؤاخذنا بالعذاب وتهلكنا بما فعله المبطلون من آبائنا؟! ولكن الله لا يقبل عذرهم في هذا أبدا. ومثل ذلك التفصيل الواضح نفصل للناس الآيات البينات، ولعلهم بهذا يرجعون ويتوبون إلى الله. والآية الكريمة تفيد أنه لا عذر في الشرك بالله أبدا، أما الأحكام التفصيلية للدين، والأمور الغيبية كالسمعيات فلا أحد مطالب بها، إلا بعد إرسال الرسل وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا «1» . مثل المكذبين الضالين [سورة الأعراف (7) : الآيات 175 الى 177] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَأَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) المفردات: نَبَأَ النبأ: الخبر المهم. فَانْسَلَخَ المراد: خرج منها وكفر بها. فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ   (1) سورة الإسراء آية 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 784 أدركه ولحقه. أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ: ركن إليها ومال. يَلْهَثْ اللهث: التنفس بشدة مع إخراج اللسان. مَثَلُ المثل: الصفة الغريبة ... ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا بعد أخذ الميثاق العام عليهم وعلى الناس وبعد أن أرسلت لهم الرسل فكذبوا بها. المعنى: واتل يا محمد على اليهود وعلى غيرهم الخبر المهم الخاص بالذي آتيناه آياتنا، وأوقفناه عليها وعلمناها له، ولكنه لم يعمل بها، وتركها وراءه ظهريا، عازما على عدم العودة لها أبدا، وقد سبق شيطانه في الفساد سبقا ملحوظا فكان من الغاوين الضالين المفسدين، يا سبحان الله! يسبق الشيطان في الفساد والضلال! يقول الله: ولو شئنا لرفعناه بالآيات وجعلناه في عداد الأبرار والصالحين، ولكنه أخلد إلى الأرض، وجعل كل همه التمتع بلذائذها الفانية، واتبع هواه، وران على قلبه ما كان يكسب، حتى صار حيوانيا شهوانيا، ظلمانيا. وهذه الآية تفيد أن مشيئة الله متلازمة مع عمل الشخص وتابعة له. وذلك أن الله جعل للعبد اختيارا وجعل اختياره مناط الثواب والعقاب، وخلقه في الدنيا وجعل ما على الأرض زينة لها ليبلوه أيمتثل أم لا؟ وقد جعل من يختار الخير له سبل ميسرة، وعنده قدرة على ذلك، ومن يختار الشر له سبل ميسرة، وله قدرة على ذلك مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ [سورة الإسراء آية 18] . وكانت مشيئة الله تابعة لما يعلمه من اتجاه العبد في الحياة. هذا الذي أوتى علما بالكتاب ولم يعمل به، بل صارت روحه مدنسة، وقلبه مظلما، صفته العجيبة التي كالمثل في الغرابة، كصفة الكلب يلهث دائما سواء حملت عليه وكلفته أم لا؟ وهكذا الذي يركن إلى الدنيا ويكفر بآيات الله دائما في عمل ونصب ومهما أعطى فهو في هم وتعب، وتراه كلما بسط له الرزق زاد طمعه وألمه، ذلك المثل الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 785 ضربناه لبعض الأفراد مثل للقوم الذين كذبوا بآياتنا، واستكبروا عنها، ولم تنفعهم الموعظة. فاقصص هذا القصص ونحوه رجاء أن يثوبوا إلى رشدهم، ويتفكروا في أنفسهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ [سورة الرعد آية 3] . ساء مثلا مثل الذين كذبوا بآياتنا، وقبح عملهم الذي أضحى كالمثل في الغرابة، وأنهم كانوا ظالمين لأنفسهم فقط. وقد ذكر اسم الشخص صاحب النبأ بعض المفسرين ولكن يظهر- والله أعلم- أن المراد الوصف لا الشخص. صفة أهل النار [سورة الأعراف (7) : الآيات 178 الى 179] مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَلَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179) المفردات: ذَرَأْنا: خلقنا وأوجدنا. الْجِنِّ: خلق مستتر الله أعلم به. قُلُوبٌ القلب: يطلق على العضو الصنوبري الواقع في الصدر إلى الجهة اليسرى، ويطلق كذلك على العقل، والوجدان والضمير. لا يَفْقَهُونَ الفقه: الفهم الدقيق. بعد أن ضرب الله المثل للمنسلخ من الدين الخارج منه قفّى على ذلك ببيان حقيقة المهتدى والضال، ومن هم أهل النار؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 786 المعنى: من يهديه ويوفقه للخير ولاتباع الشرع، والاهتداء بالقرآن فهو المهتدى حقيقة لا غير، ومن يضله الله، ولا يوفقه ولا يهديه إلى الخير وإلى نور القرآن فأولئك البعيدون عن الهداية هم الخاسرون، وأى خسارة أكثر من هذا!!؟ والهداية الإلهية نوع واحد (فهو المهتدى) وأنواع الضلال لا حصر لها، ولذا قال سبحانه: فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ. وهذا بيان لما أجمل. يقسم الله إنا قد خلقنا خلقا كثيرا من الجن والإنس، خلقناهم مستعدين لعمل مآله جهنم، وخلقنا كذلك خلقا مستعدين لعمل مآله الجنة فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ، [سورة هود 105] فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ [سورة الشورى آية 7] . أما حقيقة أهل النار فهم قوم ليس لهم قلوب يفهمون بها الأوضاع الصحيحة التي بها تزكو نفوسهم، وتطهر أرواحهم، فهم لا يفقهون الحياة الروحية ولذتها الموصلة للسعادة الدنيوية والأخروية، ولكنهم يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ «1» . ولا يفقهون أن الخير فيما أمر به الدين، وأن الشر فيما نهى عنه الدين، وليس لهم عيون يبصرون بها آيات الله الكونية وآياته القرآنية، وليس لهم آذان يسمعون بها آيات الله المنزلة على رسله ولا يسمعون بها أخبار التاريخ والأمم السابقة، وكيف كانت سنة الله معهم؟ أولئك كالأنعام لهم حواس مادية فقط، همهم الأكل والشرب والتمتع باللذات، بل الحيوان يأكل بلا إسراف وهم مسرفون فهم أضل سبيلا وأسوأ قيلا، أولئك هم الغافلون عن آيات الله وغافلون عن استعمال مشاعرهم وعقولهم فيما خلقت لأجله، بل هم غافلون عن ضرورات الحياة الشخصية والقومية والدينية. فالخلاصة أن أهل النار هم الأغبياء الغافلون حيث لم ينظروا إلى الحياة الباقية بل شغلوا أنفسهم بالحياة الفانية فقط: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ [سورة يوسف آية 105] .   (1) سورة الروم آية 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 787 وأهل الجنة هم الأذكياء عرفوا الدنيا على حقيقتها فعملوا للآخرة الباقية ولم يهملوها. وحذار أن يكون المسلمون من الغافلين. أسماء الله الحسنى [سورة الأعراف (7) : آية 180] وَلِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) المفردات: الْحُسْنى: مؤنث الأحسن. يُلْحِدُونَ الإلحاد: هو الميل عن الطريق الحق. المعنى: روى أن بعض المسلمين دعا الله في صلاته ودعا الرحمن فقال المشركون: محمد وأصحابه يزعمون أنهم يعبدون ربا واحدا فما بال هذا يدعو اثنين؟ فأنزل الله- عز وجل- هذه الآية. ولله- سبحانه وتعالى- الأسماء الحسنى فادعوه بها، وقد روى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن لله تسعا وتسعين اسما مائة إلا واحدا من أحصاها دخل الجنة وهو وتر يحب الوتر: الله الذي لا إله إلا هو. الرحمن. الرحيم. الملك. القدوس. السلام. المؤمن. المهيمن. العزيز. الجبار. المتكبر. الخالق. البارئ. المصور. الغفار. القهار. الوهاب. الرزاق. الفتاح. العليم. القابض. الباسط. الخافض. الرافع. المعز. المذل. السميع. البصير. الحكم. العدل. اللطيف. الخبير. الحليم. العظيم. الغفور. الشكور. العلى. الكبير. الحفيظ. المقيت. الحسيب. الجليل. الكريم. الرقيب. المجيب. الواسع. الحكيم. الودود. المجيد. الباعث. الشهيد. الحق. الوكيل. القوى. المتين. الولي. الحميد. المحصى. المبدئ. المعيد. المحيي. المميت. الحي. القيوم. الواجد. الماجد. الواحد. الصمد. القادر. المقتدر. المقدم. المؤخر. الأول. الآخر. الظاهر. الباطن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 788 الوالي. المتعالي. البر. التواب. المنتقم. العفو. الرؤوف. مالك الملك. ذو الجلال والإكرام. المقسط. الجامع. الغنى. المغني. المانع. الضار. النافع. النور. الهادي. البديع. الباقي. الوارث. الرشيد. الصبور» . والذي عليه أهل العلم أنها جمعت من القرآن والسنة فهي توقيفية ولكنها لا تنحصر في تسع وتسعين بدليل حديث ابن مسعود عن رسول الله أنه قال: «ما أصاب أحدا قط همّ ولا حزن فقال: اللهم إنى عبدك ابن أمتك ناصيتي بيدك ماض فىّ حكمك عدل فىّ قضاؤك أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزنى، وذهاب همي. إلا أذهب الله حزنه وهمه وأبدل مكانه فرحا» . وذروا الذين يكذبون في أسمائه ويسمونه بما لم يتسمّ به ولم ينطق به في كتاب الله ولا سنة رسوله هؤلاء سيجزون بما كانوا يعملون. ومعنى أن أسماءه توقيفية أنه لا يسمى (سخيا) وإن سمى (جوادا) ويسمى (رحيما) ولا يسمى (رفيقا) ويسمى (عالما) ولا يسمى (عاقلا) وفي القرآن يُخادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خادِعُهُمْ «1» أفتسمى الله مخادعا؟ حاش لله، أفتحسبه مكارا؟ حاش لله؟ بل يدعى بأسمائه ولا نلحد فيها أبدا. المهتدون والضالون [سورة الأعراف (7) : الآيات 181 الى 186] وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)   (1) سورة النساء آية 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 789 المفردات: يَهْدُونَ: يرشدون الناس إلى الحق والخير. يَعْدِلُونَ: يجعلون الأمور متعادلة لا زيادة فيها ولا نقصان على ما ينبغي. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ الاستدراج: من الدرجة، وهي المرقاة، بمعنى الصعود والنزول درجة بعد درجة، والمراد سنأخذهم درجة بعد درجة بإدنائهم من العذاب شيئا فشيئا. وَأُمْلِي لَهُمْ: من الإملاء، وهو الإمهال. كَيْدِي الكيد والمكر: هو التدبير الخفى الذي يقصد به غير ظاهره حتى ينخدع المكيد، والمتين: القوى، من المتن وهو الظهر. يَعْمَهُونَ: يترددون في حيرة وعمى. بعد أن ذكر الله أنه خلق لجهنم كثيرا من الخلق لا قلوب لهم ولا أعين ولا آذان يصلون بها إلى الخير، ثم ذكر بعد ذلك ما يجعل الإنسان قوى الإيمان ... ذكر هنا أن في أمة الدعوة المحمدية فريقين: مهديين وضالين، مع ذكر وجوب الفكر والنظر في ملكوت السماء والأرض علّنا نصل إلى الخير. المعنى: وبعض من خلقنا أرسلنا لهم الرسل خاصة أمة الدعوة المحمدية أمة يهدون بالخير، ويرشدون إليه، وبه يحكمون فيما يعرض لهم حتى تكون أمورهم متعادلة لا زيادة فيها ولا نقصان ويكونوا أمة وسطا عدولا كما أخبر عنهم القرآن، وروى عن على بن أبى طالب قال: لتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة، يقول الله: وَمِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ فهذه هي التي تنجو من هذه الأمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 790 والذين كذبوا بآياتنا ندعهم في الضلال تائهين، ونستدرجهم من حيث لا يعلمون، ونملي لهم بإعطاء النعم تلو النعم استدراجا حتى لا يرعووا عن غيهم مع أنا نمهلهم فلا نرسل لهم المخدرات والمنبهات، وما علموا أن سنة الله في الخلق لا تتغير، وأن الله يملى لهم ويمدهم بالمال والنعم حتى يغتروا ولا ينتبهوا كيدا لهم ومكرا بهم لا حبّا فيهم أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ. نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ «1» نعم. إن الله ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. وها هم أولاء المشركون ظلوا مغرورين بأن الحرب يومان يوم لنا ويوم علينا، معتزين بقوتهم وكثرة عددهم، وبقلة عدد المسلمين، وما علموا أن هذا مكر بهم وكيد لهم. ولقد كان فتح مكة آية على ذلك.. أكذبوا الرسول ولم يتفكروا في شأنه وشأن دعوته؟ إنهم إن تفكروا في ذلك أوشكوا- لا بد- أن يعرفوا الحق وأن صاحبهم ليس به جنة، ولقد حكى القرآن عنهم أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ «2» . يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ «3» كذبوا وضلوا إن هو إلا نذير مبين بين يدي عذاب شديد، وهو منذر ناصح، ومبلغ أمين وكيف لا تعرفون هذا وهو صاحبكم وأنتم أدرى الناس به؟!! أكذبوا الرسول ولم ينظروا في هذه العوالم المحكمة الدقيقة، المنظمة البديعة؟ فإن هذا دليل على الوحدانية الكاملة والعلم التام والقدرة القادرة، ولو نظروا بعين البصيرة لاهتدوا إلى الخير، أو لم ينظروا في كل ما خلقه الله وأن الحال والشأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم، وحان وقت قدومهم على ربهم بالأعمال، لو نظروا لاحتاطوا وعملوا لذلك اليوم حتى ينالوا الجزاء الأوفى. لعل أجلهم قد اقترب، فما لهم لا يبادرون إلى التصديق والإيمان بالقرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم قبل فوات الفرصة، وماذا ينتظرون بعد وضوح الحق؟ وبأى حديث بعده يؤمنون؟! هؤلاء فقدوا الاستعداد للخير والهدى والإيمان بالنبي والعمل بالقرآن فكانوا هم الضالين. ومن يضلل الله فلا هادي له، ويذرهم في طغيانهم يترددون. وفي باطلهم   (1) سورة المؤمنون الآيتان 55 و 56. (2) سورة المؤمنون آية 70. (3) سورة الحجر آية 6. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 791 ينغمسون!! ألا تعلم أن القلب يصدأ كما يصدأ الحديد، وأن العمل الفاسد يجعل على القلب حاجزا سميكا حتى لا يهتدى إلى الخير أبدا كَلَّا بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ. علم الساعة عند ربي [سورة الأعراف (7) : آية 187] يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187) المفردات: السَّاعَةِ هي في اللغة: جزء معين من الزمن، وعند الفلكيين: جزء من أربع وعشرون من اليوم، والمراد بها هنا الوقت الذي يموت فيه كل حي، ويضطرب نظام العالم، أى: عند النفخة الأولى للصور. أَيَّانَ مُرْساها: متى إرساؤها واستقرارها؟ لا يُجَلِّيها: لا يظهرها ولا يكشفها. حَفِيٌّ: مبالغ في السؤال عنها. قد تكلم القرآن عن أجل الفرد في قوله: وَأَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فناسب بعده أن يتكلم عن الساعة العامة التي فيها نهاية الدنيا كلها. المعنى: يسألونك يا محمد عن الساعة متى تكون؟!: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ «1» . وفي التعبير بالإرساء إشارة إلى أن قيام الساعة إنهاء لهذه الحركة الدائبة في السموات والأرض.   (1) سورة الشورى آية 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 792 قل لهم: إنما علمها عند ربي وحده، وإليه يرجع الأمر كله لا يجليها لوقتها، ولا يظهر أمرها، ولا يكشف خفاء علمها إلا هو وحده، فلا يطلع أحد من خلقه على وقتها ولو كان ملكا مقربا أو نبيا مرسلا عظم أمرها عند الملائكة والثقلين في السماء والأرض لخفاء وقتها ولهول أمرها وشدة وقعها، فهم مضطربون خائفون، لا تأتيكم أيها الناس إلا بغتة وفجأة، أى: وأنتم منهمكون في الدنيا وتعميرها. عجبا لهم يسألونك ملحين عنها كأنك حفى عنها، ومبالغ في السؤال عنها!!! قل لهم: إنما علمها عند الله عالم الغيب والشهادة. ولكن أكثر الناس لا يعلمون السر في إخفائها، فلو علمت لاضطرب نظام الكون واختل العمران، وهكذا يخفى الله ليلة القدر، وساعة الإجابة لحكم هو يعلمها ولينشط الناس في طلبها وليكون العمل لها في وقت أكثر، وللساعة علامات وأشراط وردت في الصحيح من السنة، ويقال لها علامات صغرى وكبرى. الرسول إنسان لا يملك شيئا بل هو نذير وبشير [سورة الأعراف (7) : آية 188] قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) المفردات: الْغَيْبَ: هو ما غاب عنا، وهو حقيقى لا يعلمه أحد، وإضافى يعلمه بعض الخلق كالأنبياء والرسل. الْخَيْرِ: ما يرغب فيه سواء كان ماديا كالمال أو معنويا كالعلم. السُّوءُ: ما يرغب عنه. سألوا النبي وألحفوا في السؤال فناسب أن يبين القرآن حقيقة الرسالة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 793 المعنى: هذا هو القول الفصل، الذي ليس بالهزل، مفخرة من مفاخر الإسلام وأسس من أسسه السليمة، حارب القرآن بهذه الآية وأمثالها أفكارا جاهلية وعقائد وثنية، وانظر إلى هنا، وإلى ما يفهمه المسيحيون عن عيسى- عليه السلام- نعم إن الدين عند الله الإسلام. قل يا محمد: أنا بشر شرفت بالرسالة وحملت تلك الأمانة، فلا أملك لنفسي أى نفع كان، ولا أدفع عن نفسي أى ضرر كان، إلا ما شاء الله، وأنا بشر لا أعلم الغيب وإنما الغيب عند الله وحده، فكيف تسألونى عن الساعة كأنى حفى بها؟ أما لو كنت أعلم الغيب حقيقة لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء أبدا والواقع غير هذا. إذ أنا بشر كبقية الناس شرفني الله بالرسالة فقط، وما أنا إلا نذير لكم وبشير لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا «1» والخلاصة أن الرسل خلق من خلقه وعباد مكرمون لا يشاركون الله في صفاته، ولا سلطان لهم على علمه وتدبيره، شرفهم الله بالرسالة، وهم القدوة الصالحة للعباد في الدنيا.. هكذا الإنسان [سورة الأعراف (7) : الآيات 189 الى 193] هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)   (1) سورة مريم آية 97. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 794 المفردات: لِيَسْكُنَ إِلَيْها: ليطمئن ويسكن من الاضطراب النفسي. تَغَشَّاها: أتاها لقضاء ما تطلبه الغريزة الجنسية. حَمَلَتْ: علقت منه، والحمل: ما كان في بطن أو على شجرة، والحمل ما كان على ظهر. فَمَرَّتْ: استمرت إلى وقت ميلاده من غير سقوط. فَلَمَّا أَثْقَلَتْ: حان وقت ثقلها وقرب وضعها. صالِحاً المراد: نسلا صالحا في الجسم والفطرة. هذه سورة بدئت بالكلام على القرآن والتوحيد، ثم تبع ذلك كلام على النشأة الأولى وما تبع ذلك، ثم الكلام على قصص الأنبياء خصوصا موسى، وها هو ذا يختمها بالكلام على التوحيد وعلى القرآن. هو الذي خلقكم يا بنى آدم من جنس واحد وطبيعة واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها، ويطمئن بها، فإن الجنس إلى جنسه ميال، وجعل منها زوجها حتى إذا بلغا سن الحلم وهي السن التي معها تظهر الغريزة الجنسية في الرجل والمرأة. وجدا أنفسهما- خاصة الرجل- مضطربا ومحتاجا إلى الزوجة لتهدأ نفسه وتسكن من اضطرابها، وبهذا وحده يتحقق بقاء النوع الإنسانى. فلما تغشاها واتصل بها الاتصال الجنسي المعروف حملت منه حملا كان خفيفا في أول الأمر لم تشعر به، فلما أثقلت وصارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها، وحان وقت الوضع. دعوا الله ربهما مقسمين لئن آتيتنا ولدا صالحا تام الخلقة قوى البنية سليم الفطرة لنكونن لك يا رب من الشاكرين. وقد آتاهما الله ذلك، وكانت الفطرة لكل مخلوق الميل إلى الإسلام والتوحيد. فلما آتاهما النسل الصالح جعلا، أى: بعض بنى آدم من الذكور والإناث له شركاء فيما آتاهما، واتجها إلى غير الله الذي أعطاهما، تعالى الله عما يشركون!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 795 وقد رأى بعض المفسرين في هذه الآية أن المراد: خلقكم يا بنى آدم من نفس واحدة هي آدم وجعل منها زوجها وهي حواء، وأن الشرك كان من بعض أولادهما ككفار مكة واليهود والنصارى وقد نسب إليهما، والمراد أولادهما بدليل: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ وفي الكشاف أن المراد بالزوجين الجنس لا فردان معينان. ثم أخذ القرآن في نقاش هؤلاء المشركين، أيشركون بالله شيئا لا يخلق أبدا أى شيء؟ بل إنه لا يملك نفعا ولا ضرا لنفسه ولا لغيره، والحال أن ما يشركون به من صنم أو وثن هو مخلوق ضعيف إن يسلبه الذباب شيئا لا يستطيع إنقاذه منه ولا يستطيع لهؤلاء المشركين نصرا في أى ميدان، وإن تدعوهم إلى هدايتكم لا يستجيبون لكم وكيف يستجيبون؟ وكيف يداوى القلب ... من لا له قلب يستوي عندهم دعاؤكم وبقاؤكم صامتين، والإله المعبود، والرب الموجود لا يكون بهذا الوضع أبدا فهو السميع البصير، العليم الخبير الناصر القادر- سبحانه وتعالى-!! حقيقة الأصنام والأوثان [سورة الأعراف (7) : الآيات 194 الى 198] إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (198) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 796 المفردات: تَدْعُونَ الدعاء: النداء، وغالبا يكون لدفع ضر أو جلب خير، والمراد: تعبدون. يَبْطِشُونَ: يصولون بها. فَلا تُنْظِرُونِ أى: تمهلون. هذا تمام للكلام السابق وهكذا شأن القرآن في إثبات التوحيد ونفى الشرك. المعنى: هؤلاء الذين تعبدونهم من دون الله هم مخلوقون مثلكم، فلا يصح أن يكون المخلوق محل عبادة وتقديس من مخلوق مثله. وإن تعجبوا فعجب حالكم تستكثرون الرسالة على بشر منكم خصه الله بالعلم والمعرفة، وقوة اليقين ونور البصيرة ثم تعبدون من دون الله حجارة!! وإن كنتم صادقين فادعوهم، وإن كانوا كذلك فليستجيبوا لكم، ولكن كيف يكون ذلك؟ وهم أحط درجة ممن يعبدونهم، فليس لهم أرجل يمشون بها، وليس لهم أيد يصولون بها، وليس لهم أعين يبصرون بها، ولا آذان يسمعون بها إذ هم حجارة صماء، أو صنيع من طين وماء، أو من عجوة أو حلاوة كصنم بنى حنيفة. أكلت حنيفة ربها ... عام التقحم والمجاعة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم أمر بأن يتحداهم ويدعوهم لأمر عملي فقيل له: قل لهم يا محمد: ادعوا شركاءكم وآلهتكم من دون الله ثم تعاونوا معهم على أن يكيدوا لي ويوقعوا بي المكروه بأى شيء كان، ولا تمهلون، ومع هذا لم يعملوا شيئا فيه. وهذا رد عليهم في قولهم: إنا نخاف عليك من آلهتنا!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 797 والرسول يعلل ذلك بقوله: إن متولّى أمرى هو الله ولينا، وهو ربنا الذي أنزل الكتاب الذي يدعو إلى التوحيد والبر والصدق، وهو الذي يتولى الصالحين من عباده، أما أنتم أيها المشركون فوليّكم الشيطان: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ [سورة البقرة آية 257] . والذين تدعونهم من دون الله، وتخصونهم بالعبادة والتقديس لا يستطيعون لكم نصرا حتى ولا أنفسهم ينصرون. بل وإن تدعوهم إلى أن يهدوكم إلى سواء السبيل لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك والحال أنهم لا يبصرون شيئا!!! أفيليق بكم إن كنتم عقلاء أن تتخذوا هؤلاء آلهة؟!! من خلق القرآن في معاملة الناس والشيطان [سورة الأعراف (7) : الآيات 199 الى 202] خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) المفردات: الْعَفْوَ: ما أتى عفوا وسهلا من غير كلفة ولا مشقة. يَنْزَغَنَّكَ النزغ كالنخس والوكز: هو إصابة الجسم بشيء محدد كالإبرة والمهماز، والمراد: وسوسة الشيطان. فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ المراد: الجأ إليه وتذكره. طائِفٌ: لمة منه، وطاف: أى ألم. يَمُدُّونَهُمْ: يكونون مدادا لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 798 المعنى: هذه هي أسس المعاملة الحسنة، ودعائم الخلق الكامل الذي به يرضى الناس عن الإنسان، ورضا الناس من رضا الله فألسنة الخلق أقلام الحق، وبهذه الأمور تجتمع القلوب النافرة، والنفوس الهائمة: خذ ما أتى من الناس عفوا، لا تكلفهم بما يشق عليهم ويستعصى من الأفعال بل كن سمحا سهلا «يسروا ولا تعسروا» حديث شريف. خذي العفو منى تستديمى مودتي ... ولا تنطقى في سورتي حين أغضب ولله در معاوية يقول: «لو كان بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت إن شدوها أرخيتها وإن أرخوها شددتها» . وأمر بالمعروف الذي تعارف عليه المسلمون من كل ما أمر به الشرع، فالمعروف: اسم جامع لكل خير من طاعة وإحسان ... وأعرض عن الجاهلين، نعم أعرض عن الجاهل الأحمق واجعل كأنك لم تسمع ولم يقل، وعلى العموم لكل صنف من الناس معاملة، ولا تنس قوله تعالى: وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى [سورة البقرة آية 237] . هذا جوامع الكلم خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ وجوامع الخلق، ولقد صدقت السيدة عائشة حيث تقول: «كان خلقه القرآن» . أما معاملة الشيطان العدو اللدود فإما ينزغنك منه نزغ أو يثر فيك داعية من دواعي الشر كالغضب والشهوة حتى يجعلك ثائرا متأثرا كتأثر الدابة إذا نخست بالمهماز (المنخاز) . فاعلم أن العلاج هو اللجوء إلى الله، والتوجه إليه بالقلب، والاستعاذة بالله من شر الشيطان ووسوسته، والانتقال من هذا الجو وتغييره بقدر الاستطاعة، فالله سميع لكل دعاء، عليم بكل قصد ونية، واعلم أن الشيطان أقسم ليغوينهم جميعا إلا العباد المخلصين فإنه ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما معناه: «ما منكم أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن. قالوا: وأنت يا رسول الله؟ قال: وأنا إلا أن الله أعاننى عليه فأسلم» . إن الذين اتقوا الله وخافوا منه إذا مسهم طائف من الشيطان، وألمت بهم لمة منه تذكروا الله وما أعده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 799 للمتقين الأبرار، وما أعد للعصاة الفجار فإذا هم مبصرون طريق الحق والخير، فالمؤمن الكامل قوى الإيمان كالجسم الصحيح لا تدخله جراثيم المرض وإن دخلت ماتت، كذلك المؤمن لا تدخله الوساوس وإن دخلت تذكر وطردها. وكل إنسان يشعر بدوافع للخير ودوافع للشر، فالأولى لمة الملك، والثانية لمة الشيطان، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن للشيطان لمة وللملك لمة، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك منكم فليعلم أنه من الله وليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليستعذ بالله من الشيطان ثم قرأ الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا «1» . وإخوانهم وهم الجهلاء غير المتقين الله، الشياطين يمدونهم وينصرونهم ويتعاونون معهم على الإثم والعدوان ثم هم لا يقصرون أبدا في ذلك. القرآن من عند الله [سورة الأعراف (7) : آية 203] وَإِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْلا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) المفردات: لَوْلا اجْتَبَيْتَها: هلا جمعتها من تلقاء نفسك واختلقتها؟ المعنى: كانوا طلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم آيات كونية خاصة فلما لم يجابوا إلى طلبهم قالوا على سبيل التعنت: هل اختلقت آية وجمعتها من عندك؟ يقصدون أن كل ما ينزل من القرآن إنما هو من عند محمد.   (1) سورة البقرة آية 268. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 800 قل لهم يا محمد: إنما أتبع ما يوحى إلى من ربي فقط وليس لي أن أخترع أو آتى بشيء من عندي، إنما أنا رسول ولست قادرا على إيجاد الآيات التي طلبتموها. وما لكم تطلبون غير هذا القرآن وهو بصائر من ربكم وحجج وآيات واضحة دالة على صدقى وأنه من عند الله وهو كالبصائر للقلوب التي تنير طريق الفلاح وهو هدى ورحمة، ولكن لقوم يؤمنون بالله وبالحياة الآخرة، فمن آمن به وحافظ عليه وحكم به فأولئك هم المفلحون دون سواهم. من أدب استماع القرآن والذكر [سورة الأعراف (7) : الآيات 204 الى 206] وَإِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) المفردات: فَاسْتَمِعُوا: الاستماع يزيد عن السمع بالإنصات والقصد والنية. تَضَرُّعاً: من الضراعة والذلة والخضوع. وَخِيفَةً: خائفين. بِالْغُدُوِّ الغدو: جمع غدوة، وهي ما بين صلاة الفجر إلى طلوع الشمس. وَالْآصالِ: جمع أصيل، وهو ما بعد العصر إلى الغروب. المعنى: إذا قرئ القرآن الكريم فاستمعوا له بإنصات وأدب، وقصد مع السكون والخشوع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 801 رجاء أن ترحموا من الله فإنه لا يستمع لكلامه بأدب وحسن استماع إلا المخلصون الذين في قلوبهم نور الإيمان وبرد اليقين. أما من أهمتهم الدنيا وأقضّت مضاجعهم حتى أصبحت قلوبهم خلوا من نور الإيمان تراهم عند سماع القرآن لا ينصتون أبدا بل ويتكلمون في توافه الأمور. والآية عامة في سماع القرآن في الصلاة والخطبة وغيرهما. أيليق بالمسلم أن يتكلم الله فلا يستمع ويتكلم جاره فيستمع؟! واذكر ربك في نفسك وذلك بذكر أسمائه وصفاته وشكره واستغفاره، والمهم التذكر بالقلب أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «1» . اذكره ضارعا متذللا خاضعا خائفا راجيا ثوابه، مع إتمام الاسم وعدم استعمال ما يخل. اذكره بلسانك وقلبك ذكرا دون الجهر وفوق السر، أى: اذكره وسطا بين هذا وذاك وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا «2» . وأنسب الأوقات للذكر وقت الصباح والمساء، وبقية النهار للعمل وتحصيل الرزق. وإياك أيها المسلم أن تكون من الغافلين عن ذكر الله بقلبك، واعلم أن الذين عند ربك من الملائكة والمقربين لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه في الليل والنهار، وله وحده يسجدون!! فكيف بك؟! سجود التلاوة: يكون عند ما يسمع المسلم هذه الآية وأمثالها التي ستأتى، وقد شرعه الله لنا إرغاما لمن أبى السجود من المشركين واقتداء بالملائكة المقربين. وروى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول في سجوده: «اللهم لك سجد سوادي، وبك آمن فؤادي، اللهم ارزقني علما ينفعني وعملا يرفعني» «3» وروى أيضا «إذا قرأ ابن آدم آية السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكى فيقول: يا ويله: أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» «4» ولسجود التلاوة أحكام في كتب الفقه.   (1) سورة الرعد آية 28. (2) سورة الإسراء آية 10. (3) أخرجه ابن أبى شيبة ج 2 ص 20. (4) أخرجه مسلم في كتاب الايمان حديث رقم 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 802 سورة الأنفال مدنية كلها وهو الأصح، وقيل: مدنية ما عدا الآيات 30 إلى 36 فمكية لأنها في شأن الواقعة التي وقعت بمكة، ولكن الأصح أن هذه الآيات نزلت بالمدينة تذكيرا لهم بما وقع في مكة، وعدد آياتها خمس وسبعون آية. وهي في القصص الخاص برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وخاصة في أوقات الشدة كالحروب والهجرة وما قبلها في قصص الرسل عليهم جميعا الصلاة والسلام. فالمناسبة بين السورتين ظاهرة. [سورة الأنفال (8) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) المفردات: الْأَنْفالِ: جمع نفل، والمراد به هنا: الغنيمة لأنها من فضل الله- تعالى- وعطائه، وهي من خصائص النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وقد زادت هذه الأمة بها على الأمم السابقة، روى في الصحيحين عن جابر بن عبد الله- رضى الله عنه- أن رسول الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 803 صلّى الله عليه وسلّم قال: «أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي» فذكر الحديث (وهو المسمى بحديث الشفاعة) إلى أن قال: «وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي» ، والنفل: الزيادة عن الواجب، ألا ترى إلى صلاة النوافل؟ ذاتَ بَيْنِكُمْ: حقيقة ما بينكم، والبين من معانيه: الاتصال، والمراد: الوصلة الإسلامية وإصلاحها ويكون بالأمور التي تحققها من مودة وإخاء وترك النزاع والجفاء. وَجِلَتْ: فزعت وخافت. سبب النزول: عن عبادة بن الصامت: نزلت فينا معشر أصحاب بدر حين اختلفنا في النفل، وساءت فيه أخلاقنا، فنزعه الله من أيدينا فجعله لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقسمه بين المسلمين على السواء، وكان في ذلك تقوى الله وطاعة رسوله، وإصلاح ذات البين. وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «من قتل قتيلا فله كذا وكذا، ومن أسر أسيرا فله كذا وكذا» فأما الشيوخ فثبتوا تحت الرايات، وحول رسول الله، وأما الشبان فسارعوا إلى القتل والغنائم، فقال الشيوخ للشبان: إنا كنا لكم ردءا ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا. فاختصموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنزلت. المعنى: لقد وقع خلاف بين المسلمين في غنائم بدر فسألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أهي للمهاجرين أم للأنصار؟ أهي للشبان أم للشيوخ؟ أم لهم جميعا؟ فقيل له: قل لهم: إن حكمها لله خاصة ويقسمها الرسول على حسب أمر الله فلا رأى لأحد، وفي هذه الآية إجمال بيّن في آية وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ ... [سورة الأنفال آية 41] . وللإمام أن ينفل من شاء من الجيش بما شاء تحريضا على القتال وإثارة للنفوس كما ورد: «من قتل قتيلا فله سلبه» وهذا النفل زيادة عن سهمه في الغنيمة. وإذا كان الأمر كذلك فاتقوا الله واجتنبوا ما أنتم فيه من شجار ونزاع وخلاف، فإن هذا يغضب الله لا سيما في حالة الحرب وأصلحوا ذات بينكم من الأحوال حتى تتحقق الوصلة الإسلامية فتكونوا في ألفة ومحبة واتفاق، وفي ذلك تقوى الله، وطاعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 804 رسوله، وإصلاح ذات البين، وأطيعوا الله ورسوله في كل ما أمر ففي طاعتهما الخير والفلاح، والهدى والرشاد، أطيعوهما إن كنتم مؤمنين حقا، فهذه أمور ثلاثة لا بد منها لصلاح حال الجماعة: تقوى الله ورسوله، أى: طاعة القيادة الرشيدة الحكيمة. وها هي ذي صفات المؤمنين الخمسة التي تحقق هذه الأوصاف الثلاثة إنما المؤمنون حقا الكاملون المخلصون في إيمانهم هم: 1- الذين إذا ذكروا الله بقلوبهم واستشعروا عظمته وجلاله وتذكروا وعده ووعيده خافت قلوبهم واضطربت أرواحهم. 2- والذين إذا تليت عليهم آياته القرآنية المنزلة على عبده وحبيبه محمد صلّى الله عليه وسلّم ازداد إيمانهم، وكمل يقينهم لتظاهر الأدلة وتمامها، نعم المؤمن كلما كثرت الأدلة وتعاضدت الآيات والحجج ازداد قوة في الإيمان، ورسوخا في العقيدة، ونشاطا في العمل، انظر إلى إبراهيم الخليل حيث قال: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «1» ردا على قوله تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ «2» ؟. 3- والذين هم على ربهم وحده يتوكلون، وعليه وحده يعتمدون، وإليه يلجئون، كل هذا بعد أخذ الأسباب، والعمل على حسب طاقته وإمكانه، وهذه صفات تتعلق بالقلب، وها هي ذي الصفات المتعلقة بالجسم: 4- الذين يقيمون الصلاة، ويؤدونها كاملة مقومة تامة الأركان والشروط. 5- والذين ينفقون مما رزقناهم في وجوه الخير والبر، وذلك يشمل الزكاة الواجبة المقيدة والنافلة المطلقة التي قد تصبح واجبة تبعا للظروف. أولئك الموصوفون بما ذكر من الأوصاف، المشار إليهم لكمالهم فيها هم المؤمنون حقا. لهم درجات ومنازل عند ربهم على حسب أعمالهم ونواياهم ولهم مغفرة، ولهم رزق كريم وهو ما أعد لهم من نعيم الجنة. والعرب يصفون الشيء الذي لا قبح فيه ولا ضرر بأنه كريم، وهذه الآيات بينت لنا حكم الغنائم، وأسس نجاح الجماعة، وبعض صفات المؤمنين الكاملين.   (1) سورة البقرة آية 260. (2) سورة البقرة آية 260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 805 ما حصل للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقت خروجه لغزوة بدر الكبرى [سورة الأنفال (8) : الآيات 5 الى 14] كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَيَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْباطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ (14) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 806 المفردات: الشَّوْكَةِ: واحدة الشوك، وفيها معنى الحدة والقوة، شبهوا بها الرماح والأسنة. دابِرَ الْكافِرِينَ: آخرهم الذي يكون في دبرهم من ورائهم. تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ استغاث: طلب الغوث والمعونة ليخلص من شدة. مُمِدُّكُمْ: ناصركم ومعينكم. مُرْدِفِينَ: متبعين بعضهم بعضا، مأخوذ من أردفه: إذا أركبه وراءه. يُغَشِّيكُمُ المراد: يجعله عليكم كالغطاء من حيث اشتماله عليكم. النُّعاسَ: فتور في الأعصاب يعقبه النوم، فهو مقدمة له. رِجْزَ الشَّيْطانِ الرجز والركس: الشيء المستقذر، والمراد وسوسة الشيطان. وَلِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ: ليثبتها ويوطنها على الصبر. الرُّعْبَ: الخوف الكثير. فَوْقَ الْأَعْناقِ المراد: الرءوس. بَنانٍ: هو أطراف الصابع من اليدين والرجلين، والمراد الأيدى والأرجل. اقُّوا : خالفوا وعادوا إذ هم أصبحوا في شق وناحية والرسول في شق وناحية. يحسن بمن يريد أن يقف على معنى هذه الآيات أن يلم بتلك القصة. لما هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة إلى المدينة بعد أن لاقى ما لاقى، وترك المسلمون أموالهم وأرضهم وديارهم للمشركين، وسمع بأن تجارة لقريش فيها مال كثير آتية من الشام، وعلى رأس العير أبو سفيان مع أربعين نفرا من قريش، انتدب المسلمين إليهم، وأغراهم بالعير قائلا: هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها، لعل الله أن ينفلكموها فأعجبهم تلقى العير لكثرة المال وقلة الرجال. أما أبو سفيان قائد العير وحاميها فكان يتجسس على النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه وعلم أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 807 محمدا أغرى أصحابه عليه، فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتى قريشا فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد تعرض لهم في أصحابه وقد غير أبو سفيان طريقه وسار محاذيا البحر، ونجا العير والتجارة، أما قريش فجمعوا جموعهم واستنفر أبو جهل الناس من فوق الكعبة قائلا: النجاء. على كل صعب وذلول، عيركم وأموالكم، إن أصابها محمد فلن تفلحوا أبدا، وخرج أبو جهل على رأس النفير وهم أهل مكة، ثم قيل له: إن العير أخذت طريق الساحل ونجت، فارجع بالناس إلى مكة فقال: لا والله لا يكون ذلك أبدا حتى ننحر الجذور ونشرب الخمور، وتعزف القينات ببدر فيتسامع جميع العرب بنا وبخروجنا وأن محمدا لم يصب العير. أما محمد صلّى الله عليه وسلّم وصحبه فلما علم بنجاة العير، وأن قريشا جمعت جموعها ليمنعوا عيرها، استشار رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الناس وأخبرهم عن قريش، فقام أبو بكر وعمر- رضى الله عنهما- فقالا وأحسنا، ثم قام المقداد بن عمرو فقال: يا رسول الله امض كما أمرك الله، والله لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «1» ولكنا نقول: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون، فو الذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ما دامت عين منا تطرف، فضحك رسول الله ثم قال: «أشيروا علىّ أيها الناس» وكأنه يريد الأنصار إذ كان يخاف أنهم لا ينصرونه ما دام الحرب في غير المدينة كما شرطوا ذلك في عهدهم، فقال سعد بن معاذ: قد آمنا بك وصدقناك، وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، فامض يا رسول الله فو الله لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك.. إنا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عيناك، فسر على بركة الله، فسرّ رسول الله لقول سعد. ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله وعدني إحدى الطائفتين: العير القادمة من الشام، أو النفير الآتي من مكة لنجدتهم. والله لكأنى الآن أنظر إلى مصارع القوم . فعلم من هذا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج من المدينة لأجل العير وأنه استشار أصحابه في قتال النفير من قريش بعد هذا.   (1) سورة المائدة آية 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 808 وقد وقع للمسلمين في بدر أمران يكرهانهما. أولا: كراهتهم قسمة الغنيمة بينهم بالسوية وهذه الكراهة من شبانهم فقط إذ هم الذين قاتلوا وغنموا وقتلوا العدو، وهذا ينشأ من طبع الإنسان. ثانيا: كراهتهم قتال قريش، وعذرهم فيها أنهم خرجوا من المدينة ابتداء لقصد الغنيمة ولم يستعدوا لقتال، والكارهون فريق من المؤمنين لا كلهم. وقد شبه الله إحدى الحالتين بالأخرى في مطلق الكراهية وأن امتثال أمر النبي في كلّ هو الخير. روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: لما كان يوم بدر ونظر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى أصحابه وهم ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف أو يزيدون فاستقبل النبي صلّى الله عليه وسلّم القبلة ثم مد يده وجعل يهتف بربه: «اللهم أنجز لي ما وعدتني، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض» فما زال يهتف بربه مادّا يديه مستقبلا القبلة حتى سقط رداؤه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فألقاه على منكبيه، ثم التزمه من ورائه وقال: كفاك مناشدتك ربك فإنه سينجز لك ما وعدك، فأنزل الله الآية ... وفي رواية فخرج رسول الله وهو يقول سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [سورة القمر آية 45] . المعنى: هذه الحال التي حكم الله فيها بأن الأنفال حكمها لله تعالى وتنفيذها لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد كره شبانهم ذلك- هذه الحال تشبه حالهم وقد أخرجك الله من المدينة لقتال النفير من قريش وقد كرهوا ذلك كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ. أخرجك ربك من بيتك بالمدينة متلبسا بالحق والحكمة وصواب الرأى والحال أن فريقا بسيطا من المؤمنين لكارهون ذلك لعدم استعدادهم للحرب. يجادلك المؤمنون في الأمر الحق والرأى السديد وهو تلقى النفير لأنهم آثروا تلقى العير لقلة الرجال وكثرة المال، يجادلونك بعد ما تبين لهم الحق وظهر الصواب، حينما أخبرتهم أنهم هم المنصورون، وأن الله وعدك إحدى الطائفتين، وقد نجا العير، فلم يبق إلا النفير، ولقد جادلوا بأنهم قليلوا العدد والعدد ولم يستعدوا، وقد كان خروجهم لتلقى العير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 809 لقد وعدهم إحدى الطائفتين على الإبهام فتعلقت آمالهم بالعير فلما نجت العير، ولم يبق إلا مقابلة أبى جهل في النفير، صعب على بعضهم اللقاء وخافوا الحرب وأخذوا يعتذرون، ولكن الحق تبين ولم يعد للجدال وجه إلا الجبن والخور والخوف من القتال حتى كأنهم لشدة ما هم فيه من الجزع والرهبة يساقون إلى الموت المحقق وهم ينظرون إليه، إذ الفرق بين القوة شاسع جدا، ولكن الله وعدهم بالنصر ووعده لا يتخلف: كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة آية 249] ، والأسباب الظاهرة كثيرا ما تختلف والأمر كله لله. واذكروا وقت أن وعدكم الله إحدى الطائفتين من العير أو النفير وتودون أن العير لكم فإنه قليل العدد ولا شوكة معه مع كثرة المال. ويريد الله لكم غير هذا وهو ملاقاة النفير الذي له الشوكة والحول والطول، وتكون الدائرة على المشركين، ويحق الله الحق بآياته المنزلة على رسوله في محاربة الكفار، وبما أمر الملائكة من نزولهم لنصرة المسلمين، وبما قضى لهم أولا من أسر وقتل وطرح في القليب (بئر بدر) ويريد الله أن يقطع دابر الكافرين، ويستأصل شأفتهم ويمحو أثرهم. فبعض المسلمين أراد العاجلة وعرض الدنيا وخاف ما يرزؤه في بدنه ونفسه وماله والله يريد معالى الأمور، يريد لكم النصر وتقوية الروح وإلقاء الرعب في قلوب الأعداء وكسر شوكتهم بهزيمتهم وهم كثرة وينصركم وأنتم قلة. ويريد الله هذا ليحق الحق ويثبت دعائم الإسلام، ويبطل الباطل ويهدم الشرك والكفر والطغيان، ولو كره المجرمون، وذلك لا يكون بأخذ العير أبدا وإنما يكون بهزيمة النفير وقتل صناديد الشرك وأسرهم وإذلالهم. اذكروا يا أمة محمد وقت استغاثتكم ربكم قائلين: أى ربنا انصرنا على عدوك يا غياث المستغيثين أغثنا، والمراد بالذكر تذكير لهم بالنعم ليشكروا وقد استغاث النبي صلّى الله عليه وسلّم كذلك كما روى، وذلك أنهم لما علموا أنه لا بد من القتال وملاقاة النفير من قريش أخذوا يدعون الله ويستغيثون. واعلم أن النصر في الحروب إنما يرجع إلى أسباب حسية ومعنوية إن تحققت جاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 810 النصر من الله: والله- سبحانه- هو الموفق لسلوك أسباب النصر أو أسباب الهزيمة، والنبي صلّى الله عليه وسلّم يعلم ذلك، وأن لله سننا مع خلقه لا تتخلف، وأن عنده آيات يؤيد بها رسله، ولكنه لما رأى ضعف المسلمين وقلة عددهم وتهيبهم من القتال، استغاث الله ليوفقه إلى سنن النصر ويؤيده، فتقوى الروح المعنوية فيتحقق النصر، وقد استغاث الصحابة كما استغاث، ولقد استجاب الله الدعاء وأمدهم بألف من أعيان الملائكة يردف بعضهم بعضا حتى يتحقق قوله في سورة آل عمران: بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ [الآيتان 124- 125] وما جعل الله ذلك المدد الإلهى إلا بشرى بأن النصر لكم، وأن الله معكم، ولتسكن قلوبكم، ويهدأ روعكم فتلقون الأعداء ثابتين مطمئنين. واعلموا أن النصر من عند الله لا من عند غيره أبدا، إن الله عزيز لا يغالب، حكيم في كل صنع. وهل الملائكة قاتلت بالفعل كما ورد في بعض الروايات؟ أو هي قوة معنوية وتكثير للسواد ولم يحاربوا، بل ثبتت قلوب المسلمين وقويت روحهم المعنوية بهم. والله أعلم، على أن المتفق عليه أنهم لم يقاتلوا يوم أحد لأن الله علق النصر على الصبر والتقوى ولم يحصلا. واذكروا إذ ألقى الله عليكم النعاس حتى غشيكم كما روى البيهقي عن على- كرم الله وجهه- قال: «ما كان فينا فارس إلا المقداد، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلى تحت شجرة حتى أصبح» ولا شك أن النعاس يزيل الخوف ومن دلائل الأمن والطمأنينة والوثوق بالنصر. ولقد نزلوا في بدر منزلا في كثيب (تل) أعفر تسوخ فيه الأقدام وليس فيه ماء، وقد احتلم بعضهم ليلا، ولما أصبحوا ظمئوا وصلّوا مجنبين محدثين، وكان المشركون على الماء فوسوس لهم إبليس وقال: لو كنتم على حق وفيكم نبي لما صليتم بجنابة وبغير وضوء ولما كنتم عطاشا وهم على الماء!! فأنزل الله مطرا كان على المشركين وابلا شديدا وكان على المسلمين طلّا خفيفا طهرهم من الرجس والدنس والجنابة والحدث، وقضى على وسوسة الشيطان وأصبحوا يطئون الرمل بسهولة فثبتت أقدامهم وسكنت قلوبهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 811 وسبق رسول الله وأصحابه إلى الماء فنزلوا عليه وصنعوا الحياض ثم غوروا ما عداها من المياه، وبنى لرسول الله عريش على تل مشرف على المعركة. واذكروا إذ يوحى ربك إلى الملائكة بالإلهام أنى معكم بالنصر والتأييد فثبتوا قلوب المؤمنين، وقووا عزائمهم، وذكروهم وعد الله ورسوله، وأنه لا يخلف الميعاد. وقد روى أن الملائكة كانت تسير بين الصفوف وتبشرهم بالنصر: إنا معكم سنلقى في قلوب الكافرين الرعب. فاضربوا رءوسهم التي فوق الأعناق واقطعوها، واقطعوا أيديهم التي طالما عصت الله. ذلك النصر المؤزر للنبي وصحبه، وذلك الخذلان والهزيمة للمشركين بسبب أنهم عادوا الله ورسوله، وأصبحوا في شق والرسول في شق، وهل تستوي الظلمات والنور؟ ومن يعاد الله ورسوله فإن له فوق الهزيمة والألم والخزي في الدنيا عذابا شديدا فإن الله شديد عقابه سريع حسابه. توجيهات حربية للمؤمنين [سورة الأنفال (8) : الآيات 15 الى 19] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18) إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 812 المفردات: زَحْفاً زحف: إذا مشى على بطنه كالحية، أو دب على مقعده كالصبي، أو مشى بثقل في الحركة واتصال وتقارب خطو، والعسكر المجتمع كأنه شخص واحد إذا تحرك يبدو أنه بطيء زاحف، والواقع أنه سريع. الْأَدْبارَ: جمع دبر، وهو ما قابل القبل، ويطلق على الظهر، والمراد الهزيمة. مُتَحَرِّفاً تحرف وانحرف: مال إلى حرف، أى: إلى جانب. مُتَحَيِّزاً: منحازا إلى جماعة أخرى، أى: منضما إليها. لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ البلاء: الاختبار بإعطاء النقم لاختبار الصبر، والنعم لاختبار الشكر، والمراد هنا الابتلاء بالنعم. تَسْتَفْتِحُوا أى: تطلبوا الفتح والنصر في الحرب والفصل في الأمر. المعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله، وصدقوا به وبرسوله يجب عليكم إذا لقيتم الذين كفروا في ميدان الحرب حالة كونهم كالزاحفين على أدبارهم إذ الجيش إذا كثر عدده يرى في سيره بطيئا والواقع أنه سريع، وقد زحف الكفار على المسلمين يوم أن انتقلوا من مكة إلى بدر، فيجب عليكم والحالة هكذا ألا تولوهم الأدبار، وألا تفروا منهم مهما كثر عددهم وأنتم قلة، بل اثبتوا وقاتلوا فالله معكم عليهم، وقد خص بعض العلماء هذا إذا كان الكفار لا يزيدون على الضعف ومن يولهم يومئذ دبره في القتال، ومن يفر منهم ويجبن عن قتالهم فعليه غضب من الله ومأواه جهنم. فالفرار من الزحف إذا التقى الجيشان كبيرة من الكبائر- كما ورد في الحديث - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 813 يستحق صاحبها الغضب الشديد والعذاب الأليم إلا رجلا منحرفا من مكان إلى مكان رآه أصلح في ضرب العدو. أو أراد أن يوهم العدو أنه يفر حتى يستدرجه بعيدا عن صحبه ثم يكر عليه فيقتله، فتلك من خدع الحرب المحبوبة. أو رجلا منتقلا من جماعة إلى جماعة أخرى رأى أنها في حاجة إليه فيشد أزرهم ويقوى عزمهم. يا أيها الذين آمنوا إذا حاربتم الكفار فلا تولوهم ظهوركم أبدا، ولا تفروا منهم فأنتم أولى بالثبات والشجاعة فأنتم تطلبون إحدى الحسنيين، وقد وعدكم الله بالنصر، انظروا إلى ما حصل في غزوة بدر، قد نصركم الله بها وأنتم قلة في العدد، وما كان ذلك إلا بتأييد الله، وتثبيت قلوبكم، ومدكم بالملائكة. وبإلقاء الرعب في قلوب أعدائكم، فلم تقتلوهم ذلك القتل الذي كسر شوكتهم في الواقع، ولكن الله قتلهم بأيديكم قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ [سورة التوبة آية 14] . ولقد كان من المسلمين بعد أن رجعوا من غزوة بدر افتخار كثير فكان الواحد يقول: أنا قتلت، أنا أسرت، فعلمهم الله أن ذلك فخر كاذب لا يليق ووجههم توجيها حسنا حتى يلجئوا إليه ويعتمدوا عليه وحده فقال: فلم تقتلوهم بقوتكم ولكن الله قتلهم بتأييده ونصره وإنزال الملائكة وإلقاء الرعب وهو على كل شيء قدير. روى أنه لما طلعت قريش قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: هذه قريش قد جاءت بخيلائها وفخرها يكذّبون رسولك، اللهم إنى أسألك ما وعدتني. فأتاه جبريل فقال: خذ قبضة من تراب فارمهم بها، فرمى بها وقال: شاهت الوجوه. فلم يبق مشرك إلا شغل بعينيه. وما رميت يا محمد حين رميت الحصا، ولكن الله رمى، وهذه ظاهرة التناقض، لكن المعنى: وما رميت يا محمد فإن الأثر الذي حدث من قبضة التراب التي رميتها أثر كبير حيث وصل إلى عيون الجيش كله. وهذا لا يمكن أن يكون من بشر، وإن يكن أنت الذي رميت في الظاهر فصورة الرمي للرسول صلّى الله عليه وسلّم وأثر الرمي وما حدث منه لله- سبحانه وتعالى-. فعل الله ذلك كله لتقام حجته على الكفار بتأييد رسوله ونصره على عدوه وإن اختلفت الإمكانات الحربية، وليعطى المؤمنين الذين فارقوا ديارهم وأموالهم عطاء حسنا بالغنيمة والنصر وحسن السمعة ورد الاعتبار، إن الله سميع لكل قول والتجاء إليه، عليم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 814 بكل نية وعمل، ذلك القتل والرمي والإعطاء حق من الله- تعالى- موهن كيد الكافرين ومكرهم بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه وأنهم يريدون القضاء على الدعوة قبل أن يشتد أمرها، وذلك كله حق فقد رد كيدهم في نحورهم، ورجعوا مهزومين مطرودين. روى أن أبا جهل قال يوم بدر: اللهم أينا كان أقطع للرحم وآتى بما لا يعرف فأمته الغداة فكان ذلك منه استفتاحا. وروى أنهم تعلقوا بأستار الكعبة قبل خروجهم وقالوا: اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين ، فأجابهم الله بقوله استهزاء بهم وتوبيخا لهم على عملهم وتعجبا من حالهم: إن تستفتحوا أيها الكفار فقد جاءكم الفتح، وهذا منتهى التهكم، إذ جاءهم الهلاك والذلة، وإن تنتهوا وتسلموا وتتركوا عداوة النبي صلّى الله عليه وسلّم فهو خير لكم وأجدى، وإن تعودوا إلى محاربته نعد نحن إلى نصره وهزيمتكم، ولن تغنى جماعتكم وقوتها شيئا ولو كثرت وأن الله مع المؤمنين بالنصر والتأييد والتوفيق إلى سلوك طرق النجاح والفلاح، والعاقبة للمتقين. تحذير من مخالفة الدين [سورة الأنفال (8) : الآيات 20 الى 23] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 815 المفردات: الصُّمُّ الصمم: عدم السمع، والأصم: الأطرش. الْبُكْمُ البكم: عدم الكلام، والأبكم: الأخرس. الدَّوَابِّ: جمع دابة، وهي ما تدب على الأرض، والغالب استعمالها في الحشرات والدواب التي تحمل على ظهرها، وإذا أريد منها الإنسان كان المقصود الاحتقار. المعنى: يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان أطيعوا الله ورسوله فيما أمر ونهى، ولا تعرضوا عن الأمر بالجهاد وبذل المال وغيرهما والحال أنكم تسمعون المواعظ والزواجر في القرآن والحديث. وإياكم أن تكونوا كالذين قالوا سمعنا والحال أنهم لا يسمعون أبدا ... إن شر المخلوقات عند الله من لا يصغى بسمعه إلى الحق فيتبعه ويعتبر بالموعظة الحسنة فيعمل بها، فإن من لا يستخدم جهاز السمع فيما خلق له كان كأنه فاقد له، فهو أصم عن الحق والخير والهدى والفلاح.. والبكم الذين لا يقولون الحق، ومن ثم كانوا كأنهم فقدوا حاسة الكلام، والذين لا يعقلون الفرق بين النور والظلام، والهدى والضلال، والإسلام والكفر إذ هم لو استخدموا عقولهم وأبعدوا عنها ذل التقليد وحمى العصبية الجاهلية لعقلوا المنفعة وأدركوا الصالح المفيد ولكنهم كالبهائم لا يعقلون. ولو علم الله في نفوسهم الميل إلى الخير والسداد والاستعداد إلى الإيمان والهدى ولم تفسد فطرتهم بسوء القدوة وفساد التربية لأسمعهم بتوفيقه سماع تدبر ووفقهم لكلامه وكلام رسوله، ولكنه لو أسمعهم لتولوا وهم معرضون فهم لا خير فيهم أصلا. ومن يلقى إليه شيء لا يخلو من واحد من أربع: 1- معاند لا يسمع أبدا بل يجعل أصابعه في آذانه. 2- منافق يسمع ويتظاهر بالقبول ساعة الحضور ثم هو لا يتدبر ولا يفهم شيئا. 3- يسمع ليتسقط العيوب ويتلمس السقطات. 4- يسمع ليهتدى بنور الحق وهم الفئة المؤمنة الموفقة المهدية إلى يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 816 فيا أيها المسلمون اسمعوا القرآن وتدبروا معناه واهتدوا بهديه ولا تسمعوه تسلية أو تعزية أو تبركا فقط. الاستجابة لداعي القرآن [سورة الأنفال (8) : الآيات 24 الى 26] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25) وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) المعنى: ناداهم الله بوصف الإيمان الذي يوجب الامتثال والاستجابة ثم أمرهم بأن يستجيبوا لله ورسوله، وذلك بالطاعة والامتثال إذا دعاهم لما يحييهم، وحثهم على الخير لهم وحرضهم على ما به يسعدون في الدنيا والآخرة. وقد دعانا الرسول للإيمان والقرآن والهدى والجهاد، ومن حرم من هذا فهو ميت لا حياة فيه أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها «1» فخذوا ما آتاكم الرسول بقوة وعزم ونشاط وجد فالخير فيه، وسعادة الدارين معه. واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه ويفصل بينهما. والمعنى أن المسلم يجب ألا يغتر   (1) سورة الأنعام آية 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 817 بعمله وطاعته، وألا يأمن مكر الله ولو كانت إحدى رجليه في الجنة، فالقلوب بين أصابع الرحمن، والله يحول بين المرء وقلبه. فالواجب عليه دائما أن يغذى قلبه بالعمل ويجلوه بالذكر أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [سورة الرعد آية 28] . والواجب على المسلم العاصي ألا ييأس من روح الله فالله يحول بين المرء وقلبه. وعلينا أن نسرع دائما في الخير ولا نألوا جهدا في تحصيله فالله يحول بين المرء وقلبه فيموت قبل فعل الخير أو التوبة الصادقة، وعلينا أن نحذر خطرات القلوب وأمراضها فالله عليم بذات الصدور، وهو يفصل بين المرء وقلبه، وهو أقرب من حبل الوريد. واعلموا أنكم إليه تحشرون فأسرعوا في العمل وحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وأعدوا العدة ليوم الحشر. واتقوا فتنة لا تصيبن الظالمين بل تعمهم وغيرهم كالفتن القومية التي تهد كيان الأمة وتزعزع أركانها كفتنة الملك والسيادة، أو الخلافات السياسية وما يتبعها من أحزاب وانقسام، وكالأحزاب الدينية، وكظهور البدع، والكسل عن الجهاد، أو ظهور المنكرات مع إقرارها، والالتواء في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فهذه فتن لا تصيب أصحابها فقط بل تلتهم نيرانها الأمة جميعا إذ هم بين رجلين: رجل اشتراك في الإثم، ورجل سكت عنه ولم يمنعه فهو كالمشترك معه. انظر إلى الفتن التي لا حقت الإسلام في العصر الأول كفتنة عثمان، وحادثة الجمل ومقتل الحسين وغيرها وكيف كان أثرها!! واعلموا أن الله شديد العقاب على من خالف أمره فهو معاقبه في الدنيا والآخرة. واذكروا أيها المهاجرون، وقيل: الخطاب لجميع المؤمنين في عصر التنزيل، واذكروا وقت أن كنتم قلة مستضعفين في مكة والمشركون معكم بحولهم وطولهم يذيقونكم سوء العذاب. وأنتم تخافون أن يأخذوكم بسرعة خاطفة كما كان يتخطف بعضهم بعضا خارج الحرم أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [العنكبوت 67] فآواكم أيها المهاجرون إلى الأنصار، وأيدكم بنصره وبما أرسل لكم من الملائكة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 818 ووفقكم لسبل النجاح، وبما ألقى في قلوب أعدائكم من الرعب والخوف، والله رزقكم من الطيبات رزقا حسنا رجاء أن تقوموا بالشكر. وفي الآية عبرة وعظة لنا فالله يعامل أولياءه وأحبابه من المؤمنين إذا امتثلوا أمره بهذا، أى: يؤويهم ويؤيدهم وينصرهم على أعدائهم ويجعلهم أعزة وملوكا ويرزقهم من طيبات الرزق، كل ذلك رجاء قيامهم بالشكر، فإن شكروا زادهم الله، وإن لم يشكروا ولم يمتثلوا كما هو حال المسلمين اليوم أصبحوا أذلة في ديارهم مستعبدين في أوطانهم، والأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين. الخيانة من صفات المنافقين [سورة الأنفال (8) : الآيات 27 الى 28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) المفردات: لا تَخُونُوا الخيانة والخون يدلان على النقص وإخلاف ما كان يرجى، ومنه قيل: خانه الحظ، وخانته رجلاه، ثم استعمل الخون والخيانة في ضد الأمانة والوفاء. والْأَمانَةَ: تدل على التمام، وهي حق مادى أو معنوي يجب عليه أداؤه. فِتْنَةٌ : هي الاختبار والابتلاء، أو المراد بها الإثم والعذاب. روى أنها نزلت في أبى لبابة وكان حليفا لبنى قريظة من اليهود، فلما خرج إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد إجلاء بنى النضير وحاصرهم حصارا شديدا دام إحدى وعشرين ليلة وقد طلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يرسل إليهم أبا لبابة وكان مناصحا لهم لأن أمواله وعياله فيهم، فبعثه إليهم فقالوا له: ما ترى؟ هل ننزل على حكم سعد بن معاذ كما طلب محمد صلّى الله عليه وسلّم فأشار إلى حلقه، أى: أن حكم سعد الذبح ... قال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 819 علمت أنى خنت الله ورسوله، فنزلت الآية ، وقد شد نفسه على سارية المسجد وأبى الطعام والشراب حتى الموت، أو يتوب الله عليه، ومكث سبعة أيام وبعدها تاب الله عليه وفك النبي وثاقه. المعنى: يا من اتصفتم بالإيمان وتصديق الرحمن، والاهتداء بالقرآن: لا تخونوا الله فتعطلوا فرائضه، أو تنقصوا شيئا من أحكامه التي بيّنها لكم في كتابه، فإن ذلك خيانة تتنافى مع الإيمان، ولا تخونوا الرسول فيما أمركم به أو نهاكم عنه، ولا تخونوه فترغبوا عن بيانه للقرآن فهو أدرى وأقرب، فخيانة الله والنبي عبارة عن تعطيل فرائض الدين، وعدم العمل بأحكامه والاستنان بسنته، فإن هذا كله نقص لا يليق بالمؤمن والمؤتمن على دينه، على أن الخيانة من صفات المنافقين، والأمانة من صفات المؤمنين. ولا تخونوا الأمانة التي في أيديكم لغيركم سواء كانت معاملات مالية أو شئونا أدبية أو سياسية أو سرا من الأسرار، أو عهدا من العهود، والحال أنكم تعلمون خطر الخيانة وسوء عاقبتها دنيا وأخرى، وأنتم تعلمون الأمانة ومكانتها، وقيل المعنى: وأنتم تعلمون أن هذا خيانة وذاك أمانة كما حصل لأبى لبابة. واعلموا أن أموالكم وأولادكم فتنة وابتلاء، وأى فتنة وابتلاء؟! إذ المال عند الإنسان شقيق الروح، يركب الأخطار، ويتحمل المشاق في سبيل الحصول عليه، فإذا هو أعطى المال فهل يشكر ويرضى؟ أم يكفر ويعصى؟ وإذا حرم منه فهل يصير ويرضى أم يغضب ويلعن؟ أليس هو فتنة وابتلاء؟ على أن المال وحبه الغريزي قد يدفع صاحبه إلى عمل يوقعه في المهالك والمصائب. وأما الولد فقطعة من أبويه فلذة كبدهما، وثمرة فؤادهما. وحبه فطرة وطبيعة عند والديه، ومن ثم يحملهما ذلك على بذل النفس والنفيس في سبيل راحته وسعادته وقد يؤدى ذلك إلى اقتراف الذنوب والآثام وركوب الشطط في سبيله، أليست الأولاد فتنة بهذا المعنى وابتلاء، وقد ورد «الولد ثمرة الفؤاد، وإنه مجبنة مبخلة محزنة» أى: يدعو إلى ذلك كله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 820 والواجب على المؤمن أن يتقى الله في المال فيكسبه من طريق الحلال وينفقه في سبيل الله، وعلى العموم يتبع أوامر الدين، ويخالف نفسه وهواه فإن المال فتنة وابتلاء، ويتقى الله في الولد فلا يكون حبه داعية من دواعي ارتكابه الإثم والعدوان، ويراقب الله فيه فينشئه تنشئة صالحة دينية، ولا يدفعه حب الولد إلى أن يكون في جمع المال له كحاطب الليل. واعلموا أن الله عنده أجر عظيم وخير كثير هو خير من الدنيا وما فيها، فارعوا الأمانة، ولا تخونوا الله ورسوله. تقوى الله وأثرها [سورة الأنفال (8) : آية 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) المفردات: إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ التقوى: من الوقاية، وهي: امتثال الأمر واجتناب النهى لأن هذا يكون وقاية للعبد من النار. فُرْقاناً: فارقا بين الحق والباطل.. الخيانة سببها الإفراط في حب المال والولد غالبا، وعلاج هذا كله هو التقوى والاعتدال. المعنى: يا أيها المؤمنون إن تتقوا الله بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، يجعل لكم فرقانا، فيكون المسلم حيث أمره الله، ولا يكون حيث نهاه الله، هذه التقوى إن حصلت لعبد جعل الله له نورا يمشى به بين الناس، وحكمة يهتدى بها، وعلما نافعا، وعملا صالحا، وهذا كله يجعله يفرق بين الحق والباطل والنافع والضار، ويهتدى إلى الصراط المستقيم، كيف لا؟ والمتقرب إلى الله بالنوافل يكون ربانيا، ويكون المولى- جل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 821 شأنه- سمعه وبصره ويده ورجله، أفتراه يضل بعد هذا؟ ألست معى في أن التقوى هي السبيل الأقوى؟!! إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا ويكفر عنكم سيئاتكم السابقة ويسترها ويغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات النعيم، والله- سبحانه- ذو الفضل العظيم. عداوتهم لمحمد صلّى الله عليه وسلّم ولدينه [سورة الأنفال (8) : الآيات 30 الى 31] وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) المفردات: يَمْكُرُ سبق شرحه آية 54 آل عمران. لِيُثْبِتُوكَ: ليحبسوك ويوثقوك إذ كل من شد شيئا وأوثقه فقد أثبته حتى لا يقدر على الحركة. أَساطِيرُ: جمع أسطورة، وهي: القصص التي سطرت في الكتب بدون تمحيص ولا نظام. هذه من نعم الله على النبي صلّى الله عليه وسلّم ذكرت بعد أن منّ الله على المسلمين بقوله: وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ. [سورة الأنفال آية 26] . وهذه قصة تمثل جانبا من رواية الهجرة الشريفة يحسن الوقوف عليها. لما شاع خبر محمد صلّى الله عليه وسلّم وأصبح أتباعه يزيدون يوما بعد يوم اجتمع أشراف مكة في دار الندوة للتشاور في الخطر الداهم، وتمثل لهم إبليس في زي شيخ نجدى وحضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 822 اجتماعهم، فقال أبو البختري: الرأى أن تحبسوه في بيته، وتشدوا وثاقه وتسدوا عليه بابا وتتربصوا به ريب المنون. فقال الشيخ النجدي: ما هذا بالرأى فإن أهله وأتباعه يقاتلونكم ويفكون أسره، ثم قال هشام بن عمر: الرأى أن تخرجوه من ديارنا وتستريحوا منه ولا يضركم ما يفعل. فقال النجدي: ما هذا برأى أرأيتم إلى طلاقة لسانه وحلو حديثه وقوة تأثيره فلا تأمنوا أن يجتمع عليه العرب ويغزوكم في عقر دياركم ... ثم قال أبو جهل: لي رأى!! أن نجمع من كل قبيلة فتى جلدا قويا ومع كل فتى سيف بتار فيضربوه ضربة رجل واحد، فيضيع دمه بين القبائل، وماذا يفعل بنو هاشم في هذا؟ قال إبليس: نعم هذا الرأى ... ولكن الله أطلعه على كل ذلك وأحبط تلك المؤامرة وردهم خائبين، وخرج النبي وأبو بكر مهاجرين إلى المدينة وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ. المعنى: واذكر يا محمد وقت أن اجتمع الذين كفروا ليمكروا بك ويدبروا أمر القضاء عليك وعلى دعوتك، وعاونهم في ذلك إبليس اللعين. فإن في ذلك القصص ذكرى وعبرة لك ولأمتك وفيه دليل صدقك وتأييد الله لك. إنهم دبروا لك إحدى ثلاث: إما الحبس والمنع من لقاء الناس، وإما القتل الجماعى، وإما الإخراج من أرض الوطن. فهم يمكرون بك وبأصحابك، ويدبرون لك الأذى، ولكن الله يحبط مؤامراتهم ويبطل كيدهم فقد أخرجك من مكة إلى المدينة مهاجرا، وعدت إلى مكة غازيا فاتحا، وقد سمى هذا مكرا من باب المشاكلة، والله خير الماكرين لأن مكره إعزاز للحق وأهله، ونصر للإسلام ورجاله وخذلان للباطل وحزبه. وهكذا دائما لا تنتظروا أيها المسلمون من غيركم من الكفار والمشركين إلا هذا وأمثاله. هذا كيدهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه، أما كيدهم للدين وكتابه فها هو ذا: وإذا تتلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 823 عليهم آياتنا البينات الواضحات التي أنزلت على النبي الأمى قالوا جهلا وعنادا وسفها واستكبارا: لو نشاء لقلنا مثل هذا، فنفوا بمشيئتهم الإتيان بمثله! أفيعقل هذا؟ أن تحداهم القرآن أن يأتوا بمثله تحديا سافرا وهم أهل اللسان والبيان وأحرص الناس على التسابق في ميدان البلاغة والفصاحة! ثم عللوا هذا بقولهم: إن هذا إلا أساطير الأولين، وأخبار كأخبار الأمم السابقين، قيل: إن أول من قال هذا هو النضر بن الحارث وتبعه الناس. صورة من حماقة العرب وجاهليتها [سورة الأنفال (8) : الآيات 32 الى 35] وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32) وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34) وَما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35) المفردات: مُكاءً: صفيرا. وَتَصْدِيَةً: تصفيقا. روى أنه لما قال النضر بن الحارث: إن هذا إلا أساطير الأولين، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 824 ويلك إنه كلام رب العالمين. فقال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا.. وروى أن معاوية قال لرجل من سبأ: ما جهل قومك حين ملكوا عليهم امرأة! فقال: بل أجهل من قومي قومك حين قالوا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر ... الآية. المعنى: واذكر إذ قالت قريش: اللهم إن كان هذا القرآن هو الحق من عندك، لا شك فيه ولا مرية، فعاقبنا على الكفر به، بحجارة من سجيل كما عاقبت أصحاب الفيل، ومرادهم إنكار كونه حقا منزلا من عند الله، كأنهم قالوا: إن كان الباطل حقا فائتنا بعذاب أليم، تراهم علقوا نزول العذاب على محال في ظنهم، وفي تعبيرهم (هذا هو الحق) المفيد للتخصيص تهكم بمن يقول: القرآن حق!! فهذا أسلوب بليغ في الجحود والإنكار. إن كان هذا القرآن هو الحق دون غيره فأمطر علينا حجارة من السماء هي الحجارة المسومة للعذاب أو ائتنا بعذاب أليم آخر. وهذا هو بيان لموجب التأخير في إجابة دعائهم. وما كان من مقتضى سنة الله ورحمته وحكمته أن يعذبهم بعذاب الاستئصال وأنت فيهم قد بعثت رحمة للعالمين، وما عذب الله أمة ونبيها معهم. وما كان الله ليعذبهم والحال أنهم يستغفرون، أى: ولو كانوا ممن يؤمن ويستغفر لما عذبهم الله أبدا، ولكنهم قوم مرنوا على الكفر والشرك فلن يتوقع منهم ذلك، وقيل: ما كان ينبغي تعذيبهم وفيهم من يستغفر الله من المؤمنين الذين بين ظهرانيهم. وتقييد نفى العذاب بكون الرسول معهم دليل على أن العذاب يترصدهم وأنهم معذبون لا محالة بدليل قوله تعالى: وَما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ؟ على معنى: وأى شيء ثابت لهم حتى ينتفى عنهم العذاب، فهم معذبون لا محالة!! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 825 وكيف لا يعذبون؟ وهم يصدون الناس عن المسجد الحرام كما صدوا رسول الله عنه عام الحديبية، ألم يخرجوا النبي وصحبه من المسجد الحرام؟!! أفلا يكون هذا صدا عنه؟!! وكانوا يقولون: نحن أولياء البيت الحرام نصد من نشاء، وندخل من نشاء، فيرد الله عليهم بقوله: وَما كانُوا أَوْلِياءَهُ، وكيف يكونون أولياء له مع شركهم وعداوتهم للنبي صلّى الله عليه وسلّم؟ وما أولياؤه وأحبابه إلا المتقون المؤمنون من المسلمين فقط، وليس كل مسلم يوصف بأنه ولى الله. ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك، وقليل منهم من يعرف حقيقة نفسه ... وقد كانوا يطوفون بالبيت عراة رجالا ونساء مع الصفير والتصفيق وقد سجل الله عليهم ذلك. وما كان صلاتهم عند البيت الكريم إلا صفيرا وتصفيقا فكان طوافهم وصلاتهم من قبيل اللهو واللعب. وإذا كان الأمر كذلك فذوقوا العذاب الأليم المعد لكم بسبب كفركم وشرككم!!. عاقبة إنفاقهم للصد عن سبيل الله [سورة الأنفال (8) : الآيات 36 الى 37] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 826 المفردات: حَسْرَةً: ندامة وألما. نزلت في أبى سفيان حين أنفق المال الكثير على المحاربين في بدر وأحد. وحين قالوا: يا معشر قريش إن محمدا قد وتركم وقتل رجالكم فأعينونا بهذا المال- يريد مال العير الذي نجا- على حربه لعلنا ندرك منه ثأرا. المعنى: إن الذين كفروا بالله ورسوله ينفقون أموالهم ليصدوا الناس عن اتباع محمد وما علموا أن هذا صد عن سبيل الله، فسينفقونها في حربه والصد عنه ثم تكون في النهاية حسرة عليهم وندامة لهم، لأنه مال ضائع في سبيل الشيطان ولن يصلوا إلى ما يريدون فالله قد كتب وقدر لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ «2» . هذا عذابهم في الدنيا: ضياع المال والهزيمة النكراء، وهم في الآخرة إلى جهنم يحشرون. إن الله كتب النصر لعباده والغلب لهم ليميز الله الفريق الخبيث من الفريق الطيب ويجعل الخبيث بعضه فوق بعض متراكما في جهنم، أولئك هم الخاسرون في الدنيا والآخرة.   (1) سورة المجادلة آية 21. (2) سورة الرعد آية 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 827 من فضل الله على الناس [سورة الأنفال (8) : الآيات 38 الى 40] قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) بعد ما تعرض للكفار وذكر نتيجة أعمالهم في الدنيا والآخرة فتح لهم باب الرحمة الواسعة والفضل الكبير فقال: قل يا محمد للذين كفروا: إن ينتهوا عما هم فيه، يغفر الله لهم ما قد سلف منهم، فالإسلام يجب ما قبله، ويفتح للمسلم صفحة جديدة تسطر فيها أعماله ويجازى عليها، وأما ما عمله قبل الإسلام فدون الكفر، والإسلام يمحو كفره وشركه، وأما إن عادوا إلى حظيرة الكفر فسيلحقون بمن تقدمهم من الأمم السابقة التي كفرت بالله وبرسله ووقفت منهم موقف العناد، وهذه سنة الله في الخلق جميعا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وأما أنتم أيها المسلمون فقاتلوهم قتالا عنيفا مبيدا حتى لا تكون هناك فتنة أبدا لمسلم في الأرض، ويكون الدين كله لله، والأمر له وحده. فإن انتهوا فإن الله بصير بأعمالهم ومجازيهم عليها، وإن تولوا وأعرضوا فلا يهمنكم أمرهم، واعلموا أن الله مولاكم ومن كان الله مولاه فلا يضام أبدا، وهو نعم المولى ونعم النصير- سبحانه وتعالى- والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 828 كيف تقسم الغنائم [سورة الأنفال (8) : آية 41] وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) المفردات: غَنِمْتُمْ: من الغنيمة، وأصلها إصابة الغنم، والمراد: ما أخذ من الكفار قهرا أما ما أخذ بلا حرب فهو فيء كالجزية وعشر التجارة ... إلخ ما هو مبين في كتب الفقه. يَوْمَ الْفُرْقانِ: هو يوم بدر لأنه فرق بين الحق والباطل وظهر في الوجود أن لمحمد المهاجر من بلده قوة غلبت كفار قريش المغرورين. المعنى: سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الأنفال وتقسيمها والمراد بها الغنائم كما سبق. فأجاب القرآن على سؤالهم مبينا أن حكمها لله ويقسمها الرسول صلّى الله عليه وسلّم على حسب ما أمر به يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ. [سورة الأنفال آية 1] . وهذا بيان لحكمها بالتفصيل. واعلموا أيها المسلمون أن الذي غنمتموه من الكفار، أيا كان قليلا أو كثيرا فحق ثابت، واجب أن لله خمسه وللرسول، ولذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل. فالغنيمة تقسم خمسة أقسام، خمسها لهؤلاء الخمسة، وأربعة أخماسها الباقية للجيش بدليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 829 بيان هذا الخمس والسكوت عن الباقي مع قوله تعالى غَنِمْتُمْ قال القرطبي: لما بين الله- تعالى- حكم الخمس وسكت عن الباقي دل ذلك على أنه ملك للغانمين. والمراد بذوي القربى هم بنو هاشم وبنو المطلب دون بنى عبد شمس، وبنى نوفل، واليتامى: من فقدوا آباءهم وهم فقراء، والمساكين: هم ذوو الحاجة من المسلمين، وابن السبيل: المنقطع في سفره مع شدة حاجته حتى صار الطريق أبا له. كان يقسم النبي صلّى الله عليه وسلّم الخمس على خمسة: سهم له يصرفه في مصالح المسلمين وسهم لذوي القربى، والثلاثة الباقية لأصحابها المذكورين، وبعد وفاته اختلفت الأئمة فمن قائل أن سهم النبي وسهم ذوى القربى يسقطان، وفقراء آل البيت كفقراء المسلمين، ولا يعطى أغنياؤهم، وهكذا كان يسير أبو بكر مع بنى هاشم، وقال الشافعى: سهم رسول الله يصرف على مصالح المسلمين. وسهم ذوى القربى لفقراء آل البيت وأغنيائهم بالسوية كالميراث، والرأى أن سهم الرسول وسهم ذوى القربى يترك أمرهما للإمام يفعل ما فيه المصلحة للمسلمين. وبعض العلماء تمسك بظاهر الآية وقال: الخمس يقسم ستة أقسام لا خمسة. إن كنتم آمنتم بالله وما أنزل على رسول الله من الوحى والملائكة والنصر يوم الفرقان يوم التقى الكفار والمسلمون فاعلموا أن الخمس ليس لكم ولكنه لله ولرسوله، وللأصناف المذكورة، فحذار من أن تتعدوا الحدود في وقت من الأوقات، ولا غرابة في جعل الإيمان بإنزال هذه الأشياء من دواعي العلم بأن لله خمسه وللرسول ... إلخ الأصناف لأن الوحى ناطق بهذا، ولما كانت الملائكة والنصر من عند الله، وجب أن تكون الغنيمة التي حصلت بسببها مصروفة في الجهات التي عينها الله، وليس المراد اعلموا فقط بل العلم المشفوع بالعمل والاعتقاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 830 امتنان الله على المؤمنين بالنصر على عدوهم [سورة الأنفال (8) : الآيات 42 الى 44] إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44) المفردات: بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا: شط الوادي، والدنيا، أى: القريبة من المدينة. والْقُصْوى: مؤنث الأقصى، أى: البعيدة عن المدينة. المعنى: يذكرنا الله- سبحانه وتعالى- بالنعم العظيمة التي حبانا بها، وكان لها الأثر الفعال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 831 في الانتصار على كفار قريش، وهذا يوجب الشكر علينا والامتثال لأمر الله في تقسيم الغنائم وغيره. واذكروا يوم التقى الجمعان إذ أنتم بالعدوة القريبة من المدينة اخترتموها مكانا لكم مع أنها كانت رملية تسوخ فيها الأقدام، ولا يسهل السير عليها، والكفار في العدوة البعيدة، وكانت مكانا صالحا للوقوف قريبا من الماء، ومع ذلك فكان العير الذي يحمل التجارة والركب الذي يرأسه أبو سفيان في أربعين من قريش أسفل منكم، ووراء ظهور المشركين حاميا لها، وهم يدافعون عنه دفاع المستميت، وهذا بلا شك مما يقوى الروح المعنوية فيهم واعلموا أنكم لو تواعدتم على القتال لاختلفتم في الميعاد خوفا من بطشهم وقوة عددهم. كل ذلك ليتحقق للمسلمين أن النصر من عند الله وحده، وأن الله هو الذي جعلهم يتغلبون على عدوهم مع قلة عددهم وعددهم فيزدادوا إيمانا وشكرا وامتثالا لأمر الله. ولكن جمع الله بينكم على هذه الحال من غير ميعاد ليقضى الله أمرا كان مقدورا فعله، محتما وقوعه لأنه نصر لأوليائه، وقهر لأعدائه ليهلك من هلك بعد ظهور تلك البينات الواضحات عن حجة وبينة، فإن المقدمات الظاهرة لو تركت وحدها لأنتجت هزيمة المسلمين هزيمة ساحقة، أما وقد ظهر أن الله على كل شيء قدير، وأنه ولى الذين آمنوا، وهو يتولى الصالحين، وقد نصر المسلمين على عدوهم نصرا مؤزرا، وتحقق قوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1» فمن يهلك بعد ذلك يهلك عن بينة وحجة، ومن يحيا بعد ذلك يحيا عن بينة وحجة، فليس الأمر يسير كالعادة والمألوف، بل هذه معجزات قواطع دمغت الكفر، ومحقت الشرك، وقيل: المراد بالحياة والهلاك: الإسلام والشرك، وإن الله لسميع بكل دعاء والتجاء إليه، عليم بكل قصد وعمل. واذكر إذ يريك الله الكفار في منامك قليلا، بمعنى ضعفاء، فتخبر أصحابك بذلك فتثبت قلوبهم، ولو أراكهم على حسب الواقع لفشلتم واختلفتم وتنازعتم في أمر القتال، ولكن الله سلّم من الفشل والنزاع حيث أخرجكم للعير ثم وعدكم الله إحدى الطائفتين، وقد فر العير فلم يبق إلا القتال، وقد منّ عليكم بنعمه حتى انتصرتم، إنه عليم بذات الصدور وهو أعلم بخلقه أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [سورة الملك آية 14] .   (1) سورة القمر آية 45. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 832 واذكروا إذ يريكم الله الكفار ساعة القتال قلة في أعينكم حتى تجرؤوا وتقوى روحكم المعنوية، ويجعلكم قلة في أعين الكفار فيغتروا، ولا يعدوا العدة لكم ولا يحكموا الضربة الموجهة إليكم هذا قبل القتال وأما فيه فإنهم رأوا المسلمين مثلي عددهم لتفاجئهم الكثرة فيبهتوا ويتملكهم الفزع وتسوء حالهم المعنوية قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ [آل عمران آية 114] . كل ذلك ليقضى الله أمرا كان مفعولا بلا شك، وإلى الله ترجع الأمور كلها يصرفها كيف يشاء، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه- سبحانه وتعالى-. نصائح حربية [سورة الأنفال (8) : الآيات 45 الى 47] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) المفردات: فِئَةً: جماعة. رِيحُكُمْ المراد: القوة والغلبة والدولة، ويقال: هبت رياح فلان: إذ دالت له الدولة ونفذ أمره. بَطَراً البطر والأشر: هما الفخر بالنعمة ومقابلتها بالتكبر والخيلاء وجعلها وسيلة إلى ما لا يرضى الله. رِئاءَ النَّاسِ أصله: رياء الناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 833 المعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، إذا حاربتم جماعة من الكفار، والتقيتم بهم في ميدان الحرب فالواجب عليكم أن تثبتوا في قتالهم وتصمدوا للقائهم، وإياكم والفرار من الزحف، وتوليتهم الأدبار. فالثبات فضيلة، والفرار كبيرة يعاقب الدين عليها وعليكم بذكر الله في السراء والضراء وحين البأس، فبذكره تطمئن القلوب، وبدعائه تفكّ الكروب، فهو القريب المجيب دعوة الداعي، لا سيما إذا كان دعاء بالنصر على عدو الله، اثبتوا عند اللقاء، واذكروا الله كثيرا، رجاء أن تفوزوا بالأجر والثواب، والنصرة على الأعداء ... وأطيعوا الله في كل ما أمر به ونهى، وكذا رسوله الكريم فمن أطاع الرسول فقد أطاع الله، وإياكم والنزاع فإنه مدعاة للفرقة وأساس الهزيمة، وإنما أهلك من كان قبلكم اختلافهم وكثرة اعتراضهم، فالنزاع أداة الهلاك، ومعول الهدم والشقاء، به تذهب الدولة، وتفنى القوة وعليكم بالصبر فهو سلاح المؤمن الذي لا يفل، ولقد قيل: الشجاعة صبر ساعة، وكفى بالصبر شرفا أن الله مع الصابرين بالمعونة والتأييد، وإياكم أن تكونوا كأولئك الكفار الذين خرجوا من ديارهم ليحموا عيرهم خرجوا حالة كونهم بطرين طاغين بالنعمة، غير شاكرين إذ قيل لهم: إن العير نجا فارجعوا، فقال أبو جهل، لا، حتى نقدم بدرا ونشرب الخمور وتضرب القيان علينا بالدفوف، وتسمع العرب بمقدمنا.. كما مر قريبا، وكان مآلهم كما علمت، بدل الله شرب الخمر بشرب كأس الموت، وبدل ضرب القيان والغناء بنوح النائحات، وبدل نحر الجزور بنحر الرقاب وهكذا!! لا تكونوا مثلهم بطرين أشرين مرائين الناس صادين عن سبيل الله، فهذه من عوامل الهدم والفناء، واعلموا أن الله بما يعمل العاملون محيط وسيجازى كلا على عمله. فهذه هي النصائح التي تكفل النصر للمسلم: الثبات عند اللقاء، وذكر الله والالتجاء إليه، وطاعة الله وطاعة رسوله وكذا قائد الجيش ورئيس الدولة ما دام يأمر بما يرضى الله ورسوله، وعدم النزاع والشقاق، والصبر عند الشدائد، وعدم البطر والرياء والكبر والخيلاء ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 834 كيف يتخلص الشيطان [سورة الأنفال (8) : الآيات 48 الى 51] وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) المفردات: زَيَّنَ: حبب إليهم أعمالهم ووسوس لهم بها. نَكَصَ: رجع هاربا، أى: رجع القهقرى، والمراد: أحجم، والعقب: مؤخر القدم. أَدْبارَهُمْ: جمع دبر، أى: مؤخرهم، والمراد: ظهورهم، وقيل: المراد أستاههم. المعنى: واذكر يا محمد إذ زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها ضد دين الله، ووسوس لهم بها وحببهم فيها حتى فهموا أنهم لا يغلبون أبدا، وأوهمهم أن خطوات الشيطان وطاعته مما يجيرهم، فلما تراءى الجمعان، والتقت الفئتان في الميدان وجها لوجه. نكص على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 835 عقبيه، ورجع هاربا لا يلوى على شيء، وقال: إنى برىء منكم ومن عملكم، إنى أرى ما لا ترون من جند الله التي تحارب في صفوفهم والمراد أنه بطل عمله، وذهب كيده أدراج الرياح، وهذا تمثيل لحاله مع الكفار في الدنيا فما باله في الآخرة؟!! وفي المأثور: أن إبليس تمثل في صورة سراقة بن مالك الشاعر الكناني وتحدث معهم بالفعل، وفي بعض الروايات: كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلما نكص وتركهم وقد حمى الوطيس قال له الحارث: إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحال؟ فقال: إنى أرى ما لا ترون ودفع في صدر الحارث وانطلق. إنى أرى ما لا ترون إنى أخاف الله!! انظر كيف وقف الشيطان منهم هذا الموقف؟!! والله شديد العقاب فاحذروا عقابه. واذكر وقت أن يقول المنافقون والذين في قلوبهم مرض الشك والحسد وداء الحقد والبطر: غر هؤلاء المسلمين دينهم حتى يخرج ثلاثمائة لمحاربة ألف من زعماء قريش، إن هذا لغرور!! وما علم المنافقون أن من يتوكل على الله فهو حسبه، وناصره ومؤيده، فإن الله عزيز يعز أولياءه ويذل أعداءه، غالب على أمره، حكيم في فعله عليم بخلقه. سبحانه وتعالى. ولو رأيت يا من تتأتى منك الرؤية وقت أن يتوفى الذين كفروا الملائكة، لو رأيت الكفرة في هذه الحال لرأيت شيئا عجيبا لا يكاد يوصف، فهم يضربون وجوههم وظهورهم بمقامع من حديد، ويقولون لهم: ذوقوا عذاب الحريق، وهذا بشارة لهم بعذاب الآخرة. ذلك العذاب الشديد والضرب الأليم بسبب ما قدمته الكفار، واجترحته من المعاصي والذنوب، وأن الله ليس بذي ظلم للعباد أبدا بل يضع الموازين القسط، ويعطى كل ذي حق حقه. ما حل بهم بسبب أعمالهم [سورة الأنفال (8) : الآيات 52 الى 54] كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 836 المفردات: كَدَأْبِ الدأب: مصدر دأب يدأب: إذا كدح وأتعب نفسه وداوم على فعله، ثم سميت به العادة لأن الإنسان يداوم عليها ويواظب. المعنى: هذا استئناف، أى: كلام جديد مسوق لبيان أن ما حل بهم من العذاب بسبب كفرهم لا بسبب شيء آخر فهو تأكيد لمضمون ما قبله ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ. عمل هؤلاء الكفرة الذين مرنوا عليه وتعودوه كعمل آل فرعون والذين من قبلهم من آل عاد وثمود وقوم لوط والمؤتفكات، أتتهم رسلهم بالبينات فكفروا بآيات الله، وكذبوا برسل الله. فأخذهم الله بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر، ولا غرابة في ذلك فإن الله قوى عذابه شديد عقابه فالجزاء من جنس العمل ومسبب عنه. ذلك العذاب الذي يأتى مسببا عن العمل بسبب أن الله- سبحانه وتعالى- لم يكن مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، أى: لم يصح في حكمته أن يغير نعمة حتى يتغير صاحبها إذ هو الحكيم الكريم الرحمن الرحيم. وهؤلاء الكفار كانوا في نعمة الأمن والرفاهية، أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف وبعث إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم من بينهم يتلوا عليهم آياته، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين، نعم كانوا قبل البعثة كفرة عبدة أصنام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 837 لكن هذه لم تمنعهم من إفاضة نعمة الإمهال عليهم وسائر النعم التي سبقت من الأمن والرفاهية وإرسال النبي صلّى الله عليه وسلّم. فلما بعث إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم غيروا حالهم السيئة إلى أسوأ منها حيث كذبوا النبي وعادوه وحاولوا قتله وعذبوا أصحابه وتحزبوا عليه.. فغير الله- تعالى- ما أنعم به عليهم من نعمة الإمهال وعاجلهم بالعذاب والنكال إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وذلك بسبب أن الله يسمع كل صوت ويعلم كل قصد وعمل. دأبهم وما هم عليه من عادة كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فكان من نتيجة ذلك أن أهلكهم الله بذنوبهم التي من جملتها التكذيب وأغرق آل فرعون وأرسل الريح والصيحة على غيرهم، وكل هؤلاء كانوا ظالمين. كيف حال من نقض العهد؟ [سورة الأنفال (8) : الآيات 55 الى 59] إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) المفردات: الدَّوَابِّ: جمع دابة، وهي: ما تدب على الأرض، والمراد الناس. تَثْقَفَنَّهُمْ تثقفت الرجل في الحرب: أدركته، وثقفته: ظفرت به. فَشَرِّدْ بِهِمْ التشريد: تفريق مع إزعاج واضطراب. فَانْبِذْ: فاطرح وارم. سَبَقُوا: أفلتوا وفاتوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 838 المناسبة: بعد أن تكلم على الكافرين الظالمين الذين هلكوا بأعمالهم. أخذ يتكلم على أحوال الباقين منهم. روى أنها نزلت في بنى قريظة من اليهود، وذلك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان عاهدهم ألا يحاربوه وألا يعاونوا أحدا عليه فنقضوا عهدهم وأعانوا مشركي مكة بالسلاح على قتال رسول الله، ثم قالوا: نسينا. فعاهدهم ثانية فنقضوا ومالئوا الكفار يوم الخندق، وركب كعب بن الأشرف زعيمهم إلى مكة فحالفهم على محاربة رسول الله. المعنى: إن شر الناس عند الله الذين كفروا وصدوا عن سبيله، ولجوا في العناد وأصروا على الكفر، وقد جعلهم القرآن شر الدواب إشارة إلى أنهم بلغوا درجة الحيوانات والدواب ومع ذلك هم شر منها إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا «1» وهم لذلك لا يؤمنون ولا يرجى منهم خير أبدا. إن شر الناس عند الله، أى: في حكمه وقضائه: الذين كفروا، أى: الذين عاهدت منهم وأخذت العهد عليهم كبني قريظة ثم تراهم ينقضون العهد في كل مرة من المعاهدة والحال أنهم لا يتقون الله ولا يخافون حسابه وليس لهم ضمير أو ذمة يرعونها. هذا حالهم عند الله، أما حكم من نقض العهد منهم فإن أمكنتك الفرصة منهم وثقفتهم في الحرب فاضربهم الضربة القاضية التي تفرق بها جمع كل ناقض للعهد حتى يخافك من وراءهم من أهل مكة وغيرها، افعل هذا لعل الذين خلفهم يتعظون بهم. أما من أشرف على نقض العهد وبدرت منه بوادر تؤذن بأنه سينقض فهاك حكمه. وإما تخافن من قوم خيانة بنقض العهد بأن لاح لك دلائل الغدر ومخايل الشر، والمراد بالخوف: العلم، فاطرح لهم عهدهم وانبذه لهم نبذ النواة مستويا أنت وهم في العلم بنقض العهد بأن تعلمهم به حتى لا يتهموك بالغدر والخيانة إن الله لا يحب الخائنين.   (1) سورة الفرقان آية 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 839 وقيل المعنى: فانبذ إليهم عهدهم على طريق مستو واضح، والمراد: أخبرهم خبرا مكشوفا. ولا يحسبن الذين كفروا أنفسهم أنهم أفلتوا من القتل والأسر يوم بدر أنهم بهذا السبق لا يعجزون الله من الانتقام منهم بل هم في قبضته ولن يفلتوا أبدا إما في الدنيا بالقتل وإما في الآخرة بالعذاب الشديد، وأما أنت يا محمد فاعلم أن الله محيط بهم ومعذبهم على كفرهم ومنتقم منهم فاطمئن واصبر فإن الله معك! الإعداد الحربي للأعداء [سورة الأنفال (8) : آية 60] وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) المفردات: رِباطِ الْخَيْلِ يقول الكشاف: الرباط: اسم للخيل التي تربط في سبيل الله. تُرْهِبُونَ: تخيفون. المعنى: الجيش هو عدة الوطن وسلاحه ودرعه وسياجه، وجه الأمة التي تقابل به العدو، ويدها التي تبطش بها، وقلبها النابض وعينها الساهرة، ولذا كانت عناية القرآن به كما ترى في كثير من الآيات، ورعاية النبي صلّى الله عليه وسلّم له وإعطاؤه القسط الوافر المناسب لزمنه أمر ظاهر واضح. والإعداد والتكوين أمر شاق على النفوس عسير على الناس إلا المؤمنين بالله المتوكلين عليه أصحاب النفوس العزيزة والهمم العالية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 840 والآية الكريمة على اختصارها جمعت أنواع الإعداد للجيوش التي تتلاءم مع كل عصر وزمن مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ. فالإعداد الأدبى، والمادي، والإدارى، والفنى، والمالى، مع الحث على ذلك كله بالثواب الجزيل والعطاء الكثير كل ذلك في الآية الشريفة، ولقد فرض القرآن علينا الإعداد بأنواعه وَأَعِدُّوا، وأن نبذل فيه أكثر جهودنا وأن نقدم النفس والنفيس ما استطعنا إلى ذلك سبيلا. ولم تغفل الآية الإعداد في وقت السلم حتى يكون الجيش على أتم استعداد في كل وقت (كلما سمعوا هيعة طاروا إليها) فأمرنا بإعداد الخيل المرابطة في الثغور لمقابلة العدو ليلا ونهارا. ولقد ذكرت الآية سبب الإعداد وهو إرهاب العدو الظاهر والعدو الخفى ما نعلمه، وما لا نعلمه. ولم يكن هناك إعداد ونصر إلا بالمال، ولا سبيل إليه إلا بالإنفاق المطلق كل على قدر طاقته وإيمانه مع حقنا على التسابق فيه والعمل على إحراز ثوابه الكبير المعد لنا يوم القيامة. ولا يمكن أن تقوم أمة بهذا الإعداد الكامل ثم تظلم من جيرانها أبدا، وأنتم لا تظلمون كذلك في الآخرة وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ، وَما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ [سورة البقرة آية 273] . والخيل في العصر القديم كانت عنوان الرهبة للأعداء، ولا تزال لها مكانتها في العصر الحديث لهذا ذكرت، وإن كانت الآية تدعو لإعداد المستطاع المناسب من كل قوة صالحة. الميل إلى السلام، وتقوية الروح المعنوية في الجيش [سورة الأنفال (8) : الآيات 61 الى 66] وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 841 المفردات: جَنَحُوا: مالوا لِلسَّلْمِ السّلم، والسّلم واحد. حَسْبَكَ: كافيك. المعنى: بعد ما أمر بالاستعداد التام للحرب، وغالبا يكون مانعا له، ذكر هنا حكم ما إذا طلبوا الصلح ومالوا إلى السلم فقال ما معناه: وإن مالوا إلى السلم وطلبوا عقد الهدنة والأمان فأعطهم ما طلبوا، والصحيح- كما قال الزمخشري في كشافه-: أن الأمر في الآية موقوف على ما يرى فيه الإمام صلاح الإسلام وأهله من حرب أو صلح، وليس بحتم أن يقاتلوا أبدا، أو يجابوا إلى الهدنة أبدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 842 وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله فالله حسبك وكافيك، وهو السميع لكل قول وطلب، عليم بكل قصد ونية، وهذا يفيد أن دين الإسلام دين السلام والمحبة، وأنه عدو للحرب إلا إذا اقتضتها الظروف القاهرة. وإن يريدوا خداعك بطلب الصلح حتى يستعدوا للحرب فاعلم أن الله كافيك شرهم، وناصرك عليهم، ولا غرابة، فهو الذي أيدك وأمدك بنصر من عنده وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وأيدك بالمؤمنين معك من الأنصار والمهاجرين، الذين دافعوا عنك دفاع الأبطال، وهو الذي ألف بين قلوبهم، وجمعهم على كلمة الحق والشهادة، وألزمهم كلمة التقوى، وكانوا أحق بها وأهلها جمعهم على حبك وألف بين قلوبهم المتنافرة المتباغضة، وقد كانوا في الجاهلية أصحاب حروب وفتن وعداوات وعصبيات وحب للانتقام وإثارة الحروب لأتفه الأسباب، ومع أنك لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم. ولكن الله القوى القادر الحكيم العليم ألف بين قلوبهم، وجمعهم على صراط سوى، إنه عزيز كامل القدرة والغلبة يعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير، حكيم في كل ما يصنع. يا أيها النبي حسبك الله وكافيك في جميع أمورك أنت والمؤمنين بك فكونوا أقوياء العزم ثابتى الجنان، فإن الله معكم بالنصر والمعونة. ولا شك أن هذا يقوى الروح المعنوية في جيوش المسلمين. وهذا لا يمنع الأخذ بالأسباب، ولذا يقول الله: يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال، وحثهم عليه حثا شديدا حتى يبذلوا النفس والنفيس في سبيل الله طيبة نفوسهم بهذا، وذلك ببيان فضيلة الجهاد وأنهم ينتظرون في الجهاد إحدى الحسنيين: إما الشهادة، ويا لها من شرف!! وإما الغنيمة والنصر. واعلموا أن الواجب عليكم أن الواحد يقاتل عشرة من الكفار، إذ هناك فرق شاسع بين من يقاتل عن عقيدة ثابتة ونفس مطمئنة، وبين من يقاتل مكرها أو مأجورا أو لغرض دنيوى بسيط. إن يكن منكم عشرون صابرون محتسبون أجرهم عند الله يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم مائة صابرة على هذا الشرط يغلبوا ألفا من الذين كفروا بالله وبرسوله، ولم يؤمنوا بالبعث والجزاء، ذلك بسبب أنهم قوم لا يفقهون الأسرار الحربية ونظامها الذي يكفل النجاح، وهم قوم لا يفقهون عن عقيدة وحجة، ثم هم لا يؤمنون بالبعث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 843 والجزاء. أما أنتم فتقاتلون صابرين محتسبين الآجر من عند الله منتظرين إحدى الحسنيين من الغنيمة أو الشهادة. هذا هو الوضع الذي يجب أن يكون عليه المسلم، وعدم الفقه والفهم هو الوضع الذي وصف به المشركون، واليهود لأنهم ماديون أشد الناس حرصا على حياة هذه المرتبة العليا للمؤمنين وهي مرتبة (العزيمة) وهاك مرتبة أقل منها وهي (الرخصة) . الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفا في البدن من كثرة الجهاد والعمل، فإن يكن منكم مائة صابرة على هذا الشرط يغلبوا مائتين، وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن الله وقوته والله مع الصابرين بالمعونة والرعاية، ولقد كرر القرآن مقاومة الجماعة لأكثر منها مرتين قبل التخفيف وبعده للدلالة على أن الحال مع القلة والكثرة واحدة لا تتفاوت أبدا ما دام الجيش يسير حسب الشرع، وتبعا لتعاليم الإسلام. التشريع ينزل موافقا لرأى عمر [سورة الأنفال (8) : الآيات 67 الى 71] ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 844 المفردات: يُثْخِنَ يقال: أثخنه المرض والجرح: إذا أثقله وجعله لا يتحرك، والمراد يكثر القتل ويبالغ فيه. سبب النزول: روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم استشار أصحابه فيما يعمله في أسرى بدر فأشار أبو بكر بالفدية وقال: هم قومك وأهلك استبقهم لعل الله يتوب عليهم، وخذ منهم فدية تقوى بها أصحابك، واستشار عمر فأشار بالقتل قائلا: اضرب أعناقهم فإنهم أئمة الكفر والله أغناك عن الفداء. مكّن عليا من عقيل، وحمزة من العباس، ومكنى من فلان نسيب له فلنضرب أعناقهم، وقد مال الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى رأى أبى بكر فنزلت الآية وقد ختم الله سياق الكلام في القتال بذكر حكم يتعلق بالأسرى. المعنى: الأسير عدو من الكفار وقع في يد المسلمين، والحكم فيه أن الإمام يتصرف فيه تبعا للمصلحة العامة فيعرض عليه الإسلام فإن أسلم فبها، وإلا قتله الإمام، أو قبل الفداء منه، أو استرقه، أو منّ عليه بدون فداء. هذا إذا كانت للأمة الإسلامية دولة وصولة، أما في مبدأ الأمر كما هنا عند قيام الدولة فالرأى ألا يبقوا على الأسر ولا يحملوهم معهم بل يقتلوهم قتلا. إذ هم عالة عليهم وضغث على إبالة، وإن بقي ربما تظاهر بالإسلام وكان جاسوسا على المسلمين، وفي هذا المعنى كانت الآية الكريمة. ما كان لنبي، أى: ما صح له وما استقام أبدا، أى: لا ينبغي أن يكون له أسرى ثم يبقى عليهم، ويقبل الفدية. فإن هذا خطر على الدولة، ما كان له ذلك حتى يكثر القتل في الكفار ويبالغ فيه، وفي هذا إعزاز للمسلمين، وإضعاف للكفار وكسر لشوكتهم، أتريدون بقبول الفداء والإبقاء عليهم عرضا من أعراض الدنيا وحطامها الزائل؟ والله يريد لكم ثواب الآخرة، أو يريد إعزاز دينه، والقضاء على أعدائه وهذا سبب الوصول إلى ثواب الآخرة، والله عزيز يعز أولياءه، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، حكيم في أفعاله وأعماله فامتثلوا أمره فهو يهديكم إلى سبيل الرشاد والخير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 845 لولا كتاب من الله سبق وحكم قضاه في اللوح المحفوظ أن المخطئ لا يعاقب على خطئه، لولا هذا لأصابكم بسبب ما أخذتم من الفداء عذاب عظيم وقعه، شديد هوله، وفي هذا تهويل لخطر ما فعلوا. وقد أبيحت لكم الغنائم فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا، واتقوا الله وامتثلوا أمره ونهيه، إن الله غفور رحيم يقبل التوبة، ويعفو عن السيئة. روى أنه كان من الأسرى العباس بن عبد المطلب وقد كلفه النبي أن يفدى ابن أخيه عقيل بن أبى طالب ونوفل بن الحارث فقال: يا محمد، تركتني أتكفف قريشا ما بقيت، فقال له النبي صلّى الله عليه وسلّم: فأين الذهب الذي دفعته إلى أم الفضل وقت خروجك من مكة؟ وكان هذا إخبارا بالغيب حيث لم يكن يعلم بهذا إلا الله، فقال العباس: والله كان عندي ريب قبل هذا ولكن الآن لا ريب ، وفي رواية قال العباس: فأبدلنى الله خيرا مما أخذ منى. يا أيها النبي قل لمن في ملككم من الأسرى: إن يعلم الله في قلوبكم إخلاصا وحسن نية يؤتكم خيرا مما أخذ منكم في الفداء، ويغفر لكم والله غفور ستار للذنوب. وقيل: المراد من الآية أن يعرض النبي على الأسرى الإسلام، ويمنيهم بالخير والمغفرة. وإن يريدوا خيانتك، ونقض عهدك فاعلم أنهم قد خانوا الله من قبل ذلك بنقضهم الميثاق المأخوذ على الناس جميعا أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ وإذا كان كذلك فلا يهمنك أمرهم فالله أمكنك منهم وسلطك عليهم فهزمتهم، وهذا كلام مسوق لتسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم بطريق الوعد له والوعيد عليهم، والله عليم بالنيات حكيم بفعل ما تقتضيه الحكمة البالغة.. الرابطة الإسلامية أقوى الروابط [سورة الأنفال (8) : الآيات 72 الى 75] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 846 المفردات: هاجَرُوا: تركوا دار الكفر وذهبوا إلى دار الإسلام. آوَوْا: أنزلوا وأسكنوا، يقال: آواه: أنزله دارا وأسكنه إياها. وَلايَتِهِمْ: الولاية مصدر وليه يليه، أى: ملك أمره وقام به. تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ: تحصل فتنة عظيمة، والمراد ضعف الإيمان وظهور الكفر. المعنى: ما مضى كان في الكلام على الكفار وأسراهم وكيفية معاملتنا لهم ضاربين بقرابتهم عرض الحائط مستبدلين بها قرابة الإسلام، ولذا تكلم القرآن هنا على رابطة الإسلام. إن الذين آمنوا بالله ورسوله إيمانا صادقا كاملا، وهاجروا في سبيله، هجروا أوطانهم الحبيبة إلى نفوسهم، وتركوا مالهم كل ذلك لله، وجاهدوا في سبيله، وبذلوا النفس والنفيس، أولئك هم المهاجرون الذين تركوا مكة وعزهم وشرفهم ونسبهم فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 847 إلى يثرب التي قطنها الرسول الكريم، إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا المهاجرين وأنزلوهم ديارهم وشاركوهم في أموالهم، ونصروا رسول الله ومنعوه مما يمنعون به أزواجهم وأولادهم فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ «1» أولئك هم الأنصار هؤلاء المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض، يتولون أنفسهم بالرعاية والعناية، والسهر على المصالح فهم جسد الأمة الإسلامية، إذا اشتكى عضو منه تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، فرابطة الإسلام بينهم أقوى رابطة، والإيمان هو الصلة المحكمة، وهكذا المسلمون في كل زمان ومكان اجتمعوا على الإيمان بالله، والتقوى عند محبة الرسول الأكرم ولذا يقول الله فيهم: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «2» فالأخوة في الإسلام إذا ما كانت لله حقا كانت هي الدعامة الوحيدة لتماسك بناء الأمة، وقيل: المراد بالولاية هنا الميراث، ونخست الآية بآية المواريث، والذين آمنوا بالله ورسوله ولم يهاجروا بأن اعترضتهم عقابات لم يستطيعوا التغلب عليها، وقد كانت الهجرة في مبدأ الإسلام علامة الإيمان الكامل هؤلاء ليس لكم ولاية عليهم، وليس بينكم توارث، وإن كانوا ذوى قربى حتى يهاجروا. ولكن إن استنصروكم في الدين، وطلبوا إليكم أن تمدوا إليهم يد المساعدة لهم على أعدائهم بقدر الطاقة فانصروهم إلا على قوم بينكم وبينهم معاهدة وميثاق، والله بما تعملون بصير. والذين كفروا بعضهم أولياء بعض ليس لكم أن توالوهم أو تتخذوهم أصدقاء مهما كانوا من القرابة والصلة، إن لم تفعلوا هذا، وتقوموا بهذه الأوامر تحصل فتنة في الأرض وفساد كبير، وذلك بضعف الإسلام وكسر شوكته، وظهور الكفر، وعلو رايته!!! يا سبحان الله أنت عالم الغيب والشهادة وأنت الخبير البصير، فلقد ظل الإسلام كما هو حتى اتخذ المسلمون بطانتهم من غيرهم ووالوا أعداء الدين بحجة السياسة مرة أو الحاجة أخرى فأصبحوا ولا حول لهم ولا قوة، وظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدينا، نعم وسنظل على ذلك حتى نعود إلى الدين والقرآن نفعل ما يريده ونتجنب ما ينهى عنه.   (1) سورة الأعراف آية 157. (2) سورة الحجرات آية 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 848 والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله، والذين آووا الرسول وعزروه ونصروه، وهم المهاجرون والأنصار، أولئك المؤمنون حقا، فالهجرة والنصرة دليل على صدق الإيمان وكمال الإسلام، ولهم مغفرة من الله ورضوان، ولهم رزق في الدنيا والآخرة كريم، أى: حسن وكبير. هؤلاء هم السابقون المقربون، ومن أتى بعدهم فهذا حالهم والذين آمنوا من بعد ذلك، أى: بعد أن قويت شوكة المسلمين وامتد بهم الزمن وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله معكم فأولئك منكم، وأنت منهم، بعضكم أولياء بعض، وأولو الأرحام وذوو القرابات في الإسلام بعضهم أولى ببعض فقد جمعوا بين الأخوة في الله والأخوة في النسب، هذا الحكم في كتاب الله، وقيل: المراد ميراث ذوى الأرحام، وقد كان المهاجرون والأنصار يتوارثون في بداية الإسلام حتى نزلت آية المواريث، ومنها هذه الآية، واعلموا أن الله بكل شيء عليم. وليس في الآيات تكرار فالأولى لبيان أن رابطة الإسلام أقوى من رابطة النسب، والثانية لبيان مكانتهم وأنهم هم المؤمنون حقا، والثالثة لبيان أن الذين جاءوا بعدكم وآمنوا بعد ظهور الإسلام فأولئك منكم والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 849 سورة التوبة عدد آياتها تسع وعشرون ومائة وتسمى سورة براءة، والمبعثرة، والمثيرة، والمخزية، والفاضحة، والمشردة، وسورة العذاب، لما فيها من ذكر التوبة، وما فيها من التبرئة من النفاق، وما فيها من التعرض للمنافقين وكشف سترهم وما يخزيهم ويشردهم، وما فيها من نقض العهود وإرصاد العذاب للمشركين، لهذا وذلك سميت بتلك الأسماء. وكثرة أسمائها الواردة دليل على أنها سورة مستقلة ليست جزءا مما قبلها. وإذا كانت سورة فلم تركت البسملة في أولها؟!! أما الحكمة في ترك البسملة فالظاهر- والله أعلم- أنها نزلت لرفع الأمان، ونقض العهود مع المشركين، وفضيحة المنافقين، وهذا يتنافى مع التصدير بالاسم الجليل الموصوف بالرحمن الرحيم، وفي الكشاف: سئل ابن عينية- رضى الله عنه- فقال: اسم الله سلام وأمان فلا يكتب في النبذ والمحاربة. وما روى عن ابن عباس في هذا فأظنه مدسوس عليه إذ لا يعقل أن يلحق النبي بالرفيق الأعلى ولم يبين للصحابة مكان هذه الآيات، فاختلف الصحابة في ذلك على أن الصحيح أن البسملة آية فذة من القرآن أنزلت للفصل والتبرك بها، وأنه لا مدخل لأحد بالمرة في إثباتها أو تركها وإنما هذا كله توقيف ووحى، ولا يعقل أن يترك ذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم ولا يصح أن يتشكك مسلم في هذا أبدا، ولا شك في عدم نزول البسملة ها هنا بالإجماع. نبذة تاريخية: في السنة السادسة للهجرة عاهد النبي صلّى الله عليه وسلّم المشركين في الحديبية على السلم والأمان عشر سنين بشروط تساهل معهم فيها عن قوة وعزة لا عن ضعف وذلة، ودخلت قبيلة خزاعة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم وقبيلة بنى بكر في عهد قريش، وكانت بين هاتين القبيلتين إحن قديمة وثارات موروثة فاعتدت بنو بكر على خزاعة ونقضوا عهدهم، وأعانت قريش بنى بكر بالسلاح وبالرجال فانهزمت خزاعة فكان ذلك نقضا للصلح الواقع عام الحديبية: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 850 ولذا خرج عمرو بن سالم الخزاعي على رأس وفد إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم مستغيثين به، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «لا نصرت إن لم أنصر بنى كعب» فكان ذلك سبب عودة حال الحرب العامة وفتح مكة في السنة الثامنة. وقد ثبت بالتجربة أن المشركين في حال القوة والضعف لا عهود لهم، ولا أمان فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ «1» إلا من عاهد واستقام أمره، هذا هو الأساس الشرعي الذي بنى عليه ما جاءت به هذه السورة من نبذ عهودهم المطلقة، وإتمام مدة عهودهم المؤقتة لمن استقام عليها منهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله. ولما بلغ هوازن فتح مكة جمعهم أميرهم مالك بن عوف النصري لقتال المسلمين وكانت غزوة حنين في شوال في السنة الثامنة، وبعدها حاصر الطائف بضعا وعشرين ليلة ورماهم بالمنجنيق. ثم أقام النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة بعد ذلك ذا الحجة والمحرم من السنة التاسعة وصفر وربيع الأول والآخر وجماد الأول والآخر، وخرج في رجب سنة تسع إلى غزوة تبوك وهي آخر غزوة غزاها النبي، وفيها نزلت أكثر آيات السورة الكريمة. ولما انصرف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من تبوك أراد الحج ولكنه قال: يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت فلا أحب أن أحج معهم، فأرسل أبا بكر أميرا على الحج، ثم لما خرج أرسل بعده عليا وقال له: «اخرج بهذه القصة من صدر براءة فأذن بذلك في الناس إذا اجتمعوا» وقال: «لا يبلغ عنى إلا رجل منى» فخرج علىّ على العضباء ناقة الرسول فأدرك أبا بكر في ذي الحليفة وأم أبو بكر- رضى الله عنه- الناس في الحج، وقرأ علىّ على الناس صدر سورة «براءة» .   (1) سورة التوبة آية 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 851 إعلامهم بالحرب مع التحدي لهم ونقض عهودهم [سورة التوبة (9) : الآيات 1 الى 4] بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2) وَأَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) المفردات: بَراءَةٌ يقال: برىء من العهد أو المرض براءة: خلص منه. فَسِيحُوا السياحة والسيح: الذهاب في الأرض حسبما يشاء الشخص. وَأَذانٌ أى: إعلام. يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ المراد: يوم العيد. كان النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون عاهدوا مشركي العرب من أهل مكة وغيرهم بإذن الله- تعالى- فنكثوا عهودهم، إلا بنى ضمرة وبنى كنانة، فأمر المسلمون بنكث عهد الناكثين وإمهالهم أربعة أشهر ليسيروا أين شاءوا فإذا انقضت الهدنة ومضت المدة قاتلوهم. كان هذا في السنة التاسعة وقد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا بكر أن يحج بالناس فلما سافر نزلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 852 سورة التوبة وفيها نقض عهود المشركين، فأمر عليا أن يبلغ ذلك الناس يوم الحج الأكبر قائلا: «لا يبلغ عنى إلا رجل منى» فلما اجتمعوا بمنى يوم النحر قرأ عليهم علىّ آيات من أول هذه السورة ثم قال: أمرت بأربع: ألا يقرب البيت بعد العام مشرك، وألا يطوف بالبيت عريان، ولا يدخل الجنة إلا كل نفس مؤمنة، ومن كان بينه وبين رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عهد فهو إلى مدته، ومن لم يكن له عهد فأجله أربعة أشهر، وأن يتم إلى كل ذي عهد عهده ... المعنى: هذه براءة مبتدأة من الله ورسوله واصلة إلى الذين عاهدتم من المشركين وإنما نسبت البراءة لله ولرسوله مع شمولها للمسلمين ونسبت المعاهدة للمسلمين فقط مع أنها بإذن الله واتفاق رسول الله، للإشارة إلى وجوب تنفيذ نقض العهد، وأنه صادر من الله ورسوله، ولا حرج عليكم أبدا فيه، فهو أمر واجب الامتثال، وهو لحكمة الله يعلمها، وأما المعاهدة فهي كبقية العقود أمرها الظاهر المشاهد أنها مع المسلمين، وذكر الرسول صلّى الله عليه وسلّم في قوله: براءة من الله ورسوله مع عدم ذكره في المعاهدة عاهَدْتُمْ للتنويه بمقامه المحمود، ومكانه المرموق مع المولى جل شأنه. هذه براءة من الله ورسوله، وتخلص من عهود المشركين، وإيذان لهم بالحرب، وإعطاؤهم فرصة للاستعداد مع التحدي الكامل لهم، حيث أمروا بالسير في الأرض والسياحة فيها حسب مشيئتهم وهواهم ليحصنوا أنفسهم وأموالهم، إذ ليس المراد أمر المشركين بالسياحة في الأرض وأقطارها أربعة أشهر. فسيحوا في الأرض واستعدوا في هذه المدة، واعلموا علما أكيدا، أنكم غير معجزي الله أبدا، وأن الله مخزيكم ومذلكم فأنتم كفرتم بالله ورسوله ونقضتم عهودكم مع المسلمين مرارا، وقد يتحقق الموعود به بالأسر والقتل، وإعلاء كلمة الله، وذهاب الشرك إلى حيث لا رجعة، هذا هو الخزي في الدنيا، وفي الآخرة عذاب شديد أعد لهم. أمرهم الله أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر تبتدئ من عاشر ذي الحجة سنة تسع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 853 وهو يوم الحج الأكبر (يوم النحر) الذي بلغ فيه علىّ- رضى الله عنه- وتنتهي في عاشر ربيع الآخرة سنة عشرة. وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره: هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة، أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته لقوله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ ولقول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده إلى مدته» . وأما من لم يكن له عهد فأجله أن يتم الأربعة أشهر الحرم الدائرة في كل عام وهي رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، وعلى هذا تكون مدته خمسين يوما، عشرون باقية من الحجة، وثلاثون هي شهر المحرم. وهذا أحسن الأقوال وأقواها، وقد ارتضاه جمع من العلماء قديما وحديثا واختاره الشيخ محمد عبده في دروسه. أمروا بالسياحة والاستعداد، وأن يعلموا علما أكيدا أنهم غير معجزي الله أبدا، وأن الله مخزيهم ومذلهم، لأنهم كفروا بالله، ورسوله ... وأذان من الله ورسوله، وإعلام تام منهما إلى الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم (وكان ذلك على لسان على بن أبى طالب سنة تسع في السنة التي حج فيها أبو بكر بالناس كما تقدم) ليعلم الكل أن الله برىء من المشركين، ومن عهودهم، ورسوله كذلك برىء، وأما المسلمون فهم حزب الله وأتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم وداخلون في ذلك دخولا أوليا، وهذا إنذار شديد للمشركين!!! فإن تبتم أيها المشركون ورجعتم عن الشرك وآثامه فهو خير لكم وأى خير؟!! ... وإن توليتم وأعرضتم عن الإسلام فاعلموا أنكم غير معجزي الله، ولا طاقة لكم بحربه في الدنيا، وأما في الآخرة فبشرهم يا محمد- فأنت أدرى بأحوال الآخرة وأنت البشير النذير- بشرهم بعذاب أليم غاية الألم. هذا الأذان بنقض العهد يسرى على المشركين جميعا إلا المعاهدين الذين عاهدتموهم ثم لم ينقصوكم شيئا من العهود ولم يخلوا بشرط من الشروط، أى: حافظوا على نصوص المعاهدة وروحها. ولم يظاهروا عليكم أحدا، ولم يعينوا عليكم عدوا كبني ضمرة وبنى كنانة، فهؤلاء أتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم، إن الله يحب المتقين الخائفين من عذابه الذين يوفون بعهدهم إلا مع المشركين الناقضين العهد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 854 وجوب قتال المشركين [سورة التوبة (9) : آية 5] فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) المفردات: انْسَلَخَ: انقضى، وأصل الاستعمال في الجلد، شبه الزمان به لأنه محيط بما فيه إحاطة الجلد بالشاة، فإذا مضى الزمن فكأنه انسلخ عما فيه. خُذُوهُمْ المراد: ائسروهم، والأخيذ: الأسير. وَاحْصُرُوهُمْ: امنعوهم من التقلب في البلاد والسير فيها. كُلَّ مَرْصَدٍ المراد: كل ممر وطريق يجتازونه في أسفارهم. المعنى: فإذا انقضى الأشهر الحرم التي كانت ساترة لهم، وحرزا تمنعهم من أيدى المسلمين، وهل المراد بها الأشهر الحرم السابقة؟ أو المراد بها الأشهر الحرم مع ما فهم من قوله تعالى: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ؟ فإذا انقضى الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين الناكثين خاصة، أو المشركين مطلقا حيث تم لهم عهدهم. وخذوهم أسرى حرب، واحصروهم حالة كونكم مانعين لهم من الأسفار والتقلب في البلاد، واقعدوا لهم كل مرصد وممر، وترصدوا لهم في كل طريق حتى تملأوا قلوبهم خوفا ورهبة منكم، فيخشى الواحد منهم لقاءكم حتى بينه وبين نفسه، والحكمة في ذلك محو الشرك من جزيرة العرب بالقوة لتكون معقل الإسلام مع مراعاة قوله تعالى: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 855 وَقاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ «1» . وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها «2» هذا كله بقدر الإمكان، فإن ثابوا وأنابوا، ودخلوا في الإسلام وأقاموا حدوده، والتزموا أركانه التي أهمها الصلاة والزكاة فخلوا سبيلهم واتركوهم وشأنهم، واعلموا أن الله غفور رحيم، والآية الكريمة تفيد دلالة إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة على الإسلام، وتوجب لمن يؤديهما حقوق الإسلام من حفظ ماله ودمه إلا بحق الإسلام. سماحة الإسلام في معاملة الكفار [سورة التوبة (9) : آية 6] وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6) المفردات: اسْتَجارَكَ: طلب جوارك والاحتماء بك. مَأْمَنَهُ: مكان أمنه ... تقدم بيان حكم من تاب من الكفر، ومن أصر عليه وهذا حكم من يتصدى للتوبة ويتقرب من المسلمين. المعنى: وإن استجارك أحد من المشركين، وطلب جوارك وحمايتك، فاقبل جواره حتى يسمع كلام الله ويتدبره ويتفهم معانيه، ويقف على أسراره العالية فإن الإنسان إذا خرج من بيئة العناد والضلال قد يشرح الله صدره للإسلام، ثم أبلغه مكان أمنه، وأوصله للدار التي يأمن فيها إن أسلم أو لم يسلم، ثم قاتله إن استوجب حاله القتال من غير غدر ولا خيانة. وهذا من مكارم الأخلاق التي دعا إليها الرسول الأعظم صلّى الله عليه وسلّم. وتنبيه للمسلمين جميعا أن يعملوا على نشر الدين ومبادئه حتى يسمعها أولئك الذين لا يعرفون عن محاسن الدين الإسلامى شيئا.   (1) سورة البقرة آية 244. (2) سورة الأنفال آية 61. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 856 ذلك، أى: الأمر بالإجارة وحسن المعاملة. وتوصيله إلى مكان أمنه ودار إقامته بسبب أنهم قوم جهلة بحقيقة الدين، ولا يعلمون عنه إلا معلومات مشوشة خاطئة كما يعلم الغربيون عن ديننا من المعلومات التي تعلموها على أيدى رجال دينهم، وللأسف الشديد إذا أراد الواحد منهم أن يعرف شيئا عن الإسلام حكم عليه بأعمال أهله، ويا له من حكم قاس!! فإننا مسلمون بالوراثة والنسب لا بالعمل والخلق!! سبب البراءة من عهودهم [سورة التوبة (9) : الآيات 7 الى 10] كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَتَأْبى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلا ذِمَّةً وَأُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) المفردات: إِلًّا: عهدا، أو حلفا، أو جورا. وَلا ذِمَّةً أى: عهدا، وهي كل حرمة يلزمك إذا ضيعتها ذنب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 857 المعنى: هذا هو بيان الحكمة الداعية للبراءة من عهودهم، مع أن الوفاء بالعهد فضيلة وشعبة من شعب الإيمان. كيف يكون للمشركين عهد محترم عند الله وعند رسوله؟ وهذا استنكار لأن يكون لهم عهد حقيق وجدير بالمراعاة عند الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم والمراد: ليس لهم عهد على أى وضع وحال، وهذا أبلغ في النفي من غيره، ولكن الذين عاهدتم عند المسجد الحرام، وهم الذين سبق استثناؤهم في قوله: إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً الآية. وهذا مقيدا بأنهم يستقيمون لكم ولا يقدمون أى إساءة، فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم، وأتموا لهم عهدهم إلى مدتهم على هذا الأساس وهو عدم تعديهم عليكم، إن الله يحب المتقين الذين يوفون بالعهد ولا يظلمون. وكيف يكون لهم عهد محترم وذمة عند الله وعند رسوله؟ والحال أنهم إن يظهروا عليكم، ويظفروا بكم، لا يراعون في شأنكم قرابة ولا صلة، ولا يراقبون فيكم عهدا ولا ذمة، وهم يرضونكم بألسنتهم، وقلوبهم قد ملئت حسدا وحقدا، وتأبى قلوبهم أن تكون معكم أبدا، ولا غرابة في ذلك فأكثرهم فاسقون وخارجون عن حدود الدين والمروءة، فالوفاء بالعهد للذين يخافون الله أو حساب الضمير، وهم قد اشتروا بدل الآيات الإلهية الداعية للمثل العليا الكريمة ثمنا قليلا تافها وشيئا حقيرا، وهو اتباع الأهواء، والخضوع للشيطان، ولذا تراهم صدوا عن سبيل الله ودينه الحق، وبذلوا في سبيل الله كل مرتخص وغال، إنهم ساء ما كانوا يعملون، وبئس العمل عملهم!! وهم لا يرقبون في شأن مؤمن- أيا كان- عهدا ولا ذمة على الإطلاق في أى وقت أو زمان، وأولئك هم المعتدون المتجاوزون الغاية القصوى في الظلم والشر. هؤلاء الذين وصفوا بهذا الوصف، كيف يكون لهم عهد عند الله وعند رسوله؟! وكيف يثبت هؤلاء على عهدهم، فهم يخضعون للقوة، ويوفون للسيف لا للذمة، وقد ثبت أنهم كذلك في الواقع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 858 كيف نعامل هؤلاء الكفار؟ [سورة التوبة (9) : الآيات 11 الى 12] فَإِنْ تابُوا وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12) المفردات: نَكَثُوا أصل النكث: نقض الحبل، ثم استعير لنقض العهد. لا أَيْمانَ المراد: لا عهود لهم. المعنى: هذا بيان لحال الكفار بعد ما ثبتت عداوتهم للإسلام، فهم بين أمرين: أحدهما التوبة الصادقة والرجوع إلى الله- سبحانه وتعالى- والبعد عن الشرك والصد عن سبيل الله، فإن تابوا بهذا المعنى، وآمنوا وعملوا بإخلاص خصوصا إقامة الصلاة التي هي عماد الدين، وإيتاء الزكاة الدالة على صدق التوبة، وصفاء النفس وقوة العقيدة، إن فعلوا ذلك فهم إخوانكم في الدين لهم ما لكم، وعليهم ما عليكم، وفي هذا التعبير الكريم التعبير بالأخوة، إشارة إلى مقام الأخوة في الدين وأنها أعلى نسبا، وأقوم صلة بين المسلم والمسلم، وبهذه الأخوة تهدم صروح العداوة، ويزول كل فارق بينكم. والأخوة لا تتحقق إلا بالرجوع إلى الله حقا وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، ويمكننا أن نقول بأن الثلاثة متلازمة لا يمكن أن يحصل واحد بدون الآخر، والله- سبحانه- يفصل الآيات، ويوضحها كالشمس أو أشد، ولكن لقوم يعلمون أو يريدون أن يعلموا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 859 أما الحالة الثانية وهي أنهم ينقضون العهود، بعد توكيدها، ويخلون بالمعاهدة بعد إبرامها، ويطعنون في دينكم بالنيل منه والاستهزاء به، والصد عنه، فهؤلاء يجب قتالهم قتالا عنيفا حتى يثوب إليهم رشدهم، قاتلوا أئمة الكفر وقادته وحملة لوائه أينما كانوا إنهم لا عهود لهم ولا ذمة ولا يمين، قاتلوهم لعلهم ينتهون إلى الحق ويرجعون عن الغي، وهكذا نعامل هؤلاء المشركين إما بالأخوة الإسلامية إن تابوا وعملوا صالحا، وإما حرب لا هوادة فيها إن ظلوا كما هم!! تحريض على قتال المشركين [سورة التوبة (9) : الآيات 13 الى 15] أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) المعنى: كيف لا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم التي أقسموا بها عند المعاهدة؟!! ونقضوا عهدهم من بعد توكيده، وهذا استفهام لإنكار عدم قتالهم. وهو يفيد الحض على القتال والحث عليه ببيان شناعة جرمهم وعظيم فعلهم المقتضى للقتال، وهم هموا بإخراج الرسول من مكة، أو حبسه حتى لا يراه أحد، أو قتله بأيدى عصابة مكونة من القبائل حتى يضيع دمه وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ [سورة الأنفال آية 30] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 860 وهم بدءوكم بالقتال أولا، وقد قيل: الشر بالشر والبادئ أظلم، وقد كان منهم كل ذلك إذ نقضت قريش العهد وأعانت بنى بكر على خزاعة، وقتلوا منهم كثيرا حتى استنجدوا برسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد أخرجوا النبي صلّى الله عليه وسلّم من بلدة مكة وأخرجوا غيره من المهاجرين، وبدءوا بالقتال يوم بدر. ثم قال هذه الحجج: أتخشونهم؟ وتتركون قتالهم خشية وخوفا إن كانت الخشية هي المانعة فالله أحق بها إن كنتم مؤمنين، إذ شرط الإيمان الخوف من الله وحده وخشيته دون سواه. وهذا الاستفهام يفيد الإنكار والتوبيخ ولكن للمنافقين ولمن كانوا يعظمون أمر القتال ويرون أنه لا يليق برحمة الإسلام وعطفه على الناس.. ثم بعد هذا البيان الكامل أمرهم بالقتال فقال: قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، فالله هو الفاعل حقيقة وأنتم باشرتم العمل في الظاهر وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى إن تقاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم، ويخزهم بالقتل والأسر والهزيمة، وينصركم عليهم نصرا مؤزرا ما دمتم تنصرون الله بطاعته، ويشف صدور قوم مؤمنين كانت قد ملئت غيظا وألما من أفعال المشركين بهم في مكة، وقيل: هم خزاعة شفى الله صدرها بحرب المسلمين لقريش وأحلافهم، ويذهب غيظ قلوبهم بما كابدوا من المكاره والمكايد. ولقد أنجز الله وعده، وصدق عبده ونصر جنده وهزم الأحزاب وحده، وهذا تحريض للقتال بأسلوب بليغ مع تبليغ أن النصر للمسلمين. ويتوب الله بعد ذلك على من يشاء من عباده حسب مشيئته المبنية على الحكم البالغة، ولا غرابة فالله عليم بخلقه لا تخفى عليه خافية، حكيم لا يفعل إلا ما فيه الخير والحكمة لعباده ... اختيار المسلمين وتمحيصهم [سورة التوبة (9) : آية 16] أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 861 المفردات: وَلِيجَةً المراد: بطانة وصاحب سر، مأخوذ من الولوج وهو الدخول، وصاحبك يدخل في محيط أسرارك. المعنى: هذا كلام جديد غير السابق، فيه بيان حال جماعة المسلمين شأنهم في الجهاد الحق الذي يتوقف عليه تمحيصهم من ضعف الإيمان والهوادة فيه، بل أحسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم بالأموال والأنفس؟ ونفى علم الله دليل على عدم الوقوع والحصول ضرورة أن الله يعلم كل ما يحصل في الكون، جاهدوا ولم يتخذوا من الكفار أولياء من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين، لم يتخذوا وليجة وبطانة منهم، والله خبير بما تعملون فمجازيكم عليه، ومثل هذه الآية آية البقرة أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَالضَّرَّاءُ والخلاصة: أنه تعالى شرع لعباده الجهاد وبين أن له فيه حكمة، وهي اختبار عبيده ليظهر من يطيعه ممن يعصيه وهو العالم بما كان وما سيكون. عمارة المسجد للمسلمين لا للمشركين [سورة التوبة (9) : الآيات 17 الى 18] ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 862 المفردات: أَنْ يَعْمُرُوا عمارة المسجد في اللغة: تشمل لزومه والإقامة فيه وعبادة الله فيه، وبنيانه وترميمه وخدمته والإرعاء عليه، والعناية به. مَساجِدَ: جمع مسجد، وهو مكان السجود، ثم استعمل في البيوت الخاصة بعبادة الله وحده. والمراد: المسجد الحرام. روى عن ابن عباس- رضى الله عنه- أنه لما أسر العباس يوم بدر عيره المسلمون بالكفر وقطيعة الرحم، وأغلظ علىّ في القول، فقال العباس: ما لكم تذكرون مساوينا وتنسون محاسننا؟ فقال علىّ: ألكم محاسن؟ فقال: نعم، إننا نعمر المسجد الحرام، ونحجب الكعبة، ونسقى الحاج ، فأنزل الله- عز وجل- ردا على العباس هذه الآيات، والمراد أنها تتضمن الرد على العباس وأمثاله لا أنها وقعت عقب قوله، وهي مناسبة لنقض عهودهم، وعدم حجهم البيت ومنعهم منه إذا أنها تفيد منع خدمتهم وعمارتهم للمسجد الحرام أيضا. المعنى: ما كان ينبغي ولا يصح للمشركين أبدا أن يعمروا مسجد الله الأعظم، وبيته المحرم بالإقامة فيه للعبادة أو للخدمة والولاية عليه، ولا أن يزوروه حجاجا أو معتمرين، وهذا الحكم يشمل كل المساجد ما كان لهم ذلك في حال كونهم شاهدين على أنفسهم بالكفر، فإن هذا جمع بين الضدين فإن عمارة المسجد الحسية أو المعنوية بالعبادة لا تصح إلا من المسلم الموحد بالله الذي يعبد الله وحده، والكفر بالله والإشراك به يتنافى مع عبادة الله وحده والقيام على مساجد الله خصوصا مسجد الله الحرام. والخلاصة أنهم جمعوا بين أمرين متنافيين عمارة بيت الله مع الكفر بالله، وشهادتهم بالكفر ثابتة قولا وعملا فهم يقولون: لبيك لا شريك لك، إلا شريكا هو لك، تملكه وما ملك، وأما عملهم فقد عبدوا الأصنام واستقسموا بالأزلام، فهذه شهادتهم بالكفر. أولئك المشركون البعيدون في الضلال حبطت أعمالهم وبطلت، وهم في النار خالدون وماكثون: أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 863 فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً «1» إنما يعمر مساجد الله وخصوصا المسجد الحرام بالرعاية والعناية والولاية والخدمة والعبادة إنما يعمره من آمن بالله إيمانا كاملا صادقا وآمن باليوم الآخر وما فيه من ثواب وعقاب، وكان عمله الظاهر موافقا لعقيدته فيقيم الصلاة ويؤديها كاملة الأركان والشروط ويؤدى الزكاة لأربابها وأكثرهم يقيمون بالمساجد، على أن في مال الزكاة متسعا لتعمير المساجد تعميرا حسيا، والذين يخشون الله وحده هم أولى الناس بذلك. المعنى: قصر تعمير المساجد على المؤمنين بالله إيمانا كاملا شاملا والمقيمين الصلاة إقامة كاملة مع إيتاء الزكاة، والخشية من الله وحده دون غيره مما لا ينفع ولا يضر، والمراد: الخشية الدينية الغريزية كالخوف من الحيوان المؤذى مثلا. ونحن نرى الآن أنه لا يعمر بيوت الله إلا هؤلاء فقط. فأولئك الموصوفون بهذه الصفات الجليلة هم المهتدون إلى الخير دائما، المستحقون على أعمالهم عظيم الأجر، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ وفي تصدير جزائهم بكلمة (عسى) إشارة إلى قطع أطماع الكفار، أى: إذا كان هؤلاء العاملون المقربون جزاؤهم بين (لعل وعسى) فما بال الكفار!! والخير للمؤمن أن يكون بين الرجاء الذي يحمله على العمل وبين الخوف الذي يبعده عن التقصير ويغلب الخوف على الرجاء في حال الصحة والعكس في حال المرض الشديد، وهذه الصفات الجامعة لشعب الإيمان والإسلام تقتضي حتما الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم فإنها لا تعمل على الوجه الكامل إلا بهديه وإرشاده صلّى الله عليه وسلّم. فضل الإيمان والجهاد [سورة التوبة (9) : الآيات 19 الى 22] أَجَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَعِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهاجَرُوا وَجاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)   (1) سورة الكهف آية 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 864 المفردات: سِقايَةَ في اللغة: هي الموضع الذي يسقى فيه الحاج، أو الإناء الذي يسقى به والمراد: ما كانت قريش تسقيه الحجاج من الزبيب المنبوذ في الماء، وكان يلي هذا ويشرف عليه العباس بن عبد المطلب في الجاهلية والإسلام ... روى عن النعمان بن يشير ما معناه قال: كنت عند منبر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رجل: ما أبالى ألا أعمل لله عملا بعد الإسلام إلا أن أسقى الحاج، وقال آخر: بل عمارة المسجد الحرام، وقال آخر: بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم، فزجرهم عمر ودخل يستفتى رسول الله فقرأ عليه هذه الآية «1» ، وبهذا الحديث يعلم أن الخطاب في الآية للمؤمنين، وقيل: إن الخطاب فيها للمشركين وهي تكملة للآيتين السابقتين في بيان كون الحق في عمارة المسجد الحرام للمسلمين على كل حال، وبيان أن الجهاد في سبيل الله مع الإيمان أعظم درجة عند الله. المعنى: أجعلتم أهل سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيله في الفضيلة والدرجة؟ وهذا استفهام إنكارى لمن يدعى تشبيه هذا بذاك.   (1) أخرجه عبد الرزاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 865 وهل هذا خطاب للمشركين حسب السياق؟ أم هو خطاب للمؤمنين حسب حديث النعمان بشير- رضى الله عنه- إذا كان هذا حال السقاية والعمارة مع المؤمنين فما بال الكفار الذي يفتخرون بهما؟!! نعم لا يستوون عند الله أبدا، وإن كان في كل خير، إلا أن الإيمان بالله واليوم الآخر والجهاد في سبيل الله مع بذل النفس والنفيس أعلى درجة وأعظم مكانة عند الله والله لا يهدى القوم الظالمين إلى معرفة جهة الفضل، وموضع الخير، إذ قد طمس الله على قلوبهم. الذين آمنوا بالله ورسوله وهاجروا، وجاهدوا في سبيل الله ولإعلاء كلمته باذلين النفس والمال هم أعظم درجة، وأعلى مكانة ممن لم يتصف بهذه الصفات كائنا من كان، وإن حاز جميع ما عداها من الكمالات التي من جملتها السقاية والعمارة. فإن فهمت الآية على أن الخطاب للمؤمنين المتفاخرين حسب حديث النعمان بن بشير قلنا: إنه لا مراء أن في السقاية والعمارة خيرا وإن كان الإيمان والجهاد أعظم درجة عند الله. وإن فهمت الآية على أن الخطاب للمشركين والتفاخر من الكفار كان المعنى: نعم للسقاية والعمارة درجة عند الله إذا فعلا كما يرضى الله ورسوله، ولكن الشرك يحبط عملهما كما سبق. وأولئك المؤمنون المهاجرون والمجاهدون هم الفائزون بمثوبة الله وفضله وكرامته. وما هذا الفوز؟ أجاب الله بقوله: يبشرهم ربهم في كتابه المنزل على نبيه برحمة واسعة، ورضوان من الله أكبر من كل شيء، وجنات لهم فيها نعيم مقيم دائم، وهم خالدون فيها وماكثون إلى ما شاء الله عطاء غير مجذوذ، أى: غير مقطوع. إن الله عنده أجر عظيم فلا غرابة في هذا: وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [سورة التوبة آية 72] . وقد ورد عن أبى سعيد الخدري- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 866 الله يقول لأهل الجنة: يا أهل الجنة. فيقولون: لبيك ربنا وسعديك. فيقول: هل رضيتم؟ فيقولون: وما لنا لا نرضى؟ وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: يا ربنا وأى شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا. ولاء المؤمنين للكافرين وخطره [سورة التوبة (9) : الآيات 23 الى 24] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَإِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَأَبْناؤُكُمْ وَإِخْوانُكُمْ وَأَزْواجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَتِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَمَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24) المفردات: اسْتَحَبُّوا: أحبوا. عَشِيرَتُكُمْ: أهلكم وقرابتكم. فَتَرَبَّصُوا: انتظروا. كَسادَها: بوارها وعدم رواجها. كان لما أعلنه القرآن الكريم من البراءة من الله ورسوله إلى المشركين، ومن نبذ عهودهم ونقض معاهداتهم، ووجوب قتالهم كان لهذا أثر كبير في نفوس بعض المسلمين خصوصا ضعفاء الإيمان الذين لم تزل في قلوبهم العصبية الجنسية، وصلة القرابة لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 867 المكان الأعلى، وبعضهم كان يكره الحرب ونقض العهد لما في ذلك من الاعتداء وهتك الحرمات، ولقد اتخذ المنافقون من ذلك مادة للدعاية وللتأثير على بعض المسلمين حتى كان للبعض بطانة ووليجة من الكفار، وما قصة حاطب بن أبى بلتعة ببعيدة، وكانت نقطة الضعف هي نعرة القرابة ورحمة الرحم. وبعد أن بين الله فضل الجهاد ونتائجه والهجرة وأثرها، وحبوط أعمال المشركين حتى ما كان خيرا منها كالسقاية والعمارة، بين هنا أن ذلك كله لا يتم إلا بترك ولاية المشركين، وإيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على حب الوالد والولد والأخ والزوج والعشيرة والمال والمسكن. المعنى: يا أيها الذين آمنتم بالله ورسوله، واتصفتم بهذا الوصف: لا يليق بكم أن تتخذوا آباءكم وإخوانكم أولياء تنصرونهم في القتال، وتظاهرون لأجلهم الكفار، لا تتخذوا منهم بطانة ولا وليجة تخبرونهم بالأسرار الحربية الخاصة بالجيش الإسلامى أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً [سورة التوبة آية 16] . لا تتخذوهم أولياء ما داموا يحبون الكفر على الإيمان ويؤثرون الشرك على الإسلام ولا يرقبون في مؤمن إلّا ولا ذمة، ومن يتولهم منكم فأولئك هم الظالمون لأنفسهم ولجماعتهم التي ينتمون إليها، وذلك أنهم وضعوا الولاية موضع البراءة، والمودة محل العداوة. خاطب الله المؤمنين بهذا الوصف الكامل لينهاهم عن جريمة اتخاذ الولاية للكافرين المعادين للرسول والمؤمنين، خاطبهم مباشرة (لا تتخذوا) ثم أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يخاطبهم في ما هو سببها مذكرا لهم مبينا الخطر الذي ينجم على فرض وقوعها منهم مع تصدير كلمة (إن) المفيدة للشك لأن هذا هو المنظور، إذ حب المذكورات يجب أن يكون مشكوكا فيه بالنسبة للمؤمنين، والمؤاخذة ليست على حب المذكورات بل على تفضيلها على حب الله، أما أصل الحب فشيء طبيعي جبلّىّ لا مؤاخذة فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 868 أما محبة الآباء فغريزة عند الأبناء، إذ الولد يشعر أن أباه هو سبب وجوده وأنه قطعة منه وهو مثله الأعلى، والأب هو المخلوق الذي عطف عليه ورباه، ولا تنس أن الآباء مفخرة العرب فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ «1» ومحبة الأبناء غريزة، فالولد محط الأمل، وهو قطعة من الفؤاد وفلذة من الكبد، وهو الجزء الباقي بعد الإنسان، لا يحب أن يتميز عليه إنسان إلا هو والأخ هو اليد القوية والساعد لأخيه، وابن أمه وأبيه سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ «2» وحب الزوجة شعور خاص ليس له ضريب فهو الذي يسكن إليها، وتهدأ ثورة الطبيعة عندها وقد كانت محط نظره ومحل أمله، وأما حب المال والتجارة فطبيعة عند كل إنسان، وقد كان أكثر المسلمين يشتغلون بالتجارة، وحب المسكن الذي ألفه الشخص غريزى أيضا، فهو وطنه، وأول أرض مس جسمه ترابها ... فهذه الثمانية المحبوبة بالطبيعة جعلت بعض المسلمين يكرهون القتال كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ «3» لذلك لم يفرض إلا للضرورة القصوى. والآية الكريمة تشير إلى إيثار حب الله ورسوله والجهاد في سبيله على كل منفعة في الأرض. أما حب الله فيجب أن يكون هو المقدم لأنه صاحب النعم والفضل واهب الوجود والكون، خلقنا ورزقنا وأحيانا. وهو الذي أوجد الآباء والأبناء والمال والتجارة والمساكن، على أنه متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص. وأما حب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهو دون حبه- تعالى- وفوق حب تلك الأصناف الثمانية، فهو زعيم العلماء العاملين وقدوة الهداة والراشدين، وهو المثل البشرى الأعلى والأسوة الحسنة في الخلق والأدب والفضل، وهو خاتم الأنبياء والمرسلين، قد جعل القرآن علامة محبة الله اتباع النبي صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ [سورة آل عمران آية 31] . وأما الجهاد في سبيل الله بأى نوع منه فدرجته لا تخفى وتفضيله على الأصناف الثمانية السابقة أمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان: «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» .   (1) سورة البقرة آية 200. (2) سورة القصص آية 35. (3) سورة البقرة آية 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 869 وعلى ذلك فمن أحب الآباء والأبناء والأزواج والمال أكثر من حب الله ورسوله والجهاد في سبيله فهو ناقص الإيمان يستحق هذا الوعيد الشديد ولينتظر الهلاك والدمار، وما كان الذين يحبون الأهل والعشيرة والمال والتجارة أكثر من حب الله ورسوله والجهاد في سبيله إلا من المنافقين الذين كانوا يثبطون المؤمنين عن الجهاد ويوحون لهم زخرف القول بالاعتراض على نبذ العهود، وإعلان الحرب على المشركين. والله لا يهدى القوم الفاسقين الخارجين عن حدود الدين والعقل والحكمة. وهل النصر إلا من عند الله؟ [سورة التوبة (9) : الآيات 25 الى 27] لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27) المفردات: مَواطِنَ: هي مواقع الحرب كبدر، والحديبية، ومكة. حُنَيْنٍ: واد بين مكة والطائف. رَحُبَتْ الرحب: الواسع. سَكِينَتَهُ: ما يسكنهم ويذهب خوفهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 870 لما بلغ قبيلة هوازن فتح مكة جمعهم مالك بن عوف وكانت الرياسة له، وكان على ثقيف كنانة بن عبيد ونزلوا بأوطاس (واد في ديار هوازن فيه كانت وقعة حنين) . ولما بلغ خبرهما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عزم على قصدهم وأعد العدة، وكان معه حوالى اثنى عشر ألفا من المسلمين: عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار، وألفان من مسلمة الفتح وهم الطلقاء، ولما رأى المسلمون كثرتهم غر بعضهم هذا حتى قال: لن نغلب اليوم عن قلة، فوكلوا إلى أنفسهم حتى انهزموا ثم لما رجعوا عن غرورهم والتجأوا إلى ربهم كان النصر والظفر لهم. المعنى: لقد نصركم الله في مواطن كثيرة تقابلتم فيها مع أعدائكم وأنتم قلة قليلة، وهم كثرة كثيرة، ومع هذا نصركم الله وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ حيث كنتم متوكلين على الله، معتمدين عليه ممتثلين أمر الله ورسوله، معتقدين أن النصر من عند الله، وأنه كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، والله مع الصابرين. إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم. أما إذا أعجبتكم كثرتكم، وظننتم أنكم لا تغلبون عن قلة وضعف كما حصل منكم يوم حنين فقد ترككم ربكم لأنفسكم فلم تغن كثرتكم عنكم شيئا من قضاء الله وضاقت عليكم الأرض بما اتسعت من الخوف ثم وليتم مدبرين وكانت الدائرة عليكم في أول المعركة حتى فر كثير من الناس، ولم يلو أحد على أحد، وثبت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ومعه أبو بكر وعمر وعلىّ والعباس وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وابنه جعفر، وأسامة بن زيد، وأيمن بن عبيد، وربيعة بن الحارث، والفضل بن عباس: وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على بغلته الشهباء ثابتا يقاتل الكفار، وقال: «أى العباس» ناد أصحاب السمرة (الشجرة التي كانت عند بيعة الرضوان) فنادى عباس وكان ذا صوت: أين أصحاب السمرة! قال: فو الله لكأن عطفتهم حين سمعوا صوتي عطفة البقر على أولادها، فقالوا: لبيك. قال: فاقتتلوا والكفار ... قال: ثم أخذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حصيات فرمى بها وجوه الكفار. ثم قال: «انهزموا ورب محمد» . وفي رواية أنه دعا واستنصر وكان يقول: «أنا النبي لا كذب، أنا ابن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 871 عبد المطلب، اللهم أنزل نصرك» قال البراء: كنا والله إذا احمر البأس، أى: اشتد، نتقي برسول الله ... ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين فاستجاب دعاء النبي وأنزل ما به تسكن قلوبهم وتطمئن نفوسهم، وتقوى عزائمهم حتى اجترءوا على قتال المشركين، وأنزل الله جنودا لم تروها من الملائكة يقوون روح المؤمنين المعنوية بما يلقون في قلوبهم من التثبيت والاطمئنان ويضعفون الكافرين بما يلقون في قلوبهم من الخوف والجبن من حيث لا يرونهم وهكذا عمل الدعاية في الحرب وقد ثبت أن لها النصر المؤكد، والثابت أن الملائكة لم تقاتل إلا يوم بدر، وفي رواية عمن أسلم بعد حنين قال: أين الخيل البلق والرجال الذين كانوا عليهم بيض ما كان قتلنا إلا بأيديهم؟!! وعذب الله الذين كفروا بسيوفكم بعد أن كانوا أعزة لهم الغلب رماة ماهرين، وذلك كله جزاء الكافرين، ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء ممن انهزم وفر فيهديه إلى الإسلام، ويثبت قلبه عند الشدائد. وفي هذه الآيات تذكير للمؤمنين بنعم الله عليهم، وأن النصر من عنده، وكثيرا ما تتخلف الأسباب الظاهرة ليتذكروا أن عناية الله- تعالى- برسوله والمؤمنين وتأييده بالقوى المعنوية أعظم شأنا وأدنى إلى النصر من القوى المادية. المشركون لا يدخلون المسجد الحرام [سورة التوبة (9) : آية 28] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) المفردات: نَجَسٌ النجاسة في اللغة: القذارة وعدم النظافة، وإذا وصف بها الإنسان كان المراد أنه شرير خبيث النفس وإن كان طاهر البدن، وإذا وصف بها الداء كان المراد أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 872 عضال لا برء معه، وفي عرف الفقهاء: ما يجب تطهيره سواء كان قذرا كالبول أو غير قذر كالخمر مثلا. عَيْلَةً: فقرا، يقال: عال: افتقر، وأعال: كثر عياله. المعنى: يا أيها الذين آمنوا اعلموا أن المشركين ما هم إلا أنجاس، عقائدهم فاسدة يشركون بالله غيره، ويعبدون الرجس من الأوثان والأصنام، ويأكلون الميتة ولا يتحرّون الطهارة في أبدانهم ولباسهم، فلا تمكنوهم بعد هذا العام (عام تسع الذي بلغ فيه على هذه الآيات) من دخول المسجد الحرام ولا الطواف به عراة يشركون بربهم في التلبية. وهل المراد أنهم أنجاس، أى: ذواتهم نجسة؟ أو المراد أنهم أشرار خبثاء النفس؟ قولان، والظاهر الثاني، وأن المراد المعنى اللغوي لا المعنى العرفي عند الفقهاء، وذلك لأن المتتبع للسيرة يرى أن معاملة النبي صلّى الله عليه وسلّم لهم لم تكن على أساس أنهم أنجاس بهذا المعنى، فقد كان المسلمون يعاشرونهم وكانت رسلهم ووفودهم ترد على النبي صلّى الله عليه وسلّم وتدخل مسجده في المدينة، ومن الثابت أنه لم يأمر بغسل شيء أصابه بدنهم، هذا هو الصحيح. وقد ورد أن المسلمين قالوا: من أين لنا الطعام بعد هذا النهى؟ فقيل: وإن خفتم أيها المسلمون عيلة وفقرا من منع هؤلاء من دخول المسجد الحرام كما يوسوس لكم إبليس، وكما يرجف بذلك المرجفون، فاعلموا أنه سوف يغنيكم الله من فضله، فهو واسع الفضل، يداه مبسوطتان، وهو على كل شيء قدير، وهو العليم بخلقه الحكيم في فعله. قتال أهل الكتاب وغايتهم [سورة التوبة (9) : آية 29] قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ (29) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 873 المفردات: الْجِزْيَةَ: نوع من الخراج- الضريبة- يضرب على الأشخاص لا على الأرض. يَدٍ: سعة وقدرة. صاغِرُونَ الصغار والصغر: ضد الكبر، ويكون في الأمور الحسية والمعنوية، والمراد هنا: الخضوع لأحكام الإسلام وسيادته التي تصغر بها أنفسهم بفقد الملك. كل ما تقدم كان في قتال المشركين وهم أكثرية سكان جزيرة العرب، وهذه الآية في حكم قتال أهل الكتاب والغاية التي ينتهى إليها، وقد قاتل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المشركين في جزيرة العرب على الإسلام لم يقبل منهم غيره، وقاتل أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية. المعنى: يا أيها المسلمون قاتلوا الذين تجمعت فيهم صفات أربع، هي سبب عداوتهم للإسلام، وكراهيتهم لكم، ووضعهم العراقيل في طريق الدعوة، وتركهم مستقلين يجعلهم يغيرون على أطراف المملكة الإسلامية ويؤلبون العرب كما فعل اليهود في المدينة وما حولها، وكما تفعل نصارى الروم في حدود بلاد العرب كما سيأتى في غزوة تبوك، وهاك صفاتهم: 1- لا يؤمنون بالله، وقد شهد القرآن بأن أهل الكتاب من اليهود والنصارى فقدوه لأنهم لا يقولون بالتوحيد، وقد اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله، يحلون ويحرمون كما يشاءون، وقالوا: عزير ابن الله، والمسيح ابن الله، وقد سبق بيان عقائد النصارى في المسيح في سورة المائدة. 2- ولا يؤمنون باليوم الآخر. فهم يقولون: إنها حياة روحية فقط كحلم النائم، ولا يرون فيها شيئا مما نعتقده من نعيم حسى وروحي، وعذاب حسى وروحي. 3- ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله، نعم وهما لا يحرمون على أنفسهم ما حرمه الله عندهم على لسان موسى وعيسى، وها هو ذا القرآن يقول: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ [سورة النساء آية 155] ألم يحلوا الربا والخمر وهما محرمان عندهما؟ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ؟ [سورة البقرة آية 85] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 874 4- ولا يدينون دين الحق، نعم فهذا الذي يسيرون عليه ليس دين الله الحق الكامل، وإنما لعبت الأهواء والأغراض والتحريف والتبديل في التوراة والإنجيل وهم لا يدينون بالإسلام وهو الدين الحق الذي لا شك فيه إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ [سورة آل عمران آية 19] . قاتلوهم حيث اتصفوا بهذه الصفات حتى يعطوا الجزية عن قدرة وسعة وهم صاغرون، والمعنى: قاتلوهم إن بدر منهم ما يوجب القتال كنقض العهد أو إثارة العدو ومعونته أو الإغارة على أطراف المملكة، كما فعل النصارى في الشام، وإعطاء الجزية دليل الخضوع وسلامة العاقبة على أنهم بهذا يخالطونكم فيرون عدل الإسلام وسماحته، فإن أسلموا فهم منكم وأنتم منهم، وإلا فالجزية مع معاملتهم معاملة حسنة بلا اضطهاد ولا تعذيب، ويسمون أهل الذمة لأن حقوق المساواة والعدل في معاملتهم بمقتضى ذمة الله ورسوله، والمعاهدون هم من بيننا وبينهم عهد محترم من الجانبين، وهناك أحكام في كتب الفقه خاصة بالجزية وأهلها والمعاهدين. أهل الكتاب لا يعبدون الله حقا [سورة التوبة (9) : الآيات 30 الى 33] وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 875 المفردات: عُزَيْرٌ: هو عزرا الموجود في الكتب التي بأيديهم. يُضاهِؤُنَ: يشبهون. أَنَّى يُؤْفَكُونَ: كيف يصرفون عن الحق إلى غيره؟ أَحْبارَهُمْ: جمع حبر، وهو الذي يحسن القول وينظمه ويتقنه بحسن البيان عنه. وَرُهْبانَهُمْ: جمع راهب، وأصله مأخوذ من الرهبة، وهو الذي حمله خوف الله- تعالى- على أن يخلص له النية دون الناس، ويجعل زمانه له، وعمله معه، وأنسه به. أَرْباباً: جمع رب، وهو الخالق البارئ الذي يحل الحلال ويحرم الحرام. هذا تقرير لما مر، وتأكيد له ببيان أنهم لا يؤمنون بالله، وعزير هذا هو عزرا الوارد في كتبهم التي أجمعت على أن أهل الكتاب مدينون لعزير هذا في كتابة كتبهم المقدسة وأنه هو الذي أملاها، إذ ثابت أن التوراة التي كتبت في عهد موسى ضاعت قبل عهد سليمان- عليه السلام- وأن عزيرا هذا هو الذي كتب التوراة وغيرها بعد السبي، كتبها بإلهام من الله أو بوحي، وهذا ما لا يسلمه لهم غيرهم، بل كتب علماء أوروبا الأحرار يشكون في هذا وينفونه كما في دائرة المعارف البريطانية. والخلاصة أن اليهود كانوا وما يزالون يقدسون عزيرا هذا حتى أن بعضهم أطلق عليه لقب (ابن الله) ويظهر- والله أعلم- أنه كان إطلاقا في أول الأمر للتكريم ثم صار حقيقة بعد دخول الفلسفة الوثنية الهندية عندهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 876 المعنى: وقالت اليهود- أى: بعضهم-: عزير ابن الله، وقالت النصارى: المسيح ابن الله، وقد كان القدماء منهم يقولون به قاصدين معنى التكريم والمحبة، فهو إطلاق مجازى، ثم لما سرت الفلسفة الوثنية صاروا يطلقونه إطلاقا حقيقيا على أن المسيح ابن الله وهو الله، وهم متفقون جميعا على أن الموحد ليس نصرانيا- وقد مر شيء من التحقيق في هذا الموضوع في سورة المائدة بالجزء السادس- ذلك قولهم الكذب وافتراؤهم المحض بألسنتهم من غير دليل ولا حجة يشبهون به قول الذين كفروا من قبلهم سواء كانوا من العرب أو من آبائهم السابقين، ألا لعنة الله عليهم أجمعين. قاتلهم الله كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل؟ ويبدلون الحقائق، ويصرفونها عن غير وجهها الطبيعي: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [سورة المائدة آية 75] . وقد بين الله حقيقة مضاهاتهم للمشركين ومشابهتهم لهم بقوله: اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة 31] ، والمعنى: اتخذوا اليهود والنصارى علماءهم وعبّادهم أربابا من دون الله يحلون ما يحلون، ويحرمون ما يحرمون. وهذا معنى اتخاذهم أربابا كما ورد في الحديث، فهم تركوا حكم الله واتبعوا حكم هؤلاء، واتخذ النصارى المسيح ابن مريم إلها معبودا مع أنه قال: وقال المسيح يا بنى إسرائيل إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار، وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا سبحانه وتعالى عما يشركون. كما ورد في كتبهم على لسان موسى وعيسى. وهم يريدون أن يطفئوا نور الله الذي أفاضه على البشر بهدايته إلى الدين الحق والكتاب المحكم والقرآن المنزل على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم ولكن أنى لهم هذا؟! ويأبى الله إلا أن يتم نوره بتثبيته وحفظه، والعناية به وإكماله وتمامه في كل شيء، ولو لم يكره الكافرون، ولو كره الكافرون. ولا غرابة في ذلك فهو الذي أرسل رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بالهدى والدين، والقرآن المبين، وأرسله بدين الحق والكمال والجلال ليظهره على الأديان كلها ولو كره المشركون، وقد صدق الله وعده، ونصر عبده صلّى الله عليه وسلّم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 877 سلوك رجال الدين من أهل الكتاب [سورة التوبة (9) : الآيات 34 الى 35] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35) المفردات: يَكْنِزُونَ الكنز في اللغة: الضم والجمع مطلقا، والمراد جمع الأموال وخزنها وإمساكها عن الإنفاق. فَبَشِّرْهُمْ: أنذرهم، وهو تهكم بهم لأن البشارة في الخير لا في الشر. فَتُكْوى الكي: إلصاق الحار من الحديد والنار بالعضو حتى يحترق الجلد. هذا بيان لسير الأحبار والرهبان العملية، وكشف لنفسيتهم المالية حتى يقف أهل الكتاب على خطئهم في اتخاذهم الأحبار والرهبان أربابا من دون الله والاقتداء بهم، وليعلم المسلمون السر في عنادهم وكفرهم، وأنهم يريدون إطفاء هذا النور لأنهم ألفوا الضلال، ألا ساء ما كانوا يعملون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 878 المعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسله: اعلموا أن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل لا بالحق، وإنما نسب هذا لكثير منهم لا لكلهم إحقاقا للحق، فإن أكثرهم فاسقون، وقليل منهم صالحون، أما أكلهم المال بالباطل فيظهر في صور شتى، منها: صكوك الغفران التي شاعت في القرون الوسطى عند كثير من الفرق النصرانية كالأرثوذكس والكاثوليك، وخلاصتها: أن يعترف المخطئ منهم بخطئه فيغفر له القسيس نظير مال يدفعه ثم يعطيه صكا يسمى صك الغفران. ألا لعنة الله على القوم الجهلاء!! ومنها الرشوة المنتشرة عند أهل الكتاب. ومنها أكل الربا واليهود هم أساتذة الربا وقادته في العالم، وقد قلدهم المسيحيون في ذلك ولهم فلسفة خاطئة فيه. ومنها بيع الفتاوى بالمال لإرضاء الحكام والملوك والأمراء على حساب الدين وقد كان هذا شائعا في زمن النبي صلّى الله عليه وسلّم وما بعده. ومنها إباحة أخذ ما تيسر لهم من مخالفيهم في العقيدة لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [سورة آل عمران آية 75] والمراد بالأكل كل ما يعم الأخذ وغيره، وإنما عبر به لأنه المقصود المهم من الأخذ. وأما صدهم عن سبيل الله فبما يختلقون على الله الكذب، ويصفون النبي صلّى الله عليه وسلّم بأحقر الأوصاف، ويكتمون صفته وبشارته التي هي عندهم، والنصارى انفردوا في هذه الأيام بالمبالغة في الصد عن سبيل الله بالتبشير في البلاد الإسلامية عن طريق المدارس والمستشفيات والجمعيات ... إلخ. والمراد بقوله- سبحانه-: والذين يكنزون الذهب ... هم من تقدم من الأحبار والرهبان لأن الكلام معهم، أو ما هو أعم وهم يدخلون في الموصول دخولا أوليا، وكذا غيرهم من المسلمين، وهذا هو الظاهر. والذين يجمعون المال ويحبسونه عن الإنفاق في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم، وجمع المال وكنزه لا يكون خطرا إلا إذا منعت فيه حقوق الله، أما إذا أديت الحقوق الواجبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 879 عليك في المال، ثم كنزت وجمعت فلا غبار عليك. وهذا هو الواجب فهمه في الآية خلافا لبعضهم. قال ابن عمر- رضى الله عنهما-: ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل ما لم تؤد زكاته فهو كنز. فبشرهم وأنذرهم بعذاب أليم جدا يوم يحمى على ما جمعوه من دنانير ودراهم في النار، أى: يوقد عليها في النار حتى تحمى فتكوى بها جباههم التي طالما اعتزت بكثرة المال وتكون جنوبهم التي طالما تمتعت بالحرير والديباج، وتكوى بها ظهورهم التي طالما استندت للمال، على أن الكي على الوجه أشهر وأشنع، والكي على الجنب والظهر أوجع وآلم ويقال لهم: هذا جزاء ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون!!! وروى البخاري عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من آتاه الله مالا فلم يؤد زكاته مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ثم يأخذ بلهزمتيه- يعنى شدقيه- ثم يقول له: أنا مالك أنا كنزك» ثم تلا: سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ [سورة آل عمران آية 180] . بيان عدة الشهور والأشهر الحرم والنسيء [سورة التوبة (9) : الآيات 36 الى 37] إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 880 المفردات: حُرُمٌ: جمع حرام. كَافَّةً أى: مجتمعين. النَّسِيءُ: من نسأ الشيء وأنسأه، أى: أخره، والنسيء كالمسنوء، أى: المؤخر. لِيُواطِؤُا المواطأة: الموافقة. عود للكلام على المشركين بعد أن أنهى الكلام على أهل الكتاب من اليهود والنصارى. المعنى: إن عدة الشهور عند الله أى: في حكمه اثنا عشر شهرا، فيما كتبه الله وأثبته من نظام للكون، وتقدير لمنازل القمر والشمس، كتبه يوم خلق السموات والأرض، والمراد الأشهر القمرية لا غيرها، فإن الحساب بها يسير، وتتوقف على الهلال، وهو يرى لكل إنسان متعلم وغير متعلم، بدوي أو حضرى. منها أربعة حرم كتب الله وفرض احترامها وتحريم القتال فيها على لسان إبراهيم وإسماعيل. وتناقلت العرب ذلك قولا وعملا، وفي زمن الجاهلية الجهلاء غيرت العرب في ذلك وبدلت تبعا لأهوائها كما سيأتى والأشهر الحرم كما وردت في الحديث هي: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى الثانية وشعبان. وحرم القتال فيها لأنها زمن الحج فيأمن الناس في أسفارهم وغربتهم على أنفسهم وأموالهم، ولا شك أن الحج يبتدئ غالبا من ذي القعدة إلى آخر المحرم. وكان رجب في وسط العام هدنة للراحة والاستجمام ولتسهيل العمرة فيه، ذلك الدين القيم، ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 881 الشرع الصحيح المستقيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل في عدة الشهور، وتحريم الأربعة الحرم، فلا تظلموا فيهن أنفسكم بفعل أى محرم ومحظور، ويدخل في ذلك انتهاك حرمة الأشهر الحرم بالقتال فيها، أو الحرم بالقتال فيها في كل وقت، يدخل هذا وذلك في الظلم دخولا أوليا، وقاتلوا المشركين جميعا على قلب رجل واحد كل في دائرة اختصاصه كما يقاتلونكم كذلك، واعلموا أن الله مع المتقين للظلم والعدوان والفساد في الأرض وإهلاك الحرث والنسل. كانت العرب تحرم القتال في الأشهر الحرم وقد ورثت ذلك عن أبيها إبراهيم وإسماعيل، ولما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم بدلوا في المناسك وفي تحريم الأشهر الحرم، ولا سيما شهر المحرم منها، فكانوا ينسئون تحريمه، أى: يؤجلون تحريمه إلى صفر فتبقى الأشهر أربعة ليوافقوا عدد ما حرمه الله. وفي ذلك مخالفة للنص ولحكمة التحريم لأجل الحج. وفي كتب التاريخ أنه كان يقوم رجل منهم كبير (يقال له القلمس) فيقول في (منى) : أنا الذي لا يرد لي قضاء، فيقولون: صدقت فأخر عنا حرمة المحرم واجعلها في صفر فيحل لهم المحرم، ويحرم عليهم صفرا، ثم صاروا ينسئون غير المحرم. إنما النسيء، أى: التأخير في الأشهر الحرم كما ورد عنهم، زيادة في الكفر إذ هم غيروا به ملة إبراهيم بسوء التأويل فكان زيادة على أصل كفرهم وشركهم بالله تعالى، فإن تشريع الحلال والحرام لله وحده وإنهم بالنسيء يضلون به سائر الكفار الذين يتبعون فيه حيث يوهمونهم أنهم على ملة إبراهيم وأنهم لم يزيدوا ولم ينقصوا في الأشهر الحرم، زين لهم الشيطان سوء أعمالهم بهذه الشبهة الباطلة. والله لا يهدى القوم الكافرين أبدا إلى خير أو صواب، خصوصا في أمور الدين، روى الشيخان عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال في حجة الوداع: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» «1» بمعنى أنه عاد حساب الشهور ونظامها إلى ما كان عليه من أول نظام الخلق بعد أن كان قد تغير في حساب العرب بسبب النسيء في الأشهر.   (1) أخرجه البخاري في التفسير 4662. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 882 في الحث على الجهاد والتحذير من تركه [سورة التوبة (9) : الآيات 38 الى 40] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) المفردات: انْفِرُوا النفر والنفور: عبارة عن الفرار من الشيء، أو الإقدام عليه بخفة ونشاط، واستنفر الإمام الجيش إلى القتال: أعلن النفير العام فنفروا خفافا وثقالا. اثَّاقَلْتُمْ: تثاقلتم وتباطأتم. الْغارِ المراد: غار جبل ثور، وهو فتحة في الجبل. لا تَحْزَنْ الحزن: انفعال نفسي ينشأ من تألم النفس مما وقع، ويراد بالنهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 883 عنه: مجاهدته وتوطين النفس على عدم الاستسلام له. كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى المراد: كلمة الكفر والشرك ودولتهم. كَلِمَةُ اللَّهِ هي كلمة الإسلام ودولته. هذه الآيات، من هنا إلى آخر السورة، نزلت في غزوة تبوك تقوى من عزم المؤمنين وتكشف عن ستر المنافقين، وتبين أحكاما كثيرة لازمة لجماعة المسلمين، وتعاتب من تخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وغزوة تبوك كانت في السنة التاسعة للهجرة بعد رجوع النبي صلّى الله عليه وسلّم من غزوة حنين والطائف وكان المسلمون في عسرة وضيق، وقد حان قطاف الثمر عندهم وظهور الموسم. لهذا كره بعض المسلمين الخروج إلى القتال خصوصا بعد ما أعلن النبي صلّى الله عليه وسلّم اتجاهه ومقصده في الغزوة وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ [سورة البقرة آية 216] . أما سبب الغزوة فهو استعداد الروم والقبائل العربية المنتصرة من لخم وجزام لقتال النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث أعدوا جيشا كثيفا لغزو المدينة فهي حرب دفاعية لا هجومية «هكذا غزواته وحروبه صلّى الله عليه وسلّم ولما لم يجد النبي صلّى الله عليه وسلّم من يقاتله عاد بلا هجوم، وتبوك: مكان في منتصف الطريق تقريبا بين المدينة ودمشق. المعنى: يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان، واهتديتم بالقرآن الكريم: مالكم متثاقلين حين قال لكم رسولكم الأمين: انفروا في سبيل الله ولإعلاء كلمته؟! ماذا عرض لكم مما يتنافى مع الإيمان وكماله حين قال لكم الرسول: انفروا في سبيل الله لقتال الروم؟ الذين تجهزوا لقتالكم والإغارة عليكم فتثاقلتم عن النهوض، وتباطأتم عن الحرب. مخلدين إلى الأرض وراحتها ولذتها؟! وآية الإيمان جهاد وعمل، ونشاط وجد إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ [سورة الحجرات آية 15] . أرضيتم بالحياة الدنيا ولذتها الفانية وعرضها الزائل بدلا من سعادة الآخرة ونعيمها المقيم؟!، إن كان الأمر كذلك فقد استبدلتم الذي هو أدنى بالذي هو خير، فما متاع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 884 الحياة الدنيا المشوب بالهم والحزن في جانب الآخرة ونعيمها الدائم والرضوان الإلهى العظيم فيها إلا شيء قليل لا يعبأ به، ولقد شبه النبي صلّى الله عليه وسلّم نعيم الدنيا ونعيم الآخرة في قلته وسرعته بمن وضع إصبعه في البحر ثم أخرجها منه قال: «فانظر بم ترجع» ؟ .. إن لم تنفروا خفافا وثقالا كل على قدر حاله وإمكاناته يعذبكم الله عذابا أليما موجعا، ويستبدل قوما غيركم يطيعون الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، ويحبهم الله ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم. ومن هم؟ الله أعلم بهم، على أن هذا تهديد فقط وإلا فالشرط وجوابه لم يتحققا. ولا تضروه أيها المتثاقلون في شيء أصلا، إذ لا يبلغ أحد ضره ولا نفعه كيف ذلك؟ وهو القاهر فوق عباده!!! والله على كل شيء قدير، وهو الغنى عن نصرتكم لنبيه ورسوله صلّى الله عليه وسلّم. إن لم تنصروه، ولم تطيعوه للجهاد في سبيل الله فسينصره الله بقدرته وتأييده كما نصره وقت أن أجمع المشركون على الفتك به أو إخراجه من بلده أو حبسه وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ [سورة الأنفال آية 30] . نصره الله في ذلك الوقت ولم يكن معه جيش ولا أنصار بل حال كونه ثانى اثنين وواحدا منهما إذ هما في الغار المعروف في جبل ثور، إذ يقول لصاحبه أبى بكر حين فزع لما رأى المشركين وقال: يا رسول الله، والله لو نظر أحدهم تحت قدمه لأبصرنا. يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا بالنصر والمعونة والولاية والرعاية. وفي رواية: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ فأنزل الله سكينته على أبى بكر حتى هدأ من روعه وطمأن نفسه أما النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد كان ثابت الجنان هادئ النفس واثقا بالنصر ثقة لا حد لها، ولم يخف ولم يحزن أبدا، وأيد الله نبيه بجنود من عنده لم تروها، فالله معه وناصره، وحافظه، وكافيه شر الكفار والمستهزئين، وقد أمده الله بالجنود من الملائكة المسومين في بدر وحنين والأحزاب بما لا يدع مجالا للشك إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [سورة غافر آية 51] . وجعل الله كلمة الكافرين ودولتهم هي السفلى، وكلمة الله ودولته هي العليا، والله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 885 عزيز وغالب لا يغلبه أحد، حكيم يضع الأمور في نصابها، وقد نصر الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعزته، وأظهر دينه على الأديان كلها بحكمته هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [سورة التوبة آية 33] . التجنيد العام [سورة التوبة (9) : آية 41] انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) المعنى: بعد أن عاتب المتخلفين عن النفر أمر به أمرا عاما شاملا فقال: انفروا خفافا وثقالا، والخفة والثقل تكون في الأجسام وأحوالها من صحة ومرض، ونحافة وسمن، وشباب وكبر، وغنى وفقر، وقلة وكثرة، ووجود ظهر وعدم وجوده ... إلخ. فإذا أعلن النفير العام وجب تجنيد القوى كلها في البلد للحرب، ووجب الحرب على الكل ما عدا المعذورين عذرا شرعيا، وقد نبه القرآن على نوع العذر حيث قال: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ [سورة التوبة آية 91] . انفروا في سبيل الله وجاهدوا بالأموال والأنفس ما استطعتم إلى ذلك سبيلا، فمن قدر على الجهاد بنفسه وماله وجب عليه ذلك، ومن قدر على الجهاد بنفسه فقط أو ماله فقط وجب عليه. وقد كان الصحابة يجاهدون بالنفس والمال، وها هو ذا عثمان يجهز جيش العسرة، وبعض الصحابة فعلوا مثله. والأمم الآن ترصد الأموال الواسعة للدفاع والحرب حتى تأمن جارتها، ذلك خير لكم وأجدى إن كنتم تعلمون حقيقة هذه الخيرية، وقد أثبتت التجارب صدق هذه النظرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 886 هذا التجنيد العام واجب عند ظرفه الخاص به وفي الأحوال العادية فالواجب امتثال أمر القائد العام. المنافقون وما صدر منهم [سورة التوبة (9) : الآيات 42 الى 52] لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42) عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43) لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كارِهُونَ (48) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 887 المفردات: عَرَضاً: وهو ما يعرض من منافع الدنيا، أى: غنيمة قريبة. سَفَراً قاصِداً المراد: سهلا لا عناء فيه ولا مشقة. الشُّقَّةُ: هي المسافة البعيدة التي لا تقطع إلا بمشقة. عَفَا اللَّهُ عَنْكَ العفو: التجاوز عن الذنب أو التقصير وترك المؤاخذة عليه، وقد يستعمل بمعنى الدعاء. انْبِعاثَهُمْ: خروجهم معك بنشاط وهمة. فَثَبَّطَهُمْ التثبيط: التعويق عن الأمر والحبس عنه. خَبالًا والمراد به: الفساد والنميمة وإيقاع الاختلاف والأراجيف. خِلالَكُمْ الخلل: الفرجة بينكم. قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ: تقلب الأمور: صرفها وإجالة الرأى والتفكير العميق فيها. سَقَطُوا: وقعوا. تَرَبَّصُونَ بِنا التربص: الانتظار. الْحُسْنَيَيْنِ: مثنى الحسنى، التي هي تأنيث الأحسن، والمراد بها: الغنيمة، أو الشهادة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 888 كان دأب المؤمنين إذا دعوا إلى الجهاد لبوا مسرعين نشطين لأنهم ينتظرون إحدى الحسنيين: إما الشهادة والأجر، أو الغنيمة والنصر. ولما دعاهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم إلى غزوة تبوك تثاقل بعضهم لأسباب رآها، هذا التثاقل تختلف درجاته تبعا لقوة الإيمان وشدة العذر، وقد نفرت الأكثرية طائعة وتخلفت قلة عاجزة معذورة. أما المنافقون فقد كبر عليهم الأمر، وشق عليهم الخطب. كيف يقاتلون في تبوك أكبر دولة في العالم؟! فطفقوا ينتحلون الأعذار، ويستأذنون في القعود، والتخلف فيأذن لهم الرسول قبل بيان حالهم والوقوف على أسرارهم. فكانت هذه الآيات الفاضحة للمنافقين، الكاشفة عن أخلاقهم وطبائعهم. وروى أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال للجند بن قيس لما أراد الخروج إلى تبوك: «يا جدّ هل لك في جلاد بنى الأصفر تتخذ منهم سرارى ووصفاء؟» فقال الجد: قد عرف قومي أنى مغرم بالنساء وإنى أخشى إن رأيت بنى الأصفر ألا أصبر عنهن، فلا تفتني وأذن لي في القعود وأعينك بمالي، فأعرض عنه الرسول صلّى الله عليه وسلّم وقال: قد أذنت لك. فنزلت هذه الآية. المعنى: لو كان ما دعوا إليه- هؤلاء المنافقون- عرضا قريبا، ومغنما سهل المأخذ قريب المنال، ولو كان سفرا ذا قصد وسهولة ليس فيه مشقة ولا تعب، لو كان هذا أو ذاك لاتبعوك وأجابوك إلى طلبك، ولكن بعدت عليهم الشقة التي دعوا إليها وهي غزوة تبوك، وكبر عليهم التعرض لقتال الروم في ملكهم وعقر دراهم، والروم أكبر دولة حينئذ، نعم كبر عليهم ذلك فتخلفوا جبنا وميلا للراحة والدعة، وسيحلفون بعد رجوعكم إليهم قائلين: لو استطعنا لخرجنا معكم مجاهدين غازين، فإننا لم نتخلف إلا لعدم استطاعة الغزو وفقد المال والظهر، وما علموا أنهم يهلكون أنفسهم باليمين الكاذبة «اليمين الفاجرة تدع الديار بلاقع» (حديث شريف) ، والله يعلم إنهم لكاذبون، وسيجازيهم على ذلك كله.. روى أن ناسا قالوا لبعضهم: استأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فإن أذن لكم فاقعدوا وإن لم يأذن لكم فاقعدوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 889 والذي حصل من النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أذن لهم لما أقسموا كاذبين: إنهم لا يستطيعون الجهاد، فجاء قوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ؟ .. صريحا في أنه- سبحانه وتعالى- عفا عنه- عليه الصلاة والسلام- وما وقع منه عند إذنه للمتخلفين المنافقين، فقد ترك الأولى والأفضل، وكان الأحسن الانتظار والتأنى حتى تنكشف أمورهم وتظهر للعيان، كأنه قيل: لم سارعت إلى الإذن لهم؟ وهلا انتظرت حتى ينجلي الأمر فإن هذا هو الحزم والحكمة!! على أن الله كره انبعاثهم، وكان في خروجهم خطر على المسلمين، وفي تصدير فاتحة الخطاب ببشارة العفو دون ما يوهم العقاب لطف الرب اللطيف بالحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وذلك بخلاف مفاداة الأسرى فإن الخطأ فيها كان كثيرا، وكذا كان التعبير هناك صارما ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى.. [سورة الأنفال آية 67] . ليس من شأن المؤمنين بالله الذي كتب عليهم الجهاد، وباليوم الآخر الذي يكون فيه الأجر الكامل على الأعمال، أن يستأذنوك في أمر الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس بل يقدمون عليه عند وجوبه بهمة ونشاط، فهل يعقل أن يكون من شأنهم أن يستأذنوك في التخلف عنه بعد النفير العام له؟ .. كلا.. نعم لا يستأذنك المؤمنون في القعود عن الجهاد أبدا ما داموا مستطيعين ذلك، والله عليم بالمتقين وسيجازيهم على ذلك أحسن الجزاء، إنما يستأذنك المنافقون الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر في القعود عن الجهاد منتحلين الأعذار، مقسمين أحرج الأيمان، والله يعلم إنهم لكاذبون، وهذا يقتضى عدم الإذن لهم بسرعة. فهم قد ارتابت قلوبهم، وملئت شكّا ونفاقا، وهم في ريبهم يترددون، يحسبون كل صيحة عليهم، هم العدو قاتلهم الله أنى يؤفكون؟! ولو أرادوا الخروج معك للقتال لأعدوا له عدته من الزاد والراحلة، وقد كانوا مستطيعين ذلك. ولكن كره الله انبعاثهم وخروجهم مع المؤمنين لأنهم لو خرجوا ما فعلوا إلا تفريق كلمتهم، وإذاعة قالة السوء بينهم، فثبطهم بما أحدث في قلوبهم من الخواطر، وما أذاع في جوانبهم من المخاوف فلم يعدوا للخروج عدته وكان في متناول أيديهم، وقيل لهم من الرسول صلّى الله عليه وسلّم: اقعدوا مع القاعدين من المرضى والصبيان والنساء والضعفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 890 ثم أراد القرآن أن يطمئن المؤمنين ويبين أن عدم خروجهم مصلحة للجيش فقال ما معناه: لو خرجوا منبثين فيكم، وقاتلوا معكم، ما زادوكم إلا خبالا وضعفا، واضطرابا في الرأى وفسادا في العمل، فلن يأتى منهم خير أبدا بل سيأتى شر، وإذا خرجوا معكم فسيسرعون في الدخول بينكم بالنميمة وتفريق الكلمة حالة كونهم يبغون الفتنة، وإذاعة السوء، والتخويف من الأعداء، وتثبيط الهمة وهذا كله خطر عليكم وأى خطر كهذا؟!! ولا تنسوا أن فيكم قوما سماعين لهم من ضعفاء العقل والإيمان يسمعون لهم ويصدقونهم في قولهم، والله يعلم أن قولهم إفك، وحديثهم كذب، والله عليم بالظالمين، ومجازيهم على عملهم. تالله لقد ابتغوا الفتنة من قبل لكم، ألا تذكروا موقف عبد الله ابن أبىّ زعيم المنافقين في غزوة أحد حينما توقف عن السير للقتال في مكان يسمى بالشوط وانحاز له ثلث الجيش، ولقد همت طائفتان منكم أن تفشلا وترجعا عن القتال، ولكن عصمهم الله من الذلة إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا [سورة آل عمران آية 122] ، وتقدم تفصيل ذلك في الجزء الرابع فخروجهم معكم خطر عليكم، والله صرفهم عنكم. لقد ابتغوا الفتنة لكم قديما، وقلبوا لكم الأمور، وفكروا كثيرا في القضاء على دعوتكم ولكن: أطنين أجنحة الذباب يضير؟!! نعم لم يفعلوا شيئا فالله معكم، وقد جاء الحق بالنصر الموعود، وظهر أمر الله بالتنكيل باليهود، وبطل الشرك بفتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجا، كل ذلك وهم له كارهون..!! يا عجبا لهؤلاء المنافقين ينتحلون الأعذار، ويظهرون التمسك بالفضيلة، وما علموا أن الله يعلم السر وأخفى، ويعلم الغيب والشهادة!! وقد كانت نفوسهم منطوية على نفاق الله أعلم به. انظر إلى بعضهم يقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ائذن لي في القعود عن الحرب وسأعينك بالمال فإنى أخاف فتنة نساء الروم فأذن لي ولا تفتنّى، فيرد الله عليهم مكذبا دعواهم كاشفا حقيقتهم: ألا في الفتنة سقطوا، وقد وقعوا فيها كما يقع الإنسان في البئر، وانظر إلى بدء الجملة بكلمة (ألا) للتنبيه وافتتاح الكلام وأنهم خبوا في الفتنة ووضعوا!!! وانظر إليهم وهم يتربصون بكم الدوائر، ويتمنون لكم كل شر وخيبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 891 ويتألمون إذا أصابتكم حسنة في الدنيا من نصر أو نعمة. ويستاءون إساءة بليغة من وصول الخير لكم، وإن تصبك يا محمد أنت وأصحابك مصيبة من هزيمة أو شر- في الغالب سببها- يقولوا فرحين مسرورين: قد أخذنا أمرنا من قبل وأعددنا أنفسنا لها إذ نحن متوقعون هذه الهزيمة منتظرون لها، لذلك تراهم يعتذرون وينافقون، ألا لعنة الله عليهم أجمعين. قل لهم يا محمد: لن يصيبنا أبدا إلا ما كتبه الله لنا، وما كتب لنا فهو الخير والدواء وإن كان مرّا فعلى رسلكم أيها الناس فنحن راضون صابرون مطمئنون لقضاء الله وقدره فهذا هو الإيمان. لهذا على الله وحده فليتوكل المؤمنون، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، والله كافيه وحافظه، وهو نعم المولى ونعم النصير. قل لهم: هل تتربصون بنا إلا إحدى الحسنيين من الغنيمة والنصر أو الشهادة والأجر فإن عشنا عشنا أعزة مؤمنين، وإن متنا متنا شهداء مأجورين. أما نحن فنتربص بكم الدوائر التي تدور عليكم فيصيبكم الله بعذاب من عنده، وتلك سنته مع من يخالف أمره ويبالغ في عصيان رسله، أو يصيبكم الله بعذاب الهزيمة والذل على أيدينا. فتربصوا كما تشاءون وإنا معكم متربصون فإذا لقى كل منا ما يتربصه لا تشاهدون إلا ما يسرنا، ولا نشاهد إلا ما يسوءكم. أنفقوا طوعا وكرها [سورة التوبة (9) : الآيات 53 الى 59] قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسالى وَلا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 892 المفردات: وَتَزْهَقَ زهوق النفس: خروجها من الأجساد بصعوبة عند الموت. يَفْرَقُونَ من الفرق وهو الخوف الشديد الذي يفرق بين القلب وإدراكه. مَلْجَأً: المكان الذي يلتجئ إليه الخائف ليعتصم به، من حصن أو قلعة. مَغاراتٍ: جمع مغارة، وهي الغار في الجبل، سمى بذلك لأنه يستتر فيها. مُدَّخَلًا: مسلكا للدخول فيه بمشقة. يَجْمَحُونَ الجموح: السرعة التي لا تردها شيء. يَلْمِزُكَ اللمز: العيب مطلقا، والهمز: العيب في الغيبة. المعنى: يا أيها الرسول قل لهؤلاء المنافقين: إن تنفقوا ما شئتم من الأموال في الجهاد أو غيره مما أمر الله به حال الطوع لتتقوا به المسلمين وصولتهم، أو تنفقوا في حال الكره خوف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 893 العقوبة فلن يتقبل الله منكم في الحالين، ما دمتم تشكون فيما جاءكم به الرسول من أمر الدين والجزاء عليه في الآخرة، إنكم كنتم قوما فاسقين، وهذا تعليل لعدم القبول منهم في الحالين: إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ [سورة المائدة آية 27] . وهذا بيان أوضح لهذا التعليل- وما منع قبول نفقاتهم منهم شيء من الأشياء إلا كفرهم بالله وبصفاته وكفرهم برسوله وما يجب أن يكون له، وأنهم لا يأتون الصلاة التي هي عماد الدين، إلا وهم كسالى ولا ينفقون نفقة صغيرة أو كبيرة إلا وهم كارهون كراهة دائمة لازمة لهم فإن أنفقوا من غير أمر ولا إلزام من الرسول، بل طوع أنفسهم فهم أيضا كارهون كراهة قلبية لإنفاقهم. ومع الإلزام من باب أولى كارهون، ولقد صدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم: «إنما الأعمال بالنيات» . وإذا كان هذا مآل أموالهم في الآخرة لا يقبل منهم صرف ولا عدل فهم لا ينتفعون بها فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم ولا تسر من حالهم فأموالهم في الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها حيث يجمعونها بالكدح والنصب، وما يلزم ذلك من هم وألم، ثم هم ينفقونها كارهين تذهب أنفسهم حسرات عليها كأنهم يلقونها في البحر، بل أشد لأنها ستنفق في تقوية المسلمين وفي الآخرة لهم عذاب شديد، فهم يموتون على الكفر الذي يحبط العمل الصالح، وستخرج أرواحهم بشدة وعنف وصعوبة وألم.. ألست معى في أنهم خسروا الدنيا والآخرة؟!! المعنى: هكذا خلق المنافق يدفعه الخوف، ويملى عليه الفرق فيحلف كاذبا إنه منك في الدين ومعك في الملة والطريق وما هو منك في شيء أبدا: وَإِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا، وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ [البقرة 14] . وما دفعهم إلى هذا إلا الخوف الذي ملك قلوبهم، والفرق الذي شاع في نفوسهم حتى إنهم لشدة كراهيتهم للقتال معكم وشدة رعبهم من ظهور نفاقهم لكم يتمنون الفرار منكم والمعيشة بعيدة عنكم بحيث لو يجدون ملجأ يلجئون إليه، أو مغارة يغورون فيها أو مدخلا يندسون فيه، لولوا إليه وهم مسرعون لا يلوون على شيء، سرعة الفرس الجموح التي لا يردها لجام ولا قائد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 894 وبعضهم يريد أن يشوه جمال الإسلام. ويطعن على النبي صلّى الله عليه وسلّم فيأتى إلى ما يظنه أنه نقطة ضعف كتقسيم الغنائم والصدقات، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يرى إعطاء المؤلفة قلوبهم كما نص القرآن، فيقولوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أعدل والله ما هذا بعدل. وهذا كله مما يؤثر عن ضعاف القلوب والإيمان من المسلمين، فيرد الله عليهم بقوله: ومنهم من يلمزك في تفريق الصدقات، ويعيب عليك طريقتك فيها، فإن أعطوا منها رضوا واطمأنوا، وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون ويتألمون، فليس نقدهم بريئا، ولكن لغرض حقير، ولو أنهم رضوا بما أعطاهم الله من الغنائم، وما قسمه لهم رسوله، وقالوا: حسبنا الله، وكافينا في كل حال فهو الرزاق ذو القوة المتين، وسيؤتينا الله من فضله في المستقبل ورسوله زيادة على ما أعطانا، إنا إلى الله راغبون لا نرغب إلى غيره أبدا، فبيده ملكوت السموات والأرض، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، وهو العليم بخلقه الحكيم في صنعه سبحانه وتعالى ... إلى من تعطى الصدقة الواجبة [سورة التوبة (9) : آية 60] إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقابِ وَالْغارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) من طبيعة الإنسان حب المال، وقد يكون الغنى أشد حبا والطمع فيه شديد، وضعيف الإيمان دائما لا يرضى بما يعطى ... وقد كان المنافقون وضعفاء الإيمان لا يرضون بقسمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم: وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ على أن للمال سطوة وشهوة قد تجمح ببعض الأغنياء وأولياء الأمور فيميلون عن طريق الحق في صرف الزكاة، لذلك بيّن الله في القرآن مصرف الصدقة الواجبة. والآية مناسبة لما قبلها، قاضية على أطماعهم، مبينة حقيقة ما صنع الرسول معهم، وأنهم مخطئون في اعتراضهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 895 المعنى: إنما الصدقات للفقراء والمساكين ولغيرهم من الأصناف الثمانية لا تتعداهم إلى غيرهم أبدا، والمراد إنما هي لهم لا لغيرهم وقد فرضها الله لهم فريضة منه، والله عليم بخلقه حكيم في فعله. وها هم أولاء الأصناف: 1- الفقير: المقابل للغنى، والقرآن دائما يذكرهما متقابلين: وَمَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ «1» وهو المحتاج. 2- المسكين عديم الحركة من حاجته وضعفه، فالفقر والمسكنة يلتقيان في الحاجة، وهل هما صنفان مستقلان أم صنف واحد له؟ وهل هما في درجة واحدة أم أحدهما أشد من الآخر؟ أقوال كثيرة. 3- والعاملين عليها كالكتبة والحراس والصيارفة والمشرفين على الجمع. 4- المؤلفة قلوبهم، وهو صنف من الناس كان يعطيهم الرسول صلّى الله عليه وسلّم وأبو بكر من باب تأليف القلوب وجمعها على الإسلام لضعف في إيمانهم أو حكمة في عطائهم، وهذا حق للإمام يفعل ما فيه المصلحة. 5- وفي الرقاب، والمراد الصرف للإعانة في فك الرقاب وعتقها من ذل الرق وبؤس الأسر، ويدخل في ذلك المال المدفوع لفك الأمة وعتقها من ذل الاستعمار، وكيد الدخيل الأجنبى. 6- والغارمين، وهم من عليهم غرامة مالية أثقلت كواهلهم كديون عليهم استدانوها فأغرقت مالهم، أو هم قوم غرموا في سبيل صلح بين الناس، أو جمع شمل المسلمين ... إلخ. 7- وفي سبيل الله، والمراد به هنا: مصالح المسلمين العامة التي بها قوام أمر دينهم ودولتهم من كل خير يعود على المجموع، وهذا يشمل تسهيل العمل لكل عاطل، وعلاج كل مريض، وتعليم كل جاهل، وبالأخص التعليم الديني.   (1) سورة النساء آية 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 896 8- وابن السبيل، وهو المنقطع عن بلده في سفر لم يتيسر له شيء من المال، فيعطى حتى يصل إلى ماله. والظاهر- والله أعلم- أن السر في التعبير باللام المفيدة للملك في أصناف خاصة هم الفقراء، والمساكين، والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم، والغارمين، وابن السبيل، وبقي في صنفين هما: في الرقاب، وفي سبيل الله (اللام) أصحابها أشخاص يملكون و (في) أصحابها ليسوا أشخاصا بل المراد أوصافا ومصالح عامة للمسلمين. والترتيب في الآية ملحوظ ومقصود. أذى المنافقين للنبي صلّى الله عليه وسلّم والرد عليهم [سورة التوبة (9) : الآيات 61 الى 70] وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآياتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالاً وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْراهِيمَ وَأَصْحابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 897 المفردات: يُؤْذُونَ الأذى: ما يؤلم الإنسان في نفسه أو ماله أو بدنه قليلا كان أو كثيرا. أُذُنٌ: هذا من باب تسمية الإنسان باسم جزء منه للمبالغة في وصفه بوظيفته، كما قالوا للجاسوس: عين. يُحادِدِ اللَّهَ المحادة كالمعاداة مأخوذة من الحد، أى: طرف الشيء، وهكذا كل عدو يكون في ناحية وشق بالنسبة لخصمه وعدوه. يَحْذَرُ الحذر: الخوف في المستقبل من شيء خاص. مُخْرِجٌ الإخراج: يشمل إظهار مكنون الصدور وإخراج الحب من الأرض، والنفي من الوطن. نَخُوضُ الخوض: خاص بالعمل الباطل لا الحق لأنه مأخوذ من الخوض في البحر أو الوحل، والمراد: الإكثار من العمل الذي لا ينفع. بِخَلاقِهِمْ الخلاق: النصيب. حَبِطَتْ: بطلت. الْمُؤْتَفِكاتِ: جمع مؤتفكة، من الائتفاك: وهو الانقلاب والخسف، والمراد أصحاب قرى قوم لوط. هذا لون آخر من ألوان نفاقهم ذكر مناسبا لذكر لمزهم عليه ونقدهم له في تقسيم الغنائم والصدقات. وكذا بيان عام لأصل النفاق مع ذكر جزائه في الدنيا والآخرة وضرب الأمثال بحالهم وحال من تقدمهم على أن المنافقين في العصر الإسلامى الأول ضربوا الرقم القياسي في النفاق. المعنى: وبعض هؤلاء المنافقين الذين يؤذون النبي صلّى الله عليه وسلّم، ويصفونه بصفات تتنافى مع نبوته ورسالته، وشهادة الحق له بأنه على خلق عظيم وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم آية 4] وهكذا عمل المنافقين دائما خارج عن حدود العقل والواقع. يقولون في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم: هو أذن يسمع كل ما يقال له، ويصدقه، ويرمون إلى أنه لا يميز بين هذا وذاك، كبرت كلمة تخرج من أفواههم، وإنما هو النبي الكريم صاحب الخلق الكامل والإحساس العالي لا يجابه أحدا بما يؤلمه، ولا ينقد أحدا بما يؤذيه، بل يقول دائما: ما بال قوم؟ ما بال رجال؟ وقد كان صلّى الله عليه وسلّم يعامل المنافقين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 899 بظاهر حالهم، ويجرى عليهم أحكام الشريعة وآدابها التي يعامل بها الناس، ولقد رد الله عليهم ولقنه الجواب: قل: هو أذن خير لا أذن شر كما تعلمون!! فهو لا يقبل مما يسمعه إلا الخير وما وافق الشرع، ولا يسمع الباطل، ولا الغيبة ولا النميمة ولا الجدل ولا المراء. ثم فسر المراد بأذن خير.. بأنه يؤمن بالله وما يوحيه إليه من أخبار الغيب وأسرار السماء وبما يوحى إليه من أخباركم وأخبار غيركم: ويؤمن للمؤمنين إيمان جنوح وميل وائتمان للمهاجرين والأنصار وصادقي الإيمان، أما المنافقون فلا يميل لهم ولا يصدق خبرهم وفي هذا تهديد لهم بأن الله ينبئه بأسرارهم وأخبارهم يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ [سورة التوبة آية 64] . وهم رحمة للمؤمنين فقد هداهم إلى سعادة الدنيا والآخرة، وفي قوله: مِنْكُمْ إشارة إلى أن منهم من يدعى الإيمان وهو كاذب فيه، وإشارة إلى أنه عالم أن فيهم المنافقين، ولكن لحسن خلقه يعاملهم بالحسنى حتى يؤذن بغيرها. والذين يؤذون رسول الله في كل ما يتعلق بالرسالة كوصفه بالسحر والكذب، وعدم الفطنة ... إلخ لهم عذاب أليم، إذ هم كفروا بهذا، أما الإيذاء الخفيف فيما يتعلق بشخصه فحرام فقط مع أنه لا يصدر من مؤمن أبدا، وإيذاء أهل بيته حرام كذلك. إن من عادة المنافقين، والكاذبين، ومن يرتكبون جرما أن يشعروا بحرج موقفهم، وكأن الناس جميعا مطلعون عليهم عالمون بأحوالهم، ولذلك تراهم يكثرون من الحلف حتى تبتعد عنهم الشبهة المحيطة بهم، وقد كان المنافقون كثيرا ما يحلفون، ويعتذرون والله يعلم إنهم لكاذبون!! يحلفون لكم أيها المؤمنون أنهم براء مما نسب إليهم قولا وفعلا ليرضوكم فتطمئنوا لهم وتثقوا فيهم، وقد فهموا أنهم بهذا يضمونكم لصفوفهم. فيرد الله عليهم ويكشف سترهم حيث يقول: يحلفون لكم ليرضوكم والحال أن الله ورسوله أحق بالإرضاء من المؤمنين، وإرضاء الله ورسوله بالإيمان الصادق والعمل الكامل، والبعد عن النفاق، وقد أفرد الضمير أَنْ يُرْضُوهُ ليعلموا أن رضاء الرسول رضاء الله مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ هذا إن كانوا مؤمنين حقا إذ علامة الإيمان ثقة بالله وحب له ولرسوله، والعمل على رضاهما بامتثال الأمر واجتناب النهى: «ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 900 سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود في الكفر كما يكره أن يقذف في النار» (حديث شريف) . ألم يعلموا أنه من يحادّ الله ورسوله، حتى يكون في جانب والله ورسوله في جانب آخر؟ فإن له نار جهنم يصلاها وبئس القرار قراره، له نار جهنم خالدا فيها وذلك هو الخزي العظيم، والنكال والذل المهين. والمنافقون مذبذبون بين الإيمان والكفر، شاكّون مرتابون في الوحى وصدق الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهذا الشك والارتياب يدعوهم إلى الحذر والإشفاق. بل هو لازم له، إذ لو كانوا موقنين بكذب الرسول لما جاءهم الحذر، ولو كانوا مؤمنين حقا لما كان لهذا الخوف والحذر محل، لهذا يصفهم القرآن بقوله: يحذر المنافقون أن تنزل على المؤمنين سورة كاشفة لهم، فاضحة أستارهم، مبينة نفاقهم، كهذه السورة، ولذلك سميت الكاشفة والفاضحة. يحذرون من سورة تنبئهم بما في قلوبهم! والمراد اللازم وهو فضيحتهم وكشف عورتهم وبيان شكهم وارتيابهم، وتربصهم الدوائر بالمسلمين وإنذارهم بما قد يترتب على ذلك من عقابهم، وقد كان المنافقون دائمى الاستهزاء بالنبي والمؤمنين كما مر إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ ولذلك يأمر الله نبيه بأن يقول لهم: قل استهزءوا كما تشاءون، وهذا تهديد لهم شديد، ووعيد عليه، إن الله مخرج ما تحذرون إخراجه من مخبئات الضمير، ومكنونات الصدور، وقد حصل ذلك وظهر نفاقهم لكل الناس. روى عن قتادة: بينما رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في غزوته إلى تبوك وبين يديه أناس من المنافقين: فقالوا: أيرجو هذا الرجل أن يفتح له قصور الشام وحصونها؟ هيهات!! فأطلع الله نبيه على ذلك فقال: احبسوا على هؤلاء الركب فأتاهم فقال: قلتم كذا قلتم كذا؟ قالوا: يا نبي الله: إنما كنا نخوض ونلعب فأنزل الله فيهم هذه الآية على طريقة القسم للتأكيد، ولئن سألتهم عن أقوالهم التي يقولونها نفاقا من وراء الرسول ليقولن: إنا كنا غير جادين، ومنكرين بل هازلين لاعبين، وهذا كفر محض فإن من يهزأ بالله ورسوله فهو كافر بها. قل لهم: ألم تجدوا ما تستهزءون به في خوضكم ولعبكم إلا الله وآياته ورسوله فقصرتم الهزء عليهم ثم تظنون أن هذا عذر مقبول فتتكلمون به بلا حياء ولا خوف، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 901 ولكن المنافقين لا يفقهون!!! لا تعتذروا أبدا بهذا أو بغيره قد كفرتم بعد إيمانكم في الظاهر، وظهر أمركم وبدا الصبح لذي عينين. الآية صريحة في أن الخوض في كتاب الله ورسوله وصفاته- سبحانه وتعالى- كفر حقيقى. إن نعف عن طائفة منكم ونقبل توبتها الخالصة نعذب طائفة أخرى لإصرارها على النفاق وارتكابها الآثام لأنهم كانوا مجرمين.. المنافقون والمنافقات بعضهم يشبه بعضا، وهم ذرية بعضها من بعض فهم متشابهون وصفا وعملا، ذكرا وأنثى، وهذا دليل على تأصل الداء وتمكنه من نفوسهم حتى صار كالغرائز الموروثة، ثم بين الله وجه الشبه فقال: هم يأمرون بكل منكر ويدعون إليه، والمنكر: ما أنكره الطبع السليم، والعقل الراجح وما نهى عنه الشرع الشريف، وينهون عن المعروف شرعا وعقلا وطبعا، ألا لعنة الله عليهم!! ويقبضون أيديهم عن الإنفاق، ويبخلون بمالهم عن الجهاد، وهذا من أهم علامات النفاق ولقد ورد في الحديث: «آية المنافق ثلاث: إذ حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» وفي رواية «إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» وهكذا النفاق أسّ الشر وأصل البلاء، ومجمع كل رذيلة في الوجود. نسوا الله فأنساهم أنفسهم، نسوا التقرب إليه، ونسوا جلاله وعظمته وشرعه وآياته وحسابه وعقابه فنسيهم وجزاهم على عملهم فحرمهم من حبه وذكره والتمتع بدينه وآياته والإنفاق في سبيله، وحرمهم من الثواب والرضوان، أولئك حبطت أعمالهم وأولئك هم الخاسرون. إن المنافقين هم الفاسقون الخارجون عن حدود العقل والدين والمصلحة العامة والخاصة هم الفاسقون لا غير. أما ما أعد لهم من عقاب وجزاء فها هو ذا، وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار وعدهم نار جهنم خالدين فيها وفي ذكر الرجال منهم والنساء دليل على عموم الوصف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 902 وتأصل الداء، وتأخير ذكر الكفار دليل على أن النفاق أخطر من الكفر الصريح، ثم لم يكتف بهذا بل زاد في عقابهم والتنكيل بهم ثلاثا. هي حسبهم، نعم وفي جهنم جزاء يكفيهم عقابا لهم، ولعنهم في الدنيا والآخرة، وطردهم من رحمته وتوفيقه في الدنيا، وفي الآخرة لهم العذاب الشديد، عذاب مقيم ثابت لا يتحول ولا يزول، ويظهر- والله أعلم- أن القرآن يريد أن يوفيهم العذاب الحسى والمعنوي الذي يتكافأ مع نفاقهم وعملهم. ثم خاطب الله- سبحانه- المنافقين المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم بعد ذلك بقوله: أنتم أيها المنافقون الذين آذيتم الله ورسوله والمؤمنين كأولئك المنافقين السابقين مع أنبيائهم- وهكذا لا يخلو عصر من النفاق إذ هو مرض يصيب بعض النفوس- أنتم مثلهم مغرورون بمالكم مفتونون بأولادكم، ولكنهم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا، ولم يكن لهم في دنياهم إلا مطلب واحد هو المتاع الفاني، والعرض الزائل، والتمتع بالمال والولد، فكان نصيبهم نصيب الحيوان يتمتع ويأكل ويتناسل، فاستمتعتم بنصيبكم من المال والولد والعرض الزائل كاستمتاعهم بنصيبهم، لم تفضلوا عليهم بشيء من التمتع بكلام الله المحكم الذي نزل على خير الأنبياء وسيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم فكنتم أجدر منهم بالملامة، وأحق بالعذاب والنكال. فأنتم فعلتم الخبائث كما فعلوا مع توافر دواعي الشر عندهم. وتوافر دواعي الخير عندكم!!! وخضتم في حمأة الرذيلة والفسق كالخوض الذي خاضوه، وأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا وفسدت لأنها أعمال للرياء والسمعة وقد ظهر نفاقهم فيها، وفي الآخرة لهم العذاب الأليم لأن شرط الثواب عليها الإيمان، وهم لم يؤمنوا حقيقة بل نافقوا. وأولئك هم الخاسرون، الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا، وقد ضل سعيهم في الدنيا والآخرة. ألم يأتهم نبأ السابقين من قوم نوح وعاد وثمود، وقوم إبراهيم وأصحاب مدين وقوم لوط؟ والاستفهام للتقرير والتوبيخ. هؤلاء أتتهم رسلهم بالبينات فأعرضوا وكذبوا، فجاءهم العذاب كالطوفان الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 903 أغرق قوم نوح، والريح الذي أهلك عادا، والصيحة التي أبادت ثمود، والعذاب الذي هلك به نمروذ، والخسف الذي نزل بقرى قوم لوط وهم فيها. فما كان الله ليظلمهم حينما عذبهم، وقد أنذرهم ومن أنذر فقد أعذر، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، والغرض من ضرب المثل أن يفهم الكفار والمنافقون جيدا أن سنة الله مع الخلق لا تتغير ولا تتبدل وأن العذاب سينزل بهم حتما أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ [سورة القمر آية 43] فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ [الحشر 2] . المؤمنون وصفاتهم وجزاؤهم [سورة التوبة (9) : الآيات 71 الى 72] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) المفردات: أَوْلِياءُ بَعْضٍ المراد بالولاية هنا: ما يعم النصرة في الشدائد، والأخوة والمحبة والمودة. جَنَّاتٍ: هي البساتين الكثيرة الأشجار الملتفة الأغصان التي تستر ما تحتها من الأرض، وقد تقدم مثل هذا كثيرا. جَنَّاتِ عَدْنٍ عدن: اسم لمكان خاص في الجنة كالفردوس مثلا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 904 هكذا أسلوب القرآن يذكر الشيء ثم يردفه بمقابله ليتجلى الفرق ويظهر للعيان بأجلى معانيه، وليعلم المنافقون أنهم ليسوا على شيء من الإيمان إذ صفته ما يذكر هنا من إقامة الصلاة والأمر بالمعروف ... إلخ. أما إيمانهم الظاهر فهو نفاق وخداع لا ينفع أبدا. المعنى: المؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض بالنصرة والمعونة والمساعدة في السراء والضراء، والوقوف بجانب بعض في الشدائد والمكروه، بعضهم أولياء بعض ولاية أخوة ومودة ومحبة وصداقة، فنبيهم صلّى الله عليه وسلّم يقول: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» . ويقول: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا» هذا هو أساس الإيمان وطبعه لا فرق بين ذكر وأنثى وقد كانت النساء في العصر الأول يقمن بالمعونة والنصرة في الحروب وغيرها على قدر طاقتهن مع التجمل بالأدب والحياء ولبس لباس الدين والعفاف. وانظر يا أخى في وصف المؤمنين بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وفي وصف المنافقين بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ ترى أن المنافقين لا ولاية بينهم ولا أخوة تبلغ درجة الإيثار والنصرة وفّى الحروب، ولكنها أخوة كلام فقط أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ [سورة الحشر الآيتان 11 و 12] . فالمنافقون بعضهم يشبه بعضا في الشك والنفاق والارتياب ولكن لا صلة بينهم ولا تآلف، إذ الولاية والصلة والأخوة هي من صفات المؤمنين أصحاب العقائد الراسخة، ولذا يقول الله فيهم: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ ولاية النصرة في الدفاع عن الحق والعدل والكرامة والدعوة إلى الله يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وبالعكس المنافقون يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ولا غرابة فهاتان الصفتان من أبرز صفات المؤمنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 905 كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ [سورة آل عمران آية 110] ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، وهاتان صفتان في مقابلة وصف المنافقين بأنهم نسوا الله، وبأنهم يقبضون أيديهم. وإقامة الصلاة: إتيانها مقومة كاملة تامة الأركان والشروط فيها الخضوع الكامل والخشوع لله. ومراقبته وذكره، أما صلاة المنافقين فللرياء وللنفاق إذا قاموا إليها قاموا كسالى، وإتيان الزكاة دليل كمال الإيمان والخشية من الله والأمل في رضائه ورضوانه. وخص هذان الركنان بالذكر لأنهما علاج الهلع والجزع، والبخل والخور فهذه أمراض تدفع صاحبها إلى الإحجام عن الدفاع عن الحق وإعلاء كلمة الله وتدفعه إلى الشح الصاد عن الإنفاق في سبيل الله، ولذا كان المنافقون أجبن الناس وأبخلهم، انظر إلى قوله تعالى: إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً. إِلَّا الْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ. وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ. وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ [سورة المعارج الآيات 19- 26] . وقد جعل الله هذه الأربع: الأمر بالمعروف، والنهى عن المنكر، وإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة. أساس النجاح في الدنيا ووسيلة العمران وإقامة الدولة المسلمة الصالحة للتمكين في الأرض الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ [سورة الحج آية 41] والمؤمنون والمؤمنات من صفاتهم أنهم يطيعون الله ورسوله بامتثال الأمر واجتناب النهى. أولئك سيرحمهم الله، ويدخلهم في رحمته الواسعة التي كتبها لهم رحمة خالصة من شوائب الكدر والشقاء. إن الله عزيز لا يغلب، حكيم في كل صنع، وهذا تدليل مناسب لهذا العطاء الكبير للمؤمنين. وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات، جزاء لهم، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان وعدهم الله جنات موصوفة بأنها تجرى من تحتها الأنهار فليس فيها تعب ولا مشقة ولا عطش ولا ألم كما أن مياهها طاهرة نظيفة لا تتغير بالمكث، ولا تفسد بالوقوف. وهم الخالدون فيها إلى ما شاء الله ومقيمون بها إقامة أبدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 906 ووعدهم مساكن طيبة يتمتعون بها مشتملة على جميع المرافق من أثاث ورياش وزينة ورزق ومتاع هذه المساكن في جنات عدن ومكانها الطيب. هذا هو المتاع الجسماني في الآخرة، وأما متاع الروح فالرضا والرضوان، ورضوان من الله أكبر من ذلك كله لا يقدر قدره، وقيل: إن الرضوان رؤية الله يوم القيامة لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [سورة يونس آية 26] . هذا جزاء الإيمان في مقابلة جزاء النفاق السابق، ألا بئس ما يصنعون، ذلك الذي ذكر من الوعد للمؤمنين والمؤمنات بالنعيم الجسماني والروحاني هو الفوز العظيم، أما المتاع في الدنيا فعرض زائل مشوب بالألم والتعب والهم والنصب. أيها المؤمنون: هذه هي الموازين الحقيقية للإيمان وجزائه فانظروا إلى أنفسكم في أى مكان هي!! وحاسبوها قبل أن تحاسبوا. معاملة النبي للكفار والمنافقين [سورة التوبة (9) : الآيات 73 الى 74] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (74) المفردات: وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ الغلظ: الخشونة وعدم الرحمة. وَما نَقَمُوا: وما كرهوا، وما عابوا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 907 هذا تهديد للمنافقين وإنذار لهم بالجهاد كالكفار المجاهرين أعداء النبي صلّى الله عليه وسلّم والمسلمين والكفار على أنواع، منهم المجاهرون المقاتلون وهؤلاء أمر النبي بقتالهم بالسيف، ومنهم غير المحاربين وهم المعاهدون، والمنافقون الذين قال الله فيهم: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ وكان يعاملهم باللطف واللين ولا غرابة في ذلك فقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم رحيما كريما ذا خلق عال، ليس فيه غلظة ولا جفوة يقول في كلامه: «شر الناس من يخاف شره» والأحاديث الواردة عنه في هذا الباب كثيرة، وقد كان يعامل المنافقين كما يعامل المسلمين تماما مما جرأهم على لمزه وعيبه، والنيل منه بل ورد السلام عليه بقولهم: (السام) حتى كان منهم ما كان وعرفناه في هذه السورة والتي قبلها- ولذلك أمره الله- تعالى- في هذه الآية بالغلظة على الفريقين. المعنى: يا أيها النبي جاهد الكفار غير المحاربين والمنافقين واغلظ عليهم لا تعاملهم باللين والبشاشة، ولا تقبل عليهم بوجهك الباسم بل اعبس في وجوههم، وسيأتى قريبا أنهم يمنعون من القتال مع المسلمين، ولا تصل على أحد مات منهم أبدا كما سيأتى، وهذا جهاد لأنه يخالف لين النبي وأدبه ورحمته بالناس، وهذا علاج رباني، فإن المذنب إذا عومل معاملة لينة ربما أطغته وجعلته يتمادى، وبالعكس لو عومل بالشدة نوعا ما كما يقول عمر- رضى الله عنه-: «أذلوهم ولا تظلموهم» كان ذلك أدعى إلى أن يرجع إلى نفسه ويحاسبها حسابا قد ينتج عنه رجوعه إلى الجادة، ولست أرى أشد على المذنب من إنكار الناس عليه، وهذا دواء من حكيم عليم. وفي التفسير المأثور: جاهد الكفار بالسيف والمنافقين باللسان، وهذا عذابهم في الدنيا، أما في الآخرة فمأواهم جهنم، وبئس المصير مصيرهم. ولقد استأنف القرآن بيان سبب هذا حيث أثبت لهم الكذب الصريح واليمين الفاجرة، وهمهم بالفعل الشنيع، وأنهم جعلوا سبب الرضا والشكر سبب النقمة والكفر، ألا ساء ما كانوا يعملون. يحلفون بالله ما قالوا ولقد قالوا كلمة الكفر وكفروا بعد إسلامهم وهموا بما لم ينالوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 908 ولم يدركوه، وما كرهوا الدين إلا لأن الله أغناهم به، هؤلاء المنافقون قد كفروا بعد إسلامهم، وخاضوا في النبي والقرآن، وهموا بالفتك برسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد أطلعه الله على ذلك وأنبأه بأنهم سينكرون ذلك، وسيحلفون بالله كذبا ليرضوكم اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً «1» والله تعالى يكذبهم ويثبت بتأكيد القسم أنهم قالوا كلمة الكفر التي رويت عنهم، ولم تذكر في القرآن لئلا يتعبد المسلمون بتلاوتها، ولذلك اختلف الرواة في إثباتها، فبعضهم يقول: إن شخصا اسمه جلاس بن سويد قال: لئن كان محمد صادقا على إخواننا الذين هم سادتنا وخيارنا لنحن شر من الحمير (يقصد الآيات التي نزلت فيمن تخلف من المنافقين) ، وقيل: إنها نزلت في مقالة قالها عبد الله بن أبىّ ثم أنكرها، وعلى العموم فالآية صريحة في إثبات ذلك وأمثاله لهم. وقد كفر المنافقون بعد إسلامهم الظاهر، وروى أن بعضهم هم بقتل النبي صلّى الله عليه وسلّم حين منصرفه من غزوة تبوك ثم ردهم الله خاسرين وذلك قوله تعالى وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا. وما أنكر هؤلاء المنافقون من أمر الإسلام وبعثة الرسول- عليه الصلاة والسلام- شيئا يقتضى الكراهة والكفر والهم بالانتقام إلا إغناء الله إياهم ورسوله بما يقسمه لهم من الغنائم ويعاملهم كالمسلمين، وهذا تعبير بديع، كقول الشاعر: ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ... بهن فلول من قراع الكتائب يا عجبا كل العجب ما يكون سببا في الخير يكون سببا في الشر!!! ومع هذا فباب التوبة والرحمة مفتوح، فإن يتوبوا يقبل الله منهم، وإن يتولوا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة. وما لهم في الأرض من ولى ولا نصير، إذ ولاية المؤمنين بعضهم لبعض، والمنافقون لا ولاية لهم، إذ لا ضمير لهم حتى مع أنفسهم.   (1) سورة المنافقون آية 2. [ ..... ] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 909 قصة ثعلبة بن حاطب [سورة التوبة (9) : الآيات 75 الى 78] وَمِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَبِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) سبب النزول: روى أنه جاء رجل من الأنصار يسمى ثعلبة بن حاطب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: ادع الله لي يا رسول الله أن يرزقني مالا. فقال- عليه الصلاة والسلام-: «ويحك يا ثعلبة قليل تؤدى شكره خير من كثير لا تطيقه» ثم عاد ثانيا يطلب، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟!! لو شئت أن تسير معى الجبال ذهبا لسارت» فقال: والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالا لأعطين كل ذي حق حقه، فدعا له النبي صلّى الله عليه وسلّم فاتخذ غنما فنمت كما تنمى الدود، فضاقت عليه المدينة فتنحى عنها ونزل واديا من أوديتها حتى جعل يصلى الظهر والعصر في جماعة وترك ما سواهما. ثم نمت وكثرت حتى ترك الصلوات إلا الجمعة، وهي تنمى حتى ترك الجمعة أيضا، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يا ويح ثعلبة» ثم نزل خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً [التوبة 103] فبعث صلّى الله عليه وسلّم رجلين على الصدقة وقال لهما: «مرّا بثعلبة وبفلان- رجل من بنى سليم- فخذا صدقاتهما» فأتيا ثعلبة وأقرآه كتاب رسول الله، فقال ثعلبة: ما هذه إلا أخت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 910 الجزية! انطلقا حتى تفرغا ثم عودا، ولم يعطهما شيئا، ثم أقبلا على النبي صلّى الله عليه وسلّم بصدقة السلمى الذي أعطاهما من خيار ماله، فلما رآهما النبي مقبلين قال: «يا ويح ثعلبة» ثم دعا للسلمى بالبركة، فنزلت الآية الكريمة وحينما بلغت ثعلبة عاد إلى رسول الله ومعه الصدقة، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن الله منعني أن أقبل منك» وهكذا لحق النبي بالرفيق الأعلى ولم يقبلها منه ونهج الخلفاء أبو بكر وعمر وعثمان هذه السيرة ومات ثعلبة في خلافة عثمان. المعنى: وبعض المنافقين عاهد الله ورسوله لئن أعطاه الله مالا كثيرا ليصّدّقن، ويعطى كل ذي حق حقه. وليكونن من عباد الله الصالحين، فلما آتاه الله مالا وأغناه من فضله، بخل بالمال وشح بالخير، وأمسك فلم يتصدق بشيء، وبدل أن يصلح نفسه وأمته بالإنفاق كما عاهد الله وأقسم على ذلك، أعرض عن ذلك وتولى وهو معرض بكل قواه إعراضا راسخا ثابتا، وهذا طبع في المنافقين لازم لهم راسخ فيهم. فأعقبهم ذلك البخل وهذا الإعراض نفاقا من النوع العالي الدائم إلى يوم القيامة، ولا غرابة فكل معصية وإن صغرت تحجب شيئا من نور الإيمان حتى إذا كثرت المعاصي حجبت جميع النور فأصبح القلب في ظلمات الفساد والعصيان والنفاق غارقا. كل هذا بسبب ما أخلفوا الله وعده، كما في قصة ثعلبة وأضرابه من المنافقين، وبما كانوا يكذبون ... فآية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان «1» . صدق رسول الله. ألم يعلم هؤلاء أن الله يعلم سرهم ونجواهم، وأن الله علام الغيوب يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور؟!! فالله يعلم كل هذا، ولكن المنافقين لا يعلمون..   (1) أخرجه البخاري 1/ 83، 84 في الإيمان باب علامات المنافق ومسلم 59 في الإيمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 911 من أذى المنافقين للمؤمنين وجزاؤهم [سورة التوبة (9) : الآيات 79 الى 80] الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80) المفردات: يَلْمِزُونَ اللمز: العيب. الْمُطَّوِّعِينَ أى: المتطوعين، والمراد: من يؤدون النفل بعد الواجب. جُهْدَهُمْ: طاقتهم. المعنى: هذا هو موقف المنافقين، وإنه لموقف ريب يدل على تأصل النفاق معهم وأنه لا يرجى منه خير أبدا، فهم لا يقنعون بمنع إنفاقهم في سبيل الله بل ويلمزون من ينفق من المسلمين، ويعيبون على المتطوعين في الصدقات، والذين لا يجدون إلا ما ينفقونه في سبيل الله. فهو غاية جهدهم، يا عجبا: تعيبون على الغنى المتصدق، وعلى الفقير الباذل قوته لله!! روى عن ابن مسعود- رضى الله- قال: لما أمرنا بالصدقة كنا نحامل، أى: نحمل على ظهورنا بالأجرة ونتصدق بها، فجاء أبو عقيل بنصف صاع، وجاء إنسان بأكثر منه، فقال المنافقون: إن الله غنى عن صدقة هذا، وما فعل الآخر هذا إلا رياء، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 912 فنزلت الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ يستهزئون بالفقراء احتقارا لما جاءوا به، ويعدونهم من المجانين والحمقى، وقيل: إنهم يلمزون الغنى والفقير، ويسخرون من الجميع سخر الله منهم، وجازاهم بعدله على ذلك العمل جزاء وافيا، ولهم في الآخرة عذاب أليم. هؤلاء في أعمالهم التي لا تصدر إلا عن قلوب لا تكاد تعرف الإيمان، ولم يدخلها شعاع الإسلام ولن يدخل أبدا، ويقول الله فيهم لنبيه- عليه السلام-: سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم، لن يغفر الله لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة. والمراد: كثرة الاستغفار لا العدد المحض، فلن يغفر الله لهم أبدا. والظاهر أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يستغفر لهم رجاء أن يتوبوا ويوفقهم الله للخير فأمر بعدم الاستغفار لهؤلاء المنافقين المعينين الذين حكى الله عنهم هذه الأفعال الخبيثة كالتآمر على الفتك بالنبي والهمّ بقتله، ولمز المتصدقين والعيب عليهم، فهؤلاء هم زعماء المنافقين، ورؤساء الشر الذين لا يرجى منهم خير أبدا ولن يعودوا للحق أبدا، وقد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، ولذلك علل الله هذا بقوله: ذلك بأنهم كفروا بالله وبرسوله وداموا على هذا مداومة طمست بصائرهم فلن يروا خيرا أبدا، فلا تستغفر لهم. والله لا يهدى القوم الفاسقين إلى الخير إذ لم يعد لهم استعداد له. المتخلفون عن الجهاد [سورة التوبة (9) : الآيات 81 الى 82] فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَلْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 913 المفردات: فَرِحَ الفرح: شعور النفس بالارتياح والسرور. الْمُخَلَّفُونَ: الذين تركهم رسول الله عند خروجه إلى غزوة تبوك. خِلافَ: مصدر كالمخالفة، وقد يراد به معنى بعد وخلف فيكون ظرفا، ويصح المعنيان هنا. هذه الآيات في بيان حال المتخلفين عن القتال، وما يجب عن معاملتهم، وقد نزلت في أثناء السفر، ولا نزال في الكلام عن المنافقين، وأعمالهم في غزوة تبوك. المعنى: فرح المتخلفون من هؤلاء المنافقين الذين تخلفوا عن رسول الله عند خروجه إلى غزوة تبوك، وقعدوا في بيوتهم مخالفين أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قعدوا لأنهم لا يؤمنون أن الغزو خير، وامتثالا لأمر ربهم ورسوله، وقالوا لإخوانهم: لا تنفروا في الحر وتتركوا مهام أعمالكم ومصالحكم. قل لهم يا محمد: نار جهنم التي أعدت للمخالفين العصاة أشد حرا، فهي تلفح الوجوه وتنضج الجلود، وتنزعها، ولو كانوا يفقهون ذلك ويعتبرون لما خالفوها وعصوا، وآثروا راحة الجسم راحة قليلة على هذا العذاب الدائم، والنار التي أعدت لهم، وكان وقودها الناس والحجارة. فليضحكوا قليلا، وليبكوا كثيرا، ليس هذا أمر حقيقيا بل يراد به تهديدهم، وبيان أن هذا هو الأجدر بهم على حسب حالهم وما تستوجبه أعمالهم لو كانوا يفقهون ما فإنهم من أجر، وما سيلاقيهم من عذاب وضير، وهذا جزاء لهم بما كانوا يعملون ويكسبون من الجرائم ويقترحون من الآراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 914 كيف عامل النبي صلّى الله عليه وسلّم زعماء النفاق [سورة التوبة (9) : الآيات 83 الى 85] فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَلَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83) وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَلا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَماتُوا وَهُمْ فاسِقُونَ (84) وَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَأَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كافِرُونَ (85) المفردات: الْخالِفِينَ المراد: المتخلفون من النساء والصبيان، على أن الخالف قد يستعمل ويراد به من لا خير فيه ولا غناء معه. هذه الآية الكريمة نزلت في سفره صلّى الله عليه وسلّم وهو راجع من غزوة تبوك، وهي من دقائق القرآن لأن أئمة الحديث ذكروا في الصحيحين أحاديث تتعارض معها وهو حديث صلاة النبي صلّى الله عليه وسلّم على عبد الله بن أبىّ زعيم المنافقين، ولكن أليس من الخير أن نسير مع القرآن الكريم؟ فإنه أضبط متنا وسندا، بل هو المحفوظ الذي تكفل الله بحفظه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1» وقد جمع بعض العلماء في الكتب المطولة بين الحديث والآية.   (1) سورة الحجر آية 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 915 المعنى: قد تخلف المتخلفون عن رسول الله، وفرحوا بمقعدهم مخالفين لأمر الله ورسوله، وكرهوا الجهاد، بل وثبطوا عنه وخذلوا غيرهم بقولهم: لا تنفروا في الحر؟ فرتب على هذا كله ما هنا من المعاملة القاسية الشديدة.. فإن رجعك الله وردك من سفرك إلى طائفة وجماعة خاصة من المتخلفين- تلك الطائفة هم المنافقون الذين سبق ذكرهم- فاستأذنوك للخروج أيا كان نوعه فقل لهم: لن تخرجوا معى أبدا على أى شكل كان وبأى وضع، ولن تقاتلوا معى عدوا أبدا في المستقبل بأى كيفية كانت!! وذلك لأنكم رضيتم بالقعود أول مرة وتخلفتم بلا عذر وحنثتم في أيمانكم الفاجرة وفرحتم بالقعود بل وثبطتم عن الجهاد.. فاقعدوا مع الخالفين المسيئين الذين لا خير فيهم أبدا. ولن تنالوا شرف الصحبة والجهاد فهذا شرف رفيع، ووسام عال، لا يناله إلا المؤمنون المخلصون. ولا تصل على أحد منهم مات أبدا في المستقبل، ولا تقم على قبره أبدا، داعيا له ومستغفرا. وقد سبق قوله تعالى: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [سورة التوبة آية 80] . نهى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن الصلاة على المنافقين، والقيام على قبورهم وأن يدعو لهم كما كان يفعل إذا مات مؤمن يقول بعد دفنه: «استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يسأل» وقد نص الفقهاء على العمل بهذا الحديث. وهذا يعارض ما نعلمه من أن المنافقين كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجرى عليهم أحكام الإسلام العامة، والجواب كما ظهر لي- والله أعلم- أن هذه الآيات نزلت في زعماء النفاق وعدم التوبة، وقد أعلم الله نبيه بهم كما في الحديث، وأما غيرهم فكان يدعو لهم رجاء التوبة والتوفيق وبعضهم آمن وتاب. قال الواقديّ: أنبأنا معمر عن الزهري قال: قال حذيفة: قال لي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنى مسرّ إليك سرا فلا تذكره لأحد: إنى نهيت أن أصلى على فلان وفلان» رهط ذوى عدد من المنافقين قال: فلذلك كان عمر إذا أراد أن يصلى على أحد استتبع حذيفة فإن مشى مشى معه وإلا لم يصل عليه، ولعل الحكمة في خصوص هؤلاء أن الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 916 علم أنهم ماتوا على الكفر أو سيموتون عليه فلا تنفعهم شفاعة ولا استغفار ولا صلاة أبدا. ولذلك كان تعليل النهى (لا تصل على أحد منهم مات) لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون!! ولا تعجبك أموالهم وأولادهم إنما يريد الله أن يعذبهم بها في الدنيا وتزهق أنفسهم، وهم كافرون، وقد تقدم مثل هذا مع فارق هو ذكر لا في الآية السابقة فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ وهو يصدق بالنهى عن الإعجاب بكل منهما، وفي الآية هنا حذف لا يفيد الكلام النهى عن الإعجاب بهما مجتمعين، ولكل كلمة مع صاحبتها مقام يقتضيه الحال، والله أعلم بكتابه. موقف المنافقين من الجهاد [سورة التوبة (9) : الآيات 86 الى 89] وَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (87) لكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) المفردات: الطَّوْلِ: الغنى والمقدرة، والمراد: أولو المقدرة على الجهاد المفروض. ذَرْنا: اتركنا. الْقاعِدِينَ المراد: مع المتخلفين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 917 المعنى: هذه عادة المنافقين، ومن في قلوبهم مرض الشك والنفاق، كلمات أنزلت سورة تدعو الناس ببعض آياتها إلى الإيمان بالله والجهاد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم استأذنك أولو المقدرة على الجهاد بالمال والنفس، استأذنوك في التخلف، منتحلين شتى الأعذار قائلين، اتركنا مع القاعدين من النساء والصبيان والعجزة، هؤلاء رضوا بأن يكونوا مع المتخلفين الذين فسدت نفوسهم ولم يعد فيها ميل إلى الخير، وطبع على قلوبهم فلم يعد يدخل إليها نور العلم والوعظ، والهداية والنور، حتى كأنها قد ختم عليها، ولا غرابة في ذلك فهم قوم لا يفقهون الخير والرشد حتى يهتدوا إليه. لكن الرسول والذين آمنوا معه بمقتضى إيمانهم الخالص الراسخ في قلوبهم جاهدوا في سبيل الله، وبذلوا النفس والنفيس طيبة قلوبهم مستريحة ضمائرهم، متهللة وجوههم بشرا وسرورا لأنهم وجدوا الفرصة سانحة لاقتناص ثواب الجهاد في سبيل الله. وأولئك البعيدون في درجات الكمال والجلال لهم الخيرات التي لا يعلمها إلا الله، في الدنيا كشرف النصر، ومحو الكفر والتمتع بالغنيمة والسيادة في الأرض، وأولئك هم المفلحون السعداء أعد الله لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها ذلك الفوز العظيم.. المتخلفون [سورة التوبة (9) : الآيات 90 الى 92] وَجاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90) لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَلا عَلَى الْمَرْضى وَلا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) الجزء: 1 ¦ الصفحة: 918 المفردات: الْمُعَذِّرُونَ أى: المعتذرون، واللفظ يحتمل المعتذر بعذر حقيقى أو ادعائى. هذه الآية في نفاق الأعراب سكان البدو بعد بيان نفاق المنافقين من سكان الحضر (المدينة) . الضُّعَفاءِ جمع ضعيف، وهو ضد القوى، والمراد: من لا قوة لهم في أبدانهم تمكنهم من الجهاد. حَرَجٌ المراد: ليس عليهم ذنب ولا إثم. نَصَحُوا: أخلصوا لله ورسوله في القول والعمل. مِنْ سَبِيلٍ: من طريق يسلك لمؤاخذتهم. المعنى: وجاء المعتذرون من الأعراب ليأذن لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في التخلف عن النفير العام في غزوة تبوك وهم قوم عامر بن طفيل، جاءوا يقولون: يا رسول الله: إن نحن غزونا تغير علينا أعراب طيئ فقال لهم رسول الله: «قد أنبأنى الله من أخباركم وسيغنى الله عنكم» وقال ابن عباس: هم قوم تخلفوا فأذن لهم النبي صلّى الله عليه وسلّم والظاهر أن عذرهم كان حقا، والآية تحتمل هذا وذاك. وقعد عن القتال وعن المجيء للاعتذار الذين كذبوا الله ورسوله من الأعراب، وأظهروا الإيمان بهما كذبا وإيهاما، وهؤلاء هم المنافقون حقيقة في العقيدة، وقد قعدوا عن القتال بجرأة على الله وعلى رسوله سيصيب الذين كفروا منهم، أى: ممن كذبوا الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 919 ورسوله، ومن المعتذرين بغير عذر شرعي، سيصيب هؤلاء وهؤلاء عذاب أليم غاية الألم!!! ... المعنى: لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولا يطلب منها ما هو فوق طاقتها، وعلى ذلك فكل من عجز عن الشيء سقط عنه، ولا يكلف به لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وروى أبو داود عن أنس بن مالك أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لقد تركتم بالمدينة أقواما ما سرتم سيرا، ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه» . قالوا: يا رسول الله: وكيف يكون معنا وهم بالمدينة؟ قال: «حبسهم العذر» . ألست معى في أن هذه الآية وأشباهها من القرآن والحديث بينت أنه لا حرج على المعذورين عذرا شرعيا، وهم قوم عرف عذرهم كالشيوخ والعجائز، وأهل الزمانة والهرم، والعمى والعرج، وأقوام لم يجدوا ما ينفقون، فكل هؤلاء ليس عليهم ذنب ولا إثم إذا نصحوا لله ورسوله، وأخلصوا لهما النية، وأحسنوا الطوية، وعرفوا الحق- سبحانه وتعالى- وأحبوه، وأحبوا أولياءه، وبغضوا أعداءه، والنصيحة الخالصة لله ولرسوله (في هذه الحال الحربية) هي عمل كل ما فيه المصلحة العامة للأمة من كتمان السر، والحث على البر، وإلهاب الشعور، وتوحيد الصفوف، ومحاربة الخائنين، والقضاء على الطابور الخامس، روى عن تميم الداري أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: الدين النصيحة- ثلاثا- قلنا: لمن يا رسول الله؟ فقال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم. قال العلماء: النصيحة لله: إخلاص الاعتقاد في الوحدانية، ووصفه بكل كمال، وتنزيهه عن كل نقص، وامتثال أمره واجتناب نهيه، والنصيحة لرسوله التصديق بنبوته، والتزام طاعته، في أمره ونهيه وحب من أحبه، وحب آل بيته ومن سار بسيرته وإحياء سنته بالمدارسة والنفقة والعمل بها والدفاع عنها، والنصيحة لكتابه وقراءته، والتفقه فيه ومدارسته، والتخلق به والدفاع عنه، والنصيحة لأئمة المسلمين: ترك الخروج عليهم، وتبصيرهم مواضع الزلل وإرشادهم إلى الدين الحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 920 والرأى المعتدل، والإنكار عليهم إن خالفوا الدين بلا شدة وعنف حتى تستقيم أمورهم، والنصح لعامة المسلمين: إرشادهم إلى الطريق الحق، والإرعاء عليهم وحب الخير لهم والسهر على مصالحهم، وكل على قدر طاقته. ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ على معنى ليس هناك سبيل يسلكها ناقد على من أحسن العمل وأخلص النية، فكل عمل تعمله وأنت ترضى ربك فأنت محسن، والله يجازى المحسن بأضعاف حسنته، والمسيء بقدر إساءته، فإذا كان هؤلاء المعذورون عذرا شرعيا قد نصحوا لله ورسوله وأخلصوا في أعمالهم فليس لأحد عليهم سبيل ما داموا محسنين أعمالهم، والله غفور رحيم. روى أن بنى مقرن كانوا سبعة إخوة من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد هاجروا، وأتوا رسول الله في غزوة تبوك ليحملهم فلم يجد ما يحملهم عليه فتولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون!! وهذه الآية هي التي نزلت في شأنهم وَلا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلَّا يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ. ولعل الحكمة في التعبير بالإتيان لأجل الحمل والاعتذار عنه بعدم وجدان ما يحمل عليه من دابة أو غيرها: هي إفادة العموم ليشمل الدابة والسيارة والطيارة وغيرها- والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 921 فهرست الموضوع صفحة الإهداء 3 مقدمة 5 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم 8 سورة الفاتحة مكية وآياتها سبع 9 سورة البقرة 12 المتقون وجزاؤهم 14 الكافرون وجزاؤهم 15 المنافقون وصفاتهم 17 ضرب الأمثال لهم 20 وحدة الإله اعجاز القرآن. صدق الرسول 22 من أمن بالقرآن وجزاؤهم 25 الأمثال في القرآن وموقف الناس منها 26 مظاهر قدرة الله 28 قصة خلق الإنسان وتكريمه بالخلافة وسجود الملائكة له 29 طبيعة الإنسان وموقف الشيطان منه 32 بنو إسرائيل وما طلب منهم 33 علماء اليهود وأحوالهم 35 نعم الله على اليهود 37 بعض قبائح اليهود وما لحقهم 41 من جنايات اليهود 43 قصة ذبح البقرة 45 قسوة قلوبهم واستبعاد الإيمان النهم 47 كذب أخبار اليهود وافتراؤهم على الله 49 ميثاق بنى إسرائيل 51 مواقفهم من الرسل والكيف 54 كذبهم في ادعائهم الإيمان بالتوراة 56 اليهود وحرصهم على الحياة 57 موقفهم من الملائكة الأطهار 58 من قبائحهم أيضا 60 أدب وتوجيه 63 آيات النسخ 64 موقفهم من المؤمنين 66 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 922 موقف كل من اليهود والنصارى بالنسبة للآخر 67 تخريب المساجد 68 مفتريات أهل الكتاب والمشركين 69 تحذير الرسول من أتباع اليهود والنصارى 71 إبراهيم عليه السلام وبيت الله الحرام 72 ملة إبراهيم مع المخالفين لها والمهتدين بها 75 لكل ما كسب 76 الله ربنا وربكم 78 مقدمات تحويل القبلة 80 تحويل القبلة 83 حول تحويل القبلة 85 الصابرون والمقاتلون في سبيل الله 87 بعض شعائر الحج وجزاء من يكتم آيات الله 89 إثبات وحدانيته ورحمته ونفى الشركاء عنه 92 العلاج الناجح 95 موقف أهل الكتاب من القرآن والنبي 98 حقيقة البر 100 حق الله في المال 102 القصاص وأثره 103 الوصية 105 الصيام وفرضه 106 بعض أحكام تتصل بالصيام 109 الرشوة وأكل أموال الناس بالباطل 111 اختلاف أشكال القمر 112 القتال في سبيل الله 114 الحج وبعض أحكامه 117 بعض أحكام الحج 120 من علامات النفاق أيضا 123 من لا يتبع جميع أحكام الدين وجزاؤه 125 الحاجة إلى الرسل 127 ما يلاقيه الرسول والمؤمنون في دعوتهم 128 النفقة وأحق الناس بها 129 حول القتال في الإسلام 130 الخمر والميسر وحكمهما 133 الولاية على مال اليتيم 136 زواج المسلم بغير المسلمة 137 الحيض وحكمه 139 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 923 الحلف بالله 140 الإيلاء وحكمه 141 براءة الرحم في الطلاق وبعض أحكامه 142 النساء وحقوقهن في الزوجية 143 بعض أحكام الطلاق 145 آداب الطلاق ومعاملة المطلقة 148 بعض أحكام الرضاع 150 عدة المتوفى عنها زوجها 152 خطبة المتوفى وزوجها وآدابها 153 المطلقة قبل الدخول وما يجب لها 155 المحافظة على الصلاة 156 حق المتوفى عنها زوجها 157 كيف تحيا الأمم 158 قصة طالوت وجالوت 160 درجات الأنبياء وطبيعة الناس في أتباعهم 165 في الحث على الإنفاق 167 آية الكرسي 169 الدخول في الدين والولاية على الناس 170 من غرور الكافرين بالله أو قصة نمرود 172 قصة العزيز وإيمانه 174 وهذا مثال من آيات الله 175 الانفاق في سبيل الله وآدابه 177 مثل من ينفعه للرحمن والذي ينفعه للشيطان 180 نوع ما ينفق فيه ووصفه 182 الشيطان والانفاق 183 بعض أحكام الانفاق 184 لمن تعطى الصدقة وبعض أحكامها 186 الربا وخطره 189 آية الدين والسر في طولها 194 جواز الرهن 198 احاطة علمه وتمام ملكه وقدرته 199 سورة آل عمران 204 المحكم والمتشابه في القرآن 206 عاقبة الغرور بالمال والولد 209 الإنسان وشهواته في الدنيا 211 ما هو خير من الدنيا وما فيها 213 الشهادة بالوحدانية والعدل وأن الدين الإسلام 215 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 924 جزاء قتل الأنبياء ومن يأمر بالمعروف 217 الاعراض عن حكم الله مع الغرور 218 من مظاهر قدرة الله وعظمته 220 مولاة المؤمنين للكافرين 222 محبة الله باتباع رسوله وطاعته 224 اصطفاء الأنبياء وسلالتهم 225 قصة زكريا ويحيى 228 مريم وفضل الله عليها 230 قصة عيسى عليه السلام 231 قصة عيسى مع قومه 235 الرد على ألوهيته عيسى وقصة المباهلة 237 كلمة الوحيد وملة إبراهيم 239 من مواقف أهل الكتاب 241 الأمانة والوفاء بالعهد عند اليهود 243 من كذبهم وافترائهم على الله أيضا 245 الرد على أهل الكتاب في اشراكهم بالله 246 الميثاق المأخوذ على أهل الكتاب 247 إيمان المؤمنين بكل الأنبياء 249 حكم الكفر بعد الإيمان 250 اصناف الكفار 251 الإنفاق أيضا 252 فرية اليهود في تحريم بعض المعلومات 253 شرف بيت الله الحرام والحج 255 أهل الكتاب وعنادهم وما يضمرونه للإسلام 257 توجيهات وعظات 258 فضل الأمة الإسلامية على غيرها 264 المؤمنين من أهل الكتاب 267 الكافرون وأعمالهم يوم القيامة 269 صداقة المؤمنين للكافرين وخطرها 270 غزوة بدر 272 غزوة أحد 273 ما نزل من القرآن في غزوتى بدر وأحد 276 إرشادات المؤمنين وجزاؤهم 280 سنة الله في الخلق والعاقبة للمتقين 284 دروس لمن شهد غزوة أحد 287 ما أصاب المسلمين في أحد وسببه 293 بث الروح التضحية والجهاد 298 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 925 بعض أخلاق صلّى الله عليه وسلّم 300 بعض قبائح المنافقين وأعمالهم 304 المستشهدون والمجاهدون في سبيل الله وجزاؤهم 307 تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان بعض الأحكام 311 البخل شر يوم القيامة 313 نهاية كل حي والابتلاء في الدنيا 317 بعض قبائح أهل الكتاب 319 ذكر الله والتفكر في خلقه وآثرهما 322 المؤمنون والكافرون وجزاء كل 326 سورة النساء 331 اجتماع الناس في أصل واحد 331 اليتامى ومعاملتهم في أموالهم 333 تعدد الزوجات والعدل معهن 334 تعدد الزوجات 336 متى نعطى أموال اليتامى لهم؟ 338 تشريع حقوق اليتامى والنساء 340 آيات المواريث 342 الفاحشة وجزاؤها 342 متى يقبل الله التوبة 348 كيف نعامل نساءنا؟ 350 من يحرم الزواج بهن 353 من أحكام الزواج 357 متى تنكح الأمة. وما جزاؤها على الفاحشة 359 حكم عامة للأحكام السابقة 362 حدود ومعالم 363 تنظيم الحياة الزوجية 369 وعظ وإرشاد 372 ترغيب وتحذير 375 بعض شروط الصلاة. مع بيان رخصة التيمم 377 اليهود وأعمالهم 380 تهديد ووعيد لأهل الكتاب 382 أهل الكتاب وجزاؤهم على أعمالهم 384 جزاء الكفر. وثواب الإيمان 387 السياسة العامة للحكومة الإسلامية 388 هؤلاء هم المنافقون. وهذه أعمالهم 391 إرشادات وآداب للسلم والحرب 393 السياسة الحربية في الإسلام 396 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 926 بعض ضعاف النفوس 399 الطاعة لله ولرسوله 401 القرآن من عند الله 402 الرقابة على الأخبار 404 الحث على الجهاد 405 من أدب القرآن 406 المنافقون وكيف نعاملهم 408 قتل المؤمن وجزاؤه 411 التسرع في الحكم 414 الجهاد في سبيل الله والمتخلفون عنها 416 كيفية الصلاة في السفر والحرب 419 في الحث على القتال 423 حفظ الحقوق وعدم المحاباة في الأحكام 424 إرشادات 428 الشرك وخطره والشيطان وأثره 429 الأمانى وعاقبتها. والعمل وجزاؤه 432 حقوق الضعفاء وعلاج المشاكل الزوجية 434 كمال القدرة 438 العدل والشهادة لله والإيمان به وبكتبه 440 المنافقون وصفاتهم 442 موالاة الكافرين وجزاء المنافقين 445 الجهر بالسوء 449 الكفر والإيمان وعاقبة كل 450 من قبائح اليهود وأفعالهم 452 بعض قبائحهم أيضا وجزاؤهم عليها 458 وحدة الوحى وحكمة إرسال الرسل جميعا 460 جزاء الكافرين 464 المسيح ابن مريم في نظر القرآن 465 الدعوة العامة 469 حق الأخوة في الميراث 471 سورة المائدة 473 الوفاء بالعهود 473 المحرمات من المطعومات 476 الحلال من المطعومات 481 الوضوء والغسل والتيمم 484 إتقان العمل والشهادة بالقسط 488 كيف نقض اليهود والنصارى والمواثيق 490 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 927 القرآن وما يخفيه أهل الكتاب 494 مناقشة النصارى في عقائدهم 495 من مواقف اليهود مع موسى (ع. م) 500 قصة أول قتيل في الوجود 503 حكم قطاع الطريق 506 أناس الفلاح في الآخرة 509 السارق وجزاؤه 511 اليهود ومواقفهم من أحكام التوراة 513 في التوراة حكم الله 517 الحكم بكتاب الله ودستور القرآن 520 موالاة اليهود والنصارى وعاقبتها 524 المرتدون المحاربون لهم 526 النهى عن موالاة الكفار 529 من سيئات اليهود 533 تبليغ الرسول للدين 536 من قبائح اليهود أيضا 538 الإله عند المسيحيين 540 خلاصة نظرية القرآن في المسيح 542 السبب في استشراء الفساد فيهم 545 اليهود والنصارى وعلاقتهم بالمؤمنين 549 التشدد في الدين 552 الإيمان وكفارتها 554 الخمر والميسر آفات اجتماعية 557 الصيد في الإحرام وجزاؤه 562 البيت الحرام والشهر الحرام ومكانتهما 565 ترغيب وترهيب 567 السؤال الضار 568 نوع من ضلال الجاهلية 570 في الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر 571 الشهادة على الوصية حتى الموت وأحكامها 573 من مواقف يوم القيامة 576 من معجزات عيسى عليه السلام 577 قصة المائدة 579 تخلص عيسى مما ادعته عليه النصارى 581 سورة الأنعام- دلائل على الوحدانية والبعث 584 سبب كفرهم وشبهاتهم والرد عليها 587 تسليته للنبي 591 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 928 أسلوب آخر في إثبات الوحدانية والبعث 592 من مظاهر القدرة وشهادة الله النبي صلّى الله عليه وسلّم 595 كتمان الشهادة والافتراء على الله 597 بعض أعمال المشركين 599 من مواقف المشركين يوم القيامة 601 تسلية الله لنبيه وسنة الله في خلقه 604 من دلائل قدرة الله وكمال علمه 607 إلى الله وحده يلجأ العبد في الشدائد 609 من أدلة التوحيد أيضا 611 مهمة الرسل عليهم الصلاة والسلام 613 من مظاهر رحمة الله بخلقه 616 موقف النبي صلّى الله عليه وسلّم من المشركين 618 كمال علمه سبحانه وتعالى 620 من مظاهر القدرة والرحمة 622 المستهزئون بالقرآن وجزاؤهم 625 الإسلام والشرك 628 كيف ترك إبراهيم الشرك 630 محاجة إبراهيم لقومه 633 إبراهيم أبو الأنبياء ومكانته 636 إثبات رسالة الرسل وأثرها 638 الكذب على الله وعاقبته 640 من مظاهر القدرة والعلم والحكمة والرحمة 642 من كذبهم على الله والرد عليهم 646 حقائق تتعلق بالرسالة 647 النهى عن سب الذين يدعون من دون الله 649 الرد على طلب المشركين الشهادة على الرسالة 651 الشهادة للنبي صلّى الله عليه وسلّم بالصدق وللقرآن بالحق 653 عقائد المشركين وذبائحهم 655 مثل المؤمن والكفار 658 غرورة المشركين وعاقبته 659 سنة الله في الخلق ودينه الحق 661 من سنن الله في الكون 663 تهديد وإنذار 665 صور من جاهلية العرب 667 قدرة الله ونعمه والرد على المشركين 671 ما حرمه القرآن وما حرمته التوراة 674 شبهة واهدة 677 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 929 أصول المحرمات والفضائل 679 القرآن مع من يؤمن به ويكفر 684 تهديد وإنذار 686 عاقبة الاختلاف والجزاء على العمل 688 التوحيد والإخلاص في العقيدة 689 سنة الله في الخلق 691 سورة الأعراف 693 القرآن وعاقبة المكذبين به 693 نعم الله على بنى آدم وتكريمه 697 قصة سكنى آدم الجنة وخروجه منها 700 من نعم الله وفضله 703 شبهات المشركين وأعذارهم الواهية 705 توجيهات في الملبس والمطعم 707 ما حرمه الله على عباده 709 مهمة الرسل وعاقبة العمل 711 جزاء الكافرين 713 جزاء المؤمنين 714 حوار بين أهل الجنة والنار وأصحاب الأعراف 716 حوار بين أصحاب الأعراف وأصحاب النار 717 من مناظر يوم القيامة 718 الكفار وما يلاقونه وأمانيهم 719 وحدانية الله ودعاؤه 721 من أدلة البعث 724 قصة نوح عليه السلام 725 قصة هود عليه السلام 727 قصة صالح مع قومه عليه السلام 731 قصة لوط عليه السلام 734 قصة شعيب عليه السلام- وحاله مع قومه 736- 738 مآل الكافرين 740 من سنة الله مع الأمم 743 قصة موسى عليه السلام 745 السحرة مع موسى وفرعون 749 ما كان من أمر فرعون وملئه مع موسى وقومه 751 جزاة العصاة في الدنيا 753 عاقبة الكفر وخلف الوعد 755 من نعم الله على بنى إسرائيل 757 نعم الله على بنى إسرائيل وما قابلوها به 758 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 930 رؤية الله ونزول التوراة 760 السبب الحقيقي للكفر غالبا 763 قصة عبادتهم العجل وموقف موسى 764 ما حصل لموسى أثناء المناجاة 769 محمد صلّى الله عليه وسلّم ورسالته والمؤمنون به 771 من نعم الله على بنى إسرائيل 775 عاقبة المخالفين وفوز الآمرين بالمعروف 778 هكذا اليهود في الدنيا 780 الميثاق العام المأخوذ على بنى آدم 782 مثل المكذبين الضالين 784 صفة أهل النار 786 أسماء الله الحسنى 788 المهتدون والضالون 789 علم الساعة عند ربي 792 الرسول إنسان لا يملك شيء بل هو نذير وبشير 793 هكذا الإنسان 794 حقيقة الأصنام والأوثان 796 من خلق القرآن في معاملة الناس والشيطان 798 من أدب استماع القرآن والذكر 801 سورة الأنفال 803 مقدمات لغزوة بدر الكبرى 806 توجيهات حربية للمؤمنين 812 تحذير من مخالفة لدين 815 الاستجابة لداعي القرآن 817 الخيانة من صفات المنافقين 819 تقوى الله وأثرها 821 عداوتهم لمحمد صلّى الله عليه وسلّم ولدينه 822 صورة من حماقة العرب وجاهليتها 824 عاقبة إنفاقهم للصد عن سبيل الله 826 من فضل الله على الناس 828 كيف تقسم الغنائم؟ 829 امتنان الله على المؤمنين بالنصر على عدوهم 831 نصائح حربية 833 كيف يتخلص الشيطان 835 ما حل بهم بسبب أعمالهم 836 كيف حال من نقض العهد 838 الاعداد الحربي للأعداء 840 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 931 الميل إلى السلام، وتقوية الروح المعنوية في الجيش 841 التشريع ينزل وفقا لرأى عمر 844 الرابطة الإسلامية أقوى الروابط 846 سورة التوبة 851 إعلامهم بالحرب مع التحدي لهم ونقض عهودهم 852 وجود قتال المشركين 855 سماحة الإسلام في معاملة الكفار 856 سبب البراءة من عهودهم 857 كيف نعامل هؤلاء الكفار 859 تحريض على قتال المشركين 860 اختبار المسلمين وتمحيصهم 861 عمارة المسجد للمسلمين لا للمشركين 862 فضل الإيمان والجهاد 864 ولاء المؤمنين للكفارين وخطرها 867 وهل النصر إلا من عند الله؟ 870 المشركون لا يدخلون المسجد الحرام 872 قتال أهل الكتاب وغايتهم 873 أهل الكتاب لا يعبدون الله حقا 875 سلوك رجال الدين من أهل الكتاب 878 بيان عدة الشهور والأشهر الحرم والنسيء 880 في الحث على الجهاد والتحذير من تركه 883 التجنيد العام 886 المنافقون وما صدر عنهم 887 أنفقوا طوعا وكرها 892 إلى من تعطى الصدقة الواجبة 895 أذى المنافقين للنبي صلّى الله عليه وسلّم والرد عليهم 897 المؤمنون وصفاتهم وجزاؤهم 904 معاملة النبي للكفار المنافقين 907 قصة ثعلبة بن حاطب 910 من أذى المنافقين للمؤمنين وجزاؤهم 912 المتخلفون عن الجهاد 913 كيف عامل النبي صلّى الله عليه وسلّم زعماء النفاق 915 موقف المنافقين من الجهاد 918 المتخلفون 918 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 932 [ الجزء الثاني ] [ تتمة سورة التوبة ] المتخلفون بغير عذر وموقف المسلمين منهم [سورة التوبة (9) : الآيات 93 الى 96] إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96) المفردات: لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ لن نصدقكم انْقَلَبْتُمْ رجعتم إليهم ووصلتم لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ لتصفحوا عنهم صفح رضا رِجْسٌ أي: قذارة يجب الإعراض عنهم. روى أن هذه الآيات- يعتذرون إليكم- نزلت في الجد بن قيس، ومعتب بن قشير وأصحابهما من المنافقين المتخلفين وكانوا ثمانين رجلا أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم المؤمنين إذا رجعوا إلى المدينة ألا يجالسوهم ولا يكلموهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 3 المعنى: ما على المحسنين من سبيل، ولا على الذين أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم معتذرين بأعذار حقيقية، وقد تولوا، وأعينهم تفيض من الدمع حزنا لأنهم لم يجدوا ما ينفقون، ولم يستطيعوا الذهاب معه إلى القتال. وليس على هؤلاء وأولئك جناح. إنما السبيل والذنب، والجناح والإثم على الذين يستأذنونك في التخلف عن القتال وهم أغنياء موسرون، يستطيعون القتال ويجدون الزاد والراحلة، ولكن ما بال هؤلاء يستأذنون وهم أغنياء؟! فأجيب بأنهم رضوا بأن يكونوا مع الخوالف الذين لا خير فيهم، كالنساء والصبيان، والعجزة والمرضى، ورضوا بأن يكونوا مع الذين شأنهم الضعة والدناءة، وكان من أسباب تخلفهم زيادة على رضائهم بالقعود مع الخوالف أن طبع الله على قلوبهم، وختمها حتى لا يصل إليها خير، ولا يدخلها نور، وهكذا أصحاب المعاصي تصدأ قلوبهم وتقسو حتى تصير كالحجارة أو أشد، فهم لا يعلمون الخير حتى يتوجهوا إليه، وهم بسبب ذلك لا يعلمون عاقبة ما فعلوا في الدنيا والآخرة. هذا كلام مستأنف مسوق لبيان ما صدر من المتخلفين عند رجوع المؤمنين لهم. يعتذرون إليكم أيها المؤمنون عن جميع سيئاتهم وأهمها التخلف عن القتال بغير عذر مقبول- والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه، لأنهم كانوا يعتذرون إليهم جميعا- إذا رجعتم من الغزوة إليهم، قل لهم أيها الرسول: لا تعتذروا، وكأن سائلا سأل منهم لماذا لا نعتذر بما يبرر عملنا؟ فقيل لهم: لأنا لا نصدقكم أبدا فيكون اعتذاركم عبثا لا يترتب عليه ما تطلبون منه، والذي حملنا على هذا أن الله- سبحانه وتعالى- قد نبأنا من أخباركم، وأطلعنا على بعض نواياكم، وما تكنه سرائركم وخبر الله هو الحق، وقوله الصدق، ومن عرف الحق لا يقبل الباطل بحال، وسيرى الله عملكم ورسوله بعد الآن، فلم يعد لكلامكم وظواهر حالكم قيمة عند الله وعند رسوله، فإن تبتم وأنبتم، وعملتم صالحا من الأعمال فالله يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات، وإن أصررتم على النفاق والكفر فسيعلمكم الرسول بما أمره الله به في هذه السورة من جهادكم والإغلاظ عليكم، ومنعكم من الخروج معه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 4 ثم تردون بعد هذا كله إلى عالم الغيب والشهادة، الذي يعلم السر وأخفى، فينبئكم ويجازيكم على أعمالكم وسرائركم. والنفاق أخو الكذب. لذلك تراهم يؤكدون اعتذارهم بالأيمان الكاذبة إذا رجعتم إليهم، يفعلون هذا لتعرضوا عنهم، وتصفحوا فلا توبخوهم، ولا تؤنبوهم على قعودهم مع الخوالف من النساء والصبيان فأعرضوا عنهم إعراض إهانة واحتقار، لا إعراض صفح وأعذار وذلك لأنهم رجس وقذارة، وأعمالهم دنس ووساخة، ومأواهم جهنم، جزاء بما كانوا يكسبون. وهم لجهلهم بحقيقة أنفسهم وما عملوا، ولعدم إدراكهم الأمور على وجهها الصحيح لم يقنعوا بالإعراض عنهم، بل يحلفون لكم أحرج الأيمان لترضوا عنهم، وتعاملوهم كما كنتم أولا، كان جل همهم معاملتكم أنتم يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ «1» ولقد صدق الله لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ «2» ولو كان هؤلاء مؤمنين حقا لكان منتهى همهم إرضاء الله ورسوله، وإذا كان هذا شأنهم فإن ترضوا عنهم فرضا وقد أعلمكم الله حالهم فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين عن أمره الخارجين عن دينه، وهؤلاء قد خرجوا عن أمره ودينه فاستحقوا هذا الجزاء من الله. كيف كان الأعراب [سورة التوبة (9) : الآيات 97 الى 99] الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)   (1) سورة النساء الآية 108. (2) سورة الحشر الآية 13. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 5 المفردات: الْأَعْرابُ اسم جنس للعرب الذين يسكنون البوادي أى: الصحارى، والعرب: اسم جنس لسكان البدو والحضر وَأَجْدَرُ أى: أحق مَغْرَماً غرامة خسرانا لازما الدَّوائِرَ جمع دائرة وهي ما تحيط بالإنسان والمراد بها ما لا محيص عنه من مصائب الدهر دائِرَةُ السَّوْءِ أى: دائرة الضر والشر والمراد الدائرة السوءى. هذا بيان لحال المنافقين من سكان البوادي بعد بيان حالهم من سكان المدن والحضر. المعنى: الأعراب أشد كفرا ونفاقا من غيرهم سكان المدينة لأنهم أغلظ طبعا وأقسى قلبا، وهذا طبع سكان الصحارى من الأمم لكثرة اختلاطهم بالحيوان، ورعيهم للأنعام، وهذا حكم مسلم. وهم أجدر وأحق من سكان المدن ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله من آيات بينات، إذ لم يباشروا الرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو يطبق النظريات القرآنية العلمية بعمله وشرحه وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ «1» وليس هذا طعنا في ملكتهم اللغوية أو مقدرتهم العقلية ولكنه نقص في التطبيق العملي والله عليم بخلقه، حكيم في حكمه وشرعه- سبحانه وتعالى-. ومن الأعراب من يتخذ لنفسه ويختار ما ينفقه على أنه مغرم وغرامة لازمة، لا يرجون ثوابا ولا يأملون خيرا بل ينفقون للرياء والسمعة وطمعا في التقرب من المسلمين   (1) سورة النحل الآية 44. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 6 واتقاء شرهم، روى أنهم بنو أسد وغطفان، وهم يتربصون بكم مصائب الدهر التي تدور بالناس وتحيط بهم، وذلك أنهم لما يئسوا من غلبة المشركين من كفار قريش ويهود المدينة أخذوا يتربصون بالمسلمين وينتظرون بهم حوادث الأيام كموت النبي صلّى الله عليه وسلم والقضاء على الدعوة الإسلامية وهكذا شأن الضعفاء والجبناء. عليهم الدائرة السوءى وهذا دعاء من الله عليهم محقق الوقوع قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا [سورة التوبة الآية 52] والله سميع عليم لا يخفى عليه شيء. وليس هذا شأن الأعراب كلهم بل منهم من يؤمن بالله واليوم الآخر إيمانا كاملا- قيل: هم بنو أسلم، وغفار، وجهينة، ومزينة، وقيل: هم بنو مقرن- ويتخذ لنفسه ويختار أن ما ينفقه لأمرين: أحدهما قربات عند الله وزلفى، والثاني: أنه سبب في دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه كان يدعو للمتصدق بالبركة، ويستغفر له، ودعاؤه صلّى الله عليه وسلّم أمنيتهم المحبوبة. وقد بين الله جزاء هؤلاء الأعراب فقال: ألا إنها قربة لهم عظيمة ودرجة رفيعة أنا أعلم بها، وسيدخلهم الله في رحمته ورضوانه إن الله غفور رحيم. الناس أنواع [سورة التوبة (9) : الآيات 100 الى 102] وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 7 المفردات: مَرَدُوا مرنوا عليه وحذقوه حتى بلغوا الغاية القصوى فيه. المعنى: مما أكرم الله به النبي صلّى الله عليه وسلّم أن جعل أمته وسطا عدولا خيارا شهداء على الناس يوم القيامة، وكانت أمته خير أمة أخرجت للناس لأنها تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر وتؤمن بالله حقا، وكان خيارها أصحابه- رضي الله عنهم- وأعلاهم في الشرف السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار. أما السابقون من المهاجرين وهم الذين صلوا إلى القبلتين [إلى الكعبة وإلى بيت المقدس] وقيل: هم المهاجرون قبل صلح الحديبية، لأن المشركين قبل ذلك كانوا يضطهدون المؤمنين ويعذبونهم أشد العذاب، ويحاربونهم في عقر دارهم فكان الفرار منهم إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم في المدينة أعظم دليل على صدق الإيمان وأكبر تضحية للإنسان، وقيل: هم أهل بدر، وإذا كان السبق في الإيمان والهجرة والجهاد والبذل والنصرة، كان أفضل السابقين الخلفاء الأربعة على الترتيب ثم باقى العشرة المبشرين بالجنة، وليس كل سابق أفضل من مسبوق. وأما السابقون من الأنصار فهم الذين أسلموا قبل أن يكون للمسلمين قوة مرهوبة الجانب، وقيل: هم أصحاب البيعة الأولى وكانوا سبعة أو أصحاب البيعة الثانية وكانوا سبعين رجلا وامرأتين، أما بعد أن صار للمسلمين دولة فقد ظهر النفاق في المدينة وما حولها، وأما الذين اتبعوهم بإحسان في الهجرة والنصرة وصدق الإيمان، فهم الذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 8 دخلوا في الدين بعد ذلك واتبعوا السابقين بإحسان، وقلدوهم في الأفعال والأقوال وحسن الاقتداء. وهذا الوصف للتابعين اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ يتضمن الشهادة من الله- سبحانه وتعالى- للسابقين بكمال الإحسان، وعلو الإيمان، فهم المتبوعون، وفي المثل العليا والإحسان هم المقلدون، أما من اتبعوهم في ظاهر الإسلام فقط أو في بعض الأعمال فالآيات الآتية بينت حالهم. هؤلاء السابقون من المهاجرين والأنصار والتابعين- رضى الله عنهم- وقبل طاعتهم وتجاوز عن سيئاتهم وأعز بهم الإسلام كل ذلك بسبب أعمالهم. ورضوا عنه لما وفقهم إلى الخير، وهداهم إلى الحق وأفاض عليهم من النعم الدينية والدنيوية، وأعد لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا: وذلك هو الفوز العظيم. وهنا سؤال: ما المراد بالتابعين؟ هل هم كما فسرنا أولا وهم الصحابة الذين دخلوا في الإسلام بعد صلح الحديبية وفتح مكة؟ أم هم التابعون الذين اجتمعوا بالصحابة ولم يشرفوا بصحبة النبي؟ أم هم الداخلون في الدين المهاجرون ما نهى الله عنه، الناصرون لدين الله باللسان والسنان، والقوة والبيان إلى يوم القيامة الله أعلم بكتابه وإن كان الظاهر من قوله اتبعوهم أنهم الصحابة المتأخرون في الإيمان، وأما التابعون المجتمعون بالصحابة كالفقهاء السبعة (سعيد بن المسيب، والقاسم بن محمد، وعروة بن الزبير.. إلخ) . فهذا اصطلاح خاص بعد نزول القرآن. بعد أن بين الله- سبحانه- مكانة المؤمنين بين مردة المنافقين من أهل البدو والحضر: أن بعض الأعراب الذين حولكم أيها المؤمنون منافقون. قال بعضهم: هم من قبيلة مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وغفار كانت منازل هؤلاء حول المدينة والمراد أن بعضهم منافقون، وبعضهم مؤمنون صادقون يؤمنون بالله واليوم الآخر، ويتخذون ما ينفقون قربات وزلفى إلى الله، والرسول صلّى الله عليه وسلّم دعا لهم بخير وبركة. وإنه لمن أهل المدينة نفسها منافقون من الأوس والخزرج واليهود غير من تعرفهم- أيها الرسول- بما صدر عنهم من أقوال وأفعال منافية للإيمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 9 هؤلاء مردوا على النفاق ومرنوا عليه مرونا جعلهم متأصلين فيه، قد بلغوا غاية إتقانه، بحيث لا يعرفهم أحد، فهم حريصون جدا لا يصدر منهم ما يتنافى مع ظاهر إيمانهم، ولذلك لا تعرفهم أنت مع بعد نظرك، ودقة فراستك، التي تنظر فيها بنور الله وذلك لأنهم أجادوا النفاق، وتجنبوا الشبهات، وانظر إلى نفى العلم عن ذواتهم لا عن نفاقهم، والله يعلمهم لأنه يعلم السر وأخفى، ولو شاء لاطلعك عليهم كما أطلعك على غيرهم أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ [سورة محمد الآيتان 29 و 30] . هؤلاء سنعذبهم مرتين: مرة في الدنيا بفضيحتهم وهتك سترهم وتكليفهم بتكاليف الإسلام من جهاد وزكاة، والحال أن أعمالهم كسراب بقيعة لا تنفعهم بشيء.. ومرة في الآخرة بالعذاب الشديد والجزاء المناسب لجرم عملهم وسوء صنيعهم ثم يردون إلى عذاب عظيم. نعود إلى القول المختار من هذه الآيات نزلت في بيان حال الناس أيام النبي صلّى الله عليه وسلم فمنهم السابقون أولئك المقربون في جنات النعيم من المهاجرين والأنصار، ومنهم التابعون لهم بإحسان الذين جاءوا من بعدهم وهاجروا وجاهدوا معهم فأولئك منهم. لهم جميعا الرضوان وذلك هو الفوز العظيم. ومن الناس المنافقون من سكان البدو والحضر خصوصا المدينة وهؤلاء تأصل فيهم النفاق، عليهم غضب الله وأعد لهم جهنم وساءت مصيرا. ومن الناس قوم تخلفوا ولم ينافقوا فليسوا من السابقين ولا من التابعين ولا من المنافقين هؤلاء نزل فيهم قوله تعالى: وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ الآية.. والمعنى: وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة أناس آخرون اعترفوا بذنوبهم ولم ينكروها قد خلطوا عملا صالحا وهو الاعتراف بالذنب والتوبة والرجوع إلى الله، والجهاد مع النبي صلّى الله عليه وسلّم قبل ذلك، وآخر سيئا وهو التخلف بغير عذر، فلم يكونوا من المؤمنين الخلص، ولا من المنافقين الفاسقين، روى أنهم ربطوا أنفسهم في سوارى المسجد وأقسموا لا يحلنهم إلا رسول الله. فلما قدم رسول الله وعلم بخبرهم أقسم لا يحلنهم حتى ينزل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 10 فيهم قرآن وهم أبو لبابة وأصحابه، هؤلاء عسى الله أن يتوب عليهم ويقبل عذرهم، والله يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئات إنه هو الغفور الرحيم. ولعلك تقول: ما فائدة هذا التقسيم؟ قلت: فائدته أنك تعرف أن من يخلط العمل الصالح والآخر الفاسد يجب ألا يقنط من رحمة الله بل عليه بالإسراع إلى التوبة وهذا الصنف كثير جدا وهو في كل زمان، وأن للتابعين لنا أن يتوسعوا في مدلوله حتى يشمل كل عصر فما دمنا نتبع الصحابة في الجهاد والنصرة ونسير على منوالهم ونهتدي بعملهم فنحن داخلون معهم في هذا الجزاء الواسع والفضل العميم. وأما السابقون السابقون فهذا مقام لا يدانيه مقام ولقد صدق الرسول «أصحابى كالنّجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم لو أنفق أحدكم مثّل أحد ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» صدق رسول الله.. الصدقة والتوبة والعمل [سورة التوبة (9) : الآيات 103 الى 105] خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105) المفردات: سَكَنٌ السكن ما تسكن إليه النفوس وتطمئن من أهل ومال ومتاع، والمراد: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 11 اطمئنانهم بقبول توبتهم، ورضا الله عنهم الْغَيْبِ ما غاب والشهادة: ما حضر صَدَقَةً قال القرطبي: مأخوذة من الصدق إذ هي دليل على صحة إيمانه وصدق باطنه مع ظاهره، وأنه ليس من المنافقين الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات. روى عن ابن عباس قال: لما أطلق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أبا لبابة وأصحابه انطلق أبو لبابة وأصحابه بأموالهم فأتوا بها رسول الله فقالوا: خذ من أموالنا فتصدق بها عنا، وصل علينا أى: استغفر لنا وطهرنا فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «لا آخذ منها شيئا حتّى أومر» فأنزل الله: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ الآية. المعنى: يا محمد- وكذا كل إمام للمسلمين وحاكم- خذ من أموال هؤلاء الذين اعترفوا بذنوبهم وخلطوا عملا صالحا وآخر سيئا وربطوا أنفسهم في سارية المسجد وحلفوا لا يفكهم إلا رسول الله، ولما أطلقهم أحضروا أموالهم للنبي قائلين: هذه أموالنا التي منعتنا عن الجهاد معك فتصرف فيها بما شئت، وليس المراد من أموال هؤلاء فقط، بل من أموال المسلمين جميعا، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. خذ من أموالهم صدقة تطهرهم من دنس البخل، وشح النفس ولؤم الطبع، وقسوة القلب، وتزكيهم بها حتى تنمو نفوسهم على حب الخير، وتزرع في قلوبهم شجر العطف على الفقير والضعيف والمحتاج، بهذا تنمو النفس وترتفع. وصل عليهم، فالصلاة منك دعاء لهم بالخير، وسكن لنفوسهم من الاضطراب عقب الذنب الذي وقع بالمخالفة، والمعنى: ادع أيها الرسول للمتصدقين بالخير والبركات واستغفر الله لهم فدعاؤك واستغفارك سكن لهم واطمئنان لقلوبهم، وارتياح إلى قبول توبتهم والله سميع لكل قول ومجاز عليه، عليم بكل قصد ونية، وبما فيه الخير والمصلحة. الصدقة مطهرة للنفس، مرضاة للرب، وحصن للمال، وتقوية للسناد، والتوبة تغسل الذنب وتمحوه، وتجدد العهد وتقويه ولذلك جاءت بعد الأمر بأخذ الصدقة لبيان السبب في الجملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 12 ألم يعلم المؤمنون جميعا أو التائبون فقط أو من كان معهم ولم يتب أن السر في هذا كله هو التوبة، وأن الله يقبل التوبة متجاوزا عن ذنوب عباده، ويأخذ الصدقات ويثيب عليها ويضاعف أجرها، وقد ورد في الحديث: «إنّ الله يربى الصّدقة كما يربى أحدكم فلوّه» أى: ولد فرسه وهذا تمثيل لزيادة الأجر، وأن الله هو التواب الرحيم. وليس هذا الإيمان بالتمني، ولا التوبة باللسان فقط بل بما وقر في القلب وصدقه العمل، فالعمل هو المهم، وهو المعول عليه. وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله وسيجازيكم عليه جزاء الغنى القادر الكريم الواسع الفضل. وسيرى العمل رسوله والمؤمنون فيؤدون لكم حقوقكم في الدنيا، وأما في الآخرة فستردون إلى عالم الغيب الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم الشهادة وما حضر، وسيجازيكم على أعمالكم كلها إن خيرا فخير وإن شرا فشر. صنف آخر من المتخلفين [سورة التوبة (9) : آية 106] وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) المفردات: مُرْجَوْنَ مأخوذ من أرجيته إذا أخرته أو من أرجأته بمعنى أخرته ومنه قيل: المرجئة. لأنهم أخروا العمل.. المعنى: من تخلف عن غزوة تبوك: منهم المنافقون الذين اعتذروا بغير عذر، والذين لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 13 يعتذروا، ومنهم المؤمنون الذين اعترفوا بذنوبهم وتابوا، وقدموا أموالهم كفارة عما فرط منهم فتاب الله عليهم وعفا عنهم، ومنهم فريق حاروا في أمرهم وشق عليهم تخلفهم بغير عذر فأرجئوا توبتهم، ولم يفعلوا ما فعل أبو لبابة وأصحابه من ربط أنفسهم بسواري المسجد فأرجأ الله توبتهم حتى نزلت آيتا التوبة فيهم (117- 118) من هذه السورة. وآخرون من المتخلفين مرجون لأمر الله، ومؤخرون لحكمه، فحالهم غامضة عند الناس، لا يدرون ما ينزل في شأنهم؟ هل يخلصون في التوبة فيتوب الله عليهم ويقبل منهم توبتهم؟ أم لا؟ فيعذبهم ويحكم عليهم كما حكم على المنافقين، والترديد إنما هو بالنسبة للناس لا بالنسبة إلى الله. ولعل الحكمة في ذلك أن بقي الرسول والمؤمنون على حالهم فلا يكلمونهم ولا يخالطونهم، تربية لهم وتهذيبا لنفوسهم، وبيانا لجرم التخلف عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وإيثار الراحة والدعة عن الجهاد ونصر الرسول صلّى الله عليه وسلم. وهؤلاء المرجون لأمر الله هم الثلاثة: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة ابن الربيع. والله عليم بهم وبعباده كلهم وما به تصلح نفوسهم، وحكيم في تشريعه، وقد كان إرجاء قبول توبتهم لحكمة الله يعلمها!!. مسجد الضرار ولم بنى؟ وموقف الرسول صلّى الله عليه وسلّم منه [سورة التوبة (9) : الآيات 107 الى 110] وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 14 المفردات: ضِراراً الضرر: الذي لك به منفعة وعلى غيرك مضرة، والضرار: الذي ليس لك فيه منفعة وعلى غيرك المضرة، وعلى هذا خرج الحديث: «لا ضرر ولا ضرار» . وقيل: هما بمعنى واحد والجمع بينهما للتأكيد وَإِرْصاداً ترقبا وانتظارا أُسِّسَ التأسيس وضع الأساس الأول الذي يقوم عليه البناء شَفا الشفا الحرف والحد جُرُفٍ جانب الوادي ونحوه الذي يحفر أصله بما يجرفه السيل منه فيجتاح أسفله فيصير مائلا للسقوط هارٍ الضعيف المتصدع المتداعي للسقوط رِيبَةً شكا وحيرة. سبب النزول: هاجر النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى المدينة ونزل قباء على كلثوم بن الهدم شيخ بنى عمرو بن عوف وهم بطن من الأوس، وقباء هذه قرية على ميلين جنوب المدينة، وأقام بها رسول الله الاثنين، والثلاثاء، والأربعاء، والخميس، وأسس مسجد قباء: لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ. وقد اتخذ بنو عمرو بن عوف مسجد قباء، وبعثوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم أن يأتيهم فأتاهم وصلّى فيه، فحسدهم إخوانهم بنو غنم بن عوف وقالوا: نبنى مسجدا ونبعث إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يأتينا فيصلى لنا فيه كما صلّى في مسجد إخواننا، ويصلى فيه أبو عامر الراهب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 15 إذا قدم من الشام وَإِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فأتوا النبي صلّى الله عليه وسلم وهو يتجهز إلى تبوك فقالوا: يا رسول الله، قد بنينا مسجدا لذي الحاجة، والعلة، والليلة المطيرة، ونحب أن تصلى لنا فيه وتدعو بالبركة إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «إنّى على سفر وحال شغل فلو قدمنا لأتيناكم وصلّينا لكم فيه» : فلما انصرف من تبوك وهم بالذهاب إلى مسجد الضرار نزلت هذه الآيات. فدعا النبي مالك بن الدخشم وغيره فقال: «انطلقوا إلى هذا المسجد الظّالم أهله فاهدموه وأحرقوه» . وقد تم ذلك، والذين بنوا مسجد الضرار كانوا اثنى عشر منافقا من الأوس والخزرج. المعنى: والذين اتخذوا مسجدا لأغراض ستأتى جزاؤهم معروف، إذ كان غرضهم بالبناء ما سجله القرآن عليهم وهو: (أ) أنهم اتخذوه محاولين إيقاع الضرر بالمؤمنين (الذين بنى لهم رسول الله مسجد قباء قبل دخوله المدينة) وهؤلاء بنوا مسجدهم بجوارهم لإيقاع الضرر بهم والفتنة لهم. (ب) واتخذوه للكفر وتقويته والاجتماع لتدبير ما يكرهه الله ورسوله. فكان عش الفتنة، وبيت النفاق، ويقول المنافق: صليت فيه وما صلى، والكفر يطلق على الاعتقاد والعمل المنافيين للإيمان. (ج) وبنوه للتفريق كذلك بين المؤمنين فإنهم كانوا يصلون في مسجد واحد، فأصبحوا متفرقين في مكانين. (د) واتخذوه إرصادا وانتظارا لقدوم من حارب الله ورسوله حتى إذا قدم وجد المكان مهيأ ووجد أصحابه مستعدين لمحاربة رسول الله صلّى الله عليه وسلم. وقد اتفق المفسرون على أن الذي أغراهم ببناء هذا المسجد هو أبو عامر الراهب من الخزرج، وحكموا أنه كان رجلا تنصر في الجاهلية وعلم علم أهل الكتاب وكانت له مكانة في قومه- فلما قدم النبي المدينة، واجتمع المسلمون حوله وأصبح للإسلام كلمة- أكل الحسد قلب الرجل، وأعلن الحرب على النبي صلّى الله عليه وسلم، وأقسم ليحاربنه مع كل من يحاربه، وقد حاربه في أحد وحنين، ولما رأى نور الإسلام يرتفع ارتفاع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 16 الشمس في الضحى فر إلى الشام وأرسل للمنافقين من قومه أن استعدوا بما استطعتم من قوة وسلاح، وابنوا لي مسجدا فإنى سآتى لكل بجند قيصر لمحاربة محمد وأصحابه، ولقد صدق المنافقون قوله وبنوا المسجد للضرر وللكفر وللتفريق بين المؤمنين، ولانتظار أبى عامر الراهب ليحارب الله ورسوله. وليقسمن بعد ذلك كله: ما أرادوا إلا الحسنى وأنهم بنوه للضرورة والحاجة التي تلم بالضعفاء، وأنهم بنوه رفقا بالمسلمين وتيسيرا لصلاة الجماعة على الضعفاء والمعذورين الذين يحبسهم المطر في الليلة المطيرة، كذبوا!! والله يشهد إنهم لكاذبون في ادعائهم، منافقون في أعمالهم!! أما أنت أيها الرسول فلا تقم فيه أبدا على معنى لا تصل فيه أبدا، والنهى عن القيام يفسر بالنهى عن الصلاة كما روى عن ابن عباس، وانظر إلى التقييد بقوله أبدا وهو ظرف يستغرق الزمن المستقبل كله، ونهى النبي صلّى الله عليه وسلم يشمل المؤمنين كذلك. لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى أى: والله لمسجد كان أساسه والغرض من بنائه من أول يوم بنى هو تقوى الله بإخلاص العبادة فيه، وجمع المؤمنين على محبة رسول الله والعمل على وحدة الإسلام، والتعاون على البر والتقوى لمسجد هذا وصفه أحق بالقيام فيه من غيره خصوصا مسجد هؤلاء المنافقين الذين بنوه لغرض حقير كشف الله سترهم فيه، وبين مقصودهم منه. وهل هذا المسجد هو مسجد قباء أو مسجد الرسول في المدينة أو الكلام يشمل الاثنين؟ والله أعلم وإن كان الظاهر أن الكلام يشمل الاثنين لوجود الوصف فيهما، هذا المسجد فيه رجال يعمرونه بالاعتكاف والصلاة مخلصين لله قانتين، يحبون أن يتطهروا من دنس المعاصي، ورجس العبودية، وقذارة النجاسة فالمتطهرون طهارة حسية ومعنوية. والله يحب المتطهرين المبالغين في الطهارة القلبية والروحية، والجسدية والمعنوية وهؤلاء هم الكاملون في الإنسانية، أما محبة الله لهم فهذا شيء هو أعلم به إلا أنا نعرف من الحديث أن الله يحب من عباده الصالحين الموفقين إلى الخير «لا يزال عبدى يتقرّب إلىّ بالنّوافل حتّى أحبّه فإذا أحببته كنت سمعه الّذى يسمع به وبصره الّذى يبصر به» إلى أخر الحديث الشريف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 17 وقد ضرب الله المثل للمنافقين وأعمالهم المنهارة، وللمؤمنين وأعمالهم المؤسسة على الأساس المكين بطريق الإيجاز المحكم فقال ما معناه: أفمن كان مؤمنا صادقا لا يقصد بعمله إلا وجه الله، ويتقى الله في كل عمل، كمن هو منافق مرتاب مراء كذاب لا يبغى بعمله إلا الشيطان والهوى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ «1» ؟ فالمنافق يفضحه الله وينال جزاءه السيئ في الدنيا والآخرة، والمؤمن ينال جزاءه الحسن في الدنيا والآخرة. أفمن أسس بنيانه على أساس التقوى، والإيمان والإخلاص، وهو أساس قوى متين نافع في الدنيا والآخرة، كمن أسس بنيانه على أساس ضعيف منهار! فالأول مثل المؤمن والثاني مثل للمنافق، وخلاصة المثلين أن الإيمان الصادق وما يتبعه من العمل المثمر النافع كالبناء المتين المؤسس الذي يقي صاحبه عوادي الزمان. وأن النفاق وما يستلزم من العمل الفاسد هو الباطل الزاهق وهو كالبناء الذي يبنى على الجرف المنهار لا ينفع صاحبه ولا يقيه سوءا، بل يضره ضررا بليغا حيث ألهاه عن العمل المثمر النافع. والله لا يهدى القوم الظالمين لأنفسهم ولغيرهم. لا يزال بنيانهم الذي بنوه ريبة في قلوبهم، يملؤها شكا ونفاقا وحسرة وألما وخوفا من الفضيحة وهتك الستر، فهم دائما في ريبة وشك يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ «2» . لا يزال كذلك ولا يزال هدمه سبب شك ونفاق زائد على شكهم ونفاقهم إلا أن تقطع قلوبهم قطعا، تتفرق أجزاء فحينئذ يسلون عنه، وأما ما دامت سالمة فهم في ريبة وشك والله عليم بخلقه حكيم في صنعه.   (1) سورة السجدة آية 18. (2) سورة التوبة آية 64. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 18 من هم المؤمنون الكاملون؟ [سورة التوبة (9) : الآيات 111 الى 112] إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) روى القرطبي وغيره من المفسرين أن هذه الآية نزلت في البيعة الثانية- بيعة العقبة الكبرى- وكان فيها الأنصار نيفا وسبعين، وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند العقبة فقال عبد الله بن رواحة للنبي: اشترط لربك ولنفسك ما شئت، فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم، قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: «الجنّة. قالوا: ربح البيع لا نقيل ولا نستقيل» فنزلت الآية إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ. وهذه الآية وأمثالها تمثيل، حيث عبر عن إثابة الله المؤمنين الباذلين أنفسهم وأموالهم في سبيله بأن لهم الجنة: عبر عن ذلك بالشراء والمعاوضة وهذا تفضل منه وكرم، وترغيبا في الجهاد ببيان فضله إثر بيان حال المتخلفين عنه وهم المنافقون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 19 المعنى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسا هو خلقها وأموالا هو رزقها بأن لهم الجنة الثابتة لهم الخاصة بهم، إنه بيع الله مربح للمؤمنين، وكأن سائلا سأل وقال: كيف يبيعون أنفسهم وأموالهم بالجنة؟ فقيل: يقاتلون في سبيل الله باذلين النفس والنفيس من المال وغيره فيكون منهم أحد أمرين، إما قتل للأعداء، وإما استشهاد في سبيل الله فلا فرق بين القاتل والمقتول ما دام القتال لله وحده. وعدهم ربهم بذلك وعدا حقا مؤكدا أوجبه على نفسه، وجعله حقا ثابتا لهم في التوراة والإنجيل والقرآن، وليس لك أن تقول أين هذا في التوراة والإنجيل؟ بعد ما ثبت أن الموجود منها سوف ومبدل، وأنهم نسوا حظا منه، وأوتوا نصيبا منه كما في القرآن. راجع سورة المائدة آية: 13، 14. ومن أوفى بعهده من الله؟ ومن أصدق قيلا منه، وهو القادر على كل شيء الحكيم الخبير بعباده. وإذا كان كذلك فاستبشروا وافرحوا غاية الفرح بما فزتم به من الجنة مثوبة من الله وفضلا على بيعكم أنفسكم وأموالكم لله، وذلك هو الفوز العظيم الذي لا فوز أعظم منه. والمؤمنون الباذلون هم التائبون توبة خالصة كريمة صادقة من كل ذنب جل أو صغر، العابدون الله ربهم المخلصون له في جميع عبادتهم ومعاملتهم لا يخشون إلا هو، ولا يرجون إلا هو، ولا يستعينون إلا به إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [سورة الفاتحة آية 5] . الحامدون الله ربهم في السراء والضراء إذ كل ما يصيب المسلم فهو بقضاء الله وقدره لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ «1» وهذا لا يمنع الأخذ بالأسباب، السائحون في الأرض يجوبونها لغرض شريف ومعنى كريم كالجهاد في سبيل الله أو طلب العلم، أو التجارة أو الكسب الحلال، أو لاكتشاف ما في الملكوت من معاني عظمة الله وقدرته والوقوف على أحوال الناس للعبرة والعظة، وقيل المراد بالسياحة: الصوم لقوله صلّى الله عليه وسلم «سياحة أمّتى الصّوم» .   (1) سورة الحديد آية 23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 20 الراكعون الساجدون في الصلاة، والآمرون بالمعروف شرعا والناهون عن المنكر، وهاتان الصفتان من لوازم الجماعات وقوامها. والحافظون لحدود الله كلها، وحدود الله هي شرائعه وأحكامه التي تشمل ما يجب على الفرد والجماعة وجوبا عينيا أو كفائيا، ولعل ذكر هذا الوصف بالواو وحده لأنه جماع الأصناف كلها وكأن ما مضى كله نوع وهو وحده نوع. ها هي صفات المؤمنين الكاملة، وثوابهم الكامل، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أى: أن الآية عامة في كل مجاهد في سبيل الله موصوف بهذه الصفات إلى يوم القيامة. الاستغفار للمشركين ومتى يؤاخذ الله على الذنب؟ [سورة التوبة (9) : الآيات 113 الى 116] ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (116) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 21 روى مسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال: لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله فوجد عنده أبا جهل وعبد الله بن أمية فقال: يا عم. قل: لا إله إلا الله. كلمة أشهد لك بها عند الله، فقال أبو جهل: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ ولم يزل يكرر رسول الله: ولكن الله لم يوفق أبا طالب وقال، هو على ملة عبد المطلب. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «أما والله لأستغفرنّ لك ما لم أنه عنك» فنزلت الآية. ولا تنس موقف أبى طالب مع النبي ونصرته له، وفي روايات أخرى أنها نزلت في استغفار بعض الصحابة لأقاربهم. وفي ظني أن الرواية الأولى ضعيفة لأن سورة التوبة من آخر القرآن نزولا. المعنى: ما كان من شأن النبي والمؤمنين أى: ما يصح أن يصدر من النبي من حيث كونه نبيا ومن حيث كونهم مؤمنين لا يصح منهم أن يدعو الله طالبين المغفرة للمشركين بعد قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ [سورة النساء آية 48] وبعد قوله في سورة البراءة: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ، وبعد قوله- تعالى-: إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ [سورة الممتحنة الآية 4] وهذا نفى، والمراد منه النهى وهو أبلغ لأن نفى الشأن أبلغ من نفى الشيء نفسه. ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين مطلقا ولو كانوا أولى قربى، وعند عدمها من باب أولى، هذا الحكم يسرى من بعد ما تبين لهم أنهم أعداء الله وذلك بعد الموت، أما قبله فإن كان الاستغفار بمعنى طلب الهداية والتوفيق للإسلام فجائز. وإن كان بمعنى المغفرة بلا إسلام فغير جائز، وإنما يظهر أن الكافر من أصحاب الجحيم وأنه عدو لله بموته على الشرك أو بوحي من الله. وكان استغفار إبراهيم لأبيه آزر بقوله: وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ «1» بمعنى وفقه للإسلام كما يفهم من تعليله إنه كان من الضالين وما كان استغفار إبراهيم إلا عن موعدة وعدها إياه بقوله لأستغفرن لك ربي وهذه الموعدة مبنية على عدم تبين أمره فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، وعلى هذا فمن استغفر لحى يرجو إيمانه يقصد سؤال الله له الهداية فلا بأس.   (1) سورة الشعراء آية 86. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 22 قال ابن عباس: لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات، فلما مات وتبين له أنه عدو لله وأنه من أصحاب الجحيم تبرأ منه ومن قرابته وترك الاستغفار له كما هو مقتضى الإيمان. إن إبراهيم لأواه كثير التأوه والتحسر، والخشوع، والدعاء لله، حليم لا يستفزه غضب ولا جهل ولا طيش به هو صبور عطوف صفوح، وهذا تذيل يفيد اتصاف إبراهيم بما ذكر، وأنه يأتسى به في ذلك. لما نزل المنع من الاستغفار خاف المؤمنون من المؤاخذة بما صدر عنهم قبل البيان وقد مات جماعة منهم قبل النهى فأنزل الله وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً.. الآية. وما كان الله ليقضى على قوم بالضلال ويحكم عليهم بذلك. بعد إذ هداهم ووفقهم للإيمان الكامل بمجرد قول أو عمل صدر عنهم خطأ في الاجتهاد حتى يتبين لهم ما يتقون الله به بيانا شافيا واضحا، إن الله بكل شيء عليم، فالله لا يؤاخذهم إلا بعد أن يبين لهم شريعته ويوقفهم على حكمه. واعلموا أن الله له ملك السموات والأرض بيده الأمر كله، يحيى يميت. لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه. فلا تهمنكم القرابة والصلة ولا تخشوا إلا الله، وما لكم ولى ولا نصير من غيره- سبحانه وتعالى-. التوبة وشروطها، والصدق وفضله [سورة التوبة (9) : الآيات 117 الى 119] لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 23 المفردات: ساعَةِ الْعُسْرَةِ المراد: وقت العسرة أى: الشدة يَزِيغُ يميل عن الصراط المستقيم خُلِّفُوا أخر أمر هؤلاء الثلاثة مدة ثم تاب الله عليهم بعد ذلك، فهم قد خلفوا عن أبى لبابة وأصحابه في قبول التوبة بِما رَحُبَتْ أي: برحبها وسعتها. المعنى: للتوبة معنيان: أولهما العطف والرضا عن العباد وعن أعلاهما. ثانيهما: قبول التوبة منهم بعد توفيقهم إليها، وكانت توبة الله على النبي صلّى الله عليه وسلم من النوع الأول. وقد فسر البعض توبة الله على النبي صلّى الله عليه وسلم حيث أذن لبعض المنافقين وكان الأولى الانتظار عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا.. الآية وأما المهاجرون والأنصار فقد كانت غزوة تبوك في ساعة العسرة والشدة، وقد تجاوز الله عن هفواتهم وتثاقلهم عن المسير (وهذا كله من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين) . وفي الكشاف هذه الآية مثل قوله- تعالى-: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ «1» وهذا حث للمؤمنين على التوبة، وأنه ما من مؤمن إلا وهو محتاج إليها حتى النبي المعصوم والمهاجرين والأنصار، وفي ذلك إبانة لفضلها ومقدارها عند الله، وأنها صفة الأنبياء والسابقين، وهذا كلام حسن وتخريج جميل.   (1) سورة الفتح آية 2. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 24 لقد تاب الله على النبي صلّى الله عليه وسلم وعلى المهاجرين والأنصار مما ألم به بعضهم، وذلك لأنهم اتبعوا النبي صلّى الله عليه وسلم ساعة العسرة والشدة، ولبوا نداء الرسول صلّى الله عليه وسلم في غزوة تبوك. وكانت عسرة في الزاد حتى اقتسم بعضهم التمرة، وفي بعض الروايات كانوا يمتصونها وقد تزود بعضهم بحفنة شعير مسوس وتمر فيه دود، وكانت عسرة في الماء حتى أنهم نحروا البعير وعصروا كرشه ليبلوا به ألسنتهم، وكانت عسرة في الظهر حتى كان العشرة يعتقبون بعيرا واحدا، وعسرة في الزمن إذ كان الوقت في نهاية الصيف حيث يشتد الحر ويكثر القيظ والعطش، وفي أخبار السير الشيء الكثير عن الشدة التي كانوا فيها. أولئك اتبعوا النبي صلّى الله عليه وسلم من بعد ما قرب أن يزيغ قلوب فريق منهم عن صراط الإسلام بعصيان الرسول، والتخلف بغير عذر مقبول، والظاهر والله أعلم أنهم المتخلفون بغير عذر، ولا نفاق معهم وهم الذين خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا واعترفوا بذنوبهم فتاب الله عليهم. إنه بهم رءوف رحيم. أما الثلاثة الذين خلفوا أى: أرجئوا حتى ينزل فيهم قرآن وهم: كعب بن مالك، وهلال بن أمية، ومرارة بن الربيع. فقد تاب الله عليهم بعد أن أرجئوا خمسين يوما بعد مجيء الرسول إلى المدينة، وخير ما يبين لنا هذه الآية وما بعدها حديث كعب ابن مالك المروي في كتب الحديث وأشهر كتب التفسير وخلاصته: روى الزهري عن عبد الله بن كعب بن مالك قال- أى عبد الله-: سمعت عن كعب يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله في غزوة تبوك. قال كعب ما معناه: لم أتخلف عن رسول الله في غزوة غزاها قط إلا في غزوة تبوك، غير أنى تخلفت في بدر، ولم يعاتب أحد عن التخلف عنها لخروج النبي صلّى الله عليه وسلم إلى العير إلخ ما هو معروف.. تخلفت عن غزوة تبوك ولم يكن أحد أقوى منى ولا أيسر، وكانت عندي راحلتان وكان رسول الله قلما يريد غزوة إلا ورى بغيرها إلا هذه فكانت في حر شديد وسفر بعيد، ومع عدو كثير فجلا للمسلمين أمرهم ليأخذوا حذرهم، ويتأهبوا لغزوهم، وغزا رسول الله صلّى الله عليه وسلم تلك الغزوة حين الثمار والظلال وأنا إليها أصعر (أى أميل) وتجهز معه المسلمون: وطفقت أعدو لكي أتجهز فأرجع ولا أقضى، فأقول أنا قادر على ذلك إن أردت!! فلم يزل ذلك يتمادى حتى استمر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 25 بالناس الجد، فأصبح رسول الله غاديا والمسلمون معه ولم أقض من جهازي شيئا، وعللت نفسي بأنى سألحق بعد يوم أو يومين، ولم يزل يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو، فهممت أن أرتحل فأدركهم وليت أنى فعلت، ثم لم يقدر لي ذلك، فطفقت وقد خرج الناس يحزنني أنى لا أرى لي أسوة إلا رجلا مغموصا عليه في النفاق (مطعونا عليه في دينه) أو معذورا من ضعيف أو مريض. قال كعب: ولما بلغني أن رسول الله قفل راجعا حضرني بثي وحزنى فطفقت أتذكر الكذب وأقول: بم أخرج من سخطه غدا وأستعين على ذلك بكل ذي رأى من أهلى فلما قيل لي إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد أظل قادما زاح عنى الباطل حتى عرفت أنى لن أنجو منه بشيء أبدا، فأجمعت صدقه، وكان إذا جاء من سفره ركع ركعتين في المسجد ثم جلس للناس. فلما فعل جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له فقبل منهم رسول الله علانيتهم وبايعهم واستغفر لهم، ووكل سرائرهم إلى الله، حتى جئت فلما سلمت تبسم تبسم المغضب، وقال لي: «ما خلفك؟! ألم تكن قد ابتعت ظهرك؟» قال: قلت يا رسول الله: إنى والله لو جلست عند غيرك من أهل الدنيا لرأيت أنى سأخرج من سخطه بعذر، ولقد أعطيت جدلا (فصاحة وقوة في البيان) ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك اليوم حديث كذب ترضى به عنى ليوشكن الله أن يسخطك على. ولئن حدثتك حديث صدق تجد على فيه (تغضب على فيه) إنى لأرجو فيه عقبى الله. يا رسول الله: ما كان لي عذر. والله ما كنت قط أقوى ولا أيسر منى حين تخلفت عنك. فقال رسول الله: «أمّا هذا فقد صدق فقم حتّى يقضى الله فيك» فقمت وأنبنى ناس لسلوكى هذا المسلك، ثم قلت لهم: هل لقى هذا معى أحد؟ قالوا: نعم لقيه معك مرارة بن الربيع، وهلال بن أمية الواقفي. قال: فذكروا له رجلين صالحين قد شهدا بدرا. ونهى رسول الله صلّى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا نحن الثلاثة من بين من تخلف عنه. قال: فاجتنبنا الناس وتغيروا لنا حتى تنكرت لي في نفسي الأرض فما هي بالأرض التي أعرف، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة، فأما صاحباي فاستكانا وقعدا في بيوتهما يبكيان، وأما أنا كنت أخرج إلى الصلاة وأطوف في الأسواق ولا يكلمني أحد، وآتى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأسلم عليه وهو في مجلسه بعد الصلاة فأقول في نفسي: هل حرك شفتيه برد السلام أم لا؟!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 26 وكان النبي صلّى الله عليه وسلم بعد الأربعين أرسل لهم من يبلغهم باجتناب نسائهم ففعلوا واستأذنت امرأة هلال في خدمته فأذن لها لكبره وضعفه قال كعب بن مالك: فقلت لزوجي: الحقي بأهلك. ومكثت عشر ليال على ذلك وبينما أنا في صلاة الفجر وإذا بالبشرى تزف إلى من كل جانب: أن الله قد تاب علينا وتلقاني الناس فوجا فوجا يهنئوننى بالتوبة. وهكذا التوبة الصادقة، التوبة النصوح أن تضيق على التائب الأرض بما رحبت وتضيق عليه نفسه فلم يعد للسرور مكان فيها، وأن يعتقد ألا ملجأ من الله وعذابه إلا إليه، وما يتبع ذلك من الندم والعزم على عدم الرجوع إلى الذنب أبدا، ورد المظالم إلى أهلها إن كانت. ثم تاب الله عليهم ووفقهم للتوبة المقبولة ليتوبوا ويرجعوا إليه رجوعا خالصا إن الله هو التواب الرحيم. وقد كان للصدق أثر كبير في قبول توبة هؤلاء الثلاثة، ولذا أردف الله توبتهم بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ المخلصين. وإنى أختم الكلام على هذه الآية الكريمة بقول النبي صلّى الله عليه وسلم: «عليكم بالصّدق فإنّ الصّدق يهدى إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدى إلى الجنة، وما يزال الرّجل يصدق ويتحرّى الصّدق حتّى يكتب عند الله صدّيقا» والكذب على ضد ذلك ففي الحديث: «إيّاكم والكذب فإنّ الكذب يهدى إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدى إلى النّار، وما يزال الرّجل يكذب ويتحرّى الكذب حتّى يكتب عند الله كذّابا» . وجوب الجهاد مع رسول الله وجزاؤه [سورة التوبة (9) : الآيات 120 الى 121] ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً وَلا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 27 المفردات: ظَمَأٌ عطش نَصَبٌ تعب ومشقة مَخْمَصَةٌ جوع وادِياً مسيل الماء في متعرجات الجبال وأغوار الآكام. المعنى: الجهاد في سبيل الله أعلى شعبة في الإيمان، وأقدس عمل يقوم به الفرد ليرد عادية العدو عن وطنه وليرسى قواعد الحق والعدل، والجهاد مع رسول الله شرف كبير، وسمو عظيم ما كان يصح ولا ينبغي لأحد أن يتخلف عنه خاصة أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب كبعض أفراد قبيلة مزينة، وجهينة، وأشجع، وأسلم، وغفار، نعم ما كان يصح لهؤلاء وهم سكان عاصمة الإسلام وجيران الرسول والمتمتعون بصحبته أن يتخلفوا عنه، ويرغبوا بمتاع أنفسهم وراحتهم، عن بذلها فيما يبذل فيه نفسه الشريفة من الجهاد وتحمل المشاق في سبيل الله وكيف يكون ذلك منهم؟ وفي الحديث «لا يكمل إيمان المرء حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه وماله» . وللزمخشري عبارة جميلة في تفسير هذه الآية بكشافه.. وهذا النفي يفيد النهى عن التخلف ووجوب الجهاد مع رسول الله، ذلك الوجوب بسبب أن لهم فيه أجرا عظيما، فلا يصيبهم ظمأ ولا تعب، ولا مشقة من جوع وألم، في سبيل الله، إلا كان لهم بذلك صدقة، ولا يطئون موطئا من أرض الكفر يغيظ الكفار، ولا ينالون من عدو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 28 نيلا من قتل أو أسر أو هزيمة أو غنيمة إلا كتب لهم بذلك كله عمل صالح، وثواب جزيل يكافئ ما قدموه وزيادة، إن الله لا يضيع أجر المحسنين، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟!! ولا ينفقون نفقة صغيرة مهما كانت، ولا كبيرة مهما عظمت، ولا يقطعون واديا بالسير فيه إلى العدو إلا كتب لهم به الجزاء الأوفى ليجزيهم الله أحسن الجزاء على ما كانوا يعملون. فإن الجهاد في الله فريضة تحفظ الإيمان ووطن الإسلام، وليست هناك أمة تترك الجهاد إلا ذلت واستعبدت. طلب العلم فريضة [سورة التوبة (9) : آية 122] وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) المفردات: طائِفَةٌ جماعة لِيَتَفَقَّهُوا ليتعلموا الفقه والأحكام الشرعية. لما تعرض القرآن الكريم للمتخلفين عن الجهاد مع النبي صلّى الله عليه وسلم وناقشهم نقاشا عنيفا كشف فيه أستار النفاق، ولام من تثاقل عن الغزو من المؤمنين ووبخهم على التخلف، صار المسلمون إذا أرسل النبي سرية من السرايا خرجوا جميعا وتركوا النبي وحده بالمدينة. فنزلت الآية ترتب أمورهم وتنظم جماعتهم، قال ابن عباس هذه الآية مخصوصة بالسرايا التي يرسلها الرسول، وما قبلها كقوله تعالى مثلا: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مخصوصة بحالة النفير العام إذا ما خرج النبي صلّى الله عليه وسلّم للقتال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 29 المعنى: وما كان ينبغي للمؤمنين من حيث هذا الوصف أن يخرجوا للقتال جميعا [وهذا في غير النفير العام كما سبق] أى: في السرايا فإن الخروج فيها فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين. فلولا نفر وخرج للقتال من كل فرقة كبيرة كالقبيلة أو البلد جماعة قليلة يقدر عددها بقدر الظروف والملابسات، وذلك ليتأتى للمؤمنين في جملتهم التفقه في الدين والوقف على أسرار التنزيل، فيكون حول النبي صلّى الله عليه وسلّم جماعة يتعلمون منه الأحكام، ويأخذون عنه القرآن حتى إذا ما رجع المجاهدون من الميدان بلغوهم ما نزل من القرآن وأوقفوهم على ما جد من الأحكام، وذلك كله رجاء أن يحذروا عقاب الله ويخافوا بطشه. ومن هنا نعلم أن الآيات تشير إلى وجوب الجهاد العام إذا ما خرج النبي صلّى الله عليه وسلم وكذا الحاكم العام للغزو أى: في حالة التغير العام وهذه تقدر بظروفها أما في غيرها فيخرج للجهاد بعض الشعب لا كله. وتشير الآية إلى أن تعلم العلم أمر واجب على الأمة جميعا وجوبا لا يقل عن وجوب الجهاد والدفاع عن الوطن واجب مقدس، فإن الوطن يحتاج إلى من يناضل عنه بالسيف وإلى من يناضل عنه بالحجة والبرهان، بل إن تقوية الروح المعنوية، وغرس الوطنية وحب التضحية، وخلق جيل يرى أن حب الوطن من الإيمان، وأن الدفاع عنه واجب مقدس. هذا أساس بناء الأمة، ودعامة استقلالها. وتشير الآية الكريمة إلى أن غاية طلب العلم هو التفقه في الدين، وفهم أسراره فهما تصلح به نفس العالم حتى يكون ربانيا وقرآنيا، وأن أثر ذلك في الخارج هو الدعوة إلى الله وإنذار قومك إذا رجعت إليهم، فتعلمهم، وتثقفهم، وتهديهم، وتربيهم على حب الخير، وعلى حب العمل والجد، وأن الله يحب المؤمن القوى في نفسه وعقله وخلقه وعلمه وبدنه، وهذه هي مهمة الرسل الكرام. وإن وضع الآية التي تشير إلى العلم والتعلم في وسط آيات الجهاد والقتال لمن المعجزات التي كشف عنها هذا العصر. فإن الحروب اليوم تعتمد على العلم والفقه الحربي أكثر مما تعتمد على السلاح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 30 توجيهات في قتال الكفار [سورة التوبة (9) : آية 123] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) المفردات: يَلُونَكُمْ يتصلون بكم بالجوار وقرب الديار غِلْظَةً شدة وخشونة. المعنى: يا أيها المؤمنون قاتلوا الكفار الذين يدنون منكم، وتتصل بلادهم ببلادكم فإن القتال شرع في الإسلام لتأمين حرية الدعوة إليه، وتأمين سلامة دولته مع الحرية في الدين، وأنه لا إكراه فيه أبدا، وجبران المسلمين من الروم والفرس والقبائل العربية الخاضعة لهم كثيرا ما كانت تغير على أطراف الدولة الإسلامية، وتؤلب القبائل ضد الدعوة المحمدية، ولا تنسى ما فعله اليهود في خيبر وغيرها، والدعوة الإسلامية أساسها الدعوة إلى الأقرب فالأقرب، لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها. وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ فهي وإن كانت دعوة عامة، وأرسل النبي إلى الناس كافة وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أى: لأنذر العرب به ومن يبلغه القرآن في كل زمان ومكان إلا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سار هو وأصحابه من بعده على دعوة الأقرب فالأقرب وقتال الأقرب فالأقرب، ولهذا حكم سياسية واقتصادية وحربية يعرفها أصحاب الحروب والدعوات. يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار، وليجدوا فيكم غلظة وشدة ويقابلوا فيكم قوما أولى بأس وعزيمة حتى تنخلع قلوبهم. وتضطرب نفوسهم فترجع إلى هدى القرآن تتفهمه. واعلموا أن الله مع المتقين يعينهم معونة نصر ومساعدة، والمتقون الله هم المؤمنون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 31 العاملون المخلصون، العابدون الحامدون، المحافظون على حدود الله الحاكمون بقوانين الإسلام. المنافقون واستقبالهم القرآن [سورة التوبة (9) : الآيات 124 الى 127] وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَماتُوا وَهُمْ كافِرُونَ (125) أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127) المفردات: إِيماناً الإيمان هو التصديق الجازم المقترن بإذعان النفس المصحوب بالعمل يَسْتَبْشِرُونَ من البشرى وهي السرور والفرح مَرَضٌ شك ونفاق رِجْساً كفرا ونفاقا يُفْتَنُونَ الفتنة الاختبار والابتلاء. المعنى: النفاق مرض خبيث يدفع صاحبه إلى العمل الرديء وهكذا كان المنافقون أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا ما أنزلت سورة من القرآن وبلغتهم، فمنهم من يقول لأصحابه من المنافقين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 32 أو لضعفة المؤمنين، أيكم زادته هذه إيمانا بأن القرآن من عند الله وتصديقا بأن محمدا صادق في دعواه؟ ولا شك أن الإيمان بمعنى التصديق الجازم المقرون بإذعان النفس يزيد بنزول القرآن، وبسماعه وتلاوته خاصة من النبي صلّى الله عليه وسلم. قال الله- تعالى- جوابا لسؤالهم، فأما الذين آمنوا حقا بالله ورسوله، وحل نور الإسلام في قلوبهم. فزادتهم هذه السورة بل الآية الواحدة إيمانا على إيمانهم ويقينا على يقينهم، واطمئنانا على اطمئنانهم، والحال أنهم يستبشرون ويفرحون. وأما الذين في قلوبهم مرض وشك ونفاق دعاهم إلى إظهار الإسلام وإبطال الكفر، فهذه السورة أو غيرها زادتهم رجسا على رجسهم. وكفرا على كفرهم، ونفاقا على نفاقهم حتى استحوذ عليهم الرجس والكفر والنفاق وماتوا وهم كافرون. أيجهلون هذا ويغفلون عن حالهم؟ وقد توالت عليهم الاختبارات، وحلت بهم الإنذارات تلو الإنذارات، التي يظهر بها الإيمان من النفاق، ويتميز بها الحق من الباطل، هذه الفتن والاختبارات كانت بالآيات التي هي دالة على صدق الرسول فيما يبلغه عن ربه، وهذه الآيات التي نصحتهم وكشفت سرهم، وأبانت حقيقتهم، أليست هذه نذرا كافية في أنهم يرتدعون عن نفاقهم الباطل؟ ثم بعد هذا كله لا يتوبون ولا هم يتعظون. وإذا ما أنزلت سورة على النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم جلوس في مجلسه نظر بعضهم إلى بعض نظر لؤم وخبث، وأخذوا يتغامزون بالعيون وذلك لفساد قلوبهم وسوء سريرتهم. ينظرون إلى بعض ثم يقولون: هل يراكم من أحد إذا نحن انصرفنا ثم انصرفوا وخرجوا لواذا متسللين، تبا لهم ثم تبا. صرف الله قلوبهم عن الخير والنور، وذلك بأنهم قوم لا يفقهون. نعم لا يفقهون الدعوة وسرها، وما فيها لأن قلوبهم في أكنة لا يصل إليها نور أبدا، فهم معرضون يجعلون أصابعهم في آذانهم، من شدة الحقد، وفساد الطبع وخبث الطوية، ألا قاتلهم الله أنى يؤفكون، وهنا فرق بين من يحاول الفهم والحكم الصحيح، وبين من يعرض ولا يقبل النظر في الآيات أبدا، والمنافقون من النوع الثاني. أما المؤمنون فإذا تليت عليهم آياته وجلت قلوبهم، وخضعت أعناقهم، وغابت نفوسهم عن كل ما حولهم فلا يسمعون إلا القرآن!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 33 الرسول صلّى الله عليه وسلّم ونفسه الكريمة [سورة التوبة (9) : الآيات 128 الى 129] لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) المفردات: عَزِيزٌ عَلَيْهِ يقال: عز على فلان الأمر واشتد عليه ما عَنِتُّمْ العنت المشقة ولقاء المكروه حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ الحرص شدة الرغبة في الحصول على المفقود وشدة العناية بحفظ الموجود رَؤُفٌ الرأفة أخص من الرحمة، وتكون مع الضعف والشفقة والرقة ولذا قالوا: رأف بولده وترأف به. وأما الرحمة فعامة تشمل الجميع، وقيل: هما بمعنى واحد. المعنى: أيها العرب ما لكم لا تسرعون في الدخول إلى الدين أفواجا والتصديق بذلك النبي العربي الأمى؟! فأنتم أولى الناس به. ولذا اختار جمهور المفسرين أن يكون الخطاب في الآية للعرب إذ المنة عليهم أعظم، والحجة عليهم ألزم. تالله لقد جاءكم أيها العرب رسول منكم تعرفون لغته وخلقه، وتعلمون من شأنه ما لا يعلمه غيركم، هذا النبي الكريم موصوف بصفات كلها تدعو إلى تصديقه واتباعه خاصة من العرب، وهذا لا يمنع أنه أرسل للكل قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [سورة الأعراف الآية 158] وهو رحمة للناس بشيرا ونذيرا. وصفاته صلّى الله عليه وسلّم التي أثبتها له القرآن في هذه الآية: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 34 (أ) عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ، شديد على طبعه الكريم عنتكم ومشقتكم في الدنيا والآخرة إذ هو منكم يتألم لألمكم ويفرح لفرحكم. (ب) حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ. نعم كان صلّى الله عليه وسلّم حريصا على إيمان الناس جميعا خاصة العرب لأن إيمان العرب مدعاة لإيمان غيرهم إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ «1» . فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً «2» . (ج) بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. وكيف لا يكون كذلك وكل تعاليمه ونصائحه تهدى إلى الخير، وترنو إلى الإصلاح والرشاد للأمة الإسلامية في العاجل والآجل، وانظر يا أخى وفقك الله إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ «3» وإلى قوله هنا: بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ ولذا قال الحسين ابن الفضل: لم يجمع الله- سبحانه- لأحد من الأنبياء اسمين من أسمائه إلا النبي صلّى الله عليه وسلم. فإن تولوا واعرضوا عنك بعد هذا كله فقل حسبي الله وحده لا إله إلا هو، عليه وحده توكلت، واعتمدت، وفوضت أمرى إليه، وكيف لا يكون ذلك؟ وهو رب العرش العظيم- سبحانه وتعالى-.   (1) سورة النحل آية 37. (2) سورة الكهف آية 6. (3) سورة البقرة آية 143. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 35 سورة يونس- عليه السلام- مكية كلها، وقيل إلا آيتي 94، 95 فمدنيتان والصحيح الأول، وعدد آياتها 109 آية. وفيها مناقشة الكفار في العقائد الدينية وتوجيه النظر إلى آيات الله الكونية، وسرد بعض القصص للعظة والعبرة، وخاصة موسى مع فرعون، وما يتخلل ذلك من ذكر لطبيعة الإنسان، ووصف للدنيا، وانتقال إلى وصف مشاهد القيامة المؤثرة وما يتبع ذلك من إثبات للبعث، ووصف للقرآن وأثره في النفوس ومناقشة منكريه. [سورة يونس (10) : الآيات 1 الى 2] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2) المفردات: الر تقرأ هذه الحروف الثلاثة بأسمائها ساكنة غير معربة هكذا: ألف. لام. را.، وفيها الأقوال التي في أول سورة البقرة الْحَكِيمِ أى: المحكم أَوْحَيْنا الإيحاء إعلام من خفاء أَنْذِرِ الإنذار إعلام مع التخويف من العاقبة وَبَشِّرِ البشارة إعلام مع التبشير بالثواب قَدَمَ صِدْقٍ المراد سابقة وفضلا ومنزلة رفيعة، سميت قدما لأن السعى إلى هذه الفضائل بالقدم كما سميت النعمة يدا، وإضافتها للصدق لتحققها، والصدق اسم جامع للفضائل. المعنى: هذه الآيات البعيدة الشأو العالية المنزلة التي يتألف منها القرآن الكريم والسورة التي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 36 نحن بصددها هي آيات الكتاب الحكيم صاحبها، والمحكم أجزاؤها ومعانيها كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [سورة هود الآية 1] . أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ إن هذا لعجب وعجب!! لقد تعجب الكفار من أن يوحى إلى بشر بالرسالة، وأن يكون المرسل بشرا من عامتهم ليس عظيما من عظمائهم، وقد قالوا: العجب أن الله لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلا يتيم أبى طالب، وأن يأتى هذا الرسول فيذكر البعث وينذر به، ويبشرن المؤمنين بأن لهم الجنة، فهم جعلوا ذلك أعجوبة لهم، ونصبوه علما يوجهون إليه استهزاءهم. والهمزة في قوله: أَكانَ.. الآية. لإنكار تعجبهم بل والتعجب من تعجبهم إذ الله لم يرسل رسولا قبل محمد إلا وكان بشرا وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام الآية 9] وقال تعالى: قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا «1» فإرسال محمد رسولا وهو بشر لا يدعو إلى العجب، ويتمه وفقره ليس يدعو إلى العجب إذ الله أعلم حيث يجعل رسالته، والغنى والتقدم في الدنيا وكثرة المال والولد ليس مبررا للرسالة وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى «2» . وأما البعث. والجزاء على الخير والشر فهو أمر طبيعي لازم فكيف يدعو إلى العجب؟! وإنما العجب العاجب هو تعجبكم أنتم من الأشياء التي تدعو العامة مع تخويفهم عاقبة الكفر والمعاصي، وأوحينا إليه بأن أنذر الناس كافة، وبشر الذين آمنوا خاصة بأن لهم قدم صدق عند ربهم، يجزيهم بها في الآخرة أحسن الجزاء. وماذا قال الكافرون وأجابوا به الرسول؟ قال الكافرون: لما رأوا القرآن وأثره في القلوب، وفعله في النفوس حتى فرق بين المرء وأخيه، وأمه وأبيه، وزوجه وبنيه قالوا: إن هذا إلا سحر يؤثر، وما صاحبه محمد إلا ساحر.   (1) سورة الإسراء آية: 95. [ ..... ] (2) سورة سبأ آية: 37. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 37 وقد ظهر للعرب ولغيرهم أن القرآن ليس سحرا وإنما هو وحى وإلهام، وحكم وآداب، وتشريع وقضاء، وسياسة واجتماع، وعلم وخلق اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «1» . المظاهر الكونية ودلالتها على أصول الإيمان [سورة يونس (10) : الآيات 3 الى 6] إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)   (1) سورة الزمر: 23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 38 أنكر القرآن الكريم في الآية السابقة على المشركين تعجبهم من إيحاء الله إلى رجل منهم ينذر الكافر بالعقاب، ويبشر المؤمن بالثواب، وفي تعجبهم إنكار له وكفر به وقد قالوا: إنه ساحر مبين، فيرد الله عليهم بهذه الآية. للدين الإسلامى أصلان مهمان: أولهما: التوحيد الخالص لله في العبادة والدعاء، وثانيهما: إثبات البعث والجزاء. وها هي الآية لإثبات الأصل الثاني بعد أن تكلم القرآن على الأول. هذا بيان لبعض نواحي الإجمال في الآية الثالثة من هذه السورة: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ. لتوضيح الدلالة على كمال قدرته وأنه الواحد الأحد المعبود بحق.. المعنى: إن ربكم هو الله لا إله غيره، الذي خلق العالم السماوي وما فيه، مما لا يعلمه إلا هو، وخلق العالم الأرضى، ولا يعلم ذراته إلا هو، خلق كل ذلك في ستة أيام لا يعلم تحديد زمنها إلا هو [اليوم يطلق في اللغة على جزء من الزمن] . ثم استوى على عرشه استواء يليق بعظمة هذا الملك وصاحبه، استواء لا يعلمه إلا هو وعرشه كرسيه أو مركز تدبيره، وفي الحقيقة لا يعلم كنهه إلا هو- سبحانه وتعالى ثم استوى على عرشه يدبر أمر ملكوته بما يتناسب مع جلاله، وكماله وعمله وحكمته، والتدبير والنظر في أدبار الأمور وعواقبها وما تنتهي إليه. ووجه الرد بهذه الآية على منكري النبوة، أن الله- سبحانه- خالق الأكوان، وفاطر السموات والأرض على هذا النظام البديع المحكم، المستوي على عرشه المدبر لأمر ملكوته وحده دون سواه، لا يستبعد منه أن يفيض بما شاء من علمه على البشر من خلقه ليهدى الناس إلى سواء السبيل، ويرشد الضال إلى الصراط المستقيم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، فإن ذلك كله مظهر من مظاهر قدرته وتدبيره وحكمته. فيجب الإيمان بهذا الوحى وتصديق صاحبه، والإيمان بكل ما جاء به، ليس هناك شفيع يشفع يوم القيامة إلا من بعد إذنه، ولا يشفع إلا لمن ارتضى يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 39 الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه: 109] ، قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً [الزمر: 44] هذه حقائق ترد على المشركين اعتقادهم في الشفاعة لآلهتهم، وكيف يتكلمون في الشفاعة يوم القيامة، وهم لا يؤمنون به!! ذلكم الكبير المتعال، الخالق المدبر لهذه الأكوان الذي لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه هو الله ربكم لا إله غيره ولا معبود سواه، فاعبدوه وحده، ولا تشركوا معه إلها غيره، ولقد كان العرب يؤمنون بوحدة الربوبية: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ الآية 38 من سورة الزمر. ولكنهم يشركون معه غيره في الألوهية، لذلك عالج القرآن هذا بقوله: ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ [سورة يونس الآية 3] . أتجهلون هذا الحق الواضح؟ فالله هو الذي خلق السموات والأرض وحده واستوى على العرش يدبر الأمر يفصل الآيات، لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، وأن صاحب هذا كله هو ربكم فاعبدوه وحده، أتجهلون ذلك أفلا تذكرون؟!! إلى الله وحده دون سواه مرجعكم جميعا بعد الموت، لا يتخلف منكم أحد أبدا، وعد الله هذا وعدا حقا. إنه يبدأ الخلق كله، وينشئه عند تكوينه، ثم يعيده في النشأة الأخرى، فأما بدؤه فقد حصل بلا نزاع، وأما إعادته فدليلها أن القادر على البدء والتكوين من غير مثال سابق قادر بلا شك على إعادة الحياة بعد الموت: وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ. [سورة الروم الآية 27] . وإذا كانت الإعادة ليجزي الذين آمنوا بالله والنبي وما أنزل عليه، ليجزيهم بالقسط والعدل، فيعطى كل عامل حقه من الثواب، لا يظلمه شيئا: وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [سورة الأنبياء الآية 47] . وهذا لا يمنع التفضل بمضاعفة أجر المحسنين: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ [سورة يونس الآية 26] فالحسنى جزاء والزيادة تفضل من الرحمن الرحيم. وأما الذين كفروا بالله وأنكروا البعث وتعجبوا من إرسال بشر لهم ينذرهم ويبشرهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 40 فأولئك جزاؤهم بعد البعث شراب ماء ساخن يشوى البطون، بئس الشراب شرابهم، ولهم بعد ذلك عذاب مؤلم للغاية، بما كانوا يكفرون. هو الله- سبحانه- الذي جعل الشمس ضياء للكون، ومصدر للحياة، ومبعثا للحرارة والحركة للكائن الحي من حيوان ونبات، وجعل القمر نورا يستضيء به السارى في الليل، وقدر له منازل لتعلموا عدد السنين والحساب. ولقد كان للعلماء أبحاث عن الضوء والنور، وآراء لسنا في حاجة إلى ذكرها بعد ما ثبت علميا أن الشمس مصدر النور، فالشعاع الواقع منها على الأرض مباشرة هو ضوؤها، والواصل إلينا بعد انعكاسه على القمر [وهو جسم مظلم] يسمى نورا فنور القمر من الشمس عن طريق الانعكاس كالمرآة. والقرآن فرق بين الشمس والقمر في كثير: وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً «1» . وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً «2» والسراج ما كان نوره من ذاته، وهذا يؤيد من يقول: إن الضوء ما كان بالذات كالشمس والنار، والنور ما كان بالعرض والاكتساب من النير كنور القمر، وعلى العموم فالواجب معرفته واعتقاده أن تعبير القرآن الكريم لأسرار إلهية قد تخفى علينا حينا من الدهر، ويكشف عنها العلم والبحث، وليس معنى هذا الجري وراء الاصطلاحات العلمية إذا تعارضت مع النص القرآنى، فالعلم نظرياته قد تسلم اليوم، وتنقض غدا. قدر الله للقمر مقادير مخصوصة في الزمان والمكان والهيئة، لا يتعداها أبدا ومنازل القمر أماكن نزوله وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ «3» أى: قدره لسيرة في فلكه، في منازل ينزل كل ليلة منها لا يتخطاها أبدا [وهي معروفة في علم الفلك] هذا لتعلموا به عدد السنين والحساب للأشهر والفصول والأعوام، وذلك لضبط عبادتكم من صيام وحج ومعاملات، ولعل السر في اختيار القرآن السنة القمرية والحساب بها لأنه أسهل على البدوي والحضري وأما السنة الشمسية فحسابها يحتاج إلى علوم وقواعد، ولكل فائدة. ما خلق الله ذلك إلا بالحق، نعم ما خلق هذا الكون، وجعل فيه الشمس ذات   (1) سورة نوح آية 16. (2) سورة الفرقان آية 61. (3) سورة يس آية 39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 41 الضياء والحرارة التي تفيض على الكون حياة ونورا. وما خلق القمر ونوره الذي يهدى السارى ويوقفنا على الزمن وحسابه، ما خلق ذلك كله إلا بالحق المقرون بالحكمة العالية لنظامنا في الحياة. وكيف يتصور من خالق الأكوان، وواهب الوجود وخالق الشمس وضيائها والقمر ونوره، على هذا النظام البديع المحكم، أن يترك الإنسان الذي كمله بالعقل والبيان وكرمه على جميع خلقه أن يتركه بلا حساب ولا ثواب؟ تفصل الآيات الكونية الدالة على عظمتنا وقدرتنا، والآيات القرآنية، تفصل ذلك كله وتجليه، ولكن لا يهتدى به إلا القوم العالمون الذين يعلمون وجوه الدلالة ويميزون بين الحق والباطل. إن في اختلاف الليل والنهار، وتعاقبهما طولا وقصرا، وحرارة وبرودة ونظامهما الدقيق وكون الليل لباسا والنهار معاشا، وإن في خلق السموات والأرض وما فيهما من عوالم لا يحيط بها إلا خالقها، إن في هذا وذاك لآيات واضحات على قدرة الله وحكمته وعظمته وكمال علمه، ولكن هذه الآيات لقوم يتقون الله ويؤمنون بالغيب، أما الماديون الطبيعيون فلا يعتبرون بذلك أبدا. وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ «1» . المؤمن والكافر وعاقبة كل [سورة يونس (10) : الآيات 7 الى 10] إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَرَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَاطْمَأَنُّوا بِها وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَآخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)   (1) سورة يوسف الآية 105. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 42 المفردات: لا يَرْجُونَ لا يتوقعون لقاءنا مَأْواهُمُ ملجأهم الذي يلجئون إليه، هذا توضيح لما سبق في آية 4. المعنى: إن الذين لا يتوقعون لقاءنا في الآخرة للحساب لأنهم لا يؤمنون بالبعث والجزاء، هؤلاء لا يخافون عذاب الله، ولا يرجون ثوابه، وقد رضوا بالحياة الدنيا ونعيمها بدل الآخرة وما فيها، واطمأنوا بها لسكون أنفسهم إلى شهواتها ولذاتها، والذين هم عن آياتنا القرآنية وآياتنا الكونية غافلون فلا يتدبرون، ولا يتعظون، أولئك- والإشارة للفريقين-، وما فيها من معنى البعد لبعد مكانتهم في الضلال، أولئك مأواهم النار، وملجأهم الذي يلجئون إليه، سبحانك يا رب!! النار يوم القيامة هي ملجأ الكافر والويل كل الويل لمن تكون النار مأواه وملجأه. وذلك بما كانوا يكسبون من أعمال كلها تتنافى مع العقل والحكمة والدين.. هذا جزاء الفريق الكافر أما المؤمن فهذا جزاؤه. إن الذين آمنوا بالله وصدقوا برسله، وعملوا الصالحات الباقيات يهديهم ربهم إلى الخير والسداد، والهدى والرشاد، يهديهم ربهم إلى كل عمل يوصل إلى الجنة التي وصفها بقوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وهذا مثل للراحة والسعادة والهدوء في الجنة وقد تقدم كثيرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 43 دعواهم فيها سبحانك اللهم، وتحيتهم فيها سلام، وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين: أوصاف ثلاثة، وكلمات ثلاث تبين لنا كيف يتنعم أصحاب الجنة.. فدعاؤهم، وطلبهم من المولى، وثناؤهم عليه- سبحانه- يبدءونه بهذه الكلمة: سبحانك اللهم على معنى تنزيها لك وتقديسا لجلالك يا الله. وأما التحية فيها بينهم وبين أنفسهم، وبينهم وبين الملائكة، وتحية الله لهم هي: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الصابرين. وآخر دعواهم في كل حال لهم: أن الحمد لله رب العالمين.. من طبائع الإنسان وغرائزه [سورة يونس (10) : الآيات 11 الى 14] وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) المفردات: يُعَجِّلُ تعجيل الشيء تقديمه على أوانه المضروب له، والاستعجال به طلب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 44 التعجيل في طغيانهم مجاوزة الحد يَعْمَهُونَ يترددن الضُّرُّ الشدة من ألم أو خطر أو شدة مسغبة لِلْمُسْرِفِينَ الإسراف تجاوز الحد الْقُرُونَ جمع قرن وهم القوم المقترنون في زمان واحد خَلائِفَ جمع خليفة وهو من يخلف غيره في الشيء أى: يكون خليفة له. المعنى: العجلة من غرائز الإنسان وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا «1» فهو دائما يتعجل الخير لأنه يحبه، ولا يتعجل الشر إلا في حال الغضب والحماقة والعناد والتعجيز، ظنا منه أن ما أقدم عليه خير مما هو فيه كالمنتحر. ولو يعجل الله للناس الشر الذي يستعجلونه مخالفين طبعهم وغريزتهم، مدفوعين بدافع الجهالة والحماقة والتعجيز كاستعجال كفار مكة للعذاب وإلحاحهم في نزوله تعجيزا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتكذيبا له، وذلك حينما قص عليهم القرآن نبأ المكذبين من أقوام الرسل السابقين وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ «2» . وَإِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «3» . ولو يعجل الله للناس إجابة الشر الذي يطلبونه كاستعجالهم بالخير الذي يرغبونه لذاته بدعاء الله- تعالى- أو بأخذهم بالأسباب، لقضى إليهم أجلهم، وانتهى أمرهم وهلكوا كما هلك الذين كذبوا الرسل، واستعجلوا العذاب من قبل. ولكن الله رحم العالم كله بالنبي صلّى الله عليه وسلّم خاتم النبيين، المرسل رحمة للعالمين إلى يوم القيامة، وقضى بأن يؤمن به العرب من قومه وغيرهم ومن يكفر يعاقبه الله بالقتل أو يؤخره إلى يوم القيامة، وهذا معنى قوله: فنذر الذين لا يرجون لقاءنا في طغيانهم وضلالهم يعمهون ويترددون، أما عذاب الخسف والاستئصال فمنعه عنا إكراما لنبينا صلّى الله عليه وسلم. وهاك بيان لغريزة الإنسان العامة وشأنه فيما يمسه من الضر.   (1) سورة الإسراء آية 11. (2) سورة الرعد آية 6. (3) سورة الأنفال آية 32. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 45 وإذا مس الإنسان الضر من ألم أو خطر أو شدة، دعانا واتجه إلينا مضطجعا لجنبه أو قاعدا أو قائما، دعانا ملحا في كشفه عنه، ومن هنا يعلم أن استعجال الكفار للشر من طغيانهم فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه. مثل ذلك الذي عرفت من اتجاه إلى الله في الشدة وتركه في الرخاء زين للمسرفين ما كانوا يعلمونه. وهكذا الإنسان يستعجل الشر، ولا يلجأ إلى الله إلا في الشدة والضر إن الإنسان كان ظلوما جهولا إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر الآية 3] . هكذا الإنسان وتلك سنة الله في الأمم، ولن تجد لسنته تبديلا فاعتبروا يا أولى الأبصار، وانظروا يا أهل مكة، ماذا أنتم فاعلون؟!! تالله لقد أهلكنا الأمم التي مضت من قبلكم يا كفار مكة، وكانوا أكثر منكم قوة لما ظلموا أنفسهم بالبغي والطغيان، وقد جاءتهم رسلهم بالآيات البينات التي تكشف لهم عن حقيقة الدنيا، والتي تناديهم بوجوب اتباع الرسل الكرام، وما كانوا ليؤمنوا لأن نفوسهم مرنت على الظلم والكفر، واطمأنوا إلى الدنيا، ومالوا إليها فصارت أعمالهم كلها فسقا وظلما وجورا، ومن كان كذلك لا يتصور منه إيمان، مثل ذلك الجزاء على الظلم من الإهلاك وإنزال عذاب الاستئصال، أو ضياع الأمة بالضعف والانحلال نجزى القوم المجرمين، وهكذا سنة الله في الخلق فاعتبروا يا أهل مكة ثم جعلناكم يا أمة محمد- أمة الدعوة- خلفاء لمن تقدمكم، وأرسلنا لكم محمدا خاتم النبيين لننظر كيف تعملون؟ وسنجازيكم على أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر.. من أوهام المشركين والرد عليهم [سورة يونس (10) : الآيات 15 الى 18] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 46 المعنى: لون من ألوان خداعهم ومكرهم بالرسول صلّى الله عليه وسلّم وهو أن يطلبوا منه أن يأتى بقرآن غير هذا، أو يبدله، والذي دفعهم إلى هذا كفرهم وعجزهم عن أن يأتوا بمثله، ولقد مكروا، ومكر الله، ولقنه الجواب وهو خير الماكرين. أرسل الله محمدا صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس كافة، ودعا قومه العرب إلى دينه طالبا منهم التوحيد، ومنذرا لهم ومبشرا، وفي يمينه القرآن المعجزة الباقية، والحجة الدامغة وقد تحدى العرب به بأسلوب مثير لهم، تحداهم بعشر سور أو بسورة منه فعجزوا مجتمعين، وفيهم الفصحاء والشعراء والخطباء قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «1» ، والقرآن لا   (1) سورة الإسراء آية 88. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 47 يكف عن تسفيه أحلامهم وعيب آلهتهم، وقد غاظهم ذلك كله، وفيهم حب المغالبة وشهوة السبق فماذا يعملون؟!؟ قالوا: يا محمد ائتنا بقرآن غير هذا ليس فيه ذمنا وذم آلهتنا، أو بدل هذا القرآن أى: وعده ووعيده وحلاله وحرامه، وذمه ومدحه. إن فعلت ذلك فنحن معك يقصدون إن فعل محمد ذلك فقد هدم أساس دعوته، وقوض صرح حجته إذ هو يدعى أنه من عند الله لا من عنده فإذا غير فيه وبدل ثبت أن القرآن من عنده وهو بشر مثلهم أعطى قوة خارقة للعادة كالسحرة والكهان، ولكن الله أمره أن يجيب بهذا الجواب المسكت. قل لهم: ما يكون لي وما يصح منى أن أبدله أبدا من تلقاء نفسي!! إذ ما أنا إلا رسول، وما هو إلا وحى يوحى، ولا أتبع إلا ما يوحى إلى من عند ربي، على أنى أخاف إن عصيت ربي بالتبديل في كلامه عذاب يوم عظيم هوله شديد وقعه على. وفي الإجابة على الإتيان بقرآن غير هذا أمره الله بما يأتى: قل لهم: لو شاء الله ما تلوته عليكم أبدا، ولا أعلمكم به فالمسألة ترجع إلى مشيئة الله لا مشيئتى، وما شاء الله كان، لا راد لحكمه، ولا معقب لقضائه ومالكم تذهبون بعيدا؟ فقد لبثت فيكم عمرا من قبل هذا القرآن [أربعين سنة] لم أجلس إلى معلم، ولم أقرأ كتابا، ولم أدرس في جامعة وأنا أمى في وسط أمى، لم أقل كلاما مثله في هذا الزمن الطويل (قبل النبوة) فهل يعقل أن يكون هذا كلامي. يا قومي أغفلتم عن هذا كله فلا تعقلون؟!! ولا أحد أظلم من رجلين: أحدهما: افترى على الله كذبا، والثاني: كذب بآياته البينة، ولا غرابة في هذا الحكم إنه لا يفلح الظالمون أبدا. كانت العرب في جاهليتهم ذات أديان مختلفة، ومذاهب في العبادة متشعبة إلا أنها كلها تجتمع في الإشراك وعدم الوحدانية الخالصة لله- سبحانه- كان منهم من تهود الجزء: 2 ¦ الصفحة: 48 كبعض قبائل اليمن، ودخل آخرون في النصرانية كالغساسنة والتغلبيين، وكان بنجران بقايا من أهل دين عيسى- عليه السلام- وتهود قوم من الأوس والخزرج لمجاورتهم خيبر وقريظة والنضير، ومنهم من كان يميل إلى الصابئة، ويقول: مطرنا بنوء كذا، ومن أنكر الخالق والبعث وقالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا، وما يهلكنا إلا الدهر، ومنهم قوم- ويظهر أنهم الأكثرية- اعترفوا بالخالق وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ «1» وأنكروا البعث، وعبدوا الأصنام وهي لا تنفع ولا تضر إذ هي حجارة أو أجسام مصنوعة، وقالوا: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «2» . وعبادتهم كانت بتقديسهم لها والذبح عندها، واختصاصها بأنواع من الحيوان فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ [سورة الأنعام آية 136] . وكانوا يعبدون الأصنام بتعظيم هياكلها، والإهلال عند الذبح لها، وبدعائها والاستعانة بها قائلين: هؤلاء شفعاؤنا عند الله يقربوننا إليه زلفى، روى أن النضر بن الحارث قال: إذا كان يوم القيامة شفعت لي اللات والعزى. قل لهم: منكرا عليهم ذلك أتخبرون الله بما لا يعلم في السموات والأرض؟ ونفى العلم دليل على عدم وجود هؤلاء الشفعاء والشركاء لله- سبحانه وتعالى- عما يشركون!! هكذا فطر الله الناس [سورة يونس (10) : آية 19] وَما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) المعنى: وما كان الناس في كل زمن إلا أمة واحدة تسير على هدى الفطرة وتأتيهم   (1) سورة الزخرف آية 9. (2) سورة الزمر آية 3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 49 الرسل تردهم إلى حياض الإيمان بالله، وإلى الاعتقاد في يوم القيامة، ولكنهم اختلفوا بعد ذلك، وتعددت بهم السبل، فبعضهم آمن واهتدى. والآخر ضل واعتدى، وذلك لأن في الإنسان دوافع الخير والشر فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ «1» ومثل هذه الآية قوله- تعالى- كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ.. [سورة البقرة آية 213] . وبعض العلماء يرى أن المعنى: وما كان الناس إلا أمة واحدة على الإسلام والدين الحنيف فطرة وتشريعا، وأن الشرك وفروعه «جهالة حادثة، وضلال مبتدع» والله أعلم. ولولا كلمة سبقت من ربك، وقضاء محكم حكم به إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ «2» لولا هذا لقضى بينهم فيما فيه يختلفون، ولعجل لهم العذاب بما كانوا يعملون، وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وبيان لطبع الإنسان. اقتراح المشركين آيات كونية [سورة يونس (10) : آية 20] وَيَقُولُونَ لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) المعنى: وهذه جناية أخرى من جنايات المشركين وكفار مكة، فهم يعجبون من الوحى لبشر مثلهم. ويقولون ائتنا بقرآن غير هذا أو بدله، وهم يعبدون من دون الله شركاء، ويقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند الله. وبعد هذا كله يقولون: لولا أنزل الله عليه آية من ربه غير ما نزل عليه من الآيات الباقيات البينات وهي آيات القرآن الكريم. حكى القرآن عنهم في أكثر من موضع هذا الطلب ورد عليهم تارة بالإجمال كما هنا وطورا بالتفصيل.   (1) - سورة هود آية 105. (2) سورة يونس آية 93. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 50 يقولون: هلا أنزلت عليه آية كونية كالتي كانت تنزل على الأمم السابقة التي يحكى لنا قصصها مع أنبيائها!! فيلقنه الله الجواب فقل لهم: إنما الغيب لله وحده فكل ما غاب فهو لله ومنه الآيات المقترحة، وإنما أنا رسول من عنده أبلغكم ما أنزل إليكم، ولا أدرى ما يفعل بي ولا بكم، فانظروا حكمه وقضاءه فيكم، إنى معكم من المنتظرين ما قدر لي فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ [سورة يونس الآية 102] . هكذا طبع الإنسان وخلقه [سورة يونس (10) : الآيات 21 الى 23] وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) المفردات: أَذَقْنَا الذوق إدراك الطعم بالفم، واستعمل مجازا في إدراك غيره ضَرَّاءَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 51 من الضر وتقابل السراء. مَكْراً التدبير الخفى الذي يفضى بالممكور به إلى ما لا يحتسبه ولا يتوقعه، وهو حسن وسيئ. يُسَيِّرُكُمْ السير الانتقال من مكان إلى آخر، والتسير جعل الشيء ينتقل بنفسه أو بدابة أو مركب. عاصِفٌ المراد: ريح شديدة قوية تعصف بالأشياء وتكسرها يَبْغُونَ أصل البغي طلب ما زاد على القصد والاعتدال إلى الإفراط المفضى إلى الفساد والظلم. المعنى: هذه الآيات الكريمة تكشف لنا عن غرائز الإنسان وطبائعه التي لا تتغير تبعا للزمان والمكان، وهي تشير إلى الرد على الكفار الذين يطلبون الآيات الكونية حيث إنهم لا يعتبرون ولا يتعظون. وإذا أذقنا الناس رحمة وفضلا من عندنا من بعد ضراء، ألم بهم ألمها وبؤسها إذ الشعور بالنعمة عقب زوال البؤس والشدة أكمل وأتم. ما كان منهم إلا أن أسرعوا بالمفاجأة بالمكر في مقام الحمد والشكر، وهكذا الإنسان، إذا أصابه المطر بعد الجدب والشدة قال: مطرنا لأنا في فصل الأمطار. وإذا نجا من مكروه حاق به قال: نجوت بالمصادفة، ولقد فعل فرعون وقومه ذلك كما فعل مشركو مكة بعد قحط وجدب أصابهم ثم سألوا النبي الدعاء لإزالته فكشفه الله عنهم وما زادهم ذلك إلا كفرا وجحودا ومكرا وفسادا، كما ثبت ذلك في حديث عبد الله بن مسعود الذي رواه الشيخان. ألست معى في أن مكرهم في آيات الله بالطعن فيها، والاحتيال في دفعها وعدم الاعتداد بها، قل لهم يا محمد: الله أسرع مكرا، وأعجل عقوبة على مكركم، وعذابه أسرع وصولا إليكم مما تفعلونه لدفع الحق، وإطفاء نور الله، ولا غرابة في ذلك إن رسلنا والحفظة من الملائكة يكتبون ما تفعلونه مكرا وتدبيرا، وفي هذا إشارة إلى تمام الحفظ والعناية حتى لا يغادر الكتاب صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وقد ضرب الله مثلا لهؤلاء المعاندين هو أبلغ أمثال القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 52 هو الذي يمكنكم من السير والانتقال بما أودع فيكم من القدرة على ذلك وبما أعطاكم من دابة أو مركب كالسيارة، والقطار، والسفينة تجرى في البحر. حتى إذا كنتم في الفلك (السفينة) وجرت بكم في البحر بسبب ريح طيبة مواتية لهم في جهة السير وفرحوا بها جاءتها ريح شديدة قوية، ولاقتها ريح تعصف بالأشياء وتكسرها وجاءهم الموج من كل مكان، والمراد اضطراب البحر وأنه أرغى وأزبد، وظنوا أى: اعتقدوا أنهم مغرقون وهالكون بإحاطة الموج بهم كإحاطة العدو اللدود. إذا كان هذا دعوا الله والتجئوا إليه مخلصين له في الدعاء والعبادة، ولم يتوجهوا إلى آلهتهم وأوثانهم التي يشركون بها، وذلك طبع الإنسان وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ الآية 12 من هذه السورة. ماذا قالوا في دعائهم؟ قالوا: لئن أنجيتنا يا رب من هذه لنكونن من الشاكرين، ولا نكفر ولا نشرك بك شيئا لا ينفع ولا يضر، فلما نجاهم مما هم فيه أسرعوا بالمفاجأة يبغون في الأرض كلها بغير الحق، يظلمون ويعبثون في الأرض الفساد، وبغيهم بغير حق قطعا، ولعل السر في تقيده بهذا أنهم يفعلونه معتقدين أنه بغير حق. يا أيها الناس: انتبهوا إنما بغيكم وجزاؤه على أنفسكم في الدنيا، وأنتم تتمتعون به متاعا زائلا لا أساس له إذ هو في الحياة الدنيا. وأما نتيجة البغي في الآخرة فالله يقول: إلينا مرجعكم يوم القيامة يوم الفصل والجزاء فيجازيكم عليه الجزاء الأوفى بسبب ما كنتم تعملون. المثل البليغ للحياة الدنيا [سورة يونس (10) : آية 24] إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 53 المفردات: مَثَلُ المثل: الصفة العجيبة التي تشبه في غرابتها المثل زُخْرُفَها الزخرف: كمال حسن الشيء ومنه قيل للذهب زخرف لَمْ تَغْنَ يقال غنى بالمكان أقام به وعمره. المعنى: تقدم ذكر البغي وجزائه في الدنيا والآخرة، وكان من أسبابه حب الدنيا والاغترار بها، فناسب ذكر الدنيا وضرب الأمثال لها ليعتبر العاقل، ويتعظ المؤمن. إنما مثل الحياة الدنيا في سرعة انقضائها، وزوال نعيمها، وأنها تعطى لتأخذ، وتحلى لتمر، وتمنح لتسلب، إنما مثلها وحالها كحال نبات الأرض الذي ينمو ويزدهر ويتشابك بعضه مع بعض بسبب ماء السماء الذي لا فضل لأحد فيه، هذا النبات المزدهر مما يأكل الناس من قمح وشعير وذرة وغيره، ومما يأكل الأنعام من كلأ وحشائش، وما زال النبات ينمو ويزدهر حتى إذا أخذت الأرض زخرفها، واستوفت زينتها من سندس أخضر، وزهر أحمر وأصفر، وأغصان شامخة، وثمار يانعة، وما أروع التركيب حيث شبه الدنيا بعروس بالغت في تزينها بالثياب والزينة حتى كمل لها ما أرادت. وهكذا الدنيا قبيل قيام الساعة. وظن أهلها أنهم قادرون عليها متمكنون منها، أغنياء بثمرها وغلتها حتى إذا حصل هذا كله أتاها أمرنا وقضاؤها ليلا أو نهارا. عشية أو ضحاها فجعلناها كالأرض المحصودة التي قطعت واستؤصل زرعها، كأن لم تكن بالأمس، والمعنى: هلكت فجأة فلم يبق من زرعها شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 54 كهذا المثل في جلاله ووضوحه وتمثيله لحقيقة الدنيا وغرور الناس بها وسرعة زوالها عند تعليق الآمال بالنبات الغض الذي ينزل عليه ماء السماء فيزدهر وينمو، وتزدان به الأرض حتى إذا ظن أهله وأصحابه أنهم قادرون عليه ومتمكنون منه يأتي أمرنا فيكون حصيدا كأنه لم يكن شيئا مذكورا. مثل هذا نفصل الآيات في حقائق التوحيد وإثبات الجزاء وإحقاق الحق ولكن لقوم يتفكرون ويستعملون عقولهم. ترغيب في الجنة وتنفير من النار [سورة يونس (10) : الآيات 25 الى 27] وَاللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27) المفردات: دارِ السَّلامِ هي الجنة وَلا يَرْهَقُ يلحق ومنه غلام مراهق، أى لحق بالرجال. وقيل يغشى قَتَرٌ أى: غبار ذِلَّةٌ ذل أُغْشِيَتْ ألبست. هذا ترغيب في الجنة والحياة الأخروية بعد التنفير من الحياة العاجلة بضرب الأمثال لها، والذي يدعو إلى الدنيا وعرضها هو الشيطان، والذي يدعو إلى الجنة ونعيمها هو الرحمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 55 المعنى: والله يدعو إلى دار السلام، بطلبه من الناس جميعا الإيمان، والعمل الصالح الذي يوصل صاحبه إلى دار السلام وهي الجنة فأصحابها يسلمون من جميع الشوائب، والمتاعب والمخاوف، وتحيتهم فيها السلام، وهي دار السلام- جل شأنه-، ودعاؤه إلى دار السلام وأمره بالإيمان عام للكل، وأما الهداية فنوعان: هداية دلالة وإرشاد وهي للجميع «الدعوة للإسلام» ، وهداية توفيق وهي خاصة، يهدى من يشاء من عباده إلى صراط مستقيم، أى: يوفق من يشاء إليه. وها هي ذي صفة من هداهم ربهم إلى صراط الإسلام فوصلوا إلى دار السلام. للذين أحسنوا في العمل المثوبة الحسنى التي تزيد في الحسن على إحسانهم وتشمل المضاعفة للحسنة بعشر أمثالها أو أكثر، وأما الزيادة فقيل: هي النظر إلى الوجه الكريم. ورؤية المولى- جل شأنه- بهذا نطق الحديث الشريف، وقيل: المراد بالحسنى الجنة والزيادة المضاعفة ولا حرج على فضل الله. ولا يرهق وجوههم قتر ولا ذلة، ولا يلحق وجوههم الكريمة دخان من سيّئ الأعمال ولا مذلة. أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب الجنة الملازمون لها هم فيها خالدون. والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة مثلها، جزاء وفاقا لا يزيدون ولا ينقصون من العذاب شيئا، وتغشاهم ذلة الفضيحة، وخزي الظلم والفجور والعمل السيئ، مالهم عاصم يعصمهم من عذاب الله كالشركاء والشفعاء الذين اتخذوهم أولياء: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ [سورة الانفطار آية 19] . كأنما ألبست وجوههم قطعا من سواد الليل البهيم حالة كونه مظلما فصارت ظلمات بعضها فوق بعض. أولئك الموصوفون بما ذكر أصحاب النار الملازمون لها هم فيها خالدون، وفي هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 56 المعنى ما سبق في سورة الأنعام: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها [الأنعام: 160] ، وما في سورة عبس. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ. [عبس 38- 42] . من مشاهد يوم القيامة [سورة يونس (10) : الآيات 28 الى 30] وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَقالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30) المفردات: فَزَيَّلْنا فرقنا وقطعنا ما بينهم من صلات تَبْلُوا تذوق وتختبر أَسْلَفَتْ قدمت. المعنى: يتكرر في القرآن الكريم التكلم على البعث والجزاء ومشاهد يوم القيامة بألوان مختلفة، وأساليب متعددة. وهذا مشهد من مشاهدها: يوم نحشر هؤلاء وهؤلاء من المؤمنين والكافرين ليوم الحساب، ثم نقول للمشركين: الزموا مكانكم أنتم وشركاؤكم وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ «1» فزيلنا بينهم، وفرقنا بين الشركاء ومن أشركوهم مع الله وقطعنا ما بينهم من أسباب الصلة والمودة.   (1) سورة الصافات آية 24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 57 وقال شركاؤهم لما رأوا ما هم فيه: ما كنتم إيانا تعبدون أى: ما كنتم تخصوننا بالعبادة ومن حق العبادة قصرها على المعبود دون سواه فهم يتبرءون منهم ومن عبادتهم، فكفى بالله شهيدا بيننا وبينكم فهو العليم بحالنا وحالكم إننا كنا في غفلة عن عبادتكم، لا ننظر إليها ولا نفكر فيها ولا نرضى عنها. هنالك يوم القيامة تختبر كل نفس من عابدة ومعبودة، وظالمة ومظلومة في ما قدمت في حياتها الدنيا من عمل، وهكذا كل نفس تذوق عاقبة أعمالها إن خيرا وإن شرا. وردوا إلى الله مولاهم الحق لا إلى غيره، وضل عنهم ما كانوا يفترون ويختلفون من الشركاء والأوثان، إذ الأمر يومئذ لله- سبحانه وتعالى-. نقاش مع المشركين لإثبات التوحيد وبطلان الشرك [سورة يونس (10) : الآيات 31 الى 36] قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَماذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 58 المفردات: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ كيف تصرفون عن الإيمان إلى غيره، حَقَّتْ ثبتت تُؤْفَكُونَ تصرفون عن الحق إلى الباطل لا يَهِدِّي أي: لا يهتدى وهذا احتجاج أخر على المشركين بأسلوب آخر، وهو يقتضى إثبات التوحيد والبعث، وذم الظن الذي لا يغنى بدل الحق شيئا. المعنى: قل يا أيها الرسول: لهؤلاء المشركين مع الله غيره: من يرزقكم من السماء والأرض؟! من ينزل من السماء المطر؟ ومن يحيى الأرض بالنبات الذي تأكلون منه أنتم وأنعامكم؟ أم من يملك السمع والأبصار؟ أم بمعنى بل- للإضراب الانتقالى من سؤال إلى آخر- والمعنى بل قل لهم: من يملك السمع والأبصار؟! من يملك خلقهما على هذا النمط البديع والتركيب الغريب؟ ومن يملك حفظهما من الآفات؟ ولقد خص السمع والبصر لأنهما طريق العلم والإدراك؟ وفي جهاز السمع والبصر الأعاجيب. ومن يخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي؟ ولقد كان القدامى يفهمون الآية فهما بسيطا. فالله يخرج الإنسان من النطفة والطائر من البيضة، ويخرج النطفة من الإنسان، والبيضة من الطائر، وكانوا يفهمون أن النطفة والبيضة ميتة لا حياة فيها، وهذا الفهم صحيح إذا اعتبرنا أن البيضة وإن تكن فيها حياة فهي حياة خاصة ليس فيها حركة ولا نمو. والعلماء المحدثون يقولون: إن في البيضة والنطفة حياة بل في البذور حياة، والمثل الصحيح أن الغذاء بعد دخوله النار ميت بلا شك، وهو يكون الدم ومنه المنى فهذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 59 المنى الحي خرج من الغذاء الميت، ويخرج الله الفضلات والهشيم من الإنسان والنبات وهو ميت خرج من حي، والمراد من ذلك كله إثبات القدرة الكاملة لله- سبحانه وتعالى- وأنه خالق الموت والحياة. وفي التفسير المأثور أراد الحياة والموت المعنويين ومثلهما أخرج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. ومن يدبر الأمر، ويصرف الكون؟ ومن صاحب هذا النظام المحكم في كل شيء؟ وفي كل شيء له آية ... تدلّ على أنه الواحد فسيكون جوابهم عن هذه الاستفهامات الخمسة: أن الفاعل لذلك كله هو الله رب كل شيء، لا جواب غيره، ولا مجال للمكابرة في ذلك. فقيل لهم: أتعلمون هذا فلا تتقون أنفسكم عذابه، ولا تتقون عقابه لكم عن شرككم وعبادتكم لغيره مما لا يملك نفعا ولا ضرا!! فذلكم الذي يفعل ما ذكر هو الله ربكم خالقكم ومدبر أمركم، هو الحق الثابت بذاته الحي القيوم، لا إله غيره ولا معبود سواه. وإذا كان هو ربكم الحق الذي لا ريب فيه المستحق للعبادة دون سواه فماذا بعد الحق إلا الضلال؟!! فالقول بألوهية غيره باطل، وعبادة غيره ضلال. وإذا كان الأمر كذلك فكيف تصرفون، وتتحولون عن الحق إلى الباطل؟ وعن الهدى إلى الضلال؟!! كذلك حقت كلمة ربك أى: مثل ذلك حقت به كلمة ربك أيها الرسول، وثبتت في وحدة الربوبية والألوهية، وأنه ما بعد الحق إلا الضلال. حقت كلمته على الذين فسقوا وخرجوا من نور الفطرة، وحظيرة الهدى والحق، أنهم لا يؤمنون بما ينزله الله على ألسنة الرسل، وليس المعنى أنه يمنعهم- سبحانه- بل المراد أنهم يظلون على العناد والاستكبار وعدم الإيمان فهم لا يؤمنون. قل لهم أيها الرسول: هل من شركائكم الذين عبدتموهم مع الله أو من دون الله، أو اتخذتموهم شفعاء عنده يقدر على بدء الخلق في طور ثم إعادته في طور آخر؟ سواء كان صنما أو وثنا أو كوكبا أو ملكا أو بشرا من الرسل أو غيرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 60 ولما كانوا لا يعترفون بالبعث والميعاد لقن الله رسوله الجواب إذ لا يمكنهم الجواب أبدا. قل: الله يبدأ الخلق ثم يعيده إذ القادر على البدء قادر على الإعادة، وهم يرون الإعادة تتكرر كل عام في النبات والكون، بقدرة الله وحده أفلا يحكمون عقولهم؟ ويسلمون بمبدأ البعث والجزاء يوم القيامة! فأنى تؤفكون؟ فكيف تصرفون عن ذلك الحق وهو من دواعي الفطرة والطبيعة والنظر السليم؟ إلى الباطل والجهل بالمصير. قل لهم: هل من شركائكم من يهدى إلى الحق والخير؟ هداية بالطبيعة والفطرة أو بالتشريع والتقنين، أو بالتوفيق ومنع الصوارف، هذه الهداية بأنواعها من تتمة الخلق والتكوين رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى «1» وهم بأى شيء يجيبون عن هذا؟!! والشواهد كثيرة تدل على الجواب المتعين الذي لقنه الله إلى رسوله: قل لهم: الله يهدى للحق، ويهدى إلى صراط مستقيم، وهو يمن عليكم أن هداكم للإيمان. أفمن يهدى إلى الحق والهدى، والخير والفلاح، أحق أن يتبع فيما يشرعه؟ أم من لا يهتدى إلى الخير أبدا في حال من الأحوال إلا أن يهدى؟ أى يهديه الله وذلك كالأصنام لا تهتدى أبدا إلى الخير ولا تهدى إلى الخير، وأما عزير والمسيح والملائكة فتهدى إلى الخير ولكن بهداية الله- سبحانه وتعالى- وهذا معنى قوله: إِلَّا أَنْ يُهْدى. فما لكم؟ استفهام تعجب وتقريع عن حالهم على معنى أى شيء أصابكم؟ وماذا دهاكم؟ حتى تتخذوا أصناما وآلهة بهذا الوصف!! كيف تحكمون؟ وعلى أى حال ووضع تحكمون بجواز عبادتهم أو وساطتهم وشفاعتهم عنده؟ نعم إن هذا لشيء عجيب!! والحق الذي لا مرية فيه أنه ما يتبع أكثرهم في هذا إلا الظن لا اليقين وما يتبعون في شركهم وإنكارهم البعث، وتكذيبهم الرسول- عليه الصلاة والسلام- إلا ضربا   (1) سورة طه آية 50. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 61 من ضروب الظن كاستبعادهم خطأ آبائهم في العبادة، وكتقليدهم لهم، وقياسهم الغائب على الشاهد واستبعادهم الإعادة والبعث بعد أن يصير الخلق ترابا منثورا. واستبعادهم نزول الوحى على بشر منهم لم يكن عظيما في نظرهم. فإن قيل: وما حكم هذا الظن؟ أجيب أن الظن لا يغنى بدل الحق شيئا، فالحق هو الثابت عن دليل لا يقبل الشك، والظن مبنيّ على الشك والوهم، فهو عرضة للزوال والتغيير. إن الله عليم بما يفعلون وسيجازون على ذلك كله، خاصة بعد توضيح الأمور وسياق الأدلة وضرب الأمثال. القرآن كلام الله ومعجزة النبي صلّى الله عليه وسلّم وموقفهم منه [سورة يونس (10) : الآيات 37 الى 44] وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 62 القرآن الكريم هو المعجزة الباقية الخالدة، الدالة على صدقه صلّى الله عليه وسلّم القائمة مقام قول الحق: «صدق عبدى في كلّ ما يبلّغه عنّى» لذلك كانت عناية القرآن الكريم بإثبات أنه من عند الله، وليس من عند النبي صلّى الله عليه وسلّم كما نرى في كثير من الآيات، ولا ننسى أنه أساس الدين، ودستور الإسلام، فإثبات التوحيد، والبعث، وأن القرآن كلام الله من مقاصد الدين الهامة. المعنى: وما كان هذا القرآن العظيم الشأن في أسلوبه ونظمه، وبلاغته وحجته، وتشريعه وعلمه، وحكمته وأدبه، وسياسته الإلهية، والاجتماعية، والعمرانية، والاقتصادية وقصصه وأخباره عن الغائب في ضمير الزمن والمستقبل في كنه الكون، نعم ما كان وما صح ولا يستقيم أبدا في نظر العقل أن يفترى هذا القرآن أحد من الناس مهما كان!! يفتريه من دون الله وينسبه إليه إذ لا يقدر عليه إلا الله- سبحانه وتعالى- فليس القرآن من كلام محمد وإنما هو وحى من عند الله. ثم ذكر ما يؤكد هذا بقوله: وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ.. أى: ولكن كان هذا القرآن تصديقا لما بين يديه من الكتب السابقة المشتملة على الوحى لرسل الله بالإجمال: كإبراهيم وموسى وعيسى. ولما فيه من الدعوة إلى الإيمان والتوحيد الخالص. وإثبات البعث والجزاء فهو على نسق ما قبله، ومحمد ليس بدعا من الرسل، وكان تفصيل جنس الكتاب المنزل فيه الشرائع والحكم والمواعظ والقصص، وأصول الاجتماع والشرائع فكيف يكون من عند البشر؟! ولا ريب فيه أبدا لأنه الحق والهدى، وهو من عند رب العالمين لا يقدر عليه غيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 63 وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [سورة النساء آية 82] . ترى أنه وصف القرآن الكريم بصفات: 1- لا يصح أن يفترى هذا القرآن، وينسب إلى الله!! 2- وهو مصدق لما قبله ومهيمن عليه. 3- مفصل الكتاب الإلهى والحكم الرباني. 4- ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين. 5- هو من عند الله إذ قد تحدى العرب فعجزوا. فهل بعد هذا حجة لمدع أن القرآن ليس من عند الله؟ ثم انتقل القرآن الكريم لبيان عقيدتهم في القرآن، ناعيا عليهم سوء فهمهم بعد ما بين أنه أجل وأعلى من أن يفترى ويختلق. بل يقولون افتراه محمد من عنده؟!! قل لهم يا محمد: إذا كان الأمر كذلك فأتوا بسورة مثله قوة وإحكاما وبلاغة ودقة، وادعوا من استطعتم دعاءه من دون الله، ليعينكم على عملكم، فإن الخلق مجتمعين عاجزون عن الإتيان بمثله: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [الإسراء 88] إن كنتم صادقين في دعواكم فإن لم تفعلوا هذه ولن تفعلوا أبدا فاسمعوا، وارجعوا إلى الحق وآمنوا بالله، ورسوله، وهذا تحد سافر لقوم أولى بلاغة وقوة، قوم أنفقوا النفس والنفيس للقضاء على دعوة الإسلام، وحاربوا النبي بكل الأسلحة ليطفئوا نور الله فلم يفلحوا. ألست معى في أن هذا إعجاز صارخ، وحجة باقية خالدة على أن القرآن من عند الله، وأنهم عجزوا عن الإتيان بمثله مع تحديهم، فكيف يكون من عند محمد؟!! بل كذبوا بالقرآن وأنه من عند الله، ولسوء حظهم كذبوا بالذي لم يحيطوا علما به، فهم لفساد طبعهم ورداءة نفسهم كذبوا به قبل بحثه والنظر فيه والإحاطة بجزئياته، وهذا شأن المعاند المعتدى. ولما يأتهم تأويله، ونتيجة ما فيه من الوعد والوعيد على تكذيب الرسل، وقد كان هذا متوقعا وآتيا لا شك فيه، وقد كذبوا كما كذب الذين من قبلهم. فانظر كيف كان عاقبة المكذبين من جميع الأمم، وكيف كان نظام الله معهم وسنته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 64 فيهم التي لا تتغير: فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة العنكبوت آية 40] . هؤلاء المشركون منهم من يؤمن بالقرآن باطنا، وإنما يكذبه في الظاهر، بل من زعمائهم من كان يقول فيه: إن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق وما هو بقول البشر. فهؤلاء عرفوا الحقيقة ولكنهم كذبوا عنادا واستكبارا، ومنهم من لا يؤمن به جهلا وتقليدا من غير نظر ولا معرفة، وربك أعلم بالمفسدين في الأرض بالشرك والظلم والعصيان والبغي فسيعذبهم في الدنيا والآخرة، وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ويؤكدها قوله تعالى: وإن كذبوك، وأصروا على ذلك، فقل لهم: لي عملي وهو تبليغ الرسالة والإنذار والتبشير وسيجازينى عليه ربي، ولكم عملكم، الذي تعملونه وسيجازيكم عليه ربكم: هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ «1» ، أنتم بريئون مما أعمل، وأنا برىء مما تعملون، ولن يؤاخذ الله أحدا بذنب غيره، وصدق الله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ [سورة هود آية 35] . وأما أنت يا محمد فلا تعجب من حال هؤلاء، ولا تحزن إن عليك إلا البلاغ وأنت تقوم بعملك خير قيام، ولكن منهم من يستمعون إليك بأسماعهم دون تدبر ولا فهم إذ قلوبهم في أكنة مما تدعو إليه. ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ. لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ «2» والسماع النافع للمستمع هو ما عقل بما يسمعه، وعمل بمقتضاه وإلا كان كالأصم الذي لا يسمع، وأنت أيها الرسول لم تؤت القدرة على إسماع الصم حقيقة أو مجازا وهم الذين لا يعقلون. ومنهم من ينظر إليك بوجهه، ويوجه بصره إليك عند قراءتك القرآن، ولكنه لا يبصر نور القرآن وهدى الدين، وعمى البصيرة (والعياذ بالله) أشد وأنكى من عمى البصر: أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ. والمعنى: أنك لا تقدر على هداية هؤلاء، فمن فقد حاسة السمع لا يسمع ومن فقد حاسة البصر لا ينظر، كذلك من فقد الاستعداد للفهم والهداية لا يمكن أن يهتدى ولا يهديه غيره ولو كان نبيا مرسلا.   (1) سورة يونس آية 52. (2) سورة الأنبياء الآيتان 2 و 3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 65 إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس يظلمون أنفسهم فقط، إذ هم يجنون عليها بالكفر والمعاصي. هكذا الدنيا وهذه نهايتها [سورة يونس (10) : آية 45] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) المعنى: ويوم يحشر ربك الظالمين يوم القيامة، ويجمعهم بعد خروجهم من المقابر ويسوقهم إلى موقف الحساب والجزاء، كأنهم لم يمكثوا في الدنيا إلا مدة يسيرة هي ساعة من النهار يتعارفون بينهم. يا ويل هؤلاء الذين يضيعون الدنيا في اللهو والعبث والفساد ولا ينظرون إلى ما ينفعهم في الآخرة والحياة الباقية حتى إذا رأوا ما يوعدون يوم القيامة تذكروا الدنيا فإذا هي مرت كلمح البصر، وكأنهم لم يمكثوا فيها إلا ساعة من النهار أى: وقتا قليلا مقدار تعارف الزوار والأقارب. قد خسر الذين كذبوا بلقاء الله، ولم يعلموا من الصالحات ما ينفعهم ليوم الحساب وما كانوا مهتدين في الدنيا، ولا موفقين في العمل، وفقنا الله جميعا إلى ما فيه الخير وأرشدنا إلى الصواب. القول الفصل في الرد على المشركين وعلى استعجالهم العذاب [سورة يونس (10) : الآيات 46 الى 56] وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ماذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 66 المفردات: أَجَلٌ وقت معين من الزمن أَرَأَيْتُمْ أى: أخبرونى وَيَسْتَنْبِئُونَكَ يستخبرونك أى: يطلبون منك الخبر إِي حرف جواب أى: نعم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 67 المعنى: كان المشركون يكذبون النبي صلّى الله عليه وسلّم في توعده لهم إذا أصروا على الشرك، وكانوا يستعجلونه استهزاء به وتكذيبا، ويتمنون موته ظنا منه أنه إذا مات ماتت دعوته. فيرد الله عليهم بما يكبتهم، ويشد من عزيمة الرسول صلّى الله عليه وسلم. وإما نرينك أيها الرسول بعض الذي نعدهم أو نتوفينك قبل أن ترى ما يحل بهم، فإلينا المرجع والمآب، وقد رأى رسول الله بعض الذي وعدهم الله ببدر وحنين، وغيرهما، والمراد تأكيد الموعود به من العقاب في الدنيا والآخرة، فإلينا مرجعهم، ثم الله شهيد على ما يفعلونه مطلقا وسيجازيهم به على علم وشهادة حق. ولستم أنتم يا أمة محمد بدعا بين الأمم، بل هناك قانون عام يشمل الجميع هو: ولكل أمة من الأمم رسول يهديهم ويرشدهم إلى ما فيه صلاحهم في المعاش والمعاد، فإذا جاء رسولهم وكذبوه وكفروا به، وقامت الحجة عليهم قضى بينهم بالقسط، وهم لا يظلمون إذ العدل يقتضى إثابة الطائع والعاصي كل بما يستحق. ويقولون متى هذا الوعد؟ ومتى يكون؟!! إن كنتم أيها المؤمنون صادقين وهنا يلقن الله رسوله الجواب قل لهم: إننى بشر مثلكم، ورسول من رب العالمين، لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا، فكيف أملك لغيري؟ وليس لي علم بشيء، وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ، وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ «1» ، لكن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، والله- سبحانه- جعل لكل أمة أجلا لبقائها وهلاكها لا يعلمه إلا هو فإذا جاء الأجل المضروب والوقت المحدود لنفاذ أمره، فلا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون لحظة، ولا يملك رسولهم أن يؤخر أو يقدم شيئا، وهذا هو النظام العام. ومن هنا نعلم أن المؤمن يجب أن يعتقد أنه ليس هناك بشر في الوجود حيا أو ميتا رسولا أو وليا له دخل في شيء فهذا إمام الأنبياء وخاتم المرسلين يسجل الله عليه في القرآن قوله: لا أملك لنفسي ضرا ولا نفعا. وقد قرر ذلك في القرآن بأساليب متعددة. وهاكم رد آخر على استعجالهم:   (1) الأعراف 188. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 68 قل لهم: أخبرونى إن أتاكم العذاب المعد للعصاة والمجرمين وأنتم بالليل نائمون أو في النهار لاهون أو مشتغلون، ولا يخلو الحال من واحد منهما، إن أتاكم العذاب ماذا تستعجلون؟ أعذاب الدنيا أم عذاب الآخرة، إن كان هذا أو ذاك فهو حماقة وجهالة، لأنه استعجال لأمر محقق الوقوع. أيستعجل بالعذاب المجرمون منكم، ثم إذا وقع آمنتم به يوم لا ينفع نفسا إيمانها ما لم تكن آمنت من قبل، إذ فرق بين الإيمان والتصديق الخالص لله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وبين الإيمان للضرورة ولرؤية الخطر الداهم. ويقال لكم حينئذ: توبيخا وتأنيبا الآن آمنتم به اضطرارا؟ وقد كنتم به تستعجلون تكذيبا واستنكارا وتعجيزا، ثم قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان ذوقوا عذاب الخلد، والعذاب الدائم المستمر المعد لكم ولأمثالكم، هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون؟!! ويستنبئونك أيها الرسول، ويطلبون منك الخبر الصحيح أحق هذا الذي تقوله وتعد به الكفار؟ أحق هو؟ كأنهم لم يكونوا على يقين من تكذيبهم وَما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا قل لهم أيها الرسول: نعم إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ وما أنتم بمعجزين، ولا أنتم بهاربين وكيف تعجزون خالق السماء والأرض، وكيف تهربون؟ ولأيّ جهة تتجهون؟!! هذا العذاب الذي تستعجلونه في الدنيا، والذي أعد لكم في الآخرة، عذاب الله أعلم به وقد وصفه الله فقال: وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ بالاعتداء على نفسها أو على غيرها، ولو أن لها كل ما فِي الْأَرْضِ ثم رأت العذاب المعد لها لَافْتَدَتْ بِهِ نفسها، ولكن أنى لها ذلك؟ وهم حين يرون العذاب يسرون الندامة لاعتقادهم أنه لا فائدة في إظهار الندم والحسرة على ما فرط، وتارة يجهرون ويقولون: يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وقضى بينهم بالقسط، وهم لا يظلمون. والله- سبحانه- قادر على ذلك، ووعد به، ووعده الحق وكلامه الصدق، وهو القادر على كل شيء، وإليه المرجع والمآب ولذا اختم الآية بقوله: ما معناه أَلا إِنَّ لِلَّهِ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 69 ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ملكا وخلقا وتصرفا، أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ ومن أصدق من الله حديثا. وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ، وهُوَ يُحيِي وَيُمِيتُ وهو على كل شيء قدير، وإليه مرجعكم جميعا. القرآن الكريم وأغراضه الشريفة [سورة يونس (10) : الآيات 57 الى 58] يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) المفردات: مَوْعِظَةٌ الموعظة والوعظ الوصية بعمل الخير، واجتناب الشر بأسلوب الترغيب والترهيب الذي يرقق القلب ويلهب العاطفة. ويبعث على الإحسان في العمل وَرَحْمَةٌ رقة في القلب تقتضي الإحسان والبر والتعاطف والرحمة بالغير فَلْيَفْرَحُوا الفرح والسرور انفعال نفسي بنعمة حسية أو معنوية يلذ له القلب وينشرح به الصدر. هكذا القرآن يعاود الكلام على نفسه بأسلوب آخر مبينا هنا مقاصده وأغراضه الشريفة ليتجدد دائما عند القارئ الإدراك الصحيح والفهم السليم له، ولا تنس أن إثبات التوحيد، والبعث، والرسالة، وأن القرآن من عند الله، كل هذا من مقاصد الدين الحنيف. المعنى: يا أيها الناس ما بالكم تكذبون بالقرآن؟ ولما يأتكم تأويله، ولم تحيطوا به علما، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 70 يا أيها الناس قد جاءكم بهذا الكتاب وعظ يزلزل القلوب، ويرقق الطباع، ويصلح الأعمال، ويشفى أمراض الصدر، ويطهر القلوب ويهدى الناس إلى طرق الخير، ويغرس في قلوب المؤمنين أكثر من غيرهم رحمة على الغير وتعاطفا على الجميع. وها هو ذا القرآن الكريم وما فيه من تشريعات، وتوجيهات، ووصايا، وحكم، وقصص، وآداب، واجتماع يهدف إلى أربعة أغراض: 1- موعظة حسنة من الذي رباكم وتعهدكم بفضله ورحمته وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ [سورة آل عمران آية 138] إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ [سورة النساء آية 58] . 2- وَشِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ من أمراض الشك والنفاق، والشرك ومخالفة الوجدان والحقد والحسد، والبغي والعدوان، وحب الظلم وكراهية العدل وغير ذلك من الأمراض التي يضيق بها الصدر ويموت بها الضمير الحي. 3- والقرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فهو الذي يبين الحق من الضلال، ويهدى إلى الخير والرشاد، ويحذر من البغي والفساد. 4- وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وهي صفة قلبية نتيجة لما مضى من الوعظ والشفاء والهدى فالوعظ تعليم ينشأ عنه الشفاء من الأمراض وإزالة الأوساخ، ويترتب عليهما الهداية والتوفيق إلى الخير، وينشأ عن الثلاثة الرحمة وهي الرقة في القلب، وهي بكمال صفتها لا تكون إلا في المؤمنين الكاملين. وفي السنة المطهرة الكثير من الأحاديث التي تحث على الرحمة بالخلق جميعا، ويكفيها شرفا أنها صفة المؤمنين وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ [سورة البلد آية 17] أليس الرحمة من صفات النبي صلّى الله عليه وسلم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ. قل. لهم: بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا أصل العبارة في التركيب العادي ليفرحوا بفضل الله وبرحمته، ولكنها بالأسلوب القرآنى آية في البلاغة يعجز القلم عن بيان نواحيها وأحسن وصف لها أنها آية من كلام الله وكفى!! ولكن لا مانع من بيان بعض النواحي. فلقد قدم بفضل الله وبرحمته ليفيد الاختصاص أى: ليكن الفرح والسرور بفضل الله وبرحمته فقط، وكانت الفاء في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 71 قوله: فَلْيَفْرَحُوا للإشارة إلى تسبب الفضل والرحمة في الفرح، ويكون المعنى: إن كان في الدنيا شيء يستحق أن يفرح به فهو فضل الله ورحمته، وكان قوله: فَبِذلِكَ للتأكيد والتقرير، وإعادة الباء بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ للإشارة إلى أن كلا منهما يصلح سببا في الفرح، إن الفرح بفضله ورحمته أفضل وأنفع لهم مما يجمعون من حطام الدنيا الفانية لأنه هو الذي يجمع سعادة الدارين، ويدعو إلى الخيرين وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ [سورة القصص آية 77] . لون آخر في إثبات الوحى والنبوة [سورة يونس (10) : الآيات 59 الى 60] قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60) المفردات: تَفْتَرُونَ تختلقون وتكذبون أصل الفري قطع الجلد لمصلحة، والافتراء تكلف القطع، وشاع في تعمد الكذب. وهذه حجة أخرى على منكري الوحى، ورسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وكون القرآن من عند الله. المعنى: قل لهم أيها الرسول: أخبرونى، هذا الذي أفاضه عليكم ربكم من السماء والأرض، وأنزله عليكم من رزق تعيشون به فترتب على ذلك أن جعلتم بعضه حراما، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 72 وبعضه حلالا وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا الآيات من سورة الأنعام قل لهم: الله أذن لكم؟ ومعلوم أنه ليس لأحد في الوجود أن يحرم أو يحلل إلا الله- سبحانه وتعالى- فهل الله أذن لكم؟ بهذا عن طريق الوحى أم على الله وحده تفترون وتكذبون؟!! لا بد من الإجابة بأحد الأمرين، إما أن تقولوا بأن الله أذن بوحي من عنده نزل علينا، مع العلم أنكم تنكرون الوحى الإلهى وإما أنكم تفترون على الله الكذب. وما ظن الذين يفترون الكذب يوم القيامة؟!! أيظنون أنهم يتركون بغير عقاب على الجريمة؟ أم لهم شركاء شرعوا لهم ما لم يأذن به الله؟ وسيشفعون لهم يوم القيامة: لا هذا ولا ذاك، والويل لهم ثم الويل لهم!! إن الله لذو فضل على الناس عظيم لا ينكره إلا مكابر ومعاند فهو الرزاق ذو القوة المتين. وهو الرحمن الرحيم، وهو صاحب الفضل في أن جعل الشرع له وحده ولم يجعل حق التحليل والتحريم لغيره لئلا يتحكم في الخلق مخلوق، وهو صاحب النعم التي لا تعد ولا تحصى ولكن أكثر الناس لا يعرفون هذا ولا يشكرون فضل الله عليهم وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سبأ: 13] . مراقبته تعالى لعباده، وإحاطته بكل شيء علما [سورة يونس (10) : آية 61] وَما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61) المفردات: شَأْنٍ أى: أمر مهم تُفِيضُونَ أفاض في الشيء أو أفاض من المكان اندفع فيه بسرعة ما يَعْزُبُ أى: يبعد يقال عزب الرجل بإبله يعزب أى: يبعد ... بعد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 73 أن بين أن فضل الله عظيم، أنه قليل من عباده الشكور إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ أردف ما يفيد أنه عالم بكل شيء في الكون، وأنه محيط بكل ما يعملون ليحاسب الناس أنفسهم على تقصيرهم في شكرهم له. المعنى: وما تكون أيها الرسول في شأن من شئونك الخاصة بك أو العامة التي تدعو فيها إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، وما تتلو من أجل ذلك الشأن من قرآن ينزل عليك. وانظر إلى التعبير عن العمل بالشأن حين خطابه صلّى الله عليه وسلّم فإن في ذلك إشارة إلى أن أعماله كلها عظيمة وخطيرة حتى العادي منها إذ هو قدوة حسنة لغيره، ولقد خاطب الأمة بعد خطاب النبي وهو سيدها في أخص شئونه وأعلاها فقال: وَلا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ صغير أو كبير إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً فيه ومطلعين وسنجازيكم عليه فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ «1» إذ تفيضون فيه، وتندفعون بسرعة وخفة، وما يعزب عن ربك- جل شأنه- ولا يبعد عن علمه أقل شيء يبلغ وزنه ثقل ذرة «الذرة كالغبار الذي لا يرى إلا في ضوء الشمس من النافذة» في الأرض، ولا في السماء، ولا شيء أصغر من الذرة ولا شيء أكبر منها إلا وهو معلوم ومحصى في كتاب مرقوم عظيم الشأن تام البيان. وهل هناك ما هو أصغر من الذرات؟ نعم أثبت العلم الحديث مبدأ تحطيم الذرة وتقسيمها إلى ذرات ولقد صدق الله فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ وَما لا تُبْصِرُونَ «2» نعم. ولقد أرتنا آلات الكشف الحديثة «كالمكرسكوب» دقائق في الكون ما كنا نعرفها قبل ذلك، فسبحان الذي يعلم ما في البر والبحر وما في الأرض والسماء!! من هم أولياء الله [سورة يونس (10) : الآيات 62 الى 64] أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)   (1) سورة الزلزلة الآيتان 7 و 8. (2) سورة الحاقة الآيتان 38 و 39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 74 المعنى: أولياء الله هم أحبابه وأصفياؤه، والخلص من عباده، المخلصون في عبادتهم وتوكلهم، وحبهم، هم الذين آمنوا وكانوا يتقون- أولياء جمع ولى- وهذه الكلمة تتكون من واو ولام وياء. وهذه الأحرف مجتمعة تدل على القرب، والقرب منه- تعالى- في المكان والجهة محال، إنما يكون إذا كان القلب مستغرقا في نور معارفه، غارقا في بحر إدراكه، وسبحات وجهه، فإن رأى رأى دلائل قدرة الله، وإن سمع سمع آيات الله، وإن نطق نطق بالثناء على الله، وإن تحرك ففي خدمة دين الله، وإن اجتهد اجتهد في طاعة الله، فهنالك يكون في غاية القرب من الله، وحينئذ يكون وليا من أولياء الله وإذا كان العبد كذلك كان الله وليه وناصره، ومعينه ومتولى أمره، اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ. قال العلامة البيضاوي: أولياء الله الذين يتولونه باطاعة ويتولاهم بالكرامة ومحبة العبد لله تكون بطاعته ومحبة الله للعبد الكامل بحسن مثوبته، أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ وهذا الجزاء ثابت لجميع المؤمنين الصالحين المتقربين إلى الله في آيات كثيرة سبقت وستأتى. الذين آمنوا إيمانا كاملا بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر. وكانوا يتقون الله في ما يعملون ويذرون، فهم يتقون غضبه وعقابه بترك ما يغضبه، هؤلاء لهم البشرى في الحياة الدنيا بالنصر فيها ما داموا ينصرون الله ورسوله ويقيمون شريعته وأحكام قرآنه، ولهم البشرى بحسن العاقبة، وباستخلافهم في الأرض إن أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ وأما البشرى في الآخرة فالنعيم والجنة العالية ذات القطوف الدانية إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ. نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ. نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [سورة فصلت الآيات 30- 32] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 75 لا تبديل لكلمات الله، ولا خلف في وعد الله بل قوله الحق، ووعده الصدق، ومنه هذه البشارة، وذلك المذكور هو الفوز العظيم الذي ليس بعده فوز. وهنا لبعض الناس كلام في الأولياء لست أراه.. نسأله التوفيق والهداية والله أعلم بكتابه.. العزة لله [سورة يونس (10) : الآيات 65 الى 67] وَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) المفردات: الْعِزَّةَ الغلبة والقوة والمنعة يَخْرُصُونَ الخرص: الحزر والتخمين. لقد وعد الله أولياءه بالبشرى في الدنيا والآخرة، وأنهم لا يحزنون ولا يخافون وإذا كان لهم ذلك فما بالك بإمامهم وقائدهم الرسول الأعظم سيدنا محمد صلّى الله عليه وسلم؟!! المعنى: ولا يحزنك يا محمد قولهم أبدا، الذي سجل عليهم في هذه السورة وغيرها من تكذيب وكفر وتعجب من الوحى إلخ. ما مضى، ولا تحزن فالله قد كتب وقدر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 76 ليغلبن هو ورسله، إن الله قوى عزيز، وكأن سائلا سأل وقال لم؟ فأجيب إن العزة لله جميعا، نعم إن الغلبة والقهر، والنصر والمنعة لله جميعا، لا يملك أحد من دونه شيئا، له الأمر من قبل ومن بعد، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، وهو السميع لما يقولونه العليم بما يفعلونه وسيجازيهم عليه، فلا يهمنك أمرهم وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتأكيد لوعده بالنصر. ألا إن لله كل من في السموات، وكل من في الأرض، وخص العقلاء بالذكر لكون غيرهم من باب أولى في العبودية والملكية، فالأصنام والأوثان التي لا تعقل أولى وأحق ألا تتخذ لله شريكا ولا ندا، وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء في الربوبية؟ إن يتبعون إلا الظن الذي لا يغنى من الحق شيئا، وإن هم إلا يخرصون ويكذبون، فإن من يحكم حكما على غير أساس يكون كاذبا فيه ومدعيا غير الواقع وكيف يسوون الله الذي له كل من في السماء والأرض بهذه الأصنام؟ وهو الذي جعل لكم الليل ظلاما لتسكنوا فيه وتهدءوا من عناء العمل ولتجددوا نشاطكم حتى إذا أقبل النهار قمتم فيه للعمل والكدح في الدنيا والعبادة والتقرب إلى الله، فهو الذي جعل الليل للنوم والنهار مبصرا للمعاش والعبادة إن في ذلك لآيات واضحات لقوم يسمعون. كيف يكون لله ولد [سورة يونس (10) : الآيات 68 الى 70] قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 77 المفردات: سُلْطانٍ المراد حجة قوية تتسلط على العقول. هذا لون آخر من شركهم، وادعاء باطل هو اتخاذ الله ولدا وقد شاركهم في ذلك بعض أهل الكتاب، ولذلك مكان آخر. المعنى: زعم بعض المشركين أن الملائكة بنات الله كما زعم بعض النصارى أن المسيح ابن الله وبعض اليهود أن عزير ابن الله، كبرت كلمة تخرج من أفواههم جميعا إن يقولون إلا كذبا وبهتانا، كيف يتخذ الله ولدا؟ وهو الخالق للسموات والأرضين وكل ما فيهما، لا يشبهه أحد من خلقه، ولا يحتاج إلى أحد من خلقه بل الكل محتاج إليه، وهو الغنى بذاته عن كل شيء- سبحانه وتعالى- له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا لا يشاركه في ذلك أحد. والولد يحتاج إليه أبوه لإبقاء ذكره، وهو قوته وعصبته وأهله وعشيرته، ومتاعه وزينته، عليه يعتمد، وبه يفاخر، وقد يحتاج إليه في كبره وضعفه وهل يحتاج الله إلى شيء من ذلك كله؟! وهو الغنى- سبحانه وتعالى- عما يصفون!! ما عندكم من سلطان وحجة على قولكم الإفك!! أتقولون على الله ما لا تعلمون!! وهذا استفهام تبكيت وتوبيخ. قل لهم: إن الذين يفترون على الله الكذب الصريح باتخاذهم الشركاء، وزعمهم أن له ولدا لا يفلحون أبدا، ولا ينجون من عذاب الله. وهل يمتعون في الدنيا أم لا؟ فأجيب أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة ومتاعها قليل لا قيمة له. ثم إلى الله مرجعهم فسيحاسبهم حسابا عسيرا ثم يذيقهم العذاب الشديد بسبب كفرهم بالله ووصفه بما لا يليق قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [سورة الإخلاص] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 78 قصة نوح عليه السلام [سورة يونس (10) : الآيات 71 الى 74] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) المفردات: كَبُرَ عَلَيْكُمْ عظم وشق عليكم مَقامِي أى: قيامي فيكم تَذْكِيرِي أى: إعلامى بآيات الله ووعظي ونصحى غُمَّةً أي: خفيا فيه شيء من الحيرة واللبس اقْضُوا أدوا إلى خَلائِفَ جمع خليفة والمراد: يخلفون غيرهم في عمارة الأرض وسكناها. هذه السورة في خطاب المشركين والاحتجاج عليهم وإثبات الوحدانية والرسالة والبعث والجزاء يوم القيامة، وتذكيرهم بمن سبقهم وكيف كانت عاقبة المكذبين للرسل وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 79 وها هي ذي قصة بعض الأمم مع رسلهم، حيث كان النصر للرسل ومن معهم، والهزيمة للكفار مع كثرة عددهم وعدتهم، وفي هذا كله تسلية للنبي، ووعد له بالنصر، وحث للمؤمنين على أن يقلدوا من سبقهم. المعنى: واتل يا أيها الرسول على قومك المكذبين المغرورين قصة نوح وخبره المهم إذ قال لقومه: يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي فيكم- فقد لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما- وشق عليكم ما أدعوكم إليه من عبادة ربكم وعدم الإشراك به شيئا، وكبر عليكم تذكيري بآيات الله ووعظي ونصحى لكم وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ [سورة هود آية 34] إن كان هذا كله حصل فعلى الله وحده توكلت، وعليه اعتمدت لا على غيره. فأجمعوا أمركم واتفقوا على ما تريدون مع شركائكم وآلهتكم التي تعبدونها من دون الله، ثم لا يكن أمركم بعد هذا خفيا عليكم بل كونوا على بصيرة منه، ثم اقضوا إلىّ بعد العزم الثابت والفحص التام الذي يجلى الأمر بحيث لا يكون فيه خفاء بما ترون، ونفذوا ما عزمتم عليه، ولا تنظرون، وهكذا الموقف! وهكذا الوثوق بالله، ولا غرابة في ذلك فهو نوح الأب الثاني للبشر، توكل على الله، ووثوق بنصره، وتحد سافر للمشركين ولشركائهم، فإن توليتم وأعرضتم عن دعوتي وتذكيري فما سألتكم على ذلك أجرا ولا مالا إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب، يا قومنا إن أجرى وجزائي عند الله وحده، وقد أمرت أن أكون من المسلمين إليه المنقادين لحكمه. وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه. أما هم فكذبوه وعصوه، ولم يستمعوا لأمره ونهيه فكان من أمرنا وسنتنا التي لا تتخلف، أن نجيناه والذين معه في السفينة التي صنعها بأمرنا ووحينا، وجعلنا المؤمنين معه خلفاء في الأرض يخلفون أولئك المكذبين وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا بعد أن أنذرناهم ووعظناهم فانظر يا من يتأتى منه النظر. كيف كان عاقبة المنذرين الذين يكذبون الرسل خاصة أنت يا محمد انظر كيف كان حالهم وكذلك تكون عاقبة المؤمنين، وعاقبة المكذبين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 80 ثم بعثنا من بعد نوح رسلا إلى قومهم فأرسل إلى عاد أخوهم هود وإلى ثمود أخوهم صالح، وإلى مدين والمؤتفكات أخوهم شعيب وهكذا غيرهم مما لا يعلمهم إلا ربهم، فجاءوا قومهم بالبينات والهدى والآيات فما كان منهم أى من أكثرهم أن يؤمنوا بما كذب به المتقدم من قبل. وهكذا، وعلى غرار هذه السنة التي اطردت في الأمم السابقة نطبع على قلوب المعتدين إذا كانوا مثلهم، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا والمراد بالطبع عدم قبولها شيئا من نور الهداية والمعرفة لأنهم اعتدوا كل حد وتجاوزوا كل وضع سليم. قصة موسى مع فرعون [سورة يونس (10) : الآيات 75 الى 82] ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَهارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 81 المفردات: لِتَلْفِتَنا لتصرفنا عنه الْكِبْرِياءُ الرياسة الدينية والملك الدنيوي هذه هي قصة موسى وهارون مع فرعون وأشراف قومه، وهذه الآيات الأربع في تكذيب فرعون وملئه لموسى ووصف آياتهم بالسحر وبيان السبب في التكذيب. المعنى: ثم بعثنا من بعد الأنبياء الذين أرسلت إلى أقوامهم وكان منهم ما كان، بعثنا موسى وأخاه هارون إلى فرعون ملك مصر وأشراف قومه، أما العامة فتابعون لهم في الإيمان والكفر ولذا لم يذكروا، بعثناهما مؤيدين بالآيات التسع التي ذكرت في سورة الأعراف وغيرها. فاستكبروا، وأعرضوا عن الإيمان بموسى وهارون كبرا وعلوا في الأرض وفسادا وَكَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ [سورة الأنعام آية 123] وكان فرعون وملؤه قوما مجرمين، تلك خلاصة مجملة لقصتهم، وأما التفصيل. فلما جاءهم الحق، وهو الآيات الدالة على الألوهية، وصدق رسله جاءتهم من عندنا على لسان موسى وهارون وعلى يديهما. قالوا: إن هذا لسحر مبين ظاهر، قالوا مقسمين على قولهم مؤكدين له بأن، واسم الإشارة، واللام، واسمية الجملة. فماذا قال لهم موسى؟ قال: أتقولون هذا؟!! للحق الظاهر والآيات البعيدة عن السحر وكيده عجبا لكم أتقولون: أسحر هذا؟! أى: هذا الذي ترونه من آيات الله البيّنات لا يمكن أن يكون سحرا، وكيف يكون ذلك؟ والحال المعروف أنه لا يفلح الساحر في الأمور الجدية المهمة وإنما السحر خيال ووهم في الأمور الشكلية البحتة فكيف بعظائم الأمور من دين أو قانون. قالوا: أجئتنا يا موسى لتصرفنا عن دين ورثناه عن قومنا، ووجدنا عليه آباءنا ولتكون لكما الرياسة الدينية، وما يتبعها من كبرياء الملك والعظمة الدنيوية، وما نحن لك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 82 ولأخيك بمؤمنين حتى لا يضيع دين الآباء، وما يتبعه من رئاسة وملك وهكذا كان السبب في تكذيب الرسل دائما!! وقال فرعون لملئه بعد ما رأوا موسى مصرا على دعواه قال: ائتوني بكل سحار عليم، ماهر في هذه الصنعة صناع إذ هم كانوا لغباوتهم لا يفرقون بين السحر والآية الإلهية. فلما جاءهم السحرة وجمعوهم من كل حدب وصوب قال لهم موسى بعد أن خيروه بين أن يلقى ما عنده أولا أو يلقوا هم ما عندهم كما هو في سورة الشعراء: أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ [الآية 43] من فنون السحر وأفاعيله. فلما ألقوا ما عندهم من الحبال والعصى قال موسى: ما جئتم به هو السحر بعينه لا ما جئت به من الآيات التي سماها فرعون وملؤه سحرا، إن الله سيبطله قطعا أمام الناس ولا غرابة أن الله لا يصلح عمل المفسدين، وأن الله يحق الحق بكلماته التكوينية والتشريعية ولو كره المجرمون، اقرأ يا أخى تتمة هذه القصة في سورة الأعراف وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ... [117 وما بعدها] الذين آمنوا بموسى [سورة يونس (10) : الآيات 83 الى 87] فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 83 المفردات: ذُرِّيَّةٌ الصغار من قومه أَنْ يَفْتِنَهُمْ الفتنة الاختبار والابتلاء بالشدائد لَعالٍ قوى شديد البطش والفتك. المعنى: ألقى موسى عصاه فإذا هي تلقف ما يأفكون، وظهر الحق وبطل ما كانوا يعملون، وألقى السحرة ساجدين، وقال فرعون: آمنتم به قبل أن آذن لكم إن هذا لمكر مكرتموه، لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم أجمعين إزاء هذا العمل الفاجر، والقوة الغاشمة: وبسبب هذا كله ما آمن لموسى وما استسلم له إلا ذرية من قومه بنى إسرائيل، آمنوا على خوف من فرعون وأعوانه، أن يبتلوهم بالشدائد، وأن يفتنوهم عن الإيمان، والحال أن فرعون لقوى البطش شديد الفتك قال: سنقتل أبناءهم ونستحيى نساءهم وإنا فوقهم قاهرون. وإن فرعون لمن المسرفين المتجاوزين حدود العقل والإنسانية، وهكذا كل جبار عتيد. وإذا كان لم يؤمن لموسى إلا الشبان المراهقون من قومه وجماعة من قوم فرعون يكتمون إيمانهم خوفا من بطش فرعون بعد ظهور هذه الآيات الكونية الظاهرة التي لا تدع شكا لناظر، فأنت يا محمد لا تحزن ولا تغتم بسبب إعراض قومك عن الإيمان بك، ولك في الأنبياء قبلك الأسوة الحسنة. وقال موسى: يا قوم إن كنتم آمنتم، فاصبروا، وكونوا مؤمنين حقّا بالله، وعليه وحده توكلوا، وإليه وحده الجأوا إن كنتم مسلمين.. فقالوا: على الله وحده توكلنا، وبه وحده استعنا على أعدائنا وأعداء ديننا، ودعوا الله قائلين: ربنا لا تجعلنا فتنة بأن تنصرهم علينا فيفتتن الناس ويقولون: لو كان هؤلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 84 على حق لما هزموا أمام فرعون وظلمه، ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين، ونجنا برحمتك وعفوك من القوم الكافرين الطغاة المجرمين فإنك وعدت، ووعدك الحق إنك تنصر عبادك المؤمنين بك المتبعين لرسلك، كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ [الروم 47] . وأوحينا لموسى وأخيه، أن اتخذوا لقومكما بمصر بيوتا تسكنون فيها، واجعلا بيوتكم متقابلين في جهة واحدة، وقيل المعنى: واجعلوا بيوتكم قبلة للصلاة تصلون فيها خوفا من فرعون وملئه بدليل قوله وأقيموا الصلاة، وبشر المؤمنين بحفظ الله ورعايته، ونصره لهم في كل زمان وحين. من مواقف موسى مع فرعون [سورة يونس (10) : الآيات 88 الى 93] وَقالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89) وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92) وَلَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 85 المفردات: زِينَةً ما يتمتع به من الحلل والحلي والرياش والأثاث واللباس اطْمِسْ طمس الأثر إذا أزاله حتى لا يعرف وَجاوَزْنا جاز المكان وتجاوزه، وجاوزه إذا ذهب فيه وقطعه حتى خلفه وراءه فَأَتْبَعَهُمْ لحقهم نُنَجِّيكَ نجعلك على نجوة من الأرض والنجوة المكان المرتفع الذي ينجى صاحبه من السيل. وذكر سبب كفرهم وعنادهم، وهو حب الدنيا ومتاعها الفاني، وقال موسى: ربنا إنك أعطيت فرعون وأعوانه وجنده زينة من الحلي والحلل، والفراش والأثاث، وأعطيتهم المال والجاه حتى بنوا القصور ورفعوا القبور، وأنفقوا في حظوظ الدنيا ومتاعها الشيء الكثير. ربنا أعطيتهم هذا العطاء فكان عاقبة أمرهم خسرا، وكانت نتيجة هذه النعم أنهم ضلوا عن سبيلك، وأضلوا غيرهم. ربنا اطمس على أموالهم، وأزل آثارها، وامحها بما تنزله من الآفات والكوارث، واشدد على قلوبهم، واربط عليها برباط قوى حتى لا ينفذ إليها نور الهدى والإيمان فيزدادوا قسوة وظلما، فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم. روى أن موسى كان يدعو وهارون يؤمن، واستجاب الله دعاءهما، وأمرهما أن يظلا على استقامتهما ودعوتهما فرعون وقومه إلى الحق والعدل وألا يتبعا سبيل الذين لا يعلمون . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 86 المعنى: كان لا بد للمتعب أن يستريح، وللمضطهد أن يتنفس الصعداء، ويخرج من السجن، نعم أراد الله لبنى إسرائيل أن يكشف عنهم ظلم فرعون، وأن يخرجوا من مصر إلى أرض الميعاد، وقد خرج بهم موسى وأخوه على حين غفلة من فرعون وعيونه فلما وصل خبرهم إليه، جمع جموعه وأدركهم على شاطئ البحر (بحر السويس) فقالوا: يا موسى هذا فرعون وراءنا والبحر أمامنا وماذا نفعل؟ فأوصى الله إلى موسى: أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالجبل وسط البحر فساروا عليه وجاوزوا البحر بعناية الله ورعايته حتى كأنه معهم، أما فرعون فلحقهم هو وجنوده حالة كونهم باغين معتدين. وخاضوا البحر كما خاض بنو إسرائيل، ولكن اليم قد ابتلعهم إذ لم يركبوا سفن النجاة فلما أدركهم الغرق، وأيقنوا أنهم المغرقون لا محالة قال فرعون في تلك الحال التي يؤمن فيها البر والفاجر، والكافر والعاصي، تلك الساعة التي لا تنفع فيه توبة، ولا إيمان، قال: آمنت بالله، أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل، وأنا من المسلمين المنقادين. تراه وقد جمع الإيمان والإسلام، وكرر المعنى الواحد ثلاث مرات ولكن هو كما قال الشاعر: أتت وحياض الموت بيني وبينها ... وجادت بوصل حين لا ينفع الوصل أتؤمن الآن؟! وقد عصيت الله كثيرا، وكنت من المفسدين، فاليوم نجعلك بنجوة من الأرض، ونقذف ببدنك على ساحل البحر ليؤمن بموتك من شك أنك لم تمت، وظن أنك فوق البشر، ولتكون لمن خلفك آية على قدرة الله وحكمته. فها هم بنو إسرائيل الضعفاء المستضعفون الذين طالما أذاقهم فرعون سوء العذاب يذبح أبناءهم ويستحى نساءهم إنه كان من المفسدين!! الله نجاهم ونصرهم على من؟ على فرعون صاحب الجند والطول، والحول والقوة، فرعون الذي يقول: أنا ربكم الأعلى!! أليس لي ملك مصر؟ وهذه الأنهار تجرى من تحتي. وها أنتم أولاء يا معشر قريش لستم أشد قوة ولا أكثر جندا، ولا أكثر مالا وعددا من فرعون. فاعتبروا يا أولى الأبصار: وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 87 ولقد بوأنا بنى إسرائيل مكانا للإقامة أمينا، ورزقناهم من الطيبات فيه، لقد وعد الله على لسان إبراهيم وإسحاق ويعقوب هذه الأرض وهي أرض فلسطين، ولما كفروا بالأنبياء وخاصة عيسى ومحمدا- عليهما السلام- نزعها الله منهم. وإذا كان كذلك فما اختلفوا حتى جاءهم ما كانوا به عالمين، وذلك أنهم كانوا قبل بعثة النبي (محمد) مقرين به، مجمعين عليه، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، ولما بعث اختلفوا فيه فآمن بعضهم وكفر البعض الآخر حسدا وحبا للرياسة ولجمع المال، وإن ربك يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا يختلفون، وسيجازيهم على ذلك فلا يهمنك أمرهم في شيء. تقرير صدق القرآن [سورة يونس (10) : الآيات 94 الى 97] فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97) المفردات: حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ أى: ثبت عليهم قضاؤه وحكمه. المعنى: أن الله- عز وجل- قدم ذكر بنى إسرائيل فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 88 وهم حملة الكتاب «التوراة والإنجيل» ووصفهم بأن العلم قد جاءهم إذ أمر رسول الله مكتوب عندهم، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، فأراد هنا- جل شأنه- أن يؤكد علمهم بصحة القرآن وصدق نبوة محمد- عليه الصلاة والسلام- على سبيل المبالغة فقال: فإن وقع منك شك فرضا وتقديرا- كما تقول لابنك: إن كنت ابني حقا فافعل كذا- مما أنزلناه إليك من قصص نوح وموسى مثلا، فسل علماء أهل الكتاب الذين يقرءون الكتاب من قبلك، والمراد أنهم على علم تام بصحة ما أنزل إليك، وهم يصلحون لمراجعة مثلك ومساءلتهم فضلا عن غيرك، فالغرض وصف الأخبار بالعلم لا وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم بالشك والريب، وعن ابن عباس- رضى الله عنه-: لا والله ما شك طرفة عين، ولا سأل أحدا منهم، وقيل: خوطب رسول الله فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ والمراد أمته أو من يقع في شك فعليه بالرجوع إلى مصادر العلم من الكتب الإلهية، ومناقشة أهل العلم ورجاله. تالله لقد جاءك الحق الثابت من ربك الذي لا شك فيه أبدا ولا ريب، فلا تكونن من الممترين الشاكين. والمراد دم على ما أنت عليه. ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله فتكون من الخاسرين في الدنيا والآخرة، وفي هذا تعريض بالكفار المكذبين الخاسرين الضالين. إن الذين حقت عليهم كلمة ربك وثبت فيهم حكمه وقضاؤه لا يؤمنون أبدا، وليس المعنى أن الله يمنعهم من الإيمان، بل هم الذين يختارونه ويكسبونه، والمراد أن من علم الله فيهم خيرا أو شرا لا بد من حصوله لأن علم الله لا يتخلف. إن هؤلاء الذين علم الله أنهم لا يؤمنون. هم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية كونية أو علمية أو قرآنية، لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، وحينئذ لا ينفعهم إيمان ولا توبة. إيمان قوم يونس [سورة يونس (10) : الآيات 98 الى 100] فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 89 المفردات: الرِّجْسَ القذارة، وأقبح الخبث المعنوي. المعنى: الإيمان الذي ينفع صاحبه هو الإيمان وقت التكاليف، أما إذا حصل في وقت تسقط فيه التكاليف. وذلك عند حشرجه الموت، أو عند الغرق، كما حصل لفرعون، أو عند نزول العذاب، فلا ينفع نفسا- والحالة هذه- إيمانها. فهلا كانت قرية من القرى التي أرسل فيها الأنبياء السابقون آمنت في وقت ينفعها الإيمان أى: وقت العمل لا وقت نزول العذاب واستحالة العمل والمعنى: ما كانت قرية آمنت إلا قوم يونس آمنوا لما ذهب مغاضبا، وحذرهم العذاب الشديد، ورأوا تباشيره، فلما آمنوا كشفنا عنهم العذاب، ومنعنا عنهم الخزي والهلاك في الدنيا، ومتعناهم لما آمنوا إلى انقضاء آجالهم المقدرة لهم. ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا. بأن يخلقهم وفيهم الاستعداد للإيمان فقط كالملائكة، ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولكن شاءت مشيئته العالية لحكم هو يعلمها أن يخلق الإنسان وفيه استعداد للخير والشر، وللإيمان وللكفر وتركه بلا إلجاء وقسر بل جعل له الحرية الكاملة لاختيار إحدى الطريقتين بعد أن هداه النجدين وأبان له الأمرين. أفأنت تكره الناس على الإيمان؟!! لا، لا إكراه في الدين لمخلوق أبدا وإنما الذي يقدر على الإكراه هو الله- سبحانه وتعالى- القادر على كل شيء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 90 وما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله وإرادته، ويجعل الرجس والهلاك على الذين لا يعقلون، ولا يختارون الخير ولا يسلكون سبل الرشاد والسداد فاعتبروا يا أولى الأبصار لعلكم تذكرون.. إنذار وبشارة، وحث على العلم [سورة يونس (10) : الآيات 101 الى 103] قُلِ انْظُرُوا ماذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) المفردات: أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا المراد: وقائع الذين مضوا وحوادثهم. المعنى: يأمرنا الله- سبحانه وتعالى- بالنظر والتفكير بعين البصيرة والاعتبار انظروا ماذا في السموات والأرض من آيات الله البينات؟ انظروا ما فيها من نظام رتيب، وترتيب عجيب وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «1» انظروا إليها بعين البصر والبصيرة، تجد خالق هذا الكون على هذا النظام لا يمكن أن يتركه هملا، ولم يخلقه عبثا، وهذا يدعو إلى التصديق بالرسل والإيمان بالوحي والقرآن.   (1) سورة يس الآيات 38- 40. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 91 ولكن ما تغنى الآيات القرآنية والآيات الكونية عن قوم لا يؤمنون بالله ورسله، ولم يستخدموا عقولهم فيما خلقت من أجله، وليس المراد بقوله- تعالى- فيما مضى وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ المجانين بل الذين لم يستخدموا العقول فيما خلقت له من المعرفة الصادقة والإيمان الكامل فهل ينتظر الذين لم يؤمنوا، ولم يستفيدوا من الآيات إلا وقائع وحوادث كالتي نزلت بمن مضى من الأقوام السابقين، وقد مر بك جزء منها في هذه السورة. قل لهم: إذا كان الأمر كذلك فانتظروا إنى معكم من المنتظرين. وفي النهاية قد حكم الله حكما لا راد له أنه سينجى رسله والمؤمنين، حكم بذلك وقدر، وقال في كتابه: كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا «1» وَمَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ «2» . وفي هذه الآية إشارة إلى وجوب النظر في الكون، والبحث عما فيه للاعتبار، وتربية الخشية من الله والإيمان به، وحث على العلم والبحث في الكون ولا غرابة فأنت إذا قلت أن أول ما نزل على نبيك محمد صلّى الله عليه وسلّم قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ «3» أدركت أن الإسلام دين علم وعمل، وأن نبيك الأمى هو المعلم الأول. المبادئ العامة للدعوة الإسلامية [سورة يونس (10) : الآيات 104 الى 107] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)   (1) سورة النساء آية 103. (2) سورة التوبة آية 111. (3) سورة العلق آية 1. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 92 المفردات: يَتَوَفَّاكُمْ يقبض أرواحكم حَنِيفاً مائلا عن الشرك وما يتبعه بِضُرٍّ من مرض أو ألم. المعنى: قل يا محمد للناس جميعا قولا مجملا مختصرا تبين فيه الخطوط الرئيسية لرسالتك العامة الشاملة، إن كنتم في شك قليل من ديني ورسالتي فاعلموا أنى لا أعبد الذين تعبدونهم من دون الله أبدا، كالأحجار، والأصنام، والأوثان، والبشر هؤلاء جميعا لا ينفعون ولا يضرون أنفسهم فكيف يتصور منهم نفع أو ضر لغيرهم؟ ولكني أعبد الله وحده لا أشرك به شيئا- سبحانه وتعالى- الذي يتوفاكم إليه، وإليه مرجعكم وجزاؤكم، وعنده حسابكم الدقيق الذي أحصى كل شيء عددا، وأمرت أن أكون من المؤمنين الناجين من عذاب يوم القيامة، وهذا الوصف بالإيمان يجمع جميع شعبه ونواحيه، وأمرت بأن أقيم وجهى خالصا لله ولدينه مائلا عن الشرك بكل صوره وأشكاله البسيطة والكبيرة، ونهيت عن أن أكون من المشركين، ولا تدع يا محمد متجاوزا الله- سبحانه- ما لا ينفعك ولا يضرك فإن فعلت فإنك إذا من الظالمين لنفسك. واعلم أن الله- سبحانه وتعالى- إن يمسسك في جسمك أو في مالك بأى شكل كان فلا كاشف لهذا الألم والضر إلا هو.. وإن يرد بك خيرا في دينك أو دنياك فلا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولا مانع لفضله- سبحانه وتعالى- عما يصفون. بل فضله يصيب به من يشاء من خلقه حسب حكمته وعلمه وهو الحكيم في أمره العليم بخلقه وهو الغفور الرحيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 93 خلاصة ما مضى [سورة يونس (10) : الآيات 108 الى 109] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109) هذه خاتمة المطاف في تلك السورة العظيمة التي شرحت الأسس العامة للذين، وبينت عقائد الإسلام التي ينكرها مشركوا العرب من توحيد الله. والوحى والرسالة والبعث والجزاء، وما ينكرونه من صفات الله- سبحانه وتعالى- وتكلمت على القرآن الكريم وهدايته وما فيه من خير للبشرية جميعا، وكيف كانت الأمم السابقة وما حصل لها، نتيجة كفر من كفر وإيمان من آمن. هذا النداء المأمور به الرسول الأعظم هو للناس جميعا على اختلاف أشكالهم وألوانهم من سمع منهم بالقرآن ومن سيسمع في المستقبل وهو إجمال عام لما في السورة. قل يا أيها الرسول للناس جميعا قد جاءكم الحق من ربكم على لسان رجل منكم أوحى إليه، هذا الحق الثابت الذي لا شك فيه كتاب أحكمت آياته، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فمن اهتدى به فإنما يهتدى لنفسه ومن كفر فإنما يضل على نفسه، وما أنا عليكم بوكيل، إن أنا إلا نذير وبشير. واتبع يا محمد ما يوحى إليك من ربك في القرآن علما وعملا وتعليما وحكما وهداية وإرشادا، واصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، ولا تستعجل لهم حتى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين. يا أيها الناس .... إن الله الذي وضع نظاما دقيقا محكما لهذا الكون وما فيه، لم يختل ولن يختل لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 94 يعقل أن يترك الإنسان المكرم عنده، المشرف من خلقه بلا نظام ولا قانون يحكمه ويهديه. والله قد أنزل القرآن وفيه حكم الله وآياته وقوانينه الصالحة النافعة، قوانين إلهية ودساتير ربانية صنعها صانع السماء والأرض، وأوجدها موجد هذا الكون. أفبعد هذا تتركونها إلى غيرها أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ. [سورة المائدة آية 50] . أسأل الكريم في ختام هذا الجزء أن يوفق قادة الأمة وحكامها إلى الخير والسداد في اختيار دستور البلاد وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ [سورة المائدة آية 49] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 95 سورة هود مكية على القول الصحيح، وعدد آياتها ثلاث وعشرون ومائة. وقد نزلت بعد سورة يونس؟ هي في معناها وموضوعها، وفصل فيها ما أجمل في سابقتها، وكلاهما يتناول أصول العقائد، وإعجاز القرآن والكلام على البعث والجزاء والثواب والعقاب، مع ذكر قصص بعض الأنبياء بالتفصيل ألا ترى أن المناسبة بينهما ظاهرة؟! وروى الترمذي عن ابن عباس قال: قال أبو بكر- رضى الله عنه-: يا رسول الله: قد شبت! قال: «شيّبتنى هود، والواقعة، والمرسلات، وعمّ يتساءلون، وإذا الشّمس كوّرت» ، ولا غرابة ففي تلاوة هذه السورة ما يكشف سلطان الله وبطشه مما تذهل منه النفوس، وتضطرب له القلوب وتشيب منه الرءوس. وذلك حينما نقف على أخبار الأمم الماضية، وما حل بها من عاجل بأس الله، وقيل: إن الذي شيبه من سورة هود قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ. في الأصول العامة للدين [سورة هود (11) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 97 المفردات: الر تقرأ ألف. لام. را، وفيها ما ذكرناه في أول سورة البقرة من اختلاف العلماء وانتهينا إلى أنها سر من أسراره تعالى، هو أعلم به، وفي القرآن الكريم محكم ظاهر المعنى ومتشابه الله أعلم به، والرأى الثاني: أنها للتحدى والإلزام، أو هي أداة استفتاح وتنبيه لما سيلقى بعدها. والملاحظ أن هذه السور المفتتحة بتلك الحروف مكية إلا سورتي البقرة وآل عمران، وأنها تعالج إثبات التوحيد والبعث والكلام على القرآن الكريم وإعجازه إلخ. ما كان يخاطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم مشركي مكة، ويلاحظ أن فيها غالبا قصص الأنبياء الذين كانوا يسمعون عنهم، ولا يعرفون من أخبارهم شيئا، وهذه الحروف تارة تكون آية مستقلة، أو تكون جزء آية وصدق الله وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الإسراء آية 85] . المعنى: هذا كتاب عظيم الشأن لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد، كتاب أحكمت آياته بوضوح المعنى، وبلاغة الدلالة وقوة التأثير، فهي كالبناء المحكم والحصن المنيع لا ريب فيها ولا شك. ثم فصلت، ورتبت، ونظمت، وسويت، في سور مترابطة، وآيات متناسبة فكل سورة منه آية بديعة، وقطعة فنية عالية في سماء البيان والبلاغة، فصلت كما تفصل القلائد بالفوائد، ففي السورة عقائد وأحكام، وقصص ومواعظ وأدب واجتماع، وعلوم ومعارف، وغير ذلك. أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم كامل الحكمة، وخبير عليم، هو الذي فصلها، وفي ذكر (ثم) إشارة إلى أن مرتبة التفصيل أعلى وأسمى من مرتبة الأحكام فقد جمع القرآن بين أطراف الكمال والجلال. فصل هذا الإحكام، والتفصيل للقرآن وآياته لئلا تعبدوا إلا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، وهذا هو الأساس الأول، والمقصود المهم لكل نبي ورسول كما ستراه في القصص الآتية. وقيل أمر رسول الله أن يقول للناس: أمركم ربكم ألا تعبدوا إلا الله، إننى لكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 98 منه- سبحانه وتعالى- نذير لمن أصر على الكفر والشرك والمعصية، نذير لهؤلاء بالعذاب الأليم، وبشير لمن آمن واهتدى بالسعادة والنعيم المقيم. وأن استغفروا ربكم، واسألوه المغفرة من الشرك والكفر والذنب ثم توبوا إليه نادمين على الفعل، عازمين على عدم العودة، مصلحين ما أفسدتم، عاملين الصالح من الأعمال إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً [سورة الفرقان آية 70] . وانظر يا أخى في الجمع بين الاستغفار والتوبة والعطف بثم!! وهذا كله يفيد أن القول غير العمل، وأن مرتبة العمل (التوبة) مرتبة عالية سامية فوق مرتبة الاستغفار. ما جزاء هذا؟!! جزاء من تاب وعمل صالحا بعد الاستغفار جزاؤكم أن الله يمتعكم متاعا حسنا من رزق حلال، وسعادة في الدنيا، وعيشة رغدة، ونعمة متتابعة كل هذا إلى أجل مسمى، ونهاية محدودة بالموت والفناء، وانقضاء الأجل. المحدد عنده- تعالى-، هذا هو الجزاء في الدنيا، أما في الآخرة فسيؤتى كل ذي فضل من علم وعمل نافع جزاء فضله مطردا كاملا غير منقوص. انظر يا أخى- وفقك الله- إلى قوله- تعالى-: يُمَتِّعْكُمْ. وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ حيث جمع في جزاء الدنيا، وجعله موقوتا محدودا، وفي جزاء الآخرة إفراد ولم يقيد بشيء، وفي هذا إشارة إلى أن ثواب الدنيا لمجموع الناس لا لكل فرد، وأما في الآخرة فسيكون لكل فرد على حدة وعلى ذلك فالمعنى: أيها المخاطبون من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم إنكم إن تجتنبوا الشرك والإثم، وتعبدوا ربكم وحده وتستغفروه من كل ذنب، وتتوبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا تكونون به في الدنيا غير الأمم نعمة وقوة وعزة ودولة، ويعط كل ذي فضل وعمل جزاء فضله في الآخرة كاملا غير منقوص كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ وأن تتولوا وتعرضوا فإنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير هوله، عظيم خطره، يوم تذهل كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، وترى الناس سكارى، وما هم بسكارى، ولكن عذاب الله شديد، وقيل: المراد بهذا اليوم أن يصيبنا في الدنيا ما أصاب غيرنا من أقوام الرسل، وأما يوم الآخرة فأشار إليه بقوله: إِلَى اللَّهِ وحده مَرْجِعُكُمْ جميعا، وجزاؤكم على أعمالكم كلها وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 99 من أعمال الكفار مع كمال علم الله وقدرته [سورة هود (11) : الآيات 5 الى 7] أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5) وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَمُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) المفردات: يَثْنُونَ يقال: ثنى الثوب إذا عطف بعضه على بعض فطواه، وثناه عنه لواه وحوله وطواه ليخفيه، وثنى عطفه أعرض بجانبه تكبرا والمراد: أعرضوا وطووا صدورهم على ما فيها من مكنون الحقد والحسد لِيَسْتَخْفُوا أى: فلا يراهم أحد يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يغطون بها جميع أبدانهم. دَابَّةٍ الدابة اسم عام يشمل كل ما يدب على الأرض زحفا على بطنه أو مشيا على قوائمه سواء كانت ثنتين أو أكثر، وإطلاق الدابة على ما يركب من خيل أو حمير أو بغال إطلاق عرفي رِزْقُها غذاؤها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 100 المعنى: ألا إن المشركين حين يسمعون الدعوة إلى الله، وما يقوم به الرسل من البشارة والإنذار يثنون صدورهم، ويعرضون عنه ويستدبرون الرسول عند تلاوة القرآن حتى لا يراهم أحد وقد ظهرت عليهم علامات الحقد والحسد والكراهية عند وقوع القوارع والحجج التي هي كالصواعق عليهم أو أشد. ألا حين يستغشون ثيابهم، ويغطون بها أجسادهم، حين يخلون وأنفسهم فتظهر على حقيقتها، والمراد أنهم لجهلهم يظنون خطأ أنهم لو يثنون صدورهم، ويلتحفون بأثوابهم لا يراهم الله يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ. ألا فالله يعلم السر وأخفى، ويعلم ما يسرون وما يعلنون، وهو العليم بذات الصدور. وقد أوجب الله على نفسه بمقتضى رحمته وكرمه، وقدرته وعلمه. أوجب على نفسه أنه ما من دابة من أنواع الدواب توجد على ظهر الأرض أو في جوف البحر، أو بين طيات الصخر. أو تطير في الجو، إلا على الله رزقها وغذاؤها المناسب لها، هدى كل دابة إلى ذلك بمقتضى الغريزة والطبيعة الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [سورة طه آية 5] لكل دابة رزقها المهيأ لها الواصل إليها بعد البحث والعمل. وهو- سبحانه- يعلم مكان استقرارها، ومكان استيداعها فهو يعلم مستقرها في الأصلاب أو الأرحام، ويعلم مستودعها في الأرحام أو بطن الأرض، كل ذلك من رزق واستقرار وتغيير واستيداع ثابت مرقوم في كتاب ظاهر معلوم كتب الله فيه قضاءه وقدره ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [سورة الأنعام آية 38] . وهو الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام، يومان لخلق الأرض، ويومان لخلق أقوات الخلق وما يتبعه، ويومان لخلق السموات السبع كما هو مفصل في سورة فصلت من «الحواميم» الآيتان 9 و 10. والأيام هنا المراد بها: الأوقات التي لا يعلم تحديدها إلا الله- سبحانه وتعالى- خلق السموات السبع والأرضين السبع في ستة أيام، وكان عرشه على الماء أى: وكان عرشه قبل السموات والأرض على الماء، وهل المراد بعرشه تصريفه وملكه أو هو شيء مادى آخر؟ الله أعلم بكتابه مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ [سورة آل عمران آية 7] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 101 يقول الله- سبحانه وتعالى-: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ. وصدق الله العظيم. وإنى أحب أن أقول: إن القرآن الكريم لم يأت كتابا علميا يفصل نظريات ويشرح قواعد علمية. وإنما جاء يعالج أمة بل العالم كله، يعالجهم من ناحية التشريع والحكم، ومن ناحية العمل والفقه، ومن ناحية السياسة الاقتصادية والاجتماعية وغيرها. ولذلك من يتعرض لاستنباط النظريات العلمية الدقيقة من القرآن، ويحاول أن يحمل الألفاظ ما لا تطيق، إنما هو باحث عاطفى. ولكن القرآن الكريم لا يتعارض مع النظريات- أيضا- وإن تعارض ظاهره فإن الواجب علينا أن نرجع إلى أنفسنا ونعيد الفهم والتطبيق في النظريات العلمية. وهي محل بحث ونظر وقد تعدل أو يرجع عنها أصحابها فلا نجد في النهاية تعارضا وعلى ذلك يمكننا أن نفهم قوله- تعالى-: وكان عرشه على الماء. والعرش هو التصريف والملك والأمر والحكم على رأى الخلف، والسلف يرون أن العرش هو العرش بلا تأويل، والله أعلم بحقيقته. وأما الماء الذي كان قبل خلق السموات والأرض فهو الدخان الذي ذكر في الآيتين 9 و 10 من سورة فصلت، وهو الموافق لنظرية السديم، ونظرية التكوين العلمية توافق نظرية القرآن في قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما [سورة الأنبياء آية 30] كما توافق خلاصة البحث العلمي. قبل أن تتكون الكواكب والنجوم كان الفضاء مملوءا بذرات دقيقة صغيرة تشبه الدخان والماء يقال لها السديم، وكان لكل ذرة من هذه الذرات السديمية خاصيتان خلقهما الله في الذرة (الدوران حول النفس والجاذبية) ثم أخذت هذه الذرات في التجمع بسبب الجاذبية والدوران، ونتج عن ذلك التجمع احتكاك تولد عنه الحرارة والالتهاب والضوء، وهذه هي العناصر التي تتصف بها الشمس وتميزها عن الكواكب المعتمة المظلمة، نشأ عن ذلك الاحتكاك وعن هذه الحرارة أن كان قرص الشمس رخوا. ومن شدة الحرارة وسرعة دوران الشمس حول نفسها انفصلت أجزاء منها وكونت ذلك الكوكب الذي نعيش عليه (الأرض) وأخذت الأرض تفقد حرارتها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 102 بالإشعاع إلى أن بردت وأمكن الحياة عليها بعد أن صار فيها الماء واليابس، وظل باطنها كما هو حار بدليل البراكين والزلازل. ولجميع الكواكب والنجوم التي انفصلت عن الشمس خواص الذرات السديمية فالأرض مثلا تدور حول نفسها، وتجذب ما فوقها وصدق الله- تعالى-: وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس آية 40] . ويمكن أن نستنتج الحقائق العلمية التالية التي تؤكد ما جاء في القرآن: 1- قبل خلق السماء والأرض كانت هناك ذرات تشبه الدخان والماء هي أصل ذلك الكون. 2- أن السموات وما فيها والأرض كانتا رتقا واحدا أى جزءا واحدا ففصلهما الله على النحو المذكور سابقا، وجعل بينها الهواء الذي كان له الأثر الفعال في فقدان الأرض حرارتها لنعيش عليها، وهذا الهواء المتحرك المتنقل على هيئة رياح سريعة هو سبب سقوط الأمطار وتكوين البحار والأنهار، والماء أساس كل شيء حي، فالله فتق السماء بالمطر وفتق الأرض بالنبات كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وهذا رأى في تفسير الفتق غير الماضي. 3- ليس هناك جرم محسوس ملموس اسمه السماء بل السماء هي الفضاء اللانهائى الذي لا يعلمه إلا الله، ويحتوي على سائر الكواكب والنجوم، ومن الجائز أن السموات السبع هي المجرات.. والمجرة هي مجموعة الكواكب والنجوم التي ترتبط مع بعضها في أفلاك ومدارات محدودة، وتشغل جانبا معلوما من الكون، وهذه المجرات قد سواها الله في طبقات بعضها فوق بعض. تلك نظرية العلم وهذا رأيه وإن كان ظاهر نصوص القرآن يفيد بأن السماء جرم وقد قلنا أن الأمور الغيبية يجب أن نعلمها كما ورد في القرآن وليس من الدين في شيء البحث الدقيق في تكوينها وما هي عليه ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة الآيتان 2 و 3] . وعلى المسلم أن يقف في أمر دينه عند نصوص قرآنه فإن أراد البحث العلمي الدقيق فليبحث وفي النهاية سيلتقى مع نظرية القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 103 ثم علل- سبحانه وتعالى- هذا الخلق العجيب للسماء والأرض وما فيهما بقوله: لِيَبْلُوَكُمْ أيها الناس، وليظهر أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا؟ وذلك أنه خلق لنا ما في الأرض، وسخر لنا كل شيء، ورسم لنا الطريقين ليعلم علم ظهور من يقابل النعم بالشكران، ومن يقابلها بالكفران، وليجزي الذين أحسنوا بالحسنى وزيادة، والذين أساءوا بما كانوا يعملون. ولئن قلت يا محمد لهؤلاء الكفار: إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا بعد عجزهم عن قرع الحجة بالحجة: إن هذا إلا سحر مبين وهذه حجة العاجز. طبائع الإنسان وتهذيب الدين لها [سورة هود (11) : الآيات 8 الى 11] وَلَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) المفردات: أُمَّةٍ المراد أجل معدود وزمن معلوم وأصلها الجماعة من جنس واحد أو هم مجتمعون في زمن واحد، وقد تطلق على الدين والملة إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 104 وتطلق على الرجل الجامع للخير الذي يقتدى به إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ، وعلى الزمن كما في قوله وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ وكما في هذه الآية نَعْماءَ النعمة ضَرَّاءَ الضر والألم. المعنى: لقد أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق، وأرسله مبشرا ونذيرا وقد قال لقومه الكفار: إنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير، ولكنهم يستهزئون به وبوعيده ويستعجلون العذاب استهزاء وكفرا فيقول الله ما معناه: والله لئن أخرنا عنهم العذاب إلى جماعة من الزمن معدودة في علمنا ومحدودة في نظامنا وتقديرنا الذي اقتضى أن يكون لكل أجل كتاب.. ليقولن: أى شيء يمنع هذا العذاب من الوقوع!! فهم لا يسألون عن المانع، وإنما ينكرون مجيء العذاب وحبسه عنهم ألا يوم يأتيهم ذلك العذاب ليس مصروفا عنهم ولا محبوسا إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون، وله يستعجلون وسيحيط بهم يومئذ من كل جانب فلا هو يصرف عنهم، ولا هم ينجون منه، الله- سبحانه- يقول: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وفي هذه الآية بيان لحال الإنسان في اختبار الله له. ولئن أذقنا الإنسان منا رحمة، وأعطيناه نعمة من صحة وعافية وسعة رزق وأمن ثم نزعنا تلك النعمة منه مما يحدث على وفق سنتنا من مرض أو وهن أو موت أو كارثة إنه ليئوس شديد اليأس من رحمة ربه، قطوع للأمل والرجاء في عودة النعمة له، كفور بالنعم التي هو فيها إذ مهما أصيب في نعمة فعنده نعم وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها [سورة إبراهيم آية 34] وهكذا الإنسان لا يصبر ولا يشكر. وتالله لئن أذقناه نعماء بعد ضراء ليقولن ذهبت المصائب عنى ولن تعود ضراء لي، وإنما أوتيت ما أوتيت على علم عندي!! إن الإنسان لفرح بطر شديد الفرح والمرح فخور متعال على الناس لا يقابل النعم بالشكر الجزيل. وانظر إلى قوله- تعالى-: أَذَقْنَا الذي يفيد اللذة والاغتباط ثم إلى قوله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 105 نَزَعْناها المفيد شدة تعلقه بالنعمة وحرصه عليها ثم إلى قوله في جانب النعمة أَذَقْنَا وفي جانب النقمة والضر مَسَّتْهُ فإن المس يشعر بكون الضر في أقل مرتبة من الملاقاة والإصابة. هذا طبع الإنسان، وتلك غريزته التي جبل عليها كل إنسان إلا الذين صبروا، وعملوا الصالحات. ومن هنا نعلم أن في الإنسان طبائع مادية كاليأس من رحمة الله، والكفر بنعمته، والفرح والبطر والفخر والكبر، وهذه أدواء فتاكة وأمراض خطيرة علاجها الصبر والسلوان الناشئ عن قوة الإيمان والرضا بقضاء الله وقدره، وعمل الصالحات من الأعمال النافعة كالبر والخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إلى آخر ما هو معلوم. أولئك الصابرون العاملون المؤمنون لهم مغفرة من الله وأجر كبير لا يعلم كنهه إلا الله- سبحانه- وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ. تقوية الروح المعنوية للنبي (صلّى الله عليه وسلم) وتحديهم بالقرآن [سورة هود (11) : الآيات 12 الى 14] فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 106 المفردات: فَلَعَلَّكَ لعل تكون للتوقع وترجى المحبوب، وهي في قوله- تعالى- لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ للإعداد والتهيئة. وقد تكون للتعليل كما في قوله: لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى وللاستفهام الشامل للإنكار منه كما في هذه الآية والمراد النفي أو النهى أى: لا تترك ضائِقٌ عارض لك ضيق الصدر والمراد الحرج والألم كَنْزٌ ما يدخر من المال في الأرض والمراد المال الذي يناله بغير كسب. لا يزال الكلام من أول السورة في القرآن وحال الناس معه، وما يلاقيه الرسول منهم من غم وضيق صدر، وما يتبع ذلك من التحدي المثبت للوحى. المعنى: أتارك أنت أيها الرسول بعض ما يوحى إليك مما يشق سماعه على المشركين من الأمر بالتوحيد والنهى عن الشرك، والإنذار لهم والنعي عليهم؟!! وضائق به صدرك، وتتألم له نفسك من تبليغهم كل ما أنزل إليك والمراد بالاستفهام النفي أى: لا يكن منك ذلك كراهة أن يقولوا: لولا أنزل عليه كنز يغنيه عن التجارة والكسب، ويكون دليلا على صدقه، أو جاء معه ملك من السماء يؤيده في دعواه، وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً. أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها [سورة الفرقان الآيتان 7 و 8] . إن عناد المشركين وجحودهم وإعراضهم مع شدة اهتمام النبي صلّى الله عليه وسلّم بإيمانهم يفضى بحسب شأنه إلى ذلك لولا عصمة الله- سبحانه- لنبيه وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [الإسراء 74] . اقرأ معى قوله- تعالى-: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ [المائدة 67] . لا يهمنك قولهم، وطلبهم منك هذا، إنما أنت نذير تبلغ كل ما أنزل إليك ولا عليك شيء بعد هذا سواء أرضى الناس أم غضبوا، والله على كل شيء وكيل فهو الموكل بالعباد والرقيب عليهم والمجازى لهم فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ. لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ [سورة الغاشية الآيتان 21 و 22] نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [سورة ق آية 44] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 107 أيقولون افتراه واختلقه من عنده؟!! إن يقولون إلا كذبا وزورا، قل لهم يا محمد: إن كان الأمر كما تزعمون فأتوا بعشر سور مثله في البيان والبلاغة والدقة والفصاحة، والإحكام والإتقان في السياسة والاجتماع، والقانون والتشريع، والقصص والأخبار، مفتريات من عند أنفسهم لا تدعون أنها من عند الله فإنكم أهل اللسان والبيان، وأنتم العرب الفصحاء، وفيكم الخطباء والشعراء، وقد افتريتم على الله كثيرا باتخاذ الآلهة والأنداد والبنات والشفعاء له، وحرمتم السائبة والوصيلة والحامي وغير ذلك من الأنعام والحرث. وأما أنا فواحد منكم لم يسبق لي شيء من ذلك وقد لبثت فيكم عمرا من قبله لم تجربوا علىّ كذبا على مخلوق فكيف أفترى على الله- عز وجل-؟! وإن كنتم تزعمون أن لي أعوانا على ذلك فادعوا من استطعتم من دون الله من الشركاء والشفعاء، أو الخطباء والشعراء، أو أهل الكتاب والأحبار ليعينوكم على الإتيان بمثله كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [سورة الكهف آية 5] . لقد عالج القرآن الكريم هذا الموضوع في عدة سور من القرآن الكريم فمرة تحداهم بالإتيان بمثل القرآن أو بسورة مثله أو بعشر سور مثله كما في هذه الآية، ولقد علل المرحوم «الشيخ رضا» تعليل التحدي بعشر سور بأن هذه الآية في السورة العاشرة (سورة هود) . تحداهم القرآن بذلك فعجزوا، ولم يجدوا من يعاونهم من آلهة وشركاء، ولا من الفصحاء والبلغاء، ولا من أعداء النبي صلّى الله عليه وسلّم من أهل الكتاب وغيرهم فلما عجزوا قامت الحجة عليهم إلى يوم القيامة، وغيرهم من باب أولى. فإن لم يستجب لكم من تدعوهم من دون الله ليظاهروكم على الإتيان بمثل هذا القرآن، وبدا لكم الأمر ظاهرا للعيان، فاعلموا أيها الناس علما أكيدا أنه إنما أنزل هذا القرآن على النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم بعلم الله ومبينا لما أراده المولى لعباده من دين قيم، وقانون محكم، وتشريع كامل، وقصص حق لا يمكن أن يعلمه محمد ولا غيره لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا. واعلموا أنه لا إله إلا هو، ولا معبود بحق سواه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 108 فهل أنتم مسلمون؟!! إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء- سبحانه وتعالى-. من يؤثر الدنيا على الآخرة [سورة هود (11) : الآيات 15 الى 16] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16) المفردات: نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ نؤد لهم ثمرات أعمالهم وافية تامة حَبِطَ الحبط: هو هلاك بعض الأنعام من كثرة الأكل لبعض المراعى الخضراء والمراد فساد عملهم في الخير. المعنى: الناس على اختلاف مذاهبهم وألوانهم صنفان: صنف يؤمن بيوم القيامة وبالحياة الأخرى، وصنف يعتقد أنه ما هي إلا الحياة الدنيا يموت ويحيا، وما يهلكه إلا الدهر، وهؤلاء هم المعنيون بهذه الآية من المشركين وغيرهم، وهذا هو السبب في عدم إيمانهم بالقرآن بعد ظهور إعجازه فيما سبق ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ [سورة البقرة الآيتان 2 و 3] . من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها من متاع ولباس، وزينة وأثاث، وكان حظه من حياته ذلك فقط، هؤلاء نوفى إليهم أعمالهم، ونؤدى لهم جزاءهم كاملا في الدنيا، وإنك تراهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، وهم فيها غالبا على جانب من سعة الرزق ورغد العيش، وهم لا يبخسون في الدنيا شيئا من نتائج كسبهم لأجل كفرهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 109 أما في الآخرة فأولئك ليس لهم فيها إلا النار وسعيرها إذا لم يعملوا لها لأنهم لا يؤمنون بها، وقد حبط ما صنعوا في الدنيا من صالح الأعمال وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً فأعمالهم من بر وخير لم يكن لها تأثير ولا فائدة إذ لم يعملوها لله وإنما الأعمال بالنيات، ولذا كانت أعمالهم باطلة مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. [سورة الإسراء الآيتان 18 و 19] . المؤمنون بالآخرة [سورة هود (11) : آية 17] أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17) المفردات: بَيِّنَةٍ حجة وبصيرة من ربه مِرْيَةٍ شك وريب. ولما ذكر الله- تعالى- في الآية المتقدمة الذين يريدون بأعمالهم الحياة الدنيا وزينتها ذكر في هذه الآية من كان يريد بعمله الآخرة وآمن بالنبي صلّى الله عليه وسلم. المعنى: أفمن كان على صلة بالله وبينة من ربه وثقة به، وقد شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه كمن يريد الحياة الدنيا ويعمل لها؟ إن بين الفريقين تفاوتا بعيدا وقد كان الأنبياء جميعا يحتجون على قومهم بأنهم على بينة من ربهم إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 110 مِنْ رَبِّي . قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، والنبي صلّى الله عليه وسلّم كان على علم يقيني ضروري بنبوته، وهكذا كل مسلم آمن به، وقيل المراد بالبينة: الحجج الناطقة الدالة على صدقه وأهمها القرآن. وكان الشاهد الذي يتلوه ذلك الأمر النفسي والإيمان القلبي بأن الإسلام حق من الله. هو القرآن، وقيل البينة القرآن والشاهد جبريل ويتلوه من التلاوة لا من التتبع. أولئك يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله جميعا لا يفرقون بين نبي ونبي. ومن يكفر بهذا من الأحزاب والجماعات فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بذلك. الكافرون وأعمالهم وجزاؤهم، وكذلك المؤمنون [سورة هود (11) : الآيات 18 الى 24] وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَأَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَفَلا تَذَكَّرُونَ (24) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 111 المفردات: يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ المراد يحاسبهم ربهم الْأَشْهادُ هم الملائكة الكتبة الكرام الحفظة لَعْنَةُ اللَّهِ اللعن واللعنة: الطرد من رحمة الله عِوَجاً أى: معوجة لا جَرَمَ أى: لا بد ولا مناص وهي تفيد التحقيق والتأكيد وَأَخْبَتُوا أصل الإخبات قصد الخبت وهو المكان المطمئن المستوي والمراد: خشعوا وأخلصوا لله. المعنى: لا أحد أظلم لنفسه ولغيره ممن افترى على الله الكذب، واختلق البهتان والزور على الله في وحيه، أو في صفته، أو اتخذ الأولياء والشركاء والشفعاء له بدون إذنه، أو زعم أن له ولدا. تعالى الله عما يشركون.. تنزه عما يصفون، أولئك البعيدون في درجة الكفر والإشراك المتميزون على غيرهم من الخلق يعرضون على ربهم فيحاسبهم على أعمالهم، ويقول الأشهاد من الملائكة الأبرار، وقيل: منهم ومن الأنبياء والصالحين. يقول الأشهاد: هؤلاء المتميزون على غيرهم لسوء فعالهم هم الذين كذبوا على ربهم، ألا لعنة الله على الظالمين. هم الذين يصدون عن سبيل الله غيرهم بكافة الطرق وكل الأساليب ويصفونها بالعوج وعدم الاستقامة، ويطلبونها معوجة ليست على طريق الحق والعدل والكرامة والحال أنهم بالآخرة هم كافرون بها لا يؤمنون ببعث، ولا يثقون في جزاء وتكرير (هم) للتوكيد. أولئك لم يكونوا معجزين الله في الدنيا حتى يعاقبهم بالخسف والإزالة، كما فعل بغيرهم وكيف يعجزون الله!! وهو القوى القادر الذي له ملك السموات والأرض، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 112 والحال أنهم ما كان لهم من دون الله أولياء ينصرونهم. ويمنعونهم من عذاب الله إن نزل بهم، بل اقتضت حكمته أن يؤخر عذابهم إلى يوم تشخص فيه الأبصار، يضاعف لهم العذاب ضعفين بالنسبة إلى عذاب الدنيا كل ذلك بسبب أنهم ما كانوا يستطيعون إصغاء السمع للقبول والبحث عن الحق، وما كانوا يبصرون طريق الحق والخير وينظرون إلى الآيات القرآنية، والآيات الكونية، وذلك أنهم استحوذ عليهم الباطل، وران على قلوبهم وفسدت نفوسهم حتى لم يعد فيها استعداد للخير أبدا، وليس المراد نفى السمع والبصر بل المعنى أنهم ما كانوا يستخدمونهما في إيصال المعلومات، وما كانوا يطيقون سماع الكلام ورؤية الآيات لفرط عنادهم وعتوهم وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ. وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ. أولئك الذين وصفوا بما مضى قد خسروا أنفسهم، واشتروا الضلالة بالهدى، وأى خسارة أشد من خسارة الذي يصلى نارا حامية لا يموت فيها ولا يحيا؟!! لا جرم ولا شك أنهم في الآخرة الأخسرون أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا. أما من كان على عكس هذا فالله يقول فيه: إن الذين آمنوا، وعملوا الصالحات وخشعوا له، واطمأنت نفوسهم بالإيمان، ولانت قلوبهم ووجلت بالقرآن أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون. مثل الكافر والمؤمن كالأعمى والأصم، والسميع والبصير هل يستويان مثلا؟!! أتجهلون هذا المثل الحسن والفارق الكبير فلا تتذكرون؟ القصة في القرآن إن من أغراض القرآن المهمة إثبات التوحيد، وما يتبعه من إثبات النبوة والبعث، والكلام في التشريع للفرد والجماعة والأمة، والقصص الخاص بالأمم السابقة وهو غالبا يساق في السور المكية والمبدوءة بأحرف مقطعة كهذه السورة مثلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 113 وهنا يظهر سؤال لماذا سيقت القصة في القرآن؟ وما السر في اختلاف الأسلوب للقصة الواحدة، ولماذا كررت في عدة سور؟ لقد كان القصص في كل لغة لونا من ألوان الأدب الفنى الرائع، لما له من الأثر النفسي في قلوب سامعيه. والقصص في القرآن ينبئنا عن أخبار الأنبياء والرسل، وما حصل لهم، وكيف قاموا بدعوتهم؟ وكيف عالجوا أزماتهم؟ وما انتهى إليه أمرهم، وعلى العموم فهو مدرسة إلهية معلموها الأنبياء، وتلاميذها الأمم. ولقد سيقت للعبرة والعظة حيث يقف المسلمون والمشركون على أحوال من تقدمهم من الأمم فيعتبر ذوو الألباب ويتعظون، وفيها التسلية الكاملة للنبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه من حيث يقفون على أخبار الرسل وأممهم وكيف كانت العاقبة للمتقين، والدائرة على الكافرين المعاندين، وفي هذا تثبيت لهم وشحذ لعزائمهم فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ. وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ والعبرة والعظة تظهر في قوله تعالى لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ آخر سورة يوسف. وقد سيقت القصة دليلا على صدق الرسول وأن خبره من السماء إذ هو يقص أخبارا ما كان يعلمها هو ولا أحد من قومه، ولا يكون هذا إلا بوحي من السماء تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ. ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ [يوسف: 102] وهي علاج للقلوب، ودواء للنفوس لما فيها من أخبار الأمم وما حل بالعاصين من عاجل بأس الله. فأهل اليقين وغيرهم إذا تلوها تراءى لهم من ملكه وسلطانه وعظمته وجبروته حيث يبطش بأعدائه ما تذهل منه النفوس. وتشيب منه الرؤوس «شيّبتنى سورة هود وأخواتها» . صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 114 والقصة مدرسة المؤمنين المنتفعين بهدى القرآن هُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ فيها أحسن الدروس، وأقوى الأمثال التي تضرب لتحمل الدعاة المرشدين إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَلكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ. أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ. قال يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ إلى آخر ما في قصة نوح. أما تكرارها في القرآن فلما في أغراضها ومقاصدها من معان جلية، وفوائد سامية يحرص القرآن دائما على ذكرها لتكون ماثلة أمام أعين المسلمين بكل لون وأسلوب، ولا غرابة فإنا نرى أصحاب الثورات والدعوات دائما في كل خطبة وفي كل موقف يرددون مبادئهم وأغراضهم وأعمالهم بأساليب مختلفة. ولعل السر في اختلاف الأسلوب في القصة الواحدة تجديد النشاط وطرد السآمة والملل من نفس القارئ والسامع، ولا تنس أن لكل سورة لونا خاصا وصفة خاصة وحسا خاصا. وفواصل خاصة، وحالا للمخاطب خاصة تتناسب مع السياق وعلى العموم فلكل قصة سياق يتناسب مع ما سبقها وما أتى بعدها وهذا البحث يحتاج إلى كتاب يبحث فيه حال القصة الواحدة مع كل الملابسات السابقة. قصة نوح عليه السلام [سورة هود (11) : الآيات 25 الى 31] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوها وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28) وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 115 المفردات: أَراذِلُنا جمع أرذل الذي هو جمع رذل مثل كلب وأكلب. وقيل: جمع أرذل وهو النذل والمراد: الأخساء والسفلة وأصحاب الحرف الخسيسة، وورد أنهم الفقراء والضعفاء بادِيَ الرَّأْيِ ظاهره، الذي يبدو للناظر فيه من غير فكر، أو المراد بادئ الرأى أى: في بدئه الذي يظهر منه أول وهلة فَعُمِّيَتْ خفيت عليكم خَزائِنُ اللَّهِ المراد أنواع رزقه التي يحتاج إليها العباد تَزْدَرِي المراد تحتقرهم أعينكم وهذه القصة مسوقة لتأكيد ما قبلها من دلائل النبوة وأصول التوحيد. وإثبات البعث والجزاء لمن آمن ومن كفر، حتى يعلم الكفار عن أمة محمّد صلّى الله عليه وسلم أنه ليس بدعا من الرسل، وأن حاله كحال غيره من النبيين وأن جميع الأنبياء متفقون في أصول الدعوة من التوحيد الخالص، وإثبات البعث والجزاء.. وفي هذا ما فيه من أغراض القصة في القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 116 ولقصة نوح في هذه السورة عناصر منها: (أ) بيان دعوته بالإجمال وما رد به قومه عليه. (ب) مناقشتهم والرد عليهم في شبهاتهم. (ج) اشتداد الحالة وتوترها حتى استعجلوا العذاب، وقد يئس نوح منهم. (د) كيف صنع نوح السفينة. (هـ) بدء نهايتهم ونجاة نوح ومن آمن. (و) استشفاع نوح لابنه. المعنى: تالله لقد أرسلنا نوحا وهو أول رسول، وقومه أول قوم أشركوا بالله غيره، أرسلناه فقال لهم: إنى لكم نذير بين الإنذار ظاهره. على ألا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. ألست معى في أن الرسل جميعا يشتركون في أصول الدعوة إلى الله؟ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ [سورة نوح الآية 2] . أمرهم أن يعبدوا الله وحده ثم أنذرهم عذاب يوم أليم وعظيم وكبير، ألا هو يوم القيامة أو يوم الغرق، وصف بالألم الشديد، والعذاب العظيم، والهول الكبير في غير موضع من القرآن، والظاهر أن نوحا وصفه بكل هذه الأوصاف التي حكيت عنه، وفي غير هذه السورة أردف الأمر بالعبادة بقوله: أفلا تتقون. وهكذا غيره من الرسل للإشارة إلى أن التقوى هي الأمر الجامع المهم.. فبادر الملأ من قومه. والأشراف الذين كفروا بالله ورسوله إليه بحجج هي أوهى من نسيج العنكبوت قائلين: ما نراك إلا بشرا مثلنا، لا مزية لك ولا فضل حتى تدعى الرسالة والسفارة بيننا وبين الله. هل لك مال كبير؟ أو جاه عريض؟. أو ولد وخدم؟ ليس لك شيء من هذا فكيف تكون المطاع فينا والآمر لنا؟!! وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا وسفلتنا أصحاب الحرف والصناع من الفقراء والضعفاء، أنكون مع هؤلاء في صف واحد على أن إقبال هؤلاء عليك واتباعهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 117 لك في بادئ الأمر وظاهره بدون تأمل ولا فكر! ولا نظر في عواقب الأمور وبواطنها يدعونا إلى مخالفتك وعدم اتباعك. أنفوا أن يكونوا مثل هؤلاء الفقراء وطلبوا من نوح أن يطردهم حتى لا يجتمعوا معهم في دين فأبى وخاف من الله. وقالوا: ما نرى لكم، أى: أنت ومن معك من عامة الناس، ما نرى لكم علينا من فضل في علم أو رأى أو جاه أو قوة يحملنا على اتباعكم والنزول عن جاهنا وشرفنا ونكون معكم في سلك واحد لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [سورة الأحقاف الآية 11] . بل الأمر أكثر من هذا وأشد وهو أننا نظنكم من الكاذبين المفترين، ونرجح أنك- في دعواك النبوة لتكون متبوعا- كاذب، وأنهم في تصديقهم لك واتباعهم رأيك- كاذبون. فأنتم جميعا متآمرون على قلب الوضع ونظام الحكم عندنا. كيف ناقشهم نوح- عليه السلام- ورد عليهم شبهاتهم: قال نوح يا قومي الأعزاء أخبرونى ماذا أفعل! إن كنت على حجة من ربي ظاهرة فيما جئتكم به، تبين لي بها أنه الحق من عنده لا من عندي إذ ليست النبوة من كسب البشر حتى يستقيم لكم ادعاؤكم أنى بشر مثلكم فكيف أكون نبيا مرسلا، يا قوم: الله أعلم حيث يجعل رسالته، وقد أرسلنى لكم وآتاني رحمة من عنده خاصة بي فوق رحمته العامة للناس جميعا، ولكنها عمّيت عليكم بالجبر والإلجاء! لا. إنه لا إكراه في الدين أبدا من قديم الزمان، وهذا رد على شبهتهم ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا. ويا قوم لا أسألكم على دعائي لكم مالا ولا أجرا. ولست أطلب ملكا ولا جاها حتى تخشوا منى، وتنفقوا على، ما أجرى إلا على الله وحده، وهكذا كل رسول. انظر إلى قول الله على لسان محمد صلّى الله عليه وسلم: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى [سورة الشورى آية 23] . وماذا أفعل فيمن تسمونهم الأراذل؟!! وما أنا بطارد الذين آمنوا أبدا سواء أكانوا أغنياء أم فقراء، لاحتقاركم لهم فأنتم تحتقرونهم لفقرهم وضعفهم، وأنا أجلهم وأكرمهم لأنهم آمنوا واعتزوا بالله وبرسوله، ويظهر أن هذه عادة مجرمى الكفار والأشرار من الناس قديما وحديثا اقرأ معى قوله تعالى: وَلا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنعام الآية 52] فهذا نهى للنبي صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 118 قال نوح: أنا لا أطرد من آمن بالله. إنهم سيلاقون ربهم وسيحاسبهم على أعمالهم كما أنه سيحاسبكم على أعمالكم، ما على إلا البلاغ فقط، ولكني أراكم قوما تجهلون الحقائق. ويا قوم: من ينصرني من عذاب الله إن طردتهم؟ أفلا تتذكرون وتتعظون؟ فهذا رد على شبهتهم الثانية وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا. ولا أقول لكم: عندي خزائن الله، ولا أعلم الغيب، ولا أقول: إنى ملك. نفى نوح- عليه السلام- هذه الثلاث، فإن الكفار مع الأنبياء جميعا كانوا يعتقدون لنظرتهم المادية للأشياء أن الأنبياء لا بد أن يكونوا أغنياء موسرين، يعلمون الغيب، ويجب أن يكونوا من الملائكة لا من البشر وإلا كانوا كسائر البشر لا فضل لهم فكيف يدعون النبوة؟!!. فالمعنى لا أَقُولُ لَكُمْ بادعائى النبوة: إنى أملك خزائن الله وأرزاق الناس، ولست أعلم الغيب إلا ما علمني الله مما يتصل بالرسالة وهذا من إمام الأنبياء يقول الله عنه: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ [سورة الأعراف الآية 188] . يا عجبا لكم!! كيف تطلبون أن يكون الرسول ملكا؟ ولو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا حتى يمكن التفاهم معه وللبسنا عليهم ما يلبسون. ولا أقول للذين تزدريهم أعينكم، وتحتقرونهم لفقرهم وضعفهم: لن يؤتيهم الله خيرا وسعادة في الدنيا والآخرة، لا أقول هذا أبدا الله أعلم بما في نفوسهم وسيجازيهم عليه، إنى إذا قلت ذلك لأكونن من الظالمين لأنفسهم لا من الأنبياء والمرسلين. اشتداد الحال حتى استعجلوا العذاب [سورة هود (11) : الآيات 32 الى 35] قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 119 المفردات: جادَلْتَنا الجدل اشتداد الخصومة مشتق من الجدل وهو شدة القتل ومنه قيل للصقر: أجدل، والجدل في الدين محمود فهو وظيفة الأنبياء، وأما الجدال فهو المخاصمة بما يشغل عن ظهور الحق فهو باطل ومذموم نُصْحِي النصح: قصد الخير للمنصوح والإخلاص فيه قولا وعملا يُغْوِيَكُمْ الإغواء الإيقاع في الغي والفساد حسيا كان أو معنويا، وقيل: هو المرض أو الهلاك. بذل نوح غاية جهده في نصح قومه، واجتهد في أن يتبعوه في الإيمان بالله والبعد عن عبادة الأصنام، مكث على ذلك ألف سنة إلا خمسين عاما، ولكن ما زادهم ذلك إلا فرارا، وعتوا واستكبارا حتى ضاقوا به ذرعا، وضاق بهم ذرعا، وكبر عليهم مقامه وبلغ السيل الزبى: اقرأ إن شئت قوله- تعالى- في سورة نوح الآيات من 1- 24 وقوله- تعالى-: في سورة يونس يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَتَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ. آية: 71. المعنى: قالوا يا نوح قد خاصمتنا وحاججتنا فأكثرت جدالنا، ولم تدع لنا حجة إلا أبطلتها ورددتها حتى سئمنا ومللنا.. فائتنا بما تعدنا به من العذاب في الدنيا أو الآخرة إن كنت من الصادقين في قولك: إنى أخاف عليكم عذاب يوم كبير. فرد نوح عليهم بقوله: إن الذي أعدكم به وأخاف عليكم منه بيد الله لا بيدي، وأمره إلى الله فقط إن شاء أنزله فورا وإن شاء أجله على أنكم لستم بمعجزين الله هربا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 120 فأنتم في ملكوته وتحت قبضته.. ولا ينفعكم نصحى لكم وإخلاصى معكم في شيء أبدا إن أردت ذلك. إن كان الله يريد أن يغويكم فلا ينفعكم نصحى أبدا، إذ قبول النصح والانتفاع به يكون للمستعد للخير القابل له. أما إذا فسدت النفس وران على القلب الحجاب فلن يرى النور ولن ينتفع به، ومعنى إغواء الله على إرادته أن يكونوا من الغاوين لا خلق هذه الغواية فيهم، وفسر ابن جرير الطبري الغواية بالهلاك فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا [سورة مريم آية 59] . إن كان الله يريد أن يغويكم هو ربكم ومالك أمركم وإليه ترجعون.. أم يقولون افتراه وهذا إضراب انتقالي على معنى بل أيقولون افتراه واختلقه؟ قل لهم: إن افتريته فعلىّ وحدى ذنب جرمي. قال بعضهم: إن هذه الآية معترضة في قصة نوح وهي من قول مشركي مكة وهذا رد محمد صلّى الله عليه وسلّم عليهم. وقيل هذا من كلام نوح، ومن رد نوح عليهم.. وهذا يشبه قوله: وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ. [يونس 41] . يأس نوح منهم وصنعه السفينة [سورة هود (11) : الآيات 36 الى 41] وَأُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَمُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 121 المفردات: تَبْتَئِسْ الابتئاس: حزن في استكانة، والمراد: لا تغتم بهلاكهم بِأَعْيُنِنا المراد بملاحظتنا ومراقبتنا، والفلك السفينة سَخِرُوا استهزءوا وضحكوا فارَ التَّنُّورُ المراد: ظهور الماء على وجه الأرض بكثرة، والفوران الغليان، والتنور هو المكان الذي يصنع فيه الخبز. وقيل: هو تمثيل لاشتداد الغضب. المعنى: أوحى ربك إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من آمن بالفعل فلا تحزن على كفرهم ولا تبتئس لفعلهم فقد سبق فيهم القضاء وحقت كلمة ربك على الذين كفروا. واصنع الفلك لتكون أداة لنجاتك من الغرق أنت ومن معك من المؤمنين، اصنعها بأعيننا وتحت ملاحظتنا حالة كونك مشمولا برعايتنا ومعلما بوحينا لك كيفية الصنع حتى لا تقع في خطأ، وجمع الأعين بِأَعْيُنِنا للإشارة إلى كمال العناية وتمام الرعاية. ولا تخاطبني يا نوح في شأن الذين ظلموا أبدا فقد حم القضاء، ونزل البلاء، وحقت عليهم الكلمة أنهم لمغرقون فلا تأخذك بهم رأفة ولا رحمة. ويصنع السفينة وكلما مر عليه جماعة من أشراف قومه سخروا منه واستهزءوا به ظانين أنه مجنون ينفق وقته وجهده في عمل لغو لا فائدة فيه، قال نوح مجيبا لهم: إن تسخروا منا اليوم لصنعنا شيئا هو في ظنكم خرق وحماقة فإنا نسخر منكم كما تسخرون جزاء وفاقا، فلسوف تعلمون قريبا من يأتيه عذاب يخزيه في الدنيا بالغرق، ويحل عليه عذاب مقيم دائم في الآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 122 كان يصنع السفينة جادا في عمله، متألما من سخريتهم حتى إذا جاء أمرنا، واشتد غضبنا وحانت الساعة، ويا لها من ساعة حين فار التنور، وجاءت السماء بالمطر مدرارا، وتفتحت العيون بماء غزير فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ قلنا: احمل في السفينة من كل نوع من الأحياء زوجين اثنين ذكر وأنثى، واحمل فيها أهل بيتك ذكورا وإناثا، إلا ما استثنى منهم ممن سبق عليه القول فصار في عداد الكفار المغرقين، واحمل فيها من آمن معك من قومك، وما آمن معه إلا القليل. نعم وقليل ما هم.. إن الكرام قليل. وقال نوح: اركبوا فيها قائلين: باسم الله مجريها، أى: إجراؤها ومرساها أى: إرساؤها نعم من الله كل شيء، وهذه بشارة لهم بحفظها ورعايتها من الله. إن ربي لغفور ستار رحيم بالخلق كريم، ومن مظاهر رحمته نجاة المؤمنين وهلاك الظالمين. نهاية القوم واستشفاع نوح لابنه [سورة هود (11) : الآيات 42 الى 49] وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَنادى نُوحٌ ابْنَهُ وَكانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَلا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَحالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47) قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَلا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 123 المفردات: مَوْجٍ جمع موجة وهي ما يحدث عند اضطراب البحر من التموج وارتفاع المياه سَآوِي سألجأ يَعْصِمُنِي يحفظني ابْلَعِي البلع ازدراد الطعام أو الشراب بسرعة غِيضَ الْماءُ جف ونضب الْجُودِيِّ جبل معروف في ديار بكر. المعنى: تصوير للسفينة وقد سارت وسط المياه. تصوير إلهى. وهي تجرى بهم وتسير بسرعة دافقة وسط أمواج كالجبال الشاهقة في ارتفاعها وعظم حجمها، ولما رأى نوح نهاية القوم أخذته عاطفة الأبوة واستولت عليه، ونادى ابنه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 124 وكان في مكان منعزل عنه: يا بنى، اركب معنا سفينة النجاة، وإياك يا بنى أن تكون مع الكافرين المهلكين. وكان هذا الابن عاصيا لوالده، غير مطيع لأمره كافرا برسالته ووحيه ولذا قال مجيبا أباه: سآوى إلى جبل يحفظني من الماء، يا سبحان الله!! من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل الله فلا هادي له. نوح يبصّر ابنه طريق الخير فيأبى إلا طريق الشر، ويقول: سألجأ إلى جبل يحفظني من طغيان الماء كأنه فهم أنه ماء من بحر أو نهر له حد محدود يقف أمام ربوة عالية أو جبل شامخ إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص آية 56] قال نوح ردا على كلامه وحجته الواهية: يا بنى لا شيء في الوجود يعصم أحدا من أمر الله إذا نزل ويرد قضاءه إذا حكم لكن من رحم الله من الخلق فهو وحده يعصمه ويحفظه، وقد جعل السفينة منجاة للمؤمنين. وبينما هم في هذا النقاش حال بينهما الموج فكان الابن من المغرقين. أقرأ يا أخى إن شئت قوله- تعالى- في سورة القمر: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ. وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ. تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ. وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ. فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ [11- 16] إنه لتصوير رائع للسفينة. وقيل: يا أرض ابلعي ماءك وجففيه، ويا سماء أقلعى وكفى عن المطر وامنعيه، وما هو إلا أمر وامتثال، أمر من قال للشيء كن فيكون، فهو أمر تكويني يوجه للعقلاء وغيرهم.. وغاض الماء عقب هذا الأمر، وقضى الأمر، ونجا المؤمنون، وهلك الكافرون فهل من مدكر؟!! واستوت السفينة واستقرت على الجودي، وقيل بعدا وهلاكا، وطردا وعذابا أليما للقوم الظالمين. ويقول المفسرون مجمعين: إن هذه الآيات من البلاغة بالمحل العالي، والمكان المرموق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 125 ولما رأى نوح نهاية القصة وقد ختمت بهلاك الكافرين ومنهم ابنه ساورته أحاسيس العطف على ابنه والأسف العميق على نهايته فنادى ربه فقال رب: إن ابني من أهلى، وقد وعدتني بنجاتهم، وأن وعدك الحق وقولك الصدق، وحكمك العدل، وأنت خير الحاكمين، ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟!! قال الرب- سبحانه وتعالى-: يا نوح، إن ابنك ليس من أهلك الذين أمرتك أن تحملهم معك: لماذا؟!! إنه عمل عملا غير صالح، وكفر بالله ورسوله ولا ولاية بين مؤمن وكافر مهما كان قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ [سورة الممتحنة آية 4] وفي قراءة حفص «إنّه عمل غير صالح» كأنه نفس العمل السيّئ مبالغة. فلا تسألن يا نوح في شيء ليس لك به علم صحيح إنه حق وصواب إنى أعظك وأنصحك أن تكون من الجاهلين يسألون بطلان تشريع الله وقانونه، وتقديره في خلقه فهو العليم بهم البصير بشأنهم، ويظهر لي والله أعلم سؤال كان بناء على أنه رأى ابنه في معزل من القوم فظن أنه ربما يكون قد آمن، ودخل في زمرة أهله، وقد سهل له هذا ما في الإنسان من غريزة حب الولد، فنوح- عليه السلام- قد أخطأ في الفهم والاجتهاد، وكان عتاب الله له لأنه نبي وأن حسنات الأبرار سيئات المقربين. ولذا قال نوح بعد هذا: ربي. إنى أعوذ بك وبجلالك أن أسألك ما ليس لي به علم صحيح. وإن لم تغفر لي وترحمني: وتقبل توبتي برحمتك التي وسعت كل شيء أكن من الخاسرين. فانظر يا أخى وفقك الله إلى أن القرابة والأخوة في الله أقوى من قرابة النسب، وأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، وأن ابن نوح- عليه السلام- حين كفر قد حكم الله عليه بأنه ليس من أهله. واعلم أن الإيمان والصلاح لا علاقة له بالوراثة كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [سورة الطور آية 21] وأن جزاء الإيمان الصالح من الأعمال يكون في الدنيا غالبا وفي الآخرة حتما. وقد كان ما كان من قصة نوح مع قومه التي انتهت بنجاة المؤمنين وهلاك الكافرين، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 126 قيل بعد هذا: يا نوح اهبط من السفينة أو من على الجبل بعد أن كفت السماء عن المطر، وابتلعت الأرض الماء، واستوت السفينة على الجودي. اهبط متلبسا بسلام منا ومتمتعا بأمان وتحية من عند الله مباركة طيبة، اهبط بسلام وبركات ونماء وسعة في الرزق عليك وعلى أمم ممن معك من الخلق إنسانا كان أو حيوانا، وأمم من ذرية من معك سيتمتعون بالخيرات والطيبات في الدنيا والآخرة، وأمم من الذرية سنمتعهم في الدنيا ثم نضطرهم إلى عذاب أليم في الآخرة وذلك لكفرهم وعنادهم. وهكذا كان الخلق أولا من ذرية نوح مؤمنين صالحين متمتعين في الدنيا والآخرة ثم خلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا، وسيمسهم من عذاب أليم. أما العبرة العامة لهذه القصة فقد تقدم الكلام عليها، ومنها هنا الدلالة على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فما كان يعلم هو ولا أحد من قومه ذلك القصص المحكم التام الشامل لأخبار نوح وقومه، وكيف كانت عاقبة الظالمين؟! فاصبر يا محمد كما صبر نوح من قبل فلقد عرفت مآل الصبر لنوح ولقومه المؤمنين وعاقبة الكفر؟ واعلم أن العاقبة للمؤمنين. قصة هود عليه السلام [سورة هود (11) : الآيات 50 الى 60] وَإِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلا تَعْقِلُونَ (51) وَيا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 127 المفردات: فَطَرَنِي خلقني على الفطرة السليمة مِدْراراً كثيرا اعْتَراكَ أصابك آخِذٌ بِناصِيَتِها المراد مسخرها ومصرفها كيف شاء جَبَّارٍ الجبار القاهر الذي يجبر غيره على اتباعه عَنِيدٍ لا يذعن إلى الحق مهما كان. وتشمل القصة: تبليغ هود الدعوة إلى قومه، وما ردوا به عليه ونقاشه لهم، ونهاية القصة بنجاة المؤمنين وهلاك الكافرين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 128 المعنى: وأرسلنا هودا إلى قبيلة عاد، المشهور أنها عربية وقيل غير ذلك، وكانت تسكن الأحقاف (في شمال حضر موت وغربي عمان، وكانت قبيلة ذات قوة وبطش وأصحاب زرع وضرع، زادهم الله بسطة في الجسم والمال، وهم خلفاء قوم نوح) ، وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [سورة الأعراف آية 69] أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ. وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ. وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ. وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ. أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ [الشعراء الآيات 128- 133] . أرسل إليهم أخاهم هودا من أوسطهم نسبا، وأكرمهم بيتا قال لهم: يا قومي ويا أهلى: اعبدوا الله وحده، لا تشركوا به غيره، مالكم من إله غيره خلقكم ورزقكم وأمدكم بما تعلمون وما لا تعلمون، إن أنتم إلا مفترون على الله الكذب في الشركاء والأوثان. وكان في قبيلة عاد مترفون ألفوا التعالي على الغير، واستمتعوا بالنعم حتى امتلأت قلوبهم كبرا وبغيا وفسادا وضلالا، وهؤلاء هم أعداء الحق دائما إذ يرون في النبوة نورا يعمى أبصارهم، ويفتح أذهان العامة فيأخذون حقهم، فتكسر شوكتهم وتضيع دولتهم لذلك نرى مع كل نبي أن أول كافر به هم أشراف قومه إذ كيف يخضعون لواحد منهم بشر مثلهم. قال هؤلاء: أجئتنا لنعبد الله وحده ونذر ما كان يعبد آباؤنا؟ إنا إذن لفي ضلال مبين، ما أنت إلا شخص لك غرض خاص في هذه الدعوة. فيرد عليهم هود: يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم إليه من عبادة الله وحده ونبذ الشرك والشركاء لا أسألكم عليه أجرا حتى تتهموني بطلب المنفعة، وأن لي غرضا ما أجرى إلا على الذي خلقني على الفطرة السليمة، وهداني إلى الحق الذي أدعو إليه أفلا تعقلون ما أدعوكم إليه، وتميزون بين الحق والباطل، ويا قوم استغفروا ربكم من ذنوبكم ثم توبوا إليه توبة نصوحا إنكم إن فعلتم ذلك يرسل المطر عليكم كثيرا فأنتم في حاجة إليه، ويزدكم قوة إلى قوتكم، وعزا زيادة على عزكم، وإياكم والإعراض عن دعوتي فإن فيها الخير والفلاح. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 129 قالوا إنا لنراك في سفاهة، وضعف عقل وخروج عن جادة الصواب وإنا لنظنك من الكاذبين قال هود: ليس بي سفاهة وكيف أكون ذلك وأنا رسول رب العالمين أبلغكم رسالات ربي وأنا لكم ناصح أمين. اشتد الأمر بعد ذلك، وقالوا: يا هود ما جئتنا بحجة قوية تدل على أنك رسول من الله، وما نحن بتاركي آلهتنا صادرين عن قولك من تلقاء نفسك، وما نحن لك بمؤمنين ومصدقين برسالتك. إن نقول إلا أصابك بعض آلهتنا بسوء حين تعرضت لهم وإنك اليوم مصاب بخبل في العقل وجنون في الرأى. قال هود: أشهد الله أنى بلغت ما كلفت به، واشهدوا أنى برىء مما تشركون به، وإذا كان الأمر كذلك وأن آلهتكم لها قدرة على عمل، فأجمعوا أمركم واجمعوا شركاءكم ثم كيدوني جميعا، ولا تمهلون، إنى توكلت على الله ربي وربكم ووكلت له أمر حفظي، وهو على كل شيء قدير. ما من دابة في الأرض أو السماء إلا هو آخذ بناصيتها، ومصرف أمرها ومسخرها إلى أجل مسمى، إذ له ملك السموات والأرض، إن ربي على صراط مستقيم هو طريق الحق والعدل فإن تتولوا بعد هذا، ولم تطيعوا أمرى فقد بلغت ما أرسلت به إليكم وأبرأت ذمتي من الله وسيستخلف ربي قوما غيركم، ولا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ، وقائم ورقيب.. وهذه هي النهاية. ولما جاء وقت أمرنا، ونزول عذابنا، نجينا هودا ومن معه من المؤمنين برحمة خاصة بهم لا تتعداهم إلى غيرهم، نجيناهم من عذاب غليظ فظيع إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ [سورة القمر الآيتان 19- 20] فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ [سورة الحاقة الآيتان 7 و 8] . وتلك عاد جحدوا آيات ربهم وعصوا رسله أى: جنس الرسول وجنس الآيات الصادقة بآياته ورسوله وهم قد اتبعوا أمر كل جبار يجبر غيره على اتباع رأيه وهم الأشراف العنيدون الذين لا يخضعون للحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 130 ألا إن عادا كفروا بربهم، وجحدوا بآياته، وكذبوا رسله ألا بعدا وطردا من رحمة الله لعاد وقوم هود. قصة صالح- عليه السلام-[سورة هود (11) : الآيات 61 الى 68] وَإِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 131 المفردات: اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها جعلكم تعمرونها مُرِيبٍ الريب الظن والشك يقال: رابنى من فلان أمر يريبني ريبا إذا استيقنت منه الريبة. فإذا أسأت به الظن ولم تستيقن منه الريبة قلت: أرابنى منه أمر فهو مريب فَذَرُوها اتركوها فَعَقَرُوها قتلوها الصَّيْحَةُ المرة الواحدة من الصوت الشديد والمراد بها الصاعقة التي أحدثت رجفة في القلوب وصعق بها الكافرون جاثِمِينَ ساقطين على وجوههم مصعوقين، والجثوم للطائر كالبروك للبعير يَغْنَوْا يقال: غنى بالمكان أقام به. وتتلخص قصة صالح فيما يأتى: كيف بلغ صالح دعوته. ورد قومه واحتجاجهم عليه، ونقاشه لهم، وآيته على صدقه، وإنذارهم بالهلاك، ووقوعه بالفعل. وثمود قبيلة صالح من العرب، وكانت مساكنهم بالحجر بين الحجاز والشام إلى جهة واد القرى، وآثار مدائنهم باقية إلى اليوم وكانت تعبد الأصنام فأرسل لهم صالح لإنقاذهم. المعنى: وأرسلنا إلى ثمود أخاهم صالحا من أوسطهم نسبا وأكرمهم خلقا وأرجحهم عقلا قال: يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله خلقكم ورزقكم غيره. أفلا تتقون؟ هو الذي أنشأكم من الأرض بقدرته حيث خلق أباكم آدم من تراب، وخلقكم أنتم من ماء مهين يتكون من الدم، والدم من الغذاء وهو من الأرض، واستعمركم فيها فجعل لكم جنات وعيونا، وزروعا ونخلا طلعها هضيم [لطيف لين منكسر] وقد جعلكم تعمرونها بالزرع والصناعة وأنشأتم فيها بيوتا فارهين [حاذقين في صنعها] فاتقوا الله وأطيعونى، واستغفروا ربكم من عبادتكم الأصنام، ثم توبوا إليه واعملوا صالحا من الأعمال: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 132 إن ربي قريب من خلقه يعلم خائنه الأعين وما تخفى الصدور خصوصا الاستغفار والتوبة، ويجيب دعوة الداعي إذا دعاه. وما كان منهم إلا أن قالوا (ردا عليه) : يا صالح قد كنت فينا موضع رجائنا ومعقد أملنا لما لك من خلق وعقل قبل هذه الدعوة التي دعوتها ما الذي دهاك وألم بك!! تنهانا عن عبادة ما يعبده آباؤنا الأقدمون والمحدثون؟! وإنا يا صالح لفي شك مما تدعونا إليه من عبادة الله وحده وترك عبادة أوليائه وأحبابه وشركائه. حقا إننا لفي شك وسوء ظن منك. قال يا قوم: أخبرونى ماذا أفعل؟ إن كنت على حجة من ربي، وبصيرة من أمرى أن ما أدعوكم إليه هو من عند الله لا من عندي. فمن ينصرني من عذاب الله إن عصيته بكتمان الرسالة فما تزيدونني بحرصى على رجائكم وخوفي من سوء ظنكم غير إيقاعى في الهلاك. ويا قوم هذه آية على صدقى، ناقة الله لكم. حيث لم تكن على السنن الطبيعي في نشأة أمثالها فقد روى أنها خلقت من صخرة وكان لها شرب في يوم، ولهم شرب في يوم آخر إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ. وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ [القمر 27 و 28] وفي كتب التفسير روايات كثيرة عن الناقة. يا قوم هذه ناقة الله لكم آية فذروها تأكل في أرض الله، واتركوها ترعى حيث تشاء لا يعترضها أحد، ولا تمسوها بسوء أيا كان نوعه، فإنكم إن مسستموها بسوء فسيأخذكم عذاب قريب الوقوع، عذاب أليم يدعكم كالهشيم المحتظر. فنادوا صاحبهم قيل: هو قدار بن سالف فتعاطى فعقر، وقد نسب العقر لهم جميعا لرضائهم على فعله فعقروها فقال لهم صالح: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، وما أشد انتظار البلاء، وما أطولها مدة يترقب فيها الإنسان عذابا محقق الوقوع، ذلك وعد غير مكذوب فيه ومن أصدق من الله حديثا؟! فلما وقعت الواقعة، ونزلت الصاعقة نجينا صالحا والذين آمنوا معه برحمة منا، ونجيناهم من خزي يومئذ، إن ربك أيها الرسول هو القوى القادر العزيز الحكيم يعز من يشاء ويذل من يشاء من عباده فأخذهم العذاب إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ [سورة الشعراء آية 8] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 133 وأخذ الذين ظلموا أنفسهم بعصيان الرسول، ومخالفته، أخذتهم صيحة الصاعقة التي نزلت بقوم صالح فارتجفت لها قلوبهم وصعقوا بها حتى أصبحوا في ديارهم جاثمين جثوم الطير على الأرض لا حراك بهم كالهشيم المحتظر، كأنهم لم يقيموا في ديارهم، وقد خلت من بعدهم. ألا إن ثمود كفروا بربهم فاستحقوا عقابه الصارم، ألا بعدا لهم وسحقا لثمود ومن يشبههم من رحمة الله. قصة إبراهيم- عليه السلام- وبشارته [سورة هود (11) : الآيات 69 الى 76] وَلَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 134 المفردات: حَنِيذٍ مشوى يقطر دهنا نَكِرَهُمْ المراد: نكر ذلك منهم وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً أحس منهم خوفا في نفسه يا وَيْلَتى أى: يا ويلي وهلاكي عَجُوزٌ عقيم الرَّوْعُ الخوف والرعب أَوَّاهٌ كثير التأوه مما يسوء ويؤلم. ذكر إبراهيم- عليه السلام- في القرآن الكريم كثيرا، فذكر مع أبيه وقومه ومع بشارته ولديه إسماعيل وإسحاق، وذكر مع إسماعيل خاصة، وذكر مع الملائكة مبشرين له بإسحاق ويعقوب مخبرين له بهلاك قوم لوط كما هنا. المعنى: وتالله لقد جاءت رسلنا من الملائكة قيل: هم جبريل وميكال وإسرافيل وقيل غير ذلك والأفضل التفويض إلى الله، فالله أعلم بذلك ورسوله، ولقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى بعد التحية منهم وقيام إبراهيم بواجب الضيافة. فلما دخلوا عليه قالوا: سلاما عليك: قال عليكم سلام الله، ترى أنه حياهم بأحسن من تحيتهم إذ من دقائق اللغة العربية أن قولك عليك سلام أبلغ من أسلم سلاما، فما مكث ولا أبطأ في أن جاء بعجل سمين مشوى ينقط دهنا، لونه أحمر، لذة للآكلين فقربه إليهم وقال: ألا تأكلون؟ فلما رأى أيديهم لا تصل إلى الأكل أنكر ذلك ووجده على غير ما يعهد في الضيفان. فإن الضيف لا يمتنع من الأكل إلا لريبة فيه أو قصد سيئ، وأحس في نفسه منهم خوفا وفزعا إذ تبين أنهم ليسوا بشرا، وقد يكونون ملائكة نزلت لتنفيذ عذاب واقع. فلما رأوا منه ذلك قالوا له: لا تخف ولا يساورك شك فينا، إنا رسل ربك أرسلنا إلى قوم لوط الذين بغوا واعتدوا، لا نريد بك شرا، ونحن مبشروك وأهلك بغلام عليم يحفظ نسلك ويبقى ذكرك ويلد يعقوب، ومن ذريته أنبياء بنى إسرائيل، وكانت امرأة إبراهيم قائمة على خدمتهم سامعة حوارهم فضحكت تعجبا مما رأت وسمعت أو سرورا من هلاك قوم لوط أو من البشرى لها بولد صالح، ولعل البشرى كانت بعد الضحك بدليل العطف بالفاء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 135 فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، فلما سمعت البشرى قالت: يا ويلتى ويا عجبي!! أألد وأنا عجوز عقيم؟! وهذا بعلى وزوجي شيخا كبيرا مسنا. إن هذا لشيء عجيب!! قالت الملائكة لها: أتعجبين من أمر الله وقضائه الذي لا يعجزه شيء إذا أراد شيئا قال له كن فيكون. رحمة الله الواسعة وبركاته الكثيرة عليكم يا معشر بيت النبوة، وأهل بيت إبراهيم الخليل تتصل وتتابع إلى يوم القيامة، وهذا يدعو بلا شك إلى عدم العجب أنه- جل جلاله- حميد يستحق غايات المجد والثناء، ممجد في الأرض وفي السماء. فلما ذهب عن إبراهيم الروع والخوف من الملائكة، وعلم أنهم ملائكة العذاب أتوا لقوم لوط، وقد جاءوا له بالبشرى، أخذ يجادل الملائكة، وهم رسل الله في قوم لوط- إن إبراهيم لحليم فلا يحب أن يعاجل بالعقوبة، كثير التأوه والتألم من عذاب الناس منيب إلى الله وراجع إليه- فأجابته الملائكة: يا إبراهيم أعرض عن جدالك واسكت، إنه قد جاء أمر ربك بتنفيذ العذاب على هؤلاء، وأنهم آتيهم عذاب لا يعلمه إلا هو غير مردود أبدا. قصة لوط مع قومه وكيف نجا المؤمنون وهلك الكافرون [سورة هود (11) : الآيات 77 الى 83] وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 136 المفردات: سِيءَ بِهِمْ وقع فيما ساءه منهم وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً المراد ضاق صدره بمجيئهم وكرهه، وأصله أن يذرع البعير بيديه في سيره ذرعا على قدر سعة خطوه فإذا حمل عليه أكثر من طوقه ضاق عن ذلك عَصِيبٌ شديد في الشر، وفيه معنى الاجتماع يُهْرَعُونَ يسرعون، ولا يكون الإهراع إلا سراعا مع رعدة من برد أو غضب أو حمى أو شهوة، وهو فعل ملازم للبناء للمجهول رَشِيدٌ شديد يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ السرى السير ليلا بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ ببقية من الليل سِجِّيلٍ أى: من طين بدليل قوله في سورة أخرى: لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ مَنْضُودٍ متتابع ومنظم ومعد لأعداء الله مُسَوَّمَةً لها علامة خاصة عند ربك لا تصيب غيرهم، وهي مسومة أى: محكمة حرة لا يثنيها أحد وقوم لوط هم أسفل سدوم في دائرة الأردن. المعنى: ولما جاءت رسلنا من الملائكة لوطا بعد ذهابهم من عند إبراهيم سىء بهم، واغتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 137 بمجيئهم لما يعلم من أخلاق قومه وضاق بهم ذرعا، وعجز عن احتمال ضيافتهم، وذلك لما يخافه من اعتداء قومه عليهم، وقد روى أنهم جاءوا على شكل غلمان حسان وقال لوط (وهو ابن أخ إبراهيم- عليه السلام-) : هذا يوم شديد قد اجتمعت فيه أسباب الشر. وجاء قومه عند ما سمعوا بالضيوف وقدومهم جاءوا يهرولون مسرعين مدفوعين بدوافع نفسية شيطانية، ولا غرابة في هذا فهم قوم كانوا يعملون السيئات من قبل، فالسوء والاعتداء، وإتيان الرجال شهوة من دون النساء غريزة فيهم مستحكمة أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ قال لوط: يا قوم هؤلاء بناتي لصلبى أو بنات القوم جميعا من ثيبات وأبكار تحت طلبكم وفي مقدوركم، وهن أطهر لكم، [وليس معنى أطهر أن إتيان الرجال طاهر لا. لا..] والمراد هؤلاء تحت طلبكم فتزوجوا العذارى. وأتوا نساءكم في الحلال، ولا يعقل أن يعرض لوط بناته لهم للزنا فهذا لا يليق من رجل عاقل فما بالك بنبي مرسل لا يعقل هذا أبدا وإن كتب في سفر التكوين ونقله جهلا أو بحسن الظن بعض المسلمين، بدليل قوله: فاتقوا الله ولا تخزون في ضيفي، والمعنى: أجمعوا بما آمركم به بين تقوى الله باجتناب الفاحشة وبين حفظ كرامتي وعدم إذلالى وامتهانى في ضيفي، أليس منكم رجل رشيد؟ ذو رشد وعقل يرشدكم إلى الخير ويهديكم إلى الرأى؟ قالوا: لقد علمت ما لنا في بناتك من حاجة ولا أرب، فلا معنى لعرضك علينا هذا وإنك لتعلم ما نريد من الاستمتاع بالذكران، قال لوط مخاطبا ضيوفه كما هو الظاهر: لو أن لي بكم قوة تقاتل معى هؤلاء القوم أو تدفع شرهم عنى، والمعنى أتمنى أن يكون لي ذلك أو آوى إلى ركن شديد من أصحاب العصبيات والقوة في الأرض، قالت الملائكة: يا لوط: إنا رسل ربك جئنا لنجاتك من شرهم وإهلاكهم، ومعنى هذا أنهم لم يصلوا إليك بسوء في نفسك ولا فينا، ولقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم، فلم يبصروا شيئا ثم قيل لهم: فذوقوا عذابي ونذر ولقد صبحهم بكرة عذاب مستقر! فقالت له الملائكة تنفيذا لوعد ربه: أسر بأهلك واخرج من هذه القرية الظالم أهلها بطائفة مع الليل تكفى لتجاوز حدودها والبعد عنها فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 138 بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [سورة الذاريات الآيتان 35 و 36] ولا يلتفت منكم أحد إليها أبدا خوفا من أن يرى العذاب فيصيبه، وامضوا حيث تؤمرون. فأسر بأهلك جميعا إلا امرأتك كانت من الغابرين أى: الباقين، وكانت امرأة كافرة لها ضلع مع قوم لوط الكفرة. إنه مصيبها ما أصابهم، إن موعدهم الصبح إذ سيبتدئ عذابهم من طلوع الفجر وينتهى عند شروق الشمس فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ [الحجر 73] أليس الصبح بقريب؟ وقد كانوا يتعجلون العذاب كفرا واستهزاء بلوط. فلما جاء أمرنا، ونفذ قضاؤنا جعلنا عاليها سافلها وقلبنا أرضها وخسفناها، وأمطرنا عليها حجارة من طين متراكب بعضه في أثر بعض، حجارة لها علامة لا تنزل على غيرهم، وقيل المعنى: سخرها عليهم وحكمها فيهم لا يمنعها مانع، انظر إلى قوله- تعالى-: «مسوّمين» وصفا للملائكة في غزوة بدر، وقولهم إبل مسومة وسائحة أى: ترعى حيث شاءت، وما هذه العقوبة من الظالمين وحدهم ببعيد، يا سبحان الله هذا العقاب الصارم ليس ببعيد أبدا عن الظالمين، فانظروا يا كفار مكة أين أنتم منه؟!! قصة شعيب- عليه السلام-[سورة هود (11) : الآيات 84 الى 95] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَيا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَالْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 139 المفردات: بِخَيْرٍ بثروة وسعة في الرزق تَبْخَسُوا تنقصوا الأشياء أو تعيبوها تَعْثَوْا تفسدوا في الأرض قاصدين الفساد. الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ العاقل المتأنى، الراسخ في هدايته لا يَجْرِمَنَّكُمْ الجرم الكسب والمراد لا يحملنكم شِقاقِي خلافي معكم الشديد: ما نَفْقَهُ الفقه الفهم الدقيق العميق المؤثر في النفس رَهْطُكَ عشيرتك الأقربون وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا المراد جعلتموه بشرككم كالشىء الملقى وراء الظهر مَكانَتِكُمْ تمكنكم في قوتكم وعصبيتكم. هذه القصة تشمل تبليغ شعيب دعوته وما أمر به ونهى عنه من آية 84 إلى آية 87. مناقشة قومه له ورده عليهم وذلك في الآيات 87- 90. تطور الحالة واشتدادها وإنذار شعيب لهم بالعذاب، ووقوع ذلك بالفعل ونجاة المؤمنين من آية 90 إلى نهاية القصة. المعنى: وأرسلنا إلى قبيلة مدين- وكانت تسكن الحجاز مما يلي الشام، وكانوا في غنى وسعة إلا أنهم طففوا الكيل، ونقصوا الوزن، وعاثوا في الأرض الفساد- أرسلنا لهم شعيبا من أوسطهم نسبا وأعلاهم خلقا، قال لهم: يا قومي ويا أهلى [وهذا مما يدعو إلى الاستجابة والقبول] اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا، ما لكم إله غيره يتصف بما اتصف به الله- جل شأنه- حتى يعبد، ألست معى في أن الرسل جميعا متفقون في طلب عبادة الله وحده؟ أما الأمور العملية فكل يعالج ناحية الضعف في أمته، ولذا قال شعيب، يا قومي اعبدوا الله، ولا تنقصوا الكيل والميزان فيما تبيعون، وكانوا إذا اكتالوا على الناس يستوفون، وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون أى: ينقصون، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 141 ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون ومحاسبون؟ امتثلوا الأمر واجتنبوا النهى لأنى أراكم بخير وعافية وغنى وسعة، وهذا يدعو لشكر الله وامتثال أمره، ولأنى أخاف عليكم عذابه إذا أنتم أصررتم على العصيان. ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط والعدل، وهذا أمر بالوجوب بعد النهى عن ضده لتأكيده وتنبيها على أنه لا بد منهما قصدا، لا تنقصوا الناس أشياءهم في كيل أو وزن أو عد في حق حسى أو معنوي ولا تعيبوا شيئا لا يستحق العيب، ولا تفسدوا في الأرض بأى نوع من الفساد حالة كونكم قاصدين له، واعلموا أن ما يبقيه الله لكم بعد إيفاء الحقوق بالقسط أكثر بركة، وأحمد عاقبة مما تبقونه لأنفسكم من تطفيف في الكيل أو نقص في الوزن وصدق الله بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وما أنا عليكم بحفيظ ورقيب إن علىّ إلا البلاغ وعلى الله الحساب. مناقشتهم له ورده عليهم: قالوا: يا شعيب أصلاتك تقضى بتأثيرها فيك أن تحملنا على ترك ما كان يعبد آباؤنا من أصنام نتخذهم قربى إلى الله؟ ولست أنت خيرا منهم حتى نتركهم ونتبعك، والاستفهام في الآية للإنكار والسخرية بشعيب، أصلاتك تأمرك أن نترك ما نفعله في أموالنا من تنمية واستغلال على حسب نشاطنا واجتهادنا، أليس هذا حجرا على حريتنا وحدا لنشاطنا؟ إنك يا شعيب لأنت الحليم المتأنى في حكمه العاقل المتروى، والرشيد الذي لا يأمر إلا بما استبان له فيه وجه الخير والرشاد، وهذا التأكيد الكثير في كلامهم يفيد الاستهزاء والتعريض به. انظروا إلى رد شعيب عليهم في هذه الاتهامات. يا قومي ويا أهلى أخبرونى ماذا أفعل معكم ومع نفسي؟ إن كنت على يقين تام، وحجة واضحة من ربي تفيد أن ما آمركم به هو من عند الله لا من عند نفسي، والله أعلم حيث يجعل رسالته، وقد رزقت من فضله وخيره رزقا حسنا كثيرا، حصل لي من طريق الكسب الحلال فأنا رجل ملئ وخبير بما ينمى المال، وأخبرونى ماذا أفعل، وماذا أقول لكم غير الذي قلت؟. وما أريد أن أخالفكم مائلا إلى ما نهيتكم عنه بل أنا مستمسك به قبلكم لأنى أرى فيه الخير والرشاد في الدنيا والآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 142 وأنا ما أريد إلا الإصلاح والخير العام لي ولكم ما استطعت إلى ذلك سبيلا ليس لي فيما أفعل غرض خاص. ومن هنا نأخذ أن العاقل يجب أن يكون عمله مراعيا فيه حق الله ورسوله، وحق نفسه، وحق الناس عليه. وما توفيقي وهدايتي إلى الخير إلا بالله وحده، عليه توكلت، وإليه أنيب إذ هو المرجع والمآب والنافع والضار لا أرجو منكم خيرا، ولا أخاف ضرا، ويا قوم لا يحملنكم شقاقي وخلافي معكم في الرأى والعقيدة على العمل الضار الذي يترتب عليه أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح بالغرق، أو قوم هود بالريح العاتية، أو قوم صالح بالصيحة الطاغية، وما عذاب قوم لوط منكم ببعيد زمانا ولا مكانا ولا إجراما. واستغفروا ربكم من ذنوبكم ثم توبوا إليه واعملوا صالحا من الأعمال، وإن ربي وربكم عظيم كثير المودة، فإنكم إن فعلتم ذلك يمتعكم متاعا حسنا في الدنيا والآخرة. اشتداد الحالة ووقوع العذاب: قالوا يا شعيب: ما نفهم كثيرا مما تقول فهما عميقا، ولا نفهم له معنى ولا حكمة، وإنا لنراك فينا ضعيفا لا حول لك ولا قوة، فكيف يقبل منك هذا الذي يوصلك إلى الرياسة في الدين والدنيا، على أنا لو أردنا البطش بك لما منعنا مانع، ولولا عشيرتك الأقربون لفتكنا بك فتكا يتناسب مع عملك معنا من ذم آلهتنا، وطلبك الحجر علينا في تصرفنا أى: نقتلك رميا بالحجارة وما أنت علينا بعزيز. قال: يا قومي، أرهطي وأسرتى أعز وأكرم عليكم من الله الذي أدعوكم اليه؟ وأشركتم به وجعلتم مراقبته والخوف منه وأمره ونهيه وراءكم ظهريا كالأمر الذي يهون على صاحبه فينساه ولا يحسب له حسابا، إن ربي بما تعملون محيط علما فسيجازيكم على عملكم. ويا قومي اعملوا ما استطعتم على منتهى تمكنكم في قوتكم إنى عامل على مكانتى وحالتي!! وغدا سوف تعلمون الذي سوف يأتيه عذاب يخزيه ويذله في الدنيا والآخرة، ومن هو كاذب في قوله لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا وانتظروا مراقبين من سيقع عليه العقاب، إنى معكم من المنتظرين، وهذا الأمر (اعملوا وارتقبوا) للتهديد والوعيد ممن وثق بربه وبوعده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 143 ولما جاء أمرنا، وحانت ساعة التنفيذ نجينا شعيبا والذين آمنوا معه برحمة خاصة بهم: وما ذلك على الله بعزيز، وأخذت الذين ظلموا الصيحة التي أخذت ثمود فأصبحوا جاثمين، وجوههم منكبة على الأرض كالطير الجاثمة، وأصبحت ديارهم خاوية على عروشها كأنهم لم يقيموا فيها وقتا من الأوقات ألا بعدا وهلاكا لّمدين كما بعدت وهلكت ثمود. من قصة موسى وفرعون [سورة هود (11) : الآيات 96 الى 99] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) المفردات: وَسُلْطانٍ مُبِينٍ المراد: حجة قوية ظاهرة. وقيل: هي العصا يَقْدُمُ أى: يتقدم. يقول قدمهم يقدمهم إذا تقدمهم فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ أدخلهم فيها الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ المراد: بئس العطاء المعطى لهم وقيل: الرفد القدح: والرفد ما في القدح من الشراب: والمراد: بئس ما يسقونه في النار عند ما يردونها. المعنى: ولقد أرسلنا موسى بآياتنا التسع المفصلة في غير هذه السورة وأرسلناه بحجة قوية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 144 كقوة السلطان ظاهرة لا غموض فيها، وهي محاورته مع فرعون. وقيل هي عصاه، أرسلناه إلى فرعون وملئه وهم أشراف قومه، وقادة شعبه، ومستشاروه في الرأى وأما بقية الشعب فتابع لهم، وسائر وراءهم بدون تفكير، فاتبع الأشراف أمر فرعون، ونفذوه حرفيا في الكفر بموسى وإحضار السحرة، وقتلهم لمن آمنوا، وما أمر فرعون برشيد أبدا بل هو الغواية والضلال، والشر والفساد، وهذا فرعون كبير قومه وقائدهم إلى الشر في الدنيا يتقدمهم يوم القيامة إلى النار فيدخلون فيها جميعا، وبئس الورد المورود الذي دخلوه وهو جهنم، وذلك لأن وارد الماء يرده للتبريد ولذة الشرب، ووارد النيران يحترق بلهبها، ويتلظى بنارها. وأتبعوا في هذه الدنيا لعنة، ويوم القيامة هم من المقبوحين، ويوم القيامة يسقون ماء حميما يقطع الأمعاء مع اللعنة عليهم في الدنيا والآخرة وبئس هذا العطاء المعطى لهم جزاء ما قدموا من سىء الأعمال. العبرة والعظة من القصص [سورة هود (11) : الآيات 100 الى 108] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 145 المفردات: تَتْبِيبٍ مأخوذ من التباب أى: الخسران والهلاك يقال تب فلان، وتبت يده أى: خسر وهلك شَقِيٌّ الشقي: من استحق النار لإساءته سَعِيدٌ من استحق الجنة لعمله بعد فضل الله ورحمته زَفِيرٌ الزفير إخراج النفس، والشهيق رده مع السرعة والجهد مَجْذُوذٍ مقطوع مأخوذ من جذه يجذه إذا قطعه أو كسره. المعنى: ذلك الذي ذكرنا بعض أنباء القرى التي ظلمت نفسها وعصيت رسلها نقصه عليك للعبرة والعظة ولمعان أخر، ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه، من القرى ما له بقايا آثار باقية كالزرع القائم، ومنها ما عفى ودرس حتى لم يعد له أثر كالزرع المحصود، وما ظلمناهم في شيء أبدا بل أرسلنا لهم الرسل لهدايتهم وتنوير بصائرهم ولكنهم ظلموا وبغوا وما ازدادوا إلا فجورا وضلالا، أنذرتهم رسلهم بالعذاب فتماروا بالنذر، واتكلوا على آلهتهم في دفع العذاب عنهم فما أغنت عنهم آلهتهم شيئا لما جاء أمر ربك وما زادوهم غير هلاك وضلال فإنهم باتكالهم عليهم ازدادوا كفرا وإصرارا وظلما وضلالا. ومثل ذلك الأخذ بالعذاب والنكال أخذ ربك إذا أخذ القرى في حال تلبسها بالظلم في كل زمان ومكان، إن أخذه أليم شديد موجع قاس، فاعتبروا يا أولى الأبصار فهل من مدكر؟ يا كفار قريش لستم بأقوى منهم وأشد بأسا، وليس رسولكم بأقل من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 146 إخوانه الرسل أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [سورة الروم آية 9] . إن في ذلك القصص الذي مضى لآية قوية وحجة ظاهرة على أن هذا الكون يجرى على سنن مرسوم ووضع مقصود لله- سبحانه وتعالى-، وإنه لآية لمن يؤمن بالآخرة والحياة فيها وأنها محل الثواب والعقاب، أما من لم يؤمن بها ويقول إن عذاب الأمم كان طبيعيا فالغرق والصاعقة والزلازل أمور طبيعية ليست إلهية فنقول له على رسلك: إن عذاب الأمم أتى بعد إنذار الرسل لأقوامهم. وقد كان محددا بوقت تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ. وإنه لآية على أن عذاب الآخرة. ذلك اليوم المعد له يوم مجموع له الناس للحساب وذلك يوم مشهود فيه، يشهده الخلق جميعا. وما نؤخر ذلك اليوم إلا لانتهاء مدة محدودة في علمنا وتلك هي عمر الدنيا. يوم يأتى ذلك اليوم المعهود المعروف لا تتكلم نفس إلا بإذنه- سبحانه- فهو صاحب الأمر والنهى والإذن يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً [سورة النبأ آية 38] يوم تخضع فيه الأصوات فلا تسمع إلا همسا يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [سورة طه آية 109] هو يوم شديد هوله، طويل وقته مختلف حاله فتارة يؤذن لهم بالكلام فيعتذرون ويندمون وطورا جامدون جمود الصخر لشدة الهول، ونفى الكلام إلا بإذنه يفسر لنا الجمع بين الآيات المثبتة للكلام والنافية له. فمن الناس شقي حقت عليه الكلمة وعمل عمل أهل النار، ومنهم سعيد، أريد له الخير فعمل عمل أهل الخير، وكل ميسر لما خلق له. فأما الذين شقوا في الدنيا بالعمل الفاسد والاعتقاد الزائغ، ففي النار مستقرهم ومثواهم، لهم فيها زفير وشهيق من شدة الكرب، وضيق الصدر بما حل بهم فهم يتنفسون الصعداء تكاد صدورهم تخرج من شدة الحزن والبكاء خالدين فيها وباقين بها ما بقيت السموات والأرض، وهل تبقى السموات والأرض؟ نعم تبقى بشكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 147 آخر ولون آخر الله أعلم به يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ وسماء كل من أهل النار والجنة ما فوقهم، وأرضهم ما تحتهم. قال ابن عباس: لكل جنة أرض وسماء. وهذا معنى قوله تعالى: خالِدِينَ فِيها أَبَداً إذ العرب يريدون بمثل هذا التركيب التأبيد. هذا الخلود وهذا الدوام ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك، وللعلماء قديما وحديثا في هذا الاستثناء وأمثاله أقوال كثيرة ذكر القرطبي منها عشرة والظاهر والله أعلم أنه استثناء من الخلود على معنى أنهم خالدون فيها إلا ما شاء ربك من تغيير هذا النظام المعد، ويكون المراد أن كل شيء في قبضته وتحت تصرفه إن شاء أبقاه وإن شاء منعه ويشير إلى هذا المعنى قوله تعالى: حكاية عن الرسول قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ. وقيل: هو استثناء من الدوام في قوله: ما دامَتِ لأن أهل الجنة وأهل النار قد كانوا في وقت من أوقات دوام السموات والأرض في الدنيا لا في الجنة ولا في النار فكأنه قال خالدين في النار أو في الجنة ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك من تعميرهم في الدنيا قبل ذلك. والرأى الأول ذكره تفسير المنار وأظنه هو المناسب لقوله تعالى: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ هـ ويشاءه- سبحانه وتعالى-. وأما الذين سعدوا فهم في الجنة خالدين فيها وماكثين بها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مقطوع ولا ممنوع. وانظر إلى الفرق بين ختام الآيتين فكل من الجزاءين دائم- بمشيئة الله تعالى- ولكن جزاء المؤمنين السعداء هبة منه وإحسان دائم غير مقطوع وصدق رسول الله «لن يدخل أحد منكم الجنّة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال: ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته» وأما الكافرون فجزاؤهم موافق لأعمالهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 148 تحذير وتثبيت [سورة هود (11) : الآيات 109 الى 111] فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) المعنى: إذا علمت ما مضى ووقفت عليه، وأنها سنة الله ولن تتغير فلا تك في مرية ولا شك مما يعبد هؤلاء الناس من قومك. لا يكن عندك شك في نهايتهم وجزائهم أبدا، ما يعبدون إلا كما يعبد آباؤهم من قبل، فجزاؤهم في الآخرة، وإنا لموفوهم نصيبهم على أعمالهم الصالحة في الدنيا فقط غير منقوص، والواجب أنهم لا يغترون بما هم فيه من نعمة ورخاء فالدنيا لهم فقط، وأما الآخرة فعذاب شديد ولا عجب في هذا. فها هم أولاء قوم موسى. وتالله لقد آتينا موسى الكتاب وهو التوراة فاختلف فيه قومه من بعده بغيا بينهم، وتنازعا على الرياسة الكاذبة والدنيا الزائلة، وإنما أنزل الكتاب لجمع الكلمة، والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه. ولولا كلمة سبقت من ربك بتأجيل العقوبة لقضى بينهم في الدنيا بإهلاك البغاة المثيرين للفتنة كما أهلك الأمم السابقة. وإنهم لفي شك منه مريب، والظاهر- والله أعلم- أن الضمير يعود على قوم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 149 موسى، وشكهم المريب كان في التوراة وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ من سورة الشورى آية: 14، والمراد بالذين أورثوا الكتاب هم اليهود والنصارى إلا المسلمون فإن التوراة قد أحرقت مع هيكل سليمان، ولذلك يقول الله: وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ فلم يأخذ عيسى التوراة من اليهود، وإن احتج عليهم بما حفظوا منها وخالفوه في العمل، وإن أولئك المختلفين- والله- ليوفينهم ربك أعمالهم، ولا يظلم أحدا، إنه بما يعملون خبير، وفي هذا تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم. نتيجة ما مضى من السورة [سورة هود (11) : الآيات 112 الى 115] فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَمَنْ تابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَزُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) المفردات: وَلا تَطْغَوْا الطغيان مجاوزة الحد بالإفراط أو التفريط تَرْكَنُوا الركن الناحية القوية والجانب الأقوى، ومنه قوله تعالى: فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ والمراد النهى عن الاعتماد عليهم والالتجاء إليهم. طَرَفَيِ النَّهارِ الغداة والعشى أو بكرة وأصيلا زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ الطائفة من أول الليل لقربها من النهار والمراد بها المغرب والعشاء. هذا الأمر والنهى ثمرة عامة لما في القصص الماضي من العبرة والعظة، حيث كان الجزاء على الإيمان ما عرفناه، وجزاء الكفر ما علمناه، وكان منه الغرق والخسف والهلاك ... إلخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 150 المعنى: إذا كان حال أولئك الأمم كما قصصنا عليك أيها الرسول فاستقم كما أمرت ومن تاب معك، ولا تطغوا. الاستقامة المأمور بها في الآية مرتبة عليا، تقتضي الإيمان بالغيب كله كما جاء في القرآن الكريم، وعدم التفرق والاختلاف في أسس الدين وأصوله الذي وعد الله صاحبه بالهلاك والعذاب، والاستقامة تقتضي كذلك التزام ما أمر به الكتاب من العبادات والمعاملات، والاحتكام إليه عند النزاع واختلاف الرأى فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء 59] أليست الاستقامة درجة عليا بدليل أمر الله نبيه بها! وهو على الاستقامة مستقيم، وقد أمر بها موسى وهارون على أنها الطريقة المثلى للنجاح قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَلا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [يونس 89] وانظر إلى قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [سورة فصلت آية 30] . والاستقامة تطبيق عملي لروح الدين، وكرامة يختص بها الله بعض المخلصين من عباده ليكونوا مع النبيين والصديقين والشهداء، وحسن أولئك رفيقا وصدق رسول الله حين قال لسفيان الثقفي إجابة لطلبه: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال النبي صلّى الله عليه وسلم «قل آمنت بالله ثمّ استقم» . فاستقم كما أمرت يا أيها الرسول ومن تاب معك من المؤمنين، ولا غرابة في هذا الأمر، والرسول صلّى الله عليه وسلّم مستقيم غاية الاستقامة إذ هو أمر يقصد به الدوام والاستمرار على ما هو عليه. وألا تطغوا إنه بما تعملون بصير، والطغيان مجاوزة الحد المرسوم، والخروج عن الطريق المستقيم، وهذا أمر عام يقع فيه الخاص والعام، ولذلك جاء النهى فيه للجميع مع التذييل بأن الناقد بصير وخبير. ولا تركنوا إلى الذين ظلموا، ولا تعتمدوا عليهم في شيء أبدا فالركون إلى الظالمين ظلم بين، وهذا النهى علاج لمرض نفسي متفش عندنا كثيرا وهو اللجوء إلى الكبار والرؤساء معتمدين عليهم في قضاء المصالح وهذا ما يدعونا إلى إطرائهم وتملقهم، وكتمان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 151 الحق، وعدم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، وكل من اعتدى على دين الله أو على حكمه فهو ظالم، فما بالك بالكفرة والمشركين. ولا تركنوا إلى الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم وأمتهم ووطنهم فتمسكم النار، وما لكم من دون الله أولياء أبدا ينفعونكم ثم أنتم لا تنصرون في شيء؟!! وانظر- رعاك الله- إلى خير ما يستعين به الإنسان في حياته. أمرنا الله بالاستقامة، والصبر على الطريق المستقيم، ونهانا عن الطغيان ومجاوزة الحد، ونهانا عن الركون إلى الظالمين والاستعانة بهم. وكل هذا أمر شاق على النفس، كبير إلا على الخاشعين، ولذا عطف على ذلك الأمر بإقامة الصلاة وتحصيل الصبر لأنهما العدة للامتثال. أما إقامة الصلاة فهي ترأس العبادات العملية، وهي الصلة بين العبد والرب وهي مطهرة للنفس مرضاة للرب، مدعاة لتطهير الروح وتزكية النفس. والصبر سلاح المؤمن وعدته، والوقاية له من الجزع المفضى إلى الخروج عن الجادة، وقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الصّبر نصف الإيمان» . لذلك كله لا غرابة في جعل الصلاة والصبر خير ما يستعين بهما المسلم على امتثال الأمر واجتناب النهى. وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفا من الليل، والمراد أدها كاملة مقومة تامة الأركان مستوفية الشروط والهيئات في أول النهار وآخره، بكرة وأصيلا، وفي ساعات الليل المتداخلة في النهار وساعات النهار المتداخلة في الليل، وهذا التحديد في الزمن يشمل جميع أوقات الصلاة كما ذكرت في آيات أخرى فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ. وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [الروم 17 و 18] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً [الإسراء 8] والمراد بدلوك الشمس زوالها المنتهى إلى غسق الليل ويدخل فيه صلاة العصر والمغرب والعشاء وأقم صلاة الفجر إنها كانت مشهودة من الله والملائكة. وأقم الصلاة. إن الحسنات بامتثال الأمر خصوصا في العبادات التي أهمها الصلاة يذهبن السيئات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 152 روى أن رجلا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فذكر له كأنه يسأله عن كفارتها فأنزلت الآية وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ فقال: يا رسول الله، إلىّ هذه؟ قال النبي صلّى الله عليه وسلم: «هي لمن عمل بها من أمّتى» . المعنى: في الحديث أن الذنب الذي قارفه السائل ليس فيه حد وإنما يكفره العمل الصالح من إسباغ وضوء، وإقامة صلاة، وإحسان في العمل فذلك كله يطهر النفس ويزكيها من أثر الدنس الذي ألم بها. ومراحل التوبة الصادقة علم بالذنب وخطره على صاحبه، وحال عند الشخص من ندم على الذنب، وألم في النفس يوجب العزم على عدم العودة، والعمل الصالح الذي يطهر النفس من خب الذنب إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صالِحاً. [مريم 60] ، ذلك الذي مر من الوعظ الصادق والأمر النافع الذي يقتضى المراقبة التامة لله في السر والعلن ذكرى وموعظة حسنة للذاكرين ذوى الألباب والأرواح الطاهرة واصبر.. يا سبحان الله!! أمرتنا بالصبر المطلق العام في كل شيء صبر على الطاعة وما فيها من تحمل المشاق، وصبر على الابتعاد عن المحرمات والمنكرات التي تهواها النفس البشرية، وصبر على الشدائد والمصائب والأزمات التي تعترض الإنسان في حياته الخاصة والعامة، واصبر أيها المسلم فإن الله لا يضيع أجر المحسنين الصابرين اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [سورة البقرة آية 153] والله يوفى الصابرين أجرهم بغير حساب. السبب العام في هلاك الأمم السابقة [سورة هود (11) : الآيات 116 الى 119] فَلَوْلا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَكانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 153 المفردات: الْقُرُونِ جمع قرن ويطلق على عدد من السنين قيل: مائة سنة، وعلى الجماعة من الناس المقترنين في زمن واحد بَقِيَّةٍ أصحاب طاعة وعقل وبصر بالأمور، والأصل أن البقية ما يبقى من الشيء بعد ذهاب أكثره، ومن الناس كذلك ثم استعمل في الخيار الصالحين النافعين إذ الغالب أن المنفق ينفق الرديء ويبقى الحسن وهذا مما يدخل في قاعدة بقاء الأصلح الْجِنَّةِ الجن سموا بهذا لاستتارهم. هذه الآيات لبيان السبب في هلاك الأمم التي قص خبرها في السورة مع إرشادنا إلى تجنب تلك الأسباب، والابتعاد عن المزالق التي انزلق فيها السابقون من ترك الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، واتباع دواعي الترف والبطر، والإجرام والظلم بأنواعه، والبعد عن الاختلاف والتفرق في اتجاهنا العام. المعنى: فهل كان من الأمم السابق قصصها، والتي مضت قبلكم جماعة أولو بقية وعقل، وأصحاب رأى وعزم ينهون عن الفساد في الأرض، ويأمرون بالمعروف لا يبالون شيئا ولا يخافون خطرا، لا يمنعهم منه لومة لائم، ولا جاه سلطان جائر. ولولا التي في الآية للتحضيض والحث على عمل ما بعدها مع الإشارة إلى الأسف لعدم تحقيقه فيما مضى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 154 لكن قليلا من الذين أنجيناهم مع رسلهم كانوا أولى بقية نهوا عن المنكر وأمروا بالمعروف، واتبع الذين ظلموا أنفسهم- وهم الأكثرية الكثيرة في تلك الأمم- ما أترفوا فيه، من نعمة وعافية ودولة وسلطان، فكانت الأكثرية لا تأمر بمعروف ولا تنهى عن منكر، ولكنهم عقدوا عزمهم على اتباع الشهوات، وساروا وراء ما فيه التنعم والترف من حب الرياسة والثروة وطلب أسباب العيش الهنيء ورفضوا ما وراء ذلك، ونبذوه وراءهم ظهريا، وكانوا مجرمين! وأى إجرام أكثر من هذا؟ ومن هنا يعلم أن الترف هو الذي يدعو إلى السرف المفضى إلى الفسوق والعصيان والظلم والإجرام، يظهر هذا في الكبار والموسرين ثم ينتقل إلى الفقراء المعوزين فتسوء حال الأمم وتتدهور أخلاقها وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً [سورة الإسراء آية 16] . وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، نعم ليس من شأنه سبحانه وتعالى، أن يهلك القرى ظالما لها وأهلها مصلحون. وقيل المعنى: وما كان ربك مهلكا القرى بسبب الظلم الذي هو الشرك والحال أن أهلها مصلحون في المعاملة بينهم وبين الناس بمعنى أنهم لا يطففون الكيل كما فعل قوم شعيب، ولا يأتون الرجال كما فعل قوم لوط، ولا يتبعون كل جبار عنيد كما فعل قوم فرعون، ولا يبطشون بالناس بطش الجبارين كما فعل قوم هود، بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفساد في الأعمال والأحكام، وهو الظلم المقوض للأمم ولذا قيل الأمم تبقى مع الكفر. ولا تبقى مع الظلم. وتحتمل الآية: وما كان ربك مهلكا لهم بظلم قليل يقع من الأقلية البسيطة، والأكثرون مصلحون، والآية الكريمة تحتمل كل هذا وفوق هذا، وسبحان من هذا كلامه- تبارك وتعالى-!! ولو شاء ربك أيها الحريص على إيمان قومه لجعل الناس أمة واحدة، وآمن من في الأرض كلهم جميعا. ولو شاء ربك لخلق الناس وفي غريزتهم وفطرتهم قبول الدين بلا تفكير ولا نظر فكانوا كالنمل والنحل أو الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم، ولكنه شاء لهم ذلك وقدر لهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 155 عقولا مختلفة واتجاهات متباينة إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [سورة القصص آية 56] وبهذا عمر الكون، وكانوا خلفاء الله في الأرض. ولا يزالون مختلفين في كل شيء حتى قبول الدين إلا من رحم ربك منهم فاتفقوا على تحكيم كتاب الله والأخذ بما أخذ وترك ما ترك، ولذلك خلقهم فمنهم شقي ومنهم سعيد، قال ابن عباس: خلقهم فريقين فريقا يرحم فلا يختلف، وفريقا لا يرحم فيختلف، وفي معناه قول مالك بن أنس: خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير: نعم كان الاختلاف الناشئ من خلقهم مختلفين سبب دخول كل من الدارين. وتمت كلمة ربك وقضى الأمر لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين الذين لا يهتدون بما أرسل به الرسل من الآيات والأحكام. خاتمة السورة [سورة هود (11) : الآيات 120 الى 123] وَكُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) هذا ختام السورة الكريمة، وفيه بيان ما استفاده الرسول والمؤمنون من هذه القصص، وتهديد غير المؤمنين وإنذارهم، وبيان شمول علمه- سبحانه وتعالى- والأمر بعبادته والتوكل عليه. وكل قصص نقص عليك أيها الرسول من أنباء الرسل قبلك وأخبارهم المهمة التي هي عين العبرة والعظة، نقص عليك ما نثبت به فؤادك، حتى يكون كالجبل ثباتا ورسوخا بما يطلعك الله- سبحانه وتعالى- عليه من أنواع العلوم والمعارف؟ وما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 156 وقفت عليه من طبائع الناس وسنن الله في الكون وما قاساه الرسل الكرام من الإيذاء فصبروا صبرا كريما، ولا شك أن دراسة أخبار الأمم الماضية مما يثبت القلب. ويزيد الإيمان ويقوى اليقين، وجاءك في هذه السورة وتلك الأنباء الحق الثابت واليقين الراسخ والأساس الذي اتفق عليه الكل من دعوة إلى التوحيد وإثبات البعث والحث على التقوى والخلق الكامل والبعد عن الرذيلة. وفي هذا موعظة وذكرى للمؤمنين، فإنهم الذين يستفيدون من الوعظ والذكرى والمراد بالمؤمنين المعاصرون ومن يأتى بعدهم. وقل للكافرين الذين لا يؤمنون اعملوا على ما في مكنتكم واستطاعتكم من مقاومة الدعوة، فإنا عاملون ما في استطاعتنا، وانتظروا بنا ما تتمنونه إنا منتظرون بكم الدواهي في الدنيا والعذاب في الآخرة واعلموا أن لله غيب السموات والأرض. وله وحده علم ما غاب مطلقا في سماء أو في أرض أو في غيرهما، وإليه وحده يرجع الأمر كله فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن. وإذا كان الأمر كذلك فاعبده كما أمرت أنت والمؤمنون وتوكل عليه حق التوكل فمن توكل على الله فهو حسبه وكافيه، وما الله بغافل عما تعملون بل سيحاسبكم على كل صغير وكبير.. والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 157 سورة يوسف عليه السلام وهي مكية وعدد آياتها إحدى عشرة آية ومائة، وهي مناسبة لما قبلها إذ الكل في قصص الأنبياء، وتتضمن السورة قصة يوسف على أحسن نظام وأدق تعبير وأروع وصف، وقد برز أثناء سردها تأييد الرسول في قضيته الكبرى حيث لم يكن يعرف شيئا عن يوسف ولفت لأنظار العالم إلى الكون وما فيه من آيات وعبر، وإلى ما في الإنسان من غرائز كحب الولد، والغيرة والحسد بين الأخوة، والمكر والخديعة من بعضهم، ومن امرأة العزيز الثائرة، وما يتبع ذلك من ندم، والإشارة إلى ما في المجتمع المصرى إذ ذاك. كل ذلك بأسلوب قوى وعبارة بليغة وتصوير دقيق. [سورة يوسف (12) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3) المفردات: الْمُبِينِ من أبان إذا أوضح وفصل ما يريد الْقَصَصِ مأخوذة من قص الخبر إذا حدثه على وجهه الصحيح، والأصل قصصت الأثر فتبعته بعناية لأحيط به خبرا، وقد يطلق القصص ويراد به المقصوص من الخبر والأحاديث. افتتاح حار العقل الإنسانى في فهمها وهي كسابقتها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 158 المعنى: تلك آيات هذه السورة هي آيات الكتاب المبين الظاهر الذي أوضح المعنى وبين المقصود من القصة بأجلى بيان، ولعله وصفه هنا بالبيان لهذا، وفي سورة يونس لما تعرضت لبيان التوحيد والبعث والجزاء ورسالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وللتحدى بالقرآن إلى آخر ما مضى ناسب بدؤها بقوله: تلك آيات الكتاب الحكيم والله أعلم بكلامه. إنا أنزلنا هذا الكتاب حالة كونه يقرأ بلغتكم يا معشر العرب ويبين لكم كل شيء، ويجمع لكم كل خبر بلسان عربي مبين ظاهر، يعلمكم ما لم تكونوا تعلمون من قصص وأخبار، وحكم وحكمة، وسياسة واجتماع، ودين ودولة كل هذا بلغتكم رجاء أن تقفوا على تلك المعاني، وهذه الأغراض التي تخرج فردا مسلما وأسرة مسلمة ومجتمعا نظيفا مسلما وحكومة إسلامية قوية. نحن نقص عليك أيها الرسول أحسن القصص والحديث بيانا وأسلوبا وإحاطة وكمالا من كل ناحية، وأحسن ما يقص ويتحدث عنه في الموضوع والغاية، فالقرآن كامل في قصصه شكلا وموضوعا، نحن نقصه بإيحائنا إليك هذه السورة من القرآن إذ جاءت فيها قصة يوسف كاملة تامة مفصلة مع اشتمالها على ما يوضح العقيدة ويثبتها ويبين أثرها في حياة الفرد والجماعة. وإن كنت يا محمد من قبل هذا لمن الغافلين شأنك شأن قومك لا يعرفون من أخبار الماضين وغيرهم شيئا. يوسف في دور الطفولة مع أبيه وقد رأى الرؤيا [سورة يوسف (12) : الآيات 4 الى 6] إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 159 المفردات: يَجْتَبِيكَ الاجتباء من اجتبيت الشيء إذا خلصته لنفسك والجبابة: جمع الشيء النافع كالماء، والمال للسلطان تَأْوِيلِ الأخبار بما تؤول إليه الرؤيا في الوجود. يعقوب- إسرائيل- بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم الصلاة والسلام-، كان له أولاد اثنا عشر من أربع نساء. وكان من بينهم يوسف وأخوه بنيامين من امرأته راحيل بنت خاله لابان، وكان يوسف جميل المنظر تبدو عليه مخايل الشرف والكرامة والخلق والنبل وتلوح عليه أمارات النبوة والرسالة، ولذا كان مقربا لدى أبيه، أثيرا عنده خصوصا بعد الرؤيا التي كانت سببا في محنته والتي هي خير وبركة في النهاية عليه وعلى شعب مصر. المعنى: اذكر أيها الرسول إذ قال يوسف لأبيه، وهذا شروع في بيان أحسن القصص. قال يوسف لأبيه: يا أبتي إنى رأيت في منامي أحد عشر كوكبا. والشمس والقمر رأيتهم جميعا لي ساجدين سجود انحناء وخضوع وانظر إلى قوله: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ، وهذه عبارة تقال في سجود العقلاء المكلفين! ولذا فهم أبوه أنها رؤيا إلهام ليست أضغاث أحلام. فهم يعقوب من هذه الرؤيا أنه سيكون ليوسف شأن عظيم وسيسود قومه حتى أباه وأمه وإخوته، وخاف أن يسمع إخوته بها فيحسدوه ويكيدوا له كيدا فنهاه عن أن يقص رؤياه على إخوته: يا بنى العزيز لا تقص رؤياك على إخوتك فإنى أخاف إن قصصتها يحسدوك فيكيدوا لك كيدا، ويدبروا لك أمرا ولا تعجب يا بنى من ذلك فإن الشيطان للإنسان عدو مبين، لا تفوته فرصة من دواعي النفس الأمارة بالسوء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 160 كالحسد والأنانية حتى يوسوس لصاحبها ويوقعه في الشر، وقد كان الشيطان مع إخوة يوسف على أتم استعداد إذ زين لهم ما عملوه لأخيهم. قال يعقوب: ومثل ذلك الشأن الرفيع والمكانة العالية التي تشير إليها رؤياك يجتبيك ربك لنفسه، ويصطفيك على آلك فتكون من المخلصين، ويعلمك من تأويل الرؤيا، وتعبيرها صادقا، ويتم نعمته عليك بالنبوة والرسالة، والملك والرياسة، ويتمها بسببك على آل يعقوب حيث تكون حلقة النبوة وسلسلة الرسالة فيك كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم جد أبيه، وإسحاق جده والعرب تسمى الجد أبا «أنا ابن عبد المطلب» ألست معى في أن يعقوب فهم من رؤيا يوسف فهما دقيقا نتج عنه أن حذره من إخوته، وبشر بتلك البشارات. إن ربك عليم بخلقه، يجعل رسالته عند من فيه استعداد لتحمل أعبائها، حكيم في كل أفعاله. الرؤيا والحلم ما يراه النائم في نومه، وقد تكون من استشراف الروح وصفائها فهي ترمز لذلك برموز يعرفها بعض الناس الذين يدرسون تفسير الرؤيا وتعبير الأحلام، وهي تعبر غالبا عما تتطلبه النفس وما تميل إليه، وللعقل الباطن فيها أثر فعال ولعلماء الغرب تفسيرات وأبحاث يحسن الوقوف عليها. وقد تنشأ الأحلام من تخمة في الأكل وضغط على القلب فيرى النائم المزعجات والأحلام المختلطة التي لا ترمز إلى شيء وهذه هي أضغاث الأحلام. والرؤيا الصالحة جزء من النبوة، ونوع من الإخبار بالغيب إن جاز هذا التعبير. يوسف وإخوته وما كان منهم [سورة يوسف (12) : الآيات 7 الى 18] لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10) قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (15) وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَلَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 161 المفردات: عُصْبَةٌ هي الجماعة من الرجال ما بين الواحد إلى العشرة. غَداً الغد اليوم الذي يلي يومك الذي أنت فيه لَيَحْزُنُنِي الحزن: ألم في النفس لفقد محبوب أو وقوع مكروه، والخوف: ألم في النفس مما يتوقع من مكروه يَرْتَعْ يقال رتع البعير والإنسان إذا أكلا كيف شاءا والرتوع أكل ما يطيب لهم من الفاكهة والبقول أصل الرتعة الخصب والسعة نَسْتَبِقُ يتكلف كل منا أن يسبق غيره. هذا بدء القصة الحقيقي. والذي تقدم مقدمتان لها: (أ) في الكلام على هذا الكتاب الذي هي فيه وأنه نزل باللسان العربي المبين. (ب) وفي الكلام على رؤيا يوسف، وما كان لها من الأثر في نفس أبيه وما فهمه يعقوب من تأويلها، وسيتلو القصة خاتمة في العبرة منها وما يتعلق بذلك، وهذا ترتيب غريب لم يسبق القرآن بمثله أبدا- وإن كنت في شك فاقرأ القصة في التوراة- ولقد استخدمه أصحاب القصص المحدثون. روى أن اليهود سألوا النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو في مكة أو أرسلوا له من يسأله عن نبي كان بالشام أخرج ابنه إلى مصر فبكى عليه حتى عمى فأنزل الله عليه سورة يوسف محكمة كما في التوراة وكانت هنا أدق وأحكم. المعنى: تالله لقد كان في قصة يوسف مع إخوته لأبيه آيات ودلائل على قدرة الله، وحكم ومواعظ للسائلين عنها الراغبين في معرفة حقائقها، وما تشير إليه وهم الذين يعقلون الآيات ويستفيدون منها إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ فهذه القصة بظواهرها الغريبة تشير إلى معان دقيقة، إذ حسد إخوته له نتج عنه رميه في الجب وأخذ السيارة له وبيعه في مصر لعزيزها، وقد قلده أمر بيته لأمانته وصدقه فنشأ عن ذلك مراودة امرأته له عن نفسه فاستعصم. ونشأ عن ذلك ظهور أمره، ومعرفة خبره، ولو لم تبالغ في كيدها ليوسف لما ألقى في السجن الذي خرج منه إلى بيت الملك وإدارة الحكم في مصر إلى آخر ما سيأتى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 163 نعم لقد كان في هذا كله عبر ومواعظ وأسرار لا يفهمها إلا السائلون عنها، هذه آيات ودلائل على أن من يرعاه ربه فلن يشقى أبدا، ومن يهديه فلن يضل أبدا. انظر لهم في وقت قالوا فيه جازمين مقسمين: ليوسف وأخيه بنيامين أحب إلى أبينا منا، يفضلهما علينا جميعا، ونحن له عصبة قوية تقوم له بكل ما يحتاج إليه من أسباب الرزق والحماية والرعاية والكفاية. إن أبانا إذ أحب يوسف وشقيقه لقد ضل طريق العدل والصواب وضل ضلالا مبينا حيث يحب الولد حبا أكثر لحب أمه، والمراد ضلاله في الحب لا في العقيدة وهذا حكم منهم على أبيهم جائز إذ حب يوسف وأخيه لضعفهما وصغرهما في السن ولموت أمهما، ولما كان يأمله في يوسف من عقل وحكمة، وما فهمه من رؤياه. ولما استبد بهم الحسد وغلب على عقلهم قالوا بعد التشاور: اقتلوا يوسف حتى لا يلقاه أبوه أبدا أو اطرحوه في أرض بعيدة عنا حتى ينقطع خبره عن أبيه، إن فعلتم ذلك يخل لكم وجه أبيكم وهذا تعبير دقيق يراد به يكمن لكم كل وجهه وإقباله، لا يشارككم فيه أحد. وتكونوا من بعده قوما صالحين، بهذا زين لهم الشيطان أعمالهم، ومناهم بأنهم إذا ارتكبوا هذا الجرم يتوبون عنه ويصيرون صالحين عند أبيهم وعند ربهم فاحذروا أيها الناس ألاعيب الشيطان. قال قائل منهم- الله أعلم باسمه ولا حاجة لنا في معرفته- قال: لا تقتلوا يوسف فهو أخوكم، ولكن إذا أردتم التخلص منه حقا فألقوه في غيابات البئر (وهي ما يغيب عن النظر من قعره أو حفرة بجانبه) يلتقطه بعض السيارة (وهم المسافرون الذين يسيرون في الأرض للتجارة) فيتم لكم غرضكم وهو إبعاده عن أبيه حتى يخلو لكم وجهه إن كنتم فاعلين الصواب فهذا هو الصواب. عبارة القرآن الكريم تؤيد أن يوسف- عليه السلام- كان يتمتع بقسط وافر من محبة أبيه، وكان أبوه يفهم أن هذا يغضب إخوته خصوصا بعد الرؤيا فما كان يستريح إذا غاب يوسف عنه لحظة ولو مع إخوته، وكانوا يفهمون حرص أبيهم على يوسف. قال إخوة يوسف، وقد رأوا ما رأوا: يا أبانا مالك لا تأمنا عليه؟ وأى شيء عرض لك من الشبهة حتى لا تأمنا على يوسف «يكاد المريب أن يقول خذوني» والحال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 164 إنا له لناصحون ومخلصون إخلاصا أكيدا مؤكدا، وانظر إلى عبارتهم المؤكدة بأن واسمية الجملة، وتقديم له، واقتران الخبر باللام. كل ذلك يؤيد ما قلناه من أنهم يشعرون بما في نفس أبيهم بالنسبة لهم وليوسف، يا أبت أرسله معنا في الغد يرتع كما يشاء ويطيب له من أكل الفاكهة والبقول في الهواء الطلق ويلعب معنا في وقت سرور ونشاط، ولا تخف إنا له لحافظون حفظا مؤكدا كما ترى من عبارتهم. ماذا يفعل الأب؟ إنه لموقف حرج جدا، طلب أبناؤه مرافقة أخيهم لهم في الرعي والنزهة. إنه لطلب جميل، ولكن ماذا يفعل يعقوب؟ وهو يعلم ما عندهم بالنسبة لأخيهم، وما يعلمه بالإجمال من رعاية الله للصغير يوسف، قبل طلبهم على مضض ومع إظهار الكثير من الألم لفراق يوسف. قال: إنى ليحزنني ذهابكم به وفراقه لي على أى صورة!! وأخاف أن يعتدى عليه بعض أفراد الذئب وأنتم عنه غافلون. ماذا يجيبون على أبيهم وتخوفه من الذئب؟ أيقولون له لا تحزن؟ وإنما طمأنوه من ناحية الذئب، قالوا تالله لئن أكله الذئب وهو معنا، جماعة قوية وعصبة فتية، إنا إذن لخاسرون وخائبون في ادعائنا أننا عصبة قوية ولا يصح الاعتماد علينا في شيء. تلك هي المؤامرة التي دبرت ليوسف، وبقي تنفيذها. فلما ذهبوا به من عند أبيهم، وأمكنهم إقناعه واقتنع هو في الظاهر فقط ولأمر ما سلم في فلذة كبده يوسف، وأجمعوا أمرهم في أن يجعلوه في غيابة الجب المعروف عندهم ليذهب حيث شاء فيستريحوا ويخلو لهم وجه أبيهم نفذوا ما أجمعوا عليه وألقوه في الجب. ولكن الله العالم البصير الرحمن الرحيم، لا يترك مظلوما يتخبط بل هو معه وناصره وحافظه ومطمئنه، أوحى إلى يوسف: لا تخف فالله معك، وسيظهرك عليهم، ويذلهم لك ويحقق رؤياك، ويسجد لك سجود خضوع إخوتك الأحد عشر وأبوك وأمك (قيل هي أمه أو خالته وأمه ماتت) وربك القوى لتنبئنهم بأمرهم هذا وهم لهول الموقف لا يشعرون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 165 هذا حالهم مع يوسف، وأما مع أبيهم فجاءوا أباهم في وقت العشاء وانتشار الظلام في الأفق يبكون ويولولون، ما أجهلك يا ابن آدم، وما أحمقك!! أليس الله عالم الغيب والشهادة؟! ألم تعلموا يا إخوة يوسف أن الله لطيف خبير! مالكم لم ترحموا أباكم وهو شيخ كبير؟!! ومالكم تتخطون حدود العقل والحكمة، وتقتلون معاني الأخوة والمحبة؟ إن هذا لشيء عجيب!! اعتذروا بغير العذر، واستخفوا من أبيهم، والله معهم، وقالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق في الرمي والجري، وتركنا أخانا يحرس متاعنا فأكله الذئب، وهم يعرفون ما عند أبيهم بالنسبة لهم فصرخوا وقالوا: ما أنت بمصدق لنا أبدا في كل حال، ولو كنا صادقين. وجاءوا على قميصه بدم ليس من دمه ليشهد كذبا وزورا أنه دمه والله يعلم أن الذئب برىء من دم ابن يعقوب. روى أن يعقوب قال استهزاء: ما أحلمك يا ذئب تأكل ابني ولا تشق قميصه!! قال هذا استهزاء بهم. وقال ملوّحا بكذبهم: بل سوّلت لكم أنفسكم أمرا إدا، وفعلتم فعلا نكرا وأما أنا فأمرى صبر جميل لا يأس فيه ولا قنوط من رحمته والله معى وهو المستعان وحده على ما تصفون، هذه قصة يوسف مع إخوته مصدرها القرآن فقط، وهذا ما نطمئن إليه دائما. أما الأخبار والأقوال والإسرائيليات وقول التوراة فهذا شيء آخر لا نلتفت إليه. يوسف مع السيارة [سورة يوسف (12) : الآيات 19 الى 20] وَجاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 166 المفردات: سَيَّارَةٌ هم الجمع المسافرون كالجوالة والكشافة وارِدَهُمْ هو الرائد الذي يبحث عن الماء فَأَدْلى دَلْوَهُ فأرسل دلوه- إناء يستقى به من البئر وَأَسَرُّوهُ أخفوه شَرَوْهُ باعوه بثمن قليل. المعنى: وجاء هذا المكان جماعة مسافرون روى أنهم من العرب الإسماعيليين فأرسلوا رائدهم يبحث عن الماء ويأتيهم به فأرسل دلوه في البئر فتعلق به يوسف حتى خرج، قال: يا بشرى احضرى فهذا أوانك هذا غلام وسيم الطلعة، صبوح الوجه فاستبشروا به وسروا. وأخفوه عن أعين الناس حتى لا يعلم به أحد لأجل أن يكون بضاعة لهم يتاجرون فيه ويبيعونه لأهل مصر والله- سبحانه- لا يغيب عنه شيء، عليم بما يفعل هؤلاء وهؤلاء، وباعته السيارة بثمن قليل دراهم معدودة لم تصل إلى حد الوزن وكانوا فيه من الزاهدين الراغبين عنه الذين يبتغون الخلاص منه. يوسف في مصر [سورة يوسف (12) : الآيات 21 الى 22] وَقالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَاللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 167 المفردات: مَثْواهُ مقامه عندنا مأخوذ من ثوى بالمكان أقام به أَشُدَّهُ رشده وكماله. المعنى: وقال الذي اشتراه من مصر، لم يذكر القرآن اسمه ولا صنعته ولا مسكنه لأن القرآن ليس كتاب تاريخ أو قصص يعنى بهذه الأشياء، بل قصصه لمعنى أعلى وأسمى ولا يهتم بمثل هذا، وقد ذكرت روايات في اسمه ووظيفته كثيرة، والظاهر أنه كان رئيس شرطة وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ. قال أكرمى مقام هذا الغلام، فلا يكن في منزلة العبيد والأرقاء، بل عامليه كفرد منا فإنى ألمح فيه النبل والخلق، وأرى أنه سيكون له شأن: أكرميه رجاء أن ينفعنا في أعمالنا الخاصة أو العامة أو نتخذه ولدا لنا تقر به أعيننا ونرثه ويرثنا. يا سبحان الله!! أهكذا يكون يوسف الذي ألقى في الجب! وقد وقع في قلب سيده هذا الموقع ولا غرابة فالله حارسه وهاديه، وحافظه وراعيه ومثل ذلك التدبير والعناية بيوسف مكناه في أرض مصر، وكان هذا العطف من عزيزها فاتحة الخير وإن اعترض سبيله بعض المشاق فتلك حكم الله يعلمها، وكما قيل: الحوادث تخلق الرجال.. مثل ذلك مكناه في الأرض، ولنعلمه من تأويل الأحاديث، وتعبير الرؤيا وهكذا إعداد الأنبياء. والله غالب على أمره، ومنفذ ما أراده لا راد لقضائه، فكل ما وقع ليوسف من إلقائه في الجب ومن استرقاقه وبيعه وتوصية سيده لامرأته بخصوصه وتعليمه الرؤيا وغير ذلك خطوات لإعداد يوسف للمحل الذي ينتظره، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك. ولما بلغ أشده؟ وكمل رشده، واستوى عقله وبدنه آتيناه حكما إلهاميا فيما يعرض له من المشاكل والنوازل، وسن الرشد هل هي ثلاثون أو أربعون؟ مثل ذلك نجزى المحسنين العاملين خصوصا الأنبياء والمرسلين وقائدهم وخاتمهم محمد صلّى الله عليه وسلم.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 168 يوسف مع امرأة العزيز وكيف كانت محنته؟ ودفاعه، وحكم زوجها [سورة يوسف (12) : الآيات 23 الى 29] وَراوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَقالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25) قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَإِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29) المفردات: وَراوَدَتْهُ طلبت منه أن يواقعها طلبا بلين ورفق كالمخادعة، يقال: راود الرجل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 169 المرأة عن نفسها، وراودته عن نفسه، والمراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد وعليه قوله: سنراود عنه أباه أى: نحتال عليه ونخدعه عن إرادته ليرسل أخانا معنا، والمراد في الآيات تحايلت لمواقعته إياها ولم تجد منه قبولا غَلَّقَتِ أحكمت إغلاق الأبواب كلها هَيْتَ لَكَ هلم أقبل وبادر لما أقوله لك بُرْهانَ المراد تذكر الله- سبحانه وتعالى-، وما بيّنه من تحريم الزنى والخيانة ومراقبة الله- سبحانه- في كل عمله، وهي مرتبة الإحسان في العمل كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك الْمُخْلَصِينَ الذين أخلصهم ربهم وصفاهم من الشوائب مِنْ قُبُلٍ من قدام مِنْ دُبُرٍ من خلف. المعنى: هكذا كانت محنة يوسف في طيها منة عليه، ورب محنة ولكن في طيها منن.. دخل دار العزيز وأراد سيده أن يكون رئيسا للخدم وأن يحسن معاملته أو أن يتخذه ولدا وأمر امرأته بتنفيذ ذلك. وأراد الله- سبحانه- فوق ذلك كله أشياء والله بالغ أمره، وأرادت امرأة العزيز غير ذلك، أرادت أن يكون يوسف عشيقا لها، وراودته عن نفسه، وطلبت منه ذلك بالحيلة والمكر لتصرفه عن رأيه، راودته عن نفسه لأجل أن يريد منها ما تريد هي منه مخالفا لإرادته هو وإرادة ربه، وأعدت العدة لذلك وغلقت باب مخدعها وأبواب البهو المحيط به لتأمن الطارق والزائر وقالت ليوسف: هلم أقبل ونفذ ما أريده منك!! قال يوسف: أعوذ بالله وحده أن أكون من الجاهلين! يا هذه إن زوجك سيدي وقد أحسن مثواي وأكرم وفادتي واستأمنني على نفسه وبيته فكيف أخونه؟!! يا هذه إنه لا يفلح الظالمون أبدا الذين يظلمون أنفسهم بارتكاب المعاصي ومخالفة القانون الإلهى.. ترى يوسف- عليه السلام- أجابها معتزا بالإيمان بالله وبالأمانة لسيده وأنه لا يفلح الظالمون والخائنون، لقد ردها يوسف ردا عنيفا وصادمها في عواطفها في وقت هي فيه ثائرة ثورة جنسية عاصفة وهي سيدته وهو خادمها إنه شيء يخرج الشخص عن صوابه. وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ. وللعلماء في هذا الموضوع آراء واتجاهات كثيرة يجمل بنا أن نذكر الأقرب إلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 170 الصواب الملتئم مع النسق العام للقرآن في نظرنا والله أعلم بمراده قال بعضهم: لقد همت به ليفعل بها، ولولا أن رأى برهان ربه وتذكر جلاله وأمره ومراقبته لهمّ بها وفعل.. ترى أنه لم يهم بها قط لأن رؤيته برهان ربه قد سبق الهم ومنعه. وقال البعض: إن أساليب اللغة قد تمنع مثل هذا الفهم في الآية (إذ جواب لولا لا بد أن يؤخر عنها) ولنا أن نجيب عن هذا بأن الجواب مقدر بقوله: لفعل ولفظ هم المتقدمة دليل الجواب. لا الجواب.. وبعضهم قال: إنما الرأي أن هذه الحادثة وقعت ليوسف قبل النبوة والرسالة على أن الهم الذي حصل إنما هو بمقتضى الطبيعة والفطرة الإنسانية البشرية ويوسف وقتئذ شاب يافع قوى فتى على أنه هم ولم يفعل إذ ما أن هم بمقتضى الطبيعة حتى تذكر ربه فكف نفسه بعد أن أثارتها الطبيعة، والعيب أن يرتكب الإنسان الخطيئة لا أن يهم بها فيمنعه دينه ولذا يقولون: إنه هم وما ألم، ومن هم بسيئة فلم يفعلها كتبها الله له عنده حسنة كاملة. وخلاصة الرأيين، أن الكل متفق على أن يوسف لم يفعل سيئة قط وإنما الرأى الأول يقول إنه ما أهم لرؤية برهان ربه فرؤية البرهان منعت الهم والرأى الثاني أنه هم بدواعى الطبيعة ثم جاء الكف والمنع من وقوع المعصية برؤية البرهان وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [سورة الإسراء آية 74] . وللمفسرين أقوال وأحاديث وروايات منقولة عن الإسرائيليين وغيرهم كثيرة وتتنافى مع مقام النبوة وشرف الرسالة أردنا أن نعرض عنها حتى تموت في بطون أصحابها. مثل ذلك فعلنا وتصرفنا مع يوسف لأنا نعده لتحمل أعباء الرسالة في المستقبل ولنصرف عنه السوء يا سبحان الله لم يقل القرآن لنصرفه عن السوء إذ فرق العبارتين كبير!! ولنصرف عنه الفحشاء، إنه من عبادنا المصطفين الأخيار الذين اختارهم ربهم وأخلصهم من شوائب المعاصي وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ. إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ. وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ [سورة ص 45- 47] . وللشيخ رشيد رضا- رحمه الله- وأجزل ثوابه رأى في هذه الآية خلاصته: ولقد همت بإيذائه وضربه بعد عصيانه أمرها وطلبها بلطف ولين وهذا شأن المرأة همت بضربه والبطش به لعصيانه أمرها وإفساده حيلها وهم هو برد الاعتداء وبمقابلته بالمثل لولا أن رأى برهان ربه، واستبقا الباب كل يريد أن يصل إليه فطلبه يوسف ليفر منها وطلبته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 171 لتمنعه من الفرار، ونشأ عن ذلك أن قدت قميصه من الخلف ووجدا سيدها وزوجها لدى الباب، وروى أنه كان معه قريب لها، وهنا يظهر لؤم الطبع وفساد النية وصحة قولهم: ضربني وبكى وسبقني واشتكى، قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا؟ ولم تعينه لأمر في نفسها ما جزاؤه إلا أن يسجن لتقتص من رجل أهان كبرياءها ومنعها من تنفيذ مؤامرتها الدنيئة لتريه أن في يدها إعزازه وإهانته، وما علمت أن ذلك كله سلسلة محكمة الأطراف وطريق موصل إلى غاية الله يعلمها، ويعد يوسف لها إلا أن يسجن أو يعذب عذابا مؤلما موجعا. ولكن يوسف إزاء هذا لم ير بدا من إخبار زوجها وسيده بما حصل غير عابئ بما سيكون ما دام يرضى ربه ولم يخالفه. وقال يوسف هي راودتني عن نفسي وسلكت في ذلك كل الطرق الممكنة وغير الممكنة واحتالت بأساليب الخداع والمكر ما شاء الله لها. وشهد شاهد من أهلها في هذه القضية التي تحير قاضيها.. امرأته وزوجه تدعى دعوى، وغلامه وفتاه يناقضها، وهي دعوى تتعلق بالشرف والعرض شهد فيها شاهد قريب لها كان مع زوجها قائلا: إن كان قميص يوسف قد قدّ من قبل تكون صادقة في دعواها أنه أراد بها سوءا، فإنه لما وثب عليها ودفعته مزق القميص من قدام، وإن كان قميصه قد من الخلف تكون كاذبة في دعواها بالهجوم عليها، وهو من الصادقين في قوله أنها راودته وهو فر منها، فلما رأى سيده أن قميصه قد من دبر قال حاكما بهذا الحكم الذي يدل على ضعف الرجولة وذهاب الشهامة. إنه من كيدكن أيها النساء إن كيدكن عظيم، فمحاولة التخلص بالاتهام من كيدك أيتها المرأة. يا يوسف أعرض عن هذا الخبر لا تخبر أحدا أبدا وأنت استغفري ربك لذنبك، وتوبي من عملك إنك كنت من الخاطئين المذنبين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 172 شيوع الخبر في المدينة وما ترتب على ذلك [سورة يوسف (12) : الآيات 30 الى 35] وَقالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَقالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) المفردات: شَغَفَها حُبًّا اخترق حبه شغاف قلبها وصل إلى سويدائه والشغاف: غطاء القلب، وَأَعْتَدَتْ هيأت لهن مُتَّكَأً مكانا يجلسن فيه متكئين مستريحين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 173 حاشَ لِلَّهِ كلمة تفيد معنى التنزه والبراءة فَاسْتَعْصَمَ فامتنع امتناعا بليغا من العصمة وهي المنع من الوقوع في المعصية الصَّاغِرِينَ المهانين أَصْبُ إِلَيْهِنَّ أمل إليهن ثُمَّ بَدا لَهُمْ أى: ظهر لهم رأى جديد. المعنى: شاع في المدينة نبأ امرأة العزيز مع فتاها. وقد أصبح حديث المجالس خصوصا في مجالس كبار المدينة: فاجتمع عدد من النساء واتفقن على تدبير أمر يكون من ورائه اجتماعهن بيوسف هذا. وقال عدد من نساء المدينة قليل يمكن اجتماعه على رأى، وتدبيره لأمر، امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه، وهذا كلام يفيد التعجب والإنكار من فعلها لأنها امرأة رجل كبير هو الوزير الأول وقد راودت هي بنفسها وطلبت، والمألوف أن المرأة تتمنع ويطلب منها ما لا تطلب هي، أليس من الغريب الذي يدعو إلى العجب أن تطلب امرأة من فتاها وخادمها، وتدوس كبريائها، والعجب العاجب أن تظل كما هي بعد أن افتضح أمرها وعلم به زوجها وعاملها معاملة فيها كثير من التنازل. كل هذا تفيده العبارة القرآنية: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه: قد شغفها حبا، وأشرب قلبها حبه حتى ملك أمرها، واستبد بقلبها وعقلها وأضحت كالولهان، قالت النسوة: إنا لنراها في ضلال بيّن وجهل ظاهر يتنافى مع مكانتها وحالها. فلما سمعت بمكرهن، ووصل إليها خبرهن، أرادت أن تمكر بهن مكرا يوقعهن في الشرك، ويجعلهن في صفها، وكان من أمرها أن أرسلت إليهن وأعدت لهن مكانا مهيئا فيه الأرائك مصفوفة، وجلسن متكئات عليها متقابلات وأعطت كل واحدة منهن سكينا تستعين به على قطع الطعام، وبينما هن في تناول الأطعمة، وكلّ تمسك بسكينها الحادة قالت: اخرج يا يوسف عليهن ويظهر أنه كان داخل حجرة متصلة بقاعة الطعام فلما رأينه أعظمنه ودهشن لذلك الجمال السحرى الفاتن وغبن عن شعورهن، وقطعن أيديهن. والمعنى كما تقول: كنت أقطع اللحم فقطعت يدي، والمراد جرحتها، وقلن حاشا لله والمعنى تنزيها لله- تعالى- عن صفات العجز، والتعجب من قدرته على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 174 خلق مثل هذا.. ما هذا بشرا إذ لم يعهد مثل هذا في البشر ما هو إلا ملك كريم من الملائكة تمثل في صورة بشر. قالت وقد وصلت إلى ما تريد من إيقاعهن في شبكة جماله: إذا كان الأمر ما رأيتن بأعينكن، وما أكبرتن في أنفسكن، وما حصل منكن عند ما رأيتنه، وقد قلتم ما قلتم فذلكن الذي لمتنني فيه وكان الظاهر أن تقول: فهذا الذي لمتنني فيه ولكنها تريد فذلك يوسف البعيد في الكمال والجمال، بل هو أكبر من كل ذلك هو ملك روحانى في صورة بشر إنسانى. وإذا كان هذا أمركن معه في لحظة فماذا أفعل وهو معى ليلا ونهارا؟ ولقد راودته عن نفسه فاستعصم وامتنع امتناعا بليغا مؤكدا، واستمسك بعروة عصمته التي ورثها عن أسلافه. وتالله لئن لم يفعل ما آمره به ليسجنن وليكونا من الصاغرين، يا عجبا أبعد هذا كله تظل المرأة على حالها وتلح بطلب الوصال بيوسف!! لم تكتف بالإشارة مع يوسف حتى صرحت له وطلبت علنا وقالت (هيت لك) ، ولم تقنع بالطلب بينها وبينه حتى عادت فطلبت علانية بحضور النسوة أترابها إن هذا لعجيب!! قال يوسف: يا رب. السجن أحب إلى مما يدعونني جميعا إليه فتلك بيئة ملوثة لا أحب المكث فيها أبدا، وإن لي في السجن لراحة بال وهدوء نفس، وهكذا لا يستريح الطيب في البيئة الفاسدة، وهذه إشارة إلى أثر البيئة، وإلا تصرف عنى يا رب كيدهن أصب إليهن وأمل، وأكن من عداد الجاهلين الذين يعملون السوء بجهالة، فاستجاب له ربه وصرف عنه كيدهن، وعصمه إنه هو السميع المجيب لدعاء المظلومين، عليم بصدق الإيمان وكمال الإخلاص. ولكن ماذا يفعل العزيز وقد شاع الخبر أولا وأخيرا؟ لا بد أن يلجأ إلى أمر شاذ فاستشار وأشير عليه أن يزج يوسف في السجن حتى يرى كأنه المعتدى وامرأته شريفة هذا عند العامة، أما الخاصة فتعرف كل شيء وقد سهل الله هذا لأن السجن فيه مصلحة ليوسف. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 175 ثم ظهر لهم رأى جديد بعد طول فكر ونظر بعد ظهور الآيات الدالة على صدق يوسف وكذب امرأة العزيز. ليسجننه إلى أجل غير معلوم وليكونن من المهانين الصاغرين، وهكذا فتنة الأنبياء وصبرهم على المكارة. يوسف في السجن [سورة يوسف (12) : الآيات 36 الى 40] وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 176 المفردات: خَمْراً المراد: عنبا يكون خمرا بِتَأْوِيلِهِ بتفسيره الذي يؤول إليه في الخارج. المعنى: بدا لهم أن المصلحة في سجن يوسف فسجنوه، ودخل معه فتيان مملو كان للملك: أما أحدهما فخازن طعامه والآخر ساقيه وليس الأمر من باب المصادفة ولكنه تقدير العزيز العليم، وماذا كان من شأنهما؟ قال أحدهما: يا يوسف إنى أرانى أعصر عنبا ويكون في المستقبل خمرا رأيت هذا في منامي رؤية واضحة كأنى رأيتها في اليقظة. وقال الآخر: إنى أرانى أحمل فوق رأسى خبزا تأكل الطير منه، قال كل منهما: يا يوسف نبئني بتأويل رؤياي وأخبرنى بتفسير حلمي الذي يؤول إليه في الخارج نبئنا بتأويله، ثم عللوا هذا الطلب بقولهم: إنا نراك من المحسنين الذين يعملون الإحسان بمقتضى الغريزة والفطرة لا بسبب آخر. وقيل المعنى: إنا نراك من المحسنين تعبير الرؤيا وتفسيرها. وانتهز يوسف هذه الفرصة، وهي ثقة هذين الشخصين به وبعلمه وبعقله فعمل على أن يبدأ حديثه معهما بدعوتهما إلى دين التوحيد الخالص وترك الأوثان ومن هنا نفهم أن دخول السجن كان لحكمة الله يعلمها، وأن يوسف ينتقل من مكان إلى مكان فيه خير له ولدينه. أخذ يوسف يدعوهما إلى التوحيد بعد أن قدم مقدمة كالمعجزة الدالة على صدقه فقال: اسمعوا. إنه لا يأتيكما طعام ترزقانه من أى مكان إلا ونبأتكما بتأويله وتفسيره من أين أتى؟ ولأى غرض أتى، وفي أى وقت سيأتى؟ كل ذلك قبل أن يأتيكما، وذلك بعض ما علمني ربي بوحيه لا بشيء آخر كالكهانة والسحر ومن هنا يعلم أن يوسف أوحى إليه وهو في السجن ليدعو الضعفاء والفقراء والمظلومين فهم أقرب إلى التصديق من غيرهم. وسبق أن قلنا إنه ألهم بما يطمئنه على نفسه ومستقبله وهو في البئر كل ذلك ليعلم أن الله يرعاه، والسبب في ذلك: أنى تركت شريعة قوم لا يؤمنون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 177 بالله خالق السموات والأرض وما بينهما وتركتها أى لم أدخل فيها مطلقا، وهم بالآخرة كافرون لا يؤمنون بالثواب والعقاب كما ينبغي، واتبعت ملة آبائي إبراهيم وإسحاق ويعقوب، فالجد أب كذلك، ما كان ينبغي أن نشرك بالله شيئا نتخذه ربا معبودا وهو لا ينفع ولا يضر، سواء كان المعبود من الملائكة أو البشر أو الحيوان كعجل أبيس أو الجماد كالشمس والقمر، وهذا فضل الله علينا حيث هدانا إلى الخير وعلى الناس حيث أرسلنا إليهم نهديهم وندعوهم إلى الخير. ولكن أكثر الناس لا يقومون بواجب الشكر لله- سبحانه وتعالى-. وانظر إلى هذا الذي في القرآن حيث ينزه شجرة النبوة الطيبة عن عبادة الشرك والتوراة تنسب إلى بعض أولاد إسحاق الشرك. يا صاحباي في السجن قروا واعترفوا بالله الواحد القهار. يا صاحباي أرباب متفرقون في ذواتهم وصفاتهم التي تدعو إلى النزاع والتصادم والفساد. أهؤلاء خير أم الله الواحد الأحد الفرد الصمد القهار بقدرته وإرادته؟! سبحانه وتعالى لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [سورة الأنبياء آية 22] . ما تعبدون من دون الله الواحد إلا أسماء وضعتموها لمسميات لا تستحق الربوبية فاتخذتموها أربابا من دون الله، وهي أشياء لا ترزق ولا تحيى ولا تميت ولا تنفع وتضر، ما أنزل الله بتسميتها أربابا أى نوع من الحجة والبرهان: لم يأمركم ربكم بذلك على لسان الرسل الكرام، ولم يطلبها عقل راجح حتى يكون برهانا وسلطانا، إن الحكم إلا لله وحده فهو الإله الواجب الوجود الواحد المعبود، أمر ألا تعبدوا إلا إياه، فادعوه واعبدوه وحده دون سواه. ذلك الدين القيم والشرع الكامل والرأى الوسط، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. تأويل يوسف لرؤيا صاحبيه [سورة يوسف (12) : الآيات 41 الى 42] يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَقالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 178 المفردات: تَسْتَفْتِيانِ الاستفتاء طلب الفتوى أى: السؤال عن المشكل المجهول والفتوى جوابه وهذا اللفظ مأخوذ من الفتوة الدالة على معنى القوة والثقة بِضْعَ قيل: هو من ثلاث إلى تسع ويغلب أن يطلق على السبع. المعنى: بعد أن تكلم مع صاحبيه في شأن التوحيد ومقدماته تكلم في تأويل رؤياهما فقال: يا صاحباي أما أحدكما- الذي رأى أنه يعصر عنبا يصير خمرا- فيسقى ربه خمرا وربه مالكه وسيده ولم يقصد ربوبية العبادة فإن ملك مصر أيام يوسف لم يدع الألوهية كفرعون مصر أيام موسى. وأما الثاني- وهو الذي رأى أنه يحمل خبزا تأكل الطير منه فيصلب فتأكل الطير آكلة اللحوم كالحدأة من رأسه، لا تناقشا! قد قدر الله الأمر وسبق الحكم الذي فيه تستفتيان، وهذا خارج عن تأويل الرؤيا ولكنه من باب المكاشفة وصفاء الأرواح، لعله إخبار ووحى ليوسف، وقال للذي ظن أنه ناج منهما- وانظر إلى التعبير بقوله: ظن أى: في الواقع لأنه ربما يغير الملك رأيه الذي قال أو تأتى حوائل تحول بين تحقيق ما قاله يوسف قال له-: اذكرني عند ربك وسيدك الملك، أى: حدثه عن خبري وحالي، ويقصد يوسف أن يطرق الأبواب الظاهرية والأسباب المادية ليخرج من السجن فيتمم فصول روايته. فأنسى الشيطان صاحبه أن يذكر يوسف عند الملك فأنساه الشيطان ذكر إخبار ربه أى: تذكيره بأمر يوسف فترتب على هذا أن يلبث في السجن بضع سنين هل هي ثلاثة أو سبعة أو قل أو أكثر الله أعلم بتحديدها وإن كانت من ثلاث إلى تسع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 179 تأويل يوسف لرؤيا ملك مصر [سورة يوسف (12) : الآيات 43 الى 49] وَقالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَقالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) المفردات: عِجافٌ مهازيل في غاية الضعف تَعْبُرُونَ تفسرون وتؤولون الرؤيا أَضْغاثُ أَحْلامٍ أضغاث جمع ضغث وهو الحزمة من الحطب وَادَّكَرَ أى: تذكر أُمَّةٍ طائفة من الزمن دَأَباً بجد ونشاط تُحْصِنُونَ تدخرون البذر يُغاثُ من الغوث والإغاثة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 180 المعنى: رأى الملك في نومه رؤيا أزعجته فقصها على وزرائه وحاشيته وعلمائه فعجزوا عن تفسيرها وكان عجزهم من دواعي التفكير في يوسف، واتصال الملك به. وقال الملك: إنى أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات عجاف هزيلات، وأرى سبع سنبلات خضر وأخرى سنبلات يابسة مهيأة للقطوف، الخيال والرموز إلى الواقع والحقائق. قالوا: هي أحلام مختلطة، وخيالات غير منتظمة، وهذه أضغاث أحلام لا تأويل لها ولا تفسير، وإنما هي رموز مضطربة تنشأ عن ارتباك في المعدة وكدرة في النفس أحيانا وما نحن بتأويل أمثالها بعالمين. وهكذا إعداد الله لبعض خلقه، وتربيته لهم جعل الكهنة وعلماء المصريين يعجزون عن تأويل الرؤيا فيبحثون، عمن يؤول لهم فلا يجدون إلا يوسف. وقال صاحبه القديم الذي كان في السجن معه واختبره عن كثب وأدرك ما عليه نفسه وما عنده من علوم ومعارف في تأويل الرؤيا، وقد تذكره بعد طول الزمن يا قوم لا تبحثوا فإنى أنبئكم بتأويل هذا الحلم فأرسلون إلى السجن فإن فيه فتى قد خبرته ووقفت منه على أسرار، فأرسلوه ليوسف فقابله وقال له: يوسف أيها الصديق الكريم أفتنا في رؤيا رآها الملك تتلخص في سبع بقرات سمان أكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات، أخبرنى فإنك بتأويل الرؤيا من العالمين. أفتنا في رؤية الملك فإنى أرجو أن يحقق لك الخروج من السجن وانتفاع الملك بحسن رأيك لعلى أرجع إلى الناس أهل الحل والعقد بتأويلك الدقيق وخبرك الوثيق لعلهم يعلمون مكانتك، وما أنت عليه من ذكاء وعقل، وحكمة وإلهام. قال يوسف مؤولا الرؤيا، ومبينا لهم ما يجب عمله لتلافي الخطر الذي تشير له الرؤية بالرمز مع اعتزاره برأيه وأن له صفة الآمر الناصح: تزرعون على معنى ازرعوا سبع سنين قمحا وشعيرا دائبين مجدين بلا انقطاع وإذا فعلتم ذلك فما حصدتموه فاتركوه في سنبله ليكون الحب لكم والتبن لدوابكم وهذه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 181 طريقة علمية دقيقة لحفظ المحصول، اصنعوا هذا في المحصول كله إلا قليلا مما تأكلون فهذا هو تأويل البقرات السبع والسنابل السبع. ثم يأتى بعد ذلك سبع سنين شداد في جدبهن وانقطاع الخير فيهن، يأكلن ما قدمت تلك السنين الأولى من المحصول المدخر والمراد ما في تلك السنين، تأكل الكل إلا قليلا مما تحصنون وتدخرون للبذر، ثم يأتى من بعد هذا كله عام فيه يكون الرخاء على أتم ما يكون وأحبه عام فيه يغاث الناس بكل أنواع الإغاثة من مطر وحسن محصول ومنع للآفات وفي هذا العام تعصرون عصير القصب والفاكهة، وعصير العنب والسمسم والزيتون ... إلخ. وهذا الإخبار الأخير الخاص بهذا العام من قبيل الوحى والإلهام لا جزءا من تأويل الرؤيا. والله أعلم. طلب الملك له وحكمة يوسف [سورة يوسف (12) : الآيات 50 الى 52] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 182 المفردات: بالُ النِّسْوَةِ حالهن وأمرهن الذي يشغل البال خَطْبُكُنَّ أمركن العظيم وخطبكن الجسيم حَصْحَصَ الْحَقُّ ظهر الحق. المعنى: بلغ الملك ما قاله يوسف من تفسير الرؤيا فرأى أنه كلام خطير يدل على رجاحة عقل صاحبه وقوة فطنته وذكائه، وأن من الخير للملك أن يحضر هذا الشخص أمامه ليسمع منه ويرى. وقال الملك: ائتوني به وأحضروه لي لأسمع بنفسي، فلما جاء الرسول ليوسف قال له: كيف أذهب إلى الملك من السجن، وأنا ملوث بتهمة باطلة لا تليق بي وإنى برىء منها براءة الذئب من دمى، ولكن الرأى السديد أن ترجع إلى ربك وسيدك فتسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ ما خبرهن؟ اسأل الملك أن يحقق في ذلك قبل أن أحضر إليه، إن ربي عالم الغيب والشهادة. وهو بكيدهن لي عليم. وهذه حكمة آل ابراهيم- عليه السلام- حكمة يوسف الحكيم الذي يطلب هذا الطلب وهو في السجن؟ وفي هذا الدليل على صبره وأناته، واعتزازه بنفسه ودينه، وعفته وفي طلبه التحقيق ولم يتهم أحدا صراحة، وحفظه للجميل حيث لم يذكر سيدته وهي أصل البلاء. قال الملك للنسوة: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ وهل كانت المراودة له ناشئة عن مغازلة وخضوع منه بالقول لكن؟! وأنطقهن الله بالحق فقلن: حاش لله ما علمنا عليه سوءا يشينه في كبير ولا صغير. وقالت امرأة العزيز، شهادة ليوسف شهادة إثبات: الآن ظهر الحق وبدا الصبح لذي عينين أنا راودته عن نفسه وطلبت منه بكل حيلة وهو لم يراودني أبدا بل استعصم وأعرض عنى وإنه لمن الصادقين في كل ما قاله في شأنى وشأن غيرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 183 ذلك الإقرار بالحق ليعلم يوسف في سجنه أنى لم أخنه بالغيب أى وهو غائب عنى بل صرحت للنسوة أنى راودته عن نفسه فاستعصم وسأسجنه إن أبى، واعلموا أن الله لا يهدى كيد الخائنين أبدا. وقيل المعنى أن يوسف قال: ذلك ليعلم العزيز أنى لم أخنه بالغيب والله أعلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 184 النفس أمّارة بالسوء [سورة يوسف (12) : آية 53] وَما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53) هذا أول الجزء بناء على التقسيم اللفظي العددى، وفي الواقع هذه الآية متصلة بما قبلها إذ هي من كلام امرأة العزيز على معنى: ذاك الإقرار بالحق ليعلم يوسف أنى لم أخنه بالغيب وهو سجين فلم أنل من أمانته أو أطعن في شرفه أو ليعلم زوجي أنى لم أخنه بالغيب في خلوتي بيوسف وأنى لم يحصل منى إلا المراودة فأبى واستعصم، ولئن برأت يوسف فما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء. هذا هو الظاهر من نظم الكلام والسياق، وبعضهم يقول: وما أبرئ نفسي حكاية لكلام يوسف على معنى: ذلك الذي كان منى ليعلم العزيز أنى لم أخنه في زوجه بالغيب، وأن يوسف لا يبرئ نفسه وهذا تواضع منه، والقائلون بهذا القول ممن يثبتون ليوسف هما، وقد مضى الكلام في مسألة الهم. وما أبرئ نفسي، وكأن سائلا سأل وقال: لم؟ أجيب إن النفس لأمارة بالسوء هذا بطبعها فالنفس أرضية ظلمانية لا تدعو إلى الخير، ولا تأمر إلا بسوء، فالحسد والحقد والعجب والكبر والبطر وحب الأذى، وحب المال وكراهية الموت، وقول السوء والغيبة والنميمة وغير ذلك من دواعي الفساد، كل ذلك من عمل النفس ومن دأبها إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ. فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [ص 71 و 72] . ولكن لا نيأس من روح الله ولا نقنط من مغفرته ورحمته إن تبنا وأنبنا إن ربي غفور ستار رحيم كريم يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 185 يوسف وقد تولى زمام الأمر في مصر [سورة يوسف (12) : الآيات 54 الى 57] وَقالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (57) المفردات: أَسْتَخْلِصْهُ المراد أجعله خالصا لنفسي لا يشاركني فيه أحد مَكِينٌ ذو مكانة يَتَبَوَّأُ ينزل من مصر في أى مكان أراده، والمراد أنه صاحب الأمر. انتهى التحقيق الذي طلبه يوسف وهو في السجن بظهور براءته مما نسب إليه، وفهم من هذا أنه كان أمينا على مال العزيز، وعرضه، وظهر لهم أنه ذو كياسة وعقل، وصاحب خبرة، وله إلمام بالتأويل. كل هذا جعل الملك يطلبه ويصطفيه لنفسه، ويسند إليه أسمى الوظائف وأعلاها. المعنى: وقال الملك حينما وقف على أمر يوسف بالتفصيل: ائتوني به أجعله خالصا لي، وموضع ثقتي ومشورتي. فلما حضر يوسف وكلمه الملك، وناقشه ووقف على عقله وحنكته، وأمانته وحسن تصرفه قال له: إنك اليوم عندنا ذو مكانة سامية ومنزلة عالية، وأمانة تامة فأنت من الآن صاحب التصريف بغير منازع في أمر المملكة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 186 وانظر إلى الملك وعقله حينما علم به قال: ائتوني به، وحينما أجرى التحقيق وظهرت براءته وطول صبره وقوة جلده وكمال عقله قال: ائتوني به أستخلصه لنفسي، فلما ناقشه وكلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين. قال يوسف: اجعلنى أيها الملك على خزائن الأرض الخاصة بك أتصرف في الأقوات والزرع حتى أنقذ البلاد من شر المجاعة المقبلة التي رأيت رؤياها بالأمس، ولا تعجب من طلبى هذا إنى حفيظ شديد المحافظة خبير عليم بإدارة السياسة المالية والاقتصادية. وهنا نقف.. كيف رضى يوسف أن يتعاون مع الملك؟ وكيف طلب تعيينه على خزائن الأرض. والجواب عن الأول: أن يوسف قبل العمل مع الملك لأنه رأى فيه العقل وحسن السياسة، وقد جعله صاحب التصرف في الأمر وفي هذا خير ليوسف ولمصر. وأما طلبه أن يكون واليا على خزائن مصر فلثقته بنفسه وعلمه بأن هذا فيه خير للأمة، ومن هنا هل لنا أن نقلد يوسف في عمله هذا؟ ومرجع ذلك ضمير المسلم ودينه فيختار ما فيه خير له ولأمته ولدينه. ومثل ذلك التمكين السابق الذي انتقل يوسف فيه من محنة إلى محنة ومن شدة إلى نعمة فها هو ذا يوسف في الجب نتيجة لحسد إخوته له، ثم تأخذه السيارة وتبيعه بيع الرقيق بدراهم معدودة ليذهب إلى بيت العزيز، ولأمانته ونزاهته جعله العزيز أمينه، ثم كان موقفه مع امرأة العزيز الذي انتهى به إلى السجن، ولولا السجن لما اتصل بخادم الملك فيه الذي رفع اسمه وشهر مكانته حتى عرفه الملك واستخلصه لنفسه. فكما مكنا له ذلك ورعيناه حتى وصل إلى ما وصل إليه مكنا له في أرض مصر حتى أصبح الآمر الناهي، والملك المطاع بعد أن دخلها مملوكا طريدا وعبدا يباع بدراهم قليلة وما ذلك إلا من صبره وجلده وقوة تحمله الشدائد، ومن أمانته وعفته وخلقه ودينه، وحسن بصره وتدبيره للأمور، وارعاء الله له في كل طور من أطوار حياته إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة الحج آية 38] . وها هو ذا يوسف يتبوأ من الأرض وينزل منها حيث شاء، يصيب برحمته من يشاء من خلقه جزاء لصبرهم وعاقبة لفعلهم، ولقد صبر يوسف صبرا كثيرا على إخوته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 187 وعلى كيد امرأة العزيز له، وعلى كيد النسوة. وعلى أذى السجن وما فيه، والله لا يضيع أجر المحسنين الذين أحسنوا العمل بشكرهم النعم بل يجازيهم عليها سعادة وقناعة وعزا ودولة، هذا في الدنيا، وفي الآخرة جزاؤهم فيها خير وأبقى لإيمانهم وتقواهم هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ. وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ من سورة ص. موقف إخوة يوسف معه، ثم مع أبيهم [سورة يوسف (12) : الآيات 58 الى 66] وَجاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَإِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَقالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَنَمِيرُ أَهْلَنا وَنَحْفَظُ أَخانا وَنَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 188 المفردات: جَهَّزَهُمْ يقال: جهزت القوم تجهيزا أى: تكلفت لهم بجهازهم للسفر، وجهاز العروس ما يحتاج إليه عند الزفاف. والمراد به هنا الطعام الذي امتاروه من عنده أُوفِي أتم الْمُنْزِلِينَ المضيفين للضيوف سَنُراوِدُ نطلبه من أبيه برفق ولين ومخادعة بِضاعَتَهُمْ هي المال الذي يستقطع ويستعمل للتجارة رِحالِهِمْ جمع رحل وهو ما يوضع على ظهر الدابة وفوقه المتاع. نَكْتَلْ يقال: في كلت له الطعام إذا أعطيته واكتلت منه إذا أخذته نكتل أى نأخذ مَتاعَهُمْ المتاع: ما ينتفع به والمراد هنا أوعية الطعام بِضاعَتَهُمْ ثمن ما كانوا أعطوه من الطعام وَنَمِيرُ نجلب لهم الميرة وهي الطعام يجلبه الإنسان من بلد إلى بلد كَيْلَ بَعِيرٍ أى: مكيل بعير أى جمله الذي يعطى لصاحبه مَوْثِقاً الموثق العهد الموثق إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ المراد إلا أن تغلبوا على أمركم. المعنى: كان يوسف على خزائن أرض مصر وهو الحفيظ للقوت العليم بأساليب الصرف والإكثار من الزرع، وقد كان الزمن زمن جدب وقحط عم مصر وما جاورها من البلاد كبلاد كنعان (فلسطين) لكن يوسف قد أرسل لمصر لإنقاذها من الجدب. بل وفر من أقواتها ما كان يباع لجيرانها. ولما علم يعقوب وبنوه بخيرات مصر، وكانوا في أشد الحاجة إلى الطعام أرسل أبناءه العشرة ليبتاعوا من عزيز مصر القوت ويعطوه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 189 الثمن بضاعة كانت معهم، وكان يوسف لا يعطى لفرد إلا حمل بعير فقط توفيرا للمؤن. وجاء إخوة يوسف العشرة فدخلوا عليه، وهو في أبهة السلطان فعرفهم لما وصل خبر مقدمهم إليه، ورآهم بعينه أما هم فلم يعرفوه لتغير حاله واستبعاد أن يكون الطريد الشريد الملقى في البئر عزيز مصر الذي يتحكم في أقوات الخلق، يا سبحان الله!! ولما جهزهم بجهازهم أوقر ركائبهم بما جاءوا لأجله من الطعام وأعطاهم ما يحتاج إليه المسافر في سفره، وكانوا عشرة وطلبوا أكثر من حقهم، طلبوا لأبويهم ولأخيهم الحادي عشر فإنه بقي في خدمة أبويه الكبيرين. أعطاهم حمل بعيرين بشرط أن يحضروا له أخاهم لأبيهم ليراه. ثم أخذ يجب إليهم المجيء ثانية مع أخيهم بقوله: ألا ترون أنى أتم لكم الكيل الذي تكتالون، وأريحكم في سعره وصنفه، وأنا خير المضيفين فقد أحسنت ضيافتكم وجهزتكم بزاد يكفيكم في سفركم زيادة على تجارتكم، ومن هنا يعلم أن اتهامه لهم بالتجسس بعيد وأخذ رهينة منهم أبعد. يا بنى يعقوب إن لم تحضروا لي أخاكم كما اتفقنا، وعدتم تمتارون لأهلكم منعتكم من الكيل في بلادي فضلا عن إيفائه وكماله، ولا تقربون بلادي فضلا عن الإحسان في المعاملة والضيافة. قالوا: أيها العزيز سنراود عنه أباه، ونحتال بكل حيلة، ونخادعه بكل خدعة حتى يسلم لنا بنيامين الذي يعتز به أبوه فهو خلف لأخيه المفقود، وإنا لفاعلون ذلك إن شاء الله. وقال يوسف لفتيانه الذين يتولون الكيل للتجار: اجعلوا بضاعتهم التي جاءوا بها ثمنا للطعام- روى أنها كانت جلودا وأدما- اجعلوها في رحلهم لكي يعرفوها إذا انقلبوا إلى أهلهم فيكون ذلك أدعى لرجوعهم ثانية حيث يقفون على مدى إكرام العزيز لهم، لعلهم يرجعون حسبما أمرتهم بذلك طمعا في برنا وحسن معاملتنا. ابتاع إخوة يوسف منه طعامهم، وهو يعرفهم وهم لا يعرفونه، وطلب منهم أن يحضروا أخاهم من أبيهم وإلا منع عنهم الكيل.. فلما رجعوا إلى أبيهم بعد هذه الرحلة قالوا بمجرد وصولهم: يا أبانا إن عزيز مصر قد منع منا الكيل بعد هذه المرة إن لم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 190 ترسل معنا أخانا بنيامين كما طلب، فأرسله معنا نكتل من الطعام ما نحتاج إليه بقدر عددنا: ونكون قد وفينا له بما شرط علينا، وهو العزيز الذي أكرم وفادتنا، وإنا يا أبانا لنحفظ أخانا في ذهابنا وإيابنا. قال يعقوب الشيخ الحزين على يوسف الذي لا يزال يذكره حتى ابيضت عيناه من الحزن: هل آمنكم عليه إلا ائتمانا كائتمانى لكم على أخيه يوسف من قبل؟ على معنى كيف آمنكم على ولدي بنيامين وقد فعلتم بأخيه يوسف ما فعلتم وإنكم ذكرتم مثل هذا الكلام بعينه في يوسف وضمنتم لي حفظه وقلتم: إنا له لحافظون فلم يحصل الأمن والحفظ سابقا فكيف يحصل الآن؟!! يا بنى ما أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل!!. وظاهر الكلام يدل على أنه أرسله معهم اعتمادا على حسن الظن بهم وأنه ما كان يرى علامات الحسد والحقد بينهم في هذه اللحظة وتلبية لدعوة الحاجة إلى الطعام. فالله خير حافظا يحفظ لي ولدي، ولا يجمع بين مصيبتين لي، وهو أرحم الراحمين. طلبوا من أبيهم هذا ساعة وصولهم وقبل فتح أمتعتهم. ولما حطوا رحالهم وفتحوا متاعهم، وجدوا بضاعتهم التي أخذوها ثمنا لطعامهم وجدوها ردت إليهم. قالوا: تأييدا لطلبهم يا أبانا ما نبغى؟ ماذا نطلب زيادة على وصفنا لك من إكرامه وفادتنا وحرصه على راحتنا؟ هذه بضاعتنا ردت إلينا من حيث لا نشعر أليس هذا دليلا على منتهى الكرم؟ وداعيا لأن نوفى له بما طلب. ونحن إذا ذهبنا ثانية مع أخينا نمير أهلنا، ونحضر لهم الطعام بلا ثمن، ونحفظ أخانا بنيامين بعنايتنا ورعايتنا فلا تخش عليه شيئا، ونريد كيل بعير لأجله، إذ يوسف كان يعطى كل رجل حمل بعير فقط اقتصادا وتوفيرا، ونظهر أمامه بأنا صادقون في دعوانا بأن لنا أخا مع أبوينا يخدمهما، وربما كان ذلك له تأثير عند العزيز. وذلك أى البعير الزائد أمر يسير على مثل هذا الرجل الكريم الذي لو كان من نسل يعقوب لما أكرمنا هذا الإكرام. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 191 قال يعقوب: وقد تذكر حوادث الماضي. وتمثلت له صورة العزيز يوسف: لن أرسل بنيامين معكم حتى تعطوني عهدا مؤكدا بإشهاد الله وقسمه لتأتننى به، ولترجعنه لي، فهو قرة عيني وسلوتى عن يوسف لتأتننى به على أى حال كنتم. إلا في حال يحيط بكم العدو أو الموت أو أى سبب يمنعكم عنى فلما أعطوه المواثيق قال يعقوب: الله على ما نقول جميعا وكيل، وهو نعم الحفيظ وأفوض أمرى إلى الله إن الله بصير بالعباد ... يعقوب يوصى أبناءه الذاهبين إلى مصر [سورة يوسف (12) : الآيات 67 الى 68] وَقالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) المعنى: رضى يعقوب أن يذهب بنيامين مع إخوته ليقابلوا عزيز مصر، ولكنه كان يتوجس أمرا، ويتوقع حدثا، وهكذا المؤمن القوى الإيمان تتطلع روحه فتستشف الغيب المحجوب، لذا نصحهم فقال: يا أولادى لا تدخلوا مصر من باب واحد ولكن ادخلوها من أبواب متفرقة حتى لا يحسدكم حاسد أو يكيد لكم كائد فيحل بكم مكروه. وهنا يدور سؤال: هل للحسد أثر مادى في المحسود؟؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 192 ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلم. «أنّ العين لتدخل الرّجل القبر والجمل القدر» «وأعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامة» وقوله (صلّى الله عليه وسلم) وقد أخبر بوعكة لبعض أصحابه من أثر حسد فقال. «علام يقتل أحدكم أخاه! ألا بركت إن العين حق، توضأ له» فتوضأ الحاسد ومعنى بركت قلت تبارك الله أحسن الخالقين اللهم بارك فيه بكلمات الله التامة.. إلخ وعلى الحاسد أن يتوضأ وأن يقول، تبارك الله أحسن الخالقين عند ما يرى شيئا وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ [سورة الفلق آية 5] . وبعض العلماء ينفى أثر العين ويفهم الآية هنا على معنى يا بنى لا تدخلوا من باب واحد لتروا بأعينكم ما يكون من تأثير كل طائفة منكم في نفس العزيز وعلى أسارير وجهه. يا بنى اعملوا بنصيحتى واعلموا أنى لا أغنى عنكم من الله شيئا، ولا أدفع عنكم بتدبيري من قضاء الله شيئا إذا لا يغنى حذر من قدر، ولكن اسلكوا الأسباب العادية مع العلم أن قضاء الله نافذ لا محالة. إن الحكم إلا لله وحده له الحكم وله الأمر وعليه وحده فليتوكل المتوكلون لا على غيره. ولما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم، ما كان دخولهم على هذا الشكل يغنى عنهم من أمر الله شيئا. ولكن كانت هناك حاجة في نفس يعقوب تدور بخلده أراد أن يظهرها لأبنائه، قضاها وأظهرها بوصيته لأولاده من حيث لا يفطنون لها. إنه لذو علم وبصر بالأمور لما علمه ربه بالوحي والإلهام وتأويل الرؤيا الصادقة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك. يوسف يتعرف على أخيه بنيامين ويحتال على إبقائه عنده [سورة يوسف (12) : الآيات 69 الى 76] وَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ماذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 193 المفردات: آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ضمه إليه فَلا تَبْتَئِسْ لا تحزن السِّقايَةَ وعاء يسقى به، وكان يكال للناس طعامهم به وهو صواع الملك جَهَّزَهُمْ هذه المادة تفيد الإسراع وتنجيز الأمر ومنه أجهز على الجريح والمراد كما مضى أوقر ركائبهم بالطعام أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد، وأذن تفيد التكثير والتكرير الْعِيرُ الجمال التي تحمل الطعام وتنقله من بلد إلى بلد والمراد هنا أصحابها زَعِيمٌ كفيل وضمين كِدْنا الكيد التدبير الخفى دِينِ الْمَلِكِ شرعه وقانونه. المعنى: ولما دخلوا على يوسف في ديوانه، وأحضروا معهم أخاه بنيامين، واجتمع بهم ضم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 194 إليه أخاه في مجلس خاص وصارحه بكل شيء وقال له: إنى أنا أخوك يوسف فلا تحزن ولا تتألم بما كانوا يفعلون قديما فينا، وهذا جزاء الصبر يا بنيامين، وهنا روايات كثيرة في كيفية ضم يوسف لأخيه لا تخرج في مجموعها عما ذكرنا. عرف يوسف أخاه الحبيب، وألم بحاله مع أبيه الحزين وما حصل من إخوته حينما طالبوا بنيامين من أبيهم ولكن يوسف يريد أخاه ولأمر ما يريد مكثه معه، فمضى في تنفيذ غرضه بكل وسيلة وحيلة! فلما جهزهم بجهازهم، وقضى لهم أمرهم، جعل السقاية في رحل أخيه بنيامين دون أن يعلم أحد، وحينما ساروا في طريقهم فرحين مسرورين أذن مؤذن، ونادى مناد، شأن من يضيع منه شيء: أيتها العير أى: يا أصحاب العير، قفوا إنكم سارقون!! كان هذا خبرا كالصاعقة عليهم، فما سرقوا ولا أخفوا شيئا. قالوا: وأقبلوا على فتيان العزيز في دهش وحيرة ماذا تفقدون؟ وماذا ضاع منكم؟ أنكروا ضياع شيء، ولم ينفوا عن أنفسهم سرقة لأنهم يعلمون أنها بعيدة كل البعد لا تحتاج إلى نفى. قال الفتيان: نفقد الصواع الذي نكيل به للناس الذي عليه شارة الملك، ولمن جاء به حمل بعير برّا وقال المنادى: إنى بهذا زعيم وضمين. قال إخوة يوسف: تالله لقد علمتم أنتم بعد تجربتكم لنا أننا ما جئنا لنفسد في أرض مصر بأى نوع من أنواع الفساد فضلا عن السرقة التي هي أحط أنواع الاعتداء، وكيف نسرق من جماعة أكرمونا هذا الإكرام! وما كنا سارقين في يوم من الأيام.. قال فتيان يوسف لهم: إذا كان الأمر كذلك فما جزاؤه إن كنتم كاذبين في نفى كون الصاع في رحالكم أما السرقة فهم صادقون في دعوى البراءة منها يدل على هذا قولهم جزاؤه أخذ من وجد في رحله، وظهر أنه السارق للصواع، أخذه وجعله عبدا لصاحبه واسترقاقه عاما وذلك كان في شريعة يعقوب- عليه السلام-. فَهُوَ جَزاؤُهُ وهذا تقرير للحكم السابق، وتوكيد له بعد توكيد، مثل ذلك الجزاء الشديد نجزى الظالمين للناس بسرقة أمتعتهم وأموالهم أما يوسف فبعد أن رجعوا إليه تلبية لنداء المنادى وتبرئة لساحتهم وإجابة لطلبه بدأ بتفتيش أوعيتهم قبل وعاء أخيه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 195 ليبعد الشبهة عن نفسه ثم استخرجها أى السقاية من وعاء أخيه، [وقد قلنا إن السقاية والصواع والصاع شيء واحد] . كذلك كدنا لأجل يوسف، وأوحينا إليه أن يفعل ذلك لأنه ما كان يصح له أن يأخذ أخاه في شريعة الملك التي يسير عليها يوسف، ولكنه احتال حتى حكموا هم بذلك فوصل إلى المطلوب والمقصود. ولما كانت هذه الوسيلة إلى تلك الغاية منكرة في الظاهر لأنها تهمة باطلة حكى الله عن يوسف أنه فعلها بوحي منه وإذن فقال: ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك في حال من الأحوال إلا في حال أن يشاء الله ذلك. كذلك نرفع من نشاء درجات كثيرة في العلم والتوفيق. كما رفعنا ووفقنا يوسف إلى بلوغ المقصود. وفوق كل ذي علم من هو أوسع منه علما وإحاطة، حتى يصل إلى الله- سبحانه- الذي يعلم كل شيء أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [سورة الملك آية 14] . حوار بين يوسف وإخوته ثم بينهم وبين أبيهم [سورة يوسف (12) : الآيات 77 الى 87] قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَما كُنَّا لِلْغَيْبِ حافِظِينَ (81) وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَإِنَّا لَصادِقُونَ (82) قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 196 المفردات: اسْتَيْأَسُوا يئسوا يأسا كثيرا خَلَصُوا انفردوا عن الناس وتخلصوا منهم نَجِيًّا متناجين متشاورين فَرَّطْتُمْ قصرتم أَبْرَحَ أترك سَوَّلَتْ زينت يا أَسَفى يا أسفى والأسف الحزن الشديد على ما فات كَظِيمٌ مملوء غيظا على أولاده ممسك له في قلبه حَرَضاً الحرض المرض المشرف على الهلاك ثِّي البث في الأصل إثارة الشيء وتفريقه، ومنه بث الريح، والمراد هنا إظهار ما انطوت عليه نفسه من الحزن فَتَحَسَّسُوا تعرفوا أحوال يوسف بحواسكم رَوْحِ اللَّهِ فرجه ورحمته. المعنى: افتقدوا صواع الملك، ثم وجدوه في وعاء بنيامين ومتاعه بعد أن نفى إخوته السرقة نفيا باتا، وشهدوا أنه إذا وجد في متاع شخص فجزاؤه أن يأخذه العزيز ويسترقه عنده غاظهم ذلك وساءهم هذا الحادث لأمور: منها عهدهم الذي أخذ عليهم عند أبيهم، وما فعلوه في يوسف من قبل، وألم والدهم الشديد عند ذهابهم بدون بنيامين فأخذوا يؤنبون أخاهم ويقولون: إن يسرق بنيامين فقد سرق أخ له من قبل، وما ذاك إلا من عرق أمهما وخلقها. أما أبوه الذي نجتمع معهما فيه فليس فيه هذا العرق، وفي هذا إشارة إلى أن الأخلاق تورث، وأن الحقد والحسد عندهم لا يزال. وهل سرق يوسف من قبل؟ أصح شيء وأسلمه رواية أنه سرق صنما وهو صغير فكسره، أما الروايات التي تثبت أن عمته احتالت على أبيه وجعلت منطقة إسحاق أبيها تحت ثياب يوسف ونسبته إلى سرقتها وهو صغير ليمكث عندها فأظن أن هذا صغار لا يليق ببيت إبراهيم وإسحاق. سمع يوسف قولهم: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فأسرها يوسف في نفسه، وأضمر ولم يجبهم عنها، بل صفح عنهم وقال في نفسه. بل أنتم شر مكانا إذ أنكم سرقتم من أبيكم أخاكم وألقيتموه في الجب، وادعيتم: كذبا أن الذئب أكله، والله أعلم وحده بما تصفون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 198 ولما رأوا أن الموقف جد خطير، ولا ينفع فيه إلا الاستعطاف. قالوا: يا أيها العزيز إن لهذا الأخ أبا شيخا طاعنا في السن كبير المقام جديرا بالرعاية والعناية وهو سلوته، وموضع أنسه ومحط أمله، وعوضه عن ابنه المفقود فخذ أحدنا مكانه رحمة بهذا الشيخ الكبير إنا نراك من الذين يحسنون العمل، ويعملون الصالح، فسر على عادتك وتقبل طلبنا. قال يوسف: معاذ الله!! وحاش لله أن نخالف شريعتكم وشريعة الملك هنا، ونأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده وانظر إلى قوله وجدنا متاعنا ولم يقل من سرق متاعنا فإنه لم يسرق أبدا. إنا إذا أخذنا غيره لنكونن من الظالمين لأنفسهم المتجاوزين حدود الشرع. ردهم يوسف ردا شديدا مبينا لهم أن هذا الرأى مما يستعاذ منه.. فلما يئسوا من فكاك بنيامين يأسا بليغا خلصوا من القوم، وانفردوا تاركين الناس ليجتمعوا اجتماعا خاصا للنجوى والتشاور فيما دعاهم ولم يكن في الحسبان. قال كبيرهم سنا أو عقلا ولذا قيل هو يهوذا أو غيره: يا إخوتى إن هذا لحدث الأحداث.. ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم عهد الله وميثاقه المؤكد لتأتننى به إلا أن يحاط بكم؟ ألم تعلموا ما فرطتم في يوسف وقصرتم في حفظه من قبل؟ يا قوم إن الأمر جد خطير فماذا أنتم فاعلون؟!! إذا كان الأمر كذلك فلن أفارق أرض مصر أبدا وأترك بنيامين فيها حتى يأذن لي أبى في ذلك، أو يحكم الله لي وهو خير الحاكمين، والرأى عندي: أن ارجعوا إلى أبيكم فقولوا: يا أبانا إن ابنك سرق صواع الملك، فاسترقه وزيره عملا بشريعتنا، وما شهدنا عليه بالسرقة وجزائها إلا بما علمنا علما أكيدا حيث أخرج الصواع من متاع بنيامين، وقد أقررنا له أولا أن من يوجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزى في شريعتنا الظالمين، حصل هذا كله، وما كنا للغيب المستور حافظين وعالمين أنه سيسرق وعاء الملك وسيأخذه فيه، ولو كنا نعلم هذا لما آتيناك العهد الموثق علينا. وإن كنت في شك من أمرنا فاسأل أهل القرية التي كنا فيها ساعة أن فتشنا العزيز وهي مصر فقد اشتهر فيهم أمر هذه السرقة، واسأل العير وأصحابه الذين كانوا يمتارون معنا وإنا لصادقون في أقوالنا على أى حال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 199 بعد هذه المقالة التي كلفهم بها أخوهم الذي مكث في مصر وبلغوها لأبيهم فلم يصدقهم وقال: بل سولت وزينت لكم أنفسكم أمرا آخر [وكيدا ثانيا] فنفذتموه، ومما يؤيد هذا أنكم لقنتم العزيز شريعتنا التي تحكم بأسر السارق. فأمرى صبر جميل، وليس لي إلا الرضا بقضاء الله وقدره، عسى الله أن يأتينى بهم جميعا يوسف وبنيامين والأخ الثالث، إنه هو العليم بحالي وضعفى وحزنى على أولادى الحكيم في كل صنع يصنعه وتولى عنهم وأعرض قائلا: يا أسفا احضرى فهذا أوانك يا أسفى على يوسف الحبيب، وابيضت عيناه من كثرة البكاء، ولا عجب فهو مملوء غيظا يردد حزنه في جوفه. والحزن على فقد محبوب أمر طبيعي لا حرج فيه ما دام لا يبلغ بصاحبه أن يقول قولا لا يرضى الله ورسوله وصدق رسول الله: «إنّ العين لتدمع وإنّ القلب ليحزن ولا نقول إلّا ما يرضى ربّنا» قال أولاد يعقوب الذين حضروا من مصر إلى أبيهم حينما سمعوا أسفه على يوسف وحزنه العميق عليه وعلى إخوته قالوا: تالله يا أبت لا تزال تذكر يوسف وقد مضت حوادثه من زمن بعيد لا تزال تذكره حتى تصير مريضا مرضا مشرفا بك على الموت أو تكون من الهالكين!! قال إنما أشكو بثي وحزنى إلى الله وحده. لا إلى أحد من خلقه فلا لوم على ولا تثريب، وأنا أعلم من الله وأمره مالا تعلمون فأنا أعلم أنهم أحياء يرزقون، وأن الله اجتبى يوسف وأتم نعمته عليه وعلى آل يعقوب، وإن كنتم تظنون غير ذلك فأنا يا أولادى أعلم أن رؤيا يوسف حق وستراكم الأيام صدق نظريتى يا أولادى اذهبوا إلى مصر وتعرفوا أخبار يوسف وأخيه حتى تقفوا على جلية أمرهما. ولا تيأسوا من رحمة الله وفضله فإنه لا يأس مع الحياة ولا حياة مع اليأس إنه لا ييأس من رحمة الله وفضله إلا القوم الكافرون، أما المؤمنون حقا فلا تقنطهم المصائب، ولا تزعزعهم الشدائد وهم صابرون راضون بقضاء الله وقدره، واثقون من دفاع الله عنهم إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا وفي قول القرآن: وابيضت عيناه من الحزن: معجزة أثبتها الطب الحديث إذ الحزن كثيرا ما ينشأ عنه بياض العين بياضا يمنعها من الرؤية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 200 تعرف إخوة يوسف عليه وما دار بينهم [سورة يوسف (12) : الآيات 88 الى 93] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَهذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَإِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) المفردات: مَسَّنا أصابنا الضُّرُّ ألم الجوع مُزْجاةٍ بضاعة ناقصة غير تامة لا تقبل إلا بدفع وعرض وعليه قوله تعالى أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً أى يسوق ويدفع لَخاطِئِينَ الخاطئ من يتعمد الذنب والمخطئ من يخطئ القصد أى لا يعرف الصواب ثم يصير إلى غيره لا تَثْرِيبَ لا لوم ولا توبيخ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 201 المعنى: سمع إخوة يوسف نصيحة أبيهم، وجاءوا إلى مصر، يتحسسون يوسف وأخاه، بلا يأس ولا ملل. فلما دخلوا على يوسف أرادوا اختباره بذكر حالهم وتضرعهم له فإن رق قلبه وتغير حاله ذكروا ما يريدون، وكان أبوهم يرجح أن هذا العزيز هو يوسف: وقالوا: أيها العزيز. قد مسنا وأهلنا الضر، وأصابتنا سنين مجدبة قاحلة لم تدع لنا «سبدا ولا لبدا» لم تترك لنا شيئا وجئنا لك أيها الأمير ببضاعة قليلة لا يقبلها التجار، بضاعة لا تروج إلا بالدفع وحسن العرض وكثرته، فأوف لنا الكيل وأتمه كما كنت تفعل فقد عودتنا الجميل، وتصدق علينا بالزائد، إن الله يجزى المتصدقين، ويكافئهم على أعمالهم. هذا كلامهم الذي تحسسوا به يوسف، وتطلعوا به إلى معرفة خبره. أما هو فقال: هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟! وهو استفهام يراد به تعظيم فعلتهم بيوسف قديما حيث ألقوه في الجب وحيدا طريدا عاريا من اللباس، وما فعلوه في أخيه بنيامين من المعاملة الجافة، إذ أنتم جاهلون قبح فعلتكم، وعظم جرمكم، أى: كنتم في حال يغلب فيها الجهل والطيش إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ [سورة النساء آية 17] ، وقيل المعنى: هل علمتم قبح ما فعلتم؟! ألا فلتعلموا أن هذا ذنب كبير يجب أن تسرعوا فيه إلى التوبة ورضاء الله، أما حقي فأنا أسامحكم فيه، وهكذا خلق آل إبراهيم من الأنبياء والمرسلين. كان سؤال يوسف لهم وهو العارف بما فعلوه فاتحة لأن يعرفوه فيطمئنوا أباهم على أولاده الأحبة: وكان مصداقا لقوله تعالى وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وصدق الله. ثم وجهوا ليوسف سؤالا يدل على التعجب والاستغراب: أإنك لأنت يوسف؟! عجبوا من ترددهم عليه سنتين وهم لا يعرفونه وهو يعرفهم. قال نعم أنا يوسف!! وهذا أخى بنيامين الذي فرقتم بيني وبينه وبيني وبين أبى، قد منّ الله علينا إذ هو الرحمن الرحيم، العليم الخبير الذي يدافع عن المؤمنين، يا إخوتى إن الحق الذي نطقت به الشرائع جميعا واتفقت عليه هو: من يتق الله حق تقواه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 202 ويعتمد عليه، ويصبر فهو حسبه وكافيه من كل مكروه، ولا غرابة فإن الله لا يضيع أجر المحسنين، قالوا إحقاقا للحق، وإزهاقا للباطل: لقد آثرك الله علينا، وفضلك ووفقك، وعلمك ما لم تكن تعلم، ولا حرج على فضل الله وأما نحن فما كنا إلا خاطئين معتدين، لا عذر لنا أبدا. ماذا قال يوسف إزاء هذا الإقرار بالذنب؟ قال: يا إخوتى لا تثريب عليكم ولا لوم فقد صفحت عن زلتكم. وأسأل الله أن يغفر اليوم لكم، وهو أرحم الراحمين. يقول البعض كيف جاز ليوسف وقد عرفهم أن يكتم أمرهم سنتين مع علمه بحزن أبيه وألمه. والجواب عن ذلك أنه يسير تبعا لوحى الله، فلما أمره نفذ، ويمكن أن يقال كتم الأمر ليصادفوا شدة وألما وليكون لقيا أبيه بعد فقده هو وأخيه أوقع في نفسه وأكثر أثرا والله أعلم. ثم قال يوسف: يا إخوتى اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبى ليعلم علما موافقا للواقع أنى حي وأن الله تولاني بالعناية والرعاية كما كان يأمل ويفهم من الرؤيا، وألقوه على وجهه يأت بصيرا، ويرتد إليه بصره إذ قد ضعف أو فقد لكثرة البكاء فإذا فرح واستبشر رجع له بصره كما كان، ولا حرج على فضل الله. وأتونى بأهليكم جميعا لتفسر الرؤيا في الواقع. يعقوب وقد جاءه البشير [سورة يوسف (12) : الآيات 94 الى 98] وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97) قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 203 المفردات: فَصَلَتِ انفصلت عن البلد وجاوزت حدودها رِيحَ رائحة يوسف أو قميصه تُفَنِّدُونِ تنسبونى إلى الفند وهو ضعف العقل وفساد الرأى ضَلالِكَ خطئك. المعنى: تعرف إخوة يوسف على أخيهم وأقروا له بذنبهم وعفا عنهم وأمرهم أن يحملوا قميصه إلى أبيه، وأن يأتوا بأهليهم إليه. ولما خرجوا من مصر وانفصلوا عنها قال يعقوب وهو النبي الصادق: إنى لأشم رائحة يوسف، وقال هذا لمن كان بمجلسه، قال الحاضرون له: تالله إنك لفي خطئك القديم، وحبك الأعمى ليوسف، واعتقادك فيه أنه حي يرزق، وما نظن هذا إلا ضلالا وتخبطا. فلما أن جاء البشير بعد هذا بأيام يبشر بلقيا يوسف مع أخيه حاملا قميصه وقد ألقاه على وجه أبيه فارتد بصيرا ورجع له بصره قال لمن حوله: ألم أقل لكم يا أولادى: إنى أعلم من الله أشياء لا تعلمونها؟ الآن حصحص الحق وظهر، وبدأ الصبح لذي عينين، واعترفوا بالجرم بعد الإنكار وقالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا، واطلب المغفرة لنا من الله فقد تبنا وأنبنا. قال يعقوب: سوف أستغفر لكم ربي في المستقبل إذ قد أتيتم ذنبا كبيرا، ليس من السهل أن أطلب المغفرة بهذه السرعة، على أن هذا الذنب وهو إلقاء يوسف في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 204 الجب إيذاء ليوسف أولا، ولى ثانيا، فلا أستغفر حتى يعفو صاحب الحق. وأنتم أولادى وأنا المشرف على تربيتكم فلا بد من بقائكم مدة تعالجون فيها نفوسكم وتندمون فيها على فعلكم. وانظر إلى يوسف وكيف أزال الخوف من نفوس إخوته بسرعة حيث اعترفوا بذنبهم وقد كانوا في قلق وهمّ شديدين. أما كيف شم يعقوب رائحة يوسف على مسيرة أيام فالذي يستبعد هذا شخص محروم ومن ذاق عرف، ولا يعرف الشوق إلا من يكابده، أنستبعد على يعقوب بن ابراهيم هذا، وجده ألقى في النار فلم تؤثر فيه، هؤلاء أرواحهم قوية لا تحجزها مادة ولا يحدها مكان ولا زمان، وهو نبي وقد تكون هذه معجزة له. وأما رجوع بصره إليه فهي معجزة كالمعجزات التي جاءت على يد الأنبياء، وليس من العقل ولا من الدين البحث في كيفيتها، بل نؤمن بها كما جاءت، وهذا هو الإيمان بالغيب وهو صفة المؤمنين المهديين. تأويل رؤيا يوسف من قبل [سورة يوسف (12) : الآيات 99 الى 101] فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 205 المفردات: الْعَرْشِ كرسي تدبير الملك وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً ساجدين سجود إجلال وتعظيم لا سجود عبادة نَزَغَ نخس. والمراد وسوس وأفسد ما بيني وبين إخوتى الْبَدْوِ البادية. المعنى: عرف يوسف إخوته ثم عرفهم بنفسه متى شاء الله، وطلب منهم أن اذهبوا بقميصي وألقوه على وجه أبى، وأحضروا لي أهلكم جميعا يعيشون معى في مصر. ذهب الإخوة كما أشار يوسف وأحضروا له أبويه، ولما علم بمقدمهم خرج هو ووجوه القوم للقيا يعقوب إسرائيل الله ونبيه، فلما دخلوا عليه وهو في عظمة الملك وأبهة السلطان آوى إليه أبويه، وضمهما وعانقهما عناق المشوق الولهان، وقال: ادخلوا مصر، وتمتعوا بخيرها إن شاء الله آمنين لا خوف عليكم، ولا أنتم تحزنون فيها أبدا، ورفع أبويه على سرير ملكه زيادة في تكريمهما. وهل هي أمه أو خالته؟ الله أعلم فبكل قال بعض المفسرين. وما كان من أبويه وإخوته الأحد عشر إلا أن خروا له ساجدين سجود تحية وإجلال، وكانت تحيتهم كذلك فلما رآهم يوسف قال: يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل، وذلك تفسيرها إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ فالشمس أبوه والقمر أمه أو خالته والكواكب إخوته قد جعلها ربي حقيقة واقعة، وقد أحسن بي، وأفاض على من نعمه إذ أخرجنى من السجن إلى الملك والرياسة، وجاء بكم من البدو وشظف العيش إلى الحضر والمدنية، وانظر إلى سياسة يوسف وحكمته لم يثر الموضوعات التي ينشأ عنها ألم لبعض الناس فلم يذكر إلقاءه في الجب لئلا يتألم إخوته، ولا زجه في السجن، ومكر النسوة به لئلا يثار هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 206 الموضوع الشائك، ولكنه ذكر إخراجه من السجن وهو يد للملك عليه وهكذا الحكمة والكياسة وحسن التصريف والسياسة. هذا كله من بعد أن نزغ الشيطان بيني وبين إخوتى وأوقع بيننا الحسد والبغضاء للقضاء على الأخوة الصادقة. إن ربي- سبحانه وتعالى- لطيف بخلقه رحيم بعباده إنه هو العليم بحالهم الحكيم في أفعاله- جل شأنه-. لما أتم الله النعمة على يوسف، وخلصه من شدة الإلقاء في الجب، ومحنة امرأة العزيز وكيد النسوة له، وألم السجن، وأنعم عليه بالملك بعد البراءة مما نسب إليه لما حصل هذا وأمثاله ليوسف تاقت نفسه الكريمة إلى دعاء الله- تبارك وتعالى- أن يجزل الله له ثواب الآخرة كما أجزل له العطاء في الدنيا فقال: يا ربي قد عودتني الجميل وآتيتني ملك مصر، وعلمتني شيئا من تأويل الأحاديث وتعبير الرؤيا، والوقوف على أسرار كلامك، يا رب يا فاطر السموات والأرض وخالقهما على أبدع نظام وأحكم ترتيب أنت يا ربي وليي وصاحب أمرى ومتولى شأنى في الدنيا والآخرة يا ولى الأولياء وسيد الضعفاء والأقوياء، يا صاحب الأمر، توفني مسلما، وألحقنى بالصالحين من آبائي ابراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب فأنت الرحيم الكريم القادر على كل شيء.. القصة وما تشير إليه من أهداف [سورة يوسف (12) : الآيات 102 الى 111] ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحانَ اللَّهِ وَما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلا تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 207 المفردات: أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ اتفقوا على إلقائه في الجب وعزموا عليه وَكَأَيِّنْ المراد بها كثير من الآيات غاشِيَةٌ عقوبة تغشاهم وتحيط بهم بَغْتَةً فجأة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 208 بَصِيرَةٍ حجة واضحة ومعرفة تامة. اسْتَيْأَسَ يئس بَأْسُنا عقابنا وعذابنا عِبْرَةٌ العبرة والاعتبار نوع واحد وفيها معنى العبور من جهة إلى جهة. هذا ختام السورة الكريمة، وتلك القصة القوية المؤثرة التي اشتركت فيها عناصر مختلفة في أماكن متعددة، قصة فصولها متعددة الألوان فيوسف مع إخوته، وهو في بيت العزيز، وفي السجن، وفي دست الحكم قصة جمعت بين كيد الإخوة وحسدهم، وكيد النساء ومكرهن، قصة الصبر والحكمة، والفداء والبطولة، قصة السياسة والرياسة، قصة لها معان وفيها إشارات وعبرة وذكرى لأولى الألباب. المعنى: بعد أن قص الله قصة يوسف أحسن القصص شكلا وموضوعا وكانت أروع مثل للقصة ذكر الله- تبارك وتعالى- أن القصص دليل على نبوءة محمد وصدقه فقال: ذلك الذي ذكرناه سابقا مما يتعلق بيوسف من أنباء الغيب وأخباره التي لا يعلمها إلا الله عالم الغيب والشهادة، ذلك نوحيه إليك، ونطلعك عليه، إذ ما كنت تعلم هذا أنت ولا أحد من قومك، وما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم، واتفقوا على إلقاء يوسف في الجب، وعزموا على ذلك مصممين، وهم يمكرون، ويمكر الله والله خير الماكرين. نعم هذه أخبار كيف وصلت إليك؟ هل كنت حاضرها وشاهد أمرها؟ أم وصلت إليك عن طريق الرواية ممن حضرها؟ لا هذا ولا ذاك ولم تكن هناك كتب فيها هذا القصص المحكم بهذه الصورة فلم يبق إلا أنها وصلت إليك عن طريق الوحى الإلهى، وهذا بلا شك من دلائل النبوة وعلامات الرسالة، وكان هذا يكفى في إيمان الناس بك وتصديقهم لرسالتك لو أن الله أراد ذلك. ولكن اعلم أن أكثر الناس ولو حرصت وعملت المستحيل لا يؤمنون مهما ظهرت الآيات الناطقة فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وما أنت عليهم بجبار فذكر بالقرآن من يخاف وعيد. أيكون السبب في عدم إيمانهم بك أنك تطلب مالا أو أجرا أو جاها أو ملكا حتى يكون لهم العذر في عدم الإيمان؟!! لا، لا، إنك كبقية الرسل قبلك لا تسأل الناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 209 أجرا أيا كان ولا مالا، وما أجرك إلا على الله وحده، وما القرآن إلا ذكر وتذكرة للعالمين جميعا فمن شاء ذكره وآمن به، ومن شاء غير ذلك فحسابه على ربه. لا تعجب يا محمد من كفرهم وقد ظهرت الدلائل في القصة دالة على صدقك فكثير من الآيات في السموات وما فيها والأرض وما عليها يمرون عليها مرور الحيوان أو الجماد وهم عنها معرضون لا يلتفتون إليها ولا يؤمنون بها، ولا غرابة فقد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة، فمن يهديهم من بعد الله، وهؤلاء الكفار المعاصرون لك ومن على شاكلتهم لا يؤمنون بالله إلا وهم مشركون، فالعجب أنك إن سألتهم قائلا من خلقكم؟ يقولون: الله وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [سورة لقمان آية 25، وسورة الزمر آية 38] ولكنهم يعبدون معه آلهة وشركاء قائلين: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى. أعملوا هذا فأمنوا أن تأتيهم غاشية من عذاب الله تحيط بهم وتغشاهم فلا تترك أحدا منهم أو تأتيهم الساعة بغتة وفجأة وهم لا يشعرون؟ ولكنهم في ضلال مبين. بعد هذا النقاش الدقيق وسوق الأدلة المفحمة وبيان أنه لا غرض لك إلا الخير لهم، وبيان أن طبعهم الكفر مهما ظهر من الأدلة، بعد هذا ساق البيان والطريقة المثلى التي تحمل الغرض العام من دعوته، فقال الله له: قل هذه سبيلي.. الآية والمعنى: قل يا محمد: هذه الدعوة التي أدعو لها والطريقة التي أنا عليها سبيلي وسنتي أدعو إلى دين الله لا غرض لي ولا قصد إلا إرضاء ربي والقيام بواجبى والامتثال لأمره- سبحانه وتعالى-. وأنا على بصيرة من أمرى وحجة ظاهرة، ومعرفة كاملة بما أدعوا إليه أنا ومن تبعني ودعا بدعوتي وسار على طريقتي إلى يوم الدين وسبحان الله وما أنا من المشركين به غيره في أى ناحية من النواحي، لا أشرك به عرضا من أعراض الدنيا، ولا أوثر عليه مالا ولا ولا ولدا ولا تجارة ولا كسبا. بل: الله أكبر ولله الحمد ولا حول ولا قوة إلا بالله. وما أرسلنا من قبلك يا محمد إلا رجالا، لا ملائكة ولا إناثا، لقد أرسلنا رسلنا تترا وأوحينا إليهم. وأيدناهم بروح من أمرنا، وكانوا في جماعة من أهل القرى المجتمعة فيها الخلق، وهكذا الرسل كانوا لقيادة بعض الشعوب والأمم وأنت يا محمد لهداية كل القرى والأمم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 210 عجبا لكم يا كفار مكة أعميتم فلم تسيروا في الأرض فتنظروا وتروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم، وكانوا أشد منكم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمرتموها وجاءتهم رسلهم بالبينات فكفر من كفر وآمن من آمن فكان عاقبة الكفر هلاكا ودمارا، وعاقبة الإيمان نجاة واستقرارا في الدنيا، ولدار الآخرة خير للذين اتقوا: أجهلتم كل هذا فلا تعقلون؟! لقد أرسلنا رسلنا ولم نعاجل الكفار بالعقوبة بل أمهلناهم علهم يثوبون لرشدهم ويرجعون عن غيهم حتى يئس الرسل من النصر وإنزال العقوبة، واستيأسوا من إيمانهم أو عقوبتهم وظنوا أن قومهم قد كذبوهم فيما وعدوهم من العذاب. وقيل المعنى: وظن القوم أن الرسل قد كذبوا فيما جاءوا به من الوعد والوعيد. حتى إذا يئسوا وظنوا الظنون جاءهم نصرنا وأمرنا. ولا راد لقضاء الله ولا معقب لحكمه، فنجا المؤمنون الذين أراد الله لهم النجاة فآمنوا أما الكافرون فحاق بهم البأس والعذاب من كل جانب، ولا يرد بأس الله عن القوم المجرمين. فأنت ترى أن من أغراض القصة في القرآن العبرة والعظة بمن تقدم من الأمم فضلا عن أنها دليل النبوة وبرهانها لما فيها من الأخبار بما لا يعرف الرسل ولا طريق لمعرفتهم إلا بالوحي. ولقد كان في قصص الأنبياء جميعا خصوصا يوسف وإخوته عبرة وعظة وذكرى. وهدى لأولى الألباب والعقول الصافية. ما كان هذا الحديث، أى القرآن الشامل للقصة وغيرها، ليفترى ويختلق، وكيف يكون هذا؟ وهو المصدق لما بين يديه من الكتب بل هو المهيمن عليها الحارس لها: وكان فيه تفصيل كل شيء. نعم ما فرطنا في الكتاب من شيء إذ فيه أمهات المسائل وأسس القواعد الشرعية وهو الأصل للسنة والإجماع والقياس فما وافق روح الكتاب أخذناه وما تنافر معه رددناه، وهو هدى ورحمة لقوم يؤمنون بالغيب ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة آية 2] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 211 سورة الرعد روى أنها مكية ، وقيل: مدنية، وعدد آياتها ثلاث وأربعون، وهي مناسبة لسابقتها، فقد قال الله في سورة يوسف: وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَهُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ وهنا توضيح لهذا المجمل وتفصيل له، وفيها ذكر للتوحيد أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ؟. وهنا امتداد لدعوة التوحيد، وذكر كثير من صفات الله، وفي كل سلوة للنبي صلّى الله عليه وسلم. القرآن حق والله قادر على كل شيء [سورة الرعد (13) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1) اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَأَنْهاراً وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوانٌ وَغَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 212 المفردات: المر تقرأ هكذا: ألف. لام. ميم. را، وفيها ما في أخواتها عَمَدٍ جمع عماد أو عمود وقرئ عمد بالضم مَدَّ الْأَرْضَ بسطها رَواسِيَ جمع راسية والمراد الجبال لأن الأرض ترسو بها أى: تثبت يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ التغشية إلباس الشيء، والغشاء كالغطاء صِنْوانٌ جمع صنو وهي النخلات أو النخلتان يجمعهن أصل واحد وتتشعب منه رؤوس فتصير نخيلا، وقيل: الصنو المثل وعليه قول النبي صلّى الله عليه وسلم: «عمّ الرّجل صنو أبيه» والمراد نخيل متماثلات وغير متماثلات. المعنى: تلك الآيات من آيات هذه السورة آيات السورة الكاملة العجيبة الشأن، العظيمة القدر، والذي أنزل إليك من ربك- وهو القرآن كله- هو الحق. لا حق بعده، ولا شك فيه، تنزيل من حكيم حميد، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون بهذا. وكيف لا يؤمنون بهذا؟! والله الذي أنزله هو الذي رفع السماء بلا عمد، وها أنتم أولاء ترونها من غير عمد، نعم رفع الله السموات وما فيها من كواكب وأجرام. وشموس وأقمار بقدرته وعظمته أليس الله على كل شيء قدير؟! ثم استوى على العرش وقصد إليه، واستولى عليه، وفي الحقيقة الاستواء والعرش الله أعلم بهما، على أن الآية تدل على نفوذ الأمر، وتمام السلطان والتدبير. وسخر الشمس والقمر، ذللهما لما يريده من دوران وضياء وظهور وإخفاء، كل من الشمس والقمر وغيرهما من الكواكب السيارة يجرى لأجل مسمى عنده- سبحانه- وهو انتهاء الدنيا وقيام القيامة فكل يجرى في فلك له إلى وقت معلوم وزمن محدود عنده تتبدل الأرض غير الأرض والسموات. هكذا يدبر الله الأمر، ويصرف الكون حسب إرادته وحكمته حالة كونه يفصل الآيات الدالة على كمال قدرته وبالغ حكمته، وتفصيلها ذكرها مفصلة كرفع السماء، ومد الأرض، وتسخير الشمس والقمر، وجريهما إلى أجل مسمى، وغير ذلك مما هو مذكور في القرآن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 213 لعلكم عند مشاهدة هذه الآيات القواطع توقنون بأن هذا القرآن حق، وما نزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم صدق، وأن البعث والجزاءات لا شك فيه إذ القادر على هذا لا يعجزه بعث ولا حساب. هذه بعض الآيات السماوية، وأما الآيات الأرضية فقال فيها: وهو الله الذي مد الأرض وبسطها. وفرش الأرض ومهدها وجعل فيها رواسى شامخات وسقاكم ماء عذبا فراتا: أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً وَالْجِبالَ أَوْتاداً وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً؟! [سورة النبأ الآيات 6- 8] ، ومد الأرض وبسطها ليس دليلا على عدم كرويتها إذ هي مبسوطة ممدودة في نظرنا لنعيش عليها، وفي الواقع كرويتها أمر لا يشك فيه عاقل. وجعل- سبحانه وتعالى- من كل الثمرات زوجين اثنين ذكرا وأنثى، للتلقيح والإنتاج والحمد لله أثبت العلم الحديث أن في كل نبات ذكورا وإناثا، قد تكون في الزهرة الواحدة أو الشجرة الواحدة أو في شجيرات ويتم التلقيح إما بالريح أو الطير، وسبحان الله أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، وقيل جعل فيها من كل ثمرة صنفين كبيرة وصغيرة إلى آخر ما ذكروه، يغشى الليل النهار بجعل الليل كالغشاء للنهار فيغطي بظلمته ضياءه. شبّه إزالة النور بسبب ظلمة الليل بتغطية الأشياء الحسية بالأغطية حتى تسترها. إن في ذلك الذي ذكره الحق- سبحانه- من مد الأرض وبسطها وإرساء الجبال فيها مع تحركها ودورانها وما جعله الله فيها من الثمرات الناشئة عن الازدواج والتلقيح وتعاقب النور والظلمة مع طول كل وقصره إن في ذلك لآيات بيّنه للناظرين المتفكرين المعتبرين. وفي الأرض قطع متجاورات ترابها واحد، وماؤها واحد، وفيها زرع واحد، ثم تتفاوت الثمرة، بعضها حلو وبعضها مر، بعضها يثمر وبعضها لا يثمر. وفي الأرض جنات وبساتين من زروع ونخيل وأعناب وغيرها من الفواكه التي عرفت في غير جزيرة العرب، ومن عجائب النخل أن فيه صنوانا وغير صنوان، والمعنى أن أشجار النخيل قد تكون الواحدة لها رأسان وأصل واحد وقد تكون غير ذلك كبقية الشجر. وقيل المعنى: إن أشجار النخل قد تكون متماثلة وغير متماثلة مع اتحاد التربة والزرع يسقى ذلك كله بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل، أليس في هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 214 دليل على بديع صنعه وعظيم قدرته فإن القطع المتجاورة فيها الجنات متلاصقة، بل والأشجار المتشابكة المتداخلة، تسقى بماء واحد وبنظام واحد وبذرها واحد ثم نرى في بعضها نضجا وكمالا وطعما وحلاوة، وفي البعض جفافا ونقصا، وصغرا وحموضة بل وطعما متغيرا تمام التغير عن زميلتها، أليس هذا دليلا على وجود القادر المختار الواحد القهار، وأن الدنيا لم تسر بطبعها من غير مدبر لها حكيم؟ إن في ذلك لآيات وحججا، ولكن لقوم يعقلون ويتدبرون بفكر حر وعقل سليم. والحمد لله أثبت علماء الطبيعة الأحرار الذين درسوا الكون وما فيه أنه على نظام لو اختل قيد شعرة لهلك العالم وفنى، وهذا دليل على وجود الله وكمال قدرته على كل شيء. بعض أقوالهم والجزاء عليها [سورة الرعد (13) : الآيات 5 الى 7] وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7) المفردات: الْأَغْلالُ جمع غل وهو طوق تشد به اليد إلى العنق والمراد وصفهم بالإصرار الْمَثُلاتُ جمع مثلة، وهي عقوبة أمثالهم من المكذبين سميت بذلك لما بين العقاب والمعاقب عليه من مماثلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 215 بعد أن صدر السورة الكريمة بذكر الآيات القواطع الدالات على أنه على كل شيء قدير، وأن البعث والإعادة مما يدخل تحت القدرة. تعرض لبعض أقوالهم المنافية تماما لهذه المقدمات. المعنى: وإن تعجب يا محمد من قولهم في إنكار البعث فقولهم حقيق بالعجب جدير به إذ من قدر على رفع السماء بلا عمد، ثم استوى على العرش، وسخر الشمس والقمر إلى آخر الآيات السابقة سواء كانت علوية أم أرضية، من قدر على ذلك وعلى غيره، ولم يعي بخلقهن قادر بلا شك على أن يحيى الموتى بل هو أهون عليه!! إذن إنكارهم أعجوبة من الأعاجيب، والعجب: تغير نفسي عند خفاء السبب، وهو محال على الله فالمراد تعجب الرسول ومن حوله من المؤمنين. قالوا: أإذا كنا ترابا؟!! أننا لفي خلق جديد؟ قالوا مستبعدين ومحيلين البعث بعد أن كانوا ترابا؟!! أى أنبعث بعد أن كنا ترابا؟، فكان جزاؤهم على هذا.. أولئك الكاملون في الضلال المتمادون في الكفر والعناد هم الذين كفروا بربهم وأولئك هم المصرون على ما هم عليه فلا أمل فيهم البتة، وينظر إلى هذا قول الشاعر العربي لهم عن الرشد أغلال وأقياد وقيل المعنى: أولئك يغلون يوم القيامة بالأغلال إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ [سورة غافر الآيتان 71 و 72] . وأولئك هم أصحاب النار الملتزمون لها دائما هم فيها خالدون إلى ما شاء الله. ويستعجلونك بالسيئة والعذاب الذي أنذرتهم به، استهزاء بك وتكذيبا لك قبل الحسنة من الإمهال أو الإيمان، ولا غرابة فهم القائلون اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [الأنفال 32] . يستعجلونك بالعذاب وقد خلت من قبلهم المثلات، وحلت بمن سبقهم العقوبات لما كذبوا واستعجلوا العذاب، وإن ربك لذو مغفرة للناس حالة كونهم ظالمين، نعم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 216 هو يقبل التوبة من عباده ويعفو عن السيئة، وقد كتب على نفسه الرحمة لمن يتوب توبة نصوحا، وإن ربك لشديد العقاب لمن أصر على الذنب ولم يرجع نادما على ما فعل وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [الشورى 40] وَما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [فصلت 46] . ومع هذا كله يقول الذين كفروا: لولا أنزل عليه آية من ربه! لم يكتفوا بالآيات التي نزلت على محمد صلّى الله عليه وسلم. عجبا لهم وأى عجب؟! ألم يكفهم أن الله أنزل القرآن حجته الباقية وآيته الخالدة فقيل لرسول الله تطمينا لقلبه: إنما أنت منذر ورسول، وما عليك إلا البلاغ، فلا يهمنك أمرهم ولا تعبأ به، لم يكتفوا بالقرآن وطلبوا معجزة موسى وعيسى من انقلاب العصا حية وإحياء الموتى، فرد الله عليهم بقوله: لكل قوم هاد من الأنبياء يأتى إليهم ومعه معجزة تتلاءم مع طبيعتهم وفنهم الذي برعوا فيه وقيل المعنى: إنما أنت رسول، ولكل قوم هاد هو الله- سبحانه وتعالى- يلجئهم إلى الخير وحده لا دخل لأحد غيره. من مظاهر علمه وحكمته [سورة الرعد (13) : الآيات 8 الى 11] اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَما تَزْدادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 217 المفردات: تَغِيضُ الْأَرْحامُ تنقصه الأرحام في زمن أو جسم يقال: غاض الماء إذا جف ونقص الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ ما غاب وما حضر مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ مستتر بالليل وقيل ظاهر فيه وَسارِبٌ بِالنَّهارِ سرب: ذهب، وسارب: ذاهب بالنهار، أى ظاهر فيه. وقيل: المراد متوار فيه فهو من الأضداد في اللغة مُعَقِّباتٌ جمع معقبة والتاء للمبالغة لا للتأنيث، والمراد ملائكة يتعاقبون بالليل والنهار والٍ ناصر ينصرهم. المناسبة: يقول الله لنبيه: أنت منذر فقط، ولا عليك شيء بعد هذا ولكل قوم هاد ورسول، معه معجزاته المناسبة، المؤيدة له تبعا لعلم دقيق وحكم سامية إذ الله يعلم الغيب والشهادة إلخ.. الآيات. وعلى الرأى الثاني في تفسير وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ فقد أتى بهذه الآيات للإشارة إلى أن هذه قدرته وهذا علمه فهو وحده القادر على هدايتهم بأى شكل، وأما أنت فنذير فقط. المعنى: الله وحده هو الذي يعلم ما تحمله المرأة في بطنها أهو ذكر أم أنثى؟ الله وحده يعلم الجنين في بطن أمه على أية كيفية يكون وضعه!! وفي أى وقت يكون مولده فالأشعة الحديثة لا تعلم إن كان الجنين ذكرا أم أنثى نعم أثبتت التجارب أن الله وحده هو الذي يعلم ذلك علما قطعيا لا شك فيه. وكثيرا ما قالوا: إن في بطن فلانة ذكرا ثم يكون أنثى! وصدق الله. الله يعلم ما تحمل كل أنثى ويعلم ما تنقصه الأرحام وما يزداد، والنقص والزيادة اللتان يعلمهما العالم البصير شاملان لكل نقص حسى أو معنوي وكذا الزيادة، وكل شيء عنده- تبارك وتعالى- بقدر قدره، وقضاء قضاه إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ وهذه الآية الكريمة تصف المولى- جل شأنه- بإحاطة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 218 العلم وأنه يعلم ما غاب وما حضر، وأنه يعلم الباطن الذي خفى عن الخلق كما يعلم الظاهر المشاهد، وهو الكبير المتعالي عما يقوله المشركون السفهاء. وإذا كان المولى يعلم السر والجهر والغيب والشهادة فسواء منكم أيها الناس من أسر القول وحدث به نفسه، ومن جهر به ليسمعه غيره يستوي هذا وذاك فالله عالم بكل شيء سواء عنده من هو مستتر في الظلمات، ومن هو ظاهر في الطرقات، من هو مستتر بالليل، ومن هو سارب وذاهب بالنهار على وجه السرعة والوضوح لكل فرد من الظاهر أو المستتر معقبات من الملائكة يتعاقبون على حفظه بالليل والنهار في وقت صلاة الصبح وصلاة العصر يتبادلون الحفظ والرعاية كما ورد في الحديث. له معقبات من بين يديه ومن خلفه أى من أمامه ومن خلفه، والمراد من كل جهة هؤلاء الملائكة الحفظة يحفظونه من الوحوش والهوام والأخطار لطفا من المولى به وهم يحفظونه بأمر الله وإذنه وهذا معنى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ فمن في الآية بمعنى الباء، وقيل المعنى: يحفظونه عن أمر الله لا عن أمر أنفسهم فهم موكلون به يحفظونه من الله أى عن أمره كقوله تعالى: أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ أى عن جوع وقيل المعنى: يحفظونه من الله أى من ملائكة العذاب حتى لا تحل بهم عقوبة لان الله لا يغير ما بقوم من نعمة وحفظ ورعاية حتى يغيروا ما بأنفسهم من الإيمان والعدل والاستقامة، ولا يظلم ربك أحدا. نعم لكل إنسان منا حفظة يحفظونه من بأس الله وعذابه فإذا أعلم أنه ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد راقب ربه وخشي حسابه فاستقام أمره، وإذا كان الله قد جعل للإنسان حفظة يحفظونه بأمر الله فكيف يصاب بسوء؟ نعم يصاب إذا قدر له ذلك فهم يحفظونه من أمر الله بمعنى أن ذلك مما أمرهم به لأنهم لا يقدرون أن يدفعوا أمر الله. إن الله لا يغير ما بقوم من نعمة وعافية وعز واستقلال حتى يغيروا ما بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة التي ترضى الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم وتثبت دعائم الدولة. ولقد أثبت التاريخ الإسلامى صدق هذه النظرية القرآنية فالله لم يغير ما كان عند الأمة الإسلامية من عز ورفاهية وعلم واقتصاد حتى غيروا ما بأنفسهم من الخير والأعمال الصالحة التي ترضى الله ورسوله، وتثبت ما بأنفسهم حيث حكموا بغير الجزء: 2 ¦ الصفحة: 219 القرآن، وتركوا دينهم، وقلدوا غيرهم، وشاعت بينهم الموبقات وانحلت أخلاقهم والأمل عندنا الآن ليحول الله ضعفنا إلى قوة وذلنا إلى عزة، وفقرنا إلى غنى، واحتلالنا إلى استقلال، وصدق الله: إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، والله على كل شيء قدير، وإذا أراد الله بقوم سوءا من احتلال وذل أو مرض وفقر ونحوهما من أسباب البلاء التي تكون بسبب أعمالهم وما كسبته أيديهم فلا راد له ولا معقب لحكمه، وفي هذا إيماء إلى أنه ينبغي ألا يستعجلوا السيئة قبل الحسنة فإن ذلك كله مرجعه إلى عالم خبير لا يرد له قضاء، وما لهم من دونه من وال وناصر. من مظاهر قدرة الله وألوهيته [سورة الرعد (13) : الآيات 12 الى 16] هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَهُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَما هُوَ بِبالِغِهِ وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (15) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَلا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 220 المفردات: الْبَرْقَ شرارة كهربائية تظهر في السماء من اتصال سحابتين مختلفتين في كهربتهما الرَّعْدُ هو صوت احتكاك الهواء الناشئ من تفريغ جزء منه بسبب احتراقه بالشرارة الصَّواعِقَ جمع صاعقة وسببها أن السحب قد تمتلئ بكهربة شديدة والأرض بكهربة أخرى مخالفة. فإذا اقتربت السحب من الأرض حصل احتكاك كهربائى تنشأ عنه صاعقة إذا صادفت شيئا أحرقته، وللبرق والرعد والصاعقة تفسيرات أخرى لا تلتئم في ظننا مع القواعد العلمية الحديثة يُجادِلُونَ الجدال شدة الخصومة الْمِحالِ الماحلة والكيد للأعداء ضَلالٍ ضياع وخسارة ظِلالُهُمْ جمع ظل وهو الخيال المقابل للشمس الذي يظهر للجرم بِالْغُدُوِّ جمع غداة وهي أول النهار وَالْآصالِ مفردها أصيل وهو ما بين العصر إلى المغرب. هذا امتداد لبيان صفات الله القدسية، ووصفه بمظاهر العلم والإحاطة، والقدرة والكمال، وتفرده بالألوهية والربوبية. المعنى: هو الله- سبحانه وتعالى- الذي يريكم البرق الخاطف، والنور اللامع، الذي يظهر فجأة ويختفى من تقارب سحابتين مختلفتين في الكهرباء، هو الذي يسخر البرق بشيرا بمطر يطمع فيه من له حاجة إليه، ونذيرا لمن يخاف المطر كمن في جرينه قمح أو شعير أو هو مسافر يضره المطر، يا سبحان الله! لك في خلقك شئون ونظام. وهو الذي ينشئ السحاب الثقال بالماء، ويسبح الرعد بحمده تسبيحا بلسان الحال لا بلسان المقال وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ وفي المأثور عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قوله إذا سمع صوت الرعد والصواعق: «اللهم لا تقتلنا بغضبك ولا تهلكنا بعذابك وعافنا قبل ذلك» رواه البخاري وأحمد ، وتسبيح الملائكة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 221 من هيبته وجلاله. وما أجهلك يا ابن آدم إنك لظلوم جهول يسبح الجماد في الأرض والسماء وتسبح الملائكة رهبة من جلاله، وأنت يا ابن آدم خلقت من مادة وروح ففيك شيء من الجماد وشيء من الملائكية (الناحية الروحية) ومع هذا فكثير منكم يا أبناء آدم لا تسبحون ولا تعبدون الله وحده. وهو يرسل الصواعق المحرقة المبيدة فيصيب بها من يشاء من خلقه. والحال أن الكفار مع هذا كله يجادلون في لله- سبحانه وتعالى- وفي رسوله وفي الحساب والجزاء وهو شديد المحال شديد البطش والكيد لأعدائه شديد الحيلة ينزل بأعدائه عذابه من حيث لا يشعرون، وهو القادر على أن ينزل عليكم العذاب من فوقكم ومن تحت أرجلكم فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة النمل آية 51] . له- سبحانه وتعالى- دعوة الحق، ودعاء الصدق، له وحده العبادة ومنه الاستعانة، وإليه التضرع وعليه التوكل، إذ هو وحده له دعوة الحق. سبحانه وتعالى، فهو الخالق والمبدئ والمعيد، والرحيم الودود، ذو العرش المجيد، فعال لما يريد، جل شأنه، وتباركت أسماؤه والذين يدعونهم من دونه كالأصنام والأوثان والأحجار والمعبودات لا يستجيبون لهم بشيء وكيف يستجيبون؟ وهم أضعف من الضعف، بل إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب، هؤلاء الشركاء لا يستجيبون لهم بشيء مما يريدونه من نفع أو إزالة ضر إلا استجابة كاستجابة الماء لمن بسط كفه إليه من بعيد ليبلغ فاه وهو عطشان فهل يجيبه الماء؟. إنه لا يجيبه لأنه جماد لا يعقل دعاء، ولا يشعر به. وما دعاء الكافرين أصنامهم، وما عبادتهم لهم إلا ضلال وخسران: وضياع وهلاك. ولله وحده- تبارك وتعالى- يسجد من في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن يسجدون سجود انقياد وامتثال طائعين إن كانوا مؤمنين ومكرهين إن كانوا كافرين. نعم لله يسجد ما في السموات وكل ما في الأرض من حيوان ونبات وجماد وإنسان وجن وملك، كلهم خاضعون منقادون للذي خلقهم وفطرهم بقدرته وإرادته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 222 وظلالهم خاضعة كذلك بالغدو والآصال. خاضعة لقدرة لله فهو الذي سخر الشمس وغيرها. أمر رسول الله أن يسألهم: قل يا محمد لهم: من رب السموات والأرض؟ ولما كانوا يقرون بأن الله خلقهما وهو ربهما ولا سبيل إلى إنكار ذلك أبدا أمر أن يجيب ويقول: قل: الله!! وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ [سورة الزخرف آية 9] . قل لهم أفاتخذتم من دونه أولياء؟!! أى وإذا كان الأمر كذلك وأنتم تقرون بأنه الخالق والرب للسماء والأرض فما بالكم اتخذتم من دونه أولياء عاجزين لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا؟! قل لهم: هل يستوي الأعمى عن طريق الحق والبصير به؟ بل هل تستوي الظلمات والنور؟ وجمع الظلمات وأفرد النور لأن طريق الحق واحد وطرق الباطل متعددة. بل أجعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه؟ فتشابه خلق الشركاء بخلق الله عندهم. والمعنى ليس الأمر على هذا يشتبه عليهم ويختلط، بل إذا فكروا بعقولهم وجدوا أن الله هو المتفرد بالخلق والإيجاد، وكل الشركاء أصنام لا تدفع عن نفسها ضرا. قل لهم يا محمد: قد بدا الصبح لذي عينين وظهر الحق جليا. الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار. هذا مثل للحق وأهله وللباطل وحزبه [سورة الرعد (13) : الآيات 17 الى 19] أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (18) أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 223 المفردات: أَوْدِيَةٌ جمع واد وهو المنفرج بين مرتفعين الذي يسيل فيه الماء بِقَدَرِها بمقدارها الملائم لها زَبَداً الزبد ما يعلو وجه الماء، ويقال له الغثاء والرغوة رابِياً منتفخا زائدا بسبب انتفاخه جُفاءً والجفاء ما يرمى به الوادي من الزبد والغثاء. بعد أن ضرب الله مثل الأعمى والبصير للمؤمنين والكافرين، ومثل النور والظلمات للإيمان والكفر. ضرب هنا مثلا للحق وأهله وللباطل وحزبه. المعنى: مثل الله- تبارك وتعالى- الحق الذي هو القرآن الكريم في نزوله من عند الله واستقراره في قلوب المؤمنين، وثباته فيها وانتفاعهم به بمقدار الحكمة موزونا بميزان العلم والمعرفة كُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ في المعاش والمعاد بالماء النازل من السماء السائل في أودية سيلانا مقدرا، هذا المقدار هو المناسب لكل واد حتى لا يحصل خطر من سيلان الماء فيه، ولأمر ما كان القرآن كالماء، وما ذاك إلا لأن الماء عليه قوام الحياة وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ والقرآن عليه نظام الكون وحياة العالم أجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 224 ومثل القرآن كذلك بالمعدن النافع من ذهب أو فضة أو حديد أو نحاس فهذا كله فيه خير الناس وينتفعون به في الحلية والمتاع وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ [سورة الحديد آية 25] . ومثل الباطل في سرعة زواله وعدم فائدته بالزبد الطافي فوق الماء، والغثاء الطافي فوق المعدن عند انصهاره بالنار فكل منهما خبيث سريع الزوال لا ينتفع به صاحبه ولا يؤثر على الماء الصافي ولا على المعدن الخالص. وهاك المثل بعبارة القرآن الكريم مشروحة شرحا أسأل الله أن أكون موفقا فيه أنزل الله- سبحانه وتعالى- من السماء ماء هو ماء المطر فسالت بذلك أودية خاصة- لا كل الأودية- بقدرها أى: بمقدارها الذي عرف الله أنه نافع غير ضار انظر إلى قوله: وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ وفي هذه العبارة تجوّز إذ الذي يسيل هو الماء، فاحتمل السيل الجاري في تلك الأودية زبدا وغثاء ورغوة مرتفعة رابية طافية فوق سطح الماء وهكذا الباطل يرتفع في أول الأمر ثم لا يلبث أن يمحى ويضيع ولا يبقى إلا الحق مثل الزبد يطفو ويعلو ثم يذهب ويبقى الماء وهل يؤثر الزبد على الماء لا. كذلك الباطل. وهناك زبد وغثاء آخر يطفو فوق المعدن الذي يسيل بواسطة النار هذا الزبد ينشأ مما يوقدون عليه في النار من ذهب وفضة أو حديد ونحاس وغيره يوقدون عليه لأجل الحلية في الذهب مثلا أو للمنفعة في الحديد، والأبحاث العلمية التي استخدمت الحديد والمعادن في هذه النهضة الحديثة شاهد عدل على ذلك. مثل ذلك التصوير الفنى الرائع يضرب الله مثلا للحق والباطل فأما عاقبة كل وهي التي تدفع العقلاء إلى اتباع الحق وأهله، والبعد عن الباطل وحزبه فها هي ذي. فأما الزبد الذي يعلو فوق الماء أو على المعدن فيذهب جفاء مرميا به بسرعة إذ لا خير فيه ولا نفع. أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض ويبقى فيها، والعاقبة له مهما علا الباطل، نعم أما الماء فيبقى في الأرض للانتفاع به في الشرب والسقي بأى صورة كانت بواسطة الآبار إن غار في الأرض وأخذا باليد إن بقي على ظهرها وهكذا المعدن شأنه كالماء. أما الحق والقرآن أمام الشرك وزخرف الباطل فهما الباقيان النافعان المفيدان للناس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 225 جميعا إما مباشرة لمن تمسك بهما أو بالتبع لمن كفر بهما فحضارة أوروبا التي هي فيها لا نبالغ إن قلنا إنها من الإسلام عن طريق مدارس القسطنطينية والأندلس، وفي الحروب الصليبية يعرف هذا الأحرار في عقولهم وتفكيرهم، وللأسف يتمسك الغربي بما يدعو إليه ديننا من الحق والعدل والكرامة والعزة والصدق وعدم النفاق، ونتمسك نحن بباطل عقائدهم وزيف أخلاقهم!! كذلك يضرب الله الأمثال للناس جميعا للذين استجابوا لربهم وآمنوا بالحق والقرآن المثوبة الحسنى! والذين لم يستجيبوا له ولم يؤمنوا لهم العقاب الشديد والعذاب الأليم، بدليل لو أن لهم ما في الأرض جميعا من مال ومنافع ومثله معه لأحبوا من صميم قلوبهم وعن طيب خاطرهم أن يفتدوا به أنفسهم. أولئك لهم الحساب السيّئ الشديد ومأواهم جهنم، وبئس المهاد مهادهم. أفمن يعلم أنما أنزل إليك من القرآن من عند ربك الذي مثل بالماء الصافي والمعدن الخالص النافع هو الحق الذي لا شك فيه كمن هو أعمى بصيرة وقلبا لا يشاهد الشمس في رأد الضحى كأنه يقول: أبعد ما بين حال كل من الباطل والحق ومآلهما يتوهم المماثلة أحد؟ إنما يتذكر بذلك أولو الألباب. ومن هم؟!! من هم أولو الألباب؟ وما جزاؤهم؟ [سورة الرعد (13) : الآيات 20 الى 24] الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23) سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 226 المفردات: يَنْقُضُونَ النقض: الفك وأصله للحبل ثم استعمل في العهد لأنه يشبهه يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ الخشية: الخوف مع العلم بمن تخشاه وَيَدْرَؤُنَ يدفعون عَدْنٍ أى: إقامة. بعد أن ضرب الله المثل لمن اتبع الحق ولمن اتبع الباطل، وأبان أنه لا يتذكر إلا أولو الألباب ناسب أن يذكر من هم أولو الألباب وما جزاؤهم. المعنى: إنما يتذكر بالأمثال ويتعظ بها أولو الألباب وأصحاب العقول، فالذكرى والموعظة لا تنفع إلا المؤمنين أولى الألباب، ولكنا نرى أناسا يصفون الذين يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، ويتفننون في جمع المال من شتى الطرق بأنهم أولو الألباب أما القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يبين لنا أصحاب العقول ويصفهم بصفات ثمانية. 1- الذين يوفون بعهد الله. وهو ما عقدوه على أنفسهم فيما بينهم وبين ربهم وفيما بينهم وبين أنفسهم، وفيما بينهم وبين الناس، وقد شهدت فطرتهم السليمة به. وأنزل عليهم في الكتاب إيجابه. ولا ينقضون الميثاق وهو العهد الموثق المؤكد الذي وثقوه بينهم وبين الله وبينهم وبين العباد من العقود والمعاملات والعهود والالتزامات وفي الحديث «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر» وقال قتادة: إن الله ذكر الوفاء بالعهد والميثاق في بضع وعشرين موضعا في القرآن عناية بأمره واهتماما بشأنه. 2- والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل، وظاهر الآية يشمل كل ما أمر الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 227 بصلته ونهى عن قطعه من حقوق الله وحقوق جميع العباد خصوصا حقوق الأقارب التي هي صلة الرحم من باب أولى. 3- ويخشون ربهم، والخشية من الله مرتبة العلماء وسمة المقربين من الأتقياء إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [سورة فاطر آية 28] وهي صفة تحملهم على فعل كل ما أمروا به واجتناب كل ما نهوا عنه. 4- ويخافون سوء الحساب، فهم يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا، ويزنون أعمالهم قبل أن توزن عليهم لأنهم يخافون الحساب الذي يستقصى كل الأعمال مع المناقشة في الصغير والكبير. 5- والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم. والصبر حبس النفس على ما تكره ويكون بفعل الطاعات والتكليف، واجتناب المنهيات والمنكرات، والرضا بقضاء الله وقدره في الرزايا والمصائب، والصبر المطلوب لأنه عمل نفسي قلبي شرط فيه أن يكون ابتغاء مرضاة الله، وطلبا لجزاء الصبر لا حبا في الرياء والسمعة. 6- وأقاموا الصلاة، وإقامتها إتيانها مقومة كاملة تامة الأركان والهيئات مع الخشوع الكامل والاتجاه إلى الله، والاستحضار العرفي إن لم يكن الحقيقي وذلك يكون إذا تذكرت أنك واقف بين يدي الله وأمام جبار السماء والأرض. الواحد القهار، وعليك أن تروض نفسك على ذلك وتعودها الوقوف بأدب أمام الله فلا يشغلك شيء أبدا عن الصلاة بحيث لا تفكر إلا فيها، يا أخى حاول أن تشعر قلبك بخشية الله وتملأ نفسك بالخوف منه وأن تفهم أن الصلاة الناقصة تلف في خرق بالية وترد على صاحبها فتظل تدعو عليه إلى يوم القيامة. 7- وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية، والواقع هو الذي يفهمنا سر تكرار القرآن لطلب الإنفاق فلو أنفق الناس بعضا من أموالهم، وامتثلوا أمر ربهم ما كنا في حاجة أبدا إلى قانون يحد من تصرفهم، ولما شاعت تلك الأفكار الهدامة التي تقوض صرح مجتمعنا. 8- ويدرءون بالحسنة السيئة وهذه هي آخر صفة لأصحاب العقول إذ من العقل أن ندفع السيئة بالحسنة فالحسنات يذهبن السيئات، والواقع أثبت أن من الخير للشخص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 228 أن يعامل أخاه معاملة حسنة معاملة بالشفقة والرحمة حتى يسل سخائمه، ويميت حسده وبغضه بالإحسان إليه. أحسن إلى الناس تستعبد قلوبهم ... فطالما استبعد الإنسان إحسان أما جزاؤهم في الدنيا السعادة والهدوء، والراحة واطمئنان البال ولظهور هذه لم تذكر في القرآن وأما في الآخرة: فأولئك لهم عقبى الدار التي هي الجنة العالية ذات القطوف الدانية، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ويكفى أنها نزل الرحمن الذي أعده لأحبابه وأوليائه فهل بعد ذلك شيء؟!!. ومن صلح من آبائهم سواء أكان ذكرا أم أنثى وأزواجهم، وذرياتهم الأقربين يكونون معهم ليأنسوا بهم هذا بشرط أن يكونوا مستحقين لذلك والا فالحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم لفاطمة «يا فاطمة اعملي فلن أغنى عنك من الله شيئا» وفي القرآن يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ هؤلاء في الجنة على سرر متقابلين ومعهم أهلهم إكراما لهم وأنسابهم، ثم تمر عليهم الملائكة تحييهم يا له من شرف كبير الملائكة تستقبل وتحيى المؤمنين الموصوفين بما ذكر، نعم يدخلون عليهم من كل باب قائلين سلام عليكم بما صبرتم، وأمن عليكم ورحمة من ربكم بسبب صبركم وتحملكم فنعم عقبى الدار. ورد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يأتى قبور الشهداء على رأس كل حول فيقول: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار ، وكذا كان يفعل أبو بكر وعمر وعثمان- رضى الله عنهم-.. من هم الأشقياء؟ وما جزاؤهم؟ [سورة الرعد (13) : آية 25] وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَيَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 229 بعد ما ذكر المتقين وأصحاب العقول وصفاتهم وجزاءهم ذكر حال الأشقياء وجزاءهم وهذا ديدن القرآن يتكلم على الطائع والعاصي ليظهر الفرق واضحا جليا فيكون ذلك أدعى إلى الامتثال والعمل الصالح. المعنى: والذين ينقضون عهد الله الذي ألزمه عباده وأمر به في كتابه مما يشمل عهد الله والناس، وما ركبه في عقولهم من دلائل التوحيد والنبوات ونقضه عدم العمل به عنادا وكفرا من بعد ميثاقه وتوكيده، وإلزامهم به عن طريق العقل والطبع والشرع والنقل. ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل من الإيمان والامتثال وصلة الرحم فالكفر وعدم الإيمان بجميع الرسل، وقطع الرحم والأخوة، ومنع المساعدات التي يوجبها الوطن والضمير الإنسانى في كل ذلك قطع لما وصله الله وأمر به. ويفسدون في الأرض بأعمالهم الخبيثة التي ينشأ عنها الحرب والهلاك والدمار والفساد. هؤلاء الناقضون العهد الذين لا يخافون ربهم ولا يخشون حسابه، القاطعون الرحم المفسدون في الأرض لهم اللعنة والطرد من الرحمة، والبعد عن خيرى الدنيا والآخرة ولهم سوء الدار لما اجترحوا من سيئات الأعمال وارتكبوا من شرور الآثام.. من أوصافهم أيضا [سورة الرعد (13) : الآيات 26 الى 29] اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 230 المفردات: وَيَقْدِرُ أى: يضيق أو يعطى بقدر الكفاية فقط مَتاعٌ شيء قليل ذاهب مأخوذ من قولهم متع النهار إذا ارتفع وهو لا بد زائل بالزوال طُوبى من الطيب أى: العيش الطيب ويشمل النعمى والخير. والحسنى. والكرامة والغبطة وقيل: هي اسم لشجرة في الجنة. المعنى: هذا امتداد لوصف الأشقياء الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض، أولئك لهم سوء الدار. وفرحوا بالحياة الدنيا وقالوا، لولا أنزل عليه آية من ربه إلخ. ولما نعتهم الله بقوله: لهم سوء الدار كأن سائلا سأل وقال: كيف هذا؟ مع أننا نرى هؤلاء الأشقياء منعمين في الدنيا فكيف قيل فيهم لهم سوء الدار. والجواب أن الله يبسط الرزق لمن يشاء بقطع النظر عن كونه مؤمنا أو كافرا لأن الدنيا عنده لا تزن جناح بعوضة فالمؤمن قد يضيق عليه الرزق ابتلاء واختبارا، فبسط الرزق للكافر لا يدل على الكرامة، والتقتير على المؤمن لا يدل على الإهانة، وعلى هذا فقوله تعالى: اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ جملة معترضة بين أوصاف الأشقياء الكفار. وهم فرحوا بالحياة الدنيا واطمأنوا ولم يذكروا الآخرة ولا حسابها ولم يعملوا لها أبدا، وما الحياة الدنيا بالنسبة للآخرة إلا متاع زائل وعرض فإن حائل يزول بسرعة كما يزول متع النهار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 231 وهم لسوء فهمهم وتقديرهم يقولون: لولا أنزل عليه آية من ربه كأنهم لم يقتنعوا بالآيات المنزلة على النبي محمّد صلّى الله عليه وسلّم التي أهمها القرآن، يا عجبا كل العجب!! إن هذا لعجيب. وما أشد عنادكم وما أعظم كفركم!! الله يضل من يشاء، من يضله فلا سبيل إلى اهتدائه ولو أنزلت عليه كل آية، ويهدى إليه من أناب ورجع عن غيه وشيطانه. ويهدى إليه الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم وتلين جلودهم، وتهدأ نفوسهم لذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب الثائرة، وتهدأ النفوس المضطربة، هؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى وخير، ومثوبة وكرامة لهم يوم القيامة وحسن مآب ولا حرج على فضل الله. رد على المشركين وبيان قدرة الله على كل شيء وتسلية النبي صلّى الله عليه وسلم [سورة الرعد (13) : الآيات 30 الى 34] كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 232 المفردات: قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ شققت وتصدعت حتى صارت قطعا يَيْأَسِ المراد يعلم، وقيل هو يأس على حقيقته قارِعَةٌ داهية تفجؤهم ونكبة تحل بهم فَأَمْلَيْتُ الإملاء والإمهال أن يترك الشخص ملاوة من الزمن في خفض وأمن كالبهيمة يملى لها في المرعى لتأكل ما تشاء قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ رقيب وحفيظ عليها بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بباطل من القول لا حقيقة له في الواقع أَشَقُ أشد وأنكى واقٍ حافظ. طلبوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم آية خلاف القرآن فرد الله عليهم بأن المسألة ليست آية تأتى، وإنما الهداية من الله، والرسول مبشر ونذير فقط، وهنا يقول: إن محمدا رسول كبقية الرسل وآيته القرآن، ولو أنزل عليكم ما تطلبونه وزيادة لما آمنتم: المعنى: مثل ذلك الإرسال الذي سبق مع الأمم الماضية أرسلناك يا محمد إرسالا له شأن وفضل، أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها الأمم فهي آخرها، وأنت خاتم الأنبياء والمرسلين لتتلو عليهم وتقرأ الذي أوحيناه إليك، وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. فكيف يطلبون بعد ذلك آية؟!! وهم يكفرون بالرحمن المنعم بجلائل النعم، والذي وسعت رحمته كل شيء في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 233 الكون، ومن رحمته إرسالك من أنفسهم وأنت عزيز عليك عنتهم حريص عليهم بالمؤمنين رءوف رحيم هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ [سورة الجمعة آية 2] ، وهذا القرآن الذي معك فيه شفاء لما في الصدور وهدى ورحمة.. فكيف يكفرون بالرحمن؟!! قل لهم يا محمد: هو ربي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم الذي كفرتم به وأشركتم به غيره وهو الله الأحد الفرد. الصمد. الذي لم يلد، ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، عليه وحده توكلي وإليه وحده توبتي ورجوعي، وهذا بيان لفضل التوبة ومقدارها، وحث عليها إذ أمر بها- عليه الصلاة والسلام- وهو المنزه عن اقتراف الذنوب والآثام. وروى أن نفرا من مشركي مكة فيهم أبو جهل، وعبد الله بن أمية جلسوا خلف الكعبة ثم أرسلوا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأتاهم فقال له عبد الله: إن سرك أن نتبعك فسير لنا جبال مكة بالقرآن فأذهبها عنا حتى تنفسخ فإنها أرض ضيقة فلست- كما زعمت- بأهون على ربك من داود حين سخر له الجبال تسير معه، وسخّر لنا الريح فنركبها إلى الشام نقضي عليها ميرتنا وحوائجنا، ثم نرجع من يومنا، فقد سخرت لسليمان الريح كما زعمت فلست بأهون على ربك من سليمان بن داود. وأحيى لنا جدك قصى ابن كلاب أو من شئت أنت من موتانا نسأله أحق ما تقول أنت أم باطل! فإن عيسى كان يحيى الموتى ولست بأهون على الله منه فأنزل الله: وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ. ولو ثبت أن قرآنا سيرت به الجبال وزحزحت عن أماكنها كما فعل بالطور لموسى، أو لو ثبت أن قرآنا شققت به الأرض وجعلت أنهارا وعيونا كما حدث للحجر حين ضربه موسى بعصاه، أو لو ثبت أن قرآنا كلم به أحد الموتى في قبورهم وأحياهم بتلاوته كما وقع لعيسى- عليه السلام- لو ثبت هذا لشيء من الكتب لثبت للقرآن المنزل على محمد لما اشتمل عليه من الآيات الكونية الدالة على عظم قدرة الله وبديع صنعه، ولما انطوى عليه من الحكم والأحكام التي فيها صلاح العباد في المعاش والمعاد، ولما فيه من القوانين الاقتصادية والسياسية والعمرانية التي تكفل للأمة أن تعيش عيشة سعيدة وتكون خير أمة أخرجت للناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 234 لو أن ظهور أمثال ما اقترحوه مما تقتضيه الحكمة الإلهية لكان مظهر ذلك هو القرآن الذي لم يعدوه آية. وقيل المعنى: لو أن قرآنا وقع به تسيير الجبال وتقطيع الأرض وتكليم الموتى، لما آمنوا به كقوله تعالى. وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ [سورة الأنعام آية 111] . بل لله القدرة على كل شيء وهو القادر على الآيات التي اقترحوها وغيرها إلا أن علمه بأن إظهارها مفسدة يصرفه عن إظهارها ويمنعه. وهم يكفرون بالرحمن في كل حال وعلى أى وضع، ولو ثبت أن قرآنا سيرت به الجبال إلخ الآية. أنسوا!! أفلم يعلم الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من غير أن يشاهدوا الآيات والمعجزات. وقيل: إن المراد أفلم ييأس الذين آمنوا ويقنطوا من إيمان هؤلاء الكفار لعلمهم أن الله- تعالى- لو أراد إيمانهم لهداهم، وذلك أن بعض المؤمنين تمنوا نزول الآيات التي اقترحها الكفار طمعا في إيمانهم إذ لو أراد هدايتهم لهداهم. ولا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة تقرعهم، وداهية تفجؤهم في أنفسهم وأموالهم وديارهم أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتى وعد الله وينتهى هذا العالم، وهكذا يحقق الله وعده ووعيده فهم دائما في حروب وفتن لا تنتهي أبدا إن لم تكن حربا حقيقية تكن حربا باردة، وأما أنت أيها الرسول فلا يحزنك أمرهم، ولا يؤلمك استهزاؤهم، ولقد استهزئ برسل من قبلك، ونالوا ما نالوا من قومهم، وقالوا لهم ما قالوا مما علمته في قصصهم، ولكن كانت العاقبة والدائرة عليهم ولقد أملى الله لهم، وأمهلهم حتى ارتكبوا التعاسيف وظن المسلمون بالله الظنون، ثم أخذهم ربك بالعذاب الأليم أخذ عزيز مقتدر فكيف كان عقاب؟! فهل من مدكر؟! أفمن هو قائم على كل نفس بالحفظ والرعاية والعناية والكلاءة وهو المولى القدير كمن ليس بهذه الصفة من معبوداتكم التي لا تضر ولا تنفع؟ بل إن يسلبهم أحقر الحيوانات شيئا لا يستنقذوه منه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 235 أفمن هو قائم على الكون كله بالحفظ والرعاية والخلق والإيجاد كشركائهم الذين اتخذوهم آلهة من دون الله وجعلوا له شركاء! والمراد نفى المماثلة. قل لهم يا محمد: سموهم وانعتوهم من هم؟! بل أتنبئونه بشيء لا يعلمه في الأرض! مع أنه العالم بكل ما في السموات والأرض، بل أتسمونهم شركاء بظاهر من القول ليس له حقيقة واقعة، وليس له ظل في الخارج فكلامكم قول باطل زائل كاذب تقولونه بأفواهكم فقط. ليس لله شريك أبدا، بل زين للذين كفروا مكرهم، وصدوا عن سبيل الله بكل قواهم وما يملكون، والله متم نوره ولو كره الكافرون ومن يضلله الله فلا هادي له أبدا. ولهم عذاب أليم في الدنيا ولعذاب الآخرة أشد وأنكى، وما لهم من واق ولا حافظ يحفظهم من عذاب الله. يوم يأت لا تكلم نفس إلا بإذن الله!! وصف الجنة، ومناقشة المعترضين من أهل الكتاب والمشركين [سورة الرعد (13) : الآيات 35 الى 39] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا واقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 236 المفردات: مَثَلُ الْجَنَّةِ صفتها العجيبة التي تشبه المثل في غرابتها الْأَحْزابِ جمع حزب ويطلق على الطائفة المتحزبة المجتمعة لشأن من الشئون مَآبِ مرجع واقٍ حافظ أَجَلٍ الأجل المدة والوقت كِتابٌ قيل: هو الحكم المعين الذي يكتب على العباد على حسب ما تقتضيه الحكمة أُمُّ الْكِتابِ أصله قيل: هو علم الله وقيل غيره. هكذا ديدن القرآن إذا وصف النار وعذابها قفّى على ذلك بذكر الجنة ونعيمها وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً [سورة الفرقان 11- 15] إلى آخر الآيات من السورة. المعنى: يريد الله- تبارك وتعالى- أن يمثل الغائب بما هو مشاهد معروف عندنا، تقريبا للأفهام وتوجيها للأذهان، وإلا فالجنة على حقيقتها شيء لا يدرك كنهه إلا بعد دخولها والتمتع بها- إن شاء الله- فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ [سورة الزخرف آية 71] . فيما يتلى عليكم صفة الجنة التي وعدها الله للمتقين تجرى من تحتها الأنهار سارحة في أرجائها وجوانبها وحيث شاء أهلها يفجرونها تفجيرا، ويوجهونها حيث أرادوا مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ [سورة محمد آية 15] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 237 أكلها دائم وظلها دائم وفيها الفواكه والمطاعم والمشارب بلا انقطاع ولا فناء وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ. لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ [سورة الواقعة الآيتان 32 و 33] وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا [سورة الإنسان آية 14] تلك عقبى الذين اتقوا وهذا جزاؤهم، وعقبى الكافرين وجزاؤهم ونهايتهم النار التي وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم. وهذا الذي مضى من وصف الجنة والنار، وغير ذلك مما نزل به القرآن. الناس فيه على صنفين: مصدق ومكذب، فالذين آتيناهم الكتاب من اليهود والنصارى وهم قائمون بمقتضاه، ومؤمنون حقا بما فيه يفرحون بما أنزل إليك من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة به. ومن الأحزاب من ينكر بعضه، نعم كان من أهل الكتاب عبد الله بن سلام، وتميم الداري من المؤمنين الكاملين، وبعضهم كان يتحزب على النبي ويؤلب عليه ككعب بن الأشرف وغيره من زعمائهم ورؤسائهم ينكرون بعض القرآن وهو ما لم يوافق ما حرفوه من كتبهم وشرائعهم المغيرة. وكيف تختلفون بين مصدق ومكذب؟ وهناك أساس واحد هو الذي يحتاج إليه المرء ليفوز بالسعادة، وهو ما أمر الله به نبيه فقال: قل يا محمد: إنما أمرت أن أعبد الله ولا أشرك به شيئا، إليه وحده أدعو وإليه وحده مآبي ومرجعي، فهذا هو التوحيد الخالص الكامل، وتلك الرسالة بإيجاز، دعوى إلى الله فقط وطاعة وإخلاص وعبادة واستعانة بالله وحده، وأما المرجع والمآب والحساب والجزاء فإليه وحده أيضا. ومثل ذلك الإرسال للرسل قديما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك كتابا هو القرآن وهو كتاب محكم الآيات، فيه الحكم الحق والقول الفصل، أنزلناه حكما بلسان عربي مبين فكان مبينا لمقاصده موضحا لمراميه لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ [سورة فصلت آية 42] . ولئن اتبعت يا محمد أهواءهم وآراءهم من بعد ما جاءك العلم من الله- سبحانه وتعالى- فليس لك من دون الله ولىّ ولا ناصر، وهذا وعيد وتهديد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعد الذي وصلوا إليه من الوقوف على أسرار الشرع والإلمام بالسنة النبوية والحجة المحمدية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 238 روى أن اليهود عابت رسول الله بكثرة النساء، وقالوا لو كان نبيا كما زعم لشغله أمر النبوة عن النساء . وقد لجوا في طلب الآيات كما تقدم، فرد الله عليهم ليس محمد بدعا من الرسل، ولقد أرسلنا قبله رسلا وكانوا بشرا يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ويفعلون كل ما يفعله البشر قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ [الكهف 110] وصدق الله فهذا تسجيل في القرآن لا يقبل شكا ولا جدلا وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَذُرِّيَّةً وفي الصحيحين أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «أمّا أنا فأصوم وأفطر، وأقوم وأنام، وآكل اللّحم، وأتزوّج النساء فمن رغب عن سنّتى فليس منّى» . وأما الآيات المقترحة فتلك نغمة رددها القرآن ورد عليها كثيرا بما يفيد أن الرسول رسول فقط والآيات من عند الله، وما كان لرسول أن يأتى بآية إلا بإذن الله وأمره، وقد جاءكم القرآن وكفى به معجزة خالدة باقية ثابتة على جهة التحدي والإفحام. والآيات لا تأتى اعتباطا ولكنها لحكمة وفي زمن، الله يعلمه لكل أجل كتاب أى: لكل مدة مضروبة ووقت معلوم كتاب مكتوب، وكل شيء عنده بمقدار إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ [سورة القمر آية 49] لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ [سورة الأنعام آية 67] وقيل المعنى: لكل كتاب أجل، أى لكل أمر كتبه الله أجل معين ووقت معلوم، فليست هناك آية مقترحة بنازلة قبل أوانها، ولا عذاب استعجلوه بنازل قبل أوانه، فالآجال والأعمار والأرزاق والأحداث، كل ذلك بقضاء الله وقدره، وله وقت محدود لا يتقدم ولا يتأخر فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [سورة الأعراف آية 34] . يمحو الله ما يشاء من الأحداث الكونية والإنسانية ويثبت ما يشاء من هذا كله في الخارج، وعنده- سبحانه وتعالى- أم الكتاب وهو اللوح المحفوظ، أو علمه- جل شأنه- ثابت أزلا لا يتغير ولا يتبدل كل شيء على حسب علمه ووفق إرادته، والمعنى يمحو ويثبت في الخارج ما يشاء، وعلمه لا يتغير ولا يتبدل وهو موافق لما في اللوح المحفوظ، ومظاهر المحو والإثبات نراها في كل لحظة من ليل ونهار، وشمس وقمر، ونور وظلام، وحياة وموت، وقوة وضعف، وزرع وحصاد إلى آخر ما في الأحداث الكونية، هذا المحو والإثبات خاضع لعلمه القديم الذي لا يتغير ولا يتبدل، وعلى هذا فالآية رد- أيضا- على اقتراحهم الآيات حيث كان المحو والإثبات خاضع لمشيئة الله ولقانونه الذي وضعه، وهو لكل كتاب أجل محدود لا يتقدم ولا يتأخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 239 وللعلماء في تفسير هذه الآية أقوال نجملها والله أعلم بكتابه: 1- قال ابن عباس: يدبر أمر السنة فيمحو ما يشاء إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت. 2- قال مجاهد: مثل هذا. 3- قال الحسن: يمحو الله من جاء أجله ويثبت من بقي أجله. 4- قال عكرمة: يمحو الله القمر ويثبت الشمس. 5- قال الربيع: يقبض الله الأرواح في النوم فيميت من يشاء ويمحوه، ويرجع من يشاء فيثبته. 6- وقال آخرون: يمحو الله ما يشاء من الشرائع بالنسخ ويثبت ما يشاء بلا نسخ. 7- وقال بعضهم: يمحو الله المحن والمصائب بالدعاء. الرسول صلّى الله عليه وسلم مبلغ والله محاسب ومنتقم [سورة الرعد (13) : الآيات 40 الى 43] وَإِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَاللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 240 المفردات: أَطْرافِها جوانبها مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ المعقب الذي يتعقب الشيء فيبطله بالنقد والتجريح. المعنى: يريد الله- سبحانه وتعالى- تحديد موقف الرسول من مطالب الكفار العنادية التي يطلبونها من النبي صلّى الله عليه وسلّم تطمينا لخاطره وتهدئة لنفسه ووعدا بنصره.. وإن نرينك بعض الذي وعدناهم من العذاب في الدنيا أو توفيناك قبل هذا فاعلم أن عليك شيئا واحدا تؤديه كاملا ألا وهو تبليغ كل ما أنزل إليك من ربك- وإن لم تفعل فما بلغت رسالته- ولا يهمنك شيء بعد هذا أبدا فالله معك وحافظك وعاصمك من الناس، وعلى الله وحده حسابهم وجزاؤهم. أنسوا ولم يروا أن الله- سبحانه وتعالى- يأتى إلى أرض الكفر فينقصها شيئا فشيئا وأن أرض الإسلام تتسع شيئا فشيئا حتى دخل الناس في دين الله أفواجا وسبح المسلمون وكبروا بحمد الله ونعمته. ولا غرابة في ذلك فالله يحكم لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه، بل قوله الفصل وأمره إذا أراد شيئا أن يقول له: كن فيكون، وهو سريع الحساب، وقد كنا نفهم في الآية أنها دليل على فرطحة الأرض وأنها ليست تامة الكروية بل هي منبعجة ناقصة الأطراف، ولكن يظهر أن الآية والله أعلم نص في المعنى الأول. وقد مكر الذين من قبلهم من كفار الأمم الماضية بأنبيائهم كعاد وثمود وفرعون وإخوان لوط واستنفدوا جهدهم وطاقتهم في إطفاء نور الحق، أو لم يعلموا أن لله وحده المكر جميعا، وقد أبى الله إلا إتمام نوره ولو كره الكافرون.. والله وحده يعلم ما تكسب كل نفس في كل حركة تتحركها، وسيعلم الكفار- يوم لا يغنى عنهم ذلك شيئا- لمن عقبى الدار؟!! وفي هذا سلوى للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث يعلم أن ديدن الناس قديما مع إخوانه الرسل وحديثا معه لم يتغير ولم يتبدل، وفي هذا تقوية لعزمه ببيان أن النصر في النهاية له وأن الدائرة على الكفار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 241 روى عن ابن عباس- رضى الله عنه- قال: قدم على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أسقف من اليمن فقال له- عليه السلام-: «هل تجدني في الإنجيل رسولا؟» قال: لا. فأنزل الله- تعالى-: وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا للنّاس تخرجهم من الظّلمات إلى النّور وتهديهم إلى طريق الحقّ والعدل والكرامة وتنقذهم من ضلال الجاهلية وظلم الأوثان إلى نور التوحيد الخالص، وتنقل العالم إلى مجتمع كامل ومدنية فاضلة. قل لهم يا محمد: حسبي الله شاهدا ومؤيدا لرسالتي، بما أنزله على من القرآن المعجز ومن الآيات البينات التي تدل على صدقى وأنى رسول حقا من عند الله وكفى بالله الذي أنزل القرآن يعلمه شهيدا بيني وبينكم!! ومن عنده علم الكتاب أى: جنس الكتاب المنزل الصادق على التوراة والإنجيل فإن علماء اليهود والنصارى الأحرار الذين آمنوا بالله وصدقوا برسول الله يعلمون حقا أن النبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم هو المبشر به عندهم وأنه النبي العربي المبعوث في آخر الزمن وهو خاتم الأنبياء والمرسلين وقد كان هذا في الإنجيل والتوراة شاهد صدق على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم ولكن يد التحريف والتغيير قد امتدت إليه الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [سورة البقرة آية 146] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 242 سورة إبراهيم عليه السلام مكية حكاه القرطبي في تفسيره عن الحسن وعكرمة إلا آيتين منها قوله أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ إلى قوله: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية. وهي امتداد لما في سورة الرعد، وتوضيح لما أجمل فيها أو اختصار لما وضح في سابقتها، ألا ترى أن كلا منهما تكلم عن القرآن وعن الآيات الكونية، وإثبات البعث. وضرب الأمثال للحق والباطل، والكلام على مكر الكفار وعاقبته إلى آخر ما في السورة. نعمة إنزال القرآن وإرسال النبي وأثرهما [سورة إبراهيم (14) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3) وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 243 المفردات: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتيسيره وتسهيله وَوَيْلٌ الويل الهلاك والعذاب يَسْتَحِبُّونَ يؤثرونها لمحبتهم لها يَبْغُونَها عِوَجاً يطلبون لها زيغا وميلا. استفتاح لسورة إبراهيم موافق لأغلب السور المكية التي بدأت بذكر حروف تنطق بمسمياتها هكذا ألف لام. را، وفي السورة ذكر للقرآن وإثبات للتوحيد والبعث، وذكر لبعض القصص. المعنى: هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد لتخرج الناس من ظلمات الكفر والجهل والضلالة إلى نور الإيمان والعلم والهداية، أخرج القرآن الكريم بما فيه من أصول الحكم الصحيح السليم، وأسس العمران والحياة الكريمة والمدنية الفاضلة التي هي أمنية الفلاسفة قديما، وحاول الإتيان بها الأنبياء والرسل السابقون، أخرج الناس من الظلمات التي كانت تغشاهم والجهالات والضلالات إلى نور الدين والحق والفضيلة والمجتمع الكامل!. أخرجتهم يا محمد بدعوتك وهدايتك وبشارتك وإنذارك بأمر الله وإذنه وتسهيله وتيسيره ولطفه وتوفيقه، وأسند الفعل إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم لأنه الداعي والهادي إلى ذلك، أخرجتهم من الظلمات إلى النور الذي هو صراط الله العزيز الحميد، وصراطه شرعه لعباده وطريقه المستقيم الذي لا عوج فيه ولا نقص لأنه صراط العزيز الذي لا يغلب ولا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض، الكامل في استحقاق الحمد والمحمود في الأرض وفي السماء الذي له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ [الأعراف 158] ثم توعد من لم يعترف بربوبيته ووصفه بهذه الأوصاف، وكفر بالقرآن والوحى فقال: الويل والهلاك للكافرين الجاحدين.. يولولون ويضجون من العذاب الشديد الذي صاروا فيه، الكافرون الذين يستحبون ويفضلون الحياة الدنيا على الآخرة بل رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها وهم عن الآخرة هم عنها غافلون، وهم الذين يصدون عن سبيل الله كل من أراد الإسلام، ويصرفونه عنه، ويبغون لسبيل الله عوجا وميلا، لموافقة أهوائهم وأغراضهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 244 أولئك المذكورون الموصوفون بتلك الصفات القبيحة في ضلال بعيد الغور سحيق القاع. ولما من على الناس بإنزال القرآن وهدايته وأثره بين لهم أن من كمال النعمة أن كل رسول يكون بلغة قومه. وما أرسلنا من رسول إلا كان بلسان قومه وبلغتهم ليبين لهم شرعه ويوضحه بلسانهم ولهجتهم وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُ «1» وذلك حتى لا يكون على الله حجة، وهنا يظهر سؤال: إذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم أرسل للناس جميعا قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً «2» فإذا قطعت الحجة عند العرب فغيرهم يقولون: لم نفهم ما قال، ولم نع كتابه، وهلا نزل بالألسنة كلها حتى يتسنى خطابه للكل. والجواب: أن نزوله بكل لغة لا حاجة له لأن الترجمة تكفى في ذلك ولو كتب بكل لغة لتعددت أساليبه وألفاظه وتعددت طبعا معانيه، وذلك يؤدى إلى الطعن فيه كما حصل للكتب السماوية الأخرى، ولأصبح لكل أمة قرآن يدعو إلى غير ما يدعو إليه الثاني ضرورة اختلاف اللغات في الصياغة والدلالة على المعنى، بقي لماذا اختار الله العربية لغة القرآن؟ لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن كانت رسالته إلى الثقلين لكن لما كان العرب قومه وكانوا أخص به وأقرب، وقد تهيأت الظروف كلها لظهور دينه ورسالته في جزيرة العرب فكانت لغتهم أولى حتى لا تكون لهم حجة في تكذيبه فإنه واحد منهم ونشأ بينهم ويتكلم بلغتهم فإذا فهموا دينه وصدقوا به وأسلموا كانوا هم الدعاة والمترجمين في جميع الآفاق ولكل اللغات، وقد كان ذلك كذلك. وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم تلك الشرائع باللغة التي ألفوها ومع ذلك فإن المضل والهادي هو الله- عز وجل-، والبيان لا يوجب الهداية إلا إذا جعله الله سببا فيها: وهو العزيز الذي لا يغلب الحكيم في كل أفعاله.   (1) سورة فصلت الآية 44. (2) سورة الأعراف الآية 158. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 245 مهمة الرسل [سورة إبراهيم (14) : الآيات 5 الى 8] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) المفردات: بِأَيَّامِ اللَّهِ المراد وقائعه في الأمم السابقة، وحوادثه الشديدة الشاملة للنعم والنقم صَبَّارٍ شَكُورٍ كثير الصبر والشكر يَسُومُونَكُمْ المراد يذيقونكم العذاب السيئ الشديد وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ يبقونهم أحياء للذل والعار تَأَذَّنَ أذن إذنا بليغا. هكذا كل رسول مهمته إخراج الناس من الظلمات إلى النور، والتذكير بنعمة الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 246 المعنى: وكما أرسلناك يا محمد لتخرج الناس من ظلمات الجهل والشرك والضلالة إلى نور الإسلام والعلم والهداية فقد أرسلنا موسى مؤيدا بآياتنا التسع التي مرت في سورة الأعراف، وقلنا له: أخرج قومك يا موسى من الظلمات إلى النور، والمعنى أمرهم بالتوحيد الخالص والإيمان بالله إيمانا كاملا ليخرجوا من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى والإيمان. وذكرهم بأيام الله التي مرت على أمم الأنبياء السابقة، وكيف نجا المؤمنون وهلك الكافرون؟!! وذكرهم بأس الله وشدائده وانتقاماته ممن كذب رسالته كقوم عاد وثمود وقوم هود وإخوان لوط، ففي التذكير بأيام الله ترغيب وترهيب، ولقد كان لموسى مع قومه أيام فيها محنة وبلاء وأيام فيها نعم ونجاة وكلها من أيام الله. إن في ذلك التنبيه والتذكير لدلائل على وحدانية الله وقدرته لكل صبار في المحنة والشدة، شكور في المنحة والعطية. ولقد قيل: نعم العبد عبد إذا ابتلى صبري وإذا أعطى شكر، وفي الحديث «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن إن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له، وإن أصابته سراء شكر فكان خيرا له» . وفي هذه إشارة إلى أن الواجب على المسلم أن يكون صابرا شكورا. وقد كان موسى ممتثلا أمر ربه فأخذ يذكر قومه بنعم الله عليهم. واذكر وقت قول موسى لقومه والمراد ذكر ما حصل فيه اذكروا نعمة الله عليكم إذا أنجاكم من فرعون وآله فقد كانوا يذيقونكم العذاب، ويكلفونكم من الأعمال مالا تطيقون مع القهر والإذلال، وكانوا يذبحون أبناءكم خوفا من ظهور ولد يضيع على يده الملك كما فسرت الرؤيا لفرعون مصر، وكانوا يتركون النساء أحياء أذلاء وفي ذلك أعظم ألوان البلاء. نعم فيما ذكر ابتلاء واختبار عظيم فالنعم والنقم بلاء للإنسان ليعرف أيشكر أم يكفر؟!! وَبَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَالسَّيِّئاتِ [سورة الأعراف آية 168] وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً [سورة الأنبياء آية 35] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 247 واذكروا إذ تأذن ربكم يا بنى إسرائيل وأذن لكم إذنا لا شك فيه ولا غموض لئن شكرتم لأزيدنكم من النعم إذ الشكر من دواعي الزيادة واستمرار النعم، ولئن كفرتم وجحدتم ولم تقوموا بالواجب عليكم إن عذابي بحرمانكم منها لشديد، ففي الحديث «إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه» بهذا يعلم أن فائدة الشكر تعود على الشاكر فقط لا على غيره، فمن شكر أعطى ومن كفر حرم. وقال موسى: إن تكفروا نعمة الله عليكم وتجحدوا فضلها أنتم ومن في الأرض جميعا لم تضروا بذلك أحدا، ولم تنقصوا في ملك الله شيئا بل أضررتم أنفسكم إذ حرمتموها من المزيد من النعم، وعرضتموها للعذاب الشديد، وإن الله لغنى عن شكركم غير محتاج لعملكم، فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [التغابن 6] نعم. الله مستغن عن حمدكم وشكركم، مستوجب للحمد لكثرة نعمه وأياديه وإن لم يحمده الحامدون. بعض أنباء الأمم السابقة [سورة إبراهيم (14) : الآيات 9 الى 12] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَقالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10) قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدانا سُبُلَنا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 248 المفردات: مُرِيبٍ الريب: اضطراب النفس وقلقها فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مبدعهما على أكمل نظام بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجة قوية ظاهرة. المعنى: يقول الله- تبارك وتعالى- ألم يأتكم نبأ الذين من قبلكم؟ ألم تعلموا أخبارهم وتقفوا على أحوالهم المهمة كأخبار قوم نوح. وعاد. وثمود. وأمم جاءت بعدهم لا يعلمهم إلا الله- سبحانه وتعالى- وصدق الله وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا. هؤلاء جاءتهم رسلهم بالآيات البينات والحجج الواضحات التي تثبت صدقهم، وتؤيد دعواهم الرسالة عن الله: فما كان من القوم إلا أنهم ردوا أيديهم في أفواههم غيظا وحنقا، وعضوا أيديهم أسفا وألما عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ [سورة آل عمران آية 119] والمراد أنهم كذبوا واستهزءوا. وللعلماء في تفسير هذه الجملة [ردوا أيديهم في أفواههم] آراء كثيرة كلها تدور حول الإنكار والتكذيب والسخرية بالرسل. وقالوا: إنا كفرنا بما أرسلتم به من الآيات البينات على زعمكم، وإنا لفي شك عظيم مما تدعوننا إليه من الإيمان بالله وحده وترك ما سواه، وقد قيل: كيف صرحوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 249 بالكفر ثم بنو أمرهم على الشك؟ ويمكن أن يقال: إنهم أرادوا إنا كافرون في الواقع بما تدعوننا إليه وإن نزلنا عن هذا المقام جدلا فلا أقل من أن نشك شكا يجعلنا في ريب وقلق نفسي من رسالتكم، فلا أمل أبدا في تصديقكم ماذا قالت الرسل؟ قالت لهم رسلهم: أفي الله شك؟!! أفي وحدانيته شك أم في وجوده شك؟!! وكل الدلائل والشواهد تدل على وجوده- سبحانه- وعلى تفرده بالألوهية والعبادة وكيف تشكون في الله فاطر السموات والأرض؟ إذ الذي خلقهما على هذا النظام البديع المحكم، وخلق كل ما فيهما من عوالم لا يحصيها إلا هو ينبغي ألا يشك في وحدانيته ووجوده، وهو الذي يدعوكم إلى الإيمان الكامل ليغفر لكم بعض ذنوبكم وهذا الدعاء منه وحده دليل على تفرده بالألوهية، وهو الذي إن استجبتم إليه وآمنتم به واستقمتم على صراطه يؤخركم إلى أجل مسمى عنده بلا عذاب في الدنيا حتى الموت. وهل سكت الكفار وأسلموا لله أم اعترضوا على ذلك؟ قالوا: ما هذا؟ كيف نؤمن بكم وننقاد لكم؟ وما أنتم إلا بشر مثلنا تأكلون مما نأكل وتشربون مما نشرب، ولا نرى لكم علينا من فضل حتى نجعلكم قادة وحكاما وأئمة وأنبياء. وأنتم تريدون أن تصدونا عن عبادة ورثناها عن آبائنا من قبل؟ وآباؤنا أبعد نظرا، وأحسن قولا، أفنتركهم ونتبعكم؟! على أننا لا يمكن أن تترك ما ألفناه إلا بحجة وبرهان وقوة وسلطان، أما ذكر السموات والأرض وعجائبهما فهذا ليس دليلا على صحة ما أتيتم به. أما رد الأنبياء على شبههم الثلاثة، أنتم بشر، تدعوننا إلى ترك عبادة الآباء، وهاتوا حجة ودليلا على ما تقولون. فقالت لهم رسلهم: ما نحن إلا بشر مثلكم نأكل ونشرب، ونمشي في الأسواق ونبحث عن الأرزاق، ونأتى النساء إلخ. ولكن هذا لا يمنع أن الله يمن على من يشاء من عباده بالنبوة والرسالة اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ [سورة الأنعام آية 124] وقد منّ الله علينا بالرسالة ولا حرج على فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده. أما طلبكم الحجة والبرهان بعد أن قدمنا لكم من المعجزات فأمره إلى الله ولا دخل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 250 لنا في ذلك، وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان إلا بإذن الله ومشيئته وإرادته وليس ذلك في قدرتنا. أما تقليدكم الآباء لأنهم آباء ولو كانوا في ضلال مبين فهذا شيء يجب أن يدخل في الحسبان ويرد عليه بالبرهان. بعد هذا النقاش انتقلت المسألة إلى العمل والانتقام من الأنبياء فقال لهم الأنبياء: إنا لا نخاف تهديدكم، ولا يضيرنا وعيدكم، بل نحن نتوكل على الله وحده، ونعتمد عليه ولا نقيم وزنا لما تفعلون، وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون فهم أحق به وأولى من غيرهم. وما لنا ألا نتوكل على الله؟ وكيف لا يكون هذا، وأى شيء عرض لنا حتى لا نتوكل عليه؟ وقد هدانا لأقوم طريق وأهدى سبيل، ولنصبرن على إيذائكم وعلى الله فليستمر توكل المؤمنين، وفقنا الله إلى التوكل عليه حقا. العاقبة للمتقين [سورة إبراهيم (14) : الآيات 13 الى 18] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَخافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلا يَكادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَما هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17) مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 251 المفردات: لَتَعُودُنَّ لتصيرن وكثيرا ما تستعمل عاد بمعنى صار مِلَّتِنا الملة: الشريعة والدين مَقامِي قيامي للحساب وَاسْتَفْتَحُوا طلبوا الفتح بالنصرة على الأعداء خابَ هلك جَبَّارٍ الجبار هو العاتي المتكبر الذي يجبر غيره على اتباع رأيه ولو باطلا صَدِيدٍ يسيل من جلودهم، من دم أو قيح يَتَجَرَّعُهُ جرعته الدواء سقيته جرعة بالشدة والقهر يُسِيغُهُ يزدرده عاصِفٍ شديد الريح. بعد الحوار والنقاش بين الرسل وأقوامهم تأتى مرحلة العمل والحرب، وفي النهاية الغلبة للمتقين وتلك سنة الله في جميع الأزمنة ومع كل الأمم والرسل. المعنى: وقال الذين كفروا لرسلهم حين دعوهم إلى التوحيد وترك عبادة الأوثان، ورأوا في الرسل إصرارا على هذا الدين. قالوا: ليكونن أحد الأمرين، ولا ثالث لهما أبدا: إما أن تخرجوا من أرضنا أو لتصيرن في ملتنا وشرعنا: وذلك كما قال قوم مدين لشعيب ومن آمن معه لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا [سورة الأعراف آية 88] وكما قال كفار مكة: وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلَّا قَلِيلًا [سورة الإسراء آية 76] . قال الكفار هذا مغرورين بقوتهم وكثرتهم، وقلة عدد المؤمنين وضعفهم فأوحى ربك إلى الأنبياء، لا تحزنوا وأبشروا. لنهلكن الظالمين من المشركين ولنسكنكم الأرض من بعدهم عقوبة لهم على قولهم. لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا ولقد كرر هذا المعنى في القرآن كثيرا كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي [المجادلة 21] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 252 لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ. إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ [سورة الصافات الآيات 171- 173] وقال موسى لقومه: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [سورة الأعراف آية 128] . ذلك لمن خاف مقامي وخشي حسابي، وخاف وعيدي بتجنب سخطى وغضبى. واستفتحوا نعم استفتح كل من الأمم والرسل ألا ترى إلى قوله- تعالى- حكاية عن كفار مكة: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ [سورة الأنفال آية 32] الآية وإن كان هذا يدل على منتهى الحماقة وسوء الرأى، وتأصل العناد واستفتحت الرسل على أممها واستنصرت بالله. فقال الله: وخاب كل جبار عنيد وهلك كل متكبر يجبر غيره على أخذ رأيه الباطل وهو عنيد، أمامه جهنم وبئس القرار، ويسقى من ماء صديد هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ. وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ [سورة ص الآيتان 57 و 58] شرابهم في جهنم الصديد الذي يخرج من جوفهم، والحميم الشديد الحرارة والغساق الشديد البرودة وآخر من شكله أزواج، وعبارة القرآن تفيد أن هلاك الجبار قاعدة وقانون.. وهل يشرب شرابه بسهولة؟ أم يشربه بعسر وألم؟ فذكر الله أنه يتجرعه جرعة بعد جرعة بمنتهى الألم والشدة والقسوة ولا يكاد يسيغه من شدة كراهته له ورداءة طعمه ولونه وريحه وحرارته، وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ [سورة الرعد آية 15] وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً [سورة الكهف آية 29] . ويأتيه ألم الموت وشدة نزع الروح من كل مكان في جسمه، وما هو بميت ولكنه الألم والتعب والهم والحزن، ومن وراء ذلك كله عذاب غليظ. أليس هذا تصويرا لجهنم ومن فيها تصويرا يجعلنا نرسم لها صورة بشعة، صورة مؤلمة حقا وقانا الله شرها. هذا جزاء الكفار، أليس لهم في الدنيا من عمل يخفف عنهم؟ فقال الله ردا: فيما يتلى عليكم مثل الذين كفروا أى: صفتهم العجيبة الغريبة غرابة المثل هي أن أعمالهم كرماد اشتدت به الريح، أى: حملته بشدة وسرعة في يوم عاصف، ريحه شديد، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 253 وقد وصف الله اليوم بأنه عاصف والعاصف الريح للمبالغة في الوصف كما قالوا يوم بارد ويوم حار، والبرد والحر فيهما لا منهما. هؤلاء لا يقدرون مما كسبوا من تلك الأعمال على شيء منها، ولا يرون له أثرا في الآخرة يجازون به بل جميع أعمالهم باطلة ضائعة ذاهبة كذهاب الريح بالرماد عند شدة هبوبها وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً [سورة الفرقان آية 23] أعمالهم الحسنة كالبر والإعطاء والكرم، وصلة الرحم. حوار بين أهل النار من الضعفاء والمستكبرين والشيطان [سورة إبراهيم (14) : الآيات 19 الى 23] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَجَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21) وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 254 المفردات: وَبَرَزُوا البروز الظهور والبراز المكان الواسع لظهوره، ومنه امرأة برزة أى: تظهر للرجال الضُّعَفاءُ العوام والأتباع اسْتَكْبَرُوا المستكبرون وهم الرؤساء الأقوياء تَبَعاً جمع تابع كخدم جمع خادم مَحِيصٍ أى: منجى ومهرب سُلْطانٍ تسلط عليكم بحجة بِمُصْرِخِكُمْ صرخ إذا استغاث والمصرخ المغيث والمستصرخ المستغيث. بعد ما ذكر جزاء الكفار الأشقياء في الآخرة أردف ذلك ببيان قدرة الله على كل شيء ثم ذكر الحوار بين الرؤساء والضعفاء ثم بين الشيطان وأتباعه وختم المقالة بجزاء المؤمنين العاملين. المعنى: ألم تعلم أيها الرسول أن الله أنشأ السموات والأرض وما فيها بالحق والحكمة؟ وخلقهما على الوجه الصحيح الذي يحق أن يخلقهما عليه ليستدل بهما على كمال القدرة وعدم الحاجة إلى أحد من خلقه، بل إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد على شكل جديد، وما ذلك على الله بعزيز بل هو هين عليه يسير، إذ هو القادر على كل شيء قدرة ذاتية إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون. وهذه الآية بيان لعظيم جرمهم في كفرهم بالله الواحد القهار القادر على كل شيء، وبيان أنه هو الحقيق بأن يعبد وحده ويخاف عقابه ويرجى ثوابه ولذلك أردف هذه الآية بذكر أحوال الآخرة فقال وبرزوا لله جميعا ... الآيات والمعنى: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 255 وبرزت الخلائق جميعا لله الواحد الأحد العالم بالغيب والشهادة برزوا للحساب. وقد كان الكفار العصاة يفعلون الفعل وهم يظنون أن الله لا يراهم فها هم الآن يراهم الكل لأنهم بارزون ظاهرون خاضعون لله. فقال الضعفاء في العقل والتفكير كالأتباع والعوام: للذين استكبروا كالقادة والزعماء: إنا كنا لكم تابعين مقلدين في الأعمال، فكذبنا الرسل وكفرنا بالله متابعة لكم ومشايعة لرأيكم، فهل أنتم دافعون عنا بعض الشيء الذي هو عذاب الله؟ قال القادة المتبوعون مقرين بذنبهم: لو هدانا الله ووفقنا الى الخير لهديناكم وحملناكم على الهداية وسلوك الطريق الحق. كان عتاب الضعفاء للمستكبرين عتاب جزع وقلق فقيل لهم: يستوي عندنا جزعنا وصبرنا، إن الله قد حكم بين العباد فما لنا من محيص ولا مهرب ولا منجى من عذاب الله وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ [سورة غافر الآيتان 47 و 48] رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً [سورة الأحزاب الآيتان 67 و 68] . وتلك مناظرة أخرى وحوار بين الشيطان وأتباعه. وقال الشيطان، لما قضى الأمر وأدخل الله أهل الجنة في الجنة، وأهل النار في النار قال لأتباعه في النار: إن الله وعدكم وعد الحق، وعدكم على ألسنة رسله، وقوله الحق ووعده الصدق وعدكم بالبعث والجزاء. ووعدتكم أنا أنه لا جنة ولا نار، ولا حشر ولا حساب، ولئن كان شيء من ذلك فشفعاؤنا من الآلهة تشفع لنا وتمنعنا فأخلفتكم الوعد، واتبعتم زخرف القول منى، وباطله، وتركتم وعد ربكم الحق يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً [سورة النساء آية 120] . يا سبحان الله! هذه مقالة الشيطان لأتباعه يوم القيامة يرويها لنا الحق- تبارك وتعالى- في ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه ولا شك، يا حسرة على أتباع الشيطان ويا خيبتهم! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 256 وعدتكم فأخلفتكم، ودعوتكم وما كان لي عليكم من سلطان يلجئكم ويقهركم على اتباعى في الكفر والمعاصي. لكن دعوتكم إلى الضلال ووسوست لكم، وزينت الباطل فأسرعتم إلى إجابتى فلا تلوموني أبدا ولكن لوموا أنفسكم، فأنتم الذين فعلتم واخترتم واتجهتم ناحية الشر وتركتم ناحية الخير رغم دعاء الله لكم وتحذيره الشديد من سلوك سبل الشيطان وما كان منى إلا الوسوسة وزخرف القول وغروره. يا أتباعى كلنا في الغم والألم والعذاب سواء، ما أنا بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب، وما أنتم بمغيثي مما أنا فيه من العذاب والنكال. إنى كفرت اليوم بإشراككم إياى من قبل أى في الدنيا وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [سورة فاطر آية 14] وأنه يتبرأ من شرككم ويستنكره!! إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ [سورة الممتحنة آية 4] ومعنى إشراكهم الشيطان مع الله طاعتهم له فيما كان يزينه لهم من عبادة الأوثان وغيرها. إن الظالمين لهم عذاب أليم، وهذه الجملة يحتمل أن تكون من كلام الله لهم أو حكاية لكلام إبليس لهم تسجيلا عليهم. نرى أن الشيطان قصم ظهورهم وقطع قلوبهم بأمور: 1- كانت مواعيده باطلة، ووعد الله هو الحق وقد تركوا الحق واتبعوا الباطل. 2- اتبعوا قوله بلا حجة ولا برهان. 3- لا لوم لكم وإنما عليكم اللوم. 4- قطع أملهم بأنه لا نصر عنده بل هو محتاج إلى من ينصره. 5- إنه قد كفر بشركهم له في الدنيا وتبرأ من عملهم. ذلك جزاء الظالمين أتباع الشياطين. وأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات، واتبعوا الحق من ربهم كفّر عنهم ربهم سيئاتهم وأصلح بالهم، وأدخلهم الجنة عرفها لهم، وهي جنة عالية قطوفها دانية تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها، وكان هذا كله بإذن ربهم وتحيتهم بينهم وبين أنفسهم وبينهم وبين الملائكة: سلام عليكم طبتم فنعم عقبى الصابرين.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 257 مثل كلمة الحق وكلمة الباطل [سورة إبراهيم (14) : الآيات 24 الى 27] أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَفَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27) المفردات: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا اعتمد ووضع مثلا، والمثل في كلامهم قول موجز سائر يملك الألباب ويأسر العقول لما فيه من تصوير رائع ودقة محكمة ثابِتٌ ضارب بجذوره في الأرض تُؤْتِي تعطى ثمرها كل وقت أراده الله لها اجْتُثَّتْ الاجتثاث أخذ الجثة كلها، المراد استؤصلت بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ أى: القول الثابت في قلوبهم المتمكن منها. ما تقدم كان بيان مآل السعداء من المؤمنين والأشقياء من الكافرين والعصاة، وقد ضرب الله المثل هنا للكلمة الطيبة وهي كلمة الإسلام وللكلمة الخبيثة وهي كلمة الشرك ليظهر الفرق بين الحالين، وفي المثل إلباس المعنويات لباس الحسيات ليكون أوقع في النفس، والعرب قديما جعلت الأمثال عيون كلامها، وخصتها بالحكم والنوادر وشاع بينهم ضرب المثل لما فيه من التأثير على النفوس والعقول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 258 المعنى: ألم تعلم أيها المخاطب كيف ضرب الله مثلا واختاره وجعله في موضعه اللائق به، وجعل كلمة طيبة كشجرة طيبة، والمراد بالكلمة الطيبة وهي كلمة الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، أو كل كلمة في الخير، والشجرة الطيبة قيل هي شجرة النخل. شبه الله الكلمة الطيبة وهي دليل الإيمان الثابت في قلب المؤمن الذي يرفع به عمله إلى السماء إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ «1» ولا عجب فالمؤمن كلما قال كلمة الحق وشهد بكلمة التوحيد صعدت إلى السماء وأخذت حظها من الثواب الجزيل: شبه الله تلك الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة المثمرة لها أصلها الراسخ في الأرض، وفرعها في السماء الشامخ في الجوزاء، وتؤتى أكلها الطيب كل وقت وقته الله لإثمارها بإذن ربها وتيسير خالقها. نعم إذا حلت الهداية قلب عبد، وامتلأ قلبه نورا وإسلاما فاض منه الخير والنور على قلوب كثيرة، كالشجرة الطيبة المثمرة التي يتمتع بثمرها الكثير من الناس. وهكذا يضرب الله الأمثال للناس، وفيها زيادة فهم وتذكير لأنها تخرجهم من دائرة المعقول إلى المحسوس، ومن دائرة المعنى الجلى الذي لا يشك فيه أحد كل ذلك لعلهم يتذكرون ويتعظون!! ومثل كلمة خبيثة وهي كلمة الكفر أو ما شاكلها كشجرة خبيثة وهي الحنظل ليس لها أصل ثابت بل عروقها وجذورها طافية فوق سطح الأرض فيسهل اقتلاعها. وهذه الشجرة اجتثت من الأرض ليس لها من قرار. وهكذا أصحاب النفوس العالية والإيمان العميق هم أصحاب الكلمة الطيبة التي تؤتى ثمرها كل حين، وينتفع بها الناس، وهي مستقرة في نفوسهم، وفروعها ممتدة إلى العوالم العلوية، وما أشبههم بالنخل أصلها مستقر وفرعها عال وثمارها دائم. وأرباب الشهوات والنفوس الضعيفة هم أصحاب الكلمة الخبيثة التي هي كالحنظل طعما وأثرا.   (1) سورة فاطر الآية 10. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 259 يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت والكلمة الطيبة التي ذكرت صفاتها العجيبة. إذا وجد من يفتنهم عن دينهم أو يؤثر عليهم في عقيدتهم، انظر يا أخى لبلال وصهيب وغيرهم من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قد ثبتهم الله بالقول الثابت في الحياة الدنيا. وبعد الموت في القبر الذي هو منزل من منازل الآخرة، وفي مواقف القيامة فلا يتلعثمون، ولا يضطربون إذا سئلوا عن معتقداتهم ولا تدهشهم أحوال القيامة الغريبة عنهم. روى عن أبى قتادة الأنصارى وأبى هريرة، وأسماء بنت أبى بكر في هذا المعنى «إنّ المؤمن إذا مات أجلس في قبره فيقال له من ربّك؟ فيقول: الله، فيقال له: من نبيّك؟ فيقول. محمد بن عبد الله، فيقال له ذلك مرات ثمّ يفتح باب إلى الجنّة فيقال له: انظر إلى منزلك من الجنّة إذا ثبتّ، وإذا مات الكافر أجلس في قبره فيقال له: من ربك، ومن نبيك فيقول: لا أدرى كنت أسمع الناس يقولون فيقال له: لا دريت، ثم يفتح له باب إلى الجنّة فيقال: انظر إلى منزلك لو ثبتّ، ثم يفتح له باب النار فيقال له انظر إلى منزلك إذ زغت فذلك قوله تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ. هكذا يضل الله الظالمين لسوء استعدادهم وميلهم مع شهوات النفس ويصرفهم عن الحق إلى الباطل قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [سورة الشمس الآيتان 9 و 10] يفعل الله ما يشاء إذ بيده أمور كل شيء وهو على كل شيء قدير. هكذا يفعل الكفار، وبمثل هذا يربى المؤمنون [سورة إبراهيم (14) : الآيات 28 الى 31] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَبِئْسَ الْقَرارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خِلالٌ (31) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 260 ضرب الله المثل للمؤمن يقول كلمة الحق، وللكافر يقول كلمة الباطل والشرك وما يناله كل في الدارين، وهنا ذكر الأسباب الموصلة إلى حسن العاقبة وإلى سوئها. المعنى: انظر أيها المخاطب متعجبا إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا، وأحلوا قومهم دار البوار، وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله. عجبا لهؤلاء الكفار الذين وصفهم الله بثلاث صفات: 1- بدلوا نعمة الله كفرا، إذ شكر النعم الواجب عليهم، وضعوا مكانه الكفر والجحود فكأنهم غيروا الشكر وجعلوا بدله الكفر، وقد كان أهل مكة يسكنون حرم الله آمنين وجعلهم قواما عليه- وأكرمهم برسالة النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم من أنفسهم عزيزا عليه عنتهم حريصا عليهم، فكفروا بنعمة الله بدل ما لزمهم من الشكر العظيم. ألست معى في أنهم بدلوا شكر نعمة الله كفرا؟!! 2- وأحلوا قومهم الذين شايعوهم واتبعوهم في الكفر والضلال، دار الهلاك والبوار الذي لا هلاك بعده، وهي جهنم التي يصلونها وبئس القرار قرارهم. 3- يا عجبا لهؤلاء بدلوا شكر النعمة كفرا، وأحلوا قومهم جهنم، وجعلوا لله أندادا وشركاء من الأصنام والأوثان لتكون عاقبة أمرهم أنهم يضلون من شايعوهم واتبعوهم.. وما كان لهذه الهنات التي وصفوا بها إلا هذا التهديد البليغ المعبر عنه بقوله: قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ أى: اعملوا ما شئتم، وسيروا كما أنتم سائرون فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ ومرجعكم إليها حتما. وقد سمى الله هذا العمل تمتعا لأنهم تلذذوا به. وأحسوا غبطة بعمله، ولأنهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 261 منغمسون فيه ولا يعرفون غير الكفر والصد عن سبيل الله. كأنهم قد أمرهم آمر مطاع لا يسعهم أن يخالفوه ولا يملكون لأنفسهم أمرا دونه وهو أمر الشهوة. والمعنى: إن متم على ما أنتم عليه من الامتثال لأمر الشهوة فإن مصيركم إلى النار حتما. هذا أمر الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وأحلوا قومهم جهنم، وتلك عاقبتهم وبعد هذا أمر نبيه صلّى الله عليه وسلّم أن يأمر عباده المخلصين بالعمل المثمر النافع فهذا أوانه، وأن يربيهم تربية إسلامية على العبادة والعمل. قل يا محمد لعبادي الذين آمنوا بالله ورسوله: أقيموا الصلاة على وجهها الكامل فهي عماد الدين، وأنفقوا مما رزقناكم الإنفاق المطلوب شرعا وعرفا، الشامل للصدقة المطلقة والمقيدة بما في ذلك الزكاة الواجبة، أنفقوا سرا في الصدقة، ما لم تكن أنت قدوة يقتدى بك الغير ولم تقصد رياء ولا سمعة فالجهر أولى، وفي الزكاة المفروضة أنفق جهرا وعلانية، امتثلوا أمر الله ورسوله من قبل أن يأتى يوم ليس فيه بيع ولا شراء ولا تجدى فيه صداقة أو صحبة، هو يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا [سورة الحديد آية 15] . وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها [سورة إبراهيم (14) : الآيات 32 الى 34] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ (33) وَآتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 262 المفردات: سَخَّرَ لَكُمُ ذلل دائِبَيْنِ دأب في العمل إذا سار فيه على عادة مطردة والمراد دائمين لا يفتران لا تُحْصُوها لا تحصروها كَفَّارٌ شديد الكفر والجحود للنعم. من الناس من بدل شكر النعم كفرا، ومنهم من قام بالشكر الواجب عليه، وأقام شعائر الدين بالصلاة والزكاة وغيرها، وفي هذه الآيات بيان للنعم التي توجب الشكر لله حيث أنعم بها علينا وتوجب النقم والعذاب على من لم يشكر الله عليها. المعنى: الله- جل جلاله-، وتقدست أسماؤه، المعبود بحق. الذي لا إله غيره، ولا معبود سواه، هو الذي خلق السماوات والأرض، وما فيهن. وما في العالم العلوي من الأجرام السماوية، والكواكب السيارة، والهواء والأثير، والشمس والقمر وغير ذلك مما لا نعلمه آيات ودلائل على عظم قدرة الله، وكمال نعمه على الوجود وكذلك ما في العالم السفلى من الأرض ومعادنها والعوالم التي فيها آيات ناطقة لقوم يتفكرون. الله- سبحانه وتعالى- هو الذي أنزل من السماء ماء، وجعل منه كل شيء حي وأخرج بسببه من الثمرات أنواعا وأشكالا مختلفة لا يعلمها إلا هو رزقا للعباد، وأحيا بالماء ميتا وصحراء مجذبة. وهو الذي سخر لكم يا بنى آدم وذلل لكم الفلك لتجرى فوق سطح الماء فتنقلكم وتنقل متاعكم حيث تريدون فهو الذي أرشدكم لصنعها وهو الذي سخر البحر لحملها والريح والبخار لتحريكها وسبحان الله خالق كل شيء فاعبدوه. وهو الذي سخر لكم الأنهار، وشقها في بطون الأودية وجعل منها حياة الأقاليم والأقطار. ألا ترى إلى نهر النيل والفرات وغيرهما؟! وهو الذي سخر الشمس والقمر دائبين في الحركة، دائمين لا يفتران لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ «1» .   (1) سورة يس الآية 40. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 263 وهو الذي سخر لكم الليل والنهار، فالنهار للمعاش والعمل، والليل للسكون والراحة وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ فالشمس والقمر يتعاقبان والليل والنهار يتعارضان يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى [سورة لقمان آية 29] . وآتاكم كل ما تحتاجون إليه على حسب طاقتكم وقوتكم واستعدادكم من كل الذي هو حقيق أن تسألوه سواء سألتموه أو لم تسألوه، وذلك لأنه خلق لكم ما في الأرض جميعا، وسخر لكم قوى الطبيعة كلها حتى تكون تحت تصرفكم، والحمد لله نرى الإنسان استخدم البخار والأثير والهواء والريح والكهرباء وغيرها. دعاء إبراهيم عليه السلام [سورة إبراهيم (14) : الآيات 35 الى 41] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَما نُعْلِنُ وَما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَتَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 264 المفردات: وَاجْنُبْنِي أبعدنى، وباعد بيني وبينها تَهْوِي إِلَيْهِمْ شوقا وحبا يَقُومُ الْحِسابُ يتحقق الحساب ويوجد. هذا بيان للنعم الخاصة بالعرب لا سيما سكان الحرم بعد بيان النعم العامة وهذه هي المناسبة بين الآيات وما قبلها. المعنى: واذكر يا محمد وقت قول إبراهيم- عليه السلام- داعيا إلى الله طالبا منه الإجابة وقد تعود إبراهيم من ربه أن يجيبه إلى طلبه. رب اجعل هذا البلد آمنا، لا يسفك فيه دم، ولا يظلم فيه أحد، ولا يصاد فيه صيد ولا يقطع فيه شجر أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ [سورة العنكبوت آية 67] . واجنبنى يا رب وباعد بيني وبين عبادة الأصنام أنا وبنى لصلبى، وقد استجاب الله دعاءه في بعض بنيه دون بعض. يا رب إن الأصنام قد أضلت كثيرا من الناس، وأزالتهم عن طريق الحق والصواب إلى طريق الباطل والضلال، فمن تبعني وصدقنى فيما دعوته إليه من الإيمان الكامل والتوحيد الخالص فإنه منى، ومستن بسنتي وسائر على طريقتي، ومن عصاني فإنك غفور رحيم- في غير الشرك بالله- وقادر على أن تغفر له وترحمه بالتوبة عليه والهداية إلى الصراط المستقيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 265 يذكر الله- تعالى- في هذا المقام محتجا على مشركي العرب بأن البلد الحرام مكة إنما وضعت أول ما وضعت على عبادة الله وحده لا شريك له، وأن إبراهيم أبو العرب تبرأ من عبادة الأصنام، ودعا لمكة بالأمن، وهذا دعاء ثان لإبراهيم بعد أن بنى البيت لإسماعيل، يا ربي إنى أسكنت بعض ذريتي وهم أولاد إسماعيل بواد غير ذي زرع وهو واد بمكة عند بيتك المحرم الذي لا يستباح فيه ما يستباح في غيره من صيد طيره وقطع شجره، ولا يحتمي إلا بحماه، وهو محرم فيه القتال والنزاع، يا رب إنى أسكنت بعض ذريتي في هذا الوادي القفر ليقيموا الصلاة متوجهين إليه متبركين به وإنما خصت الصلاة بالذكر دون سائر العبادات لمزيد فضلها. ويظهر أن سكان البلاد الزراعية كثيرا ما تشغلهم الزراعة وتوابعها عن إقامة الصلاة كاملة. ولهذا كانت النواة الأولى للإسلام في تلك البقاع. فاجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم وارزقهم من الثمرات، وقد حقق الله دعاء إبراهيم- عليه السلام- وحديثا ترى الناس في كل عام، وقد تملكهم حب عميق وحنين إلى الحج وزيارة الأماكن المقدسة باذلين فيها الكثير من الأموال في الصدقات والبيع والشراء، وهذا مما يحدث في البلاد حركة تجارية تجعل التجار يجلبون إلى مكة الثمرات والأرزاق من كل قطر، كل هذا رجاء أن يشكروا تلك النعمة بإقامة الصلاة وأداء واجب العبادة. وفي هذا إشارة إلى أن تحصيل المال يعين عن أداء الواجبات الدينية ربنا إنك تعلم ما تخفى قلوبنا وما تعلن، وما يخفى على الله شيء أبدا في الأرض ولا في السماء؟ إذ هو عالم الغيب والشهادة السميع البصير. الحمد لله الذي استجاب الدعاء ووهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق وإن ربي لسميع دعائي الذي أدعو به ومجيب له، وقد عودنى ذلك. يا رب اجعلنى مقيم الصلاة، ومؤديها كاملة تامة الأركان والشروط واجعل- أيضا- من ذريتي من يقيم الصلاة ويؤديها. ربنا وتقبل دعائي، واقبل عبادتي فإنها خالصة لك: ربنا اغفر لي واغفر لوالدي واغفر للمؤمنين يوم يقوم الحساب ويتحقق الميزان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 266 اغفر لي يا رب ما فرط منى أنا ووالدي والمؤمنين، وما دعاؤه لأبيه واستغفاره له إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه. تذكير وعظة بيوم القيامة ومشاهده [سورة إبراهيم (14) : الآيات 42 الى 52] وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 267 المفردات: تَشْخَصُ ترفع مُهْطِعِينَ مسرعين إلى الداعي مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ ناظرين بأبصارهم إلى ما بين أيديهم من غير التفات إلى شيء لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ لا ترجع إليهم بأبصارهم، وأصل الطرف تحريك الأجفان وسميت العين طرفا لأنه يكون بها أَجَلٍ أى زمن قريب مِنْ زَوالٍ من انتقال مُقَرَّنِينَ مشدودين مع بعض فِي الْأَصْفادِ القيود واحدها صفد سَرابِيلُهُمْ جمع سربال وهو القميص قَطِرانٍ القطران والهناء شيء كالزفت تدهن به الجمال من الجرب بَلاغٌ كفاية في العظة والتذكير.. بعد ما ذكر الله- جل شأنه- حال الذين بدلوا نعمة الله وجزاءهم، وما يجب أن يكون عليه المؤمنون من العبادة وإقامة أحكام الدين ثم ذكر مقالة إبراهيم ودعاءه لبنيه علهم يتعظون، ذكر الله هنا هذا التهديد الشديد للكفار مع ذكر بعض مشاهد يوم القيامة ليعلم الجميع عاقبة الكفر ومآله!! المعنى: ولا تحسبن يا محمد أن الله غافل عما يفعله الظالمون، بل هو محصيه ومحيط به وسيجازيهم على ذلك. فلا تظن أن الله يهملهم لا إنه يمهل ولا يهمل، وهو يملى للظالمين، ولكن لا عن غفلة بل عن حكمة ودقة، إذ اقتضت حكمته أن تكون الدنيا أهون عند الله من جناح بعوضة فليست محل عقوبة بل عقوبتهم يوم القيامة إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار وخطاب النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا وأمثاله كقوله: وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [سورة الأنعام آية 14] وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ [سورة الشعراء آية 213] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 268 من باب [إياك أعنى واسمعي يا جارة] ففي الظاهر خطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم وفي الواقع هو لأمته. وفي ذلك تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتطمين لخاطره. إنما يؤخر هؤلاء الكفار وعذابهم ليوم القيامة تشخص فيه الأبصار، وترتفع إلى السماء من شدة ذهولهم، واضطراب نفوسهم. مهطعين إلى الداعي ومسرعين نحوه، مقنعي رءوسهم ورافعيها مع دوام النظر من غير التفات إلى شيء أبدا، وكيف لا؟ وهو يوم الذهول ويوم الصاعقة والحاقة والصاخة، ويوم الفزع الأكبر لمن لم يعمل له، مقنعي رءوسهم لا يرتد إليهم طرفهم ولا يطرفون أبدا من شدة الهول، وسوء الفزع، وأفئدتهم مضطربة متحركة كالهواء المتحرك وهذا حالهم يوم الفزع الأكبر؟ وأنذر الناس جميعا يوم يأتيهم العذاب فيقول الظالمون هلعا وجزعا: ربنا أرجعنا إلى الدنيا وأعطنا مهلة قليلة نجب فيها دعوتك إلى التوحيد، وإخلاص العبادة لك، ونطيع فيها الرسل. ثم انظر إلى الرد عليهم. أو لم تكونوا أقسمتم من قبل مالكم من زوال أبدا!!؟ يقال لهم توبيخا: ألم تقسموا في الدنيا أنكم إذا متم فلا بعث ولا حساب؟!! ولا زوال ولا انتقال لحياة أخرى! وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ [سورة النحل آية 38] . وقد سكنتم في مساكن الظالمين لأنفسهم، وعرفتم مآلهم وعاقبتهم. وتبين لكم كيف فعلنا بهم حينما كفروا وعصوا الرسل، وضربنا لكم الأمثال، ولكنكم لم تعتبروا ولم تتعظوا.. وها هي ذي حالكم الآن تتغير عن حالهم، وقد مكروا مكرهم جهد طاقتهم، وعند الله مكرهم لا محالة فكل شيء مكتوب ومسجل عليهم وسيحاسبهم الحساب الشديد. وما كان مكرهم لتزول منه الآيات الرواسخ بل هي كالجبال الشم، وكيف يتم لهم ما أرادوا، والله متم نوره ولو كره الكافرون. وإذا كان الأمر كذلك فلا تحسبن الله مخلف وعده لرسله حيث يقول كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا والله لا يخلف الميعاد أصلا مع الكل فكيف يخلف وعده مع رسله وأحبابه؟ إن الله عزيز لا يغلب ذو انتقام، وهذا تذييل للآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 269 مناسب، والله هو المنتقم الجبار يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات كذلك وهل تبدل في الشكل والموضوع أو الشكل فقط؟ أو تغير الحقيقة كلها؟ الله أعلم بذلك. وبرزوا لله الواحد القهار، وترى المجرمين يومئذ مشدودين بعضهم مع بعض ومشدودين أيديهم إلى أرجلهم تراهم مقرنين ومشدودين في الأصفاد والأغلال والقيود.. سرابيلهم من قطران- يا سبحان الله أنت الواحد القهار- والكافرون يوم ذاك في غاية الذلة والضعف مقرنون في الأصفاد والأغلال، ولهم سرابيل من القطران وتغشى وجوههم النار. وفي هذا إيلام لهم شديد لأمور: 1- كونهم في الأغلال مع بعض «فكبكبوا فيها هم والغاوون» . 2- كون قميصهم من القطران، والمراد أن جلودهم تطلى بالقطران حتى تسرع النار في الاشتعال مع سواد البشرة ونتن الرائحة. 3- كون وجوههم تعلوها النار وتغشاها وهي محط كبرهم في الدنيا يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ [سورة القمر آية 48] . كل ذلك ليجزي الله كل نفس ما كسبت فمن يعمل صالحا يجز به، ومن يعمل سوءا يجز به جزاء وافيا: إن الله سريع الحساب، وشديد العقاب. هذا القرآن الكريم بلاغ للناس، وأى بلاغ أقوى من هذا؟ ولينذروا بعقابه ويبشروا بثوابه، وليعلموا أنما هو إله واحد وليتذكر أولو الألباب والعقول الراجحة.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 270 سورة الحجر مكية. وحكى القرطبي الإجماع على ذلك. وعدد آياتها تسع وتسعون، وسميت سورة الحجر لذكر قصة أصحاب الحجر فيها، وهي كبقية السور المكية تدور حول نقاش المشركين في معتقداتهم وأفكارهم وما يتبع ذلك من إثبات البعث وبيان مظاهر قدرة الله أو تذكير الإنسان بنشأته الأولى، وعلاقته بالملائكة والجن، ثم ذكر قصص بعض الأنبياء، وختام السورة بالحديث مع الرسول صلّى الله عليه وسلم. [سورة الحجر (15) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 271 المفردات: رُبَما وقرأ بعض القراء (ربّما) وهما لغتان فأهل الحجاز يخففون، وتميم وربيعة يثقلون أى: يشددون، والأصل أن تستعمل في القليل وقد تستعمل في الكثير والقرآن الكريم نزل على النبي وقرأه صلّى الله عليه وسلّم بلهجات العرب تخفيفا عليهم وتسهيلا لحفظهم ذَرْهُمْ دعهم وَيُلْهِهِمُ يشغلهم الأمل وتغرهم الأمانى الخادعة لوما بمعنى هلا وهي كلمة تفيد التحضيض مُنْظَرِينَ المعنى مؤخرين ومؤجلين شِيَعِ جمع شيعة وهي الفرقة والجماعة المجتمعون على رأى واحد نَسْلُكُهُ يقال سلك الشيء في الشيء أدخله فيه يَعْرُجُونَ يصعدون سُكِّرَتْ حبست عن الإبصار كما يحبس النهر من الجري وقيل المراد: حارت كما يحار السكران والمراد منعت من النظر السليم. هذا افتتاح لسورة الحجر- وهي سورة مكية- بذكر حروف من حروف المعجم، وهي كغيرها المبدوء بهذه الحروف، قد جمعت بين الكلام على القرآن الكريم وذكر بعض القصص ونقاش الكفار والمشركين، ومن هنا كانت المناسبة بينها وبين سورة إبراهيم ظاهرة. المعنى: تلك الآيات- والإشارة لآيات السورة- آيات الكتاب الكامل في كل شيء، وآيات قرآن مبين كامل في البنيان، وأنت ترى أنه جمع بين اسمى القرآن الكريم بالعطف لأنهما مقصودان بالذات، وكان تنكير لفظ قرآن للتفخيم، ولا غرابة في ذلك فهو القول الحق الصادر من الحق- سبحانه وتعالى-، ولذا ترى الكفار حينما يجدون ما وعدهم ربهم حقا يوم القيامة يودون لو كانوا مسلمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 272 نعم كثيرا ما يودون لو كانوا مسلمين حينما يرون العذاب يصب عليهم صبّا والمسلمون في جنات النعيم، وقيل إنهم يودون ذلك في بعض المواضع لا في كلها لشغلهم بالعذاب، ولفظ ربنا يستعمل للتكثير والتعليل، وأما أنت يا محمد: فدعهم، ولا يهمنك أمرهم فهم لا يرعوون، ذرهم يأكلوا كما تأكل الأنعام ويتمتعوا بالعرض الزائل والمتاع الفاني، ويلههم الأمل وتغرهم الأمانى، فسوف يعلمون عاقبة عملهم يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. وفي قول القرآن الكريم لهم على لسان الرسول: ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا منتهى التهديد والذم لهم، وتصوير بارع لما انطوت عليه نفوسهم وإن من يعرف مقدار ألم الزبرقان بن بدر- رضي الله عنه- حينما هجاه الخطيئة بقوله: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسى وشهادة حسان بن ثابت بأن الشاعر ساح عليه أى عابه عيبا فظيعا يدرك مقدار ذم القرآن لهم وأنهم يستحقون ذلك. ولله سنة لا تتخلف مع الأمم: وهي أنه لا يهلك قرية من القرى أبدا إلا في حال أن لها كتابا معلوما وأجلا محدودا. لا تسبق أجلها عنه وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ. ولِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ [سورة الرعد آية 38] . ولقد قالوا مقالتين جانبوا فيهما الصواب. وافتروا الباطل الصريح ورد القرآن الكريم عليهما: قالوا: يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون. وفي قولهم للنبي وندائهم له- بالذي نزل عليه الذكر- استهزاء وأى استهزاء؟! ومعنى قولهم هذا: إنك لتقول قول المجانين حين تدعى أن الله أنزل عليك الذكر هي المقالة الأولى.. وأما الثانية فهي: لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ على معنى تأتينا بالملائكة يشهدون بصدقك ويعضدونك في قولك لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً [سورة الفرقان آية 7] . وبعضهم يرى أن المعنى: هلا تأتينا بالملائكة للعقاب على تكذيبنا إن كنت صادقا في دعواك اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال آية 32] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 273 ولقد رد عليهم فقال ما معناه: لسنا ننزل الملائكة أبدا إلا تنزيلا متلبسا بالحق من عندنا والحكمة التي نعلمها، وليس هناك حكمة في أن تروا الملائكة عيانا يشهدون بصدق النبي محمد صلّى الله عليه وسلم، أو المعنى: ما ننزلهم بالعذاب إلا بالحق وفي الوقت المقدر بالضبط، ولو نزلنا الملائكة وقتئذ ما كانوا منظرين، وما أخر عنهم العذاب لحظة. وهذا رد على مقالتهم الثانية: وأما الرد على الأولى فها هو ذا: إنا نحن نزلنا الذكر- فأكد لهم أنه- سبحانه- هو المنزل على سبيل القطع والجزم، وأنه هو الذي بعث به جبريل إلى محمد صلّى الله عليه وسلم وبين يديه ومن خلفه حفظة ورصدة يحفظون القرآن حتى يبلغه جبريل إلى النبي محفوظا تاما غير منقوص ولا مزيد فيه، نعم إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون، وتلك خصوصية للقرآن قد تكفل الله وحده بحفظه ورعايته ما دامت السموات والأرض ولذلك لم ير فيه في أى وقت ولا في أى مكان زيادة أو نقصان ولا تحريف ولا تبديل بخلاف الكتب السابقة حيث وكل الله أمر حفظها للربانيين والأحبار فاختلفوا فيما بينهم بغيا وعدوانا واشتروا بآيات الله ثمنا قليلا وعرضا حقيرا فكان التحريف والتبديل الظاهر في كل طبعة من طبعات الكتب السابقة إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَكانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ [سورة المائدة آية 44] . وأما أنت يا محمد فلست بدعا من الرسل- والناس هكذا قديما وحديثا- فلا تأس على القوم الكافرين، ولقد أرسلنا من قبلك رسلا مبشرين ومنذرين في شيع وفرق وأمم سابقة، وما أتاهم من رسول قبلك إلا كانوا به يستهزئون، وعليه غاضبون، وبه كافرون، وتلك سنة الله في الخلق. مثل ذلك التكذيب والكفر الذي أدخل في قلوب المجرمين السابقين ندخله في قلوب المجرمين المعاصرين، أو المعنى: مثل ذلك الإدخال ندخل القرآن مكذبا به ومستهزئا به في قلوب المجرمين حالة كونهم لا يؤمنون أبدا مهما حاولت وفعلت، ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فعرجوا فيه وصعدوا إلى السموات العلا ورأوا من آيات ربك الكبرى، وكان ذلك في وضح النهار وتحت نور الشمس لو حصل هذا لقالوا: إنما سكرت أبصارنا وحبست عن الإبصار ونحن في حيرة وارتباك، وعبارتهم تفيد حصر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 274 الإسكار في البصر فقط، أما العقل والوجدان فهم يعتقدون به كذلك في دعواهم. بل نحن مسحورون، أضربوا عن قولهم سكرت أبصارنا إلى قولهم بل نحن مسحورون، والمعنى: أن هؤلاء المشركين بلغ من عنادهم أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء ويسر لهم معراج يصعدون فيه ورأوا عيانا لقالوا هذا شيء خيالي لا حقيقة فيه بل قالوا قد سحرنا محمد، كبرت كلمة تخرج من أفواههم وكذبوا في دعواهم الباطلة. من مظاهر قدرته وآثار نعمه [سورة الحجر (15) : الآيات 16 الى 25] وَلَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) المفردات: بُرُوجاً جمع برج وهي القصور والمنازل وأصل البروج الظهور ومنه قيل: تبرجت المرأة إذا أظهرت زينتها، والمراد هنا منازل الشمس والقمر والنجوم السيارة، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 275 وللعرب في معرفة النجوم ومنازلها علوم ومعارف. رَجِيمٍ مرجوم اسْتَرَقَ السَّمْعَ تسمعه بخفة وحذر فَأَتْبَعَهُ أى تبعه: أدركه شِهابٌ مُبِينٌ المراد به الكواكب أو النار المشتعلة التي نراها في السماء، انظر إلى قوله: «شهاب قبس» مَدَدْناها بسطناها وفرشناها ومهدناها رَواسِيَ المراد الجبال، مَوْزُونٍ مقدر بميزان الحكمة والعلم الصائب خَزائِنُهُ جمع خزانة وهي ما تحفظ فيه الأشياء لَواقِحَ أى: حوامل للسحاب والتراب واللقاح للشجر انظر إلى قوله: حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا أى: حملت، وقولهم: ناقة لا قح أى: حامل. المناسبة: ما تقدم كان في شأن الكفار وأحوالهم، وما قالوه وتمنوه بعد ظهور الحقائق وعجز الآلهة: وهنا بيان لقدرة الله الباهرة وخلقه البديع المحكم، ونعمه التي لا تحصى ليكون دليلا على وحدانيته، وأنه وحده المعبود بحق. المعنى: تالله لقد جعلنا في السماء بروجا وسيرنا فيها منازل الشمس والقمر والنجوم، وزيناها للناظرين المفكرين، والباحثين المعتبرين، إن ذلك لآيات لقوم يتفكرون تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً [سورة الفرقان آية 61] . روى عن ابن عباس قال: ولقد كانت الشياطين لا يحجبون عن السماء فكانوا يدخلونها ويتسمعون من سكانها الأخبار، ويلقون أخبارها على الكهنة فيزيدون عليها ويحدثون بها أهل الأرض، كلمة حق واحدة وتسع باطلة. فإذا رأى الناس شيئا مما قالوه حقّا صدقوهم في كل ما جاءوا به. فلما ولد عيسى ابن مريم منعوا من ثلاث سماوات، فلما ولد محمد صلّى الله عليه وسلّم منعوا من السموات كلها، فما منهم من أحد يريد استراق السمع إلا رمى بشهاب. إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ. وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ. لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ. دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ. إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ [سورة الصافات 6- 10] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 276 وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [سورة الجن الآيتان 8 و 9] . وهذا يبين لنا معنى قوله تعالى هنا: (وحفظناها من كل شيطان رجيم إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين) : على معنى حفظنا السماء من الشياطين بمنعهم من الصعود إليها إلا من استرق السمع فحفظناها منهم بأن أعددنا لهم شهابا رصدا ليصيبه، وقيل المعنى: وحفظناها من كل شيطان رجيم ولكن من استرق السمع أعددنا له وهيأنا له شهابا رصدا، وهم يسترقون غير الوحى من الأخبار أما الوحى فهم ممنوعون منه دائما لقوله تعالى: وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ. ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ. وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ. وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ. إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ وإذا استرق الشيطان وتسمع شيئا ليس بوحي قيل: إنه يقذفه بسرعة إلى الكهنة بواسطة أعوانه ثم تتبعهم الشهب فتقتلهم أو تصيبهم بسوء فقط وهذا رأى بعيد، والصحيح أن الشهاب يقتلهم قبل إلقائهم الخبر فلا تصل أخبار السماء إلى الأرض أبدا إلا عن طريق الأنبياء والوحى، ولذلك انقطعت الكهانة ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلم: فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وهذا هو الرأى الذي أميل إليه. هذه نظرة إلى السماء وما فيها بالإجمال، ثم بعد ذلك تعرض القرآن إلى الأرض التي تقلهم: فقال: والأرض مددناها وفرشناها، وجعلناها ممهدة صالحة للسكنى والمعيشة عليها، وألقى الله فيها رواسى من الجبال شامخات حتى لا تميد بكم ولا تضطرب، وهي دائرة في مدارها حول الشمس وحول نفسها وليس في الآية دليل على أن الأرض ليست كروية بل هو الدليل القوى على كمال قدرة الله وتمام عظمته إذ كل منا يراها منبسطة رغم تكويرها، ثابتة رغم تحركها. يا سبحان الله، لقد ثبت بما لا يقبل الشك أن الأرض كروية ومع هذا فالذي في القطب الشمالي وأخوه الذي في القطب الجنوبي كل منهما يرى أرضه منبسطة ممهدة وهي تقله وله سماء تظلله والماء حوله ساكن ثابت فسبحانه وتعالى قادر حكيم!!! والأرض فرشناها فنعم الماهدون، وألقينا فيها رواسى وأنبتنا فيها كل شيء من النبات موزون بميزان الحكمة والتقدير، ليس في الأرض على سعتها نبات ليس له وزن وفائدة، بل كل شيء لحكمة ومصلحة قد تخفى على الكثير منا، والطب الحديث يكشف لنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 277 كل يوم أسرارا من النبات والأعشاب، وقد جعل الله لنا فيها معايش ورزقا وجعل فيها لمن لستم له برازقين من حيوان وخدم وأولاد فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين. وما من شيء في هذا الكون إلا ونحن قادرون على إيجاده والإنعام به، وما نعطيه إلا بقدر حسب الحكمة والعلم الشامل فذكر الخزائن من باب التمثيل لا الحقيقة، والله أعلم. وأرسلنا الرياح لواقح أى: حوامل، نعم الريح تحمل السحب والسفن وتذرو التراب وتحمله حتى تكاد تنقل الجبال من مكانها، وتلقح النبات والأشجار، وتلقيح الشجر أمر أظهره العلم الحديث فقد اكتشف لنا أن كل زهرة أو ثمرة فيها ذكر وأنثى وتحتاج إلى اللقاح، ويحمل لقاحها الريح وبعض الحيوانات، فأنزلنا من السماء بواسطة الرياح ماء لكم منه شراب فأسقيناكموه، ولستم له بخازنين، وهل يمكننا حجز مياه النيل كلها وقت الفيضان؟!! أو حجز مياه الأمطار؟ ثم تعرض القرآن لذكر شيء له الأثر العميق في نفوسنا وهي قصة الموت والحياة فالمولى القدير يحيى وحده ويميت وحده كل المخلوقات كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «1» وتالله لقد علمنا المستقدمين منكم في الحياة والموت والعمل وكل شيء، وتالله لقد علمنا المستأخرين في الحياة والموت والعمل، وكل شيء عند ربك في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها. وأن ربك هو يحشرهم ويحاسبهم إنه هو الحكيم في كل شيء العليم بكل شيء- سبحانه وتعالى-.. قصة آدم وتكوينه، وعلاقته بالملائكة والجن [سورة الحجر (15) : الآيات 26 الى 44] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)   (1) سورة القصص الآية 88. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 278 المفردات: صَلْصالٍ طين يابس يصوت إذا نقرته كما يصوت الحديد مِنْ حَمَإٍ الحمأ الطين الأسود مَسْنُونٍ متغير مأخوذ من قولهم أسن الماء إذا تغير قال القرطبي: كان أول الأمر ترابا أى: متفرق الأجزاء، ثم بلّ فصار طينا، ثم ترك حتى أنتن فصار حمأ مسنونا، أى: متغير الرائحة، ثم يبس فصار صلصالا، وقوله- تعالى- من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 279 حمأ مفسر لجنس الصلصال كقولك: أخذت هذا من رجل من العرب وَالْجَانَّ هو إبليس وسمى بذلك لتواريه عن الأعين السَّمُومِ النار لا دخان لها وقيل السموم الريح الحارة التي تقتل سميت بذلك لتأثيرها على مسام الجسم فَأَنْظِرْنِي أمهلنى بِما أَغْوَيْتَنِي الغواية ضد الرشد لَأُزَيِّنَنَّ لأحسنن لهم المعاصي الْمُخْلَصِينَ الذين استخلصهم الله. وقرئ المخلصين على معنى الذين أخلصوا لك العبادة من فساد أورياء. وهذا مظهر- أيضا- من مظاهر قدرة الله وعظمته وفيه بيان فضل الله على آدم وبنيه، وتكريمه حيث أمر الملائكة بالسجود له، مع بيان أثر مخالفة الله والتحذير من الشيطان وو وسوسته. المعنى: ولقد خلق الإنسان الأول أعنى آدم أبا البشر من طين جاف أصله طين أسود منتن متغير الرائحة. وإن الإنسان منا ليقف أمام أسرار كلام الله ودقائقه مبهوتا متحيرا، وصدق الله قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً [سورة الإسراء آية 88] . نعم خلقنا الله من طين جاف له صوت إذا نقر، أصله طين أسود منتن متغير وفي هذا إشارة إلى ما فينا من طبع وما نحن عليه من خلق وغريزة! وفي الحديث «إنّ الله- عزّ وجلّ- خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض، فجاء بنو آدم على قدر الأرض، فجاء منهم الأحمر والأسود وبين ذلك، والسّهل والحزن والطّيّب والخبيث» . وإذا عرفنا أننا خلقنا من طين أسود منتن الرائحة (حمأ مّسنون) عرفنا السرفى في وقوعنا في الآثام، وارتماء أكثر الناس في أحضان الرذيلة ولو بحثنا لوجدنا لنا رائحة تزكم الأنوف، وتصد النفوس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 280 ولعلك تقول وما سواد هذا الطين؟ إنه إشارة إلى ظلام النفس وكدرتها، وسلوكها الطريق الملتوى غير الواضح (الله ولىّ الّذين آمنوا يخرجهم من الظّلمات إلى النّور) أى: بسبب الكتب السماوية. وأما الصلصال وما أدراك ما هو؟ إنه الإناء المتخذ من الطين الجاف الذي لم تنضجه النيران فإذا ضربته سمع له صوت أترى هذا الإناء قويا؟ أرأيته وهو أجوف فارغ ضعيف غير متماسك وهكذا الإنسان أمام مغريات الدنيا وثورة الغرائز. وأما الجان قد خلقه الله من نار السموم. الجن خلق من خلق الله منهم الصالحون والطالحون وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً [سورة الجن آية 11] وهم مكلفون مثلنا، ويتكاثرون، ويروننا ولا نراهم إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ [سورة الأعراف آية 27] . ومنهم من سبقت له الحسنى فهو مؤمن بربه، ومنهم من غلبت عليه الشقوة فكان من العصاة المذنبين كإبليس وقرينه وهم الشياطين. ولقد ذكر الله أن الجن خلقوا من نار السموم، أما حقيقة النار هذه فشيء الله أعلم به، ولكن في هذا إشارة إلى بعض طبائع الجن. فالنار تعلو وتتعالى، وقد تؤذى غالبا، وفيها معنى العجلة والسرعة وقوة الغضب. ونحن نرى أن إبليس تكبر وعصى، وتعجل في الحكم وغضب حينما أمر بالسجود لآدم. إذ قال ربك للملائكة إنى خالق بشرا من صلصال من حمأ مسنون، فإذا سويته وأتممت خلقه، ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين. ومن هنا يعلم أن الإنسان مكون من مادة أصلها الطين الأسود المنتن، ومن روح هي من روح الله، وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء 85] . نعم.. الروح سر من أسرار الله لا يعلم كنهها إلا خالقها، ولكنها قوة في الإنسان لها الأثر الفعال في سلوك الإنسان واتجاهه في الحياة. هي مصدر الخير والهدى والتقوى والفلاح وكل صفة حسنة من صدق وإيمان وإيثار وتعاون وتساند وأخوة في الله، روح الجزء: 2 ¦ الصفحة: 281 المؤمن هي مصدر فضائل الحق والخير والنور والهدى، بل هي الحياة التي يعنيها القرآن الكريم، أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها [سورة الأنعام آية 122] . هذا البشر المكون من مادة وروح هو الذي أراد له أن يكون خليفته في الأرض هو الذي يصلح لعمارتها، فهو من الأرض وقد عادلها، وفيه نوازع الشر، ونوازع الخير، وعليهما تسير الحياة ويعمر الكون وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها «1» أما من خلق من نور خالص فليس فيه هذا الاستعداد والله أعلم بخلقة ولذا رد الله الملائكة بقوله: إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ [سورة البقرة آية 30] . هذا الإنسان المخلوق من طين وروح أمر الله ملائكته بالسجود له. سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة وتقديس، وله- سبحانه- أن يفضل من يشاء على من يشاء إذ بيده الأمر كله. فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين. وما منعك يا إبليس من السجود وقد أمرك ربك وخالقك؟! إنما منعه من السجود استكباره، وتعاليه وسرعة انفعاله وغضبه.. ألم يخلق من نار فيها خصائص التعالي والارتفاع والسرعة والانفعال؟! قال الله: يا إبليس ما المانع لك في ألا تكون مع الساجدين قال إبليس المغرور المخدوع غير الموفق: لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمأ مسنون!! ما كان ينبغي لي السجود لبشر أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين، ومن إجابة إبليس يمكننا أن نتأكد من أبرز صفاته وهي الكبر والتعجل والغضب. وقد أجابه الله على موقفه هذا، قائلا: فاخرج من السموات أو من الجنة أو من عداد الملائكة، فإنك مرجوم مطرود، وإن عليك اللعنة من الله إلى يوم الدين. قال إبليس: رب فأمهلنى إلى يوم يبعثون. أراد بسؤاله هذا ألا يموت. فأجابه الله بقوله: فإنك من المنظرين المؤجلين إلى البعث ثم لا بد من موتك وحسابك كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [سورة الرحمن آية 26] .   (1) سورة البقرة الآية 31. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 282 قال إبليس: رب بسبب إغوائك لي وحكمك على باللعنة والطرد من رحمتك لأزينن لهم الأرض، يا سبحان الله!! إنه لسر عظيم، ذكر الأرض هنا، فإن إبليس لا يأتى لنا إلا من ناحية الأرض، والمادة التي ركبنا منها، وليس له تسلط على الروح فإنها من أمر الله وسلطانه فهو يأتى لنا من ناحية غريزة حب التملك والبقاء ألم يقل لأبينا آدم تزيينا له وإغواء هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى «1» ولقد ذكر الرسول سبب ضعف المسلمين وذهاب عزهم وتكاثر الأجانب عليهم «حبّ الدّنيا وكراهية الموت» ، وهذه أسس البلاء، ولأغوينهم أجمعين، والغي ضد الرشاد وخصمه فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمانِهِمْ وَعَنْ شَمائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ «2» . وما يحسه كل منا من ناحية الشيطان ووسوسته يجعلنا ندرك سر قوله تعالى وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «3» الذين استخلصتهم وأخلصوا لك في العبادة فلا فساد ولا رياء، ولا يحبون أن يحمدهم الناس بل إلى الله وحده عملوا. قال الله تعالى: هذا صراط على مستقيم، وقضاء قضيته على نفسي محتوم، إنك يا إبليس ليس لك سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، إنما سلطانك على الذين لم يخلصوا الإيمان، ولم يعمر قلوبهم نور الروح ولم يتصل بهم سر الله اتصالا وثيقا إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «4» . فالناس صنفان خاضع لشهواته ونزواته وماديته وطبيعته وغرائزه وهم شعب إبليس المتسلط عليهم، وصنف مؤمن تقى روحه طيبة ونفسه كريمة واتصاله بالله قوى وهؤلاء ليس لإبليس عليهم سلطان وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «5» . وهذا هو الحكم العام: إن جهنم لموعد من اتبعك وسار خلفك، لها سبعة أبواب مفتحة ومهيأة لكل داخل، واسعة تسع العصاة والمذنبين، لكل باب منها جزء مقسوم وعدد معلوم.   (1) سورة طه الآية 120. (2) سورة الأعراف الآيتان 16 و 17. (3) سورة ص الآيتان 82 و 83. (4) سورة الحجر الآية 42. (5) سورة الأعراف الآية 200. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 283 المتقون يوم القيامة [سورة الحجر (15) : الآيات 45 الى 50] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ وَما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) المفردات: وَعُيُونٍ جمع عين قيل المراد: أنهار الجنة التي ذكرت في قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى الآية 15 من سورة محمد وقيل هي عيون خاصة لكل فرد أو عامة ينتفع بها الكل غِلٍّ الغل: الحقد والحسد الدفين نَصَبٌ تعب ومشقة. هذا الكلام على الصنف الثاني وهم الذين لا سلطان لإبليس عليهم وهم المتقون. المعنى: إن المتقين الذين اتقوا الله وامتثلوا أمره، وتركوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن في جنات وبساتين، أكلها دائم وظلها، وتلك عقبى المتقين، ولهم عيون ماء وخمر ولبن وعسل مصفى، عيون خاصة بهم أو عامة ولا نزاع عليها ولا عراك، لأن الله نزع منهم الغل والحسد والحقد الدفين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 284 ويقال لهم، ادخلوها بسلام آمنين ادخلوها سالمين آمنين لا خوف عليكم، ولا أنتم تحزنون، ونزعنا ما استقر في صدورهم من غل وحقد وحسد التي هي من طبع الإنسان المادي في الدنيا حالة كونهم إخوانا متحابين متصادقين متساندين وهذه هي معاني الأخوة في الله، والتحاب في الله، حالة كونهم على سرر متقابلين لا ينظر الواحد منهم إلا لوجه أخيه، ولا ينظر إلى ظهره، وفي هذا إشارة إلى أنه لا يكون هناك غيبة ولا نميمة، ولا تزاحم، ولا تنازع لأن خصائص المادة قد ذهبت بالموت في الدنيا. وهم لا يمسهم فيها نصب ولا مشقة. لا تعب ولا ألم وفي الصحيحين «إنّ الله أمرنى أن أبشر خديجة ببيت في الجنّة من قصب لا صخب فيه ولا نصب» وما هم من الجنة بمخرجين وفي الحديث: يقال. يا أهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تقيموا فلا تظعنوا أبدا خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا [سورة الكهف آية 108] . وهذا تقرير لما ذكر من أهل الجنة والنار، وفي الحديث «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنّته أحد. ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرّحمة ما قنط من رحمته أحد» . نبىء عبادي أنى أنا الغفور الرحيم أغفر لمن تاب وأناب، وعمل عملا صالحا وأن عذابي هو العذاب الأليم الشديد الموجع لمن كفر أو عصى ولم يتب ولم يرجع عن غيه وسوء صنعه. قصة ضيف إبراهيم مع لوط وقومه [سورة الحجر (15) : الآيات 51 الى 77] وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60) فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66) وَجاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 285 المفردات: ضَيْفِ إِبْراهِيمَ هم الملائكة الذين بشروه بالولد وبهلاك قوم لوط وَجِلُونَ فزعون خائفون الْقانِطِينَ القانطون الآيسون من الولد في الكبر الضَّالُّونَ البعيدون عن طريق الحق فَما خَطْبُكُمْ ما شأنكم وحالكم؟ والخطب الأمر الخطير لَمُنَجُّوهُمْ لمخلصوهم مما هم فيه قَدَّرْنا قضينا الْغابِرِينَ الباقين في العذاب مُنْكَرُونَ أى: لا أعرفكم يَمْتَرُونَ يشكون أنه نازل بهم وهو العذاب فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ تقدم تفسيره في سورة هود- لا قصة لوط وَقَضَيْنا إِلَيْهِ أوحينا إلى لوط دابِرَ هؤُلاءِ أى: آخرهم وسيستأصلون- عن آخرهم فلا يبقى منهم أحد مُصْبِحِينَ عند طلوع الصبح وَلا تُخْزُونِ هو من الخزي والذل والهوان وقيل هو الخزاية أى الحياء والخجل لَعَمْرُكَ قسم من الله سبحانه وتعالى بحياة النبي صلّى الله عليه وسلم. وأصله بضم العين، وفتحت لكثرة الاستعمال الصَّيْحَةُ المراد الصوت القاصف عند الشروق مع رفع بلادهم إلى عنان السماء ثم قلبها وجعل عاليها سافلها سِجِّيلٍ أى من طين لِلْمُتَوَسِّمِينَ المتفكرين الناظرين المعتبرين لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ على طريق قومك يا محمد إلى الشام. وفي هذا القصص بيان عملي لعذاب الله الأليم الذي يحل بالعصاة والمذنبين، ولرحمته الواسعة التي تشمل الطائعين، وقد أمر رسول الله بإخبار المشركين بذلك علهم يعتبرون بما حل بقوم لوط من عذاب، وإن عذابهم هو العذاب الأليم، وبما حل بلوط ومن تبعه من الرحمة وأنه هو الغفور الرحيم. المعنى: ونبئهم يا محمد أنى أنا الغفور الرحيم. وأن عذابي هو العذاب الأليم، ونبئهم وأخبرهم عن ضيف إبراهيم المكرمين، إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما.. قال إبراهيم: إنا منكم وجلون وخائفون، قال لهم ذلك بعد أن رد عليهم بأحسن منها، وقدم لهم عجلا سمينا مشويا، فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم، وتوجس منهم خيفة. قالوا: يا إبراهيم، لا تخف، إنا رسل ربك نبشرك بغلام عليم، قال: أبشرتمونى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 287 على أن مسنى الكبر؟ فبم تبشروني؟ قالوا: يا إبراهيم، بشرناك بالحق الثابت إذ هو وعد الله الذي لا يتخلف. فلا تكن من القانطين اليائسين فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا غرابة في ذلك فالله الذي أوجد ولدا من غير أب وأم قادر على إيجاده من أبوين عجوزين!! قال إبراهيم: ولا يقنط من رحمة ربه إلا الضالون المكذبون البعيدون عن طريق الحق والصواب. ولما علموا أنهم ملائكة وليسوا بشرا حيث أخبروه بأمر خارق للعادة وهو بشراهم بالولد قال لهم: ما خطبكم أيها المرسلون! قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين ضالين مشركين، قوم يأتون في ناديهم المنكر، ويأتون الرجال شهوة من دون النساء!! إنا أرسلنا إلى قوم لوط. أرسلنا إلى هؤلاء لنهلكهم بالعذاب إلا آل لوط وأتباعه وأهل دينه، إنا لمنجوهم أجمعين، ومخلصوهم من ذلك العذاب إلا امرأة لوط كانت من الغابرين قد قضى الله عليها أن تكون من المهلكين، لأنها كانت تفعل فعلهم، وتعينهم على قصدهم. فلما جاء آل لوط المرسلون، وهم الملائكة ضيف إبراهيم جاءوهم في بلدهم (سدوم) قال لوط: إنكم أيها القادمون قوم منكرون لا أعرفكم وقيل: أنكر حالتهم وخاف عليهم من قومه لما رآهم شبانا مردا حسان الوجوه، قالوا: يا لوط، بل جئناك بعذاب قومك وهلاكهم، وقد كانوا يشكون في مجيئه، ولا يصدقونك في خبرك، ونحن قد آتيناك بالحق والأمر الصدق فإنا رسل الحق- سبحانه وتعالى- وإنا لصادقون في كل ما ادعيناه. ثم جاءت مرحلة التنفيذ فقالوا له: أسر مع أهلك المؤمنين ببقية من الليل أى: أسر بطائفة من الليل تكفى لتجاوز حدود القرية والبعد عنها واتبع أدبارهم، وكن من ورائهم لئلا يتخلف منهم أحد. ولا تشغل قلبك بأحد من الكفار المتخلفين منهم، بل كن ذاكرا لله شاكرا له أن نجاك وأهلك من العذاب، ولا يلتفت منكم أحد لئلا تروا العذاب وهو نازل بهم فترق قلوبكم لهم ولكن جدوا في المسير وأسرعوا في الهجرة غير ملتفتين إلى من وراءكم، وامضوا حيث تؤمرون. وأوحينا إلى لوط ذلك الأمر: أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين: وأوحينا إليه ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 288 الأمر ثم فسر بعد الإبهام بقوله: إن دابرهم وآخرهم مقطوع ويستأصل، أى: أنه لا يبقى منهم أحد أبدا وسينزل عليهم العذاب وهم داخلون في الصباح. وفي هذه السورة ذكر عذابهم وهلاكهم قبل فعلهم، (والواو لا تقتضي ترتيبا) وجاء أهل المدينة (سادوم) يستبشرون بالأضياف طامعين فيهم، مؤملين أن يفعلوا معهم الفاحشة. ولما رأى لوط ذلك فيهم قال لهم: إن هؤلاء ضيفي فلا تفضحون، واتقوا الله، ولا تحزون. أليس فيكم رجل رشيد يدافع عن الفضيلة!! قالوا: يا لوط أو لم ننهك عن أن تضيف أحدا من العالمين، لأنا لا يمكننا أن نمنع أنفسنا عن ارتكاب الفاحشة معهم، وقيل المعنى: أو لم ننهك عن أن تكلمنا في شأن أحد من الناس قصدناه بالفاحشة. قال: يا قوم هؤلاء بناتي تزوجوهن فهن أطهر لكم، إن كنتم فاعلين. أقسم الله- سبحانه وتعالى- بعمر النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وبحياته أن هؤلاء لفي سكرتهم وضلالهم يعمهون ويتيهون، وما علموا أن العذاب ينتظرهم وأنهم في طريق الفناء والهلاك فاعتبروا يا أهل مكة. عقب هذا مباشرة أخذتهم الصيحة، وحلت بهم الصاخة، وقت شروق الشمس إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فجعلنا عالى ديارهم سافلها، وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل منضود، مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد. إن في ذلك لآيات للمتوسمين المفكرين الناظرين بعين الاعتبار وأن ديارهم بطريق قومك إلى الشام فهم يرونها. فهل من مدكر؟! إن في ذلك لآية للمؤمنين الصادقين!! أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر [سورة الحجر (15) : الآيات 78 الى 86] وَإِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَإِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 289 المفردات: أَصْحابُ الْأَيْكَةِ هم قوم شعيب، والأيكة: الغيضة والشجر الملتف لَبِإِمامٍ مُبِينٍ بطريق واضح أَصْحابُ الْحِجْرِ الحجر ديار ثمود فَاصْفَحِ اعف عنهم وتجاوز عن مسيئهم، والصفح الإعراض. المعنى: ولقد كان أهل مدين أصحاب أيكة وغيضة ظالمين بشركهم، وقطعهم الطريق ونقصهم الكيل والميزان، فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة، وعذاب يوم الظلمة وقد كانوا قريبا من قوم لوط في المكان ولذا قال الله: وإنهما لبطريق واضح يسلكه الناس لم يندرس بعد، والناس تبصر تلك الآثار الشاهدة عليهم، وهذا تنبيه لقريش وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ «1» ولقد كذب أصحاب الحجر وهم قبيلة ثمود المرسلين إذ كذبوا نبيهم صالحا. ومن كذب نبيا واحدا فقد كذب الكل لأنهم متفقون في الأصول، وآتيناهم آياتنا الدالة على صدق رسولنا صالحا وهي الناقة التي أخرجها الله من صخرة صماء وكانت تسرح في بلادهم، ولها شرب ولهم شرب فهي ضخمة، ولبنها كثير كان يكفى القبيلة، وكانت لهم بيوت نحتوها في الجبل، وأصبحوا فيها آمنين من العدو، ومن سقوطها عليهم. فلما عتوا وبغوا، واعتدوا على الناقة أخذتهم الصيحة في وقت الصبح فما أغنى عنهم ما كانوا يكتسبون من أموال وديار.   (1) سورة الصافات الآية 137. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 290 وهذه سنة الله في الخلق، وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق والعدل ليجزي الله الذين أساءوا بما عملوا، ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، وإن الساعة لآتية لا ريب فيها، فاصفح يا محمد وأعرض عمن أساء إليك، واصفح الصفح الجميل، وهذا قبل الأمر بالقتال، ولا تعجب من هذا. إن ربك هو الخلاق العليم الذي يعلم المصلحة والعلاج الناجح للكل لأنه خلق الكل أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [سورة الملك آية 14] إذا لا غرابة أن يأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة بالعفو والصفح ثم يأمره وهو بالمدينة بالقتال والجهاد والغلظة في الحرب.. توجيهات إلهيّة إلى الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلم [سورة الحجر (15) : الآيات 87 الى 99] وَلَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 291 المفردات: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تطمع ببصرك إلى ما عند غيرك من حطام الدنيا أَزْواجاً مِنْهُمْ أصنافا منهم وَاخْفِضْ جَناحَكَ المراد ألن جانبك وتواضع لهم، مأخوذ من خفض الطائر جناحه على فرخه إذا غطاه به وضمه إليه الْمُقْتَسِمِينَ جماعة من قريش اقتسموا الطريق ليصدوا عن سبيل الله، وقيل: اقتسموا للقرآن فقال بعضهم هو سحر، وبعضهم. هو شعر، وبعضهم هو كهانة، وقيل هم أهل الكتاب عِضِينَ جمع عضة والمراد فرقوه، وآمنوا ببعض وكفروا ببعض، وقيل فرقوا أقوالهم فيه فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ المراد بلغ الرسالة للجميع، وأظهر دينك ولا تخش أحدا، وأصل الصدع الشق ومنه تصدع البناء وتصدع القوم تفرقوا يَضِيقُ صَدْرُكَ المراد تتألم وتتحرج الْيَقِينُ الموت لأنه متيقن الوقوع. هكذا السور المكية المبدوءة بأحرف هجائية تبدأ غالبا بالكلام على القرآن الكريم والنبي صلّى الله عليه وسلم، وتختتم بالحديث عنهما ألا ترى إلى سورة هود ويوسف وإبراهيم وها هي ذي سورة الحجر. المعنى: وتالله لقد آتيناك يا أيها الرسول سبع آيات هي المثاني، والقرآن العظيم، ولقد اختلف العلماء في المراد بالسبع المثاني فقال البعض: هي الفاتحة وقد روى الشيخان ذلك التفسير عن النبي صلّى الله عليه وسلم. والفاتحة تثنى في كل صلاة بقراءتها في كل ركعة، وقيل سميت بذلك لأن فيها الثناء على الله- سبحانه وتعالى-، وقال البعض السبع المثاني هي السبع الطوال: البقرة. وآل عمران. والنساء. والمائدة. والأنعام. والأعراف. والأنفال. والتوبة: بناء على أنهما سورة واحدة، وسميت مثاني لأن القصص والأحكام والحدود ثنيت فيها وكررت، وقيل المراد بالسبع المثاني جميع القرآن. ويكون عطف والقرآن العظيم من باب الترادف أو عطف الصفات والموصوف واحد اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ [الزمر 23] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 292 ولقد آتيناك وأنزلنا عليك سبعا من المثاني والقرآن العظيم، وهذا شرف كبير. وفضل عظيم، وجاه عريض، ومن يعطى هذا لا يطمح ببصره طموح راغب إلى ما متعنا به أزواجا من الكفار وأصنافا منهم، وكيف يطمع في عرض زائل، وحطام فان وقد أعطى القرآن العظيم؟! روى عن أبى بكر- رضى الله عنه-. من أوتى القرآن فرأى أن أحدا أوتى من الدنيا أفضل مما أوتى فقد صغر عظيما، وعظم صغيرا، وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلم «ليس منّا من لّم يتغنّ بالقرآن» أى: يستغنى به. وهذا توجيه سام وأدب عال من الله- سبحانه- لعباده المؤمنين، وتربية لنفوسهم بعيدة الأثر، فليس أضر على الإنسان من طموحه إلى من هو فوقه في الدنيا وعرضها بل انظر إلى من دونك تسترح فإذا أعطيت مع هذا القرآن فكفى به شرفا، وليست الآية تدعو إلى عدم العمل. كلا فليس في ديننا رهبانية ولا كسل بل هو دين العمل والقصد الحسن، وفي الآية إشارة إلى ما في القرآن من الخير والفلاح، وأنه لا يغرنا تقلب الذين كفروا في البلاد بل هو متاع قليل ومأواهم جهنم وبئس المصير. ولا تحزن على المشركين إن لم يؤمنوا، ويقول القرطبي: ولا تحزن على ما تمتعوا به في الدنيا فلك في الآخرة أفضل منه. واخفض جناحك للمؤمنين، نعم وألن جانبك لهم، وتواضع معهم، فلو كنت فظا غليظ القلب لا نفضوا من حولك فاعف عنهم، واستغفر لهم، وشاورهم في الأمر يا سبحان الله هذه تعاليم إلهية تلقى للنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي شهد له القرآن بأنه على خلق عظيم ليعمل بها كل رئيس أراد أن تلتف حوله قلوب جماعته، فلينظر حكامنا وقادتنا إلى تعاليم القرآن. وقل لهم: إنى أنا النذير المبين فقط، فليس لي من الأمر شيء وإنما علىّ البلاغ والتبشير والإنذار، وعلى الله كل شيء بعد هذا. ولقد آتيناك ونزلنا عليك القرآن مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب وهم المقتسمون الذين جعلوا القرآن عضين، نعم أهل الكتاب اقتسموا القرآن فجعلوا بعضه حقا لأنه موافق لهواهم، وبعضه باطلا لأنه مخالف لهواهم! وقال بعضهم هذه السورة لي، وقال الآخر وهذه السورة لي، ترى أنهم اقتسموا القرآن وجعلوه فرقا، ويجوز أن يراد بالقرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 293 كتبهم التي يقرءونها، وقد آمنوا ببعض وكفروا ببعض، ويكون هذا من باب التسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث قال قومه إنه سحر، أو شعر، أو كهانة. وبعضهم يقول: المقتسمون هم القرشيون الذين اقتسموا الطريق ووقف كل منهم على باب يحذر الناس من اتباع النبي ويقولون عن القرآن إنه سحر وصاحبه ساحر، وهو كذب، وصاحبه كذاب، وهو شعر وصاحبه شاعر، ولعل المعنى إنى أنا النذير المبين إنذارا بعذاب ينزل بكم كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن فرقا وأنواعا. فاقسم بربك لنسألنهم جميعا يوم لا ينفع مال ولا بنون، عما كانوا يعملون وسنجازيهم عليه الجزاء الوافي حتى يقول الكافر يا ليتني كنت ترابا. وإذا كان الأمر كذلك، وقد نفذ النبي صلّى الله عليه وسلّم كل هذه التوجيهات وعمل بها فاصدع أيها النبي بما تؤمر. أمر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بتبليغ الرسالة للجميع، والجهر بها فقد مضت مرحلة الإسرار في الدعوة. فاصدع بالذي تؤمر به وفرق به جمعهم، واجهر بدعوتك فسينشق بها حائطهم وسيصدع جدارهم، وأعرض عن المشركين، ولا تبال بهم فالله عاصمك منهم، ومؤيدك بروح من عنده، وكافيك شر المستهزئين بك المجاهرين لك في العداوة والبغضاء، وقد صدق الله وعده ونصر عبده، ونال كل من زعماء الشرك وقادة الباطل حتفهم على أسوأ صورة في غزوة بدر وما بعدها. هؤلاء المستهزئون بك يستحقون أكثر من ذلك فهم الذين يجعلون مع الله إلها آخر، ويشركون به من لا يملك ضرا ولا نفعا فسوف يعلمون عاقبة عملهم ونتيجة شركهم. ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، وتتحرج نفسك بما يعملون ولكن الدواء الناجح الذي به تطمئن القلوب وتهدأ النفوس، حتى تستعذب في سبيل الله كل عذاب، وتعده من أكبر النعم وتمام التطهير لها. هذا الدواء هو التسبيح والتقديس والركوع والسجود، والإكثار من العبادة والاتصال بالله إذ هذه مطهرات للنفس مقويات للروح ومتى قويت الروح ضعفت النفس المادية التي تشعر بالألم والتعب والنصب إذا عملت في سبيل الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 294 وهذا علاج نفيس يجب أن يتحلى به كل داعية إلى الله، وعامل في سبيل الله. ولقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حينما عالج ألم ابنته وتعبها من الرحى بعلاج التسبيح والتحميد والتكبير. واعبد ربك أيها الرسول حتى يأتيك الأمر اليقين، وتلقى ربك، وإذا كان هذا هو توجيه الله للنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر فأين نحن؟! أين نحن؟! اللهم وفقنا واهدنا إلى سواء السبيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 295 سورة النحل وتسمى سورة النعم لما عدد الله فيها من النعم، وهي مكية على الصحيح، ويدور الكلام فيها حول ذكر النعم وبيان مظاهر القدرة، ونقاش المشركين في عقائدهم مع التعرض ليوم القيامة وما فيه، وقد ذكر في آخر السورة السابقة المستهزئين المكذبين وذكر الموت، وقال: لنسألنهم أجمعين، كل ذلك يتناسب مع أول السورة هنا، وعدد آياتها ثمان وعشرون ومائة آية. من دلائل وحدانية الله [سورة النحل (16) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَالْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْءٌ وَمَنافِعُ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْها جائِرٌ وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 296 المفردات: أَنْ أَنْذِرُوا الإنذار التحذير مما يخاف منه دِفْءٌ الشيء الذي يدفئك جَمالٌ المراد هنا جمال الصورة وتركيب الخلقة تُرِيحُونَ الرواح رجوعها بالعشي من المرعى تَسْرَحُونَ السراح ذهابها بالغداة إلى المرعى أَثْقالَكُمْ أحمالكم بِشِقِّ الْأَنْفُسِ بمشقتها وغاية جهدها جائِرٌ أى: مائل إلى الحق وزائغ الْأَنْعامَ الإبل والبقر والغنم وهي الثمانية المذكورة في سورة الأنعام. المعنى: يقول الله- سبحانه وتعالى-: أتى أمر الله، وتحقق مجيئه إذ خبر الله في الماضي والمستقبل سواء لأنه خبر الحق الآتي ولا شك فيه، وأمر الله هنا عقابه وعذابه لمن أقام على الشرك وتكذيب الرسول، وقد كان كفار مكة يستعجلون العذاب الذي وعدهم به رسول الله حتى قال النضر بن الحارث: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.. وقيل أمر الله الآتي: هو قيام الساعة وما يتبعه من إحياء الموتى. أتى أمر الله فلا تستعجلوه. سبحانه وتعالى عما يشركون أى: تنزيها له وتقديسا عما تشركون، فالله- سبحانه- هو الواحد الأحد. تبرأ من أن يكون له شريك أو ولد وتعالى جنابه عن الشركاء. ولقد كان استعجال العذاب وقيام القيامة منهم تكذيبا للنبي واستهزاء بوعده، وذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 297 لون من الشرك وضرب من الكفر، ولهذا قرن النهى عن الاستعجال بإثبات التنزيه له عن الشرك والتعالي عن الشركاء!! ينزل الملائكة بالروح من أمره والروح هو الوحى الذي يحيى القلوب كما تحيى الروح موات الأبدان، فالإنسان بلا روح جزء من طين أسود منتن، وهو- بلا وحى يهديه- ميت لا حياة فيه أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها فالروح الذي ينزل من أمره- سبحانه- هو الحياة والنور والهدى والقرآن ينزله على من يشاء من عباده، فالله أعلم حيث يجعل رسالته. وينزل الملائكة بالروح من عنده أن أنذروا أهل الكفر بأنه لا إله إلا أنا فاتقون وبأن خافوا عقابي، وارجوا ثوابي. وفي هذه الآية يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ توكيد لسابقتها وتفصيل لإجمالها ولذا فصل بينهما، ومن دلائل التوحيد ومظاهر القدرة أيضا.. خلق السموات وما فيها والأرضين وما فيها فقد خلق العالم العلوي، والعالم السفلى خلقهما بالحق الذي لا شك فيه لم يخلقهما عبثا، ولكن ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، تعالى سبحانه وتسامى عما يشركون، إذ هو الذي خلق وحده فهو الذي يعبد وحده. وأما أنت أيها الإنسان فمخلوق ضعيف مهين حقير، خلقت من نطفة مذرة ونهايتك جيفة قذرة خلقت من ماء مهين، وآخرك عظم رميم. فإذا أنت خصيم مبين؟؟ تخاصم ربك وتجادل رسله وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وقد أتى أبى بن خلف الجمحي لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعظم رميم (بال متفتت) وقال: يا محمد أترى أن الله يحيى هذا بعد ما قد رم؟! ما أجهلك يا ابن آدم. لما ذكر الإنسان وأصله ذكر ما منّ به عليه من نعم لا تحصى فذكر أنه خلق الأنعام، خلقها لكم يا بنى آدم فيها دفء من صوف ووبر، وجلد وشعر وبلحمها وشحمها تتولد الحرارة الكافية لنشاط الجسم، وفيها منافع، نعم في الأنعام منافع جمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 298 فهي عنصر للغذاء، وآلة للعمل، وناحية مهمة في الاقتصاد، ومركب ذلول في السفر، ومنها تأكلون لبنها وسمنها ولحمها وشحمها، ولبنها غذاء جيد نافع. ولكم فيها جمال وزينة، وفرح ومسرة في رواحها بالعشي حيث تكون أبهى منظرا وأعلى أسنمة وأكثر لبنا، تملأ البيت ثغاء ورغاء والعين جمالا والنفس سرورا، ولذا قدم الرواح على السرور، وهي تحمل أحمالكم الثقيلة إلى بلد لم تكونوا بالغيه وحدكم إلا بالمشقة والتعب فالجمل سفينة الصحراء، ومركب الأعراب، ولقد أعده العليم الخبير للسير فيها أرأيت خفه الذي لا يغوص في الرمال وصبره على الجوع والعطش الأيام الطوال، إن ربكم لرءوف بكم رحيم. وخلق الخيل والبغال والحمير لتركبوها وتنتقلوا بها من مكان إلى آخر فتتخذونها للركوب والزينة، ومهما تعددت السيارات والدراجات فلا يزال للإبل والبغال والحمير مكانتها عند أصحابها وأربابها، ويخلق الله- سبحانه- غير ذلك مما لا تعلمون. أليس في هذا دليل على إعجاز القرآن الكريم؟ وأن خالقه يعلم بما كان وما سيكون فهذه العبارة جمعت الدراجة والسيارة والطيارة والسفينة وغير ذلك من المخترعات التي جدت وستجد وسبحان العليم البصير القوى القادر سبحانه وتعالى عما يشركون!. ويستدل بعض الفقهاء بهذه الآية على عدم جواز لحوم الخيل والبغال والحمير لأنها خلقت للركوب والزينة بخلاف الأنعام. يقولون من تداعى المعاني كلام الله- سبحانه- هنا على السبيل بخصوصه وإن كان ذلك من نعمه علينا بل هي نعمة من أجل النعم أن الله يهدينا إلى سواء السبيل. وعلى الله وحده هدايتنا بواسطة رسله وكتبه إلى السبيل القصد والطريق الحق المستقيم إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى. وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ومن السبيل طريق جائر عن العدل والحق فلا تتبعوه. طريق الشيطان والنفس والهوى فلا تسلكوه. ولو شاء ربكم لهداكم أجمعين على طريق الإلجاء والقسر، ولكنه بيّن وترك لك الاختيار ليجازيك عن عملك واختيارك وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً [سورة يونس آية 99] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 299 ولا تنس أن الهداية نوعان هداية دلالة وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ [البلد 10] وهداية توفيق وإلجاء اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة 6] . وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ. من نعم الله علينا أيضا [سورة النحل (16) : الآيات 10 الى 16] هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهاراً وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 300 المفردات: تُسِيمُونَ ترعون، والسائمة التي ترعى وَما ذَرَأَ لَكُمْ أى: وسخر ما خلق لكم، ومن ذرأ أخذت الذرية وهي تشمل الثقلين إلا أن العرب تركت همزها أَلْوانُهُ أشكاله ومناظره مَواخِرَ جواري فيه تذهب وتجيء مقبلة ومدبرة بالريح وأصل المخر شق الماء عن يمين وشمال رَواسِيَ جبالا ثابتة أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ خوف أن تضطرب يمينا وشمالا بكم من ماد يميد إذا تحرك ومال وَعَلاماتٍ هي معالم الطرق بالنهار. المعنى: لما ذكر الله- سبحانه وتعالى- ما أنعم به علينا من الأنعام والدواب شرع في ذكر نعمته علينا في المطر والنبات، وما يتبع ذلك من ذكر السماء ونجومها والبحار وسفنها. هو الذي أنزل من السماء ماء عذبا فراتا لكم منه شراب تسيغونه ليس ملحا بل هو النمير الصافي إذ أصله بخار تكاثف في الجو ثم حمله الريح إلى حيث شاء ثم نزل مطرا شرب منه الحيوان ونبت بسببه شجر وزرع، فيه تسام الدواب وترعى مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ. ينبت لكم ربكم به الزرع بجميع أصنافه وأشكاله، وينبت لكم به الزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات الأخرى التي لم يعرفها العرب المخاطبون بهذا الكلام أولا، إن في ذلك لآية ودلالة على وحدانية الله وقدرته لقوم يتفكرون، نعم إن في عملية المطر وخروجه من ماء البحر الملح ثم صعوده إلى السماء ونزوله منها حيث شاء ثم إنبات الزرع والشجر المختلف الأشكال والألوان بسببه مع أن الماء واحد والأرض واحدة، إن في ذلك كله لآيات ودلائل لقوم يتفكرون.. هو الذي سخر لكم الليل والنهار يتعاقبان، الليل للسكون والهدوء والنوم والراحة، والنهار للحركة وكسب الرزق، وسخر الشمس والقمر كل في فلك يسبحون ذللها للنور والضياء، والحياة والدفء والحرارة ولتعلموا عدد السنين والحساب بمسير الشمس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 301 والقمر، والنجوم مسخرات بأمره لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر، إن ذلك لآيات لقوم يستعملون عقولهم في فهم حقائق الكون الذي هم فيه. هو الذي سخر لكم ما خلق في الأرض جميعا على اختلاف أشكاله وألوانه خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً «1» إن في ذلك لآية لقوم يتذكرون ويتدبرون، وهو الله- سبحانه وتعالى- الذي سخر البحر وذلله وجعله خاضعا وهو صاحب قوة وبطش فجعلنا نحده بالجسور والقناطر، ونركبه، ونتخذه طريقا لنقل أنفسنا ومتاعنا إلى حيث نشاء، وجعل فيه- سبحانه- السمك ولحمه الطري والحلية من اللؤلؤ والمرجان، ومكننا من كل ذلك ونرى السفن الكبيرة الثقيلة محمولة على ظهر البحر وتشق الماء شقا، وتمخر عبابه وهي كالبلد المتنقل، سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا، ولتستخرجوا منه حلية تلبسونها، ولتبتغوا من فضله بالتجارة والرحلات والأسفار، وقد من الله علينا بذلك لننتفع ولعلنا نقوم بواجب الشكر علينا. هو الذي ألقى في الأرض رواسى من الجبال الشامخات لئلا تميد بكم الأرض وتضطرب عند دورانها وتحركها، وجعل لكم فيها أنهارا كنهر النيل والفرات والمسيسبى وغيرها وجعلها سبلا وطرقا لربط أجزاء الأرض ولنقل التجارة والمصالح، وجعلها علامات وحدودا، وفي الأرض علامات أخرى وحدود من أنهار وجبال وآكام، وفي السماء نجوم نهتدي بها في الظلمات وسبحان الله عما يشركون. هذا هو الخلاق المنعم فأين الشركاء؟! [سورة النحل (16) : الآيات 17 الى 23] أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18) وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)   (1) سورة البقرة الآية 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 302 المعنى: هذا خلق الله فأرونى. ماذا خلق الذين من دونه؟ أرونى ماذا خلقوا من الأرض؟ أم لهم شركاء في السماء؟!! عجبا لكم أيها المشركون. أفمن يخلق مما تقدم كمن لا يخلق؟ أعميتم فلا تذكرون وتتعظون؟ ما تقدم من أنواع الخلق بعض نعم الله علينا وهذا في الواقع قطرة من بحر، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها أبدا. ولا تطيقوا حصرها، فكيف بأداء شكرها والقيام بحقها؟ ومع هذا فالله هو الغفور الرحيم بكم، فأنت مهما عملت لله فعملك لا يوازى نعمة واحدة من نعمه، ولعلك تدرك السر في ختم الآية بالمغفرة والرحمة. الله خلق جميع الخلق ما نعلم وما لا نعلم، وهو صاحب النعم التي لا تحصى ولا تحصر، وهو الغفور الرحيم، والله يعلم ما تسرون وما تعلنون إذ هو عالم الغيب والشهادة اللطيف الخبير. والذين تدعونهم من دون الله آلهة. وشركاء لله، لا يخلقون شيئا بل هم يخلقون، وهم أموات غير أحياء أى: هم أجساد ميتة. لا حياة فيها أصلا، فزيادة (غير أحياء) لبيان أنها ليست كبعض الأجساد التي تموت بعد ثبوت الحياة لها، بل لا حياة لهذه أصلا فكيف يعبدونها وهم أفضل لأنهم أحياء، وهم أموات، إن هذا لعجيب!! وهؤلاء الأصنام لا تشعر في أى وقت يبعث عبدتهم من الكفار، وهذا ضرب من التهكم بهم عظيم إذ شعور الجماد بالأمور الظاهرة والمحسوسة مستحيل فكيف بالأمور الخفية التي لا يعلمها إلا الله؟!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 303 إلهكم أيها الناس إله واحد لا إله إلا هو المعبود بحق إذ هو وحده الخالق المدبر لهذا الكون، وهو فاطر السموات والأرض فكيف يعبد غيره من المخلوقات بل من الأحجار والأوثان والجمادات؟!! وإذا كان هو الحق لا شك فيه، فما سبب هذا الشرك؟ الذين لا يؤمنون بالآخرة وما فيها، ولا يؤمنون بالوحدانية، قلوبهم منكرة لا يؤثر فيها وعظ، لا ينفع معها تذكير، والحال أنهم مستكبرون عن الحق متعالون على الصواب، دائبون على الكفر والجحود، حقا إن ربك يعلم ما يسرون وما يعلنون، وهو مجازيهم على أفعالهم، إنه لا يحب المستكبرين أبدا، ألست معى أن سبب الكفر هو غلق القلوب وختمها بالخاتم حتى لا يدخلها نور؟ وهؤلاء لا يسمعون وإن كانت لهم آذان، ولا يبصرون وإن كانت لهم عين، ولا يفقهون وإن كان لهم قلب، وذلك أن روحهم خبيثة مظلمة بداء الكبر والتكبر، ولقد كان امتناع وليهم إبليس عن امتثال أمر ربه لسبب واحد هو التكبر قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ [ص 76] أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً [الإسراء 61] ولقد صدق الله: إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ [غافر 56] . المستكبرون وجزاؤهم [سورة النحل (16) : الآيات 24 الى 29] وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 304 المفردات: أَساطِيرُ أباطيل وترهات القدماء أَوْزارَهُمْ ذنوبهم الْقَواعِدِ الأسس التي عليها البناء تُشَاقُّونَ تعادون أنبيائى بسببهم الْخِزْيَ الهوان والذل فَأَلْقَوُا السَّلَمَ المراد استسلموا وأقروا لله بالربوبية. المعنى: الذين لا يؤمنون بالآخرة، قلوبهم منكرة، وهم مستكبرون، وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم؟: أى شيء أنزله ربكم؟ ومن هو السائل؟ هل هو الوافد عليهم أو هو واحد من المسلمين أو هو النضر بن الحارث؟ وقال هذا تهكما قالوا في الجواب عن السؤال: ما تدعون نزوله عليكم أيها المسلمون إن هو إلا أساطير الأولين وأباطيل المتقدمين. قالوا هذه المقالة لكي يحملوا أوزارهم وذنوبهم كاملة غير منقوصة يوم القيامة وليحملوا أوزار من يضلونهم ويتبعونهم في ذلك بغير علم، وهم العوام فمن سن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ألا ساء ما يحملون! وبئس شيئا يحملونه هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 305 ولا غرابة في ذلك فها هي ذي حال من تقدمهم من الأمم يحكيها الحق- تبارك وتعالى- بقوله: قد مكر الذين من قبلهم، وفعلوا المكايد لدين الله، واحتالوا بكافة الطرق أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ «1» هؤلاء الماكرون قديما قد أتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم، وهذا تمثيل و المعنى: أهلكهم الله فكانوا بمنزلة من سقط عليه بنيانه، وأحبط الله أعمالهم، وأبطل كيدهم، وانظر إلى السر في قوله تعالى: من فوقهم والسقف لا يكون إلا من فوق. السر هو تأكيد سقوط السقف، وهلاكهم تحته بسببه، وأتاهم العذاب من كل مكان ومن حيث لا يشعرون، فاعتبروا يا أهل مكة، هذا عذابهم في الدنيا.. أما في الآخرة فها هو ذا. ثم يوم القيامة يخزيهم ويذلهم، ويقول بواسطة الملائكة لهم تأنيبا وتهذيبا: أين شركائى؟ أين آلهتكم التي عبدتموها من دوني؟ أين الذين كنتم تشاقون فيهم رسلي، وتعادونهم؟!! قال الذين أوتوا العلم من الملائكة والمؤمنين: إن الخزي اليوم والهوان، والذل والحسرة والسوء على الكافرين وحدهم. الذين تتوفاهم الملائكة حالة كونهم ظالمي أنفسهم بالكفر والمعاصي، لما حضرهم الموت وبدا لهم ما كانوا ينكرون ألقوا السلم واستسلموا لقضاء الله، وتيقنوا أن قول الرسل حق، وأنه لا إله إلا الله، وقالوا لسوء تقديرهم وظنّا منهم أن ذلك ينفع: ما كنا نعمل سوءا، فيرد الله عليهم بلى: قد عملتم السوء كله إن الله عليم بما كنتم تعلمون ... فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس المثوى والمآب مثوى المستكبرين إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ.. [سورة الصافات آية 35] . المتقون وجزاؤهم [سورة النحل (16) : الآيات 30 الى 32] وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ماذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)   (1) سورة التوبة الآية 32. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 306 هذه مقالة المؤمنين واعتقادهم في المنزل عليهم وهو القرآن إثر مقالة المشركين والمستكبرين عليه. ليظهر الفرق واضحا بين الاثنين. المعنى: وقيل للذين اتقوا ماذا أنزل ربكم؟ والسائل هم الوافدون على المسلمين في المواسم والأسواق، وذلك أن رسل العرب كانت تأتى إلى مكة فإذا صادفت مشركا قال في شأن محمد والقرآن: هذا ساحر. كاذب. شاعر وما أنزل عليه أساطير الأولين، وإذا صادفت مؤمنا قال: ما حكاه القرآن ها هنا. قال المتقون في جوابهم: أنزل ربكم خيرا، وانظر يا أخى في الجوابين جواب المشركين أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ. وجواب المسلمين قالُوا خَيْراً ولعل التخريج كما ذكر القرطبي أن المشركين لم يؤمنوا بالتنزيل وقالوا أساطير الأولين بالرفع والمؤمنون آمنوا بالنزول المستمر فقالوا: أنزل خيرا وهذا أساسه الإعراب في الآية. للذين أحسنوا في هذه الدنيا بالإيمان والعمل حسنة من النصر والفتح والعز والسلطان، ولدار الآخرة ونعيمها وما فيها خير وأبقى لهم، فهم يثابون على عملهم الطيب في الدنيا والآخرة وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى أى في الدنيا وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ أى في الآخرة ... ولنعم دار المتقين جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار، لهم فيها ما يشاءون من متاع ونعيم مثل هذا الجزاء العظيم يجزى الله المتقين، الذين تتوفاهم الملائكة طيبين طاهرين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 307 من الشرك والعمل السيئ، وزاكية أعمالهم وأقوالهم، تقول الملائكة لهم: سلام عليكم من الله، ادخلوا الجنة بسبب ما كنتم تعملون من عمل، وذلك كله تفضل من المولى إذ العمل وحده لا يكفى للحديث «لن يدخل أحد منكم الجنّة بعمله، قالوا: حتّى أنت يا رسول الله! قال: حتّى أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته» . عاقبة الكفار [سورة النحل (16) : الآيات 33 الى 34] هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34) المعنى: ما ينتظر هؤلاء الكفار إلا أن تأتيهم الملائكة لقبض أرواحهم ثم يأخذون جزاءهم، أو يأتى أمر ربك بالعذاب والنكال لهم في الدنيا، أو يأتى أمر ربك بحدث القيامة وما فيها من عذاب لهم، لأنهم تسببوا في لحوق ما ذكر بهم، وشبهوا بالمنتظرين المتوقعين لحدوثه، كما فعل هؤلاء فعل الذين من قبلهم، وكان الجزاء على ذلك واحدا، وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. كذلك فعل الذين من قبلهم مثل أفعالهم فأصابهم سيئات فعلهم، وحاق بهم جزاؤه، وأحاطهم خطر ما كانوا يستهزئون، فإنهم كانوا يستعجلون العذاب، ويطلبونه استهزاء بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وكفرا، وظلوا كذلك حتى حاق بهم العذاب، وأحاط بهم الخطر من كل جانب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 308 بعض حججهم الواهية [سورة النحل (16) : الآيات 35 الى 40] وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آباؤُنا وَلا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40) المفردات: اجْتَنِبُوا اتركوا الطَّاغُوتَ كل ما عبد من دون الله فهو طاغوت، وقيل الطاغوت: الشيطان والمراد اجتنبوا ما يدعو إليه مما نهى عنه الشرع، والطاغوت من الطغيان وهو مجاوزة الحد حَقَّتْ وجبت وثبتت لإصراره على الكفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 309 المعنى: لما سدت السبل أمام المشركين، ولزمتهم الحجج الدامغة، تهربوا وقالوا: لو شاء الله ما أشركنا، ولا فعلنا محرما أبدا، وهم يقصدون بذلك الطعن في الرسالة: قال الشوكانى في كتابه فتح القدير: «ومقصودهم بهذا القول المعلق بالمشيئة الطعن في الرسالة أى: لو كان ما قاله الرسول حقا من المنع من عبادة الله، والمنع من تحريم ما لم يحرمه الله حاكيا الرسول ذلك عن الله. ولو كان هذا صحيحا لم يقع منا ما يخالف ما أراده الله. فإنه قد شاء ذلك وما شاءه كان وما لم يشأ لم يكن، فلما وقعت منا العبادة لغيره وتحريم ما لم يحرمه كان ذلك دليلا على أن ذلك المطابق لمراده والموافق لمشيئته، مع أنهم في الحقيقة لا يعترفون بذلك، ولا يقرون لكنهم قصدوا بذلك الطعن على الرسل. وقال المشركون: لو شاء الله ما عبدنا شيئا حال كونه من دون الله أى غيره، نحن ولا آباؤنا من قبل، ولا حرمنا شيئا حال كونه دونه أى: دون الله، والمراد: ما حرمنا شيئا مستقلين بتحريمه. مثل ذلك الفعل ليس جديدا بل كذلك كذب الذين من قبلهم رسلهم، ولجئوا إلى مثل هذه الطرق. وجادلوا رسلهم بالباطل ليدحضوا به الحق، فهل على الرسل إلا البلاغ الواضح الذي يبين الشريعة وأحكامها! وأما علم الله وإرادته، فشيء آخر ولقد بعثنا في كل أمة رسولا لإقامة الحجة عليهم بأن اعبدوا الله حق العبادة واتركوا كل معبود سواه كالشيطان والصنم الكاهن، وكل من دعا إلى ضلال وتجاوز حدود الدين والعقل. فمنهم من هداه الله ووفقه فآمن وامتثل، ومنهم من حقت عليه الضلالة وثبتت لإصراره على الذنب والمعاصي فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [سورة الشمس 8- 10] . ومن هنا نعلم أن الله أرسل الرسل تدعو إلى الخير وامتثال أمر الله، وترك عبادة الأوثان وفعل المحرمات (وهذا معنى الهداية والدلالة) ثم بعد ذلك آمن البعض وكفر البعض فمنهم شقي وسعيد، ولهذا عاقب من خالفه وأثاب من أطاعه فكان في ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 310 دليل على أن أمر الله- سبحانه- لا يستلزم موافقة إرادته فإنه يأمر الكل بالإيمان، ولا يريد الهداية إلا للبعض، وهذا رد لحجتهم وتفنيد لكلامهم، ثم قال: فسيروا في الأرض. وانظروا كيف كان عقاب المكذبين، ودعوكم من هذه الحجج الواهية، والمناقشة الباطلة. ثم خصص الخطاب برسوله صلّى الله عليه وسلّم ليؤكد ما تقدم بقوله: إن تحرص على هدايتهم وتطلبها فليس يجدي ذلك شيئا فإن وراء الهداية والطلب باللسان توفيق الله وإلهامه، والله- سبحانه- لا يهدى ولا يوافق الضالين المكذبين الذين ختم على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم. انظر إليهم متعجبا وقد أقسموا بالله، وبالغوا في تغليظ اليمين بأن الله لا يبعث من يموت. بل يبعث من يموت، ويعد ذلك وعدا عليه حقا، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يبعث الله الخلق ليبين لهم الذي يختلفون فيه من أمر البعث، وليظهر لهم أنه حق أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا [الأعراف 44] ، وليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين. وما لكم لا تؤمنون بالعبث؟ وتقولون من يحيى العظام وهي رميم؟ وما علمتم أن كل شيء في الكون خاضع له سبحانه، وإذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [سورة النحل آية 40] . جزاء المؤمنين وتهديد الكافرين [سورة النحل (16) : الآيات 41 الى 50] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ داخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَالْمَلائِكَةُ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 311 المفردات: هاجَرُوا فِي اللَّهِ الهجرة: ترك الأوطان والأهل والبلد في سبيل الله وهي بعد ذلك ترك السيئات من الأعمال لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم في الدنيا منزلا حسنا يَخْسِفَ خسف المكان يخسف خسوفا ذهب في الأرض وخسف الله به الأرض غاب فيها فِي تَقَلُّبِهِمْ في أسفارهم وتصرفهم عَلى تَخَوُّفٍ مع تخوف وتوقع للبلايا، وقيل التخوف والتنقص في المال والأنفس والثمرات يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ يميل من جانب إلى جانب ومنه قيل للظل بالعشي: فيء، لأنه فاء من المغرب إلى المشرق أى: رجع والفيء الرجوع، ومنه حتى تفيء إلى أمر الله أى: ترجع داخِرُونَ خاضعون صاغرون والدخور: الصغار والذل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 312 المعنى: والذين هاجروا من بلادهم وأوطانهم، وتركوا أموالهم وأولادهم في سبيل الله وحبا في رضائه، هاجروا من بعد ما ظلموا، وذاقوا الأمرين من المشركين، قيل نزلت في بلال. وصهيب، وخباب، وعمار عذبهم أهل مكة حتى ذاقوا العذاب ألوانا، وقال قتادة نزلت في المهاجرين إلى الحبشة والأولى أن تفهم في الآية العموم، وأنها تشمل كل من عذب في سبيل الله وهاجر لله ولا مانع من أن تفهم الهجرة على أنها ترك المنهيات كما ورد في الحديث «والمهاجر من ترك ما نهى الله» . والذين هاجروا في سبيل الله لينزلهم الله منزلا ويعطيهم عطاء حسنا في الدنيا، فيه سعادتهم وغناؤهم وعزهم، ولأجر الآخرة أكبر وأفضل من أجر الدنيا، إذ الآخرة هي دار الجزاء والبقاء، لو كانوا يعملون، ولو رأوه لعلموا أنه خير وأفضل بكثير، هؤلاء المهاجرون هم الذين صبروا واحتسبوا أجرهم عند الله، وعلى ربهم فقط يتوكلون ويعتمدون. ولقد كانت قريش ترى أن الله أجل وأعلى من أن يرسل بشرا أَكانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ [سورة يونس آية 2] . فيرد الله عليهم بقوله وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى وليسوا من أهل السماء كالملائكة، ويأمر الله نبيه بقوله قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً رَسُولًا [سورة الإسراء آية 93] . فإن شككتم في ذلك فاسألوا أهل الذكر والعلم من أهل الكتاب فهم أدرى منكم وأعلم بالرسول إن كنتم لا تعلمون، ويقولون لكم: إن جميع الرسل بشر، ولم يرسل الله رسولا إلا وكان بشرا من خلقه أوحى إليهم بدين صحيح موافق لعصره نعم ما أرسل الله من قبلك إلا رجالا أوحى إليهم بالآيات البينات وأنزل معهم الكتاب. وأما أنت يا رسول الله فقد أنزل الله إليك الذكر والقرآن لتبين للناس ما أنزل إليهم، فأنت أدرى الناس به، وأحرص الناس عليه وعلى اتباع الناس له، فأنزله إليك لتبينه للناس ولعلهم يتفكرون ويهتدون. أعمى هؤلاء الكفار فأمنوا جزاء مكرهم وعملهم السيئات!! أفأمنوا أن يخسف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 313 الله بهم الأرض كما خسف بقارون، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون، وهم في حال غفلتهم كما فعل بقوم لوط. أو يأخذهم على تخوف أى حال تخوف وتوقع العذاب، وقيل على تخوف أى: على تنقص في المال والولد والزرع والثمار، فإن ربكم لرؤوف رحيم حيث لم يعاجل بالعقوبة بل أمهل رجاء التوبة والرجوع إلى الخالق. وما لهم ينكرون ذلك!! ويؤمنون على أنفسهم العذاب!! أو لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله، ويميل من جانب إلى جانب، وفي هذا من مظاهر القدرة والعظمة ما لا يخفى فإن دوران الأرض، وتحركها حتى يتحول وجهها من جهة إلى جهة، والظل من حال إلى حال لدليل على عظمة الله وكمال قدرته، يتفيأ الظل على اليمين والشمائل، ساجدين لأمره، وهم صاغرون وخاضعون لله، ولا شك أن انتقال الظل من حال إلى حال دليل على القدرة الكاملة، هذا في الجمادات أما الأحياء فلله وحده يسجد كل ما في السموات وكل ما في الأرض من دابة، وقد سجد الملائكة والحال أنهم لا يستكبرون أبدا عن شيء كلفوا به أو أراده الله لهم. فالكل يسجد إن طوعا وإن كرها يخافون ربهم من فوقهم فوقية مكانة لا مكان، وهم يفعلون ما يؤمرون. مناقشة المشركين في عقائدهم وأعمالهم [سورة النحل (16) : الآيات 51 الى 62] وَقالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ واصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَلَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 314 المفردات: الدِّينُ الطاعة والإخلاص واصِباً دائما. واجبا خالصا. تَجْئَرُونَ تضجون بالدعاء، يقال جأر يجأر جؤاره، والجؤار مثل الخوار وهو صوت البقر مُسْوَدًّا المراد متغيرا والسواد كناية عن غمه بالبنت كَظِيمٌ ممتلئ غما وحزنا، أو هو المغموم الذي يطبق فاه فلا يتكلم من شدة الألم مأخوذ من الكظامة وهو شد فم القربة يَتَوارى يختفى ويغيب هُونٍ هون وبلاء يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ يواريه في التراب ويرده إليه مَثَلُ السَّوْءِ المثل المراد به الصفة الغريبة غرابة المثل مُفْرَطُونَ متروكون فيها مقدمون إليها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 315 المعنى: بعد ما ثبت أن كل ما في الكون خاضع لله- سبحانه وتعالى-، ومنقاد لأمره أتبع ذلك بالنهى عن الشرك، ببيان بعض فضائح العرب المشركين وأعمالهم علهم يرجعون ويثوبون إلى رشدهم. وقال الله- سبحانه-: لا تتخذوا إلهين اثنين إنما الله إله واحد فالألوهية منحصرة في الذات الأقدس- جل جلاله-. وقد يقال: ما فائدة زيادة اثنين بعد قوله إلهين، وزيادة واحد بعد قوله إله؟ وقد قالوا في الجواب: إن الزيادة لأجل المبالغة في التنفير من اتخاذ الشريك حيث قال: إلهين اثنين، وكانت زيادة (واحد) دفعا لتوهم أن المراد إثبات الألوهية دون الوحدة، وخلاف المشركين منصب على الوحدة في الإله. إن كنتم ترهبون شيئا في الوجود فإياى وحدي فارهبون. وكيف لا يكون ذلك؟ ولله كل ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا، وله الدين والطاعة، والإيمان والإخلاص ثابتا. واجبا دائما، إذ ليس لأحد أن يطاع، إلا انقطع ذلك بهلاكه أو زوال ملكه، إلا الله- سبحانه وتعالى- فطاعته دائمة ثابتة واجبة. أفغير الله بعد ذلك تتقون وتخافون؟؟؟ وما بكم من نعمة أيّا كان لونها وجنسها فمن الله وحده. فعلى العاقل ألا يشرك بالله، وألا يعبد إلا الله، وألا يتقى إلا الله. ولكن الإنسان يتلون، ولا يتجه الوجهة الصحيحة وهو غارق في بحار النعمة ولذا يقول الله: ثم إذا مسكم الضر في نعمة من صحة أو ولد أو مال فإلى الله- سبحانه- تجأرون، وتتضرعون في كشف الضر عنكم، إذ لا يكشف الضر إلا هو، ثم إذا كشف الضر عنكم، ورفع ما نزل بكم عاد بعض أفراد الإنسان إلى طبعه، وإذا فريق منكم يا بنى آدم يشركون بربهم، ألست تعجب من فعل هؤلاء حيث يضعون الشرك بالله الذي أنعم عليهم بكل نعمة، وكشف عنهم ما نزل بهم من ضر جعلوه مكان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 316 الشكر له؟ فعلوا هذا ليكفروا بما آتيناهم من نعمة، حتى كأن هذا الكفر منهم- الواقع موقع الشكر الواجب عليهم- غرضا لهم ومقصدا انظر إلى قوله: لِيَكْفُرُوا وهذا غاية في العتو والفساد ثم قال لهم ربهم على سبيل التهديد: فتمتعوا بما أنتم فيه فسوف تعلمون عاقبة أمركم ونهاية عملكم. ثم حكى- سبحانه وتعالى- نوعا آخر من قبائحهم فقال: ويجعلون للأصنام التي لا يعلمون حقيقتها نصيبا مما رزقناهم. أليس عجبا أن يجأر هؤلاء إلى الله بالدعاء إذا مسهم الضر، ثم إذا أزاح عنهم الضر أشركوا به غيره، ومع ذلك يجعلون لما لا يعلمون حقيقته من الجمادات أو لما صنعوه بأيديهم نصيبا مما رزقناهم من الأموال يتقربون به إليه ... تالله قسما بذاته العليا لتسألن عما كنتم تفترون وتختلقون من الأكاذيب والضلالات. وهؤلاء يجعلون لله البنات وقد كانت خزاعة وكنانة تقول الملائكة بنات الله.. سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا! ولهم ما يشتهون من الذكور أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى [النجم 21] أى: جائرة. أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ. وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. [الصافات 151 و 152] . إن هذا لعجيب!! البنات لله والذكور لهم!! وهم يأنفون من البنات، وإذا بشر أحدهم بالبنت ظل وجهه مسودا، وظل كئيبا حزينا كاسف البال لأنه بشر بولادة أنثى، ويظل في حيرة من أمره أيمسك المولود الأنثى على هوان وذل وعار وفقر أم يدسه في التراب؟ وكانوا يصنعون ذلك في الجاهلية، أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون أن يجعلوه لأنفسهم يجعلونه لله؟!! ألا ساء ما يحكمون!! لهؤلاء الذين لا يؤمنون بالحياة الآخرة وما فيها مثل السوء والصفة السوءى التي لا أسوأ منها، ولله- سبحانه- المثل الأعلى والكمال المطلق وهو العزيز الحكيم. وهو الرحمن الرحيم واسع الكرم كثير الحلم حيث لم يعاجلهم بالعقوبة، ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم، ويعاقبهم على جرمهم فورا ما ترك على ظهر الأرض من دابة، ولكنه- جل جلاله- حليم ستار غفور رحيم، وهو يؤخرهم إلى أجل مسمى عنده فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، وعندئذ يأخذ المسيء جزاءه حتما بلا تأخير ولا إمهال. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 317 ثم رجع الحق- تبارك وتعالى- إلى أعمال الجاهلين فقال: ويجعلون لله ما يكرهون من البنات والشركاء الذين هم عبيده، والعجب العاجب أن تصف ألسنتهم الكذب فيقولون كذبا وزورا أن لهم الحسنى على هذا العمل، لا: ليس الأمر كما تزعمون، حقا إن لهم النار وأنهم مفرطون ومتروكون فيها ومنسيون، ومعجلون إليها ومتقدمون. من مظاهر قدرته ونعمه علينا [سورة النحل (16) : الآيات 63 الى 69] تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) وَما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 318 المفردات: فِي الْأَنْعامِ الإبل والبقر بنوعيه والضأن والمعز لَعِبْرَةً العبرة تمثيل الشيء بالشيء ليعرف حقيقته بطريق المشاكلة فَرْثٍ الفرث ما ينزل إلى كرش الحيوان فأما الخارج منه فلا يسمى فرثا سَكَراً السكر ما يسكر من الخمر، وقيل غير ذلك وَرِزْقاً حَسَناً جميع ما يأكل من هاتين الشجرتين وَأَوْحى الوحى قد يستعمل بمعنى الإلهام وهو ما يخلق في القلب ابتداء من غير سبب كالغرائز والطبائع في الحيوان مِمَّا يَعْرِشُونَ من الذي يعرشه ابن آدم ويعمله بيده كالخلايا من الطين والغاب والخلايا الحديثة من الخشب والزجاج. بعد ما ذكر بعض صنيع العرب في جاهليتهم ووقوفهم من الدعوة الإسلامية موقف المشرك المعاند أخذ يذكر أن هذا طبع في الناس قديما وحديثا ليعلم النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه ليس بدعا من الرسل، وليس قومه منفردين بالعتو والاستكبار ثم أخذ بعد ذلك يعدد نعمه علينا وأياديه المختلفة. المعنى: تالله العلى القدير (إنه لقسم من الله بنفسه) لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك رسلهم فوقفوا منهم مثل ما وقفوا معك: وزين لهم الشيطان أعمالهم، وفي هذا إشارة إلى أن الأنبياء جميعا يدعون إلى ناحية الخير والروح في الإنسان، والشيطان دائما يقف منهم موقف العناد ويستغل ناحية المادة في الإنسان ويزين له عمله السوء ومعاكسة الأنبياء. زين لهم الشيطان أعمالهم السيئة فهو وليهم اليوم، وقرينهم في الدنيا، ويحتمل أن يكون المعنى فهو وليهم وناصرهم اليوم أى يوم القيامة، والمراد نفى الناصر عنهم على أبلغ وجه. وقيل المعنى: فهو ولى هؤلاء الكفار اليوم، ولهم في الآخرة عذاب أليم. ولم يكن هلاك الأمم وعذابهم إلا بعد إقامة الحجة عليهم، وأنت مع أمتك كذلك، ولهذا قال: وما أنزلنا عليك الكتاب أى: القرآن لحال من الأحوال أو لعلة من العلل إلا لتبين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 319 للناس الذي اختلفوا فيه من العقائد والعبادات، والناس كما قلنا بين داعيين: داعي البشرية المادية التي هي ارتكاز الشيطان، وداعي الروح الطيبة التي هي من الله، وجاءت الرسل تحكم بين الداعيين وفيما اختلفوا فيه من الاتجاهات، وما أنزلنا عليك القرآن إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى للناس ورحمة لقوم يؤمنون، أليس القرآن وبيانه للمختلف فيه وهدايته ورحمته من أجلّ النعم؟!، ثم عاد الكلام إلى بيان نعم الله علينا المادية بعد بيان أكبر نعمة في الوجود لأنها تتعلق بالهداية والإرشاد وسلوك الطريق الحق. والله- سبحانه- أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها، ألم تر إلى الأرض وهي هامدة فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وتفاعلت مع البذور وربت وانتفخت وأنبتت من كل زوج بهيج، ذلك النبات الأخضر، اليانع الذي يخرج من تراب فيه ماء، فبدل العفونة التي تنشأ من وضع شيء غريب في الأرض المبتلة يخرج نبات بهجة للناظرين، إن في ذلك لآية لقوم يسمعون كلام الله ويتدبرون معناه. نعم وإن لكم في الأنعام لعبرة وعظة، ودلالة على قدرة الله ووحدانيته وعظمته، وقال أبو بكر الوراق: العبرة في الأنعام تسخيرها لأربابها وطاعتها لهم، وتمردك على ربك، وخلافك له في كل شيء، ومن أعظم العبر برىء يحمل مذنبا. وإن لكم يا بنى آدم في الأنعام لعبرة وعظة حيث نسقيكم مما في بطونه لبنا خالصا من كل شيء يكدر صفوه سائغا للشاربين لذيذا وهنيئا، لا يغص به شاربه، فيه الغذاء الكامل الذي يكفى عن كل طعام وشراب، ويكفى أنه يغذى الطفل مدة من الزمن فلا يحتاج لغيره واللبن من بين الأطعمة قد أظهر النبي صلّى الله عليه وسلّم مكانته بقوله إذا أكل غيره ولو لحما «اللهم بارك لنا فيه وزدنا خيرا منه، وإذا أكل اللبن قال: اللهم بارك لنا فيه وزدنا منه» والطب الحديث يعرف مقدار اللبن ويفسر لنا كلام النبي صلّى الله عليه وسلّم تفسيرا عمليا. هذا اللبن خرج من بين فرث ودم، يا سبحان الله! إنه من غذاء الحيوان، والغذاء تتحول عصارته إلى فرث، وإلى دم وإلى لبن بواسطة شعيرات دقيقة حول أنسجه الجهاز لهضمه يا سبحان الله!! أنت القدير الحكيم، ومن الذي علم هذا الرجل الأمى الذي نشأ في بيئة أمية جاهلة لم تعرف شيئا أبدا؟!! إنه الله الذي أنزل عليه القرآن كتابا أحكمت آياته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 320 ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون منه سكرا وخمرا، وتتخذون رزقا حسنا في مطعمكم ومأكلكم، فثمر النخيل والعنب وما شاكلهما يتخذ منه عصير الخمر، ومادة الأكل والرزق الحسن. يقولون إن هذه أول آية نزلت في تحريم الخمر، وقد نزلت بمكة لأن السورة مكية، وتحريم الخمر في المدينة، وقد سأل بعضهم كيف تكون هذه أول آية في تحريم الخمر؟ ولأنها أول آية في تحريم الخمر التي امتدت جذورها وتأصلت عند العرب كانت الإشارة فيها للتحريم إشارة بعيدة الغور، حيث كانت ثمرات النخيل والعنب سكرا ورزقا حسنا فوصف الرزق منها بأنه حسن وترك السكر دليل على أنه ليس بحسن، وفي هذا إشارة إلى خلو ذلك من الخير والحسن، وفي الآيات التالية لتحريم الخمر أبان خطرها وضررها، والآية الكريمة التي معنا دلالة على قدرة الله وعظمته إن في ذلك لآية لقوم يعقلون. وأوحى ربك إلى النحل، وجعل من غريزتها وطبعها ذلك. أوحى لها أن اتخذى من الجبال وكواها بيوتا، وكذلك من الشجر وجوفه، ومما يعرش ابن آدم، ويصنع لك ويهيأ من الخلايا على النظام القديم والحديث وقد أوحى الله لها وألهمها أن كلى من رحيق كل الثمرات، يا سبحان الله هذا الكون وحدة لا يتجزأ، ولا يمكن أن يكون نظامه مصادفة، بل لا بد له من إله مدبر عالم حكيم قوى قادر، هذه النحلة التي ألهمت تأكل من كل الثمرات، وتدخل في أكمام الأزهار تبحث عن الغذاء هي التي تنقل على أجنحتها تلقيح الأزهار من الذكر إلى الأنثى من حيث لا تشعر، ويظهر أن لكل كائن في الوجود رسالة يؤديها علم بها أو لم يعلم، أوحى لها أن كلى من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك مذللة طائعة. يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه هو العسل. يا سبحان الله!! لقد صدق من قال: ورق التوت: يأكله الدود فيخرج منه الحرير، ويأكله الظبى فيخرج منه المسك، ويأكله النحل فيخرج منه العسل، ويأكله المعز فيخرج منه الروث. هذا العسل فيه شفاء للناس، نعم فيه شفاء لكثير من الأدواء، ولقد حدثنا أستاذنا الدكتور محمد جعفر عن فوائده الطبية بما به عرفنا أن فيه شفاء لكثير من أمراض الناس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 321 إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ويتعظون. من عجائب قدرة الله وآياته ووجدانيته [سورة النحل (16) : الآيات 70 الى 74] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ شَيْئاً وَلا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74) المفردات: أَرْذَلِ الْعُمُرِ أردؤه يَجْحَدُونَ يكفرون حَفَدَةً جمع حافد وهو المسرع في الخدمة المسارع في الطاعة ولذا قيل الحفدة هم الأعوان والخدم، والرأى أنهم أولاد البنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 322 المعنى: هذا لون آخر من ألوان صنعه الباهر، ومظهر من مظاهر قدرته وألوهيته في الإنسان، وما يتصل به بعد بيان ذلك في المطر والنبات والحيوان. والله خلقكم يا بنى آدم، ولم تكونوا شيئا ثم يتوفاكم عند انقضاء آجالكم، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر وأردئه لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ «1» . اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً «2» فمن يكبر في السن حتى يبلغ أرذل العمر يفقد قوة إحساسه وشعوره العام، بل ويصبح كالطفل من ناحية إدراكه ورغبته في تحقيق ما تصبو إليه نفسه، ولقد صدق الله حيث علل بلوغه أرذل العمر بقوله: لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً من العلم لا كثيرا ولا قليلا بعد علم كان قد حصل له، أما تحديد أرذل العمر فذلك موكول إلى ظروف الإنسان، وإن كان الغالب أن يكون بعد الخامسة والستين. وهذا حكم غالبى ففي الحديث ما معناه: «خير الناس من طال عمره وحسن عمله، وشر الناس من طال عمره وساء عمله» . والله فضل بعضكم على بعض في الرزق، ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليتخذ بعضكم بعضا سخريا، ولم يترك الله الغنى يعبث بماله حيث شاء، بل جعل للفقير في ماله حقا معلوما، وللدولة ممثلة في الحاكم المسلم حق آخر تبعا لظروف الدولة العامة. ومع هذا فما الذين فضلهم الله بسعة الرزق على غيرهم برادي رزقهم- الذي أعطاه الله لهم بلا سبب- فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم من عبيدهم وإمائهم فالمالكون والمملوكون في الرزق سواء عند الله إذ هم أنفقوا من مال جعلهم الله خلفاء عليه. ومعنى الآية بالتوضيح أن الله فضل بعضا على بعض في الرزق، وأوجب على الغنى أن يعطى الفقير، وعلى المالك أن يعطى المملوك، ومع هذا فلم يعط غنى فقيرا ولم يرد مالك على مملوك رزقا حتى يتساوى معه، وإنما يردون عليهم شيئا يسيرا، وندرا قليلا في بعض الأحيان. وهذا مثل ضربه الله للناس بمعنى: إذا كنتم لم ترضوا أن يكون خدمكم معكم   (1) سورة التين الآيتان 4 و 5. (2) سورة الروم الآية 54. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 323 بل والفقير من جلدتكم وعصبتكم يكون معكم سواء في الرزق الذي رزقكم إياه الله فكيف تجعلون عبيدي معى سواء؟! وتجعلونهم لي شركاء في الألوهية، وأنتم وخدمكم سواء في البشرية وأنتم تنفقون مما جعلكم خلفاء فيه، ومع هذا ما رضيتم بالتساوي، فكيف تسوون بين الخالق البارئ فاطر السموات والأرض وهذه الأصنام والأوثان؟! أتشركون به فتجحدون نعمته عليكم التي ذكر جزء منها في هذه السورة؟! والله جعل لكم من أنفسكم وجنسكم أزواجا لكم تسكنون إليهم، وجعل بينكم مودة ورحمة، وجعل لكم منهم بنين وحفدة. ورزقكم من الطيبات التي تستطيبونها في الدنيا أعموا؟ فبالباطل من الشركاء والأصنام يؤمنون به وحده، وبنعمة الله البينة السابقة التي لا تعد ولا تحصى هم يجحدون ويكفرون؟! ويعبدون من دون الله أشياء لا تملك لهم رزقا أى رزق من السموات والأرض، ولا يستطيعون هذا أبدا، وانظر إلى الجمع بين نفى الملك، ونفى الاستطاعة، وإذا كان الأمر كذلك فلا تضربوا لله الأمثال والأشباه والنظائر فلله المثل الأعلى، وهو لا يشبه أحدا من خلقه أيا كان، واعلموا أن البحث في كنه ذات لله إشراك، والوقوف عند ما أجمله الله إدراك. وقد كانوا يقولون، إن الملوك تخدمهم الأكابر، والأكابر تخدمهم العبيد فهؤلاء أصنام نتخذهم قربى وواسطة إلى الله العلى الكبير، وهذا خطأ فاحش، وفهم سقيم وقياس الخلق على الخالق. ليس بينك وبين الله حجاب، وليس له وزير ولا حاجب بل هو أقرب إلينا من حبل الوريد، وهو الذي يقول: وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ [البقرة 186] . إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون شيئا فاسمعوا وأطيعوا يغفر لكم من ذنوبكم ويؤخركم إلى أجل مسمى ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 324 مثل الأصنام والأوثان [سورة النحل (16) : الآيات 75 الى 79] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76) وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) المفردات: أَبْكَمُ الأبكم من ولد أخرس، وقيل: الذي لا يسمع ولا يبصر كَلٌّ ثقل على وليه وقرابته، ووبال على صاحبه وابن عمه، ولذا يسمى اليتيم كلا لثقله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 325 على من يكفله كَلَمْحِ الْبَصَرِ اللمح النظر بسرعة مُسَخَّراتٍ مذللات لأمر الله تعالى جَوِّ السَّماءِ الجو هو ذلك الفضاء اللانهائى المحيط بالأرض. المعنى: ضرب الله مثلا للأصنام المعبودة وهي لا تنفع ولا تضر، والله الواحد الخالق البارئ فاطر السموات والأرض، واهب الوجود، والمنعم بكل شيء موجود، ضرب الله مثلا: عبدا مملوكا لمالكه، وهو لا يقدر على شيء أبدا، فلا ينفع نفسه ولا غيره، وحرا رزقناه منا رزقا حسنا، وأعطيناه مالا وفيرا، فهو ينفق المال سرا وجهرا في جهات الخير والبر، هل يستوي هذا الذي لا خير فيه مع هذا الحر الغنى المنفق في وجوه البر والخير؟ هل يستوي الضار مع النافع؟! لا يستوي هذا وذاك أيضا!، ومن يسوى بين الصنم من حجارة أو خشب الذي لا يدفع عن نفسه الذباب وبين المولى القدير- جل جلاله- وتباركت أسماؤه صاحب اليد والنعم، وله ملك السموات والأرض، يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء. الحمد لله، والثناء بالجميل والشكر الجزيل لله الواحد القهار المنعم بجلائل النعم، والمتفضل بجلائلها، لا مانع لما أعطى. ولا معطى لما منع، هو المستحق وحده للحمد والثناء لا إله إلا هو، بل أكثرهم لا يعلمون الحق فيتبعوه، ويعرفوا المنعم عليهم بالنعم الجليلة فيخصوه وحده بالتقديس والتنزيه. ثم ضرب الله- سبحانه- مثلا ثانيا لنفسه ولما يفيض على عباده من النعم الدينية والدنيوية، وللأصنام التي هي أموات بل لم تسبق لها الحياة وهي لا تضر ولا تنفع فقال. وضرب الله مثلا رجلين أحدهما أبكم عيى مفحم، مقطوع اللسان أخرس، لا يقدر على شيء أبدا لعدم فهمه، وعدم قدرته على النطق، لا يقوم بحاجته، ولا يؤدى عمله وهو كل على مولاه، وثقل على قرابته، هذا الإنسان الأبكم الذي لا يقدر على تحصيل شيء أبدا، وهو كل على مولاه، أينما يوجهه إلى أى جهة أخرى لا يأت بخير قط لأنه لا يفهم ولا يعقل ما يقال له. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 326 هل يستوي هذا الذي وصفناه هو والذي يأمر بالعدل، ويسير بالعدل، ويحكم بالعدل، ويأمر بالعدل، وينطق ويفهم ويتصرف على أتم وجه وأكمله؟! وهو في نفسه على صراط مستقيم، ودين قويم، وسيرة صالحة لا إفراط فيها ولا تفريط. وحاصل الوصفين في المثل الثاني أن الأول لا يستحق شيئا، والثاني يستحق أكمل وصف، والمقصود الاستدلال بعدم تساوى هذين الموصوفين على امتناع التساوي بينه وبين ما يجعلونه شريكا له. ولما فرغ من ذكر المثلين أخذ يتحدث عن نفسه فقال: ولله وحده- سبحانه- غيب السموات والأرض، يختص بذلك لا يشاركه أحد من خلقه، وما أمر الساعة التي هي محط الأنظار، ومحل البحث والجدل بين المنكرين وبين الذين يؤمنون بالبعث ويوم الساعة، إلا كلمح البصر، أو غمضة العين، أو هو أقرب. وهذا مثل في وصف سرعة القدرة على الإتيان بها لأن الله إذا أراد شيئا قال له كن فيكون، إن الله على كل شيء قدير. والله أخرجكم من بطون أمهاتكم، لا تعلمون شيئا، وجعل لكم طرق العلم، وسبل الإدراك وهي السمع والبصر والفؤاد، لتدركوا البيئة التي أنتم فيها، وتقفوا على أسرارها، والله خلق كل هذا لكي تصرفوا كل حاسة فيما خلقت له، ولعلكم بهذا تشكرون ربكم الذي أنعم عليكم بهذه النعم، ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ومذللات للطيران في أرجاء الفضاء، ما يمسكهن وهن طائرات إلا الله، ألم يروا إلى الطائر يطير في الجو باسطا جناحيه أو قابضهما ما الذي حمله في الهواء وهو جسم ثقيل؟ ومن الذي خلق في الطائر حب الطيران؟ وذلّله وعلمه كيف يطير الله- سبحانه وتعالى-.. من نعم الله علينا [سورة النحل (16) : الآيات 80 الى 83] وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوافِها وَأَوْبارِها وَأَشْعارِها أَثاثاً وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَأَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 327 المفردات: سَكَناً أى: تسكنون فيها وتهدءون تَسْتَخِفُّونَها يصير خفيفا عليكم حملها ظَعْنِكُمْ الظعن سير أهل البادية للانتجاع وللانتقال من موضع إلى آخر أَثاثاً الأثاث متاع البيت، وفيه معنى الكثرة، ومنه شعر أثيث أى كثير أَكْناناً جمع- كن وهو الغار يتحصن فيه الإنسان من المطر، ويأوى إليه من وهج الشمس وضوضاء الناس سَرابِيلَ جمع سربال وهو القميص أو كل ما يلبس. هذا امتداد لبيان نعم الله على خلقه، وتعداد آيات الله على عبيده بعد ما ثبت أن آلهتهم لا تضر ولا تنفع، وفي هذا تنفير من الشرك وغرس لبذور التوحيد، وكشف لمظاهر قدرة الله ونعمه علينا. المعنى: والله جعل لكم من بيوتكم التي تأوون إليها سكنا وراحة، فيها تسكنون، وبها تهدءون، وجعل لكم من جلود الأنعام إبلها وبقرها وغنمها بيوتا يتخذها المسافر ويأوى إليها، وتكون خفيفة في حملها ونقلها يوم سفركم وانتقالكم ويوم إقامتكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 328 وجعل من أصوافها وأوبارها وأشعارها- فللغنم الصوف، وللجمال الوبر، وللمعز الشعر- جعل من الصوف والوبر والشعر أثاثا لبيوتكم، وجعل لكم فيها متاعا تتمتعون به إلى حد وزمن الله يعلمه، ملابسنا اليوم وأثاثنا في المنازل قد يكون غير هذه الأشياء، والله جعل لكم مما خلق من الأنعام والبيوت والجبال ظلالا تستظلون بها من وهج الشمس، وزمهرير البرد. والله جعل لكم من الجبال أكنانا ومغارات تأوون إليها من العدو أو خوفا من الشمس أو من زحمة الناس، وجعل لكم سرابيل ولباسا تلبسونها فتقيكم الحر والبرد، وسرابيل تقيكم بأسكم في الحرب والشدائد ولقد لبس النبي صلّى الله عليه وسلّم لباس الحرب ودروعها ولأمتها استعدادا للقاء العدو، والله يفعل ما يشاء. مثل ذلك الإتمام البالغ نهايته يتم عليكم نعمته في الدنيا والآخرة للدين والدنيا رجاء أن تسلموا لله وتنقادوا لصاحب هذه النعم وتتركوا عبادة الأوثان والأصنام واتباع الهوى والشيطان. فإن تولوا وأعرضوا عنك يا محمد. فلا عليك شيء أبدا إنما عليك البلاغ المبين، وعلينا الحساب والجزاء. هؤلاء الناس يعرفون نعمة الله بلسانهم فإذا سألتهم من صاحبها؟ قالوا: هو الله، ثم ينكرونها بأفعالهم وعبادتهم غير الله. وأكثرهم الكافرون الجاحدون وأقلهم المؤمنون الصادقون. مشهد من مشاهد يوم القيامة [سورة النحل (16) : الآيات 84 الى 89] وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 329 المفردات: يُسْتَعْتَبُونَ أصل العتب من عتب عليه يعتب إذا وجد عليه وأنكر عليه فعله وأعتبه أزال عتبة وترك ما كان يغضب عليه لأجله، واستعتبه استرضاه، والاسم العتبى وهو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضى العاتب، ومنه في الحديث «لك العتبى يا ربّ حتى ترضى» وقول النابغة الشاعر الجاهلى يعتذر للنعمان ابن المنذر. فإن كنت مظلوما فعبدا ظلمته ... وإن كنت ذا عتبى فمثلك يعتب والمراد أنهم لا يقبل منهم عتاب، ولا يكلفون بأعمال ترضى ربهم في الآخرة السَّلَمَ الاستسلام والانقياد لعذابه تِبْياناً بيانا كاملا بكل شيء. بعد بيان آيات الله التي ترشدنا إلى التوحيد الخالص ونعمه على الناس وبيان أن منهم المؤمنين وأكثرهم الكافرون أخذ يتكلم عن مشاهد يوم القيامة لعل فيها عبرة وعظة. المعنى: واذكر لهم يا محمد يوم نبعث من كل أمة من الأمم شهيدا عليهم بالإيمان والكفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 330 والتبليغ والرسالة. انظر إلى قوله تعالى: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [سورة النساء آية 41] ، ثم لا يؤذن لهؤلاء الكفار في الاعتذار والدفاع عن أنفسهم إذ لا حجة لهم، وإيراد «ثم» يفيد أن منعهم من الكلام والاعتذار أشد عليهم من شهادة الأنبياء والرسل عليهم. ولا هم يستعتبون إذ لا فائدة من العتاب مع العزم على السخط وعدم الرضا، ولا هم يسترضون أى: يكلفون أن يرضوا ربهم لأن الآخرة ليست دار تكليف وعمل: وإذا رأى الذين أشركوا شركاءهم يوم القيامة- وقد رأوا بأعينهم ما وعدهم ربهم حقا قالوا: ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوهم ونعبدهم من دونك!! يا حسرتنا على ما فرطنا في جنبك يا رب وهم يقصدون بذلك إحالة الذنب والإثم على هؤلاء الشركاء. وهذا عمل المتخبط المتحير في عمله. أما الشركاء فألقوا إليهم القول، وردوا إليهم دعواهم أسوأ رد، قالوا لهم: إنكم أيها الشركاء، لكاذبون فيما تزعمون وتدعون، وتعللون به أنفسكم. وألقى المشركون إلى الله يومئذ السلم، واستسلموا لقضاء الله مكرهين وانقادوا لعذابه الشديد، وضل عنهم ما كانوا يفترونه ويدعونه من أن لله شركاء ستشفع لهم، وتدفع عنهم السوء. الذين كفروا، وصدوا عن سبيل الله وهو طريق الحق والإسلام زدناهم عذابا فوق العذاب، وألما فوق الألم بما كانوا يفسدون. ويوم نبعث من كل أمة شهيدا يشهد عليهم من أنفسهم إتماما للحجة، وقطعا للمعذرة، وتأكيدا لما مضى. وجئنا بك يا محمد شهيدا على هؤلاء الأنبياء، فأنت الحكم العدل الذي تقضى بين الأمم وأنبيائها، وكتابك الذي أنزل عليك هو المهيمن على ما سبقه من الكتب وشاهد على رسالاتهم. ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء، وكان كتابك فيه البيان الشافي والدواء الناجع الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [سورة الأنعام آية 38] وهو الهداية للناس، والراحة والبشرى التامة للمسلمين خاصة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 331 وفي كتاب الكشاف للزمخشري في تفسير هذه الآية «فإن قلت: كيف كان القرآن تبيانا لكل شيء؟ قلت. المعنى: أنه بين كل شيء من أمور الدين حيث كان نصّا على بعضها أو أحاله على ما فيه باتباع رسول الله وطاعته مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى. إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أو حثا على الإجماع في قوله. من يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وقد رضى رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأمته ابتاع صحابته والاقتداء بآثارهم في قوله صلّى الله عليه وسلّم أصحابى كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم، وقد اجتهدوا وقاسوا وسلكوا طريق القياس والاجتهاد، فكانت السنة والإجماع والقياس والاجتهاد مستندة إلى تبيان فمن ثم كان القرآن تبيانا لكل شيء. وهذا القرآن الكريم وروافده من سنة وإجماع وقياس قد بينت لنا النظام الإسلامى الدقيق الشامل لكل نواحي الحياة من دين ودنيا وقيادة وعبادة، فالنظم الاقتصادية والسياسية والحربية والاجتماعية وغيرها تصلح لكل زمان ومكان موجودة في هذا الفيض الإلهى، وبأسلوب مرن يتفق مع أحدث النظريات العلمية، وهذا هو النظام الذي وصفه الإله العليم الخبير بخلقه فهلموا إليه أيها المسلمون وفقكم الله إلى الخير. أجمع آية للخير والشر [سورة النحل (16) : الآيات 90 الى 96] إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَلَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَلا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 332 المفردات: بِالْعَدْلِ بالإنصاف، والتوسط في الأمور، والمساواة وَالْإِحْسانِ إحكام العمل وإتقانه، ومقابلة الخير بأكثر منه والشر بأقل منه الْفَحْشاءِ من الفحش وهو الإفراط في القبح وَالْمُنْكَرِ ما أنكره الشرع، وأباه العقل السليم وَالْبَغْيِ التطاول والظلم وتجاوز الحد وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ نقض اليمين الحنث فيه وعدم الوفاء به كَفِيلًا شاهدا ورقيبا نَقَضَتْ أفسدت مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أى إحكام له أَنْكاثاً جمع نكث بمعنى منكوث وهو المنقوض، ونكث ونقض بمعنى واحد دَخَلًا الدخل الفساد والخديعة فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها فتسقط بعد ثبوتها على ساحل الأمان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 333 هذا بيان عملي، وتفسير لقوله تعالى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ ولا شك أن العدل والإحسان- بالمعنى العام- ووحدة القلوب بإعطاء ذي القربى، والبعد عن الفحشاء والمنكر من جميع الأفراد، والتباعد عن البغي والظلم، والوفاء بالعهد، وعدم نقض المعاهدات كل ذلك: دعائم لإخراج مجتمع إسلامى نظيف، مجتمع قوى عزيز، مجتمع كان أمل الفلاسفة والمصلحين، وفي هذا رد على من يفهم الدين على أنه عبادة فقط أنه دين لا دولة أو أنه لا يصلح لكل زمان.. المعنى: إن الله يأمر فيما أنزله عليك يا محمد بالعدل والإنصاف والتوسط بلا إفراط ولا تفريط، أليست كلمة العدل مع وجازتها قد جمعت كل حق وعدل وفضل وواجب في الدين والدنيا. ويأمر بالإحسان والإتمام والكمال، وعبادة الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.. يا سبحان الله تربية إلهية، وتأديب رباني وغرس المراقبة لله في القلوب، وهذا خير للناس عظيم. وبإيتاء ذي القرى ... والعطاء مطلقا شيء ندبه الدين وحببه إلينا خصوصا مع الأقارب فهو يثل السخائم، ويجمع القلوب، وينزع الضغائن ويظهرنا صفا واحدا كالبنيان المرصوص، والقريب له أمل خاص فإن لم تعطه مع حاجته كان شرا عليك. وينهى عن الفحشاء، والفحش كل ما فيه تجاوز لحدود الله المحدودة ومعالمه المرسومة فمن تجاوزها هلك، وباء بالخسران المبين. أما المنكر فهو ما أنكره العقل السليم والطبع المستقيم والدين الحنيف فكيف تأتيه، وفيه بلاء عظيم وخطر جسيم؟! يعظكم ربكم بهذا رجاء أن تتذكروا وتثوبوا إلى رشدكم، وترجعوا عن غيكم. إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون. وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا، وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم، وعهد الله عام شامل جامع لكل عهد بينك وبين ربك أو بينك وبين نفسك أو بينك وبين غيرك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 334 كل ذلك عهد الله إن عهده كان مسئولا، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وتأكدها وليس النهى خاصا باليمين المؤكدة. بل كل يمين وإنما المؤكدة إثمها أعظم وهذا التعظيم مخصوص بما ثبت في الصحيحين من قوله صلّى الله عليه وسلم: «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الّذى هو خير وليكفّر عن يمينه» . وكيف تنقضونها؟ وقد جعلتم الله عليكم كفيلا، وشاهدا وحفيظا، وإن الله يعلم ما تفعلون. ثم أكد وجوب الوفاء وتحريم النقض فقال: ولا تكونوا فيما تفعلون من النقض كالتي نقضت وأفسدت ما غزلته من بعد قوة وإحكام وعمل وإجهاد، نقضته أنكاثا ونقضا شديدا، بل ولا تنقضوا أيمانكم متخذيها دخلا وفسادا بسبب أن تكون أمة هي أربى وأزيد من جماعة أخرى. والمعنى لا تتخذوا الأيمان دخلا وخديعة للناس بسبب أن تكون جماعة أقوى من جماعة فتنقضوا اليمين لمصلحة تافهة حقيرة. إنما يبلوكم الله بهذا، وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون ومن بلائه للناس أن جعلهم مختلفين ليتخذ بعضهم بعضا سخريا، ولو شاء ربك لجعلهم أمة واحدة لا اختلاف فيها أبدا، ولكن لحكمة هو يعلمها يضل من يشاء ممن رأى في سابق علمه أنه لو ترك ونفسه لما فعل إلا الضلال والبهتان، ويهدى من يشاء ممن اطلع عليه في سابق الأزل فرآه يميل إلى الخير ولو ترك وشأنه لما فعل إلا الخير. ولتسألن عما كنتم تعملون، وأما ربك فلا يسأل عما يفعل- سبحانه وتعالى-، ويظهر والله أعلم أن القرآن أعاد النهى عن اتخاذ الأيمان دخلا لأنها أيمان خاصة في البيعة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم بدليل المبالغة في قوله فتزل قدم بعد ثبوتها، ولا تتخذوا أيمانكم فسادا وخديعة بينكم ثم تنقضوها فتزل قدم بعد ثبوتها ورسوخها، وهذه استعارة للمستقيم الحال يقع في شر عظيم وبلاء كثير كمن تزل قدمه فيقع في الخطر، وتذوقوا العذاب السيئ الشديد بما صددتم عن سبيل الله فإن الذي يبايع ويدخل في الدين ثم يخرج منه كان دخوله وخروجه مشجعا لغيره وداعيا للفساد ومزلزلا لعقائد العامة، ولكم عند ذلك عذاب عظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 335 ولا تشتروا بعهد الله وأيمانه ثمنا قليلا وعرضا تافها بسيطا حيث تنقضونه إن ما عند الله خير جزاء وأحسن ثوابا إن كنتم تعلمون. ما عندكم ينفد قطعا فكل آت قريب وكل شيء هالك وما يصادفنا ينتهى بانتهاء وقته وما عند الله باق لأنه هو الذي ينفع ثوابه، ويدخر جزاءه ولنجزين الذين صبروا في الله وجاهدوا فيه حق جهاده أجرهم بأحسن جزاء وأكرم مثوبة بسبب ما كانوا يعملون مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها. من آداب القرآن وتوجيهه [سورة النحل (16) : الآيات 97 الى 105] مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97) فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 336 المفردات: سُلْطانٌ تسلط وقوة بَدَّلْنا آيَةً رفعنا آية وجعلنا موضعها غيرها رُوحُ الْقُدُسِ أى: جبريل يُلْحِدُونَ يميلون إليه ويشيرون أَعْجَمِيٌّ العجمة في لسان العرب الإخفاء وضدها البيان، ورجل أعجم وامرأة عجماء أى: لا يفصح. المعنى: من عمل عملا صالحا سواء كان ذكرا أو أنثى أو بأى صفة كانت وهو مؤمن بالله واليوم الآخر ومصدق بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فلنحيينه حياة طيبه كريمة حياة فيها سعادة ونعيم، وقناعة وغنى عن الغير، حياة فيها توفيق واتجاه إلى الله- سبحانه وتعالى-، لا ضنك فيها ولا تعب: يقول عبد الله التستري: «الحياة الطيبة هي أن ينزع عن البعد تدبيره ويرد تدبيره إلى الحق» وقيل هي الاستغناء عن الخلق والافتقار إلى الحق هي كما يقول القرآن بأبلغ عبارة: حياة طيبة: هذا في الدنيا وأما في الآخرة فلنجزينهم أجرهم كاملا بأحسن ما كانوا يعملون. ومعنى الاستعاذة بالله اللجوء إليه لجوءا صحيحا حتى يطرد من قبله الشيطان الرجيم ووسوسته له، وحتى يكون قلبه مخلصا وعمله لله. إنه ليس للشيطان سلطان ولا قوة على المؤمنين المتوكلين إنما سلطانه وقوته على الذين يتولونه والذين رسخ في نفوسهم حب المادة وحب الدنيا والذين هم بربهم يشركون، وهذا كقوله تعالى: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ. [الحجر 42] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 337 وفي الآية الآتية شبهة واهية للمشركين ... وإذا بدلنا آية مكان آية ورفعنا آية وجعلنا مكانها آية أخرى، أو أنزلنا حكما وجعلنا مكانه آخر لحكمة الله أعلم بها، وهو أعلم بما ينزله من القرآن. قال هؤلاء المشركون: إنما أنت مفتر كاذب، بل أكثرهم لا يعلمون، راجع بحث النسخ في القرآن في آية (ما ننسخ) جزء ثان. قل لهم يا محمد: أنزله روح القدس جبريل من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا ونزله هدى وبشرى للمسلمين. كان هنا غلام للفاكه بن المغيرة واسمه جبر وكان نصرانيا فأسلم وكان المشركون إذا سمعوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم ما مضى وما هو آت مع أنه أمى لم يقرأ قالوا: إنما يعلمه جبر وهو أعجمى فقال الله تعالى: عجبا لكم لسان الذي تشيرون إليه وتقولون إنه علمه، لسان أعجمى ولغته أعجمية، وهذا القرآن الذي نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم عربي مبين. ولا غرابة في افترائهم فهم دائما غير موفقين إن الذين لا يؤمنون بآيات الله لا يهديهم ربهم إلى خير أبدا، ولهم عذاب أليم، وأما محمد صلّى الله عليه وسلّم فلا يمكن أن يفترى كذبا، وهو الصادق الأمين، الذين لا يؤمنون بآيات الله وأولئك البعيدون في درجات الكفر والضلال هم الكاذبون الضالون. المرتدون عن الإسلام والعياذ بالله [سورة النحل (16) : الآيات 106 الى 111] مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (111) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 338 المفردات: شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فتحه ووسعه والمراد اطمأن صدره له غَضَبٌ أشد من اللعن الذي هو الطرد من رحمة الله اسْتَحَبُّوا اختاروا وأحبوا فُتِنُوا اختبروا بالعذاب. لا يزال الكلام في نقض البيعة والعهد والردة عن الإسلام نقض البيعة الكبرى. المعنى: من كفر بالله ورسوله من بعد إيمانه، وارتد عن دين الإسلام- والعياذ بالله- فعليه غضب الله ولعنته، وله عذاب عظيم، إلا من أكره على الكفر وكان قلبه مطمئنا بالإيمان، عامرا باليقين. فليس عليه شيء من العذاب ولكن من شرح بالكفر صدرا، واطمأن إليه ودخل في غماره راضية نفسه مطمئنا قلبه، فعليه الغضب من الله وله العذاب العظيم. ذلك الجزاء الوافي بسبب أن المرتدين استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، واختاروا العاجلة وآثروها على الباقية، وأن الله لا يهدى القوم الكافرين خصوصا هؤلاء الذين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 339 ذاقوا شيئا من حلاوة الإيمان ثم رجعوا إلى خبث الشرك وسوء الردة أولئك البعيدون في درجات الضلال الذين طبع الله على قلوبهم وختم عليها فلم يهتدوا إلى نور ولا إلى يقين، وطبع على سمعهم وعلى أبصارهم فلم يدركوا شيئا من الخير والنور الإلهى، إذ لا شك أن من يؤثر العاجلة على الفانية رجل لا قلب له ولا عقل، وأولئك هم الغافلون عن مصلحتهم الحقيقية الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، حقا لا شك فيه أنهم في الآخرة هم الخاسرون خسارة كاملة وافية. روى عن ابن عباس قال: أخذ المشركون عمارا وأباه ياسرا، وأمه سمية وصهيبا وبلالا. وخبابا وسالما، فعذبوهم، وربطوا سمية بين بعيرين ووجئ قبلها بحرية وقيل لها: إنك أسلمت من أجل الرجال (وفي رواية إن الذي قال لها وفعل بها هو أبو جهل) وقتلت سمية بسبب ذلك، وقتل زوجها ياسر فكانا أول قتيلين في الإسلام ومن أجله، وأما عمار فأعطاهم ما أرادوا بلسانه مكرها فشكا ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال له الرسول صلّى الله عليه وسلم: «كيف تجد قلبك؟ قال مطمئن بالإيمان فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: فإن عادوا فعد» ومن هنا قال القرطبي في تفسيره: «أجمع أهل العلم على أن من أكره على الكفر حتى خشي على نفسه القتل فإنه لا إثم عليه إن كفر وقلبه مطمئن بالإيمان، ولا تبين منه زوجته ولا يحكم عليه بكفر» وفي الحديث «رفع عن أمّتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» وللفقهاء في حكم المكره أقوال وتفصيلات يحسن الرجوع إليها في كتب الفقه. ثم إن ربك للذين هاجروا وجاهدوا وصبروا أى: لهم بالمعونة والنصر والتأييد من بعد ما فتنوا وعذبوا ثم جاهدوا وصبروا بعد ذلك إن ربك من بعدها لغفور رحيم. والمعنى في الآية أن من يفتن في دينه فيتكلم بكلمة الكفر مكرها، وصدره غير منشرح للكفر إذا صلح عمله وجاهد في سبيل الله وصبر على المكاره فالله غفور رحيم به، وثم التي في الآية لبيان بعد مرتبة من فتن في دينه وصبر ولم ينطق بالكفر عن مرتبة من فتن وكفر مكرها. واذكر يوم تأتى كل نفس وذات تجادل عن نفسها، وتوفى كل نفس ما كسبت وهم لا يظلمون وهذا وصف جامع ليوم القيامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 340 عاقبه من يكفر بالنعمة [سورة النحل (16) : الآيات 112 الى 117] وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَهُمْ ظالِمُونَ (113) فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) المفردات: فَأَذاقَهَا شبه إدراكهم الضرر والألم بتذوقهم طعم المر الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ تقدم تفسيرها في سورة المائدة.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 341 المعنى: هذا مثل ضربه الله لكل قرية فيها جماعة من الناس مجتمعين. وضرب الله مثلا قرية مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان، جعل القرية التي هذه حالها مثلا لكل قوم أنعم الله عليهم بالنعم فأبطرتهم النعمة وكفروا وتولوا، فأنزل الله عليهم نقمته، وبدل نعمتهم سوءا وسرورهم ألما وحزنا، وقد ضربها الله مثلا لكل قرية خصوصا مكة. وانظروا إلى وصف الله أهل القرية بالأمن والطمأنينة فلا يزعجهم خوف، ولا قلق ثم بالرزق الرغد الواسع الكثير، ومع هذا قدم نعمة الأمن على نعمة الرزق لعل الناس يعتبرون بهذا، وأن السيادة في الهدوء والطمأنينة، هذه القرية التي غمرها الله بفيض من عنده، ولكنها لما كفرت بأنعم الله ولم تقابل النعمة بالشكر بل قابلتها بالكفر أذاقها الله عاقبة عملها ذوقا عميقا يشبه تذوقهم طعم المر أو أشد. أما لباس الجوع فاستعارة في لفظ لباس حيث شبه ما يعترى الإنسان الجائع الخائف باللباس لظهور الأثر عليه. أهل هذه القرية جاءهم رسولهم فكذبوه فأخذهم العذاب، وهم ظالمون لأنفسهم، وما ظلمهم ربهم أبدا. وأما أنتم يا أهل مكة فينطبق عليكم المثل تماما، فلقد جاءكم رسول من جنسكم يعرفكم وتعرفونه، وقد أمركم بما ينفعكم فكذبتم فأصابكم العذاب وأنتم ظالمون. وإذا كان الأمر كذلك فاتركوا ما أنتم عليه من أعمال الجاهلية وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا هنيئا مريئا، واشكروا نعمة الله عليكم إن كنتم إياه وحده تعبدون، ولا تحرموا شيئا مما أحله الله لكم، إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير، وما ذبح على اسم غير اسمه- تعالى- وأما ما حرمتموه أنتم على أنفسكم من البحيرة والسائبة والوصيلة (انظر تفسيرها في سورة المائدة آية 104) فشيء لا يلتفت إليه أصلا.. فمن كان مضطرا لا باغيا ولا معتديا فلا مانع من أكله بقدر إزالة ضرورته فإن الله غفور ستار رحيم بخلقه كريم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 342 لما عدد عليهم محرمات الله، نهاهم عن تحريمهم وتحليلهم بأهوائهم وجهالاتهم دون اتباع شرع الله فقال: ما معناه: ولا تقولوا القول الكذب لما تصفه ألسنتكم بالحل والحرمة في قولكم ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا من غير استناد في ذلك الوصف إلى وحى من الله أو قياس أو سند شرعي لا تقولوا القول الكذب. هذا حلال وهذا حرام. والمعنى لا تحرموا ولا تحللوا لأجل قول تنطق به ألسنتكم كذبا وزورا، ويجول في أفواهكم بلا حجة ولا بينة. لا تقولوا هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب وتختلقوه إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون أبدا. وما تراهم فيه في الدنيا فعرض زائل وعارية مستردة، ومتاع قليل، ولهم في الآخرة عذاب أليم جدا يصغر بجانبه كل متاع قليل في الدنيا. نقاش المشركين في معتقداتهم [سورة النحل (16) : الآيات 118 الى 124] وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 343 المفردات: أُمَّةً لها معان كثيرة والمراد بالأمة هنا الرجل الجامع للخير، والذي يعلم الناس الخير قانِتاً مطيعا اجْتَباهُ اختاره، واصطفاه حَسَنَةً المراد نعمة الولد أو الثناء أو الحسن أو النبوة حَنِيفاً مائلا عن الشرك والباطل. المعنى: ما لكم أيها العرب تحرمون وتحلون من عند أنفسكم؟ بدون الرجوع إلى دين حق أو شرع من الله، ولا يصح لكم أن تقلدوا اليهود فيما حرم عليهم فعلى الذين هادوا وحدهم حرمنا ما قصصنا عليك من قبل في سورة الأنعام وكان التحريم بسبب ظلم ارتكبوه، وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.. ولا تيأسوا أيها المشركون من رحمة الله فإن تبتم قبل الله عملكم وأثابكم وغفر لكم: ثم إن ربك للذين عملوا السوء بجهالة أى: جاهلين غير عارفين بالله- تعالى- وعقابه غير متدبرين للعاقبة لغلبة الشهوة عليهم ثم تابوا من بعد ذلك وأصلحوا أنفسهم، وعملوا صالحا إن ربك من بعدها لغفور رحيم. وأنتم أيها العرب تدعون أنكم على ملة أبيكم إبراهيم، ولكنكم كاذبون في دعواكم لأن إبراهيم كان أمة وحده جامعا لخصال الخير، عالما معلما، فيه من صفات الكمال والخلق ما يوازى ما عند أمة من الناس، وكان مطيعا لله مائلا عن الشرك وعبادة الأوثان إلى عبادة الرحمن، ولم يك من المشركين، شاكرا لأنعم الله عليه، اختاره واجتباه ربه، وهداه إلى صراط مستقيم معتدل لا عوج فيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 344 ثم أوحينا إليك يا محمد أن اتبع ملة إبراهيم حنيفا، فما جئت به ليس بعيدا عن شرع إبراهيم بل أنتما متفقان في الدعوة إلى التوحيد والخلق الطيب أما الفروع فلكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا يوافق بيئة كل نبي ووضعه. إنما جعل إثم السبت ووباله وهو المسخ على الذين اختلفوا فيه وقد اختلف اليهود في السبت فبعضهم عظمه وامتثل أمر الله في تحريم الصيد وبعضهم خالف ذلك، وروى أنهم اختلفوا في تعظيم يوم السبت وقد كان موسى أمرهم بتعظيم يوم الجمعة. وإن ربكم ليحكم بينهم يوم القيامة فيما اختلفوا فيه وسيجازى المحسن على إحسانه والمسيئ على إساءته. منهاج الوعاظ والدعاة [سورة النحل (16) : الآيات 125 الى 128] ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128) هذه تذكرة الدعاة والمرشدين، وقانون سنه لهم رب العالمين. المعنى: كل خير في الوجود لا بد له من دعاة ومحامين يدافعون عنه، ويشرحون حقيقته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 345 ويبينون أغراضه ومراميه إذ الحق وحده لا يستوي قائما أمام أعاصير الدنيا، وألا عيب الشيطان، وغرائز الإنسان الفطرية التي تدعوه إلى التحلل، أرأيت إلى النظام الإسلامى في الدعوة والوعظ والخطابة في كل جمعة مرة أو مرتين، وفي كل عام في الأعياد والمواسم والحج مثلا، ولكن يجب على الدعاة أن يقتفوا أثر زعيمهم الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلم، وأن يمتثلوا أمر الله فهم به أولى وأحق، وما أمر صلّى الله عليه وسلّم بذلك إلا لعظم الغاية وشرف المقصد. ادع إلى سبيل ربك كل من يصادفك فدعوة الإسلام عامة والرسول صلّى الله عليه وسلّم أرسل إلى الناس كافة ولكن ادع بالحكمة والمقالة المحكمة التي تصيب المحز، وتحرك النفس، وتستولى على القلب فتنزع أعراق السوء وتقلع جذور العادات السيئة الموروثة، ادع إليه بالحكمة، والموعظة الحسنة التي تستحسنها العقول السليمة، وتألفها الطباع المستقيمة، وإن صادفت في طريقك أشياء فجادل بالتي هي أحسن، ولا تسب الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم، وإياك أن تصادم قوما في معتقداتهم الباطلة قبل أن تهيء نفوسهم وعقولهم لقبول كلامك وإلا كنت داعيا للفرقة والفساد. واعلم أن من النفوس نفوسا لا تلين بوعظ، ولا تستجيب لعقل، وهؤلاء قوم أضلهم الله فأعمى أبصارهم، وهو أعلم بهم، فإذا صادفك شيء من هذا فكل الأمر لله، ولا عليك شيء أبدا، إن عليك إلا البلاغ والزمن كفيل بتحقيق ما تطلب. ولا بد من وقوع الخطوة الثانية خطوة العمل والنزاع العملي بعد النقاش الكلامى. وإن عاقبتم غيركم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم بلا زيادة في الأذى، بمعنى لو سمح الزمان ومكنكم من أعدائكم الذين أذاقوكم ألوان الشدائد فخذوا منهم القصاص وعاقبوهم بمثل ما عاقبوكم ولا تزيدوا. ولئن صبرتم على المكروه. ووكلتم الأمر لله فهو خير لكم أيها الصابرون فالصبر خير كله ودعوا الأمر لله. والصبر!! نعم الصبر هو مطية النجاح، وسلاح المؤمن بل هو سلاح كل من يريد النصر، ولا بد منه لكل مسلم أراد أن ينجح في حياته الخاصة والعامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 346 ولقد أثبتت التجارب أن النجاح وليد الصبر فمن صبر نجا ونجح، ومن تعجل هلك وخسر، وما صبرك إلا بالله وتوفيقه. ولا تحزن يا محمد عليهم فالأمر موكول لله، وهكذا أراد الله ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة. ولا تك في ضيق وألم مما يمكرون، ودعهم لمن خلقهم. إن الله معك وناصرك وحافظك لأن الله مع الذين اتقوا، وأنت إمامهم، والذين هم محسنون في عملهم، وأنت زعيمهم. وفقنا الله وهدانا إلى الخير والصواب، وإلى اتباع نصائح القرآن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 347 سورة الإسراء كلها مكية وقد جزم البيضاوي في تفسيره بذلك، وقيل: كلها إلا آيات وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ.. فإنها نزلت حين جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد ثقيف، وحين قالت اليهود: ليست هذه- أى المدينة- بأرض الأنبياء، وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وإِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ فهذه الآيات الثلاث مدنية، ويظهر والله أعلم أن الأصح رأى البيضاوي، وعدد آياتها مائة وإحدى عشرة آية. وتسمى سورة بنى إسرائيل. وهذه السورة عالجت العقيدة الإسلامية في شتى مظاهرها، فتراها تكلمت عن الرسول ورسالته، والقرآن وهدايته وموقف القوم منه، ثم عن الإنسان وسلوكه وأسس المجتمع الإسلامى السليم، وامتازت بتنزيه الله عما يقوله المشركون، وفي ثنايا ذلك كله قصص عن بنى إسرائيل، وذكرت طرفا من قصة آدم، وابتدأت الكلام عن الإسراء. [سورة الإسراء (17) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1) وَآتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 349 المفردات: سُبْحانَ أصل المادة مأخوذة من قولهم سبح في الماء أو الأرض أى: أبعد وتوغل، ومنه فرس سبوح أى تبعد بصاحبها ففي المادة معنى البعد، والتنزيه فيه بعد عن النقائص، وبعد عن صفات العجز، ولذا قالوا: إن سُبْحانَ علم على التنزيه والتقديس والتسبيح، ولا يستعمل إلا في الذات الأقدس- سبحانه وتعالى- أَسْرى وسرى لغتان في السير ليلا. المعنى: سبحان الله أسرى بعبده محمد من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وما أبعد الذي له هذه القدرة القادرة. ما أبعده عن النقائص والسوء ذاتا وفعلا وحكما، واعجبوا أيها المخاطبون من قدرة الله على هذا الأمر الغريب!! وآمنوا بهذا المجد العالي وهذا الشرف السامي للحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلم. سبحانه وتعالى، وتقديسا له وتنزيها عن كل نقص لأنه الذي أسرى بعبده في جزء من الليل بسيط من المسجد الحرام بمكة إلى المسجد الأقصى بالشام الذي باركنا فيه بنزول الأنبياء حوله، وباركنا فكان فيه الماء والخضرة والزرع والضرع. سرينا به لنريه بعض آياتنا، وما زاغ البصر في ذلك وما طغى، ولقد رأى من آيات ربه الكبرى ولا عجب في ذلك كله أنه- سبحانه- هو السميع لكل قول، البصير بكل نفس، الذي يضع الأمور في مواضعها حسب الحكمة، ووفقا للحق والعدل، وهو أعلم بخلقه وسيجازى من يؤمن بالإسراء ومن يكفر بها إذ هو السميع البصير. هذا هو محمد صلّى الله عليه وسلّم من نسل إسماعيل، وهذا الشرف السامي للعرب ولأمة محمد في كل زمان ومكان، شرف الإسراء ولقيا الله، وإمامة الأنبياء جميعا، وأما ولد إسحاق أخى إسماعيل وهم بنو إسرائيل الذين يدعون أنهم شعب الله المختار، وأنهم نسل الأنبياء والمرسلين، وأنه لا يكون نبي من غيرهم فقد تكلم القرآن الكريم عليهم بعد هذا الفخار العظيم الذي كان لمحمد وأمته حتى توضع الأمور في نصابها وحتى تعرف كل أمة قدرها. وآتينا موسى الكليم نبي بنى إسرائيل الكتاب: التوراة، وجعلناه هدى وهداية لعلهم يهتدون، ولئلا يتخذوا من دوني وكيلا يفوضون إليه أمرهم، ويعاملونه معاملة الإله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 350 يا ذرية من حملناهم مع نوح، وأنجيناهم من الغرق، وهديناهم إلى الحق والخير أنتم أولى الناس بالتوحيد الخالص والسير على سنن الأنبياء والمرسلين، وها هو ذا نوح أبوكم- عليه السلام- كان عبدا شكورا فاقتفوا أثره، واتبعوا سنته. وفي تعبير القرآن الكريم بِعَبْدِهِ بدل حبيبه مثلا أو بدل اسمه. إشارة دقيقة: إذ حادثة الإسراء والمعراج معجزة خارقة قد تؤثر على بعض النفوس الضعيفة فتضع النبي صلّى الله عليه وسلّم في غير موضعه كما وضعت النصارى المسيح فقيل: عبده أى: الخاضع لعزه وسلطانه حتى توضع الأمور في نصابها، على أن وصف النبي صلّى الله عليه وسلّم بالعبودية منتهى الكمال والسمو له. وفي قوله: لَيْلًا وقد تحير فيها المفسرون فإن الإسراء لا يكون إلا ليلا فما فائدة ذكرها؟! ولقد أجابوا على ذلك بأنه لفظ مفرد منكر سيق لبيان أن الإسراء كان في جزء من الليل. ولم يكن من مكة إلى المسجد الأقصى الذي يقع في أيام وليال طوال إلا في جزء من الليل بسيط. ويقول أستاذنا مصطفى صادق الرافعي في وحى القلم ص 32 في الإسراء والمعراج: والحكمة- في ذكر ليلا في الآية- هي الإشارة إلى أن القصة قصة النجم الإنسانى العظيم الذي تحول من إنسانيته إلى نوره السماوي في المعجزة، ويتمم هذه العجيبة أن آيات المعراج لم تجيء إلا سورة «والنجم ... » . قصة الإسراء والمعراج: وخلاصتها: كان صلّى الله عليه وسلّم مضطجعا فأتاه جبريل فأخرجه من المسجد فأركبه البراق فأتى بيت المقدس، ثم دخل المسجد هناك واجتمع بالأنبياء- صلوات الله وسلامه عليهم-، وصلّى بهم إماما ثم عرج به إلى السموات فاستحقها جبريل واحدة واحدة فرأى محمد صلّى الله عليه وسلّم من آيات ربه الكبرى ما رأى، وهكذا صعد في سماء بعد سماء إلى سدرة المنتهى فغشيها من أمر الله ما غشيها، فرأى صلّى الله عليه وسلّم مظهر الجمال الأزلى، ثم زج به في النور فأوحى الله إليه ما أوحى، وكلفه هو وأمته بالصلاة في ذلك المكان المقدس فكانت الصلاة هي العبادة الوحيدة التي أوجبها الله بنفسه بلا واسطة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 351 تلك خلاصة خالصة أما وشيها وطرازها فباب عجيب من الرموز الفلسفية العميقة التي لا يقف عليها إلا كل من صفت نفسه وزكت روحه، ومن هذه الرموز قوله صلّى الله عليه وسلم «فجاءني جبريل بإناء من خمر وآخر من لبن فأخذت اللّبن فقال جبريل: أخذت الفطرة» ، أوليس دين الإسلام دين الفطرة؟!! ولقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه الرحلة الإلهية العلوية رموزا تشير إلى مجتمع عال نظيف خال من الربا والزنى والسرقة والقتل مع تحلى أصحابه بالجهاد والصدق وحسن الاقتصاد، وسرعة القيام إلى الصلاة. أليس في إمامة النبي صلّى الله عليه وسلّم للأنبياء جميعا إشارة إلى كمال رسالته، وأنهم جميعا سبقوه مبشرين به، وأن من لم يؤمن فما آمن بنبيه فدينه جمع المحاسن كلها، وكان وسطا بين مادية اليهود وروحانية النصارى، وكانت أمته وسطا عدولا شهودا على الأمم السابقة، وقد جمع صلّى الله عليه وسلّم. قوة موسى، وزهد عيسى، وجدل إبراهيم، وصبر أيوب، وما امتاز به كل نبي. وهي تشير إشارة صريحة إلى أن هذا النبي قد سمت روحه الكريمة سموا طغى على الناحية المادية فيه حتى صار نورا إلهيا ونجما سماويا ألم يشق جبريل صدره الكريم ويغسله من أدران المادة؟!! ألم يقل الله لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا فهذه العبارة نص على ارتفاع النبي صلّى الله عليه وسلّم فوق الزمان والمكان والحجاب والحواس، ومرجع ذلك كله إلى قدرة الله لا قدرته هو بخلاف ما لو كانت العبارة ليرى من آيات ربّه فإنها تفيد أن الرؤيا في حدود القدرة البشرية، وتحويل فعل الرؤيا من صيغة إلى صيغة دليل على تحويل الرائي وهو المصطفى صلّى الله عليه وسلّم من شكل إلى شكل ومن حال إلى حال فسبحان من هذا كلامه. أيها المسلمون.. لا تألفوا العجز والكسل. وفي أول دينكم تسخير الطبيعة. لا تركنوا إلى الجهل. وأول آية نزلت على نبيكم اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ ... لا ترتموا في أحضان الراحة وفي صدر تاريخكم صنع المعجزة الكبرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 352 كيف لا تحملون النور إلى العالم:!! ونبيكم هو الكائن الروحي العظيم، والنور الإلهى الأعظم!! كيف لا تحملون القرآن بينكم؟!! وهو التبيان لكل شيء، والنور لكل حي، والشفاء والرحمة، والهدى والنور للناس أجمعين!! ولست أدرى كيف يختلفون في الإسراء؟! وهل كانت بالجسد والروح أو بالروح فقط!!! ولو كانت بالروح فقط لما آمن بها بعض الناس وكفر البعض إذ كان إنسان يرى في منامه ما يستحيل عليه في يقظته، وفي العلم الذي أوقفنا على سرعة الضوء، والصوت واختراق الهواء الأرضى مما يؤيد ذلك. خلاصة لتاريخ بنى إسرائيل [سورة الإسراء (17) : الآيات 4 الى 11] وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَكانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَجَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8) إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 353 المفردات: وَقَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أوحينا إليهم وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً لتستكبرن على الله ولتستعلن على الناس بالبغي والظلم مجاوزين الحدود أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ أصحاب قوة وبطش في الحروب فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ في القاموس الجوس بالجيم طلب الشيء باستقصاء مع التردد خلال الديار والبيوت ففي اللفظ معنى للتفتيش والتنقيب خلال الديار أى: وسطها ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ المراد ثم رددنا لكم الدولة والغلبة عليهم أَكْثَرَ نَفِيراً النفير من ينفر مع الرجل من عشيرته، وقيل: جمع نفر وهم المجتمعون للذهاب إلى العدو وَلِيُتَبِّرُوا أى: يهلكوا ما عَلَوْا أى: مدة علوهم واستكبارهم، وقيل المراد: البلاد التي علوها وغلبوا أهلها حَصِيراً سجنا ومحبسا إذا الحصر والحصير فيه معنى المنع والحبس. وهذا امتداد للكلام على بنى إسرائيل، وبيان لتاريخهم وما ينتظرون من بيان بعض الحكم النافعة. المعنى: وأوحينا إلى بنى إسرائيل في التوراة وحيا مقضيا أى: مقطوعا بحصوله بأنهم يفسدون في الأرض مرتين. وأقسمنا لتفسدن في أرض الشام وبيت المقدس أو في كل أرض تحلون فيها لتفسدن مرتين، ولتفسدن نفوسكم بمخالفة ما شرعه لكم ربكم في التوراة، لتفسدن مرتين: أما أولاهما: فبمخالفة التوراة وقتل بعض الأنبياء، والثانية- بقتل زكريا وقيل: بقتل يحيى، والعزم على قتل عيسى ابن مريم وقيل: غير ذلك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 354 ولتعلن وتتجاوزن حدود الشرع والعقل بالبغي والظلم والتعالي على الناس والكبر. فإذا جاء وعد أولاهما، وحان وقت العقاب الموعود به في الدنيا على المرة الأولى بعثنا عليكم عبادا من عبيدنا أولى بأس وقوة، أصحاب عدة في الحروب وعدد، وهؤلاء القوم الذين أغاروا عليكم قد جاسوا خلال الديار، وفتشوا البلاد، ونقبوا عليكم ليستأصلوكم بالقتل والتشريد، وهكذا كل أمة تفسد في الأرض بالبغي والظلم، حتى تفسد نفوس أبنائها وتطغى لا بد من أن يرسل الله عليها من يذلها ويذيقها سوء العذاب جزاء فسادها، ولو كان المؤدب لها من الكفار المشركين وَكَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ، وهذا قضاء محتوم، وسنة لا تتخلف، ووعد محقق، وكان وعد ربك مفعولا حتما. هذا الدرس القاسي الذي تلقاه بنزول إسرائيل على يد المغير، قيل: هو بختنصر وقيل: هو جالوت، وقيل: جند من بابل أو فارس، والله أعلم بذلك، وليس القرآن كتاب تاريخ حتى تلزمه ببيان الشخص أو الجماعة بالضبط مع تحديد المكان والزمان، ولكن القرآن جاء للعبرة والعظة، والنظرة العليا التي هي أسمى من هذا وذاك، لعل الناس يعتبرون بالحوادث. هذا الدرس القاسي الذي تلقوه أثمر معهم فثابوا لرشدهم، ورجعوا عن غيهم وتمسكوا بكتابهم ودينهم فكانت النتيجة كما قال الله. ثم رددنا لكم يا بني إسرائيل الكرة عليهم، وأعدنا لكم الدولة والغلبة عليهم وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ أو أمدكم الله بالأموال والبنين وأمدكم بالسلاح والرجال المخلصين وجعلكم أكثر نفيرا مما كنتم عليه، وهكذا سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا. إن أحسنتم العمل أحسنتم لأنفسكم لأن نتيجة العمل وثوابه لكم، وإن أسأتم العمل بالفساد والبغي فلأنفسكم فقط، كل نفس بما كسبت رهينة وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ فإذا جاء وعد المرة الآخرة، وحان موعد العقاب فيها بعثنا عليكم رجالا ليذيقوكم سوء العذاب وليجزوكم بالقتل والسبي حزنا تظهر علاماته في وجوهكم، وليدخلوا المسجد الأقصى كما دخلوه في أول مرة للتخريب والتدمير وإحراق التوراة، وهتك المقدسات عندكم، وليهلكوا ما علوه وغلبوكم عليه من الأرض والزروع والثمار هلاكا شديدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 355 وقد كان جالوت هو الذي سلط عليهم في أول مرة ثم لما قتل داود جالوت رد عليهم ملكهم ودالت الدولة لهم مدة من الزمن حتى فسدوا وظلموا وقتلوا زكريا وقيل يحيى فأرسل الله لهم بختنصر فأذاقهم الخسف والعذاب للمرة الثانية وقيل غير ذلك كما مر. وكان هذا الدرس من الله تأديبا لكم وتهذيبا، عسى ربكم يا بني إسرائيل أن يرحمكم بهذا، وإن عدتم للمرة الثالثة عدنا إلى عقوبتكم بأشد مما مضى. إن عادت العقرب عدنا لها ... بالنعل والنعل لها حاضرة وقد عادوا للمرة الثالثة فكذبوا محمدا وافتروا الباطل عنادا وجحودا وهم أدرى الناس به، بل ويعرفونه كما يعرفون أبناءهم أو أشد. فعاقبهم الله على ذلك بقتل بنى قريظة وإجلاء بنى النضير وضرب الجزية عليهم. هذا في الدنيا. أما في الآخرة فقد جعل الله لهم جهنم محبسا وحصيرا لا يفلت منهم أحد أبدا. وما لكم يا بني إسرائيل المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم مالكم لا تؤمنون؟ وأنتم تعلمون أن هذا القرآن المنزل على محمد يهدى للتي هي أقوم، ويدعو إلى الصراط المستقيم. أليس يدعو إلى البر والخير، والتعاون والتساند. ويأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، وعدم الشرك والبعد عن الزنى والقتل والزور والبهتان وأكل مال اليتيم والتطفيف في الكيل والميزان والتعامل بالربا والقسوة في المعاملة إلى آخر ما هو معروف؟!! وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ إن هذا القرآن يهدى الناس إلى الطريقة المثلى، ويدعو إلى خيرى الدنيا والآخرة ويبشر المؤمنين العاملين الخير والصلاح بأن لهم أجرا كبيرا في الدنيا والآخرة وأن الذين لا يؤمنون ولا يعملون الخير أعد لهم ربهم عذاب جهنم وبئس المصير. ويدعو الإنسان ربه بالشر- عند غضبه- على نفسه وأهله وماله كما يدعوه لهم بالخير وكان الإنسان عجولا أى: خلق وفي غريزته حب العجلة والسرعة، لهذا جنح كثير من المفسرين، وبعضهم فسر الإنسان بالكافر خاصة ودعاؤه الشر هو استعجاله العذاب استهزاء وكفرا بالنبي، والعذاب آتيه لا محالة ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 356 ألا يصح أن نفهم الآية على أن الإنسان قد يدعو ربه، ويلح في طلب شيء هو في الواقع شر ولكنه يظنه خيرا فيدعو ربه له كما يدعوه للخير، وذلك ناشئ من العجلة وعدم التأنى، في الفهم والتأكد فيه، وكان الإنسان عجولا، ألم نطلب المال والجاه ونلح في طلبنا وندعو لله فيه وقد يكون في تحقيق ما طلبنا حتفنا وهلاكنا؟!! ولو أمعنا النظر ولم نتعجل ما ألحفنا في طلبنا، ولا غرابة فخلق الإنسان عجولا. بقي شيء آخر ما السر في وضع هذه الآية هنا؟ أليس فيها إشارة إلى أن هؤلاء اليهود في موقفهم من النبي صلّى الله عليه وسلّم وكفرهم به طلبا للدنيا، واستجابة لدعاء الشر قد آثروا العاجلة على الباقية ولو أمعنوا النظر ودققوا الفهم ما عملوا شيئا من هذا!!! فهم دعوا الشر وطلبوه في الواقع ونفس الأمر كدعائهم الخير، وما دفعهم إلى ذلك إلا حب العاجلة، وإيثار الفانية على الباقية والعجلة في إدراك الأمور. من نعم الله علينا [سورة الإسراء (17) : الآيات 12 الى 17] وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 357 المفردات: آيَتَيْنِ علامتين دالتين على القدرة فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ. أى: جعلنا آية الليل ممحوة لا نور فيها عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ يقول العلامة الشوكانى في كتابه فتح القدير في تفسير الآية: «والفرق بين العدد والحساب أن العدد إحصاء ما له كمية بتكرير أمثاله كالسنة المكونة من 365 يوما، والحساب إحصاء ماله كمية بتكرير أمثاله من حيث يتحصل بطائفة معينة منها حد معين منه له اسم خاص فالسنة مثلا إن نظرنا لها من ناحية أنها أيام فقط فذلك العدد، وإن نظرنا لها من حيث تكونها من شهور اثنى عشر وكل شهر ثلاثون يوما مثلا وكل يوم أربع وعشرون ساعة فذلك هو الحساب» طائِرَهُ عمله المقدر له ولعل السر في ذلك أن العرب كانوا يتشاءمون ويتباشرون بالطير عند طيرانه فكانوا يستدلون بالطير على الخير والشر والسعادة والشقاوة وكانت لهم علوم ومعارف في ذلك قال شاعرهم: خبير بنو لهب فلا تك ملغيا ... مقالة لهبى إذا الطير مرت ولما كثر منهم ذلك سموا نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه وقال أبو عبيدة عن علماء اللغة: الطائر عند العرب: الحظ والمقدر للشخص من عمر ورزق وسعادة وشقاوة كأن طائرا يطير إليه من وكر الأزل، وظلمات عالم الغيب طيرانا لا نهاية له، ولا غاية إلى أن ينتهى إلى ذلك الشخص في وقته المقدر من غير خلاص ولا مناص، وقوله تعالى: في عنقه كناية عن لزوم ذلك له لزوم القلادة للعنق إن كان خيرا أو الغل للعنق إن كان شرا وِزْرَ الوزر الحمل والثقل والمراد الإثم مُتْرَفِيها متنعميها وأترفته النعمة أطغته. وهذا سيل آخر من بيان نعمه وفضله وفيه بيان لهداية القرآن وبشارته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 358 المعنى: يقول الحق- تبارك وتعالى-، وجعلنا الليل والنهار آيتين دالتين على قدرتنا وبديع صنعنا وأحكام نظامنا، وذلك لما فيهما من الظلام الدامس والنور الساطع، وما فيهما من تعاقب واختلاف يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وانظر إلى الليل وهدوئه العميق وقمره المنير، ونجمه الذابل وقد سكن الكون فيه وهدأت الطبيعة. ثم انظر إلى النهار وما فيه من حركة وضجيج. وذهاب ومجيء، وإلى الشمس وضحاها والنهار إذا جلاها، والليل إذا يغشاها والسماء وما بناها. إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون. فمحونا آية الليل، والمعنى: محونا آية هي الليل كما نقول دخلت مدينة القاهرة أى مدينة هي القاهرة، ومحوناها أى: جعلناها ممحوة الضوء والحركة لأنها كانت مضيئة ثم محيت (وفي هذا إشارة إلى هدوء الليل وسكونه) وجعلنا آية هي النهار مبصرة أى: يبصر فيها الرائي وينظر إلى ما حوله فيحس به ويتحرك تبعا لذلك، وهكذا تنبعث الحياة والحركة، ويولد النشاط والعمل لتبتغوا بذلك فضلا من ربكم ورزقا، فالرزق تابع للحركة والسعى والعمل والله الموفق. ولتعلموا باختلاف الجديدين وهما الليل والنهار عدد السنين، والحساب، فلو كان الليل والنهار لا يختلفان في شيء أبدا من حركة وسكون ونور وظلام وطول وقصر وبرد ودفء لما تيسر معرفة السنين وحسابها، انظر إلى القطبين وما جاورهما هل يصلحان للحياة؟ كلا!!!. وكل شيء مما تفتقرون إليه في شئون دينكم ودنياكم فصلناه تفصيلا وبيناه تبيينا عن طريق الإجمال أو التفصيل، لئلا يكون للناس على الله حجة، فيهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة، وكل إنسان ألزمناه طائره من حظه المقدر وعمله الذي سيعمله في عنقه فلا يمكنه الانفلات منه بل هو أمر محتوم، وقضاء معلوم وكل ميسر لما خلق له، وليس معنى هذا نفى الاختيار الذي هو مناط الثواب والعقاب. ونخرج له يوم القيامة كتابا بين يديه يلقاه منشورا أمامه، كتابا لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وقد وجد الكل ما عمله حاضرا، ولا يظلم ربك أحدا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 359 ويقال له: اقرأ يا هذا كتابك، وكفى بنفسك في هذا اليوم عليك حسيبا وشهيدا أى: محاسبا وشاهدا. وإذا كان الأمر كذلك فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه فقط لأن ثواب عمله له، ومن ضل في عمله فإنما يضل على نفسه فقط، فكل شخص محاسب عن نفسه مجزى بطاعته، معاقب على معصيته، ثم أكد هذا بقوله، ولا تزر وازرة وزر أخرى أى: ولا تحمل نفس حاملة للوزر وزر نفس أخرى حتى تخلصها من وزرها، وتأخذ به الأولى، وقد كانوا يقولون، نحن لا نعذب في شيء وإن كان هناك عقاب فهو على آبائنا، إذ نحن مقلدوهم فقط، فرد الله عليهم أبلغ رد وآكده. وما كنا معذبين أحدا من الناس حتى نبعث رسولا يهديهم، ويدعوهم إلى الخير، ويحذرهم من الشر، وهذه الآيات تحثنا على العمل وتدفعنا إلى الجد وعدم الكسل، وإذا أردنا أن نهلك قرية من القرى- وقد دنا وقت إهلاك أهلها ولم يبق من زمان إمهالها إلا قليل أمرنا مترفيها بالطاعات ففسقوا عن أمر ربهم، وخرجوا من طاعته. والأمر للجميع مترفا كان أو غير مترف، وغنيا كان أو فقيرا، ولكن لما كان الأمراء والأغنياء هم القادة وغيرهم تبع، والعامة شأنها التقليد دائما، قيل: أمرنا المترفين الأغنياء حتى كأن الفقراء غير مأمورين. وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [سورة إبراهيم آية 21] . وقيل إن المعنى: أمرنا مترفيها أى: جعلناهم كثرة يعيثون في الأرض فسادا. وللزمخشري في كشافه رأى في قوله: أمرنا مترفيها خلاصته: أن هذا الأمر مجازى لا حقيقى، ووجهه أنه صب عليهم النعمة صبّا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي واتباع الشهوات فكأنهم مأمورون بالفسق لتسبب النعمة في ذلك، والنعمة أعطيت للشكر لا الكفر. فلما كفروا وفسقوا حقت عليهم كلمة العذاب فدمرهم تدميرا وفي قراءة أمرنا مترفيها أى: جعلنا أغنياءها حكامها وقادتها، وفي الأمم الضعيفة الجاهلة يكون هؤلاء الأمراء الأغنياء مصدر الشقاء والهلاك للأمة كلها. وكثيرا ما أهلكنا أمما من بعد نوح لما بغوا وعصوا، والله- جل جلاله- يحصى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 360 عليهم أعمالهم وذنوبهم، وهو ناقد بصير، وكفى به بذنوب عباده خبيرا بصيرا. وقد علمنا أن كل شيء في الكون مفصل تفصيلا محكما سواء كان في أمور الدين أو الدنيا، وكل إنسان له عمل مقدر له لا ينفك عنه، وهو ملاق حتما جزاء عمله يوم القيامة. وسيقرأ كتابه الذي سجل فيه عمله وإن كل نفس بما كسبت رهينة، وأن ليس للإنسان إلا سعيه فقط، ولا يعذب ربك أحدا إلا بعد إرسال الرسل مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة وأنه لا فرق بين الفرد والجماعة فالأمة التي تأمر بالطاعات ثم تخرج عن حدودها يدمرها ربك تدميرا. كل هذا يدفع العاقل منا إلى العمل الصالح النافع له في الدنيا والآخرة. من أراد العاجلة ومن أراد الباقية [سورة الإسراء (17) : الآيات 18 الى 21] مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) المفردات: الْعاجِلَةَ المراد الدنيا مَدْحُوراً مطرودا من رحمة الله مَشْكُوراً مثابا عليه نُمِدُّ نعطى هؤلاء وهؤلاء من الفريقين مَحْظُوراً ممنوعا ... وهذا حكم آخر من أحكام الله، وقضاء من أقضيته، بعد ما مضى من أحكام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 361 المعنى: من كانت الدنيا أكبر همه، واتجه بنفسه إلى العاجلة الفانية، وأرادها بكل جوارحه، وخصها بكل أعماله، من كان هكذا عجل الله فيها ما يشاء ويريد، عجل لمن يريده منهم لا لكل من أحبها، فترى أن القرآن الكريم قيد التعجيل بأمرين: أولا: يعجل الله بما يشاؤه هو لا بما يحبه العبد، والثاني: يعجل الله لمن يشاء لا لكل من أراد الدنيا. ألست ترى كثيرا ممن يحبون الدنيا ويريدون العاجلة- وهم القوم الماديون الذين يحبون المال حبّا جمّا ويأكلون التراث أكلا لما- يتمنون ما يتمنون، ولا يعطون إلا بعضا من أمانيهم، وترى كثيرا منهم يتمنون ذلك البعض. ولا يعطون شيئا أبدا فقد جمعوا بين فقر الدنيا وفقر الآخرة. هؤلاء الماديون المحبون للدنيا بكل جوارحهم تراهم في الدنيا كما وصف القرآن وفي الآخرة لهم جهنم يصلونها مذمومين من الله والملائكة والناس أجمعين، ومطرودين من رحمة الله. أما الصنف الثاني، وهو من لم يجعل الدنيا أكبر همه بل كان قصده المهم الآخرة، أرادها، وسعى لها سعيها المناسب لما لها من فضل وثواب، والحال أنه مؤمن بالله واثق فيه مصدق به وبكتبه ويومه الآخر فأولئك البعيدون في درجات الكمال والجلال كان سعيهم مشكورا. يا أخى انظر إلى هؤلاء الذين يريدون بعملهم الآخرة، ولا يبالون بشيء بعدها فإن أوتوا حظا من الدنيا شكروا ربهم، وإن منعوا منه رضوا وصبروا معتقدين أن ما هم فيه خير وأبقى. غنى النفس ما استغنت غنى ... وفقر النفس ما عمرت شقاء انظر إلى السعى المشكور والعمل المأجور، وقد تقدمه ثلاث إن تحققت فاز صاحبها وشكره ربه. (أ) قصد الآخرة والاتجاه إليه في كل عمل حتى يكون رائده ثواب الآخرة لا متاع الدنيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 362 (ب) العمل لها عملا يناسبها عملا تاما كاملا خاليا من الرياء والسمعة والغرض الحقير. (ج) الإيمان العميق بعد الفهم الدقيق، والإخلاص الوثيق. فتلك سفن التجارة، ومركب السعادة وما عدا هذا فمتاع زائل، وعرض حائل لا غنى فيه ولا خير. كل واحد ممن يريد الدنيا. وكل واحد ممن يريد الآخرة نمد له في الرزق ونعطيه وكل ميسر له عمل الخير وعمل الشر، ولم يبق إلا الاختيار والتوفيق والقدرة الصالحة، وما كان عطاء ربك ممنوعا. انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض في الرزق ومتاع الدنيا، وللآخرة وما فيها من نعيم مقيم، وعطاء جزيل أكبر درجات وأكبر تفضيلا. روى أن قوما من العرب فيهم الأشراف والعامة وقفوا بباب عمر فأذن لبلال وصهيب فشق على أبى سفيان وأمثاله من أشراف قريش وملوك العرب فقال سهيل: ذلك عمر إنما أوتينا من قبلنا، إنهم دعوا ودعينا يعنى إلى الإسلام فأسرعوا وأبطأنا، وهذا باب عمر!! فكيف التفاوت في الآخرة، ولئن حسدتموهم على باب عمر. فما أعده الله لهم في الجنة أكثر وأعظم. دعائم المجتمع الإسلامى [سورة الإسراء (17) : الآيات 22 الى 41] لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22) وَقَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31) وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلاً (32) وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33) وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36) وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39) أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 363 المفردات: فَتَقْعُدَ يجوز أن تكون على معناها الأصلى، وهي كناية عن عدم القدرة على تحصيل الخيرات، وقيل هي بمعنى: تصير مأخوذ من قولهم: شحذ الشفرة حتى قعدت كأنها حربة أى: صارت كأنها حربة أُفٍّ لفظ يدل على التضجر والاستثقال وَلا تَنْهَرْهُما النهر الزجر والغلظة يقال: نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره جَناحَ الذُّلِّ قالوا: إن خفض الجناح للذل كناية عن حسن الرعاية والعناية مأخوذ من أن الطائر يخفض جناحه على أولاده عند تربيتها والعناية بها، أو هو كناية في التواضع وترك التعالي وذلك أن الطائر يخفض جناحه عند النزول وينشر جناحه عند الطيران وَلا تُبَذِّرْ التبذير تفريق المال كيفما كان كما يفرق البذر كيفما كان من غير تعمد لمواقعه قَوْلًا مَيْسُوراً قولا حسنا ووعيدا جميلا وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ كناية عن البخل وعدم الإنفاق، كما أن بسط اليد بحيث لا يعلق بها شيء كناية عن الإسراف خَشْيَةَ إِمْلاقٍ أى: خوف الفقر خِطْأً أى خطأ وَلا تَقْفُ لا تتبع مالا تعلم مأخوذ من قولك قفوت فلانا إذا أتبعت أثره مَرَحاً المرح هو شدة الفرح ويلزمه التكبر والخيلاء في المشي، وتجاوز الإنسان قدره غالبا أَفَأَصْفاكُمْ أى: أفاختاركم وخصكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 365 المعنى: هذا قبس من نور الذكر الحكيم. يرسل فيملأ القلوب إيمانا واعترافا بأن ذلك القرآن من عند الله لا من عند محمد. نعم ذلك بعض ما أوحى إلى ذلك النبي من الحكمة والموعظة الحسنة. وهذه الآيات تدلنا على أن محمد بن عبد الله ذلك الإنسان الذي نشأ في بيئة جاهلية بكل معاني الكلمة، بيئة، كل همها فتك وقتل وتخريب وإغارة وزنا وخمر، ووأد البنات مخافة الفقر أو العار لا يمكن أن يكون من عنده هذا النور، وهذا السمو في الخلق إذ فاقد الشيء لا يعطيه. أهذه البيئة تخرج مثل ذلك النبي الذي يدعو في هذه الآيات إلى كل خير وبر، وينهى عن كل إثم وشر؟!! ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ولكنها المعجزة الباقية على أن هذا القرآن من عند الله لا من محمد وإلا فمن علمه ذلك؟ ومن عرفه الأسس والدعائم التي تبنى مجتمعا صالحا طيبا، فلو اجتمع فلاسفة الأخلاق في القرن العشرين ليبنوا مجتمعا صالحا أتراهم يوصون بهذه الدعائم؟!! هذه الآيات بدئت بالنهى عن الشرك ثم بالأمر بالإحسان إلى الوالدين إلى آخر ما فيها من معان سامية ثم اختتمت كذلك بإثبات أن ذلك وحى من عند الله بالنهى عن الشرك، وبيان الجور في حكمهم أن لله البنات ولهم البنين، وفي النهاية الكلام على القرآن الكريم. وهذا النسق القرآنى يرشدنا إلى خطر الشرك بالله وأن هذه الأوامر والنواهي مما يتطلبه الدين ويحث عليه، وتبين لنا أن القرآن الكريم قد صرفه الله على أحسن وجه وأكمله ليذكروا، ولكن ما يزيدهم ذلك إلا نفورا واستكبارا. والمناسبة بين هذه الآيات والتي قبلها ظاهرة حيث تكلم القرآن على من أراد الآخرة وسعى لها سعيا وهو مؤمن، ثم أردف ذلك ببيان السعى الموصل للآخرة بالتفصيل، مع الكلام على الشرك المحبط للأعمال، وهاكم الآيات بالتفصيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 366 التوحيد: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولًا. وَقَضى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ .... والخطاب في الظاهر للنبي صلّى الله عليه وسلم لبيان أهمية الخبر وخطورته وهو لكل مخاطب لكل أحد، والمعنى: لا تجعل مع الله الذي خلقك ورزقك إلها آخر على أية صورة وبأى شكل فهو وحده الذي يجب أن يعبد، إنك إن اتخذت إلها آخر تكن مذموما من الله والملائكة والناس أجمعين ومخذولا من الله حيث عبدت غيره ومن الشريك لأنه لا يملك نفعا ولا ضررا، وقد قضى ربك، وحكم حكما لا نقض فيه ولا رجوع أن لا تعبدوا إلا الله وحده لا شريك له. إذ هو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير. الإحسان إلى الوالدين: ... وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما وَقُلْ لَهُما قَوْلًا كَرِيماً. وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً. وقضى ربك بأن تحسنوا إلى الوالدين إحسانا كاملا في المعاملة، إحسانا ليس بعده إحسان إذ يجتمع فيهما كل أسباب المودة والعطف، فمن قرابة قريبة، إلى صلة وشيجة وجوار كريم، وعطف سابغ، وحنان أبوى سليم، ولا عجب فهما أول من يعطف عليك عطفا غرزيا وأنت في أشد الحاجة إليه، فمن المروءة أن ترد الجميل لا أقول بأحسن منه فليس هناك جميل يوازى عملهما، ولهذا ترى القرآن الكريم يجمع بين الأمر بعبادة الله والأمر بالإحسان إليهما وفي آية أخرى يقول. أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ ولا غرابة فوالداك هما اللذان كونا الظاهر من جسمك، والله الذي خلقك وسواك ونفخ فيك من روحه. اعبده وحده ولا تشرك به شيئا واحسن إلى والديك إحسانا يكافئ ما قدماه لك، وهذا الأمر بالإحسان عام في كل حال، ووضعه هنا دليل على أنه من دعائم الدين وأصوله، وهناك أوضاع خاصة تقتضي التنصيص عليها بخصوصها مثلا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 367 إن يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما كلمة ضجر أو تألم، والكبر ملازم للضعف والعجز والحاجة إلى المعين والناصر الذي يتغاضى عن العيب والأذى اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً. وليس النهى عن التضجر والتألم خاصا بحالة الكبر بل في كل حال خصوصا التي يتهاون فيها الولد بأبيه لضعفه وعجزه عن الكسب. وقل لهما قولا لينا لطيفا، مع حفظ الكرامة، والأدب والحياء. واخفض لهما جناح الذل من الرحمة، وهذه كناية عن حسن رعايتهما، وتدبير أمرهما فكأنه قال: واضممها إلى نفسك كما فعلا بك وأنت صغير وتواضع لهما، وألن جانبك معهما، واخفض لهما الجناح الذليل من أجل فرط الشفقة بهما، والعطف عليهما إذ هما في حاجة إلى عطف من كان أفقر خلق الله إلى عطفهما. ولا تكتف بهذا بل قل رب ارحمهما، وتجاوز عن سيئاتهما فإنهما ربياني صغيرا. وأنت ترى أن الله بالغ في التوصية بالوالدين مبالغة تقشعر منها جلود العاقين. وفي السنة الكريمة قول رسول الله صلّى الله عليه وسلم «الجنّة تحت أقدام الأمّهات» وقوله: «أتانى جبريل فقال: يا محمد، رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك قل: آمين. فقلت: آمين ثم قال: رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له قل: آمين. فقلت: آمين. ثم قال: رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة قل: آمين. فقلت: آمين» . رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً وهذا تذييل يعلمنا أن العبرة بالقلب، وما فيه، فإن بدرت منه بادرة لم تكن مقصودة منه فالله أعلم به، ولا يعاقبه عليه ما دامت نيته حسنة وهو من الصالحين، وإذا تبتم إلى الله وندمتم على ما فعلتم فاعلموا أن الله غفور للأوابين رحيم بهم. حق ذوى القربى والمساكين وابن السبيل: وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ والخطاب في ذلك للنبي صلّى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 368 تهييجا وإلهابا لغيره من الأمة والخطاب لكل من هو صالح لذلك، وحق ذوى القرابة هو صلة الرحم التي أمر الله بها مرارا، وهل الأمر للوجوب أو الندب وهل تجب للوالد فقط أولهما ولغيرهما من الأقارب كالأخوات وبنى الأعمام. فعند أبى حنيفة الأمر للوجوب فيجب على الموسر مواساة أقاربه إذا كانوا محارم كالأخ والأخت، والوالد من باب أولى، وعند الشافعى- رضي الله عنه- الأمر للندب ولا تجب إلا نفقة الأصول والفروع دون غيرهما من الأقارب. والذي ينبغي الاعتماد عليه وجوب صلتهم بما تبلغ إليه القدرة، والتعاطف أمر قلبي لا يغرسه قانون. أما حق المساكين وابن السبيل فهو من الصدقة الواجبة أو المندوبة. والأقربون أولى بالمعروف. ولما أمر بما أمر به ها هنا نهى عن التبذير حتى نكون وسطا فلا إفراط ولا تفريط. التبذير: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً. الإسلام دين ودولة، وعقيدة وعمل، وفكرة ونظام، واجتماع وعمران ولا أدل على ذلك من نهيه عن التبذير وحثه على الاقتصاد، ولقد كان أسلوب القرآن. ووصفه المبذرين بأنهم إخوان الشياطين أسلوبا لاذعا وتصويرا عمليا أبرز في صورة بشعة حيث كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لنعم ربه كفورا، وهكذا المبذرون كفروا بنعمة ربهم وفرقوا المال في غير موضعه، وأسرفوا فيه إسرافا مذموما لمجاوزتهم الحد المستحسن شرعا، والآية تفيد أن المبذر مماثل للشيطان والشيطان كفور لربه فالمبذر كفور لربه جاحد لنعمته. وإن أعرضت عن ذوى القربى والمساكين وابن السبيل لضيق يد ولفقد مال ترجو أن يفتح الله به عليك فقل لهم قولا ميسورا سهلا لينا كالوعد الجميل، والاعتذار المقبول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 369 القصد في الإنفاق: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً. وهذا أمر بالقصد في الإنفاق والتوسط في المعيشة على سبيل التمثيل، وذلك أن البخيل وقد امتنع عن الإنفاق يشبه رجلا يده مغلولة إلى عنقه فلا يقدر على التصرف بحال، والمسرف الذي يضيع ماله شمالا ويمينا بغير حساب يشبه رجلا يبسط يده كل البسط حتى لم يبق في كفه شيء. حقيقة كل فضيلة وسط بين رذيلتين فالتقتير مذموم، والإسراف مذموم، والتوسط بينهما محمود شرعا وعقلا، ولا شك أن البخيل الممسك ملوم من الله والناس، والمسرف المبذر محسور نادم على ما فرط منه منقطع لا شيء معه. يا أخى انظر إلى تعاليم القرآن وهديه وإلى السر في ارتقاء الأمم الغربية أفرادا أو جماعات في الاقتصاد والمال، فهل كان نظام الإسلام يقصر دون أحدث النظم الاقتصادية؟! إن ربك يبسط الرزق ويوسعه لمن يشاء بقطع النظر عن عقله وأصله، ويقدر الرزق ويقتره على من يشاء من خلقه وهو أعلم بهم وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ [سورة الشورى آية 27] . ولعل فائدة التذييل بهذه الآية بعد الأمر بالقصد، أننا مأمورون بالقصد لأنه حكمة، وأما الغنى والفقر فأمر مرجعه إلى الله فقط. تحريم وأد البنات: وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً. من عادات الجاهلية التي جاء الإسلام يحاربها بأقوى الأسلحة ويصورها للناس بأبشع صورة وأد البنات أى: قتلهم خشية الفقر أو منعا للعار الذي يلحق بهم بسببهم وقد يقتلونهم خشية فقرهم كما هنا ولذلك قال: نحن نرزقهم وإياكم لأنه خاطب الموسرين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 370 منهم، وقد يقتلونهم من إملاق حاصل فقال لهم كما في سورة الأنعام: نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ لأنه خاطب الفقراء. إن قتلهم من الفقر أو العار كان خطئا كبيرا وإثما عظيما. تحريم الزنى: وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا. الزنى عادة تتنافى مع مبادئ الإنسانية الأولى، لم يقره شرع أبدا ولم يؤيده قانون، فيه هتك الأعراض، واختلاط الأنساب، وقضاء على الحرمات، وتقويض دعائم الاجتماع والعمران، وما شاع الزنى في قوم إلا ابتلاهم الله بالأمراض والأوجاع، وسلط عليهم الفقر والذل والهوان، ولقد صدق الرسول حيث يقول: «بشّر الزّانى بالفقر ولو بعد حين» . «ومن زنى يزنى فيه ولو بجدار بيته» . الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [سورة النور آية 3] ، ولا غرابة إذ يقول الله فيه إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَساءَ سَبِيلًا. أين دستور الإسلام، الذي حرم الزنى بهذا الوصف، من دساتير الغرب التي تبيحه مادامت الزانية بلغت السن وكانت راضية؟! كأن عرضها ملك لها، وكأن اختلاط الأنساب لا يهم في شيء أبدا،! فسبحان من هذا كلامه! ولعلكم تتعظون يا أيها الناس! تحريم القتل: وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً. القتل اعتداء على خلق الله، وانتهاك لحرمة الله- سبحانه وتعالى- الله يبنى والقاتل الأثيم يهدم ويعتدى، والإنسان ليس ملكا لنفسه وحده إنما هو ملك للمجتمع والدولة، ولذلك حرم الانتحار وحرم قتل النفس إلا بالحق، فمن قتل نفسه فهو آثم بقتله نفسه، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 371 ومن قتل غيره فهو معتد أثيم، ولا يباح إلا بحق من حقوق ثلاث، فمن قتل مسلما بلا قصاص، ومن زنى وهو محصن، ومن ارتد عن الإسلام، كل أولئك دمهم مهدور، ومن قتل مظلوما أى: لم يكن يستحق القتل، وكانت نفسه محرمة فقد جعلنا لوليه الذي يستحق المطالبة بدمه سلطانا على القاتل في القصاص منه فلا يسرف في القتل، ولا يقتل غير القاتل كعادة الجاهلين الذين كانوا يقتلون الجماعة في الواحد لأنه شرف عظيم في نظرهم، فهذا مهلهل بن أبى ربيعة يقول حين قتل بجير بن الحارث ابن عباد: بؤ بشسع نعل كليب أخى أى: أنت تساوى نعل كليب ولا يكفيني في كليب إلا قتل آل مرة جميعا ... لا تسرف في القتل يا ولى الدم إنك منصور من الله ومن عامة المسلمين حيث أوجب لك القصاص في القتل. تحريم أكل مال اليتيم: وَلا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ. يربى الإسلام نفوسنا تربية إسلامية عالية، ويغرس فينا المثل العالية، وها هو ذا يحرم علينا أكل مال اليتيم لأنه ضعيف مسكين لا حول له ولا قوة، نهانا عن أن نقترب من مال اليتيم إلا بالطريقة الحسنى تعود على اليتيم بالفائدة فليس الاعتداء على ماله بأى شكل حتى يبلغ أشده، ويكتمل عقله ورشده فينطبق عليه القانون العام الذي يشمل جميع المسلمين. الوفاء بالعهد: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا الوفاء بالعهد فضيلة من الفضائل الإسلامية العليا، وخلف الوعد رذيلة من الرذائل وصفة من صفات المنافقين، وللأسف الشديد نجد الوفاء بالوعد عند الغربيين الذين لم يحثهم دينهم عليها، ونحن فينا خلف الوعد كأنه غريزة من الغرائز، والعهد أمر عام يشمل ما بينك وبين الله والناس ونفسك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 372 الوفاء في الكيل والوزن: وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا:. هكذا ديننا الحنيف يحارب فينا المادية والأنانية بكل معانيها ويربى فينا السمو والبعد عن الدنية، والعدل في كل شيء لذا أمرنا بالوفاء في الكيل إذا بعنا لأحد أو اشترينا منه، وأمرنا بالعدل والقسطاس المستقيم في كل ما نزنه ذلك خير بلا شك وأحسن عاقبة، إذ بالتجربة أن التاجر الذي يطفف في الكيل أو الوزن هو المبغوض من الناس أجمعين، وبالعكس التاجر الصادق هو الكسوب الرابح وللأسف نرى عند التجار الأجانب صدقا في الوعد وكمالا في الكيل والوزن. تتبّع العورات والقول بالحدس: وَلا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا. يرشدنا ديننا الحنيف إلى أننا لا نتبع في سلوكنا الظن والحدس ولا نقفوا ما ليس لنا به علم فلا يصح أن يقول إنسان ما لا يعلم أو يعمل بما لا علم به ولا يليق بك أن تذم أحدا بما لا تعلم وعلى هذا فشهادة الزور وقول الزور والقذف والتكلم في الناس بالظن وتتبع العورات كل هذا محرم شرعا إن السمع والبصر والفؤاد كل واحد من ذلك كان صاحبه عنه مسئولا فيقال له: لم سمعت ما لا يحل لك سماعه؟ ولم نظرت إلى ما لا يحل لك النظر إليه؟ ولم نويت وعزمت على ما لا يحل لك العزم عليه؟ واعلم أن تتبع العورات واستعمال الظن داء أصاب الشرقيين خاصة المسلمين وهو يدل على ضعف النفس وانغماسها في المادة وعدم صفائها. النهى عن الكبر والخيلاء: وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا. كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً. الكبر والخيلاء مرضان نفسيان ينشآن من مركب النقص الذي يصاب به بعض الناس. فلا يتكبر ولا يختال رجل كبير النفس واسع العقل أبدا، ولهذا نهى الإنسان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 373 عنهما نهيا معللا بقوله: إنك لن تخرق الأرض إذا سرت عليها ولن تبلغ بتطاولك الجبال وهذا تهكم بالمتكبر والمختال. كل ذلك المتقدم من قوله: لا تجعل مع الله إلها آخر إلى هنا كان سيئه مكروها عند ربك ومبغوضا عند العقلاء من الناس. ذلك إشارة إلى ما تقدم من قوله: لا تجعل مع الله إلها آخر إلى هنا بعض ما يوحى إليك ربك من الحكمة، حقّا إنه هو الكلام المحكم الذي لا دخل فيه للفساد أبدا. أليس هذا المجتمع الذي يعيش على هذه النظم مجتمعا فاضلا كريما ذا عزة وقوة وفضل ونبل هو المجتمع الإسلامى الذي يدعو إليه الإسلام وأما نحن وأعمالنا فلسنا حجة على الإسلام في شيء. ولا تجعل مع الله إلها آخر فتلقى في جهنم ملوما من الله والملائكة والناس جميعا مطرودا من رحمة الله وقد كرر هذا النهى للتنبيه على أن التوحيد مبدأ الأمر ومنتهاه فإن من لا قصد له بطل عمله ومن قصد بفعله غير الله ضاع سعيه وخاب ظنه. ولما أمر بالتوحيد ونهى عن الشرك أتبعه بذكر من أثبت الولد له- تعالى- خصوصا إذا كان الولد أنثى!! أيكرمكم ربكم فيخصكم بالبنين ويتخذ من الملائكة إناثا له؟ أيعقل هذا إنكم لتقولون قولا عظيم إثمه كبير جرمه تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى فإنكم تكرهون البنات وتحبون الذكور فكيف تقسمون الأولاد هكذا الذكور لكم والإناث لله. وبعد هذا البيان الجامع لأسس الخير والفلاح يقول الله ممتنا على عباده: ولقد صرفنا في هذا القرآن. وبينا فيه كل شيء ليذّكّروا ولكن ما يزيدهم ذلك إلا عتوا ونفورا واستكبارا في الأرض ومكرا وما كان جزاؤهم في ذلك إلا سعيرا وحميما. الرد على من يدّعى لله شريكا [سورة الإسراء (17) : الآيات 42 الى 44] قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 374 لما أثبت الله- سبحانه وتعالى- خطأهم في ادعائهم أن الملائكة بنات الله. قفّى على ذلك بإبطال التعدد وإثبات الوحدانية لله، والتنزيه له. المعنى: قل لهم يا محمد: لو كان مع الله- تبارك وتعالى- آلهة وشركاء كما تقولون أيها المشركون إذن لابتغوا إلى صاحب العرش سبيلا ولطلبوا طريقا لمقاتلة الله ولتنازعوا على الألوهية. لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [سورة الأنبياء آية 22] . سبحانه وتعالى عن قولهم الإثم واعتقادهم الخطأ سبحانه وتعالى علوا كبيرا مناسبا لمقامه إذ فرق بين الغنى المطلق والفقر المطلق فرق شاسع وبون واسع. ثم بين- سبحانه- مظهرا من مظاهر جلال ملكه وعظيم سلطانه وكامل وحدانيته فقال: تسبح له السموات السبع ومن فيها والأرضون السبع ومن فيهن وليس هناك في الوجود شيء إلا يسبح بحمده تسبيحا بلسان الحال ولكنكم أيها المشركون لا تفقهون تسبيحهم كل ما في الكون من إنسان وحيوان وشجر ونبات وجماد وأجرام يدل دلالة قوية على وجود الصانع القادر الواحد المختار فكل شيء يسبح بحمد الله وشكره. وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد ولكن الذين لا يعرفون لغة الكائنات ودلالة الموجودات لا يفقهون ذلك بل لا يفهمون أصلا. ومع ذلك إنه هو الحليم بعباده الغفور الذي يغفر عن السيئات ويقبل التوبة من عباده قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ [سورة الأنفال آية 38] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 375 السر في كفرهم وعنادهم [سورة الإسراء (17) : الآيات 45 الى 48] وَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) المفردات: حِجاباً حاجزا أَكِنَّةً جمع كنان وهو الغطاء والستر وَقْراً صمما وثقلا في السمع. المعنى: وإذا قرأت يا محمد القرآن كله أو أى آية منه جعلنا بينك وبين هؤلاء المشركين الذين لا يعنون بالآخرة حجابا حاجزا وسترا ساترا بحيث لا يبصرون ببصائرهم نور القرآن وهدايته وجعلنا على قلوبهم أكنة وأغطية تحول دون تفهم معاني القرآن وتدبر آياته وأمثاله وجعلنا في آذانهم صمما حتى لا يسمعوا سماع قبول وتدبر. وهذا تمثيل وتصوير لموقفهم من القرآن وصاحبه وذلك أن حالهم وما نشأوا فيه وبيئتهم وحبهم للرياسة الكاذبة، وتغلغل الحسد في قلوبهم، كل ذلك كان بمثابة غطاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 376 وحجاب يمنع القلب والبصيرة من أن ترى أو تسمع أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ؟؟ .. قال الكشاف: ووجه إسناد الفعل إلى ذاته وهو قوله جَعَلْنا للدلالة على أنه أمر ثابت فيهم لا يزول عنهم كأنهم مجبولون عليه. وهم يقولون إن للبدن حواسه التي بها يحس كالأذن والعين وحاسة الشم وحاسة اللمس والذوق، وللروح حواسه كذلك الباطنية وموضعها القلب وهي المعبر عنها بالبصائر فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج: 46] . فحين ينفى القرآن عنهم حواس السمع والبصر والفؤاد إنما يقصد الحواس الروحية حواس البصيرة القلبية، وعند ذلك يفهم السر في إعراضهم وكفرهم إذ الحواس معطلة وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده جمحوا ونفروا نفورا ناشئا من أن عقلهم قاصر عن إدراك غير المحسوس المشاهد، وعقولهم غير مستعدة لإدراك السر الإلهى الأعظم مجردا عن المادة. نحن أعلم يا محمد بما يستمعون به، وبهم حين يستمعون إليك، وسنجازيهم على استهزائهم وكفرهم وقت سماع القرآن إن ربك عليم بما في الصدور. وربك أعلم بما يتناجون به في خلواتهم، والشيطان معهم إذ يقول هؤلاء الظالمون الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم، إن تتبعون إلا رجلا قد سحر فاختلط عقله، وزال اعتداله وطاش حكمه. انظر يا من يتأتى منك النظر كيف ضربوا لك يا محمد الأمثال؟ فقالوا كاهن، ساحر، وشاعر، ومجنون، فهم قد ضلوا في جميع ذلك عن سواء السبيل فلا يستطيعون طريقا إلى الهدى والحق. شبهتهم في البعث والرد عليهم [سورة الإسراء (17) : الآيات 49 الى 55] وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَقُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 377 المفردات: رُفاتاً الرفات: ما بولغ في دقه وتفتيته حتى صار كالتراب وهو اسم لأجزاء ذلك الشيء المفتت، وقال بعضهم: الرفات التراب بدليل تكرير ذكره في القرآن مع العظام: ترابا وعظاما فَسَيُنْغِضُونَ سيحركون إليك رءوسهم تعجبا يَنْزَغُ المراد يفسد بينهم بالوسوسة. لقد سبق الكلام في شأن التوحيد والقرآن والسبب في كفرهم، وهنا تكلم عن شبههم الباطلة في البعث، ثم عن البعث مع تحذير المسلمين عاقبة المخالفة لأن الناقد بصير. المعنى: نظر المشركون بعقلهم القاصر، وقلبهم الأعمى إلى نظرية البعث وإعادة الحياة للحساب والثواب والعقاب فقالوا: إذا مات الإنسان جفت عظامه وتناثرت وتفرقت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 378 أجزاؤه في جوانب العالم، واختلطت عناصر الجسم بغيرها، وهب أن إنسانا ابتلعه حوت في البحر وتحول جسمه إلى غذاء له مثلا فكيف يعقل بعد ذلك كله اجتماع أجزاء الجسم ثم عودة الحياة إليها؟!! وقالوا: أإذا كنا عظاما نخرة ورفاتا مفتتة نبعث؟! ونكون خلقا جديدا له حس وحركة وفيه حياة وإدراك؟!! إن هذا لشيء عجيب! فيرد الله عليهم إن إعادة الحياة إلى الجسم أمر ممكن، بل هو أهون على الله من خلقه أول مرة- وهو أهون بالنسبة إلى إدراكنا وحكمنا وإلا فخلق الجبال والناس جميعا عند الله كخلق ذرة واحدة- ولو فرضتم أيها المشركون أن بدن الميت قد صار أبعد شيء عن الحياة بأن صار حجرا أو حديدا أو خلقا آخر مما يكبر في صدوركم وعقولكم كالسماء والأرض فالله قادر على إحيائه وبعثه من جديد. فسيقولون: من يعيدنا؟ قل لهم: الذي فطركم وخلقكم أول مرة قادر على إعادتكم وإحيائكم للبعث والجزاء فسينغضون إليك رءوسهم، ويحركونها تعجبا، ويقولون: متى هذا؟ وفي أى وقت يكون؟ قل لهم: عسى أن يكون قريبا فكل آت قريب، إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [سورة المعارج الآيتان 6 و 7] . اذكروا يوم يدعوكم فتستجيبون حامدين طائعين منقادين، وتظنون عند البعث أنكم ما لبثتم إلا زمنا قليلا لهول ما ترون. وقل لعبادي المؤمنين يقولوا المقالة التي هي أحسن من غيرها عند محاورة المشركين وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لأن الشدة في الخطاب تنفر الناس وتجعلهم يعاندون ويستكبرون خصوصا هؤلاء الذين في قلوبهم مرض، ومعهم الشياطين التي لا تألوا جهدا في إيقاع الفساد والشر فيما بينكم وبين غيركم إن الشيطان ينزغ بينهم ويفسد، إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا ظاهر العداوة بينها. ربكم أعلم بكم إن يشأ يرحمكم ويوفقكم إلى الخير والإسلام أو إن يشأ يعذبكم ولا يهديكم إلى الهدى والنور، وما أرسلناك يا محمد عليهم وكيلا تحاسب على أعمالهم إن أنت إلا نذير وبشير فقط، وربك أعلم بمن في السموات ومن في الأرض جميعا علم إحاطة وانكشاف أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟ [الملك 14] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 379 ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض ونحن أعلم بخلقنا فموسى كليم الله، وعيسى كلمته وروح من عنده، وإبراهيم خليله، ومحمد حبيبه وخاتم رسله وصاحب الإسراء والمعراج، ولا تعجبوا من إعطائه القرآن فداود أعطيناه الزبور وفيه أن محمدا خاتم الأنبياء وأن أمته خير الأمم وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ [سورة الأنبياء آية 105] . مناقشة المشركين في عقائدهم [سورة الإسراء (17) : الآيات 56 الى 60] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57) وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 380 المفردات: تَحْوِيلًا المراد: تحويله من حال إلى حال، أو من مكان إلى مكان الْوَسِيلَةَ القربى بالطاعة والعبادة مَحْذُوراً مخوفا أَحاطَ المراد أنهم في قبضته وتحت قدرته. وهذا رد على من عبد غير الله- سبحانه وتعالى- من العقلاء كالملائكة وعيسى وعزير ومناقشة لهم في عقائدهم. المعنى: قل لهؤلاء المشركين الذين يعبدون من دون الله شركاء، وزعموا أنهم آلهة من دونه قل لهم: ادعو الذين زعمتم أنهم من دون الله شركاء فهل يجيبونكم؟ إنهم لا يستجيبون فهم لا يملكون كشف الضر عنكم، ولا تحويله من مكان إلى مكان، بل لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا، أولئك الذين عبدتموهم من دون الله كعزير والمسيح يدعون ربهم يبتغون الوسيلة إليه والقربى منه بالطاعة، ويخصونه بالعبادات وهم أقرب إلى الله وأولى به لأنهم عباده الأطهار المخلصون من ملائكة وأنبياء وهم يرجون رحمته، ويخافون عذابه، إن عذاب ربك كان محذورا، إذ هو حقيق بأن يحذره العباد من الملائكة والأنبياء وغيرهم فكيف أنتم؟! ثم بين- سبحانه وتعالى- مآل الدنيا وأهلها فقال: وما من قرية كانت من قرى الكفار إلا نحن مهلكوها بالموت أو معذبوها عذابا شديدا يستأصلهم، وهذا الحكم عام ثابت، كان ذلك في الكتاب مسطورا. كان أهل مكة سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن يجعل لهم الصفا ذهبا، وأن ينحى عنهم جبال مكة فأتاه جبريل فقال. إن شئت كان ما سأله قومك. ولكنهم إن لم يؤمنوا لم يمهلوا، وإن شئت استأنيت بهم فأنزل الله هذه الآية وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ. وما منعنا من إرسال الآيات واستجابة طلباتهم التي سألوها إلا تكذيب الأولين فإننا إن أرسلناها وكذب بها هؤلاء عوجلوا، ولم يمهلوا كما هو سنة الله- سبحانه- مع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 381 الأمم، والمعنى: ما تركنا إرسالها لشيء من الأشياء إلا لتكذيب الأولين فإنهم إن كذبوا بعدها حل بهم ما حل بغيرهم من الأمم السابقة، وقد أراد الله أن يؤخر عذاب من أرسل لهم محمد إلى يوم القيامة، واذكروا أنا آتينا قوم ثمود الناقة كما طلبوا وكذبوا، بعدها عقروها فأخذتهم الصيحة، وجعلنا آية الناقة مبصرة ذات أبصار يدركها الناس، وإنما خصت بالذكر دون غيرها لأن آثار هلاك ثمود قريبة منهم وفي طريقهم، وما نرسل بالآيات إلا تخويفا للناس وإنذارا لهم، فكأن الآية مقدمة لعذاب الاستئصال، وأما أنت يا محمد فثق بالنصر وأن الله معك وناصرك واذكر وقت أن قلنا لك: إن ربك أحاط بالناس علما وقدرة فهم في قبضته وتحت قدرته، فإلى أين يذهبون! وما جعلنا الرؤيا التي أريناك والشجرة الملعونة في القرآن إلا فتنة للناس، أما الرؤيا التي رآها النبي صلّى الله عليه وسلّم فقيل إنها: بشر الله له بانتصاره على قريش في بدر وغيرها، وأنه سيهزم الجمع، ويولون الدبر، ولذلك كان يقول النبي وهو في العريش مع أبى بكر قبل بدء المعركة: اللهم إنى أسألك عهدك ووعدك، ولعل الله أراه مصارع القوم في منامه فكان يقول، هذا مصرع فلان، وذاك مصرع فلان تسامعت قريش بذلك وبما رأى في منامه فكانوا يضحكون ويسخرون، ويستعجلون العذاب، وحين يقول الله. إن شجرة الزقوم طعام الأثيم، وأنها في النار قالوا: إن محمدا يزعم أن نار جهنم نار وقودها الناس والحجارة ثم يقول: ينبت فيها الشجر. فهذه الرؤيا بالنصر للنبي، والشجرة الملعونة كانت فتنة للناس بعضهم آمن بهذا وبعضهم كفر. وقيل الرؤيا هي الإسراء وقد كانت فتنة للناس آمن بها البعض وكفر بها البعض وبه تعلق من يقول كان الإسراء في المنام ومن قال إن الإسراء كان في اليقظة، قال هي رؤية بالبصر، وسماها رؤيا بناء على قول المكذبين. ونحن نخوفهم بعذاب الدنيا والآخرة فما يزيدهم إلا طغيانا كبيرا. فكيف يؤمن قوم هذه حالهم بإرسال ما يقترحونه من الآيات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 382 أصل الداء [سورة الإسراء (17) : الآيات 61 الى 65] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَكَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) المفردات: أَرَأَيْتَكَ أى: أخبرنى لَأَحْتَنِكَنَّ لأستأصلنهم بالأعوان إلا قليلا يقال: احتنك الجراد الأرض إذا جرد ما عليها أكلا بالحنك موفورا اسْتَفْزِزْ كاملا استخف يقال أفزه واستفزه أزعجه واستخفه وَأَجْلِبْ من الحلبة والصياح أى: صح عليهم، والمراد: أجمع عليهم كل ما تقدر عليه من مكايدك غُرُوراً باطلا. المعنى: لما ذكر القرآن الشرك والمشركين وناقشهم وألزمهم الحجة أخذ يبين لهم أصل الداء والسبب الحقيقي لعلهم يتعظون وهو أن إبليس اللعين أخذ على عاتقه إغواءهم والوسوسة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 383 لهم مع بيان موقفه من آدم أبى البشر، ولقد ذكرت هذه القصة في القرآن سبع مرات بأشكال مختلفة. وصور متباينة تتناسب مع الغرض العام في السورة والغرض الخاص المناسب للسابق واللاحق من الآيات. لهذا سنختصر في سردها. وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم سجودا رمزيا للامتثال ولإظهار المحبة ومكانة بنى آدم لا سجود عبادة وخضوع فسجدوا جميعا إلا إبليس أبى واستكبر وقال: أأسجد لمن خلقته من طين، وأنا خلقت من نار فأنا خير منه فكيف أسجد له. قال: أخبرنى عن هذا الذي فضلته على! لم فضلته وقد خلقتني من نار وخلقته من طين! تالله لئن أخرتنى إلى يوم القيامة لأستولين عليهم بالإغواء والإضلال جميعا إلا قليلا منهم، وهم عبادك المخلصون. قال الله له: اذهب فامض لشأنك الذي أخذته لنفسك فمن تبعك منهم وأطاعك فإن جهنم مأواكم وجزاؤكم جميعا أنت ومن اتبعك جزاء موفورا. واستفزز من استطعت منهم بصوتك واستخفه وادعه بكل ما تستطيع من قوة وإغراء، وأجمع عليهم خيلك وفرسانك، ورجالك، وهذا تمثيل، والمراد أجمع لهم مكايدك وما تقدر عليه، ولا تدخر وسعا في إغوائهم، وشاركهم في الأموال حتى يتصرفوا بما يخالف وجه الشرع من سرقة وغصب إلى غش وخديعة، أو أخذ بالربا، وشاركهم في الأولاد عن طريق الزنى، وتسميتهم بأسماء غير شرعية، وعدم احترام الحقوق الشرعية في الزواج والطلاق والرضا وغيره وعدهم بكل ما تعد به من زخرف القول وباطله. وما يعدهم الشيطان إلا غرورا باطلا، وتزيينا كاذبا، وإظهارا للباطل في صورة الحق. إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ولا قوة إلا من اتبعك، وكفى بربك وكيلا يتوكلون عليه فهو الذي يدفع عنهم كيد الشيطان ويعصمهم من إغوائه. ومن هنا نعلم أن الناس صنفان: صنف مؤمن تقى إذا مسه الشيطان تذكر نفسه وما حمل من أمانة، وما عليه من حساب، واستعاذ بالله فإذا هو مبصر محاسب نفسه وهؤلاء هم العباد الذين ليس للشيطان عليهم سبيل. والصنف الثاني: هو العاصي الذي يتولاه الشيطان، ويستولى عليه مستعينا بالمال والدنيا والنفس الأمارة بالسوء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 384 من نعم الله علينا [سورة الإسراء (17) : الآيات 66 الى 70] رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) المفردات: يُزْجِي يسوق ويدفع والمراد يسير الضُّرُّ أى: الشدة وخوف الغرق يَخْسِفَ الخسف أن تنهار الأرض بالشيء حاصِباً المراد ريح شديدة حاصبة وهي التي ترمى بالحصى الصغيرة قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ القاصف هي الريح الشديدة التي تكسر كل ما يصادفها أو هي الريح الشديدة الصوت تَبِيعاً أى: تابعا ثائرا يطالبنا بما فعلنا. وهذا بيان لكمال قدرته، وتذكير ببعض النعم حملا لنا على الإيمان الكامل به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 385 المعنى: ربكم الذي يستحق وحده العبادة هو الذي يسير لكم السفن في البحر، ويدفعها بقوة الريح وتيار الماء أو قوة البخار، يسير الفلك تمخر عباب الماء حاملة الناس والتجارة لتبتغوا من فضل الله ورزقه، إنه كان بكم رحيما منعما بدقائق النعم وجليلها. وأنتم أيها الكافرون المشركون أمركم عجيب، إذا مسكم الضر، واضطرب بكم البحر وعدا على سفنكم هوج الرياح فانخلع قلبكم من خوف الغرق المحقق، إذا حصل هذا ضل من تدعونه من الآلهة إلا الله، وذهب عن خاطركم، ولم يدر بخلدكم ذكر واحد منهم فإنكم لا تذكرون سواه، وقيل المعنى: ضل ولم يهتد لإنقاذكم أحد غيره من سائر المدعوين. فلما نجاكم إلى ساحل السلامة واستجاب دعاءكم أعرضتم وكفرتم وصرتم تدعون غيره يا عجبا لكم!! في الشدة تذكرونه وحده، وفي غيرها تدعون معه غيره، ولا غرابة فخلق الإنسان كفورا بربه جحود النعمة، وهذا يتحقق في أكثر الأفراد. ها أنتم أولاء نجوتم الآن وكشف عنكم ربكم الضر الذي أصابكم، ولكن أنجوتم فآمنتم أن يخسف بكم جانب البر فحملكم ذلك الأمان الصادر عن الغرور الكاذب على الإعراض والكفر. نعم أمر المشركين عجيب يتضرعون إلى الله في البحر فإذا نجاهم منه أعرضوا وكفروا، ألم يعلموا بأن الله قادر على أن يخسف بهم البر، ويدك عليهم جانبه فيصبحوا أثرا بعد عين؟. أفأمنتم وقد نجاكم من البحر وصرتم في البر أن يرسل عليكم ريحا حاصبا تصيبكم بالحصباء؟ فأنتم تحت قبضته في كل مكان في البر والبحر، وإن لم يصبكم من أسفل أصابكم إن أراد من فوقكم قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [سورة الأنعام آية 65] لا تجدون لكم وكيلا يدافع عنكم. بل أأنتم وقد نجوتم الآن من البحر أن يعيدكم فيه تارة أخرى؟، بأن يهيئ لكم أسباب ركوبه مرة ثانية فيرسل عليكم وأنتم في السفن من الريح شديد فتكسر كل ما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 386 يقابلها فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم بسبب هذا تبيعا علينا يطلب الثأر منا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها. وَلا يَخافُ عُقْباها [الشمس 14 و 15] وهذا تهديد شديد لا يصح إلا ممن رفع السماء فسواها وأغطش ليلها وأخرج ضحاها سبحانه وتعالى. ولقد كرمنا بنى آدم بالعقل والتفكير فسخرنا له كل شيء في الكون كالماء والهواء والأثير، وكرمه بأن خلق له كل ما في السموات والأرض وكرمه في خلقه السوى وقامته المرفوعة، وكرمه بالتكليف وإرسال الرسل- عليهم الصلاة والسلام- خاصة محمدا صلّى الله عليه وسلم. وها هي ذي بعض أنواع التكريم فقد حمله ربه في البر على الدابة والسيارة والدراجة والقطار وفي البحر على السفن، وفي الجو بالطائرة والقلاع الجوية. وإنما لم تذكر لأنه كان يخاطب العرب الذين لا يمكنهم تصور هذا، ورزقناهم من الطيبات في المأكل والملبس، وفضلنا بنى آدم على كثير ممن خلقنا تفضيلا الله أعلم به. وهنا بحث العلماء بحوثا كثيرة في تفضيل بنى آدم على الملائكة واختلفوا اختلافا كثيرا، وليس في الآية دليل لواحد منهم. بعض مشاهد يوم القيامة [سورة الإسراء (17) : الآيات 71 الى 77] يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75) وَإِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَإِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 387 المفردات: بِإِمامِهِمْ المراد من يتقدمهم وينسبون إليه، وقيل كتاب أعمالهم فَتِيلًا مقدار الخيط الذي في شق النواة الطولى تَرْكَنُ تميل إليهم ضِعْفَ الْحَياةِ المراد ضعف عذاب غيرك في الدنيا خِلافَكَ بعدك. المعنى: اذكروا أيها الناس يوم ندعو كل جماعة بإمامهم وقائدهم فيقال مثلا يا أمة موسى يا أمة عيسى. يا أمة محمد، يا أمة فرعون: يا أمة نمرود، ويا أتباع فلان وفلان من رؤساء الكفر وزعماء الشرك. وقيل المعنى يقال لهم: يا أهل التوراة، ويا أهل الإنجيل، ويا أهل القرآن ماذا عملتم في كتابكم؟! وقيل المراد بإمامهم: كتاب أعمالهم نظرا إلى قوله تعالى وكل شيء أحصيناه في إمام مبين. فإذا نودي الناس يوم القيامة، فمن أوتى كتابه الذي فيه أعماله بيمينه فأولئك يقرءون كتابهم فرحين مسرورين قائلين لإخوانهم: هلموا اقرءوا كتابنا، وهم لا يظلمون فتيلا ولا يضيع عليهم مثقال ذرة من أعمالهم. وأما الصنف الثاني: وهو من يؤتى كتابه بشماله، فأولئك يصدمون من هول الموقف ويقفون حيارى، وهؤلاء قد عبر عنهم القرآن بقوله: ومن كان في هذه الدنيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 388 أعمى القلب والبصيرة، ولم يهتد إلى طريق الحق والنور فهو في الآخرة أعمى لا يهتدى إلى طريق النجاح والفلاح بل هو في الآخرة أضل سبيلا. وروى أن قبيلة ثقيف وكانت تسكن الطائف قالت للنبي صلّى الله عليه وسلم: لا ندخل في أمرك حتى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب فلا يكون علينا زكاة، ولا جهاد، ولا صلاة، وأن كل ربا علينا فهو موضوع، وكل ربا لنا فهو لنا فإن قالت العرب لم فعلت ذلك؟ فقل: إن الله أمرنى.. وطمع القوم أن يعطيهم النبي ما طلبوا فأنزل الله وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ.. الآية. وإن هموا وقاربوا أن يفتنوك عن الذي أوحى إليك. ويستنزلونك عن طريق الحق الذي ارتضاه لك ربك لتفترى عليه غيره، وتبدل فيه، إنك لو فعلت ذلك بأى صورة لاتخذوك خليلا، ولكنك تخرج من ولاية الله، وتطرد من رحمته. ولولا أن ثبتناك وعصمناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا، إنك لو فعلت ذلك لأذقناك ضعف عذاب الحياة، وضعف عذاب الموت. وفي قوله- سبحانه-: كدت، شيئا قليلا، ثم مضاعفة العذاب في الدنيا والآخرة دليل على أن جرم العظيم عظيم. وفيها إشارة إلى أن التهاون في شأن الدين وأحكامه خطر وأى خطر!!! وعليه عذاب مضاعف في الدنيا والآخرة، فيا ويلنا مادمنا نتهاون في شأن الدين وحكمه. وعلى المؤمنين جميعا إذا قرءوا هذه الآيات أن يملؤوا قلوبهم خشية وخوفا وتصلبا في دين الله ولقد صدق رسول الله في قوله: «اللهمّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين» . وإن كاد أهل مكة ليزعجونك بعداوتهم، ويستفزونك من أرضها ليخرجوك منها، إنهم إن فعلوا ذلك وأخرجوك كرها لا يبقون بعدك إلا قليلا. وقيل: نزلت في يهود المدينة حينما قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم حسدا وزورا، يا أبا القاسم إن الأنبياء إنما بعثوا بالشام فلو خرجت إليها لآمنا بك واتبعناك، وهذا مما يؤيد أن هذه الآيات مدنية. واعلموا أن كل قوم أخرجوا رسولهم من بلادهم فسنة الله أن يهلكهم ولا تجد لسنته تحويلا وخروج النبي صلّى الله عليه وسلّم من مكة كان بأمر الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 389 إرشادات ومواعظ [سورة الإسراء (17) : الآيات 78 الى 85] أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَقُلْ جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) المفردات: لِدُلُوكِ الشَّمْسِ المراد: من زوال الشمس عن كبد السماء، وقيل: إنه غروبها إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وغسق الليل: اجتماع الظلمة وسواد الليل فَتَهَجَّدْ الهجود: النوم بالليل، والتهجد: ترك الهجود كالتأثم والتحرج في ترك الإثم والحرج نافِلَةً لَكَ النافلة: الزيادة ومنه النوافل للسنن الزائدة عن الواجب وَزَهَقَ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 390 الْباطِلُ بطل واضمحل وَنَأى بِجانِبِهِ النأى: البعد. والمراد لوى عنه عطفه، أى: جانبه وولاه ظهره، وهو تأكيد للإعراض شاكِلَتِهِ طريقته. تقدم ذكر المعاد والجزاء وبعض الإلهيات، وهنا ذكر أشرف الطاعات وهي الصلاة وبعض التعليمات الإلهية مع بيان شرف القرآن وسمو الروح، وهذا هو العلاج لثبات المسلم على الطريق الحق. المعنى: يا أيها النبي أقم الصلاة، وأت بها مقومة تامة الأركان مستوفية الشروط والآداب فهي عماد الدين، وصلة العبد بخالقه. والأمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم أمر لأمته، وإنما خص به لمكانة المأمور بها وهي الصلاة. أقم الصلاة من دلوك الشمس- وهو زوالها عن كبد السماء- إلى غسق الليل واجتماع الظلمة ولعل السر في التعبير باللام بدل من قوله دلوك: الإشارة إلى أن الوقت سبب في إقامة الصلاة، وشرط فيها. وأقم قرآن الفجر والمراد صلاة الصبح، إن قرآن الفجر كان مشهودا من الملائكة حرس الليل وحرس النهار، ومن يوفق لصلاة الفجر، والتعبد في السحر والتهجد في الليل يدرك السر ويشعر بأنها صلاة مشهودة، ودرجة مرفوعة، وفقنا الله لها. وبعض الليل فتهجد بالقرآن والصلاة نافلة زائدة عن الفرائض المطلوبة، عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا. وعسى من الكريم إطماع محقق الوقوع، والمقام المحمود والمكان المرموق والمركز المعلوم المعد للنبي صلّى الله عليه وسلم مقام الشفاعة التي يتخلى عنها كل نبي ورسول، قائلا للخلق: عنى عنى اذهبوا إلى غيرى. ويقول الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنا لها: فيشفع للخلق جميعا حين يضيق بهم الأمر. وتدنو الشمس من الرءوس، ويتمنون الانصراف ولو إلى النار، وقيل المقام المحمود غير ذلك. وقل يا محمد: رب أدخلنى مدخل صدق الذي وعدتني به، وأخرجنى مخرج صدق وإضافة المدخل والمخرج إلى الصدق لأجل المبالغة، والآية تشمل كل مدخل للنبي وكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 391 مخرج، كدخوله المدينة، وخروجه من مكة مثلا، واجعل لي في هذا سلطانا وحجة قوية. وقل يا محمد: جاء الحق وزهق الباطل وقد قالها النبي صلّى الله عليه وسلّم حين كسر الأصنام وهو يفتح مكة. والمراد بالحق: الإسلام أو كل ما هو حق. والمراد بالباطل: الشرك أو كل متناف مع الحق، إن الباطل شأنه الزهوق، وعدم الثبات. واعلموا أن القرآن هدى وشفاء لما في الصدور ورحمة وخير للمؤمنين. وهو الوسيلة إلى الله والدواء والعلاج من كل داء فالله يقول: وننزل من القرآن ما هو شفاء من كل داء نفسي ورسمي وشفاء من كل مرض، وعلاج للأمة والفرد ورحمة للمؤمنين وقد كان رحمة وأى رحمة فهو الذي أخرج العرب الجاهلين الحفاة العراة إلى أمة ذات علم وحضارة وعز وسلطان، قهرت الأكاسرة والقياصرة، فهو الرحمة للناس جميعا خاصة المؤمنين وهو السبيل لاكتساب الدين والدنيا. هذا مع المؤمن الذي يتوجه إليه بقلب خال من الكبر والحسد والبغضاء وحب الرياسة أما مع هذه الأمراض فلا يزيد الظالمين أصحابها إلا خسارا وعتوا واستكبارا. وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض عن ذكر الله متكبرا.؟ ونأى بجانبه وولى ظهره، وتلك عادة المتكبرين، وإذا مسه الشر من فقر أو مرض كان شديد اليأس قانطا من رحمة الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون. قل كل يعمل على شاكلته وطريقته التي جبل عليها فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا، وأقوم طريقا وهو يجازى كلا على قدر عمله وإخلاصه.. ولقد كانت اليهود تكثر من سؤال النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الروح وحقيقتها، الروح التي بها يحيا الجسم ويتحرك. والقرآن يرشدهم إلى ما هو خير لهم وأجدى عليهم فليس هو كتاب علم تحدد فيه الحقائق العلمية الدقيقة، وإنما هو كتاب هداية وإرشاد يبحث الأشياء بحثا يتفق مع المصلحة الدينية العامة، على أن حقيقة الضوء والظلام والكهرباء لم تعرف إلى الآن، وإنما عرفناها بآثارها وشواهدها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 392 ولذلك يقول الله آمرا نبيه قل يا محمد: الروح من أمر ربي وشأنه، ومما استأثر الله بعلمه، وما أوتيتم من العلم إلا قليلا بالنسبة إلى علوم الله. وقيل المعنى: إن الروح من أمره أى: جزء منه- سبحانه وتعالى- لا يعرف تحديدها إلا هو ألا ترى إلى قوله تعالى: وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي [سورة الحجر آية 29] وقوله: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً [سورة الفجر الآيتان 27 و 28] على أن بحث حقيقة الروح لا يفيدنا في شيء أبدا. القرآن هو المعجزة الباقية [سورة الإسراء (17) : الآيات 86 الى 93] وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 393 المفردات: ظَهِيراً معينا. فَتُفَجِّرَ تجريها بقوة. يَنْبُوعاً الينبوع العين التي لا تنضب. كِسَفاً جمع كسفة وهي القطعة من الشيء. قَبِيلًا معاينة ومقابلة. مِنْ زُخْرُفٍ من زينة والمراد من ذهب. المعنى: لقد أوتينا من العلم قليلا، ولو شاء ربك لذهب بهذا القليل فعدنا إلى ظلام الجهل، وحماقة الجاهلية فمصدر العلم في كل ناحية هو القرآن الذي أوحى إليك، ولئن شاء ربك لأذهبه، ومحاه من الصدور والمصاحف، فلم يترك له أثرا، وبقيت كما كنت من قبل لا تدرى ما الكتاب ولا الإيمان. ثم لا تجد لك بعد الذهاب به من يتوكل علينا باسترداده وإعادته محفوظا إلا برحمة ربك فيرده عليك، فرحمة ربك مصدر الخير كله، وهذا امتنان من الله ببقاء القرآن محفوظا بعد المنة العظيمة في تنزيله، إن فضله كان عليك كبيرا. ومن الحقائق المعروفة أن العلوم التي نشأت عند المسلمين، والحضارة العلمية في الشرق كله من نبع القرآن وفيضه، فعلوم اللغة والشريعة وأصول الفقه وعلوم القرآن نشأت للمحافظة على القرآن الكريم، وكان لهذا أثر عميق في الاتجاه العلمي العام. هذا القرآن وهو المعجزة، والحجة الدائمة التي تحدى بها الله العرب كلها فعجزوا على الإتيان بمثله، وهم أهل فصاحة وبلاغة، والنبي واحد منهم وهو أمى لم يقرأ ولم يكتب، وفيهم الشعراء والخطباء، وقادة البلاغة والبيان فحيث عجزوا فغيرهم من باب أولى، تحداهم به بأسلوب لاذع، مع الحكم عليهم بالعجز والقصور ولو اجتمع الإنس والجن، وتعاون الكل وبذلوا النفس والنفيس. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 394 ولقد ثبت بما لا يقبل الشك عجزهم فثبت أن القرآن هو المعجزة الباقية وأنه من عند الله. ولقد صرف الله للناس في هذا القرآن، وقلب فيه الأمور كلها على وجوهها بألوان شتى وعبادات مختلفة تارة بالإيجاز وأخرى بالإطناب موفيا الغرض من أمر ونهى، ووعظ وإرشاد وقصص وأخبار، وحكم وتشريع ومع هذا يأبى أكثر الناس إلا كفورا وجحودا. لم يقنعوا بالقرآن معجزة وهم أدرى الناس بحقيقتها لأنها أتت فيما برعوا فيه، وطلبوا معجزة غيرها. ولو جاءت كما طلبوا لقالوا: إنما سحرت أبصارنا وسكرت. وقالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض عيونا تفيض بالماء فإننا في صحراء مجدبة قاحلة، أو تكون لك أنت- إن لم تأت بعيون لنا- جنة من نخيل وأعناب وغيرهما فتجرى فيها الأنهار بقوة حتى يتم زرعها وتؤتى ثمرها كاملا، أو تسقط السماء علينا قطعا كما زعمت إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ [سورة سبأ آية 9] . أو تأتى بالله والملائكة معاينة لنا ومتقابلين معنا فيحدثونا بأنك رسول من عند الله أو يكون لك بيت من زخرف من ذهب فإنا عرفناك يتيما فقيرا. ألم يكن عند الله إلا يتيم أبى طالب يجعله رسولا! أو تعرج إلى السماء، ولن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا من السماء كتابا نقرؤه يفيد أنك رسول من عند الله. قل لهم متعجبا منزها الله، سبحان ربي!! هل كنت إلا بشرا رسولا فقط، ولست أقدر على إجابة طلبكم، والله- سبحانه- هو القادر وقد أيدنى بمعجزة القرآن، وهي المعجزة الباقية الخالدة. شبهتهم في الرسالة والرد عليها [سورة الإسراء (17) : الآيات 94 الى 100] وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَكانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً (100) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 395 المفردات: خَبَتْ سكن لهبها. سَعِيراً نارا ملتهبة شديدة. وَرُفاتاً تقدم شرحها قَتُوراً بخيلا ممسكا. المعنى: من الناس من ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 396 فهم لا يطيقون أبدا الإقرار بأن الله يرسل رسولا من البشر ويقولون إذا كان ولا بد من رسول فليكن من الملائكة، ولقد زاد عنادهم وكفرهم أن الرسول محمدا صلّى الله عليه وسلّم يتيم من فقراء قريش!! لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 31] . نعم ما منعهم من الإيمان بالله ورسوله وقت أن جاءهم الهدى الذي يخرجهم من الظلمات والجهالات إلى نور الحق والعرفان، ما منعهم من ذلك إلا اعتقادهم أن الرسول لا يكون بشرا حيث قالوا منكرين: أبعث الله بشرا رسولا؟ فليس طلبهم الآيات السابقة إلا عنادا وتكذيبا، فلا تظن أن إجابتهم خير أبدا. قل لهم لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين ساكتين يعيشون مع الناس ويتفاهمون معهم ويتلون عليهم آيات الله، وتعرف الناس أخبارهم وأحوالهم قبل النبوة لو كان في طبيعة الملك ذلك لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا، إذ لا يعقل أن يدين الإنسان لمن لا يعرف عنه شيئا، ومن ليس بينه اتصال وألفة حتى يتم التفاهم ولقد صدق الله حيث يقول في سورة الأنعام وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ. وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ [سورة الأنعام الآيتان 8 و 9] . قل لهم: كفى بالله شهيدا وحكما بيني وبينكم فإن كنت أتقول عليه ما يلبسون وأفترى عليه الكذب فيجازينى على ذلك وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً [الأنعام 21] . وإن كنتم تكفرون بالله الذي خلقكم. ولا تؤمنون برسوله الذي أرسل لكم، ومعه المعجزة الباقية الخالدة التي تقول بلسان الحال: صدق عبدى في كل ما يبلغه عنى: فسيحاسبكم ربكم على ذلك ويجازيكم أشد الجزاء إنه بعباده خبير بصير. وأنت يا محمد فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وأعلم أنه من يهديه الله إلى الخير فهو المهدى الموفق لأن نفسه ميالة إلى ذلك، ومن يضلله الله فلن تجد له أولياء من دون الله يتولون أمره ويدافعون عنه، وهم يوم القيامة محشرون يمشون على وجوههم. يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ «1» والذي أقدرهم على المشي على الأرجل يقدرهم على المشي على وجوههم مرغمين، نحشرهم عميا لا يرون ما ينفع وبكما   (1) سورة القمر الآية 48. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 397 لا يتكلمون بما يفيدهم، ولا يسمعون ما يلذ لهم وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلًا مأواهم جهنم التي وقودها الناس والحجارة كلما أكلت جلودهم ولحومهم وعظامهم وأفنتها وسكن لهيبها بدلوا جلودا ولحما وعظما غيرها فرجعت ملتهبة شديدة الالتهاب، وكانوا يستبعدون إعادة الحياة بعد الممات فكان جزاؤهم النار أن تعاد أجسامهم مرة ثانية ليذوقوا ويعرفوا قدرة الملك الجبار. ذلك جزاءهم بسبب كفرهم، وقولهم: أإذا كنا عظاما نخرة وصار جسمنا رفاتا ترابا تعود إلينا الحياة؟ ونبعث من جديد لنحاسب على أعمالنا إن هذا لعجيب. يا عجبا لهم!! أعموا ولم يروا أن الله خلقهم وخلق السموات وما فيها، والأرضين وما فيها من العجائب قادر على أن يخلق مثلهم أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ [سورة النازعات الآية 27] . وقد جعل لهم أجلا لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون، ومع هذا كله فقد أبى الظالمون إلا كفورا وجحودا، وإنكارا للبعث. قل لهم: لو تملكون خزائن رحمة الله الرحمن الرحيم لبخلتم بها، وأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتورا بخيلا. ولو سئل الناس التراب لأوشكوا ... إذا قيل هاتوا أن يملوا ويمنعوا فما بالكم تطلبون آيات بعد هذه الآيات! وأنتم لا تقومون بواجب الشكر لله الذي أنعم عليكم بكافة النعم إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [سورة العاديات آية 6] . تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلم [سورة الإسراء (17) : الآيات 101 الى 109] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104) وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 398 المفردات: مَسْحُوراً سحرت فاختل عقلك. بَصائِرَ المراد بينات مكشوفات. مَثْبُوراً هالكا، وقيل مصروفا عن الخير ممنوعا منه. يَسْتَفِزَّهُمْ يستخفهم ويخرجهم. لَفِيفاً مجتمعين مختلطين. فَرَقْناهُ المراد جعلنا نزوله مفرقا منجما. يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يسقطون على وجوههم خضوعا لله. روى ابن عباس- رضى الله عنهما- أن الآيات التسع هي العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، والحجر، والبحر، والطور الذي نتقه الله على بنى إسرائيل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 399 المعنى: ولقد آتينا موسى حين أرسل إلى فرعون وملئه تسع آيات ناطقات بصدقه، وأنه رسول الله إليهم لينقذ بنى إسرائيل من طغيانهم، مع هذا لم يؤمن فرعون وقال: إنى أظنك يا موسى رجلا مسحورا قد سحر عقله واختلط عليه أمره فهو لا يدرى ما يقول. وإن كنت في شك فسل المؤمنين من بنى إسرائيل عن الآيات وقت أن جاءهم بها موسى فسيخبرونك الخبر الحق، ويكون ذلك أقوى حيث تتظاهر الأدلة. ولما أنكر فرعون رسالة موسى مع وجود الآيات التسع- وفي هذه إشارة إلى أن طلب قريش تلك الآيات السابقة وإجابتهم لها ليس يدفعهم إلى الإيمان فهذا فرعون وما عمل- قال موسى له: لقد علمت يا فرعون ما أنزل هذه الآيات إلا رب السموات والأرض حالة كونها بينات وبصائر تهدى الإنسان النظيف الخالي من عمى القلب تهديه إلى الطريق الحق. ولكنك يا فرعون ما أظنك إلا هالكا ممنوعا من الوصول إلى الخير لأن طبعك يأبى عليك ذلك. وكان ما كان من أمر فرعون وموسى مما ذكر في غير هذه السورة. فأراد فرعون بعد هذا أن يخرجهم من أرض مصر مطرودين مبعدين فأغرقه الله هو وجنده، ونجى موسى ومن معه من بنى إسرائيل، وأورثهم أرضهم وديارهم وقال الله لهم: اسكنوا الأرض التي أراد فرعون أن يخرجكم منها وهذا جزاء كل جبار عنيد فإذا جاء وعد الآخرة جئنا بكم مختلطين. ثم نعطى كل إنسان جزاءه إن خيرا فخير وإن شرا فشر. ثم عاد القرآن إلى الكلام عن نفسه فيقول: وما أنزلنا هذا القرآن إلا بالحكمة والمصلحة العامة النافعة في الدين والدنيا، وما نزل إلا متلبسا بالحق والخير في الدنيا والآخرة، وما أرسلناك يا محمد إلا بشيرا ونذيرا وعلى الله الثواب والعقاب. وقرآنا فرقناه أى: جعلنا نزله مفرقا منجما تبعا للحوادث والظروف لتقرأه على الناس على مكث وتؤدة ليحفظ في الصدور، وتعيه النفوس، ويفهم فهما عمليا تطبيقيا إذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 400 كل آية نزلت في حادثة خاصة يفهم سبب نزولها، ويوقف على سرها، ونزلناه تنزيلا كاملا لا عوج فيه ولا نقص. قل يا محمد: آمنوا به أو لا تؤمنوا، وهذا أمر، بالإعراض عنهم واحتقارهم حتى لا يكترث بهم. وهم إن لم يؤمنوا بالقرآن وهم أهل جاهلية وشرك فإن خيرا منهم وفضل وهم أهل الكتاب والعلماء منهم الذين عرفوا الوحى والنبوة قد آمنوا به وصدقوه فهذا عبد الله بن سلام، وتميم الداري وغيرهم، هؤلاء إذا يتلى عليهم القرآن يخرون سجدا لله تعظيما لأمره ولإنجاز ما وعد في الكتب المنزلة التي بشرت ببعثة النبي صلّى الله عليه وسلم. ويقولون سبحان ربنا. إن كان وعد ربنا لمفعولا، ويخرون ساجدين على وجوههم في حالة البكاء، ويزيدهم سماع القرآن اطمئنانا في القلب وخشوعا. وهكذا كل مؤمن صادق في إيمانه. بماذا ندعو الله [سورة الإسراء (17) : الآيات 110 الى 111] قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَلا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلا تُخافِتْ بِها وَابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) المعنى: سمع المشركون النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول: يا الله يا رحمن، فقالوا: هذا ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعو إلهين! فأنزل الله هذه الآيات. قل لهم: ادعوا الله، أو ادعوا الرحمن، أى هذين الاسمين دعوتم وذكرتم فهو حسن، فله الأسماء الحسنى أى: فلله الأسماء الحسنى فإذا حسنت أسماؤه كلها المأثورة حسن هذان الاسمان منها وهما يفيدان التحميد والتقديس والتعظيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 401 ومن الصواب أن نتبع الطريقة المثلى في الدعاء وهي الحد الوسط بين الجهر في الصوت والإسرار والإخفات فيه وخاصة في الصلاة بحيث تصلى فتسمع نفسك ولا تؤذى غيرك، وقيل المعنى: اجهر في صلاة الجهر، واخفت في صلاة الإخفات وهي صلاة الظهر والعصر، وابتغ بين ذلك أى: بين الجهر والسر سبيلا وسطا. وقل: الحمد لله والثناء بالجميل على الفعل الجميل لله- سبحانه- الذي لم يتخذ ولدا فهو ليس محتاجا إليه، واتخاذ الولد من صفات الحوادث وهو منزه عنها، ولم يكن له شريك في الملك لأنه غير محتاج إليه، ولو كان فيهما آلهة غير الله لفسدتا، ولم يكن له ولى من الذل، أى: لم يكن له ناصر من الذل ومانع له منه، ولم يوال أحدا من أجل الذل إذ هو القادر المقتدر الخالق صاحب النعم- جل جلاله-. وكبره تكبيرا وعظمه تعظيما يتناسب مع جلاله وقدسيته، والله أكبر ولله الحمد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 402 سورة الكهف قال القرطبي: وهي مكية في قول جميع المفسرين وقال الكشاف مكية إلا بعض آيات فيها، والرأى الأول هو الصحيح، وعدد آياتها عشر ومائة. وتراها تكلمت عن القرآن الكريم وأثره، ثم ذكرت قصة أصحاب الكهف وما فيها من عبر. وأتبعتها توجيهات نافعة: ثم سبق مثل عملي المغتر بالدنيا والمغرور بها مع تذكير الناس بيوم القيامة وفي خلال ذلك حكم وآيات، وتوجيهات وإنذارات ثم بعد ذلك كانت قصة موسى مع الخضر، وإجابتهم عن الروح وعن ذي القرنين، وما أروع ختام هذه السورة بالكلام على المؤمنين وكلمات الله لا تنفد. [سورة الكهف (18) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6) إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 403 المفردات: عِوَجاً العوج والعوج عدم الاستقامة والمراد نفى الاختلاف والتناقض عن ألفاظه ومعانيه. قَيِّماً مستقيما لا ميل فيه أبدا. باخِعٌ نَفْسَكَ البخع: الجهد والإضعاف. أَسَفاً الأسف: شدة الغيظ. صَعِيداً جُرُزاً الصعيد: المستوي من الأرض. والجزر: أرض لا نبات فيها، ومنه قيل سيف جراز، أى: يستأصل المقاتلين. المعنى: الحمد لله والشكر له، والثناء لله- سبحانه- علم الله عباده كيف يحمدونه على نعمه الجليلة، التي تفضل بها عليهم فهو الذي أنزل على عبده وحبيبه سيد الأنبياء وإمامهم وخاتمهم، أنزل عليه القرآن المكتوب في الصحائف، والمسجل في ضمير الزمن، والمحفوظ في القلوب والمنقول إلينا عن طريق التواتر إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ولم يجعل له عوجا في لفظه ومعناه، ولم يكن فيه اختلاف في أى ناحية من نواحيه وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً وهو القيم والمستقيم على الحق والعدل، الداعي إلى الخير والهدى، وهو القيم على مصالح العباد في الدنيا والآخرة والقيم على الكتب السابقة والمهيمن عليها. وها هو ذا التفصيل لما أجمل في قوله- تعالى- قَيِّماً لينذر الكفار والعصاة بأسا شديدا وعذابا أليما من لدنه، وليبشر المؤمنين العاملين الصالحات، فكان إيمانهم مصحوبا بالعمل بعيدا عن العجز والكسل يبشرهم بأن لهم أجرا حسنا هو الجنة ماكثين فيها مكثا دائما إلى ما شاء الله، وكرر الإنذار مرة ثانية للتأكيد فقال، ولينذر الذين قالوا: اتخذ الله ولدا كاليهود في عزير، والنصارى في المسيح، وكفار قريش في قولهم: الملائكة بنات الله، ما لهم بالولد واتخاذ الله له علم أصلا ولا لآبائهم كذلك علم به، بل هو محض افتراء واختلاق، على أنه ليس مما يعلم إما للجهل بالطريق الموصل إليه، وإما لأنه في نفسه مجال لا يستقيم تعلق العلم به. كبرت المقالة كلمة تخرج من أفواههم، أى: ما أكبرها كلمة تخرج من أفواههم والمراد بالكلمة قولهم إن الله اتخذ ولدا، وهم ما يقولون إلا كذبا وزورا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 404 فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا وقد مضى بحث في لعل عند قوله- تعالى- في سورة هود فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ والمعنى: فلعلك قاتلها ومهلكها لأنهم لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا عليهم وحزنا شديدا على شركهم وتوليهم عنك. وفي الكشاف: شبهه وإياهم- حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به، وما تداخله من الوجد، والأسف على توليهم- برجل فارقته أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم ويبخع نفسه وجدا عليهم وتلهفا على فراقهم. إنا جعلنا ما على الأرض من حيوان ونبات وجماد زينة لها والله جعل كل ما عليها زينة لها، ومصلحة لنا هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، وجعل هذا ليبلوكم فيظهر من هو أحسن عملا ممن هو أسوأ عملا، والمراد أن الله يعاملهم معاملة من يختبرهم ليعرف حالهم، والله- سبحانه- بعد هذا جاعل ما عليها من هذه الزينة ترابا لا نبات فيه ولا حياة، إذ هو القادر على كل شيء يحيى الأرض بعد موتها، ويميتها بعد حياتها. قصة أهل الكهف [سورة الكهف (18) : الآيات 9 الى 26] أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْناهُمْ هُدىً (13) وَرَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14) هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقاً (16) وَتَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَتَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَإِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَذاتَ الشِّمالِ وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَكَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21) سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِراءً ظاهِراً وَلا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22) وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَقُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 405 المفردات: الْكَهْفِ الغار الواسع في الجبل. الرَّقِيمِ هو اسم كلبهم، وقيل: هو اسم الوادي. فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ المراد أنمناهم نوما ثقيلا بحيث لا يسمعون. أَمَداً أى: غاية. نَبَأَهُمْ خبرهم صاحب الشأن والخطر. شَطَطاً القول الشطط: هو الخارج عن حد المعقول المفرط في الظلم. مِرفَقاً المرفق ما يرفق به وينتفع. تَتَزاوَرُ أصله تتزاور أى: تتمايل مأخوذ من الزور أى: الميل وشهادة الزور فيها ميل عن الحق. تَقْرِضُهُمْ أى: تقطعهم ولا تقربهم ومنها القطيعة. فَجْوَةٍ مِنْهُ أى: متسع من الكهف. بِالْوَصِيدِ بالفناء وهو موضع الباب من الكهف. بِوَرِقِكُمْ الورق الفضة مضروبة للنقد أو غير مضروبة أى: معدة للنقد أو غير معدة. فَلا تُمارِ فِيهِمْ أى لا تجادل أهل الكتاب في شأنهم. المعنى: سأل القوم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن قصة أصحاب الكهف متعجبين ممتحنين، وسألوه عن الروح، وعن ذي القرنين، فقال الله مجيبا عن أصحاب الكهف. أحسبت يا محمد أن أصحاب الكهف والرقيم كانوا آية عجبا من بين آياتنا؟! لا تظن ذلك، فآياتنا كلها عجيبة وغريبة، فإن من يقدر على جعل كل ما على الأرض زينة لهم ينتفعون به ثم يجعله ترابا بين عشية أو ضحاها كأن لم تغن بالأمس قادر على كل شيء كالبعث وغيره فلا تستبعد أن يحفظ بقدرته طائفة من الناس زمانا معلوما، وإن كانت قصتهم خارقة للعادة، فإن آيات الله- سبحانه- دائما كذلك. واذكر وقت أن صار الفتية إلى الكهف وجعله مأوى لهم، فقالوا متجهين إلى الله وحده: ربنا آتنا من عندك رحمة واسعة، وانشر علينا من ظلال فضلك ما تغمرنا، وهيئ لنا من أمرنا الذي فارقنا عليه الكفار ما به تكون المصلحة لنا ونكون راشدين غير ضالين. وهكذا حال المؤمنين الموفقين حينما تشتد عليهم الأمور وتتحزب يكون الله هو الملجأ الوحيد يطلبون منه العون والمدد، ويسألونه الهدى والرشد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 408 وقد شملهم ربك بالعطف فضرب على آذانهم في الكهف سنين معدودة، والمعنى: أنامهم نوما ثقيلا حتى كأنهم وراء حجاب مضروب لا يسمع منه صوت. ثم بعثهم ربك، وأيقظهم من النوم ليظهر معلومه- سبحانه- عن أى الحزبين أحصى للبثهم أمدا وغاية، وقد جعل علمه أى الحزبين أحصى؟ غاية وعلة للبحث إذ سيظهر عجزهم، ويفضون أمرهم، ويحاولون أن يتعرفوا حالهم فيزدادوا يقينا على يقينهم، وهذا لطف بالمؤمنين في زمانهم، وآية بينة للكافرين. وهذه خلاصة للقصة بالإجمال وهاك التفصيل. نحن نقص عليك خبرهم المهم ذا الشأن والخطر، أما حواشى الأخبار وتوافهها فلا يتجه لها القرآن، نقصه قصصا متلبسا بالحق لا زور فيه ولا بهتان ومن أصدق من الله حديثا؟ إنهم فتية آمنوا بربهم إيمانا صادقا خاليا من ضروب الشرك وآثامه، وزادهم هدى، وربط على قلوبهم، وقواها حتى لم يعد فيها مكان للشك والنفاق إذ قاموا مجاهرين قائلين، ربنا رب السموات والأرض وما فيهن، لن نعبد من دونه إلها إننا إن عبدنا غيره، وقلنا به لقد قلنا قولا ذا شطط، متجاوزين حدود العقل والدين: هؤلاء قومنا البعيدون في درجات الجهل والحماقة اتخذوا آلهة متجاوزين بها الله فاطر السموات والأرض من غير علم ولا دليل. هلا يأتون على ألوهيتهم بسلطان بين، وحجة ظاهرة! لا حجة لهم أبدا ولكنه الشرك والتقليد الأعمى. فلا أحد أظلم ممن افترى على الله كذبا وزورا باتخاذ الشركاء والآلهة. وإذ اعتزلتموهم يا أهل الكهف، وفارقتموهم في الاعتقاد، واعتزلتم عبادتهم وما عبدتم إلا الله الواحد القهار فأووا إلى الكهف، لتعتزلوهم جسميا بعد فراقهم روحيا، إن تأووا إليه ينشر لكم ربكم من رحمته في الدارين، ويهيئ لكم ويصلح من أمركم الذي أنتم بصدده من الفرار بالدين مرفقا ترتفقون به، وتنتفعون. هذا حالهم قبل دخولهم في الكهف. أما بعد الدخول فيه فيقول الله: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 409 وترى يا محمد أو كل واحد يصلح للخطاب الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم وليس المراد الإخبار بوقوع الرؤية تحقيقا بل الإخبار بكون الكهف في مكان بحيث لو رأيته ترى الشمس إذا طلعت تتزاور وتنتحى مائلة عن كهفهم جهة اليمين، وإذا غربت تراها عند الغروب تقرضهم وتبتعد عنهم متجهة جهة الشمال، وهم في فجوة ومتسع من الكهف معرض لإصابته من الشمس، لولا أن صرفتها عنهم القدرة، ذلك من آيات الله العجيبة الدالة على كمال العلم والقدرة. ومن يهديه الله إلى الخير فهو المهتدى حقا الموافق إلى الصالح في الدنيا والآخرة، كأمثال الفتية أصحاب الكهف، ومن يضلل ويسلك سبل الشر فلن تجد له وليا مرشدا يهديه إلى الخير وطرق الصلاح في الدنيا والآخرة كأمثال الكفرة المنكرين للبعث.. وهؤلاء الفتية كنت تراهم في الكهف فتحسبهم أيقاظا لم يبل منهم جسد، ولم تظهر لهم رائحة كريهة كأنهم أحياء نائمون في القيلولة، ونقلبهم ذات اليمين وذات الشمال، وكلبهم الذي كان معهم باسط ذراعيه بموضع الباب من الكهف، لو اطلعت عليهم وهم بهذا الوضع لوليت منهم وهربت من منظرهم هروبا ولملئت منهم رعبا وفزعا. وكما أنمناهم وحفظنا أجسادهم من البلى- وكان ذلك آية على قدرتنا- بعثناهم من نومهم ليسأل بعضهم بعضا فترتب عليه ظهور الحكم الجليلة التي من أجلها أنامهم الله هذه المدة، ولهذا جعل التساؤل علة للبعث. قال قائل منهم: كم لبثتم في نومكم؟ قال بعضهم. لبثنا يوما أو بعض يوم، قيل إنهم دخلوا الكهف من الصباح واستيقظوا في آخر النهار ولذا قالوا: يوما فلما رأوا الشمس لم تغب قالوا: أو بعض يوم. وقال بعض منهم لما رأوا حالتهم العامة متغيرة: ربكم أعلم بما مكثتم! ولكن امضوا إلى المهم فابعثوا أحدكم بقطعة من الفضة إلى المدينة ليحضر طعاما لنا، وإذا كان كذلك فلينظر أى أهلها أزكى طعاما وأحسن سعرا فليأتنا بشيء نقتات به، وليتلطف في الطلب حتى لا يغبن، ولا يشعرن بكم أحد من المدينة فإنهم إن اطلعوا عليكم يقتلوكم شر قتلة بالرجم أو يعيدوكم في ملتهم وطريقهم الجائر، ولن تفلحوا إذا دخلتم معهم أبدا. وكما أنمناهم في الغار، وبعثناهم أعثرنا وأطلعنا الناس عليهم ليعلموا أن وعد الله حق، وسمى الإعلام إعثارا لأن من كان غافلا عن الشيء فعثر به نظر إليه وعرفه فكان الإعثار سببا في العلم، وفي الإعثار ما يفيد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 410 وكذلك أطلعنا الناس عليهم ليعلموا أن وعد الله بالبعث حق. فقد كان هناك من ينكر البعث فأراهم الله هذه الآية تثبيتا للمؤمنين، وحجة على الكافرين، وليعلموا أن الساعة لا ريب فيها فإن من شاهد حال أهل الكهف علم صحة ما وعد الله به من البعث. أطلعناهم عليهم وقت أن كانوا يتنازعون أمرهم فيما بينهم بين مثبت للبعث ومؤمن به، وبين منكر له وكافر به. ولما اطلعوا عليهم، وظهر أمرهم وعرف الناس أن في قدرة الله أن يحيى الخلق بعد موتهم أماتهم الله فقال بعضهم: ابنوا عليهم بنيانا يمنع الناس عنهم، ربهم أعلم بشأنهم. وقال الذين غلبوا على أمرهم من المؤمنين لنتخذن عليهم مسجدا للصلاة، والذين غلبوا على أمرهم قيل هم المسلمون، أو هم الملك وأعوانه الله أعلم. وقد اختلف المعاصرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم في عددهم. فسيقولون هم ثلاثة رابعهم كلبهم ويقول جماعة أخرى: هم خمسة سادسهم كلبهم، وهم في هذا يقذفون بالغيب على غير هدى ظنا منهم. لا يقين معه. ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم، قل يا محمد لهم، ربي أعلم بعددهم ما يعلمه إلا قليل وأكثرهم علم أهل الكتاب على ظن وتخمين. وفي الكشاف: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة (سبعة وثامنهم كلبهم) ولم دخلت عليهم دون الجملتين الأوليين؟ والجواب هي الواو التي تدخل لتأكيد اتصال ما بعدها بما قبلها وللدلالة على أن الذين قالوا سبعة وثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات وعلم وطمأنينة لم يرجموا بالظن كما فعل غيرهم. وأصحاب هذا الرأى مؤمنون قالوه مستندين إلى الوحى بدليل عدم سبكه في سلك الرجم بالغيب وتغير النظم بزيادة الواو. إذا قد عرفت جهل أصحاب الرأيين الأوليين فلا تمار فيهم ولا تجادلهم إلا جدالا ظاهرا لا عمق فيه، ولا تستفت في شأنهم أحدا منهم. ولا تقولن لأجل شيء تعزم على فعله إنى فاعله غدا، لا تقولن ذلك في حال من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 411 الأحوال إلا في حال ملابسته بمشيئة الله- تعالى- على الوجه المعتاد على معنى سأفعل ذلك غدا إن شاء الله. روى أن الآية نزلت حين قالت اليهود لقريش سلوه عن الروح، وعن أصحاب الكهف وذي القرنين. فقال: ائتوني غدا أخبركم ولم يستثن فأبطأ عليه الوحى حتى شق عليه وكذبته قريش. واذكر ربك إذا نسيت، اذكره بقلبك ولسانك ذكرا دائما، وتوجه إليه وقل: عسى أن يهديني ربي لأقرب من نبأ أصحاب الكهف. والمعنى: اذكر ربك وقل لعله يؤتينى من البينات والحجج الدالة على صدق نبوتي ما هو أعظم من ذلك وأقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف، وقد فعل ذلك حيث قص عليه قصص الأنبياء. فإذا نسيت شيئا فاذكر ربك عسى أن يهديك لشيء آخر بدل المنسى أو أقرب منه. ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين، وازدادوا تسعا. قل يا محمد: اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا والحق ما أخبرك به لا ما يقولونه إذ له وحده غيب السموات والأرض وهو العالم بكل شيء. أبصر به وأسمع على معنى ما أبصره بخلقه، وما أسمعه لما يدور في صدورهم فأمره في إدراك المسموعات والمبصرات على خلاف ما تعهدون فهو اللطيف الخبير. وما لهم من ولى يتولى أمرهم، ولا يشرك ربك في حكمه وقضائه أحدا. توجيهات إلى النبي صلّى الله عليه وسلم [سورة الكهف (18) : الآيات 27 الى 31] وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَساءَتْ مُرْتَفَقاً (29) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 412 المفردات: مُلْتَحَداً ملتجأ تلجأ إليه. وَلا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ أى: لا تتجاوز عيناك عنهم. فُرُطاً متجاوزا حدا الاعتدال مأخوذ من قولهم فرس فرط إذ تقدم الخيل وتجاوزها. سُرادِقُها فسطاطها، أو ما يمد في صحن الدار. كَالْمُهْلِ وهو المذاب من عناصر الأرض بواسطة النار كالحديد المذاب مثلا. سُنْدُسٍ ما رقّ من الديباج وَإِسْتَبْرَقٍ الإستبرق الغليظ منه. ... كانوا يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلم: ائت بقرآن غير هذا أو بدله فنزل. وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ.. الآية. وكانوا يقولون: نح عن مجلسك هؤلاء الموالي أمثال صهيب، وعمار، وخباب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 413 وياسر وغيرهم حتى نجالسك فنزل: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ الآية ثم ذكر جزاء المؤمن ولو كان فقيرا وجزاء الكافر ولو كان غنيا. المعنى: واتل ما أوحى إليك من كتاب ربك الذي أنزل عليك ولا تسمع لما يهذون به من طلب التغيير والتبديل، إذ لا مبدل لكلمات ربك ولا يقدر أحد على ذلك، وإنما الله وحده القادر على التبديل والنسخ وَإِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ [سورة النحل آية 101] وإنك إن بدلت يا محمد فلن تجد من دون الله ملتجأ تلتجئ إليه. ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشى من الفقراء، واصبر نفسك معهم واحبسها على مجالستهم، ولا تسمع لقول الكفار فقديما قيل لنوح: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ [سورة الشعراء آية 111] فهذا غرور الكفر ووسوسة الشيطان. هؤلاء الموالي الذين يدعون ربهم، ويعبدونه في كل وقت، يريدون وجهه ورضاه هم أحباب الله وأولياؤه، ولا تعد عيناك عنهم فتجاوزهم إلى غيرهم من الأغنياء، وإياك أن تنبو عينك عنهم وتعلو، تريد زينة الحياة الدنيا الظاهرة في لباس الأغنياء والأشراف، ولا تطع أبدا من وجدنا قلبه غافلا عن ذكرنا، واتبع هواه وأسلم نفسه لشيطانه. وكان أمره متجاوزا الحق والعدل حيث ترك صراط الله المستقيم وشرعه القويم. وقل لهؤلاء الذين يطلبون منك البعد عن الفقراء لفقرهم: الحق جاء من ربكم واضحا ظاهرا فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، أما من كفر فإنا أعتدنا وهيأنا له نارا أحاط بهم سرادقها، ولقد شبه الله ما يحيط بالظالمين الكافرين من النار بالسرادق المضروب على الشخص، فهل يفلت من السرادق المضروب؟!! وإن يستغيثوا وهم في نار جهنم يغاثوا بماء لشدة العطش ولكن بماء كالمهل، يغاثون بشراب من الحديد والرصاص المذاب من قوة النار، هذا الشراب يشوى الوجوه بئس الشراب شرابهم، وساءت جهنم مرتفقا، ولا ارتفاق فيها ولكنها المشاكلة، أما من تريدون أن يصرف النبي عنهم وجهه فأولئك المؤمنون الذين يقول الله فيهم وفي أمثالهم: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلن يضيع الله أجر من أحسن عملا، أولئك لهم جنات عدن تجرى من تحتهم الأنهار، وهم يحلون في الجنة بأساور من ذهب وقد كانوا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 414 محرومين منها في الدنيا ويلبسون ثيابا خضرا من الديباج الرقيق والغليظ حالة كونهم متكئين فيها على الأرائك شأن الملوك والعظماء نعم الثواب الذي ذكر لهم هنا وفي غير هذه الآية، وحسنت الجنة مرتفقا لهم وأى مرتفق؟!! مثل للمعتز بالدنيا المغرور بها [سورة الكهف (18) : الآيات 32 الى 44] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَحَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَجَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَكانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَأَعَزُّ نَفَراً (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36) قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَهُوَ يُحاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَلَوْلا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَوَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41) وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَخَيْرٌ عُقْباً (44) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 415 المفردات: جَنَّتَيْنِ بستانين. حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ جعلنا النخل محيطة بهما. وَلَمْ تَظْلِمْ لم تنقص من أكلها. وَفَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً أجرينا وشققنا وسطهما. يُحاوِرُهُ يراجعه في الكلام. نَفَراً المراد خدما وأتباعا، وقيل هم الأولاد لأنهم ينفرون مع أبيهم ساعة القتال. مُنْقَلَباً مرجعا وعاقبة. سَوَّاكَ صيرك وعدلك حتى صرت رجلا. حُسْباناً المراد مقدارا قدره الله عليها. ووقع في حسابه. زَلَقاً أى: أرضا جرداء ملساء لا نبات فيها ولا حيوان ولا بناء تزل فيها الأقدام لملاستها. غَوْراً أى: غائر لا تناله يد. الْوَلايَةُ النصرة، وبكسر الواو: السلطان. وهذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن حيث يعصى الأول مع تقلبه في النعم ويطيع الآخر مع مكابدة الفقر والمشقة، والأول غارق في الدنيا معتز بها مغرور بها والثاني يفهمها على حقيقتها فهي طريق وممر للآخرة، والمثل بهذا الوضع متصل بقوله- تعالى: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ الآية. المعنى: واضرب للفريقين الكافر والمؤمن مثلا: رجلين مقدرين أو حقيقيين، والعبرة بالعظة المفهومة من المثل، هما من بنى إسرائيل أخوان أو صديقان أو شريكان أحدهما كافر مغرور بدنياه والثاني موحد بالله، وقد آل أمرهما إلى ما حكاه القرآن عنهما لعل الناس يعتبرون ويتعظون، وإنا لنرى كثيرا من المسلمين يقولون مثل مقالة الكفار في الدنيا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 416 بلسان الحال لا بلسان المقال فاعتبروا يا أولى الأبصار واضرب لهم رجلين مثلا هذا بيانه: جعلنا لأحدهما وهو الكفار بستانين من الكروم المتنوعة، وجعلنا النخل محيطة بهما، وجعلنا وسطها زروعا حتى يجمعا بين القوت والفاكهة وهما بهذا الوضع لهما الشكل الأنيق، والوضع السليم. كلتا الجنتين آتت أكلها كاملا غير منقوص شيئا، وقد فجر الله وسط كل حديقة نهرا على حدة ليسقيها بلا تعب ومشقة، ويزيدهما بهاء وروعة، وكان لهذا الكافر ثمر ومال من غيرهما إذ كان من الأثرياء الكبار. فقال يوما لصاحبه: وهو يحاوره ويجادله شأن كل غنى مغرور مع مؤمن فقير صالح، وقد روى أنهم أخوان ورثا مالا أما الكافر فاستغله في أرض ودار وزوجة وخدم وحشم وأما المؤمن فأنفق نصيبه في سبيل الله. يا أخى: أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا وأكثر خدما وولدا، ودخل مع صاحبه جنته الواسعة العريضة، الجنة ذات الجناحين الجنة التي ليس له غيرها إذ هي متاعه في الدنيا وليس له في الآخرة من نصيب، دخلها وهو ظالم لنفسه معجب بما أوتى، مفتخر به كافر بالنعمة، معرض بذلك نفسه لسخط الله وهو أفحش أنواع الظلم: وماذا قال؟ قال لطول أمله وشدة حرصه، وتمام عقله، وكثرة غروره بها قال: ما أظن أن تبيد وتفنى هذه الجنة أبدا، وما أظن الساعة قائمة فيما سيأتى، وأقسم لئن رجعت إلى ربي على سبيل الفرض، أو كما يزعم صاحبنا المؤمن لأجدن جنة خيرا من هذه الجنة مرجعا وعافية، وأقسم لقد سمعنا من جهلتنا المنتسبين للإسلام مثل هذا القول «غنى الدنيا غنى الآخرة» فهم لسوء فهمهم يظنون أن اليسار والغنى إنما يعطى في الدنيا لاستحقاقه ذلك إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى لَأُوتَيَنَّ مالًا وَوَلَداً. وما علم هذا المغرور أن الدنيا لا تزن عند الله جناح بعوضة وإلا ما سقى الكافر منها جرعة ماء، وإن الإنسان قد يعطى استدراجا. وماذا قال له أخوه المؤمن؟ قال وهو يحاوره: يا أيها الإنسان: أكفرت بالذي خلق أباك الأول من تراب ثم خلقك أنت من نطفة ثم سواك فعدلك رجلا سويا؟! أبعد هذا تقول: ما أظن الساعة قائمة يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ الآية من سورة الحج. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 417 لكن هو الله ربي وحده لا شريك له، له الحكم وإليه ترجعون. يا أخى هلا إذا دخلت جنتك قلت ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، الأمر ما شاء الله لا غير، روى عن النبي صلّى الله عليه وسلم: من رأى شيئا فأعجبه فقال ما شاء الله لا قوة إلا بالله لم يضره. فبدل أن تقول: ما أظن أن تبيد هذه أبدا، وهذه المقالة لا تصدر إلا من شخص مغرور مأفون يظن أن له قوة وحولا، وأن الأمر بيده لا بيد الله، وأنه الزارع الذي أعطى هذا الزرع عن علم وتجربة، وأن سماده ونظامه هما اللذان أنتجا! ألا بئس ما يفهم الناس في دنياهم!! إن ترن أنا أقل منك مالا وولدا في هذه الدنيا الفانية فعسى ربي أن يؤتينى خيرا من جنتك وأبقى يوم القيامة. وأما جنتك فيرسل عليها عذابا مقدرا في حسابه فتصبح أرضا قاحلة ملساء لا شيء فيها أو يصبح ماؤها غائرا لا تدركه الأيدى بأى شكل ولا تستطيع له طلبا فضلا عن إدراكه، وقد كان فأحيط بثمره وهلك كل ماله فأصبح يقلب كفيه ندما وأسفا على ما ضاع منه، يعض بنان الندم على ما فرط منه. والحال أنها خاوية على عروشها أى: سقطت الكروم على عروشها الممهدة لها. ويقول: نادما ليتني لم أشرك بربي أحدا، ولم تكن له فئة تنصره من دون الله إذ هو القادر وحده على دفع العذاب، وما كان هو في حد ذاته منتصرا بنفسه. هناك: وفي هذه الحال التي يؤمن فيها البر والعاجز النصرة من الله وحده، والسلطان لله وحده، هو الحق تبارك وتعالى، خير ثوابا وخير عقبى للعباد المتقين. مثل الحياة الدنيا [سورة الكهف (18) : الآيات 45 الى 46] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً (46) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 418 المفردات: هَشِيماً مهشوما مكسورا. تَذْرُوهُ الرِّياحُ تفرقه وتطيره. وهذا مثل آخر للدنيا وبيان لصفتها العجيبة التي هي كالمثل حتى لا يغتر بها المغترون. المعنى: واذكر لهم صفة الدنيا التي هي كالمثل في الغرابة وهي كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض، فنبت الزرع واخضر واختلط بعضه من كثرته وتكاثفه فأصبح ذلك النبات الغض الوارف صاحب الظل الدائم، والبهجة والمنظر أصبح هشيما تذروه الرياح حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ [سورة يونس آية 24] . ولا غرابة في هذا فالله على كل شيء قدير. وأما ما كانوا يفتخرون به من مال وبنين فهذا عرض زائل، ومتاع حائل، وزينة الدنيا الفانية، ولعل تقديم المال على البنين لأنه أدخل في باب الزينة من الأولاد. وليس لأحد أن يفتخر بها حيث كانت لهذا فقط بل الباقيات الصالحات من الأعمال الخيرية خير وأبقى عند ربك إذ ثوابها عائد على صاحبها، وخير أملا حيث ينال بها صاحبها في الآخرة كل ما كان يؤمله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 419 من مشاهد يوم القيامة [سورة الكهف (18) : الآيات 47 الى 49] وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَحَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً (47) وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49) المفردات: وَحَشَرْناهُمْ الحشر: الجمع لأجل الحساب، والبعث: إحياؤهم من القبور للحشر. فًّا مجتمعين غير متفرقين. المعنى: واذكر يوم نسير الجبال وهي كالعهن المنفوش بعد أن كانت ساكنة في نظر العين، وهذه إشارة إلى تبدل الحال، وتغير الوضع في الدنيا، وترى الأرض بارزة ليس فيها ما يسترها من جبال وأنهار وشجر وبنيان، وقد ألقت ما فيها من كنوز ودفائن، وأخرجت أثقالها، وبرز ما في جوفها، وحشرناهم جميعا، وجمعناهم إلى الموقف من كل مكان. فلم نغادر من الخلائق أحدا، وعرضوا على ربك صفا واحدا بلا تفرق واختلاف، وقد شبهوا بالجند حيث يعرضهم القائد، وهم وقوف منتظرون الأمر قلنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 420 لهم: لقد جئتمونا فرادى مجيئا كمجيئكم وقت أن خلقناكم أول مرة حفاة عراة وبلا ولى ولا نصير، ولا شفيع معين وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [سورة الأنعام آية 94] بل، إضراب انتقال من حديث إلى حديث، زعمتم أن لن نجعل لكم موعدا نجازيكم بأعمالكم فيه، وهذا خطاب لمنكري البعث للتقريع والتوبيخ والتأنيب. ووضع الكتاب، والمراد به: الصحائف التي تكتب فيها أعمال الإنسان من خير وشر، فترى المجرمين الذين ارتكبوا السيئات خائفين وجلين مما فيه ويقولون: يا ويلتنا داعين أنفسهم بالويل والهلاك: ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها؟!! ووجدوا ما عملوا حاضرا مكتوبا فيه، ولا يظلم ربك أحدا، إذ مبدأ الثواب والعقاب مما يقتضيه العدل الإلهى، وعدم الظلم حتى يعطى المحسن جزاءه كاملا، ويأخذ المسيء جزاءه غير ناقص. توجيهات إلهيّة [سورة الكهف (18) : الآيات 50 الى 53] وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51) وَيَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَلَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 421 المفردات: فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فخرج عما أمره به. عَضُداً أى: عونا لي. مَوْبِقاً أى: حاجزا فهو اسم مكان، وقيل: موبقا أى: مهلكا لهم. المعنى: واذكر وقت أن قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم والمراد ذكر ما حصل في الوقت لا نفس الوقت. وقصة السجود لآدم قد مرت بنا مرارا، وإنما كان تكريرها ليقف الإنسان على ما حصل لأبيه آدم، وموقف إبليس منه، وكيف كان سبب التعب له وخروجه من الجنة ولا يزال هو مصدر الفسوق والعصيان لأنه أقسم ليغوينهم أجمعين، وكان له ذلك إلا العباد المخلصون فليس له سلطان عليهم. أمر الله الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا طائعين لأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ولا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، أما إبليس اللعين فكان من الجن فلم يعمل مثل ما عملوا، وقال كيف أسجد له؟ وأنا خير منه، وترتب على كونه من الجن أنه فسق عن أمر ربه وخرج عن حدود ما أمر به. وهذه الآية تثبت أن إبليس من الجن، وفي آية أخرى الإشارة إلى أنه من الملائكة، وليس فيهم تعارض إذ قد يطلق على الملائكة أنهم جن من حيث استتارهم والله- سبحانه وتعالى- يعجب ممن يطيع إبليس وجنده في الكفر والمعاصي بعد أن علم موقفه من أبينا آدم، وما هو عازم عليه بالنسبة لنا، أفتتخذونه وذريته وأعوانه أولياء تقتدون بهم، وتسمعون لهم يا عجبا لكم ثم عجبا، أفتتخذون أولياء من دون الله، وهو لكم عدو من قديم، بئس للظالمين الذين يضعون الأمور في غير موضعها الذين يستبدلون طاعة الشيطان بدل طاعة الرحمن بئس البدل بدلا لهم. ما أشهدت هؤلاء الشركاء الذين وسوس لكم إبليس في شأنهم حتى اتخذتموهم شركاء، ما أشهدتهم خلق السموات والأرض، ولا أشهدتهم خلق أنفسهم، ولو كانوا شركاء لشهدوا ذلك، إذن فليسوا لي شركاء أبدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 422 وما كنت متخذ الضالين من الشركاء والشياطين عضدا لي وعونا في خلق شيء. واذكروا يوم يقول المولى لهم تأنيبا: نادوا شركائى الذين زعمتم أنهم شركاء، وقد فعل المشركون ما أمروا به، ودعوهم فلم يستجيبوا لهم في شيء فضلا عن أنهم لم ينفعوهم في شيء، وجعلنا بينهم مكانا سحيقا بعيد الغور، وهذا يصح إذا أردنا بالشركاء عيسى وعزير والملائكة، وإذا أريد بالشركاء الأصنام والأوثان فقد جعلنا بينهم حاجزا وصلتهم بهم هلاكا لهم وأى هلاك، ورأى المجرمون النار واقعة بين أيديهم فأيقنوا أنهم مخالطوها بالوقوع فيها، ولم يجدوا عنها معدلا، ولا مكانا يتحولون فيها، لأن النار قد أحاطت بهم من كل جانب.. إنذار وتخويف [سورة الكهف (18) : الآيات 54 الى 59] وَلَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً (54) وَما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55) وَما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آياتِي وَما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَنَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58) وَتِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 423 المفردات: قُبُلًا جمع قبيل والمراد أنواعا أو عيانا. لِيُدْحِضُوا ليزيلوه ويبطلوه مأخوذ من إدحاض القدم أى: عند إزالتها عن مكانها. مَوْئِلًا أى: منجى وملجأ من قولهم وأل إذا نجا ووأل إليه إذا لجأ إليه. المعنى: هذا القرآن هدى للناس، وبينات من الهدى والفرقان. صرف الله معانيه الجليلة وأغراضه السامية التي تدعو إلى الإيمان بالله وبرسوله، والتي تشبه في الغرابة والحسن والجمال والروعة المثل الذي يهز القلوب، ويحرك النفوس صرفه وكرره للناس ولمصلحتهم، ولكنهم لم يتقبلوه بالقبول الحسن، وكان الإنسان أكثر الأشياء جدلا وخصومة. ومماراة في الحق، يعنى أن جدل الإنسان أكثر من جدل كل مجادل فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ [سورة النحل آية 4] . وما منع الناس، أى: أهل مكة من أن يؤمنوا وقت أن جاءهم الهدى والنور من القرآن، وما منعهم من أن يستغفروا ربهم من أجل الكفر والمعاصي، ما منعهم عن الإيمان والاستغفار مانع أبدا في الواقع حيث جاءهم نور القرآن وتفصيله الآيات البينات. ولكن طلبهم إتيان سنة الأولين لهم وهي عذاب الاستئصال بإلحاحهم في طلب آيات أخرى، أو يأتيهم عذاب يوم القيامة أنواعا مختلفة إذ ماتوا، أو يأتيهم العذاب معاينة ومقابلة هو السبب في عدم إيمانهم، وليس في القرآن ما يدعو إلى الكفر، وإن كان الإنسان مجبولا على حب الجدل المفرط، وقيل المعنى: إنهم لا يؤمنون ولا يستغفرون إلا عند نزول عذاب الاستئصال بهم أو عذاب الآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 424 وما نرسل المرسلين إلى الأمم إلا حالة كونهم مبشرين المؤمنين بالثواب، ومنذرين الكفار والعصاة بالعقاب، هذه هي مهمة الرسل مع أممهم، ويجادل الكفار بالباطل حيث يقترحون الآيات بعد ظهور المعجزات، ويقولون للرسل: ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً [سورة المؤمنون آية 24] . واتخذوا آيات ربهم، وما أنذروا به من القوارع الناعية عليهم العقاب والعذاب، اتخذوها هزؤا. ولا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها عنادا واستكبارا، ولم يتدبرها، ونسى ما قدمت يداه مما عمل في الكفر والمعاصي المجادلة بالباطل والاستهزاء بالحق، وعدم التفكر في العواقب، ومن كان كذلك فهو أظلم من كل ظالم، وقد كان حسدهم وتكبرهم، وتمسكهم بالتقاليد الباطلة وحبهم للرياسة الكاذبة، والعرض الفاني بمثابة الأكنة والحواجز على قلوبهم: وإسنادهم إلى الله قوله: جَعَلْنا للدلالة على ثبوتها ودوامها عندهم. إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفهموه فهما دقيقا عميقا، وجعلنا في آذانهم وقرا وصمما عن سماع الحق وتدبره، وهؤلاء لن يكون منهم اهتداء أبدا، وإن تدعهم إلى الهدى بكافة الطرق فلن يهتدوا إذا أبدا. وربك الغفور ذو الرحمة لو يؤاخذ الناس بما كسبوا من المعاصي التي منها مجادلتهم بالباطل وإعراضهم عن الآيات، وعدم مبالاتهم بعمل السيئات. لو يؤاخذهم بما كسبوا لعجل لهم العذاب في الدنيا ولكن الله أراد غير ذلك. بل لهم موعد حدده الله في يوم بدر مثلا لن يحيدوا عنه ولن يجدوا من دونه ملجأ يلجئون إليه. وهذه هي القرى التي كانت فيها عاد، وثمود، ومدين، وقوم لوط، أهلكناهم لما ظلموا أنفسهم بالكفر والمعاصي، وجعلنا لهلاكهم موعدا لا محيد عنه فاعتبروا يا أولى الألباب ولا تغتروا يا أهل مكة بتأخير العذاب.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 425 قصة موسى مع الخضر [سورة الكهف (18) : الآيات 60 الى 78] وَإِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62) قالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَعَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَخَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76) فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 426 المفردات: لِفَتاهُ هو يوشع بن نون، وموسى هو نبي بنى إسرائيل بن عمران- عليه السلام. لا أَبْرَحُ لا أزال سائرا. مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ والبحران البحر الأسود والبحر الأبيض، وقيل: هما بحر الأردن وبحر القلزم. وقيل غير ذلك والله أعلم. حُقُباً جمع حقبة وهي زمان من الدهر غير محدود. سَرَباً السرب كالنفق الذي يتخذه الضب ونحوه في الأرض وهو كالكوة المحفورة في الأرض. قَصَصاً أى: قاصين الأثر متتبعين السير. رُشْداً وقرئ رشدا وهو الوقوف على الخبر وإصابة الصواب. خُبْراً علما بالشيء، والخبير العالم بالخفايا. أَمْراً عظيما يقال أمر أمر ابن فلان إذ عظم واشتد. تُرْهِقْنِي لا تكلفني عسرا. نُكْراً أى: ينكره الشرع والعقل. يُضَيِّفُوهُما يعطوهما حق الضيافة. يَنْقَضَّ أى: يسقط بسرعة. فَأَقامَهُ فسواه وعدله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 427 لما سأل اليهود النبي صلّى الله عليه وسلّم عن قصة أصحاب الكهف، وقالوا لقريش: إن أخبركم بها فهو نبي مرسل وإلا فلا. ذكر صلّى الله عليه وسلّم قصة موسى والخضر تنبيها على أن النبي لا يلزمه أن يكون عالما بجميع القصص والأخبار، وقد يؤخر الفاضل عن المفضول وهذه القصة رويت في أحاديث كثيرة، وأتمها وأكملها ما روى عن ابن عباس عن طريق سعيد بن جبير، وهي ثابتة في الصحيحين. قال ابن عباس ما معناه: حدثنا أبى بن كعب أنه سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: إن موسى قام خطيبا في بنى إسرائيل فسئل: أى الناس أعلم؟ فقال أنا فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه فأوحى الله إليه، إن لي عبدا بمجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى يا رب فكيف لي به قال: تأخذ معك حوتا فتجعله في مكتل فحيثما فقدت الحوت فهو هناك، فأخذ حوتا فجعله في مكتل. ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع ابن نون حتى أتيا صخرة، ووضعا رءوسهما فناما، واضطرب الحوت وسقط في البحر فاتخذ سبيله في البحر سربا، فصار المار عليه مثل الطلق وكأنه دخل في كوة الحائط. فلما استيقظ نسى صاحبه أن يخبره بالحوت فانطلقا بقية يومهما وليلتهما حتى إذا كانا من الغد، قال موسى لفتاه آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا وتعبا فقال له فتاه: أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة بالأمس فإنى نسيت الحوت، وما أنسانيه إلا الشيطان أن أذكره، واتخذ طريقه في البحر اتخاذا أثار عجب الناس. نعم كان للحوت في البحر سرب، ولموسى وفتاه عجب ومراد فتى موسى بقوله (أرأيت؟) تعجب موسى- عليه السلام- مما اعتراه هناك من النسيان. فقال موسى: ذلك ما كنا نبغى ونطلب، وهذا طلبنا، فارتدا على آثارهما قاصين الأثر متتبعين سيرهما حتى انتهيا إلى الصخرة فإذا رجل مسجى بثوبه فسلم عليه موسى. فقال الخضر: وأنى بأرضك السلام؟ قال موسى: أنا موسى. قال: موسى نبي إسرائيل؟ قال: نعم. قال: أتيتك لتعلمني مما علمت رشدا. قال: إنك لن تستطيع معى صبرا إذ كيف تصبر على شيء يخالف ظاهره شريعتك. قال موسى: ستجدني إن شاء الله صابرا غير عاص لك أمرا. فقال له الخضر: فإن اتبعتنى فلا تسألنى عن شيء وعن سره حتى أحدث لك منه كرا فانطلقا يمشيان على ساحل البحر فمرت بهما سفينة فكلموهم أن يحملوهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 428 فحملوهم فلما ركبا في السفينة فوجئوا بقلع لوح من السفينة فقال له موسى: ما هذا قوم حملونا بغير أجر تعمد إلى سفينتهم فتخرقها لتغرق أهلها لقد جئت شيئا عظيما في الجرم. قال الخضر: ألم أقل إنك لن تستطيع صبرا على. قال موسى: لا تؤاخذني بنسياني، ولا تكلفني أمرا عسيرا على. ثم خرجا من السفينة فبينما هما يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاما يلعب مع الغلمان فقتله. فقال موسى: أتقتل نفسا زاكية طيبة لم تأثم بغير نفس، أى: بغير قصاص لقد جئت شيئا منكرا. قال الخضر: ألم أقل لك إنك لن تستطيع صبرا على عملي وزيادة (لك) لزيادة التأنيب على عدم الصبر. قال موسى: إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني فقد أعذرتنى حيث خالفتك ثلاث مرات وهذا كلام النادم ندما شديدا. فانطلقا حتى إذ أتيا أهل قرية وطلبوا منهم طعاما بأسلوب الضيافة فأبوا أن يعطوهما شيئا. فوجدوا فيها جدارا، أثر السقوط فيه ظاهرة حتى أشبه إرادة السقوط بسرعة هذا الجدار قد أقامه الخضر وعدله قال موسى منكرا: لو شئت لاتخذت عليه أجرا يكفى لطعامنا. قال الخضر: هذا الإنكار هو فراق اتصالنا ونهاية اجتماعنا وسأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا، وأخبرك بالواقع الذي دفعنى إلى العمل وإن خالفت الظاهر الذي تعرفه يا موسى.. ومن هذه القصة نفهم ما يجب أن يكون عليه المتعلم بالنسبة إلى أستاذه وكيف يسافر ويتأدب معه إلى آخر ما فيها . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 429 جواز ارتكاب أخف الضررين [سورة الكهف (18) : الآيات 79 الى 82] أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَكانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَأَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً (81) وَأَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَيَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82) المفردات: لِمَساكِينَ المسكين: من يملك شيئا لا يكفيه، والفقير أسوأ حالا منه وَراءَهُمْ مَلِكٌ أمامهم ملك والمراد بورائهم: أنه غائب عنهم وإن كان أمامهم، ويصح أن يكون المراد خلفهم على الأصل يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَكُفْراً يكلفهما بسبب حبهما له تجاوزا عن حدود الدين، وكفرا بالله زَكاةً طهارة رُحْماً رحمة وحنانا يَبْلُغا أَشُدَّهُما أن يصلا إلى كمال عقلهما ورأيهما وتمام رجولتهما.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 431 وهذا تفسير للمسائل الثلاث التي حصلت من الخضر بحضور موسى، عليهما السلام، ولم يستطع صبرا عليهما لأنها تخالف شريعته في الظاهر. ومن هنا نعرف أن الشرائع كلها مبنية على الظواهر العامة، والله وحده هو الذي يتولى السرائر، وهذا هو الرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «أمرت أن أحكم بالظّاهر» وفي حديث آخر يقوله لمن تعجل في الحكم وقتل من شهد الشهادتين: «وهلّا شققت عن قلبه» !! فموسى نبي صاحب شريعة يحكم بالظاهر على أن إفساد السفينة، وقتل الغلام تصرف في حق الغير على جهة الإفساد من غير سبب ظاهر، وإقامة الجدار فيه تحمل تعب ومشقة من غير سبب ظاهر ولهذا اعترض على صاحبه الخضر، وكرر الاعتراض. أما الخضر فعالم علمه الله من لدنه علما ببواطن الأمور، وأوقفه على بعض الأسرار الخفية التي تبيح مخالفة الظاهر، ولذا كانت مرتبة الخضر العلمية فوق مرتبة موسى في هذه المسائل، والعلم ببواطن الأمور مرده إلى قوة النفس وصفائها وإشراقها والوحى هو الأستاذ الأول في ذلك، ويظهر- والله أعلم- أن الخضر نبي. وقد جرى الخضر على أن المسائل الثلاث فيها تعارض بين ضررين: ضرر بسيط، وضرر جسيم، ففعل الأول دفعا للثاني، والذي علمه ذلك هو رب العالمين العليم الخبير وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وليس لنا الآن أن ندعى العلم ببواطن الأمور التي تخالف الشرع، فتلك مرتبة مردها إلى قوة النفس ونزول الوحى!! ولسنا من أهلها. المعنى: أما السفينة التي خرقتها. وأنكرت علىّ ذلك يا أخى. فقد كانت لمساكين محتاجين يعملون في البحر للتجارة وصيد الأسماك وهي مرتزقهم في الحياة، وكان لهم ملك جبار ظالم نهم يأخذ لنفسه كل سفينة صالحة، ويغتصبها غصبا من أهلها بدون الرجوع إلى حق أو قانون. فأردت أن أعيبها عيبا بسيطا حتى لا يستولى عليها الملك الظالم، وتبقى للمساكين فأنا لم أعمل سوءا، وإنما ارتكبت أخف الضررين وأحسن الأمرين بالنسبة لهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 432 وأما الغلام الذي قتلته، واعترضت علىّ بأنى قتلت نفسا زكية طيبة بغير ذنب ولا جريرة فأنت معذور في هذا، ولكن اعلم أنى قتلته لأن الله أطلعنى على مستقبله، وأنه إذ بلغ فسيقع في المنكرات، ويؤذى الأفراد والجماعات وسيتعصب له أبواه وهما مؤمنان، ويدفعان شر الناس عنه، ويكذبانهم، وهذا يسبب لهما الفسوق والعصيان ويجرهما إلى الكفر والطغيان، وهما المؤمنان الصالحان، ولكن حب الولد غريزة. فخشينا أن يكلفهما عسرا، ويدفعهما إلى الطغيان والكفر فقتلته رجاء أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة وطهارة، وأقرب رحمة وعطفا بأبويه. فأنا لم أعمل سوءا، وإنما ارتكبت أخف الضررين فقتله ضرر وبقاؤه أضر، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. وأما الجدار الذي أقمته، وتعبت فيه، بلا سبب ظاهر فها هي ذي قصته: إنه لغلامين يتيمين في المدينة، وتحته كنز لهما، وكان أبوهما صالحا، وصلاح الآباء ينفع الأبناء إلى حد محدود، فأراد ربك الكريم الذي تعهدك وأنت رضيع وقد ألقتك أمك في البحر، أراد ربك أن يحفظ لهما الكنز حتى يكبرا، ويتقلدا أمرهما فأمرنى بإقامة الجدار إذ لو سقط لضاع الكنز، فكان ذلك رحمة من الله وعطفا، وهو الرحيم الودود. وما فعلت ذلك كله عن أمرى واجتهادي، ولكنه الوحى من الله والتوفيق منه إلى ذلك، وذلك تأويل وتفسير ما لم تستطع عليه صبرا. قصة ذي القرنين [سورة الكهف (18) : الآيات 83 الى 98] وَيَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَقَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92) حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97) قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 433 المفردات: ذِكْراً ما به تتذكرون وتتعظون مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً السبب في الأصل الحبل تم استعمل في كل ما يتوصل به إلى المقصود عَيْنٍ حَمِئَةٍ عين ذات طين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 434 أسود نُكْراً أى: منكرا شديدا الْحُسْنى أى: الجنة سِتْراً أى: حاجزا يسترهم سَدًّا هو ما يسد به خَرْجاً أى خراجا والخراج يشمل الضريبة وغيرها بِقُوَّةٍ بعدد قوى من الرجال الصناع رَدْماً الردم كالسد إلا أنه أكبر منه وأمتن ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ما جعلني فيه مكينا من كثرة المال واليسار زُبَرَ الْحَدِيدِ أى: قطع الحديد بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ هما جانبا الجبل قِطْراً أى: نحاسا مذابا أَنْ يَظْهَرُوهُ يعلوه ويصعدوا عليه نَقْباً أى: خرقا دَكَّاءَ مستويا بالأرض. هذا هو السؤال الثالث الذي سأله اليهود للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو بمكة بواسطة بعض المشركين، وذو القرنين الذي سألوا عنه هل هو الإسكندر المقدونى الذي ظهر قبيل الميلاد؟ بهذا قال بعض العلماء محتجا بأن هذا هو الذي بلغ ملكه أقصى المغرب وأقصى المشرق وأقصى الشمال. وقيل: ليس هو بل غيره من اليمن، ويظهر- والله أعلم- أنه ليس هذا ولا ذاك وإنما هو عبد صالح أعطاه الله ملكا واسعا عريضا وأعطاه الحكمة والهيبة والعلم النافع ونحن لا نعرف من هؤلاء؟ ولا في أى وقت ظهر، وسياق القصة ومخاطبة الله له في أوله إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً وقوله أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً، ويدل على أنه لم يكن الإسكندر المقدونى فإنه لا يمكن أن يصدر منه ما نسبه القرآن إليه مما يدل على التوحيد والإيمان بل كان عبدا صالحا كما قلنا وهل هو نبي أو خوطب على لسان نبي، الله أعلم، وعدم ثبوت ذلك تاريخيا ليس يضيرنا في شيء فالتاريخ إلى الآن لا يزال يثبت أشياء كانت مجهولة له والحفريات التي يقوم بها علماء الآثار شاهد صدق على ما قلناه، على أن الذي ينم به القرآن من قصته أنه سيتلو علينا منه ذكرا لا خبرا تاريخيا!! المعنى: ويسألونك عن ذي القرنين، ولم يكن يعرف العرب من أخباره شيئا أبدا ولكن الله- سبحانه- أمر نبيه بقوله: قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً وعبرا وموعظة إنا مكنا له في الأرض، وجعلنا له قدرة ومكنة على التصرف فيها، وآتيناه من أسباب كل شيء أراده في ملكه سببا وطريقا موصلا إليه فأتبع سببا يوصله إليه حتى بلغه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 435 وقد أراد بلاد المغرب فأتبع سببا يوصله إليها حتى بلغها، وكذلك بلاد المشرق، وبلاد الشمال التي فيها السد. حتى إذا بلغ مغرب الشمس أى: نهاية الأرض من جهة الغرب وجد الشمس تغرب في عين حمئة ذات ماء وطين أسود، ولعل ذا القرنين لما بلغ ساحل البحر من جهة المغرب وجد الشمس كذلك في نظره. وإنى لأذكر لك رأى الإمام الرازي في كتابه الفخر «إنه ثبت بالدليل أن الأرض كرة وأن السماء محيطة بها، ولا شك أن الشمس في الفلك، وأيضا قال: ووجد عندها قوما، ومعلوم أن جلوس قوم في قرب الشمس غير ممكن، وأيضا الشمس أكبر من الأرض بمرات كثيرة فكيف يعقل دخولها في عين من عيون الأرض؟ إذا ثبت هذا فنقول: تأويل قوله- تعالى-: فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ من وجوه، الأول: لما بلغ موضعها في المغرب، ولم يبق بعده شيء من العمارات وجد الشمس كأنها تغرب في عين مظلمة وإن لم تكن كذلك في الحقيقة كما أن راكب البحريرى الشمس كأنها تغيب في البحر إذا لم ير الشط وهي في الحقيقة تغيب وراء البحر. هذا هو التأويل الذي ذكره أبو على الجبائي في تفسيره انتهى كلام الفخر ص 511 ج 5 ثم ذكر تأويلات أخرى غير معقولة وغير مقبولة تمسك القلم عنها وأظن الرأى الذي ذكرناه عن الفخر يتفق مع نظريات العلم الحديث في كثير. ووجد عندها قوما هاله كفرهم، وكبر عليه بغيهم وظلمهم قد عاثوا في الأرض الفساد، وسفكوا الدماء، وأطاعوا أنفسهم وشياطينهم فاستخار الله في أمرهم فخيره ربه بين أمرين قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً إما أن تختار القتل والإبادة لهم جزاء كفرهم وطغيانهم، وإما أن تمهلهم وتدعوهم بالحسنى فاختار ذو القرنين الإمهال والدعوة وقال: أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى والمعنى: أنه أقام فيهم مدة ضرب فيها على يد الظالم، ونصر المظلوم، واقام العدل، ودعا إلى الله. وبدا له أن يتجه إلى المشرق فسار غازيا مجاهدا منصورا وأتبع لذلك سببا حتى بلغ مطلع الشمس، وأقصى العمران من جهة المشرق، وهناك وجد أقواما تطلع الشمس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 436 عليهم، وليس لهم ساتر يسترهم منها جبال أو بيوت أو شجر وهذا يتصور في البلاد الصحراوية. ولعلهم كانوا على نصيب كبير من الجهل والفوضى. أمر ذي القرنين كذلك كما وصفناه لك، وهو تعظيم له ولشأنه، وقد أحطنا بما لديه من الجند وأسباب الظفر والملك خبرا وهذا يفيد كثرة ما لديه. ثم بدا له أن يتجه إلى الشمال فأتبع سببا لذلك حتى وصل إلى بلاد بين جبلين يقال إنهما بين أرمينيا وأذربيجان، وقيل غير ذلك.. ويسكن تلك البلاد أقواما لا تكاد تعرف لغتهم إلا بصعوبة، وقد جاوروا يأجوج ومأجوج قبائل من سكان سهول سيبريا الشمالية وهم قوم مفسدون في الأرض على جانب من الفوضى والبدائية. أما أصحاب السد فحينما رأوا ذا القرنين، وما هو عليه من جاه وسلطان، وما معه من جند وعتاد قالوا له: يا ذا القرنين، إن يأجوج ومأجوج قوم مفسدون في الأرض ويسعون فيها بالفساد، قوم كالوحوش أو أشد؟ فهل نجعل لك جعلا على أن تجعل بيننا وبينهم سدّا حتى لا يصلوا إلينا بحال. ولكن ذا القرنين رجل مطبوع على حب الخير ومفطور على الصالح من الأعمال ومع هذا قد مكنه الله في الأرض، وأعطاه الكثير من المال والثروة فقد أجابهم إلى سؤالهم، ورد عطاءهم قائلا: ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ثم طلب إليهم أن يعينوه بالرجال والعمال. فحشدوا له الحديد والنحاس والخشب والوقود حتى وضعوه مكان السد ثم أوقدوا النار فيها وأفرغ على ذلك كله ذائب النحاس مرة بعد مرة حتى استوى بين الجبلين سد منيع. فما استطاع يأجوج ومأجوج وقبيلهما أن يعلوه ويظهروا عليه لارتفاعه وملاسته وما استطاعوا له نقبا لقوته وسمكه، وأراح الله منهم شعوبا كانت تتألم منهم كثيرا. أما ذو القرنين فما إن رأى السد منيعا حصينا حتى هتف قائلا هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا. ويمكننا أن نقول إن أقصى المشرق وأقصى المغرب وأقصى الشمال هذا بالنسبة للمعمورة في ذلك الوقت السحيق لا بالنسبة للمعروف في ذلك الوقت، وليس لنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 437 أن نقول أين هذا السد الآن وأين مكانه؟ فتلك أزمان بعيدة موغلة في البعد وقد قال الله فإذا جاء وعد ربي جعله أرضا مستوية فعدم وجوده دليل على أن الوعد جاء، ولم يعد للسد وجود، والله أعلم بكتابه. عاقبة الكفر يوم القيامة [سورة الكهف (18) : الآيات 99 الى 106] وَتَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَعَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَلِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آياتِي وَرُسُلِي هُزُواً (106) المفردات: يَمُوجُ فِي بَعْضٍ ماج الناس إذا دخل بعضهم في بعض حيارى كموج البحر والمراد أنهم يضطربون ويختلطون فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي غطاء الشيء ما يستره من جميع جوانبه، والمراد بذكر الله آياته الكونية والقرآنية وذكرها تدبرها وتفهم معانيها نُزُلًا جعلنا جهنم لهم مهيأة كالنزل الذي يعد ويهيأ للضيف فَحَبِطَتْ أصل الحبوط انتفاخ بطن الدابة عند تغذيتها بنوع سام في الكلأ ثم هلاكها وما أشبه العمل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 438 الضار الذي ينفخ صاحبه ثم يهلك به بالحبوط وَزْناً المراد لا نعبأ بهم، ولا يكون لهم عندنا قدرة. وهذا رجوع إلى الأساس الأول في السورة وهو إثبات البعث. المعنى: يقول الحق- تبارك وتعالى-: وتركنا عبادنا يوم يأتيهم وعدنا الذي وعدناهم بأنا ندك الجبال دكا، وننسفها عن الأرض نسفا، فنذرها قاعا صفصفا تركناهم يومئذ يموج بعضهم في بعض كموج البحر مضطربين مختلطين، وذلك في أول أيام القيامة، ونفخ في الصور النفخة الأولى فصعق من في السموات والأرض أى: مات وهلك حتى الملك الذي نفخ فيه ثم نفخ فيه أخرى- وهي المراد هنا- فإذا هم قيام ينظرون ماذا يحل بهم بدليل قوله- تعالى- فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً فإن الفاء تشعر بذلك والمعنى: جمعنا الخلائق بعد تلاشى أبدانهم ومصيرها ترابا جمعا تاما على أكمل صفة وأبدع هيئة. وعرضنا جهنم يومئذ على الكافرين عرضا، لا يكون ذلك إلا بإبرازها وإظهارها حتى يشاهدوها، وما فيها، وفي هذا تنكيل بهم، وإيلام لهم، وأى إيلام؟ هم الكافرون الذين كانت أعينهم القلبية في غطاء وساتر عن آياتي التي يشاهدها من له عقل رشيد، وقلب سليم فيذكر الله بالتوحيد والتمجيد، وآيات الله تشمل آياته الكونية والقرآنية. وكانوا لا يستطيعون سمعا لكلام الله، وكلام رسوله وصدق الله، فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ. وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ. أكفروا فحسبوا أن يتخذوا عبادي كالملائكة وبعض الخلق من دوني أولياء؟ فظنوا أنهم ينتفعون بما عبدوه مع إعراضهم عن تدبير آيات الله، وتعاميهم عن قبول الحق؟! أكافيهم أن يتخذوا عبادي من دوني أولياء؟! لا يكفيهم هذا ولن ينفعهم كما ظنوا، ولا غرابة في ذلك لأن الله أعد جهنم للكافرين وهيأها لهم كما يهيأ المنزل للضيف، وفي هذا استهزاء بهم وأى استهزاء؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 439 قل لهم يا محمد: هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وخاب فألهم فيها، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، الذين يعبدون الله على غير الحق فيدخلون في الدين ما ليس فيه، وهم يحسبون أنهم على الحق وغيرهم على الباطل، وهؤلاء هم التاركون لكتاب الله وسنة رسوله المفارقون للجماعة. أولئك الذين كفروا بآيات ربهم التكوينية والتنزيلية وكفروا بلقائه فحبطت أعمالهم، وبطلت وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً. [الفرقان 23] . وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تَصْلى ناراً حامِيَةً [الغاشية 2- 4] فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا، وليس لهم قدر، ولا نعبأ بهم، وذلك جزاؤهم جهنم بسبب كفرهم واتخاذهم آيات الله ورسله هزوا فلم يؤمنوا بها ... وهكذا يكون مآل كل خارج عن حدود الدين.. عاقبة الإيمان والعمل الصالح [سورة الكهف (18) : الآيات 107 الى 108] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108) المفردات: الْفِرْدَوْسِ أعلى مكان في الجنة وأوسعه وأفضله، وقال المبرد: الفردوس- فيما سمعت من العرب- الشجر الملتف، والأغلب عليه أن يكون من العنب حِوَلًا أى: تحولا. وهذا هو الإيمان المصحوب بالعمل الصالح، وعاقبته بعد بيان الكفر والفسوق ونهايته لعل الناس يتعظون. المعنى: إن الذين آمنوا إيمانا عميقا بعد فهمهم الدين فهما روحيا خالصا وعملوا الصالحات الباقيات: هؤلاء كانت لهم جنات الفردوس التي هي أعلى مكان في الجنة، وأرفع مرتبة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 440 فيها قد أعدت لهم إعدادا كاملا وهيئت لهم كما يهيأ المنزل للنزيل والضيف، حالة كونهم فيها خالدون ومقيمون إلى ما شاء الله وهم لا يبغون عنها تحويلا، ولا تتجه نفوسهم، إلى أحسن منها لأنها جمعت كل حسن، وحازت كل وصف، فتبارك الله أحسن الخالقين، وذلك فضل ربك وعطاؤه. كمال علمه واحاطته بكل شيء [سورة الكهف (18) : الآيات 109 الى 110] قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110) المفردات: مِداداً المداد ما يكتب به. وسمى بذلك لإمداده الكاتب، وفيه معنى زيادة ومجيء الشيء بعد الشيء لَنَفِدَ الْبَحْرُ لفرغ البحر وانتهى مَدَداً أى: زيادة. سئل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن أصحاب الكهف والرقيم، وعن الروح وعن ذي القرنين، وأوحى الله إليه بالإجابة عن هذه الأسئلة التي قصد بها إحراجه وفي ختام السورة تعرض القرآن لبيان علمه- سبحانه- المحيط بكل شيء الذي لا يتناهى عند حد لبيان قدرته وتكوينه مع بيان موقف النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه بشر أوحى إليه وهنا يتطامن الإنسان أمام علم الله وقدرته. والمهم ليس كثرة السؤال وإنما العمل للقاء رب الأرباب مع البعد عن نواحي الإشراك. المعنى: قل لهم يا محمد: لو كان البحر مدادا يكتب به وكتبت كلمات علم الله به لنفد الجزء: 2 ¦ الصفحة: 441 البحر وفرغ، ولم تنفد كلمات الله العليم الخبير العزيز الحكيم، لو لم تجيء بمثله مددا وزيادة، ولو جئنا بمثله مددا وزيادة، إذ لا حصر لكلمات الله لأنها تابعة لمعلوماته وهي غير متناهية عند حد، وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ «1» وتذييل هذه الآية التي تشبه آياتنا تماما بقوله تعالى عَزِيزٌ حَكِيمٌ يشير إلى أن المراد بكلمات الله كلماته التكوينية التي هي قوله للشيء كن فيكون أى التي بها الإيجاد والخلق، وإيجاد الله وخلقه للأشياء لا حد له أبدا ولا نهاية له أصلا إذ هو الخالق دائم الإيجاد في الدنيا كما ترى، وفي الآخرة ليتم نعيم المؤمنين، وعذاب الكافرين الذين هم فيه خالدون ومداد البحر مهما كان فهو محدود، وله نهاية والله أعلم بكتابه. قل لهم: إنما أنا بشر مثلكم تماما لا علم لي بشيء أبدا لم أحضر عند معلم، ولم أقرأ كتابا ولم أجلس لإنسان يهديني لهذا الذي أجبتكم به، ولكن أوحى إلى، وعلمني ربي من لدنه علما، ومما أوحى إلى أنما إلهكم إله واحد، لا شريك له فانظروا إلى مصيركم! فمن كان يرجوا لقاء ربه ويحبه ويؤمن به حقا فليعمل عملا صالحا ينفعه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم، وعليه ألا يشرك بعبادة ربه أحدا كائنا ما كان.   (1) سورة لقمان الآية 27. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 442 سورة مريم وهي مكية كلها على القول الصحيح، نزلت بعد فاطر، وعدد آياتها ثمان وتسعون آية. وتهدف إلى تقرير مبدأ التوحيد لله ونفى الشريك والولد عنه وإثبات البعث، وتتخذ القصص مادة لذلك، ثم تعرض لبعض المشاهد يوم القيامة، ومناقشة المنكرين للبعث. قصة زكريا [سورة مريم (19) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَلَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6) يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 443 المفردات: كهيعص تقرأ هكذا: كاف. ها. يا. عاين. صاد. مع إدغام نون عاين في الصاد خَفِيًّا لا جهر فيه وَهَنَ الْعَظْمُ يقال وهن العظيم يهن إذا ضعف اشْتَعَلَ المراد انتشر انتشارا يشبه اشتعال النار الْمَوالِيَ هم في هذا الموضع الأقارب الذين يرثون من بنى العم ونحوهم. مهلا بنى عمنا موالينا ... لا تنشروا بيننا ما كان مدفونا عاقِراً المرأة التي لا تلد رَضِيًّا مرضيا عندك، ومرضيا عنه في الدنيا وراضيا بقضاء الله وقدره سَمِيًّا قيل لم نسم أحدا قبله بيحيى، وقيل لم نجعل له مثلا ولا نظيرا مأخوذ هذا المعنى من المساماة والسمو عِتِيًّا يقال عتا الشيخ يعتو عتيا إذا انتهى سنه وكبر، وشيخ عاتا إذا صار إلى حال اليبس وجفاف العظم والعصب. المعنى: لقد افتتحت السورة بهذه الأحرف الخمسة المقطعة. والله أعلم بها. هذا ذكر رحمة الله بعبده زكريا، وكان نبيا عظيما من أنبياء بني إسرائيل، وفي صحيح البخاري: كان نجارا يأكل من عمل يده، والمراد بذكر الرحمة بلوغها وإصابتها، وإجابته لدعائه وقت أن دعا ربه نداء خفيا مستترا لأنه أبعد عن الرياء. وفيه طلب الولد وهو عجوز، وقد يلام على ذلك من قومه، وعلى العموم فالرحمة الربانية تعبق رائحتها في جو هذه السورة. قال زكريا: يا رب إنى وهن العظم منى، وضعفت وخارت قواي، وذكر العظم لأنه عمود البدن وقوامه وأساس بنائه فإذا وهن تداعى البدن، وتساقطت قوته، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 444 واشتعل الرأس منى شيبا بمعنى اضطرم المشيب في سواد رأسى، وانتشر بياض الشعر في سواده كما ينتشر شعاع النار في الهشيم فيضطرم لهيبا، وهذا التركيب فيه استعارة من أبدع الاستعارات وأحسنها، ولم أكن بدعائك يا ربي شقيا وخائبا في وقت من الأوقات بل كلما دعوتك استجبت لي، وهذا من أكبر النعم عليه. نرى زكريا- عليه السلام- جمع في دعائه بين إظهار الخضوع والذلة والضعف ثم ذكر النعم عليه من ربه فيستحب لمن يدعو أن يفعل مثله. وإنى خفت الموالي من ورائي خفت على عصبتي وأبناء عمى من أن يضيعوا الدين فطلبت ولدا يقوم عليه ويحرسه، ولا يعقل أنه خاف منهم أن يرثوه فهذا حال لا يليق بأمثاله. وكانت امرأته- أخت حنة أم مريم- عاقرا لا تلد وإذا كان الأمر كذلك فهب لي من لدنك وليا يرثني، ويرث من آل يعقوب النبوة والعلم والمحافظة على الدين والدعوة إليه، واجعله يا رب راضيا مرضيا عنه في الدنيا والآخرة وقد أجيب إلى ما سأل في دعائه فقيل له: يا زكريا إنّا نبشّرك بغلام اسمه يحيى هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ سورة آل عمران الآيتان 38 و 39] .. لم يجعل له من قبل سميا فلم يسم أحد قبله بهذا الاسم، وقيل لم نجعل له سميا وشبيها وهذا المعنى يؤيده قول الله فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [سورة مريم آية 65] أى شبيها. وهذا زكريا: وقد فرح فرحا شديدا حين أجيب إلى سؤاله، يتعجب ويسأله عن كيفية الولادة مع أن امرأته عاقر لا تلد، وهو كبير في السن وضعيف في البنية، وليس سؤال استبعاد على القدرة. قال رب كيف يكون لي ولد؟!! وكانت امرأتى عاقرا، وقد بلغت من الكبر عتيا. قال الله- سبحانه- أو قال الملك المبلغ: الأمر كذلك من خلق غلام منكما وأنتما على حالكما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 445 قال ربك: هو علىّ هين أى: خلق غلام منكما وأنتما بهذا الوضع علىّ هين وقد خلقتك من قبل ولم تك شيئا قبل خلقك، ولا غرابة في ذلك فهذا آدم أبو البشر خلق ولم يك شيئا. قال: رب اجعل لي آية تدل على حمل امرأتى قال: آيتك ألا تكلم الناس ثلاث ليال وأنت سوىّ الخلقة ليس بك مانع يمنعك من الكلام، قال المفسرون: إن نفسه تاقت إلى سرعة الأمر فسأل الله آية يستدل بها على قرب ما من به عليه، وقد أجيب ليعلم وقت العلوق. فخرج على قومه من المحراب «وهو مصلاه واشتقاقه من الحرب كأن صاحبه يحارب النفس والشيطان» فأوحى إليهم أن سبحوا وصلوا في الصباح والمساء. فتلك أوقات يقبل الله فيها على عباده لأنهم يقبلون عليه وقد هدأ الكون وسكن الناس وصفت النفوس، وخلت من مشاغل الدنيا وضجيج الحياة. يحيى عليه السلام [سورة مريم (19) : الآيات 12 الى 15] يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَناناً مِنْ لَدُنَّا وَزَكاةً وَكانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15) المفردات: بِقُوَّةٍ بجد ونشاط الْحُكْمَ الحكمة وَحَناناً الحنان المحبة في شفقة وميل مأخوذ من حنين الناقة على ولدها وَزَكاةً وطهارة ونماء وبركة وَبَرًّا أى: بارّا محسنا لهما. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 446 المعنى: ولد لزكريا مولود فبلغ المبلغ الذي يجوز أن يخاطب فيه فقال الله له: يا يحيى خذ التوراة، وقم بكل ما فيها كما ينبغي. فأقدم على الأمر فامتثله، وعلى النهى فابتعد عنه كل ذلك بجد ونشاط، وعزيمة واجتهاد. وآتيناه الحكم أى الحكمة وفهم الكتاب وهو التوراة التي يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأخبار، وهو صبي حديث السن أما تحديد سنه وقتئذ فالله أعلم به. آتيناه الحكم، وآتيناه حنانا يتحنن به على الناس، ويتعطف به عليهم من عندنا، وزكاة وبركة له، وطهرا ونماء فيه. وكان يحيى تقيا متجنبا المعاصي مطيعا لله وكان بارا بوالديه محسنا لهما، ولم يكن في وقت من الأوقات متكبرا ولا عاصيا لوالديه أو لله. وسلام عليه وأمان يوم ولد، ويوم يموت، ويوم يبعث حيا، وهذه الأوقات الثلاثة أوقات شديدة على الإنسان، ما أحوجه فيها إلى السلام والأمان من رب الأرباب. انظروا يا شباب إلى خلق شباب أهل النبوة، والبيوت الطاهرة، والسلالة الشريفة خذوا يحيى في شبابه مثلا لكم تقتدون به، حكمة وعطفا، وزكاة وطهرا وشفقة وتقوى وبرا بالوالدين وإحسانا، وما كان جبارا في الأرض، ولا مفسدا وما كان عاصيا ولا مذنبا فسلام عليه وعلى والديه، ورحمة الله وبركاته إنها ذرية بعضها من بعض. قصة ولادة عيسى ابن مريم [سورة مريم (19) : الآيات 16 الى 33] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21) فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26) فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَأَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 447 المفردات: انْتَبَذَتْ النبد الرح والرمي والرماد ابتعدت وتنحت عن أهلها مَكاناً شَرْقِيًّا مكانا جهة الشرق حِجاباً ساترا رُوحَنا المراد جبريل وهو روح القدس، والدين يحيا به ويوجبه من الكتب سَوِيًّا مستوى الخلقة نامها بَغِيًّا المرأة البغي هي الزانية التي تبغى الرجال مَقْضِيًّا محكوما به نافذا قَصِيًّا بعيدا عن الأعين فَأَجاءَهَا اضطرها الْمَخاضُ مقدمة الولادة إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ وهو ساقها اليابس نَسْياً النسى الشيء الحقير الذي من شأنه أن ينسى مَنْسِيًّا وقع عليه النسيان بالفعل سَرِيًّا قيل هو النهر كان جافا فامتلأ ماء، وقيل: هو عيسى والسرى الشريف العظيم من القوم جَنِيًّا أى مجنيا في حينه وَقَرِّي عَيْناً المراد اهدئى ولا تحزني، والمسرور بارد القلب ساكنه فالمادة مأخوذة من القرى أى البرد صَوْماً سكوتا مُبارَكاً ناميا في الخير ثابتا على الحق الْمَهْدِ شيء يتخذ لتنويم الصبى. المعنى: واذكر يا محمد في القرآن مريم البتول وخبرها الصحيح الذي يتضمن ولادتها لعيسى ابنها عبد الله ورسوله إلى بني إسرائيل، ونفى الولد عن الله- سبحانه وتعالى-. نشأت مريم بنت عمران في بيت كريم ونسب شريف، ونشأت عفيفة طاهرة فلما شبت وترعرعت تحت عناية الله ورعايته، وبلغت مبلغ النساء كان منها أن انتبذت أهلها، وجلست وحدها في خلوة للعبادة أو لقضاء بعض حاجاتها وكان ذلك في مكان جهة الشرق (ومن هنا اتخذ المسيحيون قبلتهم ناحية الشرق) . وبينما هي في خلوتها إذ بجبريل روح القدس يتمثل لها بشرا سويا تام الخلقة مستوى الخلق لم ينقص منه شيء في رجولته. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 449 فلما رأته على هذا الوضع قد اخترق عليها حجابها. ظنت به سوءا أو أنه يريد بها شرا فقالت له إنى أعوذ بالرحمن منك وألتجئ إلى الله أن يقيني شرك، ما كنت يا هذا رجلا نقيا. وهذا دليل على عفافها وورعها حيث تعوذت بالله من تلك الصورة الجميلة الفاتنة وكان تمثيله بتلك الصورة ابتلاء من الله لها وسبرا لعفتها. قال جبريل لها: إنما أنا رسول ربك الذي تستعيذين به، جئت لأهب لك غلاما زكيا طاهرا. قالت مريم: أنى يكون لي غلام؟ والحال أنى لم يمسني بشر في زواج شرعي ولم أك بغيا من البغايا!! وسؤالها هذا لم يكن عن استبعاد لقدرة الله، ولكن أرادت متعجبة كيف يكون هذا الولد؟ هل هو من قبل زوج تتزوجه في المستقبل أم يخلقه الله ابتداء؟ قال الملك: الأمر كذلك (والمشار إليه أنى يكون لي غلام؟) قال الله: هو على هين وقد خلقناه على هذا الوضع لنجعله آية للناس حيث يستدلون بخلقه على كمال القدرة، وتمام العظمة لله- سبحانه وتعالى-. وكان رحمة منا للخلق، وهكذا كل نبي يهدى الناس إلى الخير، ويرشدهم إلى الصراط المستقيم، وكان ذلك المذكور أمرا مقضيا ومقدرا من الله. اطمأنت مريم إلى كلامه فدنا منها، ونفخ في جيب درعها أى نفخ في فتحة قميصها من أعلى، ووصلت النفخة إلى بطنها، وتنحت عن أهلها قاصدة مكانا قصيا بعيدا فألجأها المخاض متجهة إلى جذع النخلة لتستر به، وتعتمد عليه عند الولادة قالت: يا ليتني مت قبل هذا الحادث، وكنت شيئا منسيا، تراها تمنت الموت خوفا من أن يظن بها السوء في دينها، أو يقع أحد بسبها في البهتان. فناداها جبريل من تحتها إذا كانت هي على مكان مرتفع وقيل الذي ناداها هو عيسى الوليد، ناداها بألا تحزني ولا تتألمى. فهذه آية الله الدالة على أن الأمر خارق للعادة، وأن لله في خلقه شؤونا. فها هو ذا قد جعل لك ربك تحتك نهرا يفيض بالماء بعد أن كان جافا، وحركي جذع النخلة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 450 اليابسة تتساقط عليك رطبا جنيا شهيا، أليست هذه أمارات الرضا؟ ودليلا على أن الله معك ولن ينساك يا مريم، فكلي من الرطب واشربى من النهر وقرى عينا، واهدئى بالا، واطمأني نفسا فالله معك، وحافظك من الناس، فإن رأيت من الناس أحدا فيه أمارة الاعتراض عليك فلا تكلميه، وقولي: إنى نذرت للرحمن صوما وسكوتا عن الكلام فلن أكلم اليوم إنسانا بل سألكم الملائكة، وأناجى ربي- سبحانه وتعالى-. ولما اطمأنت مريم- عليها السلام- بما رأت من الآيات، وفرغت من نفاسها أتت بعيسى تحمله إلى أهل بيتها، فلما رأوا الولد معها حزنوا، وكانوا أهل بيت صالحين إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ [سورة آل عمران الآيتان 33 و 34] . قالوا منكرين: يا مريم لقد جئت شيئا فريا وعجيبا ونادرا في بيئتنا وبيتنا فليس هذا من عوائدنا وعادتنا.. يا مريم ما كان أبوك امرأ سوء بل كان رجلا صالحا، وعبدا قانتا، وما كانت أمك بغيا فمن أين يأتى لك هذا السوء؟! وفي هذا دليل على أثر الوراثة والبيئة. فأشارت إلى الوليد الصغير أن تكلم قالوا متعجبين منكرين ذلك: كيف نكلم من كان في المهد صبيا؟! اعتبروا هذا استهزاء بهم وجناية زيادة على جنايتها الأولى. ولكن الوليد الصغير لم يكن كأمثاله نشأ من أب وأم بل خلقه الله آية عجيبة وخلقة غريبة يؤمن بسببه أناس، ويكفر آخرون. قال إنى عبد الله- ولست ولدا لله ولا جزءا منه بلى أنا بشر وعبد له- آتاني الكتاب وهو الإنجيل. وجعلني نبيا إليكم، وجعلني مباركا لي في كل شيء، وثابتا على دين الحق، وأوصانى بالصلاة والزكاة ما دمت حيا، وجعلني بارا بوالدتي فقط حيث لم يكن له أب، ولم يجعلني ربي جبارا عنيدا وشقيا مطرودا. والسلام من الله العلى القدير، علىّ يوم ولدت من غير أب، ويوم أموت، ويوم أبعث حيا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 451 القول الحق في عيسى عليه السلام [سورة مريم (19) : الآيات 34 الى 40] ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْها وَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) المفردات: يَمْتَرُونَ يشكون ويختلفون فَوَيْلٌ أى: فهلاك وعذاب يَوْمَ الْحَسْرَةِ هو يوم القيامة. المعنى: ذلك الذي مضى وصفه. والكلام عليه، والحكاية عنه في قوله: إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبارَكاً إلخ الآيات هو عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله إلى بني إسرائيل وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [سورة النساء آية 171] . هذا هو الحق لا مرية فيه ولا شك إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 452 مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ [سورة آل عمران آية 61] . هذا هو القول الحق، والحكم العدل، والقول الصدق الذي فيه يمترون ويختلفون ويتشككون، نعم هو القول الفاصل الذي أطاح بأقوال اليهود في عيسى وأمه، وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً [سورة النساء آية 56] . وأطاح بأقوال النصارى الذين قالوا: ابن الله أو ثالث ثلاثة، أو هو الله.. يا أهل الكتاب لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [سورة النساء آية 171] . ولم تتكلم الأناجيل عن عيسى وهو صبي، وكيف كانت ولادته، ولم تذكر حادثة النخلة، ولا نذرها الصوم، ولا تأنيب قومها لها، ولا كلامه في المهد ظنا منهم أن ذلك يشين عيسى، وينقص قدره وقدر أمه، والقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه المنزل من عند الله، والمهيمن على كتب أهل الكتاب وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ هو الذي ذكر كل هذا. ولا غرابة إذا لم تذكر الكتب السابقة خصوصا الأناجيل ذلك عن عيسى فالله يقول: فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ. نعم إنهم يمترون فيه ويختلفون إلى الآن. ولقد جمع الإمبراطور قسطنطين مجمعا من الأساقفة فاختلفوا في عيسى اختلافا كثيرا وقالت كل فرقة قولا، فبعضهم قال: إنه الإله. وقالت الأخرى: إنه ثالث ثلاثة. وقالت فئة أخرى: إنه ابن الإله. وقال بعضهم: إنه عبد الله ورسوله وكلمته وروح منه. ترى أن بعض النصارى نظر بعقله القاصر إلى السيد المسيح وأنه جاء من غير أب وخاطب ربه كثيرا بقوله: يا أبت كما حكى الإنجيل لك فقالوا هو ابن الله وما علم أن الله قادر على كل شيء، وأننا نحكم بمقتضى الأسباب التي نعرفها أنه لا ولد من غير أب ولكن الله- سبحانه- الذي خلق الأسباب والمسببات قادر على كل شيء- سبحانه وتعالى- عما يشركون! ما كان الله أن يتخذ ولدا سبحانه. وكيف يتخذ ولدا؟ وهو الغنى عن الولد والوالد والأخ والصاحب إذ له السموات والأرض الحي الدائم الباقي بعد فناء الخلق جميعا، وهو القادر على كل شيء إذا أراد نفذ المراد، وإذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 453 أراد شيئا حصل بدون إمهال أو تأجيل كالأمر إذا أمر بشيء وقال له: كن فيكون الشيء قطعا. ومن كان هذا وصفه أيشبه المخلوقات فيكون له ولد ويحتاج إلى شيء حتى يكون له ولد وهل من المخلوقات شيء يماثله حتى يكون إله أو جزء إله. تعالى الله عما يشركون!! وها هو ذا عيسى- عليه السلام- نفسه يقول: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وكما حكى إنجيل متى عنه في الإصحاح الرابع آية 10 قال له يسوع: اذهب يا شيطان لأنه مكتوب للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد، إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ. أما أهل الكتاب فاختلفوا فيما بينهم كما رأيت بين إفراط وتفريط في شأن عيسى وأمه ولم تنجح إلا طائفة آمنت بعيسى على أنه نبي مرسل، وهو بشر خلق من غير أب ليكون آية للناس. أما غيرها فويل وهلاك للكافرين منهم الذين ألهوا المسيح أو ذموه ورموا أمه بالزنى ويل لهم حيث يشهدون يوم القيامة ذلك اليوم العظيم الهول. ما أسمعهم وما أبصرهم يوم يأتون، وقد كانوا قبل ذلك لا يسمعون ولكن فات الأوان قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [سورة المؤمنون الآيتان 99 و 100] . وأنذرهم يا محمد يوم الحسرة وقد قضى الأمر وهم غافلون لا يؤمنون، وأعلمهم أن الله يرث الأرض ومن عليها، وإليه يرجع الأمر كله. قصة إبراهيم مع أبيه [سورة مريم (19) : الآيات 41 الى 50] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَلا يُبْصِرُ وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44) يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَجَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 454 المفردات: صِدِّيقاً مبالغا في الصدق والتصديق سَوِيًّا مستقيما عَصِيًّا كثير العصيان وَلِيًّا ناصرا وقرينا له حَفِيًّا حفى به حفاة فهو حفى به أى: مبالغ في إكرامه وإلطافه والعناية به مَلِيًّا أى: زمنا طويلا لِسانَ صِدْقٍ المراد ثناء حسنا وسيرة عطرة. لقد مضت قصة عيسى التي نفى فيها القرآن أكذوبة الولد، وها هي ذي قصة إبراهيم أبو إسماعيل الذي ينتسب إليه العرب ويدعون أنهم على دينه وأنهم سدنة بيته، وفيها نفى الشرك ودحض عبادة الأوثان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 455 المعنى: واذكر يا محمد في الكتاب المنزل عليك إبراهيم الخليل، واتل عليهم نبأه وقت أن جادل أباه آزر، وقال له. يا أبت لم تعبد حجرا لا يسمع، ولا يبصر، ولا يغنى عنك شيئا من الغناء؟!! وانظر إلى أبينا الخليل إبراهيم وهو يخاطب أباه متلطفا بقوله: يا أبت!! ويستفهم منه عن السر في تلك العبادة فإن المعبود لو كان حيا يسمع ويبصر وينفع ويضر في شيء، وهو مع ذلك مخلوق لكانت عبادته دليلا على قصر العقل وسوء الرأى وفساد الطبع.. ولو كان من أشرف الخلق كالأنبياء والملائكة وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ وذلك أن العبادة غاية في التعظيم، ومنتهى التقديس ولا يكون ذلك لمخلوق أبدا أيا كان وضعه. فما بالك لو كان المعبود حجرا لا يسمع عبادتك، ولا يبصر قربانك، ولا يغنى عنك شيئا من الغناء؟! وفي الاستفهام عن السبب لفت للنظر عميق يبعث على الشك والبحث. يا أبت إنى قد جاءني من العلم شيء لم يأتك فاتبعنى أهدك الصراط المستقيم، والسبيل الحق، وانظر إلى الخليل- صلوات الله عليه- لم يصف أباه بالجهل، ولا نفسه بالعلم الكامل فإن ذلك ينفر الناس، ويمنع الجليس من الائتناس، بل قال إنى أعطيت شيئا من العلم قليلا، ولم تعطه، ولا ضير عليك في شيء إن اتبعت ابنك حتى يهديك إلى الصراط المستقيم، يا أبت هب أننا سائران في الطريق وأنا على علم به أفلا يكون من الخير أن تتبعني حتى تصل إلى بر السلامة، وأنت أبى على كل حال وأنا ابنك البار.. وهذا جذب لأبيه ليصل إلى الحق بطرق سديدة، يشككه في اعتقاده ثم يلمح له بأن الخير في اتباعه وترك ما هو عليه. وانظر إلى أبى الأنبياء وهو يقول لأبيه: يا أبت لا تعبد الشيطان، إن الشيطان كان للرحمن كثير العصيان. آزر أبو إبراهيم كان يعبد الأصنام، وما كان يعبد الشيطان، إلا أن عبادتها لا يمكن أن تصدر عن عقل أو عاطفة أو غريزة، ولكنها تنشأ عن وسوسة الشيطان وإغوائه فكانت عبادتها عبادة له، وطاعة لإغوائه! والشيطان هو ما تعرفون، عدو أبيكم آدم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 456 وعدوكم يا بنى آدم جميعا، لا يريد لكم إلا كل شر، ولا يزين لكم إلا كل إثم وبهتان وهو قد عصى ربكم في السجود لآدم، وعصاه في كل ما أمره به، أمن الخير أن يطاع هذا الشيطان، ويسمع لإغوائه في عبادة الأصنام، وترك عبادة الرحمن؟! وها هو ذا إبراهيم- عليه السلام- يحذر أباه سوء العاقبة، وينذره بالشر الوبيل فيقول: يا أبت إنى أخاف أن يصيبك عذاب من الرحمن ربك وخالقك فتكون بذلك للشيطان قرينا في النار، وتكون بهذا وليا له وناصرا. وفي ذكر الخوف من العذاب والمس له دون الإصابة به، وتنكير العذاب المفيد للتقليل أدب جم، وتلطف كريم ليس غريبا على إبراهيم خليل الرحمن. أما إجابة الكافر الغليظ القلب الجاف فكانت على صورة بشعة حيث قال: أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم؟ لئن لم تنته عن تعرضك للآلهة لأرجمنك وأشتمنك فاحذرنى واهجرني زمنا طويلا، وابتعد عنى وأنت سالم البدن والعرض. انظر إلى آزر، وقد قابل استعطاف إبراهيم- عليه السلام- وتلطفه في إرشاده بالفظاظة حيث ناداه باسمه بدل قوله: يا بنى وبدأ الكلام بقوله: أراغب، للإشارة إلى أن الرغبة عن الآلهة أمر يهمه أكثر من غيره. وصدره بهمزة الاستفهام المفيدة للإنكار والتعجب وجعلها مسلطة على الرغبة للإشارة إلى أن نفس الرغبة مما ينبغي أن تكون، وأن الآلهة ما ينبغي أن يرغب عنها عاقل، ثم بعد هذا هدده بالرجم باللسان أو بالحجارة إن لم يكف عن التعرض لذكر الآلهة بالسوء. قال إبراهيم إزاء ذلك: مقالة المؤمن الكامل سلام عليك سلام توديع وترك لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ [سورة القصص الآية 55] ومع هذا كله فأنت أبى سأستغفر لك ربي، وأدعو لك بالهداية والتوفيق، إنه كان بي حفيا بارا لطيفا، وهو لن يضيعني في سفري، ولن ينساني أبدا، وقد كان كذلك. استغفار إبراهيم لأبيه: الثابت أن إبراهيم- عليه السلام- استغفر لأبيه مدة طويلة قيل حتى مات وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ [سورة الشعراء آية 86] ، رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ [سورة إبراهيم آية 41] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 457 وقد استغفر المسلمون لقرابتهم من المشركين في ابتداء الإسلام اقتداء بإبراهيم- عليه السلام- حتى أنزل لله ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ وَما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [سورة التوبة الآيتان 113 و 114] قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ [الممتحنة 4] فامتنع المسلمون بعد نزول هذه الآيات عن الاستغفار للكفار على أن الاستغفار لهم وهم أحياء بمعنى طلب الهداية والتوفيق لهم في حياتهم شيء لا غبار عليه كما مر في تفسير آيات التوبة، والممنوع هو الاستغفار لهم بعد موتهم.. وعلى ذلك فقول بعض الناس: المرحوم فلان وهو ممن نعلم أنه مات على غير الإسلام ليس بسديد. فلما اعتزلهم وما يعبدون من دون الله أكمل عليه النعمة، وألبسه ثوب العافية ووهب له إسحاق وأبيه يعقوب، وجعل كل واحد منهما نبيا، ووهبنا لهم بعض رحمتنا وجعلنا لهم ثناء صادقا وسيرة طيبة، فكل الأديان والأنبياء من سلالتهما، وكل الأديان تحترم إبراهيم، وإسحاق ويعقوب وذريتهم. والعرب يدعون أنهم على دين إبراهيم، وهم من سلالته، فذكرت لهم قصته وموقفه من أبيه وقومه ليعتبروا ويتعظوا. ذكر بعض الأنبياء عليهم السلام [سورة مريم (19) : الآيات 51 الى 58] وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَنادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَكانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكاةِ وَكانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55) وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَرَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57) أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا (58) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 458 المفردات: مُخْلَصاً أى: أخلصه الله واختاره لنفسه، وقرئ مخلصا أى: أخلص في العبادة وابتعد عن الشرك والرياء رَسُولًا هو النبي صاحب الشريعة والكتاب. والنبي من ينبئ عن الله وله وحى وليس له كتاب كيوشع مثلا ويحيى وزكريا فكل رسول نبي ولا عكس نَجِيًّا أى: مناجيا ومصاحبا. وهذه سلالة إبراهيم وذريته، فخذوهم مثلا عليا لكم أيها المسلمون. المعنى: واذكر يا محمد في الكتاب، واتل عليهم نبأ موسى- عليه السلام-، إنه كان مخلصا في عبادته بعيدا عن الرياء والسمعة. والشرك بكافة أنواعه، وقد أخلصه الله لنفسه واجتباه وخلص الله نفسه من الدنس وحب الدنيا، وكان رسولا نبيا، وناداه ربه من جانب الجبل المسمى بالطور الجانب ذي اليمن والبركة أو الجانب الواقع في الجهة اليمنى لموسى- عليه السلام-، وقربناه تقريب تشريف حالة كونه مناجيا للحضرة العلية، تراه مثل حاله بحال من قربه الملك لمناجاته واصطفاه لمصاحبته، ولله المثل الأعلى، وقيل قربه تقريب مكان حتى سمع صريف الأقلام، وكلام الكبير المتعال، ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون، وجعلناه نبيا كما طلب من المولى وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي «1» ، قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ «2» قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى «3» .   (1) طه الآيتان 29 و 30. - (2) الشعراء الآيتان 12 و 13. - (3) طه الآية 36. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 459 واذكر في الكتاب إسماعيل بن إبراهيم وأبو النبي الكريم محمد صلّى الله عليه وسلّم إنه كان صادق الوعد نعم الصادق للوعد وفي وعده سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً [سورة الكهف آية 69] وكل الأنبياء متصفون بصدق الوعد إلا أنها صفة بارزة في إسماعيل وصدق الله وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ [سورة الصافات آية 164] وكان إسماعيل رسولا نبيا، وكان يأمر أهله وقومه بالصلاة والزكاة التي كانت مفروضة عليه عند ربه مرضيا عليه. واذكر في القرآن أو في هذه السورة إدريس إنه كان مبالغا في الصدق وكان نبيا ورفعه الله مكانا عليا، رفعه الله رفع مكانة وتشريف وهو الظاهر، وقيل.. رفع مكان أى في السماء كما نطقت السنة الكريمة والله أعلم. أولئك- يا محمد- الأنبياء الذين مر ذكرهم عليك في هذه السورة وعددهم عشرة أولهم زكريا وآخرهم إدريس عليهم السلام جميعا. أولئك الذي أنعم الله عليهم واختارهم واجتباهم للنبوة والرسالة وكانوا من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح، ومن ذرية إبراهيم- عليه السلام-، ومن ذرية إسرائيل وهو يعقوب بن إسحاق، وممن هديناهم إلى الخير، واجتبيناهم، فهم خيار من خيار من خيار، وهم شجرة طيبة مباركة أصلها ثابت وفرعها في السماء، سلالة كريمة، وذرية بعضها من بعض، والله فضلهم خلقا وأصلا ونسبا، هؤلاء إذا تتلى عليهم آيات الرحمن المنزلة عليهم سقطوا ساجدين باكين بقلوبهم وعيونهم، وهكذا من خالط قلبه حب الإيمان وأشرب في قلوبهم حب القرآن.. عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «اتلوا القرآن وابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا» . وعن صالح المري- رضي الله عنه- «قرأت القرآن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام فقال لي هذه القراءة يا صالح فأين البكاء» ؟ ولبعض آيات القرآن إذا قرأتها أو سمعتها سجدة مستحبة تسمى سجدة التلاوة وفي المصحف علامات لها، ويستحب أن تدعو الله وأنت ساجد فيها فتقول في آية السجدة التي في سورة السجدة. اللهم اجعلنى من الساجدين لوجهك المسبحين بحمدك وأعوذ بك من أن أكون من المستكبرين عن أمرك.. وفي سجدة الإسراء: اللهم اجعلنى من الباكين إليك الخاشعين لك! وفي سجدة سورة مريم أى: في هذه الآيات تقول. اللهم اجعلنى من عبادك المنعم عليهم المهتدين الساجدين لك الباكين عند تلاوة آياتك هذ بعض ما ورد ولا مانع من أن تدعو بما تحب مع الخشوع والخضوع لله منزل القرآن الكريم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 460 من آثار بعثة الرسل عليهم السلام [سورة مريم (19) : الآيات 59 الى 63] فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) المفردات: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ جاء عقبهم خَلْفٌ وفي اللغة يقال لعقب الخير خلف ولعقب الشر خلف غَيًّا الغي الشر، والخير هو للرشاد، قال المرقش شاعر عربي قديم. فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ... ومن يغولا يعدم على الغي لائما مَأْتِيًّا مفعولا منجزا لَغْواً اللغو فضول الكلام الذي يلغى ولا طائل تحته. هذه نهاية الناس بعد ما ترسل لهم الرسل مبشرين ومنذرين. المعنى: فخلف من بعد الرسل والأنبياء خلف، وجاء عقبهم جماعة أضاعوا الصلاة ولم يقيموها كاملة تامة الأركان والشروط، بل أضاعوها وتركوها بالمرة، واتبعوا شهوات نفوسهم، وما تشتهيه أبدانهم من المحرمات كالخمر والزنى والربا وفعل المنكر، فهؤلاء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 461 سوف يلقون جزاء غيهم ولا يلقون إلا شرا لا خير فيه، إلا من تاب، وآمن وعمل صالحا يرضى الله فأولئك يدخلون الجنة، ولا يظلمون شيئا مما عملوه قبل التوبة وبعدها. وهذا حكم عام يدخل فيه الناس جميعا من اليهود والنصارى والمسلمين وغيرهم يدخلون الجنة، جنات عدن وهي نوع من الجنة، وفيها الإقامة والمكث وهي التي وعد الرحمن بها عباده متلبسين بالغيب فآمنوا بها وعملوا لها فاستحقوا نعيمها، إنه كان وعده بالجنة مفعولا وحاصلا حتما، ومن وعد الجنة فإنه يأتيها، لا يسمعون فيها لغوا أبدا، وممن يسمعون اللغو؟ أمن المؤمنين؟ أم من الملائكة؟!! لكن سلام بعضهم لبعض، وسلام الملائكة عليهم موجود، فهم لا يسمعون ما يؤلهم وإنما يسمعون ما يسرهم. ولهم رزقهم حسب ما يطلبون، والمعتدل من الناس إنما يطلب الأكل بكرة وعشيا أما النهم الحيواني فهو يأكل متى شاء، وسكان الجنة قوم معتدلون متوسطون في طلبهم. تلك الجنة التي نورثها لعبادنا الأتقياء ونحفظها عليهم كما يحفظ المال للوارث، فهم أصحاب حق- لما قدموا من العمل- في هذا النعيم كما أن الوارث صاحب حق في مال مورثه، والله أعلم. الأمر كله بيد الله [سورة مريم (19) : الآيات 64 الى 65] وَما نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَما خَلْفَنا وَما بَيْنَ ذلِكَ وَما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 462 المفردات: نَتَنَزَّلُ النزول على مهل نَسِيًّا ناسيا سَمِيًّا شريكا له في الاسم أو في المسمى بمعنى ليس له مثيل ولا شبيه. سبب النزول. روى أن جبريل احتبس أربعين يوما، وقيل خمسة عشر يوما، وذلك حين سئل الرسول عن قصة أصحاب الكهف، والروح، وذي القرنين، فلم يدر بما يجيب، ورجا أن يوحى إليه فيه فتأخر الوحى فشق ذلك عليه مشقة شديدة، وقال المشركون. ودعه ربه وقلاه فلما نزل جبريل- عليه السلام- قال له النبي صلّى الله عليه وسلم. أبطأت حتى ساء ظني واشتقت إليك! قال إنى كنت أشوق، ولكني عبد مأمور إذا بعثت نزلت، وإذا حبست احتبست وأنزل- سبحانه- هذه الآية وسورة الضحى. المعنى: يقول الله- سبحانه وتعالى- حكاية على لسان جبريل حين استبطأه النبي، وما ننزل إلا بأمر ربك فليس نزولنا وقتا بعد وقت عن أمرنا، وإنما هو بأمر ربك على حسب الحكمة! وما يراه صوابا، ثم أكد هذا بقوله: له ما بين أيدينا من الجهات والأماكن، وما خلفنا منها، وما بين ذلك مما نحن فيه، فلا نملك أن ننتقل من جهة إلى أخرى، ومن مكان إلى مكان إلا بأمر المليك ومشيئته- سبحانه وتعالى- فهو الحافظ العالم المحيط القادر المقتدر الذي لا يجوز عليه الغفلة والنسيان وما ربك ناسيا لشيء أبدا، بل هو المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة، رب السموات والأرض، وما بينهما فكيف نقدم على فعل إلا بعد أمره وإذنه على حسب حكمته، وما كان ربك ناسيا لك، وما ودعك ربك وما قلاك. وقيل: هو حكاية لقول المتقين حين يدخلون الجنة على معنى، وما ننزل الجنة إلا بأمر ربك حيث يمن علينا بالثواب، وهو المالك لرقابنا المتصرف في أمورنا، وما كان ربك ناسيا لأعمالنا التي قدمناها في الدنيا، وكيف يجوز النسيان على رب السموات والأرض وما بينهما؟!! ثم يقول لرسوله: وحين عرفت ربك بهذا الوصف العالي وهو الموصوف بكل جميل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 463 المنزه عن كل قبيح فاعبده، وأقبل على العمل الصالح يثبك كما أثاب غيرك من المتقين الأبرار، واصطبر للعبادة ففيها الشدائد، ولكن لها ثوابها هل تعلم له سميا سمى باسم الله أو اسم الرحمن، هل تعلم له من يشاركه في مسماه ويشبهه في شيء. تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا، ولما انتفى المشارك لله استحق أن يكون هو المعبود بحق دون سواه، وأنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له، والاستفهام في الآية للإنكار، والمراد بنفي العلم هنا نفى الشريك على أبلغ وجه. المنكرون للبعث وجزاؤهم [سورة مريم (19) : الآيات 66 الى 72] وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72) المفردات: جِثِيًّا جمع جاث والمراد أنهم بركوا على ركبهم يقال: جثا يجثو إذا جلس على ركبته شِيعَةٍ فرقة تشيعت لشخص أو لمبدأ عِتِيًّا عصيانا يقال عتا يعتو عتوا أى: صار عاتيا عاصيا صِلِيًّا دخولا يقول صلّى النار يصلى دخلها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 464 المعنى: ويقول بعض أفراد الإنسان أإذا ما مت لسوف أخرج حيا: وأبعث للحساب؟!! إن هذا لعجيب!! نعم يقول الكفار منكرين مستبعدين الحياة للبعث والثواب: أحقا أنا سنخرج أحياء بعد أن متنا، وتمكن فينا الموت والهلاك؟! والمراد الخروج من القبر أو حال الفناء، وانظر يا أخى إلى تصوير القرآن لإنكارهم الشديد وأنه منصب على ما بعد الموت، وهو كون الحياة منكرة، ولذا قال: أإذا ما مت لسوف أخرج حيا؟ فهو كقولك أحين تمت عليك نعمة فلان تسيء إليه؟؟ ويقول الله- سبحانه وتعالى- في الرد على هؤلاء: أيقول الكافر ذلك ولا يتذكر أنا خلقناه من قبل، ولم يك شيئا؟!! أيقول الكافر ذلك ولا يتذكر نشأته الأولى، حتى لا ينكر إعادته للبعث فإن الأولى أعجب وأغرب، وأدل على قدرة الله حيث خلقه، ولم يك شيئا أبدا فقد خلقه من غير مثال يحتذيه ولا نظام سابق يعيده ويحييه، وأما الحياة الثانية فقد تقدمت نظيرتها، وكل ما فيها إعادة تأليف أجزاء تبعثرت، وتركيبها كما كانت فالإعادة أهون بالنسبة للأولى، وإن كان البدء والإعادة سواء عند الله- سبحانه وتعالى-. فوربك يا محمد لنحشرنهم والشياطين، إنه قسم من الله برب محمد فهو تشريف له وأى تشريف؟ والله أقسم ليحشرنهم جميعا بعد بعثهم من قبورهم، ومعهم الشياطين التي هي سبب إغوائهم وضلالهم ليأخذ الكل جزاءه غير منقوص وليروا بأنفسهم أن الشيطان أضلهم وأعمى أبصارهم وسيتنصل منهم وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ [سورة إبراهيم آية 22] . ثم بعد هذا لنحضرنهم جميعا حول جهنم جاثمين على ركبهم غير قادرين على الوقوف على أرجلهم من شدة الهول وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً [سورة الجاثية آية 28] . وهل الضمير هنا في قوله لَنُحْضِرَنَّهُمْ للعموم أو للكفار فقط؟ وهذا سيظهر عند الكلام على قوله: وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 465 ثم بعد هذا لننزعن من كل شيعة الذي هو أشد على الرحمن عصيانا وفسوقا، والمعنى نختار من كل طائفة من طوائف الغي والفساد أعصاهم فأعصاهم فإذا اجتمعوا في غل واحد طرحناهم في الحجيم على الترتيب نقدم أولاهم بالعذاب فالذي بعده وهكذا. ثم لنحن أعلم بالذين هم أولى بجهنم صليا ودخولا، ومن هذه الآية وأشباهها نعلم أن الله- سبحانه وتعالى- جعل لأئمة الكفر وقادة الضلال عذابا أشد، ودركا أسفل في النار الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ [النحل 88] وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ [العنكبوت 13] . وإن منكم من أحد إلا واردها، كان على ربك حتما مقضيا، وفي هذه الآية الحكم بورود جميع الخلق على النار، ومن هنا اختلف المفسرون في معنى الورود. فهل هو الدخول بالفعل؟ أو هو المرور عليها من غير دخول؟ قيل الناس جميعا يدخلونها فأما المؤمنون فتكون عليهم بردا وسلاما، وروى في تلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم سئل عن ذلك فقال. إذا دخل أهل الجنة الجنة قال بعضهم لبعض أليس قد وعدنا ربنا أن نرد النار فيقال لهم قد وردتموها وهي جامدة ، وأما قوله- تعالى-: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ «1» فالمراد أنهم مبعدون عن عذابها، ولعل الحكمة في الورود بهذا المعنى ليروا ما أعد للكافرين والعصاة، وما أعد لهم فيزدادوا فرحا وسرورا، وليمتلئ قلب الكافر حسرة وندما على ما فرط منه. ويجوز أن يراد بالورود الجثو حولها فقط من غير دخول فيها، أو الورود بمعنى المرور على الصراط أما المؤمنون فينجون وأما الكافرون فيسقطون، ويرشح هذا أن قول العرب «وردت القافلة البلد» لا يلزم منه دخولها وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ «2» ولعل الرأى الأول أرجح وهو تفسير الورود بالدخول لقوله تعالى. ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا حيث لم يقل وندخل الظالمين، ولتظاهر السنة الشريفة على هذا المعنى. وهذا كله إذا أريد العموم في قوله وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها أى: من الناس جميعا فإن أريد الكافرون فقط فلا خلاف في معنى الورود.   (1) سورة الأنبياء الآية 101. (2) سورة القصص الآية 23. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 466 حجة واهية [سورة مريم (19) : الآيات 73 الى 80] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَرِءْياً (74) قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضْعَفُ جُنْداً (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً وَالْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76) أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَقالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَوَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ ما يَقُولُ وَيَأْتِينا فَرْداً (80) المفردات: نَدِيًّا الندى والنادي مجلس القوم، ومنه دار الندوة قَرْنٍ المراد من أمة وجماعة، وفي الكشاف وكل أهل عصر قرن لمن بعدهم لأنه يتقدم بهم، كقرن البقرة أَثاثاً الأثاث متاع البيت، وقيل، المال مطلقا وفيه معنى الكثرة رئيا منظرا حسنا فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ المراد يمد له الرحمن مدا حتى يطول غروره مَرَدًّا أى: مرجعا وعاقبة. وهذه جناية أخرى من جنايات المشركين المتعددة وبعض أعمالهم المخزية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 467 المعنى: وإذا تتلى على هؤلاء الكفار الذين تقدم الكلام عليهم في قوله: وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا إلى قوله: وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا وإذا تتلى عليهم آياتنا حالة كونها بينات المعنى واضحات الحجة قال الذين كفروا لأجل الذين آمنوا. وفي شأنهم. أى: الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟ ويحتمل أن الكافرين قالوا مخاطبين المؤمنين: أى الفريقين- فريق المؤمنين وفريق الكافرين- خير إقامة وأحسن ناديا ومجلسا!! وذلك أن زعماء الكفر كانوا ينظرون لأنفسهم. وقد جهلوا كل شيء إلا ظاهرا من الحياة الدنيا فيرون أنفسهم في غنى وسعة، والمؤمنون في شظف من العيش وقلة في العدد فيقولون. لو كان هؤلاء على حق ونحن على باطل كما يدعون لكان العكس. ولكانوا هم أكثر مالا وأعز نفرا، وغرضهم من ذلك زعزعة المسلمين في عقائدهم موهمين بعضهم أن من كان كثير المال كان على الحق والصواب، ومن الأسف أن بعض جهلة الأغنياء من المسلمين يفهم هذا، ويقول به. فيرد الله ويقول ما معناه: وكثير من الأمم السابقة كانوا أحسن أثاثا ومنظرا منكم وأكثر عددا وعدة أهلكناهم لما كفروا بالله. قل لهم يا محمد. من كان في الضلالة سادرا، وفي العماية سائرا حيث يقول هذا القول المخزى أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا يمده الله ويملى له في العمر مدا حتى يطول اغتراره فيكون ذلك أشد لعقابه. ونظيره قوله- تعالى- إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً «1» وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ «2» وهذا غاية في التهديد، وقيل هو دعاء من النبي عليهم بذلك حتى إذا رأوا ما يوعدون من العذاب في الدنيا بالقتل والأسر وظهور الدين الحق وهم كارهون أو يظلمهم يوم القيامة بعذابه اللافح وحسابه الشديد عن ذلك يرون من هو شر مكانا وأضعف جندا. وخلاصة الكلام أن الله يمد لمن هو في الضلالة حتى يرى واحدا من اثنين إما عذاب الدنيا وإما عذاب يوم القيامة فإذا رأى ذلك علم من هو شر مكانا ومن هو أضعف   (1) سورة آل عمران الآية 178. (2) سورة الأنعام الآية 110. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 468 جندا بمعنى أنهم يرون أنفسهم أنهم شر مكانا لا خير مكانا، وأضعف جندا لا أقوى ولا أحسن من فريق المؤمنين وإيراد فعل التفضيل تهكم بهم. ونظير هذه الآية وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مُنْتَصِراً [سورة الكهف آية 43] هذا حالهم. أما حال المؤمنين فيقول الله فيهم: ويزيد الله الذين اهتدوا وآمنوا هدى وتوفيقا إذ الخير يجر بعضه، والباقيات الصالحات من أعمال الخير، وذكر الله وتسبيحه عند ربك خير ثوابا، وخير عاقبة ومآلا. ثم أردف الله- سبحانه وتعالى- بهذا مقالة أولئك المفتخرين المغرورين بالمال والولد على سبيل التعجب والإنكار لهم. ولهذه قصة خلاصتها كما رواها الأئمة عن خباب- وكان قينا أى: حدادا وصائغا، قال. كان على العاص بن وائل دين فأتيته أتقاضاه فقال لي: لن أقضيك حتى تكفر بمحمد قال فقلت له. لن أكفر به حتى تموت ثم تبعث قال. وإنى لمبعوث من بعد الموت؟!! وإذا بعثت فسوف أقضيك إذا رجعت إلى مالي وولدي وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً [سورة الكهف آية 36] فنزلت هذه الآية. أفرأيت الذي كفر بآياتنا كلها أو بعضها وقال. والله لأوتين مالا وولدا، والمعنى أخبرنى بقصة هذا الكافر عقب حديث أولئك المغرورين بمالهم وجاههم. أنظرت فرأيت الذي كفر بآياتنا كلها أو بعضها وقال. والله لأوتين مالا وولدا يوم القيامة عند البعث، انظر إلى مقالته وتألّيه على الله مع كفره وجحوده ثم يجيب الله عنه ويرد عليه. أطلع على الغيب حتى أنه في الجنة؟ أم اتخذ عند الرحمن عهدا بدخول الجنة وأنه سيكون صاحب يسار فيها؟ ولا سبيل إلى العلم إلا بإحدى الوسيلتين إما الاطلاع على الغيب، أو أخذ العهد. وفي قوله: أطلع على الغيب؟! إشارة إلى أن الغيب أمر صعب أعلى من الجبل الأشم وأمنع منه منالا إذ هو غيب رب السماء والأرض الذي لا يطلع على غيبه أحد إلا من ارتضى من رسول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 469 كلا كلمة ردع وزجر لم ترد في النصف الأول من القرآن. سنكتب ما يقول ونجازيه عليه، ونمد له من العذاب مدا مكان ما يطلبه من المدد بالمال والولد جزاء عمله. ونرثه جزاء ما يقول ويعمل فهو يستحقه استحقاق الوارث لمال الموروث وسيأتينا فردا خاليا من كل شيء لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ [سورة الأنعام آية 94] . هؤلاء هم المشركون [سورة مريم (19) : الآيات 81 الى 87] وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84) يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87) المفردات: عِزًّا أنصارا وأعوانا لهم ضِدًّا أعداء لهم أَزًّا الأز والهز والاستفزاز كلها تفيد التحريك والتهيج والإزعاج وَفْداً جمع وافد كصحب جمع صاحب والوافد من خرج في أمر خطير أو لمقابلة ملك أو أمير وِرْداً الورد القوم يردون الماء وهم عطشى، والمراد أنهم حفاة عطاش كالإبل والورد نفس الماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 470 المعنى: ويقول- سبحانه وتعالى- عجبا لمن كفر بآيات الله يتمنى عليه الأمانى ويتألى على الله- سبحانه- قد كفروا واتخذوا من دون الله آلهة ليكونوا لهم أنصارا يوم القيامة وأعوانا، يشفعون لهم ويقربونهم زلفى إلى الله. كلا!! سيكفرون بعبادتهم، ويتخلون من كفرهم ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ «1» وَإِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ [سورة النحل آية 86] . ويجوز أن يكون المعنى كلا سيكفرون بعبادة الآلهة وينكرون ذلك ويقولون كذبا وبهتانا: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «2» ويكونون عليهم أضداد وأعداء لأنهم حصب جهنم التي فيها يعذب الكفار. لا تعجب يا محمد من أولئك الكفرة العتاة القساة المغرورين بالمال والولد، لا تعجب من فعلهم.. ألم تر أنا أرسلنا الشياطين عليهم؟ وخلينا بينهم وبينهم؟ ولو شاء ربك ما فعلوا وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ «3» إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «4» وإذا كان ذلك كذلك فلا تعجل لهم، ولا تستعجل عذابهم فليس بينك وبين عذابهم إلا أيام محصورة، وساعات معدودة، وكل آت قريب. واذكر يوم حشر المتقين وتجمعهم إلى الرحمن وافدين ويساق المجرمون إلى جهنم وردا عطاشا حفاة عراة أفرادا أو جماعات وانظر إلى تكريم المتقين حيث يحشرون وفودا مكرمة مطهرة مشرقة وإلى المجرمين وهم يساقون كالأنعام إلى الماء عطاشا حفاة وهناك يساقون إلى جهنم وبئس القرار. لا يملك أحد الشفاعة من مؤمن وكفار إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، وهم الذين عهد لهم ربهم بهذا، أما الآلهة التي يظنون أنها عزهم، وأنها ستشفع لهم فتلك أمان باطلة، وحجة واهية، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا فكيف يكونون مع غيرهم؟!!   (1) القصص الآية 63. (2) الأنعام الآية 23. (3) الإسراء الآية 64. (4) الحجر الآية 42. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 471 فرية اتخاذ الولد [سورة مريم (19) : الآيات 88 الى 95] وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً (93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95) المفردات: إِدًّا الإد والإداة الداهية والأمر الفظيع والمراد أتيتم منكرا عظيما يَتَفَطَّرْنَ يتشققن تَنْشَقُّ الْأَرْضُ تتصدع تَخِرُّ الْجِبالُ تسقط وتهد هَدًّا أى شديدا له صوت. انظر إلى نهاية السورة وقد عادت إلى نفى الولد هو المقصود الأول. المعنى: وهذه ثالثة الأثافى، وداهية الدواهي وهي قولهم إن شاء الله اتخذ ولدا، لقد جاءوا شيئا إدا، وارتكبوا جرما فظيعا تئود من حمله الجبال الرواسي، وتكاد السموات يتشققن من هوله، وتتصدع الأرض من وقعه، وتسقط الجبال سقوطا شديدا من دعواهم اتخذ الله ولدا، يقول الله. كدت أفعل ذلك بالسموات والأرض والجبال لولا حلمي وعفوي من شدة الغضب، وقيل: هذا تصور وتمثيل لاستعظام الجرم وأثره في الدين وهدمه لأركانه. وما ينبغي للرحمن ولا يصح أن يتخذ ولدا عن طريق الولادة إذ هذا يقتضى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 472 أن يكون الوالد للولد هو نفسه ولدا لوالده فكيف يكون هذا مع الله الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها؟ غير المحتاج لغيره المخالف للحوادث في كل شيء. روى البخاري عن أبى هريرة قال. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم. «يقول الله- تبارك وتعالى- كذّبنى ابن آدم، ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك، فأمّا تكذيبه إيّاى فقوله: ليس يعيدني كما بدأنى، وليس أوّل الخلق بأهون علىّ من إعادته، وأمّا شتمه إيّاى فقوله اتّخذ الله ولدا وأنا الأحد الصّمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد» . وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولدا كما قالت اليهود: عزير ابن الله، وكما قالت النصارى: المسيح ابن الله، وكما قال المشركون: الملائكة بنات الله!! وكيف يكون ذلك؟ وكل من في السموات من إنسان أو ملك يأتى الرحمن عبدا ذليلا خاضعا لقوته وجبروته وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ «1» أى: صاغرين، وهذا يتنافى مع اتخاذ الولد إذ الولد قطعة من أبيه وهو عبد صار حرا بمجرد الشراء على أن الله ليس في حاجة إلى الولد، وله من في السموات والأرض كلهم ملكا وخلقا وعبيدا، وهو العالم بكل شيء المحيط بكل كائن في الكون، القادر لا تحد قدرته بحد القائل في كتابه لقد أحصاهم جميعا، وعدهم عدا وكلهم آتيه يوم القيامة فردا خالصا مجردا من كل شيء فهل يعقل أن يكون لمثل هذا ولد؟ أو يكون معه ولد فإن الولد شريك أبيه وصنوه، وخليفته من بعده، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. وخير ما يختتم به هذا الموضوع سورة التوحيد والإخلاص قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ وانظر يا أخى إلى التوحيد الخالص البريء في الإسلام، والتوحيد الصريح الذي لم يدع شكا عند أحد سبحان من هذا كلامه!!! ختام السورة [سورة مريم (19) : الآيات 96 الى 98] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)   (1) سورة النمل آية 87. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 473 المفردات: وُدًّا محبة لُدًّا ألداء في الخصومة أشداء في الجدل بالباطل رِكْزاً صوتا خفيا. المعنى: ما مضى من الكفار، ومن أعمالهم السيئة، لا شك أنه يجعلهم مبغوضين مبعدين، أما المؤمنون العاملون الخير الصالح فسيجعل لهم الرحمن المنعم بالنعم كلها ودا ومحبة في القلوب. فإنما يسرنا القرآن بلسانك العربي حتى صار مفهوما يفهمه الخاص والعام فهو كالبحر يغترف منه كل على قدر طاقته وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «1» يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين فيعرفوا جزاء عملهم، وما أعد لهم، وتنذر به قوما ألداء أشداء في الخصومة والجدل وهم المشركون، وكل عدو للدين، فخذ حذرك واجمع أمرك، وليعلم من يأتى بعدك أن مهمة الوعظ والتبشير بالدين والإنذار به ليست مهمة سهلة هينة إنما أنت تحارب في ميادين مع قوم شهد الله لهم بأنهم ألداء أقوياء لتتذرع بالصبر، ولتتجمل بالخلق الطيب، وكن مثلا عاليا في الأدب وحسن الجدل، واستعد لهذا بتكوين نفسك علميا مع الإحاطة والفهم للبيئة التي تعيش فيها، ودراسة أحوال من تخاطبهم دراسة دقيقة. عند ذلك يمكنك أن تعرض القرآن عرضا حسنا يستفيد منه الكل. وأما القوة المادية التي هي في جانب الكفار فلا يهمك منها شيء أبدا، واعلم أن كثيرا من الأمم السابقة أهلكها ربك وكانوا أكثر من هؤلاء قوة وعددا وأكثر مالا وولدا فهل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم صوتا؟!!   (1) سورة القمر الآية 40. [ ..... ] الجزء: 2 ¦ الصفحة: 474 وفي قوله- تعالى- سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا حديث شريف عن أبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إذا أحبّ الله عبدا نادى جبريل إنّى قد أحببت فلانا فأحبّه فينادى في السّماء ثم تنزل له المحبّة في الأرض» فذلك قوله تعالى: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا وإذا أبغض الله عبدا نادى جبريل إنّى أبغضت فلانا فينادى في السّماء ثم تنزل له البغضاء في الأرض» . والمحبة التي وعدها الله المؤمنين إنما تكون في قلوب الصالحين المتقين وعند الملائكة المقربين، وإلا فالمؤمن من قد يكون مكروها من الفاسق والكافر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 475 سورة طه هي مكية وعدد آياتها خمس وثلاثون ومائة آية وهذه السورة تحدد موقف النبي صلّى الله عليه وسلم، وأنه رسول فقط، وليس عليه إلا البلاغ، والله معه لن يتركه وتلك سنته مع الأنبياء والمؤمنين فهذا موسى ومن آمن معه مع التذكير بيوم القيامة والتعرض لقصة آدم ليتعظ أبناؤه ويعرفوا موقفهم من الشيطان. القرآن ومن أنزله [سورة طه (20) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّماواتِ الْعُلى (4) الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ الثَّرى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفى (7) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8) المفردات: طه هو اسم للنبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل: اسم من أسمائه تعالى أقسم به، وقيل: أصله طأ الأرض فالهاء ضمير الأرض والهمزة من طأ خففت ألفا، وقال بعضهم في تصرفها الألف حذفت للأمر وهذه الهاء للسكت، والرأى الأول أرجح لموافقته رسم المصحف وسياق المعنى تَذْكِرَةً تذكيرا الْعُلى جمع العليا مؤنث الأرض الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى راجع تفسيرها في ج 8 ص. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 476 روى ابن إسحاق في كتب السيرة أن عمر قبل إسلامه كان شديد العداوة للإسلام وقد خرج في يوم متوشحا سيفه يريد النبي صلّى الله عليه وسلّم فلقيه نعيم بن عبد الله فقال أين تريد يا عمر؟ فقال: أريد محمدا الصابئ، الذي فرق أمر قريش وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسبب آلهتها فأقتله، فقال له نعيم: والله قد غرتك نفسك من نفسك يا عمر، أترى بنى عبد مناف تاركيك تمشى على الأرض، وقد قتلت محمدا؟! أفلا ترجع إلى أهلك فتقيم أمرهم؟! فقال: وأى أهل بيتي؟ قال: ختنك (زوج أختك) وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب فقد والله أسلما وتابعا محمدا على دينه فعليك بهما، قال: فرجع عمر عامدا إلى أخته وختنه، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها أول سورة «طه» يقرئهما إياها، فلما سمعوا صوت عمر تغيب خباب في مخدع لهما، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها، وقد سمع عمر قراءة خباب فلما دخل قال: ما هذه الهينمة- الكلام الخفى الذي لا يفهم- التي سمعت؟ قالا له أسمعت شيئا؟! قال: بل والله لقد أخبرت أنكما تابعتما محمدا على دينه. وبطش بختنه سعيد بن زيد فقامت إليه أخته فاطمة لتكفه عن زوجها فضربها فشجها فلما فعل ذلك قالت له أخته وختنه: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله فاصنع ما بدا لك، ولما رأى عمر ما صنع ندم وارعوى وقال لأخته: أعطنى هذه الصحيفة التي سمعتكم تقرأونها آنفا، أنظر ما هذا الذي جاء به محمد. فقالت له أخته: إنا نخشاك عليها، قال لها: لا تخافي وحلف لها بآلهته ليردنها إذا قرأها فلما قال ذلك طمعت في إسلامه فقالت له: يا أخى إنك نجس على شركك وإنه لا يمسها إلا الطاهر فقام عمر، واغتسل فأعطته الصحيفة وفيها «طه» فلما قرأ منها صدرا قال ما أحسن هذا الكلام وأكرمه! فلما سمع خباب خرج إليه فقال له: والله يا عمر والله إنى لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه فإنى سمعته أمس وهو يقول «اللهمّ أيّد الإسلام بأبى الحكم بن هشام أو بعمر بن الخطّاب» فالله الله يا عمر فقال له عمر، دلني يا خباب على محمد حتى آتيه، فأسلم ورضى الله عنه. المعنى: يقول الله- تبارك وتعالى-: يا طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى وتتعب، وذلك أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان شديد الحرص على إيمان قريش. وكان يلقى في سبيل هذا ألما وتعبا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 477 شديدين حتى قال بعض الكفار له، ما أنزل عليك القرآن إلا لتشقى، وقال له النضر ابن الحارث وأبو جهل بن هشام، إنك يا محمد شقي لأنك تركت دين آبائك وأجدادك، وقد كان يقوم بالليل حتى تتورم قدماه فقيل له، يا طه ما أنزل عليك القرآن لتتعب بفرط تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ أو لتتعب بكثرة العبادة. ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، ولم يكتب عليك أن تحملهم على الإيمان فالقرآن ما نزل إلا تذكرة وموعظة لمن يخشى ومن هنا تعرف السر في فساد بعض القلوب، وأنها لا تتذكر بالقرآن، السر هو أن عنصر الخشية مفقود عندهم، الخشية من الله ومن حسابه، والخوف من الضمير ومن تأنيبه والمجتمع الإنساني ولومه، فالقرآن تذكرة وشفاء وهدى ونور لمن يخشى الله من الناس، ومن له قلب فيه شيء من الخوف. أما النفوس الميتة، والقلوب التي هي كالحجارة أو أشد قسوة فأصحابها صم بكم لا يعقلون!! هذا هو القرآن الكريم. أما صاحبه والذي أنزله فهذا خبره. ونزلناه تنزيلا ممن خلق الأرض والسموات العلى، فهو المقتدر الحكيم الخبير والعليم البصير.. هو الرحمن المنعم بجلائل النعم ودقائقها، على العرش استوى والله- سبحانه وتعالى- ليس بجسم ولا يشبه شيئا من الحوادث فاستواؤه على العرش نؤمن به على أنه بلا كيف ولا انحصار، وهذا رأى السلف وهو قبول ما جاء في تلك من الكتاب والسنة كقوله تعالى يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [سورة الفتح آية 10] من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل. أما الخلف فقالوا هذا كلام ليس على حقيقته بل هو مؤول، المراد بالاستواء الاستيلاء والقهر والتصرف الكامل، والعرش هو الملك، لله ما في السموات والأرض وما بينها وما تحت الثرى مما لا تراه العيون، له كل ذلك مما نعلم، ومما نعلم ملكا وخلقا وتصريفا- سبحانه وتعالى-، وهو عالم الغيب والشهادة المحيط بكل شيء الذي يستوي عنده الجهر بالقول والإسرار به، بل هو يعلم السر ما هو أخفى منه مما لم تحدث نفسك به، اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى التي تدل على كمال التقديس وتمام التنزيه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 478 ترى أنه وصف صاحب القرآن ومنزله- سبحانه وتعالى- على عبده ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم بأنه خلق الأرض والسموات العلى، وأنه الرحمن صاحب النعم، وأنه استوى على العرش وصاحب التصريف في الكون، وأنه له ما في السموات وما في الأرض، وما بينهما وما تحت الثرى، وأنه العالم بكل شيء سواء عنده السر والجهر، وأنه الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى- تبارك وتعالى-. فهل يعقل بعد ذلك أن يدعى محمد- وهو المخلوق الضعيف- على الله الموصوف بهذه الصفات هذا القرآن؟!! وهل يعقل بعد هذا ألا ينصر الله رسوله ويؤيده ويعصمه من الناس؟!! أبعد هذا يعقل أن يتخذ إنسان صنما من حجر أو خشب شريكا لهذا الباري الموصوف بهذه الصفات. لذلك كله بادر عمر بن الخطاب لما أراد الله له الخير- إلى الإسلام- وجاهر به، وأصبح الساعد القوى المجاهر بالدعوة، الفاهم لها المستميت في الدفاع عنها- رضى الله عنه- وعن أصحاب رسول الله أجمعين. قصة موسى مع فرعون وبنى إسرائيل قصة من القصص المهمة التي كثر ذكرها في القرآن في عدة سور ومواضع فيه، وهي إلى حد تشبه السيرة النبوية في كثير من مراحلها، لذلك عنى القرآن بها وما ذكر هنا في قصة موسى مناسب لما قبله إذ انتهى السياق أولا إلى التوحيد اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وقد أبانت القصة في أول أمرها التوحيد الكامل حيث خوطب النبي موسى بقوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وهذا يفيد أن التوحيد أمر مستمر فيما بين الأنبياء يتلقونه كابرا عن كابر، وأنت ترى أن رسالة موسى بدأت به وختمت كذلك إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ. ولعلك تدرك بعض السر في اختلاف القصة الواحدة في القرآن لأنها تساق في كل موضع بما يناسبه بدءا ونهاية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 479 ويحسن بمن يريد أن يلم بقصة موسى- عليه السلام- إلماما مرتبا على حسب الطبيعة والواقع أن يقرأ كتاب قصص الأنبياء للشيخ النجار، وغيره من الكتب التي كتبت في سيدنا موسى- عليه السلام-، ونحن هنا مقيدون بشرح القرآن على ترتيبه الإلهى الذي لا يعلم سره إلا الله. والقصة هنا عالجت موضوعات وعناصر أهمها ما يأتى: موسى بالوادي المقدس بعد قضائه الأجل في مدين، بعثته وما طلبه من ربه، بعض الألطاف التي صادفت موسى، دعوة موسى لفرعون، ومحاجته له، موسى والسحرة التي جمعها فرعون، خروج بنى إسرائيل من مصر وطلب فرعون لهم، اتخاذ بنى إسرائيل العجل إلها يعبدونه. موسى بالوادي المقدس [سورة طه (20) : الآيات 9 الى 16] وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَاتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 480 المفردات: امْكُثُوا أقيموا في مكانكم آنَسْتُ ناراً أبصرت نارا والإيناس الإبصار البين الذي لا لبس فيه ومنه إنسان العين لأنه يبصر الأشياء ويتبينها بِقَبَسٍ القبس النار المقتبسة الْمُقَدَّسِ المطهر طُوىً اسم الوادي أُخْفِيها من الأضداد أى أكاد أظهرهما أو أسترهما فهي تدل على معنيين متضادين فَتَرْدى فتهلك. المعنى: فلما قضى موسى الأجل الذي ضربه بينه وبين صهره الشيخ الكبير بمدين قيل: هو شعيب وقيل: غيره والله أعلم. فلما قضى الأجل واستأذن في السفر إلى مصر خرج هو وامرأته وغنمه فلما وافى وادي طوى، وهو بالجانب الغربي من الطور ولد له في ليلة باردة مظلمة شاتية، وقد ضل الطريق، فأراد نارا ليدفئ بها امرأته التي ولدت فقدح زنده فلم يخرج نارا فبينما هو في أشد الحاجة إلى النار أبصر على يسار الطريق من جانب الطور نارا فقال لأهله: امكثوا وأقيموا في مكانكم لا تبرحوه إنى آنست نارا: وأبصرت ما يؤنسنا على سبيل الجزم، وأما إتيان قبس منها أو وجدان هداية للطريق عندها فأمر مشكوك فيه ولذا قال. لعلى آتيكم منها بشعلة من النار المقتبسة منها، أو أجد على النار هاديا يهديني إلى الطريق الحق الموصل إلى ما نريد. فلما أتاها وجدها نارا بيضاء صافية، مشتعلة في شجرة خضراء يانعة، أنكرها وتوجس خيفة منها، فلما أتاها بهذا الشكل نودي من قبل الرب- سبحانه وتعالى-: إنى أنا ربك. ولعل نداءه عند النار بعيدا عن أهله وماله، وقد ضل الطريق المألوف للناس إشارة إلى ما يجب أن يكون عليه الأنبياء والدعاة إلى الله من تجردهم من الدنيا وأهلها وتنكبهم الطرق المألوفة عندهم. ونودي من قبل الله أن يا موسى فارتاع لهذا النداء وشك في مصدره. فقال الله له على سبيل التوكيد. إنى أنا ربك الذي خلقك وسواك وعدلك، ورباك في بيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 481 عدوك ولحظك بعنايته ورعايته إلى هذا الوقت فاخلع نعليك احتراما وتقديسا، وإجلالا وتعظيما إنك بالوادي المقدس المطهر الذي يقال له طوى. وأنا اخترتك يا موسى، واصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي، فاستمع إلى كل ما يوحى إليك، وخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين. إننى أنا الله لا إله إلا أنا، ولا معبود بحق سواي، فاعبدني مخلصا لوجهي، وأقم الصلاة لتذكرني بها، أو لأذكرك في علين بها، واعلم أن الساعة آتية لا محالة، أكاد أخفيها فلا أقول هي آتية لفرط إرادتى خفاءها، ولا ما في الإخبار بإتيانها- مع تعميمه وقتها- من المصلحة لما أخبرت به، وهذا معنى جميل، ذكره الزمخشري والقرطبي وغيرهما، ويؤيده أن كل لفظ في الآية أدى معناه الموضوع له. قال اللغويون: «كدت أفعل» معناه عند العرب قاربت الفعل ولم أفعل، «وما كدت أفعل» معناه فعلت بعد إبطاء. وعلى هذا فمعنى الآية إن الساعة آتية لا شك فيها وقاربت أن أخفيها ولكني لم أفعل لقولي سابقا إنها آتية، فهي آتية في وقت الله أعلم به، والله أخفى الساعة أى: القيامة، والساعة التي يموت فيها الإنسان، ليعمل الإنسان بجد ولا يؤخر التوبة لحظة، ودائما يترقب الموت في كل لحظة، ولو عرف الإنسان الساعة لوقفت الحياة وما عمرت الدنيا. وبعضهم يرى أن المعنى: إن الساعة آتية أكاد أظهرها وقوله: لتجزى كل نفس بما عملت متعلق بآتية، ويؤيد هذا قراءة أخفيها واللغة لا تمنع، ذلك وهناك من يرى أن الآية هكذا، إن الساعة آتية أكاد بمعنى أن الساعة آتية أكاد آتى بها ثم يبدأ كلاما جديدا بقوله أخفيها وأكتمها لتجزى كل نفس بما تسعى، وهذا المعنى حسن وليس فيه إلا حذف خبر «أكاد» وله نظير في كلام العرب، قال الضابئ البرجمي: هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... تركت على عثمان تبكى حلائله فالشاعر العربي حذف أى: وكدت أفعل، ولكني لم أفعل، وعثمان هو عثمان بن عفان الخليفة الثالث- رضى الله عنه-. فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها ولا يمنعك من الإيمان بها والتصديق لها من لا يؤمن بها، واتبع هواه، إنك إن فعلت ذلك تهلك، وفي هذه إشارة إلى أن كل داعية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 482 للخير لا بد من وجود من يعوقه ويكفر به وبرسالته، ويعمل على إخفاء نوره ولكن لا يعوقه ذلك، والله متم نوره ولو كره المبطلون. بعثة موسى- عليه السلام- وما طلبه من ربه [سورة طه (20) : الآيات 17 الى 35] وَما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَأَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَلِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35) المفردات: أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها التوكؤ التحامل على شيء، وهو بمعنى الاتكاء والمراد أعتمد عليها وَأَهُشُّ يقال هش الورق يهشه إذا خبطه ليسقط والمراد أسقط بها الورق على غنمي لتأكل مَآرِبُ جميع مأربة وهي الحاجة جَناحِكَ جنبك طَغى جاوز الجزء: 2 ¦ الصفحة: 483 الحد عُقْدَةً مِنْ لِسانِي العقدة اللكنة في اللسان وَزِيراً مأخوذ من الوزر لأن الوزير ملجأ الرئيس ومستشاره في الرأى أو من الوزير لأنه يحمل عن الرئيس بعض العبء أو من المآزرة لأنه يعينه في الحكم أَزْرِي أى: قوتي والمراد قوتي به. المعنى: قد أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالوادي المقدس طوى وقال إنى أنا ربك إلخ الآية ثم قال له: وما تلك بيمينك يا موسى؟ ما هذه التي بيمينك يا موسى؟ سأله عما في يمينه- وهو العالم بكل شيء- ليلفت نظره إلى العصا وحقيقتها، ليدرك عظمة الله وقوته حيث يقلبها إلى حية تسعى!! وفي هذا تربية لموسى حتى لا يستبعد على الله شيئا بعد ذلك. قال موسى مجيبا لربه مطنبا في كلامه لأن المقام يقتضى من التطويل- ليتلذذ بخطاب الرب- سبحانه وتعالى-: هي عصاي ثم أخذ يسرد بعض منافعها فقال: أعتمد عليها في سيرى، وأسقط الورق بها على غنمي، ولي بعد ذلك مآرب وحوائج أخرى فيها، وللعصا وفوائدها عقدت فصول في الأدب العربي ممتعة كالذي عقد في البيان والتبيين للجاحظ وغيره. قال الله له: ألقها يا موسى فألقاها فإذا هي حية تسعى على الأرض، وثعبان يلتهم الحجارة وكل شيء، وكأنها جان من شدة الحركة وسرعة المشي. ولما رأى موسى ذلك الأمر العجيب الهائل ملكه الفزع، وتولاه ما يملك البشر من الخوف والجزع قال له ربه: يا موسى، أقبل عليها ولا تخف سنعيدها سيرتها الأولى فأخذها ووضع يده بين فكيها فعادت كما كانت، والله على كل شيء قدير. واضمم يا موسى يدك إلى جنبك. أدخل يدك فيه تخرج بيضاء كالشمس من غير برص بها- وكان- عليه السلام- رجلا جعدا طوالا- فأدخل موسى يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء كالثلج ثم ردها في جيبه فعادت كما كانت على لونها. فذلك برهانان من ربك لتعلم بهما قدرة الله وتصريفه للأمور، فعلنا هذا لنريك الآية الكبرى حالة كونها من آياتنا. وهل الآية الكبرى هي العصا أو اليد؟ قولان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 484 والظاهر والله أعلم أنها اليد لأن العصا انقلابها حية كانت تشبه السحر، وحاول السحرة إبطالها، وأما اليد فلم يحاول أحد إبطالها ومعارضتها. بعد هذا اذهب إلى فرعون إنه طغى، وجاوز الحد في الإشراك بالله وتعذيب بنى إسرائيل. قال موسى وقد صدع بالأمر: رب اشرح لي صدري، افتح لي قلبي حتى أكون حليما صبورا حمولا، يستقبل ما عساه يرد عليه من الشدائد بصدر رحب، وقلب ثابت. ويسر لي أمرى الذي أردته لي حتى يكون سهلا، لا صعوبة فيه تعوقنى، ولا شدة فيه تؤودنى. واحلل عقدة من لساني، وقد كان في لسانه رثّة لما روى أنه نتف شعرة من ذقن فرعون وهو صغير فغضب، وتوجس منه شرا فقالت امرأته: إنه صغير لا يدرى شيئا فأتت له بجمرة وبلحة فوضع الجمرة على لسانه فكان فيه رتة ولكنة. ويقول الشيخ النجار، إنه يحتمل أن تكون اللكنة ناشئة من عدم رضاعته وهو صغير مدة أثرت عليه، وتلك عادة معروفة في الأطفال أو أن موسى حينما مكث في مدين عشر سنين تغير لسانه ونسى لهجة المصريين فطلب أن يكون معه هارون ليترجم له ويساعده على التفاهم، وكان لسان هارون مصريا لمخالطته المصريين وعبريا لأنه إسرائيلى فيمكنه التفاهم مع موسى بطلاقة، ومع المصريين كذلك. واجعل لي وزيرا من أهلى هارون أخى، اشدد به أزرى، وأشركه في أمرى ليتحمل معى تلك الأمانة كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً. بعض الألطاف التي صادفت موسى [سورة طه (20) : الآيات 36 الى 41] قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 485 المفردات: سُؤْلَكَ مسئولك أى: مطلوبك مَنَنَّا المن: الإحسان والإفضال التَّابُوتِ صندوق من الخشب فَاقْذِفِيهِ فألقيه واطرحيه فِي الْيَمِّ البحر والمراد نهر النيل وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي ولتربى وأنا مراعيك ومراقبك فُتُوناً اختبرناك اختبارا حتى تصلح للنبوة والرسالة عَلى قَدَرٍ على وعد وأمر مقتضى به وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اصطنعتك لوحيي ورسالتي وَلا تَنِيا تضعفا في أمر الرسالة، والونى: الضعف والفتور والكلال والإعياء. مر ببني إسرائيل فترة عصيبة، وهم في مصر تحت حكم فرعون، فأخذ يقتل أبناءهم ويستحي نساءهم، ويذيقهم العذاب ألوانا. في أثناء تلك العاصفة الهوجاء ولد لرجل من بنى إسرائيل يقال له عمران من زوجته (يوكابد) ولد فلما ولدته خبأته عن عيون من يطلبه من أعوان فرعون وجنوده لقتله فمكث عندها ثلاثة أشهر فلما خافت افتضاح أمرها أعلمها الله وعلمها عن طريق الوحى بنبي، أو ملك، أو إلهام أن تصنع له ما يشبه الصندوق وتطليه بالزفت والقطران، وتلقيه في اليم ففعلت، ووكلت لأخته مريم أن تتبع أثره، وتعلم خبره. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 486 وكان الله- تعالى- قد أعلمها أنه راده إليها، وجاعله من المرسلين فلم تزل أخته تراقبه حتى علمت أنه التقط وأدخل دار فرعون، وأن عين زوجة فرعون، قد وقعت عليه فألقى الله عليها محبته. فأحبته ليكون قرة عينها وعين فرعون، راجية أن ينفعها أو يتخذاه ولدا، وهذا تدبير من الله لموسى وأمه لأنه سيعود إليها لتكون مرضعته وتتقاضى على ذلك أجرا وهي آمنة مطمئنة. يا سبحان الله ينشأ موسى في بيت فرعون عدوه وعدو ربه!! وكانت عناية الله تلحظه فلم يقبل ثدي امرأة أبدا إلا ثدي أمه. وسيأتى في سورة القصص مزيد بيان لهذا: وإنما ذكرها ها هنا باختصار على أنه من نعم الله على موسى. المعنى: لما سأل موسى ربه أن يشرح له صدره، وييسر له أمره وأجاب سؤله وأتاه طلبته (مطلوبه) ومرغوبه أخذ يسرد ما من به على موسى فقال: ولقد مننا عليك وأحسنا مرة أخرى إذ أوحينا إلى أمك، وألهمناها أمرا لا سبيل إليه إلا بالوحي إذ فيه مصلحة دينية توجب أن يعتنى به فهو أمر عظيم جدير بأن يوحى به من الله. أوحينا إليها أن تصنع صندوقا محكما، وتضع فيه موسى، وأن تقذفه وتلقيه في نهر النيل، ولما كانت إرادة الله حاصلة صار كأن اليم يعقل وقد أمره الله بأن يلقيه إلى الساحل الذي فيه فرعون وامرأته، فبينما هو جالس على رأس بركة بالساحل إذ بالصندوق فأمر به فأخرج ففتح فإذا صبي أصبح الناس وجها، فأحبه عدو الله حبا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه هو وزوجته، وذلك معنى قوله: وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أى: أحبه الله وحببه إلى خلقه وبالأخص فرعون وزوجته آسية. ولتربى ويحسن إليك وأنا مراعيك ومراقبك كما يرعى الرجل الشيء العزيز لديه بعينه إذ تمشى أختك في أثرك فتراك قد امتنعت عن المرضعات كلها. فتقول لهم في ثوب الناصح: أفلا أدلكم على مرضع له فيقول لها: هاتها فأحضرت له أمه فأرضعته، وهذا معنى قوله تعالى: فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 487 وكان موسى وهو فتى ابن اثنتي عشرة سنة وقد امتلأ قلبه غيظا وحنقا على معاملة المصريين لبني إسرائيل، رأى رجلا مصريا يقتتل مع إسرائيلى فاستغاثه الذي من شيعته على الذي هو من عدوه فوكزه موسى وضربه فقضى عليه وقتله، فلما علم فرعون بذلك أراد قتل موسى في المصرى فأخبره رجل مؤمن من آل فرعون بذلك، ففر هاربا لا يلوى على شيء حتى وصل إلى مدين، وأقام هناك عشر سنين، وهذا معنى قوله تعالى وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ قتلت نفسا فنجاك الله من الغم في الآخرة بالتوبة والندم وفي الدنيا بالفرار إلى مدين فنجوت من الحبس والقتل والتعذيب وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً اختبرناك اختبارات حتى صلحت للقيام بالرسالة ولا غرابة فأنت تصنع وتخلق لهذا، وتربى وتنشأ لتحمل الرسالة لبني إسرائيل. فلبثت سنين في أهل مدين هي عشرة وقيل أكثر. ثم جئت على قدر يا موسى، ثم جئت على وعد وزمن محدد قد قدره الله وقضاه فلم تتقدم لحظة ولم تتأخر، وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ [سورة الرعد آية 8] . اصطنعتك لنفسي، واخترتك لوحيي ورسالتي، وعلى هذا اذهب أنت وأخوك بآياتى، ولا تضعفا في ذكرى فإنى معكما أسمع وأرى. دعوة موسى لفرعون، ومحاجته له [سورة طه (20) : الآيات 42 الى 56] اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44) قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49) قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى (52) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَسَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَفِيها نُعِيدُكُمْ وَمِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55) وَلَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَأَبى (56) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 488 المفردات: لَيِّناً سهلا لا خشونة فيه ولا شدة يَفْرُطَ عَلَيْنا أى: يعالجنا بالعقوبة ويعاملنا معاملة المتقدم في الذنب، والمادة تدل على التقدم والإسراف ولذا قيل اليوم السابق فارط، ولمن أسرف فرط وأفرط خَلْقَهُ صورته وشكله فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى فما حالها وما شأنها؟ لا يَضِلُّ لا يخطئ مَهْداً كالفراش في الشكل و المعنى لِأُولِي النُّهى لأولى العقل. موسى وهارون- عليهما السلام- أرسلا إلى قومهما بني إسرائيل قصدا وإلى فرعون وملئه تبعا ليخلصا بني إسرائيل من حكم فرعون وظلمه، ويدخلوهم في شريعة الحق- سبحانه وتعالى-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 489 المعنى: اذهب يا موسى أنت وأخوك إلى فرعون وملئه إنه طغى وجاوز الحد المعقول في الشرك بالله، وتعذيب بني إسرائيل: اذهبا إليه فقولا له قولا لينا لا خشونة فيه، وجادلاه بالتي هي أحسن فهو رجل مغرور كافر معاند لعله يتذكر أو يخشى. قالا: يا ربنا، إننا نخاف أن يفرط علينا، ويبادرنا بالعقوبة ويطغى، والخوف من الظالم الجبار لا ينافي التوكل على الواحد القهار، والأخذ بالأسباب والمسالك، على أن الخوف من طبيعة البشر. قال الله لهما: لا تخافا من شيء إننى معكما أسمع كل شيء يسمع، وأبصر كل شيء يبصر، وأرى كل شيء يرى، نهاهما الله عن الخوف من فرعون لأنه معهما بالمعونة والنصر وهو يعلم بكل ما يحصل لهما، وليس بغافل عنهما. ثم أمرهما بإتيانه الذي هو عبارة عن الوصول إليه بعد أمرهما بالذهاب إليه فلا تكرار. فقولا له: إنا رسولا ربك أرسلنا إليك، فأتياه وقالا له ذلك، وأمرهما أن يقولا: فأرسل معنا بني إسرائيل، ولا تحجزهم وخل عنهم، ولا تعذبهم، وقد كانوا في عذاب أليم، وتعب شديد كما مضى، وقد جئناك يا فرعون بآية دالة على صدقنا، وقيل إن فرعون قال: ما هي؟ فأدخل موسى يده في جيبه ثم أخرجها بيضاء، لها شعاع مثل شعاع الشمس، فعجب منها، ولم يره العصا إلا يوم الزينة. والسلام من سخط الله وعذابه حاصل لمن اتبع الهدى وليس تحية لأن المقام ليس مقام تحية. ولما فرغ موسى مما قال- وذكر لفرعون أنه يريد إطلاق بني إسرائيل ليعبدوا ربهم في البرية، وفرعون ملك جبار تدين له الأمة المصرية وتذعن لقداسته، وقد رأى من موسى أمرا لا يقره ولا يرضاه حيث قال له: إنا رسولا ربك فأرسل معنا بني إسرائيل وهو يقول للناس أنا ربكم الأعلى، ويستذل الإسرائيليين ويستعبدهم في أغراضه- أخذ يجادل موسى ويحاجه. ولما علم موسى وهارون عدم إيمانه، وتماديه في الباطل قالا له: إنا قد أوحى إلينا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 490 من ربنا أن العذاب والنكال، والهلاك والدمار في الدنيا والآخرة واقع لا محال على من كذب وتولى، وكذب بالوحدانية وأعرض عن رسول الله ولم يصدقه. وكان في جداله يقول: فمن ربكما يا موسى؟ قالا: ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه وصورته وشكله، الذي يناسب المنفعة المطلوبة منه كاليد للبطش والرجل للسير والعين للنظر، والثدي واختلاف شكله وعدده للرضاع وهكذا. ثم هدى كل نفس لما يطلب منها، وما توفق إليه. قال فرعون: فما بال القرون الأولى؟ التي انقرضت قبلكما ولم يقروا بالوحدانية. أجابا: إنها في علم الغيب، والله وحده يعلم ما عملوا وجزاءهم، وهم في كتاب محفوظ، لا يطلع عليه أحد. والله لا يضل أبدا ولا يخطئ أبدا، ولا ينسى أبدا- سبحانه وتعالى-، وهو الذي جعل لكم الأرض مهادا، وسلكها سبلا فجاجا، وجعلها كالفراش المبسوط وهي في الواقع كالكرة المكورة. وأنزل من السماء ماء فأخرج به أزواجا وضروبا من نبات مختلفة. كلوا وارعوا أنعامكم، وتمتعوا بخيراتكم إن في ذلك لآيات لأولى النهى. من الأرض خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم مرة أخرى للثواب والعقاب تراه وصف الرب- سبحانه وتعالى- بما يقطع حجة فرعون، ويرد كيده في نحره، ويملأ قلبه خوفا من عالم الغيب، وفيه تذكير له بأصله وأنه من تراب عائد إليه، فلا يغتر بدنياه وملكه، وليعلم أن وراءه يوما لا ينفع فيه مال ولا بنون، وتلك آيات بينات ولكنها لأولى النهى، إنما يتذكر من يخشى.. ولقد أرينا فرعون آياتنا كلها وبصرناه بها، ولكنه كذب وأبى عنادا واستكبارا وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا «1» لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بَصائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً «2» .   (1) سورة النمل الآية 14. (2) سورة الإسراء الآية 102. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 491 موسى والسحرة الذين جمعهم فرعون [سورة طه (20) : الآيات 57 الى 76] قالَ أَجِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60) قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَقَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَيَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَأَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَمُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 492 المفردات: سُوىً مستويا ووسطا وعدلا بيننا يَوْمُ الزِّينَةِ المراد يوم يتزينون فيه بأفخر اللباس ويجتمعون فيه كأنه عيد ويظهر أنه يوم وفاء النيل كَيْدَهُ ما يكيد به وَيْلَكُمْ هلاككم فَيُسْحِتَكُمْ فيبيدكم بعذاب فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ تشاوروا وتجاذبوا أطراف الحديث النَّجْوى ما يتناجون به سرا بِطَرِيقَتِكُمُ بمذهبكم وقيل بأشرافكم وسادتكم فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ أحكموا أمركم واعزموا عزما أكيدا صَفًّا مصطفين اسْتَعْلى غلب فَأَوْجَسَ أحس وأضمر تَلْقَفْ تلتهم وتأكل بسرعة لَكَبِيرُكُمُ لأستاذكم ومعلمكم فِي جُذُوعِ النَّخْلِ على جذوعها لَنْ نُؤْثِرَكَ لن نختارك تَزَكَّى تطهر من دنس الشرك والمعاصي. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 493 المعنى: ولقد أرينا فرعون المعجزات الدالة على صدق موسى في رسالته، وأريناه حجج الله الدالة على توحيده ونفى الشركاء له فكذب وعصى، وأبى ذلك وأعرض قائلا: أجئتنا يا موسى مدعيا الرسالة لربك لتخرجنا من أرضنا بسحرك وحيلتك، جئت يا موسى بآية توهم الناس أنك صادق لتتغلب علينا وتخرجنا من أرضنا وتزيل ملكنا، وتجعله لنفسك، وانظر إلى فرعون وهو يحرض الناس على عصيان موسى ومخالفته، ومن خلال كلامه نفهم أنه كان واثقا أن موسى على الحق، وأن النصر في النهاية له، وقوله بسحرك تعليل مزيف لتغطية الموقف. وإذا كان الأمر للسحر فلنأتينك بسحر مثله، فاجعل بيننا وبينك موعدا تحدده زمانا ومكانا، لا نخلفه نحن ولا أنت، اجعل مكانا مستويا وسطا بيننا وبينك حتى لا يكون عذر في التخلف. قال موسى: موعدكم يوم الزينة يوم الاحتفال بوفاء النيل وكان عيدا من أعيادهم القومية، يجتمع الناس فيه من كل حدب وصوب مع السحرة المهرة في المملكة كلها ولعل اختيار هذا الموعد الذي يجتمع فيه الناس اجتماعا كاملا والوقت ضحى، وفيه اتساع للمساجلة والمناقشة والحكم ليكون علو كلمة الله وإظهار دينه على ملأ من الناس كثير، ويكون الحكم على رؤوس الأشهاد في وسط النهار فلا سبيل للإنكار، وليحدث به كل الناس صغيرهم، وكبيرهم. وقد كان ذلك. فتولى فرعون، وانصرف من ذلك المقام ليهيّئ ما يحتاج إليه، وليشرف بنفسه على الاستعداد لذلك اليوم الخطير، فتولى فرعون فجمع كيده وحيله، وجمع المهرة من السحرة وأتوا مدلين بأنفسهم واثقين من سحرهم طالبين الأجر على ذلك أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ «1» وعدهم فرعون بالجزاء المادي والأدبى ليفرغوا طاقتهم وليعملوا جهدهم في التغلب على موسى. فلما حضروا قال لهم موسى: وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً الهلاك لكم إن اختلقتم على الله كذبا وزورا، إنكم إن فعلتم ذلك فسيسحتكم بعذاب من عنده وسيستأصلكم ويقطع دابركم، وقد خاب وهلك من افترى على الله أو على رسوله كذبا.   (1) سورة الشعراء الآيتان 41 و 42. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 494 فلما سمعوا هذا من موسى أخذوا يتجاذبون أطراف الحديث، ويتشاورون فيما بينهم، وأسروا نجواهم قائلين: إن غلبنا فسنتبعه، وقيل إنهم لما سمعوا من موسى قوله: وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً وأسروا فيما بينهم بأن هذا ليس بساحر أبدا. وقيل كانت نجواهم هي قولهم إن هذان لساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما، ويذهبا بطريقتكم ومذهبكم الأمثل الحسن، وقيل يذهب بأشراف قومكم ويهلكهم. فأجمعوا كيدكم غدا، وأحكموا أمركم واعزموا عليه ثم ائتوا مصطفين فذلك أدعى إلى تربية المهابة في نفوس النظارة، وقد أفلح اليوم من استعلى وغلب خصمه، وكانت له المكانة إلى الأبد. فلما التقى الصفان، واجتمع الطرفان قالوا. يا موسى إما أن تلقى أوّلا، وإما أن نكون نحن الملقين أوّلا. قال موسى. بل ألقوا أنتم أولا، أشار بهذا ليفرغوا جهدهم أولا، ويلقوا بكل أسلحتهم، فلما ألقوا إذا حبالهم وعصيهم يخيل إلى موسى من سحرهم أنها تسعى، وذلك أنهم وضعوا فيها مادة الزئبق التي إذا أحست بالحرارة تحركت واضطربت. في تلك اللحظة ابتهج فرعون وجنوده وعلية القوم، وأيقنوا أنهم نجحوا، وأن السحرة قد فازوا على خصمهم موسى وهارون، وأنه لا يمكنه أن يأتى بشيء أعظم من سحرهم إذ كل ما في يده عصاه فإذا قلبت حية فهي حية واحدة بين آلاف الحيات. وفي تلك اللحظة الفاصلة هال موسى ما رأى، وأوجس في نفسه خيفة مما حصل، ودار بذهنه فيما عسى أن يكون لو لم يبعث الله له نصر السماء. ولكن الله- سبحانه وتعالى- العليم الخبير القوى القادر الذي لا يترك عباده المخلصين وحدهم بل هو معهم وقد قال لهما: إِنَّنِي مَعَكُما أَسْمَعُ وَأَرى. وفي هذه اللحظة أمره ربه أن يلقى عصاه التي هي بيمينه فإذا هي حية تسعى ولكنها ليست كحيات السحرة بل أخذت تبتلع حياتهم كلها وتلتهمها بسرعة وخفة. والله أكبر ظهر الحق وبطل السحر، وجاء الحق وزهق الباطل ودهش آل فرعون والملأ من قومه بل وكل الناس وعلم السحرة- وهم أدرى الناس بالسحر وطاقته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 495 - أن السحر لا يفعل هذا أبدا وإنما هي القوة الإلهية صنعت هذه المعجزة، فخروا لله ساجدين، وآمنوا برب العالمين، رب موسى وهارون مفضلين ذلك على الأجر الدنيوي مؤثرين الحق على الباطل، والباقية على الفانية!! ماذا يفعل فرعون؟ إنه لموقف جد خطير قد جمع الناس جميعا وجمع السحرة من كل مكان، وقد أفهم الشعب الذي يقدسه أن نهاية موسى وهارون في ضحى الغد، يوم يجتمع الناس في وفاء النيل. ولم يعد موسى وهارون وحدهما بل صار معهما السحرة والعلماء في قومه!! فلا بد أن يختصم الجميع، ويتهم الكل، وإن كان مخالفا للعقل والمنطق. فقال للسحرة سترا لموقفه: إنه لكبيركم وأستاذكم الذي علمكم السحر ولهو أقوى منكم، وغلب سحره سحركم، وهو يريد بهذا أن يخرج المسألة عن نطاق المعجزة الإلهية إلى دائرة سحر السحرة. قال هذا مع علمه أن موسى رحل إلى مدين صغيرا، وعاد منها قريبا، ولم يتصل بالسحرة مطلقا فضلا عن كونه أستاذهم، ولكنه المقهور المغلوب يلتمس لنفسه العذر وإن كان لا يغنى شيئا. ثم أخذ يتجنى عليهم ويؤنبهم بقوله: آمنتم به قبل أن آذن لكم، فهم أذنبوا حيث لم يستأذنوا، وهو لهذا أقسم ليقطعن أيديهم وأرجلهم من خلاف، وليصلبنهم على جذوع النخل، ولتعلمن أيها السحرة أينا أشد عذابا وأقوى؟ وهو إذ يضع نفسه في كفة وموسى في كفة أخرى إنما يستهزئ ويفتخر. هذا هو فرعون مصر، وذلك بطشه الشديد، وتهديده الكثير، أما الإيمان العميق المبنى على الفهم الدقيق فقد جعل السحرة يقولون: لن نؤثرك يا فرعون ونختارك على ما جاءنا من البينات والهدى لن نفضل نعمتك على ما هدانا الله إليه والذي فطرنا وخلقنا فاقض بما تشاء واحكم بما تريد، إنما تقضى وتحكم في هذه الحياة الدنيا، ولن تنال إلا من جسمنا الفاني تقطع منه أو تقتله أما الإيمان واليقين فذلك شيء لن تنال منه. وذلك إنا آمنا بربنا وصدقنا برسالة نبينا رجاء أن يغفر لنا خطايانا، وما أكرهتنا عليه من السحر، والله- سبحانه- خير وأبقى، والدار الآخرة للذين يتقون، وكيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 496 لا يكون ذلك؟ إنه من يأت ربه مذنبا فله جهنم خالدا فيها لا يموت ولا يحيا، ومن يأته مؤمنا قد عمل الصالح من الأعمال فاؤلئك لهم الدرجات العليا، ولهم جنات عدن تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك جزاء من تزكى وتطهر من دنس المعاصي والآثام. خروج بني إسرائيل من مصر، ورحيل فرعون لطلبهم [سورة طه (20) : الآيات 77 الى 82] وَلَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَلا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى (79) يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَواعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82) المفردات: يَبَساً لا طين فيه ولا ماء دَرَكاً إدراكا ولحوقا بهم فَأَتْبَعَهُمْ يقال أتبعهم إذا تبعتهم وإذا سبقوك فلحقتهم الْمَنَّ وَالسَّلْوى تقدم تفسيرهما في سورة البقرة جزء أول يَحْلِلْ يجب هَوى سقط في الهاوية. المعنى: أذن الله- سبحانه وتعالى- لموسى أن يخرج من تحت حكم فرعون، وأن ينقذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 497 بنى إسرائيل من عذاب المصريين، فأوحى إليه بأن أسر بعبادي ليلا حتى لا يراك فرعون وجنده، فذهبوا حتى وصلوا شاطئ البحر الأحمر الغربي من جهة (السويس) فأمره الله بأن اضرب بعصاك البحر! فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم، وأصبح لهم عدة طرق بقدر أسباطهم الاثنى عشر، وسار الطريق وسط الماء يابسا لا طين فيه ولا ماء. فاجعل لهم طريقا في البحر يابسا غير خائفين إدراك فرعون لهم، ولا أنت تخشى لحوقه لكم. أما فرعون فلما علم بخروجهم من مصر وكانوا يسكنون في إقليم الشرقية، أرسل في المدائن يجمع الجند للحاق بهم وإدراكهم قائلا: إن هؤلاء لشرذمة قليلون، وإنهم لنا لغائظون، فلحقهم فرعون ومعه جنده وهم يعبرون البحر، وقد جعل الله لهم طرقا فيه. فلما أبصر فرعون تلك الطرق سار فيها ظنا منه أنها طرق عامة له أن يسير فيها، فلما احتواه البحر ونجا موسى ومعه بنو إسرائيل غشيهم من اليم ما غشيهم، وأصابهم من الهول والخوف والغرق ما أصابهم فكان كالغطاء لهم، حتى إذا أدركه الغرق قال: آمنت بالذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين، ولكن هيهات له ذلك، وقد أضل فرعون قومه وما هداهم إلى خير أبدا بل كان هو الداعية للشر كله، وما كان مخلصا في إيمانه هذا، فلما نجا بنو إسرائيل، وغرق فرعون وجنده على مرأى منهم، وكان ذلك من النعم عليهم أخذ يعدد نعمه فقال: يا بنى إسرائيل: قد أنجيناكم من عدوكم، وواعدناكم جانب الطور الأيمن، بمعنى: وأمرنا موسى أن يأمركم بالخروج معه لنكلمه وأنتم حضور فتسمعوا الكلام فالمواعدة كانت بين موسى وربه، وإنما خوطبوا بها لأنها كانت من أجلهم، والأيمن صفة للجانب والمراد يمين الشخص لا يمين الجبل، وأنزلنا عليكم المن والسلوى، وهو طعام شهى من صنع الله لا تعب فيه ولا ألم. وقلنا لكم كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تتجاوزوا الحد بالإسراف أو التقتير أو عدم القيام بالشكر، وإياكم والمعصية فإنها أصل الطغيان. إنكم إن طغيتم يحل عليكم غضبى، وينزل بكم عذابي، ومن يحلل به عذابي، ويوجب عليه لعلمه السوء فقد هوى في الهاوية وهي قعر جهنم. واعلموا أنى غفار الجزء: 2 ¦ الصفحة: 498 رحيم بمن تاب وأناب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى، وفي التعبير بثم إشارة إلى بعد المرتبتين. اتخاذ بنى إسرائيل إلها يعبدونه [سورة طه (20) : الآيات 83 الى 98] وَما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَفَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَلكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَإِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَفَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً (89) وَلَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94) قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً (98) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 499 المفردات: وَما أَعْجَلَكَ ما الذي حملك على العجلة عَلى أَثَرِي المراد هم بالقرب منى فَتَنَّا قَوْمَكَ ابتليناهم واختبرناهم أَسِفاً الأسف الشديد: الغضب الْعَهْدُ الزمان بِمَلْكِنا بملكنا أمورنا والصواب منها أَوْزاراً أحمالا ثقالا خُوارٌ الخوار: صوت البقر يا سامِرِيُّ رجل منافق محتال اسمه السامري قَبْضَةً هي المرة من القبضة التي هي أخذ الشيء بجمع الكف والمراد هنا الشيء المقبوض سَوَّلَتْ زينت لا مِساسَ أى لا أحد يمسني لَنَنْسِفَنَّهُ لنذروه في الرياح والمراد لنلقينه في البحر. المعنى: كان موسى قد وعد بنى إسرائيل إذا هلك فرعون أن الله سيعطيه الألواح وفيها الوصايا التي يأخذ بها بنو إسرائيل أنفسهم وأعقابهم من بعدهم أى فيها دستورهم الذي يعيشون عليه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 500 فلما أهلك الله فرعون سأل موسى ربه الكتاب فأمره أن يصوم ثلاثين يوما ثم زيدت إلى أربعين يوما وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [سورة الأعراف آية 142] . وكان لمخالطة بنى إسرائيل للمصريين وهم عبدة الأوثان أثر كبير في نفوسهم فكانوا يقولون لموسى بعد خروجهم من مصر: اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [سورة الأعراف آية 138] ولهذا أمكن لرجل منهم أن يؤثر فيهم فعبدوا العجل بعد مفارقة موسى لهم للميقات. ولما ذهب موسى لميقات ربه، استخلف على القوم أخاه هارون، وكان موسى على رأس سبعين نقيبا ذاهبين معه للميقات (كما مر في سورة الأعراف) . ولكن موسى تعجل من بينهم شوقا لربه فقيل له ما أعجلك عن قومك؟ وما الذي حملك على العجلة حتى تركت النقباء وخرجت من بينهم، فأجاب موسى: هم أولاء على أثرى وفي عقبى، وهم بالقرب ينتظرون عودتى إليهم على أنى عجلت إليك يا رب لترضى بمسارعتى للقائك، وامتثال أمرك. قال الله- سبحانه وتعالى-: فإنا قد فتنا قومك واختبرناهم من بعدك، وهم الذين تركهم مع هارون- وأضلهم السامري، ودعاهم إلى الضلالة والكفر حيث قال لهم- وقد تأخر موسى عن الميعاد عشر ليالي: إنما تخلف موسى عن الميعاد الذي بينكم وبينه لما معكم من الحلي وهي حرام عليكم. وأمرهم بإلقائها في النار، وكان منها العجل على ما سيأتى: فرجع موسى إلى قومه غضبان شديد الغضب والحزن لما صار إليه حال بعضهم وهو عبادة العجل، وقد قلت إن جهل الإسرائيليين ومخالطتهم لعبدة الأوثان سهل عليهم قبول خداع السامري. قال موسى: يا قوم. ألم يعدكم ربكم وعدا حسنا؟ حيث قال: وإنى لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا، وقد وعدهم بالثواب الجزيل إذا عملوا بما في التوراة التي سينزلها على موسى إذا ذهب للميقات. أوعدكم ذلك فطال عليكم العهد، وضقتم ذرعا بطول الزمن؟!! أم أردتم أن يحل عليكم غضب من ربكم؟ أى أردتم أن تفعلوا فعلا يكون سببا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 501 في حلول الغضب عليكم والعذاب من ربكم؟! فأخلفتم موعدي، ولم تقيموا على عهدي قالوا يا موسى: ما أخلفنا موعدك بملكنا الصواب والرأى الحسن بل أخطأنا ولم نملك أنفسنا وكنا مضطرين إلى الخطأ الذي وقعنا فيه. ولكنا حملنا أثقالا من زينة القوم أى المصريين، وذلك أنهم أخذوا حلى بعض المصريين بحجة أن لهم عيدا أو اجتماعا، وقيل، لما غرق فرعون أخذوا زينته فهم حملوا أثقالا من زينة القوم، فقذفناها كما أشار- بذلك السامري- إلى النار. فمثل ذلك القذف قذفها السامري فأخرج لهم بعد أن أذاب الذهب في النار صورة عجل له جسد، وله خوار وصوت كصوت العجل الحي. أكان حقيقة هذا العجل من جسد وروح وله خوار؟ أو هو عجل جسد فقط وله صوت نشأ من وضع خاص في تركيبه إذا مر به الريح صار له صوت يمكن أن يكون هذا وذاك والله أعلم. والشيخ النجار يرى أن السامري أمكنه بالحيلة أن يحضر لهم عجلا حقيقيا لم يروه قبل هذا، وكان أخذ الذهب منهم وإلقاؤه في النار حيلة منه فقد عمل عمل الدجالين. ولما أخرج لهم عجلا له جسد وله صوت قال ومن معه: يا بنى إسرائيل هذا إلهكم وإله موسى الذي ذهب ليطلبه ولكنه نسى مكانه فضل طريقه، أو هو إلهكم ولكن موسى نسى أن يخبركم به. ويقول الله لهم: أفلا يعتبرون ويتفكرون في أن هذا العجل لا يرجع لهم قولا ولا يرد عليهم بكلمة، ولا يملك لهم ضرا ولا نفعا.. فيكف يكون إلها؟!! ولقد قال لهم هارون محذرا إياهم من عبادة العجل، يا قوم إنما فتنتم وابتليتم به، وإن ربكم الرحمن- سبحانه وتعالى- فاتبعوني ولا تتبعوا طرق الشيطان وكلام السامري، وأطيعوا أمرى فإنى ناصح لكم شفيق بكم قالوا: لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى، ولن نزال مقيمين على عبادته حتى يعود أخوكم موسى. فلما رجع موسى قال وهو في غاية الحسرة والألم: يا هارون ما منعك أن تتبعني في شدة النكير على المخالف والقسوة على العاصي؟ أى هلا قاتلتهم إذ قد علمت أنى لو كنت بينهم لقاتلتهم في ذلك قتالا عنيفا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 502 أفعصيت أمرى؟ وكان أمره له اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ [سورة الأعراف آية 142] . ويصح أن يكون المعنى أفعصيت أمرى لك بالقيام لله ومنابذة من خالف دينه، وأقمت بين هؤلاء الذين اتخذوا العجل إلها!! قال معتذرا. يا ابن أمى لا تأخذ بشعر رأسى ولا بلحيتي وقد كان موسى فعل ذلك من شدة الغضب، وإنى خشيت أن تقول فرقت بين بنى إسرائيل لو قاتلت ولم ترقب وتنتظر قولي، اجتهد هارون فرأى أن طريق المسالمة خير من القتال، وفي موضع آخر اعتذر بقوله. إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكادُوا يَقْتُلُونَنِي [سورة الأعراف آية 150] . ثم توجه موسى إلى خطاب السامري فقال. ما خطبك يا سامرى!! ما حالك وما الذي دهاك حتى تعمل هذا؟!! قال بصرت بما لم يبصروا به، وعلمت ما لم يعلموا فقبضت قبضة من أثر الرسول- وهو جبريل- فما وضعتها على شيء إلا دبت فيه الحياة، ولما رأيت بنى إسرائيل يطلبون منك أن تجعل لهم إلها كما لهؤلاء الذين يعكفون على الأصنام آلهة زينت لي نفسي ذلك وعملت لهم إلها عجلا جسدا لها خوار كالذي يعبده المصريون. ويروى الشيخ النجار في كتابه قصص الأنبياء ص 224 أما قول السامري فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها فمعناها على ما اخترت أنه قبض قبضة من أثر الرسول أى تعاليمة وأحكام التوحيد التي جاء بها الرسول- وهو موسى- فنبذتها أى ألقيتها وأهملتها وَكَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي وهذا رأى لا ضير فيه وفي كتب أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن الذي صنع العجل هو هارون أخو موسى، وهو كذب وافتراء يضيفونه إلى سلسلة الأكاذيب التي ينسبون فيها إلى رسل الله أحط الأعمال وأحقرها. قال موسى للسامري. اذهب فإن جزاءك في الدنيا أن حالك تصل إلى أن تقول لغيرك لا مساس فأنت تنفر من الناس وتعيش منبوذا مطرودا وذلك جزاء الظالمين. أما في الآخرة فإن لك موعدا هو يوم القيامة لن تخلفه أنت، ولن تمكن من خلفه والله لا يخلف الميعاد. فهو حاصل قطعا وستأخذ فيه جزاءك الأوفى. وأما هذا الإله الباطل فحكمه الإحراق وأن يذرى في الماء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 503 إنما إلهكم الله الذي لا إله إلا هو. ولا معبود بحق سواه، العالم بخلقه، الخبير بشأنهم الذي وسع كل شيء علما.. ترى أن قصة موسى بدئت بالتوحيد الخالص وانتهت به كذلك كانت رسالة كل نبي. المعرضون عن القرآن يوم القيامة [سورة طه (20) : الآيات 99 الى 114] كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104) وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَلا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَلا هَضْماً (112) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 504 المفردات: ذِكْراً هو القرآن الكريم وِزْراً إثما عظيما وحملا ثقيلا يُنْفَخُ فِي الصُّورِ الصور: شيء كالبوق ينفخ فيه مرة فيموت الكل ثم ينفخ فيه أخرى فيحيا الكل وتأتى الناس أفواجا ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ زُرْقاً المراد: تسوء خلقتهم بزرقة عيونهم وسواد وجوههم يَتَخافَتُونَ يتسارون يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً المراد: يفتتها كالرمل ثم تذروها الرياح قاعاً صَفْصَفاً القاع المستوي من الأرض المكشوف، والصفصف المستوي الأملس. والمعنى يكاد يكون واحدا عِوَجاً أى: اعوجاجا وتعوجا وَلا أَمْتاً أى: تلالا صغيرة عِوَجَ لَهُ لا معدل لهم عنه خَشَعَتِ ذلت وسكنت هَمْساً صوتا خفيا هَضْماً انتقاصا من حقه. المعنى: مثل القصص ذلك الذي قصصناه عليك من خبر موسى وفرعون. نقص عليك من أنباء ما قد سبقك من أخبار الأمم الماضية ففي القصص عبرة وعظة، ودرس وتسلية، وإحاطة بأخبار الناس وأحوالهم فالزمن يوم مكرر والناس هم الناس وإن اختلفت الأزمان وتغيرت الأحوال. وآتيناك من لدنا قرآنا هو ذكر لك ولقومك وشرف لك وأى شرف؟، وفي القرآن ذكر للرحمن، وذكرى وموعظة للإنسان. من أعرض عن القرآن وذكره، وما فيه فإنه يحمل يوم القيامة حملا ثقيلا من الآثام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 505 والأوزار خالدين فيه ماكثين في عذابه، وساء لهم يوم القيامة حملا، وبئس الحمل حملهم يوم القيامة. يوم ينفخ في الصور النفخة الثانية بدليل ذكر الحشر بعدها، ونحشر المجرمين الظالمين وهم المشركون زرق العيون سود الوجوه عَلَيْها غَبَرَةٌ تَرْهَقُها قَتَرَةٌ أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس الآيات 40- 41- 42] نحشرهم عطاشا خائفين مضطربين، يتسارون بينهم قائلين. ما لبثتم إلا عشرا من الليالي أو من الساعات فهم لشدة ما يرون ولهول ما يصادفون يستقصرون مدة الدنيا أو مدة ما كانوا في القبر، أو مدة ما بين النفختين، نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم وأصدقهم نظرا ما لبثنا إلا يوما واحدا لا عشرا، والأمثلية نسبية فلا يمنع أنه على الباطل مثلهم. ويسألونك عن الجبال ماذا تكون يوم القيامة؟ استعظاما لها سألوا عنها النبي فأمر صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: فقل ينسفها ربي نسفا قال بعضهم: يقلعها من أصولها، ثم يصيرها رملا دقيقا، ثم يصير كالصوف المندوف، ثم تكون هباء منثورا.. فيذر أماكنها أرضا مستوية مكشوفة لا نبات فيها ولا بناء وهي صفصف أى: مواضعها أرض ملساء مستوية لا شيء فيها، لا ترى فيها عوجا ولا ميلا، ولا تلالا صغيرة، والمعنى أن الجبال ذهبت وبقيت مواضعها أرضا مستوية مكشوفة معتدلة لا شيء عليها. يومئذ يتبعون الداعي وهو إسرافيل الذي ينفخ في الصور، لا معدل لهم عن ابتاعه! ولا ينحرفون عن طلبه بل يسرعون إليه ولا يحيدون عنه، وخشعت الأصوات وسكنت فلا تسمع إلا صوتا خافتا، ولا تسمع إلا وقع الأقدام فقط إذ كل امرئ له شأن يغنيه عن كلام أخيه، ويومئذ لا تنفع الشفاعة أحدا إلا شفاعة من أذن له الرحمن ورضى له قولا، إذ الله- سبحانه وتعالى- هو المالك المتصرف في الخلق جميعا العالم ما بين أيديهم من أحوال القيامة، وما خلفهم من أمور الدنيا ولا أحد يحيط به علما.. وعنت الوجوه وذلت الرقاب، وخضعت النفوس للحي القيوم على كل نفس بما كسبت القائم بتدبير الخلق جميعا، الدائم الذي لا يزول ولا يحول ولا يبيد، وقد خاب من حمل ظلما وشركا. ومن يعمل من الصالحات الباقيات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا نقصا لثوابه ولا هضما لحق من حقوقه وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [سورة الأنبياء آية 47] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 506 ومثل ذلك الإنزال أنزلناه أى: القرآن حالة كونه قرآنا بلسان عربي غير ذي عوج لأنه نزل على العرب فكان بلغتهم التي يفهمونها على معجزته كانت من ناحية البلاغة العربية التي أعجزت فحول العرب مجتمعين فلا يبقى عذر لعربي لا يؤمن بالقرآن لأنه بلغته فيمكن الحكم عليه، وأما غير العرب فإذا رأوا عجز العرب عن الإتيان بمثله مع التحدي لهم آمنوا بأنه من عند الله. على أن في القرآن نواحي إعجاز أخرى في الاقتصاد والسياسة والاجتماع والعلوم. فمن ينظر إلى كلامه في الشجر والنبات يؤمن أنه لا يمكن لمخلوق في القرن السادس الميلادى أن يأتى بهذا، ويقولون: إن ملاحا انجليزيا نظر في كلام القرآن عن البحار والسفن فآمن أنه من عند الله ولا شك، وكذلك أنزلناه قرآنا عربيا، وصرفنا فيه من الوعيد، وكررناه، وسقناه على أشكال وألوان مختلفة لعلهم يتقون الله ويخافون عقابه، ولا شك أن كثرة الكلام في الثواب والعقاب يحدث هذا، ألا ترى إلى فن الإعلان اليوم، وأنه يعتمد على كثرة العرض والحديث عن الشيء في ألوان مختلفة. لعل الناس يتقون أو يحدث لهم ذكرا ووعظا وخوفا وتقوى. وإذا كان الله صاحب هذا القرآن الكامل المعجز فتعالى الله- سبحانه وتعالى- الملك الحق. ولا تعجل يا محمد بالقرآن وتلاوته، وكان النبي لشدة حرصه على القرآن يتابع جبريل فيه بسرعة فقيل له. لا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [سورة القيامة الآيتان 16 و 17] وقل ربي زدني علما، وإذا كان هذا حال النبي صلّى الله عليه وسلّم فما لنا لا نحرص على القرآن الحرص المناسب لنا؟؟ قصة السجود لآدم [سورة طه (20) : الآيات 115 الى 127] وَلَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (118) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَهَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَكَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَكَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقى (127) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 507 المفردات: عَهِدْنا العهد من الله للناس كل أمر أو نهى منه، والعهد الذي كان من الله لآدم هو أمره الذي حرم عليه الأكل من الشجرة فَنَسِيَ النسيان له معان: منها هو ضد التذكر، أو هو بمعنى السهو ويظهر أن هذين المعني ين ليسا معنا، وقيل: هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 508 بمعنى عدم الاهتمام بالشيء وجعله في زاوية النسيان وعليه قوله: نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ. عَزْماً العزم التصميم على العمل، وانعقاد الضمير عليه فَتَشْقى فتتعب وَلا تَعْرى من العرى ضد اللباس وَلا تَضْحى ولا تظهر للشمس فتجد حرها فَوَسْوَسَ الوسوسة: الصوت الخفى المكرر، والمراد: ما نجده من الخواطر شَجَرَةِ الْخُلْدِ المراد شجرة الحنطة مُلْكٍ لا يَبْلى لا ينفذ سَوْآتُهُما المراد عوراتهما طَفِقا يَخْصِفانِ أخذ يجعلان ورقة فوق ورقة فَغَوى أى: فشد عليه عيشه بنزوله الدنيا ضَنْكاً أى: شديدة متعبة أَسْرَفَ انهمك في اقتراف الشهوات. قصة آدم أبى البشر ذكرت في القرآن عدة مرات، وفي سور مختلفة، وبأساليب متباينة، وكانت جديرة بذلك لما فيها من الأسرار والإشارات، ولما في ذكرها من التذكير والعظات، لو كانوا يعقلون. المعنى: وبالله لقد عهدنا إلى آدم من قبل وجود هؤلاء الناس، عهدنا إليه ووصيناه بألا يقرب هذه الشجرة، وأمرناه ألا يأكل منها فنسي هذا الأمر ولم يهتم به فلم يكن في بؤرة شعوره، وذلك بوسوسة إبليس له، ولم نجد له عزما وتصميما إذ هو ناس لا محالة. إذن يمكن أن نفهم من هذه الآية أن الحق- تبارك وتعالى- يعرفنا أن النسيان وعدم العزم هما سببا هبوط المرء إلى درجة العصيان أما التذكرة وقوة العزم فهما سبب الصعود إلى الخير والرشد. واذكر إذ قلنا للملائكة: اسجدوا لآدم تحية وإجلال لا سجود عبادة وتأليه حتى يعرف أبناؤه تكريم الله لهم فيقوموا بواجب الشكر ورد الجميل فسجدوا جميعا إلا إبليس الذي كان معهم وقت الأمر، وإن كان من الجن كما هو ظاهر الآية كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ [سورة الكهف آية 50] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 509 فقلنا: يا آدم أما وقد عصى إبليس ربه ولم يسجد لك حسدا أو غرورا منه فاعلم أنه عدو لك، ولزوجك، وإياك طاعته، واحذر من وسوسته وتزيينه الباطل في صورة الحق. إن هذا عدو لكما فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى وتتعب، إنك يا آدم فيها لا تجوع أبدا، ولا تعرى أبدا، ولا تظمأ من العطش، ولا تظهر في الشمس فتجد حرها ولهيبها- فأنت في الجنة متمتعا بنعم الله التي لا تحصى. ومع هذا التذكير لآدم، والتحذير له من إبليس. وسوس له الشيطان وزين له العصيان، وقال له: يا آدم أقسم ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكون ملكين أو تكونا من الخالدين، وقاسمهما إنى لكما لمن الناصحين: يا آدم هل أدلك على شجرة إن أكلت منها كنت من الخالدين، وكان لك ملك لا يبلى ولا يفنى، أتى آدم من جهة إثارة غريزتين هما غريزة حب البقاء، وغريزة الملك فأزلهما الشيطان، وضحك عليهما بكذبه وتغريره. فأكلا من الشجرة المحرمة. عند ذلك بدت لهما عوراتهما، وأخذ يستران العورة، ويخيطان عليها من ورق الشجر وعصى آدم ربه ففسد عيشه وتبدل حاله لحكمة الله يعلمها، وقيل إن المراد في بدت لهما عوراتهما: ظهور الغريزة الجنسية عندهما. ثم بعد ذلك اجتباه ربه واصطفاه فتاب عليه لما ندم على ما فرط منه، وهداه إلى سواء السبيل فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ [سورة البقرة آية 37] . خرج آدم وحواء من الجنة لما أكلا من الشجرة، وأمرهما أن يهبطا إلى الأرض فقال: اهبطا أنتم والشيطان الذي أغواكم من الجنة إلى الأرض بعضكم لبعض عدو فاحذروا يا أبناء آدم هذا العدو اللدود لكم. فإما يأتينكم منى هدى على لسان الرسل فمن اهتدى واتبع وسلك سبيل الخير وابتعد عن الهوى فإن الجنة هي المأوى، ولن تراه في الدنيا يضل، ولن تراه يشقى أبدا بل هو في سعادة أبدية إن أعطى المال شكر وإن حرم منه صبر فهو سعيد راض، قنوع، محتسب فائز إن شاء الله. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 510 ومن أعرض عن ذكرى وسلك سبيل الغواية والشيطان، فإن له معيشة ضنكا، معيشة تعب وألم فهو دائما في تعب ونصب إن أعطى مالا هو مستقله ويطلب المزيد منه مهما كان، وإن حرم منه فهو غير راض عن ربه فهو في الحالين في عيشة تعسة وحياة منغصة. أما يوم القيامة فسيحشره أعمى عن درجات السعادة، وأعمى عن طرق النجاة فسيتردى في جهنم وبئس القرار. قال: ربّ لم حشرتني أعمى؟ وقد كنت بصيرا، قال: ليس العمى الذي أنت فيه الآن عمى البصر، ولم تكن في الدنيا بصير القلب بل كنت أعمى البصيرة أتتك آياتنا على لسان رسلنا فنسيتها، وأهملتها، ولم تر بقلبك فيها نورا ولا هداية، وكذلك اليوم تنسى وتهمل في عذاب النار. ومثل ذلك نجزى من أسرف على نفسه، وانهمك في الشهوات والبعد عن آيات القرآن ولم يؤمن بها الإيمان الصحيح. وأقسم لعذاب الآخرة وأهوالها أشد وأنكى من عذاب الدنيا، لأنه دائم لا ينقطع وهم فيها خالدون. عبر ونصائح [سورة طه (20) : الآيات 128 الى 135] أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها وَمِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132) وَقالُوا لَوْلا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدى (135) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 511 المفردات: أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ هدى كاهتدى بمعنى تبين الْقُرُونِ الأمم آناءِ جمع إنى بمعنى وقت وَلا تَمُدَّنَّ المراد: لا تطل نظرهما بطريق الرغبة والميل أَزْواجاً أصنافا زَهْرَةَ الْحَياةِ زينتها وبهجتها بَيِّنَةُ بيان ما في الكتب السابقة نَذِلَّ بعذاب الدنيا، وَنَخْزى بعذاب الآخرة مُتَرَبِّصٌ منتظر ما يؤول إليه الأمر. المعنى: أغفل هؤلاء المكذبون للنبي الكافرون برسالته فلم يتبين لهم خبر من أهلكناهم من الأمم السابقة؟ حالة كونهم يمشون في مساكنهم التي أصبحت خاوية على عروشها وحتى لم يبق من عاد وثمود، وأصحاب الأيكة وقوم لوط أثر ولا عين فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [سورة النمل آية 52] . إن في ذلك لآيات واضحات ولكن لأولى النهى والعقل أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج آية 46] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 512 ولولا كلمة سبقت من ربك بتأخير العذاب عنهم، وأجل مضروب ومسمى عند الله لكان إهلاكهم لأجل تكذيبهم لك لازما لهم فورا، ولهذا فاصبر على ما يقولون، وسبح بحمد ربك، وصل لربك حامدا له ومستغفرا قبل طلوع الشمس كصلاة الفجر وقبل الغروب كصلاة الظهر والعصر وبعض الليل فسبحه فيه عند صلاة المغرب والعشاء وفي قيام الليل، وعليك بالصلاة خصوصا عند أطراف النهار وعند طلوع الشمس وعند الغروب لعلك أيها المخاطب ترضى بالجزاء الوافر. أما علاج تكذيب المكذبين، وعناد المشركين، وإيلام الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه بالصبر والسلوان فهذا أمر ظاهر المعنى بين الحكمة وأما العلاج بالتسبيح والاستغفار والصلاة والتكبير فهذا دليل على تأثير الروح في النطاق الجسمى إذ الصلاة والتسبيح غذاء للروح قوى، وإذا قويت الروح كان الإحساس بالتعب الجسمى، وبالألم البدني قليلا بل يكاد ينعدم، ولقد كنا نقرأ حديث النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يقول لفاطمة ابنته: وقد شكت له ما تجد من مشقة (الرحا) حين تديرها لطحن طعامها وطعام بنيها ما معناه: إذا أويت إلى فراشك فقولي: (سبحان الله والحمد لله. والله أكبر ثلاثا وثلاثين) قالت فاطمة: فلم أجد بعد ذلك ما كنت أجد من مشقة أو أذى. فما علاقة التعب الجسماني بالتسبيح والتحميد والتكبير؟!! ولكن ظهر أن هذا للروح والروح إذا قويت لم يشعر الجسم بالتعب، ولقد صدق الله حيث يقول: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِها الآية. وهذا إرشاد آخر، ونصح للنبي صلّى الله عليه وسلّم ونحن أولى به باتباعه، ولا تطيلن النظر إلى ما متعنا به أصنافا من الناس، فتلك زهرة الحياة الدنيا وزينتها وبهجتها، والمعنى: لا تنظر متعجبا طالبا مثله فإنما أعطيناهم لنفتنهم فيه ونبلوهم به، ورحمة ربك في الآخرة خير من هذا كله وأبقى. وليست الآية تأمرنا بالكسل وعدم العمل، ولكنها تنهانا فقط عن أن نتمنى مثل ما في يد الكفار والعصاة من حطام الدنيا الفاني، والواجب أننا لا نجعل الدنيا أكبر همنا، ونترك الآخرة بالمرة بل نعمل للآخرة مؤثرين رضاء الله وطاعته ولا ننسى نصيبنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 513 من الدنيا ولا نحزن على فواتها، ولا نفرح لمجيئها «اعمل لدنياك كأنّك تعيش أبدا واعمل لآخرتك كأنّك تموت غدا» . وهاك نصحا آخر: وأمر أهلك من أقاربك وأصحابك وأصدقائك بالصلاة، وحببهم فيها، وعلمهم الصبر عليها، واستعينوا بها على قضاء حوائجكم، وفك أزماتكم «كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر- أى: وقع في شدة- هم إلى الصلاة» حديث شريف. كانوا يكثرون من اقتراح الآيات على النبي صلّى الله عليه وسلّم كأنهم لم يقنعوا بما في يد النبي صلّى الله عليه وسلّم من المعجزات. وخصوصا القرآن الكريم المعجزة الباقية. وقالوا عنادا وكفرا: لولا يأتينا بآية من ربه كالعصا والناقة مثلا!! أعموا ولم يأتهم بيان ما في الكتب السابقة، ولقد جاءهم هذا كله في القرآن المهيمن على الكتب السابقة المصدق لها، وفيها أن الأقوام السابقة طلبوا آيات فأجيبوا بها ولم يؤمنوا لها فأهلكهم ربهم بعذاب من عنده. وكيف يطلبون الآية بعد هذا القرآن الجامع الشامل الذي فصل كل شيء تفصيلا وما فرط في شيء أبدا، بل فيه كل الصحف السابقة وزيادة. ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبل نزوله على يد المصطفى لقالوا: لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك ونؤمن بها من قبل أن نذل في الدنيا ونعذب في الآخرة: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سورة النساء آية 165] . قل لهم كل منا ومنكم متربص ومنتظر ما يؤول إليه الأمر، وعند ذلك فستعلمون من أصحاب الصراط السوى والطريق المستقيم، ومن هو على الهدى ومن هو على الضلال؟!!! ولقد علموا نهاية أمرهم، وعاقبة كفرهم.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 514 سورة الأنبياء مكية عند الجميع، وهي مائة واثنتا عشرة آية، وسميت بذلك لذكر قصص الأنبياء فيها وهي كغيرها من السور المكية، تهدف إلى إثبات عقيدة الإسلام في نفوس المشركين فتراها تعرض لأقوالهم، وترد عليهم مهددة منذرة، وتلفت الأنظار للكون وما فيه حتى يستدل بذلك على خالقه، ثم تعرض لقصص بعض الأنبياء للعبرة والعظة، وهي في البدء والنهاية تصور بعض مشاهد يوم القيامة بأسلوب قوى مؤثر. المشركون ودعواهم والرد عليهم [سورة الأنبياء (21) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7) وَما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَمَنْ نَشاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9) لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (10) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 515 المفردات: غَفْلَةٍ غفل عن الشيء من باب دخل، وغفلة أيضا وأغفله عنه غيره وقد تستعمل فيمن تركه إهمالا وإعراضا كما هنا، ومنه قيل أرض غفل أى لا علم بها ورجل غفل لم يجرب الأمور مُعْرِضُونَ من أعرض عنه بمعنى أضرب وولى عنه لاهِيَةً ساهية. معرضة. متشاغلة عن التأمل والتفهم النَّجْوَى التناجي والتسار في القول أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ أتتبعونه أَضْغاثُ أَحْلامٍ هي الرؤيا الكاذبة، التي لا يكون لها تأويل، والأضغاث، جمع ضغث والأصل فيه يطلق على قبضة من حشيش مختلط رطبها بيابسها والرؤيا الكاذبة مختلطة غير منتظمة فلا تأويل لها افْتَراهُ اختلقه من تلقاء نفسه الْمُسْرِفِينَ المبالغين في الكفر والظلم. المعنى: لقد صدق عامر بن ربيعة حين جاءه رجل، كان أكرم مثواه في يوم، وقال له أى لعامر: إنى استقطعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم واديا ما في العرب واد أفضل منه، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك فقال عامر: لا حاجة لي في قطعتك، نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 516 افتتح الله هذه السورة بما يوقف الأطماع، ويحدد الاتجاه، وبما يوقفنا على ما كان عليه المشركون المشار إليهم في الآية، وإن كان لفظ الآية يتناول الناس جميعا. اقترب للناس زمان حسابهم، وقرب الوقت الذي فيه يحاسبون على أعمالهم، والحال أنهم في غفلة، وهم معرضون عن الذكر الحكيم. يا للعجب! يقترب الحساب، والناس عنه غافلون، وله ناسون وتاركون، شغلتهم أموالهم وأهلوهم، وهم معرضون ومضربون عما فيه خيرهم، وبه سعادتهم في الدنيا والآخرة إن هذا لعجيب!! هذا أمر في الناس جميعا، وداء أصاب العالم أجمع، ولكن الأوصاف الآتية تجعلنا نتجه بالكلام ناحية المشركين المعاصرين للنبي خاصة فهم الذين لا يأتيهم ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون. نعم ما يأتيهم ذكر وقرآن من ربهم محدث يتلوه جبريل على النبي سورة بعد سورة وآية بعد آية، فالقرآن نزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم منجما تبعا للحوادث، والقرآن أى: هذا الصوت الذي يسمع بالأذن، والحروف التي ترى بالعين هو حادث بلا شك، وأما القرآن بمعنى كلام الله- سبحانه- النفسي فهو قديم قدم باقى الصفات القدسية. وقيل: الذكر هو ما يذكرهم به المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ويعظهم به، وكونه من ربهم فهو موافق لقوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى [سورة النجم آية 3] ولا شك أن ذكره ووعظه حادث فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ [سورة الغاشية آية 21] . ما يأتيهم من ذكر ربهم محدث في حال من الأحوال إلا في حال استماعهم وهم يلعبون ويلهون. لاهية قلوبهم، ومعرضة عن ذكر الله، متشاغلة بالدنيا وزخرفها الكاذب عن الدين وعن ذكر الله الذي به تطمئن القلوب، وتهدأ النفوس. وأسروا النجوى، وهل النجوى تكون في غير السر؟ إنها لا تكون إلا سرا، والمراد أنهم كتموا التناجي قاصدين، وبالغوا في إخفائه ليبحثوا عما يطفئون به نور الله، ويبطلون به رسالة رسول الله! ولكن هيهات لهم ذلك! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 517 وأسروا النجوى وقال الظالمون منهم: ما هذا إلا بشر مثلكم فكيف يكون رسولا إليكم؟ وهو لا يتميز في شيء عنكم. أفتأتون السحر؟ ومحمد لم يأت إلا بالسحر فكيف تجيئون إليه وتتبعونه؟ والحال أنكم تبصرون الأمور على حقيقتها، ولستم غفلا. ولكن الله أطلع رسوله على ما تناجوا به، وقالوه في السر العميق، وأمره أن يقول لهم: ربي يعلم القول مطلقا سواء جهرتم به أو أسررتم، وسواء كان في السماء أم في الأرض فإنه يعلم السر وأخفى، وهو السميع لكل ما يسمع العليم بطوايا النفوس وخطرات القلوب. وصفوا رسول الله بأنه ساحر وأن ما يقوله سحر، إذ خفى عليهم سببه، مع أنه يبهر العقول، ويأتى بالأعاجيب.. ثم أضربوا عن ذلك ووصفوه بأنه أضغاث أحلام مفتراة، لا نسق فيها ولا نظام، ولا أساس لها ولا تأويل، ثم نظروا إلى القرآن وإلى ما قالوه فيه فعدلوا عن الحكم الأول والثاني وقالوا: لا: بل قد افتراه واختلقه من عند نفسه، وإنه كاذب في دعواه أنه من عند الله. ثم أضربوا عن ذلك، وقالوا: بل هو شاعر يؤثر ببليغ كلامه فيفرق بين المرء وأخيه، وأمه وأبيه. أليس في هذا الاضطراب والتردد، والتلون وتغيير الحكم دليل على أنهم جاهلون بحقيقة ما جاء به، أو عرفوه ولكنهم في حماقة المغلوب ويأس المهزوم رموه بالسحر تارة. والكذب وغيره تارة أخرى. ثم انتقلوا إلى ناحية أخرى فقالوا: إن لم يكن كذلك فليأتنا بآية غير القرآن كما أرسل موسى بالعصا، وصالح بالناقة، ولقد كان سؤالهم هذا سؤال تعنت، ويعلم الله أنهم لا يؤمنون ولو نزل عليهم ما طلبوا وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا [سورة الأنعام آية 111] . اقترحوا الآيات التي لا يقع معها إمهال فقال الله مجيبا لهم: ما آمنت قبلهم قرية من القرى بعد إجابتهم إلى ما اقترحوا، وقد أهلكناهم بسبب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 518 اقتراحهم قبل هؤلاء فكيف نعطيهم ما يطلبون؟! وسنة الله لا تتغير أبدا فكيف يؤمن هؤلاء؟ أهم غير الأمم فهم يؤمنون؟!! وما لهم ينكرون لقصر عقلهم أن الرسول لا يكون بشرا؟ وما أرسلنا قبلك في زمن من الأزمان إلا رجالا من البشر يوحى إليهم قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [سورة الكهف آية 110] . أيها الناس: إن شككتم في أن الرسل بشر فاسألوا أهل الذكر من اليهود والنصارى فهم لا ينكرون ذلك أبدا إن كنتم لا تعلمون، وفي هذا تسجيل عليهم بالجهل وعدم المعرفة. وقد كانوا ينكرون على الرسول عوارض البشرية، وخصائص الإنسانية مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ؟ [سورة الفرقان آية 7] فيرد الله عليهم بقوله: وما جعلنا الرسل ذوى جسد لا يأكلون الطعام، وما جعلناهم خالدين فالرسول بشر يأكل ويشرب وينام، ويأتى النساء إلا أن الله اصطفاه واختاره لرسالته وأنزل عليه دستوره وكتابه الذي يخرج أمته من الظلمات إلى النور. وكان للرسل مع ربهم وعد صريح بنجاتهم ومن آمن معهم، وهلاك الكفار والعصاة من قومهم واقرأ إن شئت قصص الأنبياء في سورة هود. ثم صدقناهم في الوعد ونجيناهم ومن نشاء من المؤمنين بهم، وأهلكنا المسرفين المكذبين، وتلك عاقبة الظالمين. لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم، وشرفكم وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «1» وفيه ذكر أمور دنياكم ودينكم وأحكام شرعكم، وجزاء أعمالكم أفلا تعقلون؟!! وتتدبرون أمركم ... إنذار وتهديد [سورة الأنبياء (21) : الآيات 11 الى 20] وَكَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَأَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15) وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)   (1) سورة الزخرف الآية 44. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 519 المفردات: قَصَمْنا القصم: الكسر الشديد، وهو أفظع مع الفصم الذي هو الكسر من غير إبانه يَرْكُضُونَ الركض: ضرب الدابة بالرجل، ومنه قوله: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ وركضت الفرس برجلي استحثثته ليعدو، والمراد أنهم يهربون ويسرعون إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ إلى نعمكم التي كانت سبب بطركم، المترف المتنعم يقال أترف على فلان أى: وسع عليه في معاشه، وعليه وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أى: وسعنا عليهم حَصِيداً محصودين كما يحصد الزرع بالمنجل خامِدِينَ ميتين نَقْذِفُ نرمي، فَيَدْمَغُهُ المراد: يقهره ويهلكه، وأصل الدمغ: شج الرأس حتى الدماغ، ومنه الدامغة زاهِقٌ، هالك، وتالف يَسْتَحْسِرُونَ، يعيون ويتعبون لا يَفْتُرُونَ: لا يضعفون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 520 لما حكى الله- سبحانه- عنهم تلك الاعتراضات الواهية، ورد عليهم أبلغ رد وأكده مبينا أنه أنزل لهم كتابا فيه ذكرهم وشرفهم وسعادتهم، وهو المعجزة الباقية. بالغ في زجرهم وتهديدهم بضرب الأمثال وذكر مظاهر القدرة القادرة. المعنى: وكثيرا من القرى قصمناها وأهلكنا أهلها، لأنها كانت ظالمة لنفسها بالكفر وارتكاب الإثم، وأنشأنا بعدها قوما آخرين. روى أن المراد أهل قرية مخصوصة كانت باليمن تسمى (حضور) ، وكان لهم نبي فقتلوه فانتقم الله منهم، ولما رأوا أمارة العذاب خرجوا هاربين، فقالت لهم الملائكة استهزاء بهم: لا تركضوا وارجعوا فرجعوا وقتلوا. فلما رأوا القتل قالوا يا ويلنا: إنا كنا ظالمين، ولكن هيهات أن ينفع الندم..!! فلما أحسوا بأسنا، ورأوا عذابنا الشديد إذا هم يهربون ويفرون مسرعين يركضون دوابهم ويستحثونها، عندئذ. قيل لهم من الملائكة: لا تركضوا، وارجعوا إلى نعمكم التي أبطرتكم وحملتكم على الظلم والكفر والغرور لعلكم تسألون، من الذي أنزل بكم هذا؟! أو تسألون لماذا كان هذا العذاب؟! لما قالت لهم الملائكة: لا تركضوا، وارجعوا إلى مساكنكم ونعمكم، ونزل بهم العذاب من كل جانب كانوا يسمعون مناديا يقول: يا لثارات الأنبياء!! قالوا حينذاك: يا ولينا ويا هلاكنا. إنا كنا ظالمين! فما زالت تلك دعواهم، وما زالوا يرددون تلك المقالة حتى جعلهم ربك كالزرع المحصود بالمنجل، خامدين ميتين لا حركة بهم، كالنار إذا انطفأ لهيبها وأصبحت خامدة لا حياة فيها. هذا هو الحكم العدل، والقول الفصل، ما يفعل الله بهم هذا إلا بسبب ظلمهم وكفرهم، وها هي ذي آيات عدل الله، ناطقة شاهدة. وما خلق السماء المرفوعة، والأرض الموضوعة، وما بينهما من عجائب الخلق للهو واللعب كما يفعل بعض الخلق في دنياه، ولكنها آيات شاهدة على حكمة الحكيم، وقدرة القادر العليم، وعدل الحق- سبحانه وتعالى-، وكانت ميادين للتفكير السليم، والنظر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 521 الصحيح الذي يوصل إلى العبادة الخالصة لخالقهما، وكانت من نعم الله على خلقه ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِّ [سورة الدخان آية 39] فانظروا لها واعتبروا بها. لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا، ومن جهة قدرتنا، ولكنا لم نرد إلا الحكمة والصواب فيما خلقنا وفعلنا، وما كنا فاعلين اللهو واللعب أبدا. وبعضهم يفسر اللعب بالولد، واتخاذه من لدن الله أى: من الملائكة، وذلك ردا على من اتخذ المسيح أو عزيرا ابنا لله- سبحانه وتعالى-. بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه، وبل هنا إضراب عن اتخاذ اللهو واللعب، وتنزيه منه لذاته كأنه قال: سبحاني! لا أتخذ اللهو واللعب من عاداتي، بل من صفاتنا وموجب حكمتنا، وتنزهنا عن القبيح أن نغلب الجد على اللهو واللعب، وندحض الباطل بالحق، استعار القذف والدمغ لضياع الباطل وفنائه، لتصويره بالصورة الحسية المؤثرة، وبيان أثر الحق في محو الباطل ومحقه، فجعل الحق كأنه جرم صلب كالصخرة يقذف به في وجه الباطل، وهو رخو لين، فدمغه وشج رأسه، حتى لم يعد له بقاء في الوجود. إنه لتصوير رائع مؤثر يهز النفوس، ويستولى على المشاعر، ويجعلنا نتصور الباطل كسير الجناح، ذليل النفس، مشوه الوجه فَإِذا هُوَ زاهِقٌ. ولكم أيها الظالمون المشركون الويل والثبور والهلاك والدمار، مما تصفون به ربكم من اتخاذ الولد والشريك- سبحانه وتعالى-، وكيف يكون ذلك؟ وله من في السموات والأرض، ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا، فكيف يكون له فيهما شريك؟ ومن خلقه فيهما مجادل ومخاصم؟! ومن عنده من الملائكة لا يستكبرون عن عبادته، والعندية عندية مكانة وتشريف فكيف بكم تستكبرون عن عبادته؟ والملائكة همهم العبادة ليلا ونهارا، لا يستكبرون ولا يعيون، ولا يتعبون، خلقوا هكذا، ليس فيهم داعية من دواعي الشر، وهم لا يفترون ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 522 مناقشة المشركين في عقائدهم [سورة الأنبياء (21) : الآيات 21 الى 29] أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29) المفردات: يُنْشِرُونَ: النشر: إحياء الموتى من قبورهم، والحشر: سوقهم إلى أرض المحشر لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ لا يتقدمون عليه في قول، بل يقولون بعد قوله، ويصدرون بعد أمره مُشْفِقُونَ خائفون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 523 ما تقدم من أول السورة إلى هنا كان في باب النبوات، وما يتصل بها من نقاش وأما هذه الآيات فهي في بيان التوحيد، ونفى الشريك. ويقول الزمخشري- رحمه الله- وأسكنه فسيح جناته جزاء ما قدمه لخدمة القرآن وبيان أسراره- فيما كتبه في الكشاف عن «أم» التي في هذه الآية: وهذه أم المنقطعة التي هي بمعنى بل (الإضرابية) والهمزة. قد آذنت بالإضراب عما قبلها والإنكار لما بعدها.. المعنى: بل اتخذوا آلهة من الأرض هم ينشرون؟!! والمنكر هو اتخاذهم آلهة من الأرض تحيى الموتى للبعث والحساب، نعم إن من أفظع المنكرات أن يحيى الجماد الموتى، عجبا هم ينكرون البعث والحساب ويقولون: أإذا كنا ترابا أإنا لفي خلق جديد؟ من يحيى العظام وهي رميم؟!! ثم بعد ذلك يتخذون آلهة من الأرض هم ينشرون!! نعم في اتخاذهم هذه الأصناف آلهة إلزام لهم بأن ينسبوا لها إحياء الموتى، فإنه لا يقدر على إعادة الحياة إلا الإله الذي بدأ الحياة، وفي هذا من التهكم بهم والتوبيخ والتجهيل لهم ما لا يخفى فإن ما استبعدوه على الله من البعث لا يصح لأنه لازم للألوهية وانظر إلى قوله- تعالى-: آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ!! فإنهم من الأرض! ولا تعبد إلا فيها ... لو كان في السماء والأرض آلهة شتى تدبر أمرها غير الواحد الأحد الفرد الصمد الذي فطر السموات والأرض لفسدتا إذ من المعلوم أن أى عمل يفسد بتدبير رئيسين كل يدعى لنفسه حق الرياسة والتوجيه لما يحدث بينهما من التغالب والتناكر والاختلاف، ولله در عبد الملك بن مروان إذ قال حين قتل عمرو بن سعيد: كان والله أعز على من دم ناظري، ولكن لا يجتمع فحلان في شول، ولعلماء التوحيد في بيان الفساد عند وجود الشريكين أدلة منطقية وفروض شتى ليس هذا مكانها، وإن حسن الاطلاع عليها. ولما أقام الله- سبحانه وتعالى- الأدلة القاطعة على التوحيد قال: فسبحان الله رب العرش عما يصفون: نزه الله نفسه، وأمرنا أن ننزهه عما يصفه المشركون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 524 فهو الله لا إله إلا هو فاطر السموات والأرض. رب العرش، وسع كرسيه السموات والأرض تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا. بعض من يدعى الشريك لله يرى أن في العالم نورا وظلمة، وخيرا وشرا وغير ذلك مما يشبهه ويقول: لا يمكن أن يصدر هذا من إله واحد. إذ يسأل عن الشر لم فعلته وأنت إله الخير؟ فرد الله عليهم بقوله: إنما هو إله واحد يصدر عنه كل شيء في الوجود، وهو لا يسأل أبدا عن فعله لم فعلت؟! والخلائق هي المسئولة عن أعمالها ومجزية عنها. وإذا كان الرئيس الموثوق فيه لا يسأل عن عمله، مع أنه عرضة للخطأ لأنه مخلوق ضعيف، فكيف بالخالق- سبحانه وتعالى-؟! أم اتخذوا من دون الله آلهة؟! قل: هاتوا برهانكم ودليلكم على ذلك إن كنتم صادقين. هاتوا برهانكم من جهة العقل، ولن تجدوا. أما من جهة النقل فلن تجدوا، هذا هو الكتاب المنزل على من معى، وهذا ذكر من قبلي أى الكتاب المنزل على من تقدمني من الأنبياء كموسى وعيسى وداود فعندكم القرآن الذي نزل علىّ، والتوراة التي نزلت على موسى، والإنجيل الذي نزل على عيسى والزبور الذي نزل على داود، هل في هذه الكتب حجة لكم على الشرك بالله. بل أكثرهم لا يعلمون فهم الجهلاء بأنفسهم وبما يدعون. ذلك الكتاب المنزل عليكم هو الحق من عند ربكم فاسمعوا له وأطيعوا، وإلا فأنتم معرضون عنه، ومن أعرض عن ذكر الله فإن له معيشة ضنكا، ونحشره يوم القيامة أعمى. وها هي ذي خلاصة الرسالات السماوية من لدن آدم إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم جميعا، أنه لا إله إلا هو فاعبدوه وحده لا تشركوا به شيئا أبدا فهل لكم حجة عقلية أو نقلية في اتخاذ الآلهة من دون الله؟!! ثم بعد ذلك نفى اتخاذ الولد له- سبحانه- فإن الولد يشبه أباه في شيء ويخالفه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 525 في شيء واتخاذ الولد أمارة الحدوث والحاجة، ودليل مشابهة الحوادث، والله- سبحانه- منزه عن ذلك كله. وقالوا اتخذ الرحمن ولدا، قيل: نزلت في خزاعة حينما ادعوا أن الملائكة بنات الله وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً [سورة الصافات آية 158] . سبحانه وتعالى: نزه الله نفسه عن ذلك، وأمرنا أن ننزهه عن ذلك، ثم أخبر عن الملائكة أنهم عباد والعبودية تتنافى مع الولدية، فهم عباد إلا أنهم مكرمون ومقربون ومفضلون على كثير من الخلق لما هم عليه من العبادة، فهم خلق من خلق الله دأبهم العبادة ليلا ونهارا، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، لا يسبقونه في قول بل يعملون كما يؤمرون لا علم لهم بشيء بل الله يعلم ما بين أيديهم من أحوال القيامة وما خلفهم من أحوال الدنيا، وهم لا يشفعون إلا لمن ارتضاه ربه من عباده المؤمنين ثم مع هذا كله هم من عذاب ربهم مشفقون وخائفون. فكيف تجعلونهم أولادا لله؟!!، وكيف تكفرون أنتم بالله بعد هذا؟!! وبعد أن وصفهم الله بما وصف فاجأهم بالوعيد الشديد، وأنذرهم بالعذاب الأليم ليعتبر الناس وليعلموا جرم الشرك، وفظاعته عند الله، وعظم شأن التوحيد ومكانته عند الله فقال: ومن يقل منهم- على سبيل الفرض- إنى إله من دون الله فسنجزيه جهنم وبئس القرار. مثل ذلك نجزى نحن الظالمين والمشركين فإنه لا يفعل معهم هذا إلا الله الواحد القهار. الأدلة الكونية على وجود الواحد الأحد [سورة الأنبياء (21) : الآيات 30 الى 33] أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 526 المفردات: رَتْقاً الرتق السد ضد الفتق يقال رتقت الفتق أرتقه فارتتق أى التأم والمراد كانت ملتزقتين ففصل الله بينهما رَواسِيَ جبال ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ خوف أن تتحرك وتضطرب فِجاجاً مسالك وطرقا، والفج: الطريق الواسع بين الجبلين الفلك: مدار الشمس والقمر والنجوم. هذه هي الأدلة المادية على وجود الواحد الصانع القادر المختار بعد الأدلة العقلية والنقلية ومناقشة الكفار السابقة في اتخاذهم شريكا له، وفي هذا لفت لأنظار المشركين إلى جهة الكون وما فيه. المعنى: أعموا ولم يروا أن السموات وما فيها والأرض وما عليها كانت رتقا، وكانت السماء والأرض جزءا واحدا ففتقهما القادر المختار وجعل كل جزء في جهة ويدور في فلك، ويؤدى مهمته على أكمل وجه. يا أخى: اعلم أن القرآن معجز حقا، وليس إعجازه في جمال أسلوبه. وكمال نظامه وترتيبه فقط ولكنه معجز أيضا في دلالته على أمور علمية دقيقة عميقة، لم تظهر لنا إلا بعد أن أثبتها العلم بما لا يقبل الشك، فإذا عدنا إلى القرآن وجدناه ينادى بها من القرن السادس الميلادى، أيام كانت الدنيا تغوص في بحر الجهالة والضلالة، فمن أعلم محمدا بهذا، ومن الذي علمه ذلك!!؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 527 ولكنها المعجزة الباقية الخالدة التي تثبت الأيام صدقها في كل شيء سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «1» والغريب أن القرآن نزل يخاطب العرب الذين لا يعرفون هذه الحقائق وطالبهم بعد ثبوت إعجازه بالإيمان بها غيبيا وأمرهم أن يحملوا تلك الأمانة للناس إلى أن يعرفوا علميا حقائق الكون فإذا بها في القرآن من أربعة عشر قرنا. من هذه نظرية السديم. فقد أثبت العلم أن الشمس والكواكب والأرض كلها كانت قطعة واحدة ثم انفصلت بكثرة الدوران وبقدرة الحكيم الخبير فصارت إلى ما نرى من الدقة والنظام بفعل الجاذبية الذي خلقه الله في الكون. أليس هذا هو عين ما يقوله القرآن الكريم أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما ولقد سبق أن تكلمنا عن نظرية خلق السموات والأرض «نظرية السديم» في الجزء الثاني عشر ص وقد ذكروا رأيا آخر في الآية: أن السموات والأرض كانتا رتقا لا تمطر ولا تنبت ففتقنا السماء بالمطر والأرض بالنبات. وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ وقد جعل الله- سبحانه وتعالى- كل شيء حي من الماء يغتذى به ويرويه، ولا يمكن أن يصبر عليه وهو حي، على أنه أصله فالحيوان من النطفة التي هي ماء، والنبات لا ينبت أبدا إلا بالماء. فالماء عنصر مهم جدا لحياة الكائن الحي من حيوان ونبات، ألم تر أن الحيوان قد يعيش بدون غذاء حوالى سبعين يوما ما دام يشرب ماء، ولا يعيش بدون الماء أياما قليلة، والنبات يجف ويموت وهو في وسط الأرض التي منها غذاؤه إذا لم يرو بالماء، فالماء والكائن الحي صنوان لا يفترقان فإذا افترقا هلك الحي. وجعلنا في الأرض رواسى شامخات من الجبال خوف أن تميد بالناس وتضطرب، وهي تدور حول نفسها وحول الشمس. وجعلنا فيها طرقا واسعة وأودية مترامية الأطراف بين الجبال ليصلح عليها السير والإنبات لعلكم تهتدون إلى الصانع المختار.   (1) سورة فصلت الآية 53. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 528 وجعلنا السماء سقفا محفوظا من الوقوع والاضطراب، ومحفوظا من الشياطين التي تسترق السمع. وهم عن آياتها معرضون. هو الذي خلق الليل والنهار بفضل دوران الأرض حول نفسها، وخلق الشمس والقمر كل واحد منهما يدور في فلك له، يسبحون في الفضاء اللانهائى الذي لا يعلم حدوده إلا الله. نرى أن الله- سبحانه وتعالى- ساق الدليل على وحدانيته وقدرته، تأييدا لما مضى من قوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا والقرآن يجنح دائما للأدلة الكونية ويلفت النظر إلى هذا الكون وما فيه من عجائب ليعتبر الناس كلهم به أما الجاهل فلما يراه فيه ببصره، ويسمع بأذنه ويلمس بيده، وأما العالم فلما يرى ويحس، ويعلم من أسرار وقضايا علمية، ونظريات كونية، وسبحان من هذا كلامه. ولسائل أن يسأل. كيف يقول الله لهم أو لم يروا؟ ومتى رأوا حتى يجيء تقريرهما بذلك؟ والجواب كما ذكر الكشاف والفخر: حيث ورد الرتق والفتق في القرآن وقام الدليل الذي لا يقبل الشك على أنه معجزة وأنه من عند الله، وأنه صادق قام ذلك مقام الرؤية، فإذا أضيف إلى ذلك ثبوت نظرية الرتق والفتق علميا كان الاستفهام وما فيه من تقرير وتعجب آية من آيات الله. من مواقف المشركين مع النبي صلّى الله عليه وسلم [سورة الأنبياء (21) : الآيات 34 الى 41] وَما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35) وَإِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (40) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 529 المفردات: هُزُواً سخرية بَغْتَةً فجأة فَتَبْهَتُهُمْ فتغلبهم وتحيرهم فَحاقَ أحاط ودار: هذا هو موقفهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم لما أعيتهم الحيل، وانقطعت بهم السبل. وغلبتهم الحجج أخذوا يعللون أنفسهم بموت النبي صلّى الله عليه وسلم. المعنى: لقد كانوا يمنون أنفسهم بموت النبي صلّى الله عليه وسلّم فيشمتون فيه ويستريحون منه فنفى عنه الشماتة بهذا، وقضى قضاءه العدل بأنه لا يخلد في الدنيا أحد. فلا أنت، ولا هم بباقين فيها، وإذا كان الأمر كذلك أفإن مت فيبقون هم أحياء؟! أفإن مت فهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 530 الخالدون؟! لا: كل نفس ذائقة الموت، وكل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم، وإليه ترجعون، فالموت نهاية كل حي وسبيل كل نفس، ولا يبقى إلا الحي القيوم الباقي بعد فناء خلقه فاعتبروا يا أولى الأبصار. واعلموا أن محمدا رسول قد خلت من قبله الرسل، وتولى الله دينه بالنصر والحياطة. فهكذا يحفظ الله دينك بعد موتك يا محمد ما دام القرآن موجودا. والله- سبحانه وتعالى- قضى أن يختبر الناس بما يعطيهم من خير أو شر وكان ابتلاؤه بالخير دقيقا جدا قل من ينجح فيه فإن شكروا في الخير والنعيم، وصبروا في الشر والبلاء، فذلكم هم الفائزون، وإن أبطرتهم النعمة وجزعوا من البلاء فأولئك هم الخاسرون، وإلى الله ترجع الأمور. وإذا رآك الذين كفروا ما يتخذونك إلا هزوا وسخرية لأنك تذم آلهتهم، وتعيب أصنامهم، وتذكر الرحمن الرحيم بالخير والتمجيد والتقديس والعبادة ويقولون: أهذا الذي يذكر آلهتكم بالسوء ويذكر الرحمن بالخير؟! ومن أحق بالاستهزاء والسخرية؟ أمن يذكر الأصنام والحجارة بالخير، ويذكر الرحمن بالسوء والشر وهم الكافرون أم النبي صلّى الله عليه وسلّم الذي يقدس فاطر السموات والأرض؟!. إنهم هم الأحق بالاستهزاء والسخرية لأنهم وضعوا الشيء في غير موضعه، وهم بذكر الرحمن هم وحدهم كافرون!! كانوا يستعجلون عذاب الله وآياته الملجئة إلى الإيمان والإقرار بالعبودية لله وبالرسالة لمحمد اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ [سورة الأنفال آية 32] . فيقول الله لهم: خلق الإنسان من عجل حتى كأن العجل جزء من مادة تكوينه، وهذا طبع في الإنسان كله وغريزة فيه، سأريكم آياتي الدالة على القدرة وعلى صدق رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم فلا تستعجلون، وقد رأوا ذلك في نصرة الدين وإتمام نور الله ولو كره الكافرون. وكانوا يقولون: متى هذا الوعد؟ إن كنتم صادقين أيها المؤمنون. وهذا الاستعجال فيه معنى التكذيب والكفر بالنبي صلّى الله عليه وسلّم والقرآن. والله حين ينهانا عن العجلة مع أنها غريزة وطبع فينا إنما يطالبنا بأن نحكم العقل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 531 في غرائزنا، ونجعل الدين يتسلط على أعمالنا الظاهرة والباطنة، ولا شك أن هذا تسامى بالغريزة وإعلاء لها. لو يعلم الذين كفروا الوقت الذي يستعجلونه بقولهم: متى هذا الوعد؟ مع أنه وقت صعب، وموقف شديد إذ تحيط بهم النار من كل جانب فلا يقدرون على دفعها على أنفسهم، ولا يجدون لهم ناصرا ينصرهم. لو يعلمون هذا ويعرفونه حقا لما كفروا بالله واستهزءوا برسول الله، واستعجلوا يوم العذاب، ولكن جهلهم به، وعدم تبصرهم في الأمور بعين سليمة وقلب خال من الغل والحسد، وسوء التقليد هو الذي دفعهم إلى ذلك وهون عليهم عملهم هذا. وأما أنت يا محمد فصبر جميل فهذه هي طبيعة الناس مع كل من يدعوهم إلى الخير والرضوان فقديما استهزءوا برسل الله قبلك وفعلوا معهم الأفاعيل فكان جزاؤهم من الله أن أحاط بهم العذاب من كل جانب وأذاقهم الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون، ونجى الله رسله ومن معهم من المؤمنين، وإن الله على نصرهم لقدير. لا راد لقضاء الله [سورة الأنبياء (21) : الآيات 42 الى 46] قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 532 المفردات: يَكْلَؤُكُمْ يحرسكم ويحفظكم، والكلاءة: الحراسة والحفظ، كلأه الله حفظه يُصْحَبُونَ يجارون من عذابنا نَفْحَةٌ نصيب قليل. المعنى: إن استهزأ بك هؤلاء المشركون تكذيبا لك وإضعافا لشأنك فلا يهولنك ذلك أبدا فقد استهزئ برسل من قبلك، فحاق بالذين سخروا منهم سوء العذاب بما كانوا يستهزئون. وأنت يا نبي الله قل لهم: من يحفظكم من عذاب الله إن أتاكم؟ ومن يحفظكم ويرعاكم بالليل وأنتم نيام ميتون الموتة الصغرى؟! ومن يكلؤكم وأنتم بالنهار تغدون وتروحون؟! من يحفظكم من عذاب الرحمن وبأسه إذا أراد أن ينزله بكم؟! وانظر إلى تعبير القرآن الكريم الذي آثر ذكر الرحمن صاحب النعم للإشارة إلى أن عدم إيقاع العذاب على الكفار والعصاة من أتم النعم على الإنسان، لعله يبوء إلى نفسه، ويرجع إلى ربه وإذا كان لا راد لقضائه، فلن يمنع مانع من إيقاع العذاب بكم!! بل هم عن ذكر ربهم ذكرا قلبيا تسكن إليه النفوس، وتطمئن له القلوب معرضون بل ألهم آلهة يعبدونها تمنعهم عن عذابنا، وتقف حائلا دون تنفيذ أمرنا؟ ليس لهم ذلك إذ آلهتهم لا يستطيعون نصر أنفسهم فضلا عن نفع غيرهم ونصره. وليس لهم شفيع، ولا هم يمنعون عن عذاب الله أبدا. ولا يغرنكم تقلب الذين كفروا في النعيم، وما هم فيه من غنى وجاه فهو متاع أعطاهم الله إياه ليس لأحد فيه يد، وليس هناك مانع منع الله من إيقاع العذاب بهم بل متعهم الله به حتى تطول أعمارهم، وتقسو قلوبهم، وتسوء أعمالهم، ويكون حسابهم شديدا، وجزاؤهم نارا وحميما، وليس تركهم عن عجز أو تقصير. أعموا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 533 فلا يرون أنا نأت الأرض ننقصها من أطرافها والله يحكم لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه. وما هي الأرض وما معنى نقصها من أطرافها؟ هذه السورة مكية، وحالة المسلمين في مكة كما تعرف يا أخى كانت شديدة، فهل لنا أن نفهم أن المراد بالأرض أرض الكفر، ومعنى نقص أطرافها دخول الناس في الإسلام شيئا فشيئا، واتساع نفوذ الإسلام شيئا فشيئا على حساب أرض الكفار ونفوذهم، وهذا فهم يصح أن يكون إذا تجاوزنا في فهم نقصان الأطراف نوعا ما أو نقول إن هذا من باب الإخبار بالغيب. وبعض العلماء يقول: هذه آية سيقت للدلالة على قدرة الله- سبحانه وتعالى- حتى لا يفهم المشركون أن تركهم بدون إيقاع العذاب بهم عن عجز أو تقصير. لا: بل هي الحكمة الإلهية، والترتيب الرباني للمسلمين. فيكون المعنى أفلا يرى الكفار أنا نأتى الأرض أى الكرة الأرضية ننقصها من أطرافها أى: في الشمال والجنوب فعلماء الطبيعة يقولون: إن الأرض ليست تامة التكوير والاستدارة بل منبعجة في الوسط مفرطحة من جهة القطب الشمالي والجنوبي وهذه آية كونية يفسرها العلم الحديث بعد نزولها بثلاثة عشر قرنا. والرأى الأول لا بأس به أيضا لقوله تعالى: أَفَهُمُ الْغالِبُونَ؟ فإن معناها كيف يكونون غالبين بعد نقصنا لأرضهم من أطرافها وتقليل عددهم بمن يدخل في الإسلام ولو سرّا وفي هذا إشارة إلى غلبة المسلمين ونصرة أصحاب الحق مهما لاقوا ومهما حصل لهم، قل لهم يا محمد تهديدا لهم: إنما على البلاغ، وعلى الله الحساب، وإنما أنذركم بالوحي والقرآن، وأبين لكم عاقبة كفركم بما أتحدث به عن الأمم السابقة، وذلك شأنى؟ وما أمرنى الله به. ولكن هل يسمع الصم الدعاء؟ إذا ما ينذرون!! لا: إنه لن يسمع أولئك الذين ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة فقلوبهم مغلقة لا يدخلها خير أبدا فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ وقد قالوا: إن هناك حواس لإدراك المعنويات من الإنذار والتخويف، ومحلها القلب وسيأتى بيان ذلك قريبا إن شاء الله. وتالله لئن مستهم نفحة قليلة من عذاب ربك ليقولن: يا ويلنا ويا هلاكنا، إنا كنا ظالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 534 وفي هذا إشارة إلى قوة عذاب ربك وشدته إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ «1» وإن الإنسان المسكين لفي خسر وخسارة إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر، وأنه سيعرف الحق يوم يرى الجزاء الحق يوم القيامة، وسيندم حين لا ينفعه ندم الَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً [سورة النبأ آية 40] . عدل السماء [سورة الأنبياء (21) : آية 47] وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ (47) المفردات: الْقِسْطَ العدل مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مثقال الحبة وزنها، وحبة الخردل مثل في الصغر. المعنى: لا غرابة في عذاب هؤلاء المشركين والتشديد عليهم، والتنكيل بهم فالله حكم بذلك، وحكمه العدل، وهو صاحب الميزان القسط، وهو الذي يقول: ونضع الموازين العادلة يوم القيامة، وهل هناك موازين حقيقية توزن بها الأعمال بعد تجسيمها؟ أو هي موازين توزن بها الأمور المعنوية كما توزن بموازيننا الأمور الحسية؟ وأظن بعد اختراع موازين للضغط وللحرارة، وللحركة وغيرها من الأمور العارضة لا تستبعد من الله القوى القادر أن تكون هناك موازين لوزن العمل والإخلاص فيه لا تخطئ أبدا، وقال بعضهم: إن هذا كناية عن عدل الله المطلق الذي يعطى كل ذي حق حقه مهما كان والله أعلم بكتابه. فلا تظلم نفس شيئا أبدا أى: فلا ينقص من إحسان محسن، ولا يزاد في إساءة   (1) سورة البروج الآية 12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 535 مسيء وإن كان وزن حبة من خردل- فإنها مثل في الخفة والصغر- أتينا بها، وحاسبنا صاحبها عليها، وكفى بالله حسيبا وعلى الأعمال رقيبا وشهيدا ... موسى وهارون [سورة الأنبياء (21) : الآيات 48 الى 50] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50) المفردات: الْفُرْقانَ التوراة التي أنزلت على موسى. يقول الفخر الرازي في كتابه الفخر: اعلم أنه- سبحانه وتعالى- لما تكلم في دلائل التوحيد والنبوة والمعاد. شرع في قصص الأنبياء تثبيتا للقلوب وتطمينا للنفوس وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ [سورة هود آية 120] . المعنى: وتالله لقد آتينا موسى وهارون التوراة الفارقة بين الحق والباطل والفارقة بين الحلال والحرام، والضياء الذي يتوصل به إلى طريق الهداية وسبل النجاة إذ هي تعرفك بالله وبشرائعه، وكانت ذكرى وموعظة فيها كل ما يحتاجون إليه في دينهم ومصالحهم، ولكن لن ينتفع بها إلا المتقون، وهكذا القرآن!! نعم: وهذا كله إنما ينتفع به المتقون الذين يخشون ربهم ويخافون حسابه فيأتمرون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 536 بأمره، وينهون بنهيه، وهؤلاء هم الذين يؤمنون بالغيب، والله لا يغيب عنه شيء. وهم من الساعة وهولها مشفقون وخائفون. وقد كانت التوراة كذلك هدى وضياء وذكرى قبل أن يحرفوا كلمها عن مواضعه، ويغيروا ويبدلوا فيها. وكما أنزل الله على موسى وهارون الفرقان فكذلك أنزل عليك يا محمد القرآن، وها أنا أنذركم بما فيه، ولست بدعا فالأنبياء قبلي كانت لهم كتب كالتوراة وغيرها. وهذا القرآن ذكر مبارك ونور وهداية، فيه الخير والهدى والعلم والمعرفة، وفيه النجاة والسعادة، والفوز والفلاح. فيه أسباب سعادة الدنيا والآخرة إذ هو علاج لكل داء، ودواء لكل مرض، وقد أثبتت الحوادث ذلك فيما نرى. أفأنتم له منكرون بعد هذا؟!! إن هذا لعجيب!!! شيء من قصة إبراهيم عليه السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 51 الى 73] وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54) قالُوا أَجِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ (55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63) فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65) قالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ (69) وَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70) وَنَجَّيْناهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ نافِلَةً وَكُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَإِقامَ الصَّلاةِ وَإِيتاءَ الزَّكاةِ وَكانُوا لَنا عابِدِينَ (73) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 537 المفردات: رُشْدَهُ الرشد: اسم جامع للهدى والخير ووجوه الصلاح التَّماثِيلُ جمع تمثال وهو الصنم، والتمثال: اسم المصنوع الذي يشبه المصنوع الذي يشبه خلقا من خلق الله تعالى عاكِفُونَ مقيمون على عبادتها فَطَرَهُنَّ خلقهن وأبدعهن لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ لأمكرن بها جُذاذاً فتاتا، والجذ الكسر والقطع وقرئ جذاذا أى: كسرا وقطعا جمع جذيذ وهو الهشيم. قال الشاعر: جذذ الأصنام في محرابها ... ذاك في الله العلىّ المقتدر عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ بمرأى منهم نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ عادوا إلى جهلهم أُفٍّ صوت إذا صوت به علم أن صاحبه متضجر نافِلَةً زيادة على ما سأل ... وفرق بعضهم بين الصنم والوثن فالصنم هو المصنوع من المعدن يذوب في النار، والوثن المصنوع من الخشب أو غيره، وأما التمثال فيلاحظ فيه أنه يشبه إنسانا أو حيوانا ... إبراهيم خليل الله وأب الأنبياء، ذكر في القرآن كثيرا لعدة أغراض، وكان قومه أهل أوثان، وكان أبوه نجارا، يصنع الأصنام ويبيعها للناس، وأما إبراهيم فقد صنعه الله على عينه ورباه على يده، وهداه إلى الرشد فعلم أن الأصنام لا تسمع ولا تبصر ولا تنفع ولا تغنى شيئا، وما هي إلا خشبة أو حجر صنعها أبوه أمامه بالقدوم. وها هو ذا إبراهيم قد رأى في الأوثان العجب، وفي عبادتهم لها ما يبعث الهم والحزن، فأخذ يناقشهم ويجادلهم تارة بالحسنى، وطورا بالشدة، مرة مع أبيه، وأخرى مع الملك، وثالثة مع الجمهور، جادل وناقش فلما لم ينفع حطم الأصنام بيديه ليكلموه في شأنهم لعلهم بذلك يرجعون إلى الصواب، وانتهى الأمر إلى أن أوقدوا له نارا، وألقوه فيها فنجاه الله منها ثم هاجر من بلده (فدان آدرام) بالعراق إلى الشام ثم وهب الله له إسماعيل وإسحاق ثم يعقوب نافلة، وكانوا لله عابدين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 539 المعنى: ولقد آتينا إبراهيم رشده، ووفقناه لوجوه الصلاح والخير، وآتيناه الحكمة من قبل ذلك، وكنا به عالمين، وهذا يفيد أن إبراهيم- عليه السلام- خلق ونفسه مطبوعة على التوحيد، وحب الخير والنظر السليم للأمور، لهذا لم يعجبه ما هم عليه من عبادة الأصنام التي لا تحس ولا تشعر!! واذكر إذا قال إبراهيم لأبيه وقومه: ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون، وعلى عبادتها مقيمون؟!! وهذا استفهام المراد منه التجاهل والتحقير لشأنها مع علمه بأنهم يعظمونها ويجلونها، وهو يفيد إنكار عبادتهم لها. وانظر إلى الجهل المطبق، والعمى عن طرق الخير والسداد، وانظر إليهم وهم يجيبونه على سؤاله حيث قالوا: إنا وجدنا آباءنا لها عابدين!!. ما أقبح الجهل! وما أتعس الجهلاء!! ليس في أصنامهم وأوثانهم من خير أبدا، وليس فيها فضل أبدا، وليس معها مقتض للعبادة والتقديس إلا أن آباءهم لها عابدون؟ وأنهم على آثارهم مقتدون: يا للعار! ويا للشنار!! وما أعظم كيد الشيطان حين استدرجهم إلى تقليد آبائهم في عبادة التماثيل، وهم معتقدون أنهم على شيء، ويجادلون بالباطل أهل الحق! ألا لعنة الله على الضالين المقلدين. وأما إبراهيم فقال لهم: لقد كنتم أنتم وآباؤكم في ضلال مبين، وفي العبارة من التأكيد ما لا يخفى حيث قال: «أنتم» وقال «في ضلال» ... نعم أنتم وآباؤكم منخرطون في سلك، ومجتمعون في شمل واحد حيث عبدتم حجرا أو خشبة، وسندكم في عبادته هوى متبع وشيطان مطاع. أما هم فحينما صدموا بهذا الرد الشديد، والحجة التي قرعت أسماعهم، وملأت نفوسهم ألما وحزنا قالوا متعجبين: أجئتنا بالخير والحق الصريح أم أنت من اللاعبين الهازلين؟! وهكذا المغرور المخدوع حينما يجابه بالحقائق الناصعة يستبعد أن ما عليه هو وأبوه ضلال وخطأ، فيتعجب لذلك. قال إبراهيم: ربكم الذي يستحق العبادة والتقديس وتعفير الوجه له بالتراب، رب السموات والأرض الذي فطرهن، وخلقهن على مثال عجيب ووضع دقيق وأنا على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 540 ذلكم من الشاهدين الذين يدلون بالحجة على كلامهم، ويصححون دعواهم بالبرهان كما تصحح الدعوة بالشهادة، فأنا لست مثلكم إذ سندكم الوحيد، وحجتكم في عبادة الأصنام أنكم تقلدون آباءكم، ألا بئس ما تفعلون!! ولقد أضمر إبراهيم الشر في نفسه لهذه الآلهة، وأقسم بالله لا بد أن يلحق بها الأذى، وهذه طريقة أراد بها أن يفهم القوم مركز آلهتهم حيث لم تدفع عن نفسها ضررا وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ «1» ، وأن يقيم الحجة عملا على أنها لا يمكن أن تلحق بهم أذى إذا تركوا عبادتها، أو تكسبهم خيرا إذا عبدوها، والبرهان العملي أوقع في النفس وأبعد عن التأويل والشك حيث لم يجد المنطق. وذلك أنه كان لهم في كل سنة عيد يجتمعون فيه فقالوا لإبراهيم: لو خرجت معنا إلى عيدنا أعجبك ديننا فقال إبراهيم في نفسه: تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ وقد تخلف عنهم بحجة أنه مريض فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ [سورة الصافات آية 89] . فلما ذهبوا دخل على الأصنام، وأمامهم الأكل فجعلهم جذاذا وقطعا أى: كسرهم جميعا إلا كبيرهم فقد وضع الفأس على كتفه. وهذا هو الكيد الذي أقسم ليفعلنه بها وإنما فعل ذلك لعلهم إلى إبراهيم ودينه يرجعون، حيث يرون أن الأصنام لم تقدر على دفع الأذى عن نفسها، أو المعنى لعلهم إلى الصنم الأكبر يرجعون في تكسيرها، ويحملونه تبعة ذلك، ويسألونه أين كنت؟ ولماذا كسرت تلك الأصنام؟ وأنت صحيح. والفأس على كتفك، ولعل المعنى: لعلهم إلى هذا الصنم يرجعون استهزاء بهم وبآلهتهم. ولما رأوا ذلك، وقد غاظهم ما حل بآلهتهم قالوا، من فعل هذا بآلهتنا إنه لمن الظالمين المتجاوزين الحد في عملهم. قال بعضهم: سمعنا فتى يذكر الآلهة بسوء يقال له: إبراهيم فهو الذي فعل بهم ما فعل. قال نمروذ وأشراف قومه. ائتوا به على أعين الناس ليكون ظاهرا بمرأى منهم حتى يروه ويشهدوا. فيكون ذلك حجة دامغة عليه.   (1) سورة الحج الآية 73. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 541 فلما حضر قالوا له: أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم؟ فقال لهم إبراهيم: بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون، وفي تلك الإجابة تبكيت لهم، ولفت لنظرهم، وإثبات أنه الفاعل دون سواه حيث لم يكن إلا هو الصنم، والصنم لا يمكنه أن يصدر منه ذلك فثبت أنه هو الفاعل بالدليل ولم يكن قصده نسبة الفعل للصنم مع أنه الفاعل حقيقة. ولعل نسبة الفعل إلى الصنم من جهة أنه هو الذي غاظه كثيرا فحمله على التكسير فكأنه هو الفاعل للفعل. فلما حاروا وبهتوا من إجابة إبراهيم ومناقشته لهم رجعوا إلى أنفسهم فقالوا: إنكم أنتم الظالمون، ولكن أترى إبليس يتركهم يتوصلون إلى الحق؟! لا بل وسوس لهم وزين حتى أنهم بعد هذا نكسوا على رؤوسهم ورجعوا إلى الباطل يدافعون عنه وينغمسون في حمأته قائلين: كيف تطلب منا سؤالهم؟ لقد علمت ما هؤلاء ينطقون!! قال إبراهيم مقاطعا ومفحما لهم فيما يتقولون: أتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا من النفع ولا يضركم شيئا من الضرر، إذ أنه لا يقدر على الكلام أصلا، ولم يمكنه أن يدفع عن نفسه شيئا؟!! أف لكم!! ولما تعبدون من دون الله، أعميتم فلا تعقلون شيئا أبدا؟!! فلما أعيتهم الحيل كلها في إبراهيم وإسكاته، وضاقت عليهم الأرض بما رحبت: قالوا: لا ينفعه أبدا إلا الموت، ولا يريحنا منه إلا إهلاكه، وليكن هلاكه على أفظع صورة، وبأقبح شكل، وهو إحراقه بالنار فإذا تم ذلك كان لكم النصر ولآلهتكم الفوز، إن كنتم فاعلين شيئا حقا فافعلوا هذا. ولكن الله- سبحانه- الذي تكفل لعباده وخاصة الأنبياء بالحفظ والرعاية والكلاءة والمعونة أبى إلا نصر إبراهيم وحفظه من النار التي تذيب الحديد، وتصهر المعدن والفولاذ. قال الله: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم فلم يشعر إبراهيم بشيء أبدا يؤلمه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 542 بل ظل يسبح بحمد الله، ويشكر فضل الله الذي لا ينساه حتى خبت النار ولم يمس بسوء. وهكذا تكون عناية الله ورعايته للأنبياء والأولياء والصالحين من عباده، ألم تر إلى قريش وقد جمعت جموعها، وتشاورت في أمرها. واتفقت فيما بينها على أن تقتل محمدا، ولكن أين لهم هذا!! والله تعالى يقول: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة 67] وروى أبى بن كعب- رضى الله عنه- عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أن إبراهيم حين قيدوه ليلقوه في النار قال: لا إله إلا أنت سبحانك رب العالمين لك الحمد ولك الملك لا شريك لك» قال ثم رموا به في المنجنيق من مضرب شاسع فاستقبله جبريل فقال: يا إبراهيم ألك حاجة قال «أما إليك فلا» ، فقال جبريل فاسأل ربك فقال. «حسبي من سؤالى علمه بحالي» فقال الله: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم. وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين، ونجيناه ولوطا ابن أخيه إلى أرض الشام، التي باركنا فيها حيث كانت مهبط الأنبياء، وإحدى القبلتين، وكانت من حيث الماء والزرع فيها بركة وخير للساكنين بها. ووهبنا لإبراهيم إسحاق، ومن ولده كان يعقوب جعلناه صالحا تقيا. وجعلناهم أئمة مهديين يقتدى بهم في الخيرات، وأعمال الصالحات كل ذلك يأمرنا، وبما أنزلناه عليهم من الوحى والإلهام، ومن هنا نفهم أن من ينصب نفسه إماما يجب أن يكون مهديا: بطبعه مصلحا لنفسه ثم يصلح غيره، وأو حينا إليهم فعل الخيرات، والطاعات، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وكانوا لنا عابدين مطيعين. طرف من قصة لوط ونوح عليهما السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 74 الى 77] وَلُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) وَنُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 543 المعنى: وآتينا لوطا الحكم والنبوة، والعلم والمعرفة، بأمور الدين والدنيا، وآتيناه علما نافعا وفهما سليما، وتلك مقومات النبوة وأسسها، وهكذا يعد الله- سبحانه- من يتحمل رسالته بما يجعله أهلا لها وأحق بها، والله أعلم حيث يجعل رسالته. ونجيناه من القرية (سدوم) التي بعث فيها، وكانت تعمل الخبائث والمنكرات، تلك القرية الظالم أهلها بالفسق والفجور، إذ كانوا يأتون في ناديهم المنكر، وكانوا يأتون الرجال من دون النساء كما تقدم في سورة هود. وأدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين. وهذا هو نوح الأب الثاني للبشر، اذكر وقت أن نادى من قبل إبراهيم ولوط، نادى داعيا على قومه فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1» . فدعا ربه أنى مغلوب فانتصر، ولم يدع على قومه بهذا إلا بعد أن دعاهم بالحسنى ألف سنة إلا خمسين عاما ولكنهم أبوا إلا العناد والكفر. فاستجاب الله دعاءه وأنزل بهم العذاب، وأغرقهم بالماء الذي هو مصدر الحياة، فكان عندهم مصدر الفناء، ونجا الله نوحا والمؤمنين معه من الغرق والكرب الشديد، ونصره على القوم الكافرين المكذبين الذين كذبوا بآياتنا، وذلك جزاء الظالمين. فهل لكم يا كفار مكة أن تعتبروا وتتعظوا بمن سبقكم من قوم لوط ونوح وما حل بهم، وكيف كان النصر للمؤمنين، والعذاب الشديد للكافرين.   (1) سورة نوح الآية 26. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 544 داود وسليمان عليهما السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 78 الى 82] وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82) المفردات: الْحَرْثِ هو الزرع عامة، وقيل: كان الحرث كرما. نَفَشَتْ: النفش: الرعي ليلا، وفيه معنى التفرق في الزرع بلا نظام لَبُوسٍ اللبوس عند العرب السلاح بأنواعه، والمراد في الآية الدروع خاصة عاصِفَةً شديدة الهبوب يَغُوصُونَ الغوص: النزول تحت الماء. والغواص: الذي يغوص في البحر على اللؤلؤ. المعنى: واذكر يا محمد داود وسليمان. اذكر خبرهما وقت أن يحكما في شأن الحرث إذ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 545 رعته غنم القوم ليلا. وكان الله- سبحانه- لحكم داود وسليمان ومن تابعهما شاهدا وحاضرا إذ لا يغيب عنه شيء، ولا يكون إلا ما يريد، ذكر المفسرون. أن رجلين دخلا على داود وعنده ابنه سليمان. أحدهما صاحب الحرث، والآخر صاحب الغنم. فقال صاحب الحرث: إن هذا انفلتت غنمه ليلا فوقعت في حرثى، فلم تبق منه شيئا، فقضى داود بأن يأخذ صاحب الحرث الغنم، فإنها تساوى قيمة الحرث التي أفسدته. فلما سمع سليمان هذا الحكم رأى ما هو خير منه، وأرفق بالجميع فقال: ينبغي أن تدفع الغنم إلى صاحب الحرث فينتفع بألبانها وسمنها وأصوافها، ويدفع الحرث إلى صاحب الغنم ليقوم عليه حتى إذا عاد الزرع إلى حاله التي أصابته الغنم في السنة المقبلة رد كل واحد منهما ماله إلى صاحبه.. فقال داود يا بنى: القضاء ما قضيت، وقضى بما قضى به سليمان وأقره. وهذا معنى قوله: ففهمناها سليمان، أى: فهمنا سليمان القضية وحكمها العادل عدلا فيه تعويض وتعمير. وكلا من داود وسليمان آتيناه حكما صحيحا، وإدراكا للأمور سليما، ومن هنا قيل: لكل مجتهد نصيب، وفي الحديث الصحيح: أن الحاكم إذا اجتهد فأصاب فله أجران. وإن اجتهد فأخطأ فله أجر. وهل كان حكم داود وسليمان عن اجتهاد أو عن وحى؟ الظاهر أنه عن اجتهاد. ولما مدح الله داود وسليمان معا أخذ يذكر ما يختص به كل واحد منهما فبدأ بداود لأنه أب سليمان، فقال: وسخرنا مع داود الجبال يسبحن. فكان داود إذا سبح سبحت الجبال معه، وقيل: كانت الجبال تسير مع داود فإذا رآها أحد سبح لله تعظيما له وتقديسا، وسخرنا مع داود الطير تسبح كما يسبح، وتمتثل أمره إذا أمر، وكنا فاعلين. وعلمنا داود صنعة دروع لكم تقيكم من بأس الحرب وشدته، فهل أنتم شاكرون؟ ومعنى الاستفهام اشكروا الله على ما أسبغ عليكم من نعمه، ووفقكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم، والتركيب يفيد طلب الشكر طلبا شديدا. ثم ذكر ما خص به سليمان- عليه السلام- فقال: وسخرنا له الريح حالة كونها عاصفة شديدة الهبوب، فهي تجرى بأمره وتخضع الجزء: 2 ¦ الصفحة: 546 لحكمه، وتنقله إلى الأرض التي باركنا فيها، وهي أرض الشام كما تقدم، وكان الله بكل شيء عليما. وسخرنا له من الشياطين من يغوصون في البحار، ويستخرجون من المعادن ما يحتاج إليه! ويعملون غير ذلك من بناء أبنية، ومحاريب وجفان كالجواب وقدور راسيات، وكنا لهم حافظين، فلا هرب ولا إفساد، ولا لعب بل كل يجتهد حسب ما يكلف. هذه الآيات شهادة للعمال وأهل الحرف والصنائع، بأن العمل شرف واتخاذ الحرفة كرامة، ولقد قيل: صنعة في اليد أمان من الفقر، وقد أخبر الله- سبحانه وتعالى- عن نبيه داود- عليه السلام- أنه كان يصنع الدروع، وكان يأكل من عمل يده وكان نوح نجارا يصنع السفن، ولقمان خياطا، وهكذا التاريخ يحدثنا أن العمل كان ديدن الصالحين وطريق المؤمنين اثروا العمل على ذل السؤال وفي الحديث الشريف: «لأن يأخذ أحدكم حبله فيحتطب خير له من أن يسأل النّاس أعطوه أو منعوه» . فالإسلام دين لا يعرف البطالة ولا الكسل بل هو دين العمل والجد، والكسب والغنى، ولكن عن طريق الحلال لا عن طريق الحرام. ولقد يفهم الناس خطأ أن الإسلام يدعو إلى الفقر والزهد والمكث في المساجد وعدم العمل، وهذا فهم خطأ، وإنما يحث الدين على القناعة والإجمال في الطلب وعدم التكالب على الدنيا فإن ذلك قد يدفع صاحبه إلى التعدي على أخيه وظلمه إرضاء لشهوة المال وجمعه. أيوب عليه السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 83 الى 84] وَأَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْناهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 547 المفردات: الضُّرُّ بفتح الضاد الضرر في كل شيء، وبالضم الضرر في النفس من مرض وهزال. المعنى: واذكر يا محمد أيوب وخبره الحق وقت أن نادى ربه أنى مسنى الضر ولحقني التعب والهم، وأنت يا رب أرحم الراحمين. أما ضر أيوب الذي لحقه فالمفسرون جالوا في تحديده وصالوا، وذكر القرطبي في ذلك خمسة عشر قولا. الأول: أنه وثب ليصلى فلم يقدر على النهوض فقال: مسنى الضر: إخبارا عن حاله لا شكوى لبلائه، وهذا لا ينافي الصبر إلى آخر الأقوال التي ذكرت في تفسير الآية. والناس يروون في بلاء أيوب أقوالا يوردونها تدل على أنه مرض مرضا مشوها ومنفرا للناس. وهذا يتنافى مع منصب النبوة، إذ الأنبياء منزهون عن الأمراض المنفرة، ويمكن أن نفهم أن الابتلاء بهذا الشكل كان قبل النبوة فلما صبر وصابر اجتباه الله واختاره نبيا، على أن المبالغين في تصوير ضر أيوب ومرضه إنما اعتمدوا فيما يقولون على ما جاء عند أهل الكتاب في السفر المسمى «سفر أيوب» . وبهذه المناسبة هذا السفر اختلفوا في وضعه هل هم اليهود. أو أيوب، أو سليمان، أو أشعيا، أو رجل مجهول الاسم، أو حزقيال، أو عزرا؟ واختلف أهل الكتاب في زمانه هل هو معاصر لموسى؟ أو لأزدشير، أو لسليمان أو لبختنصر، أو كان زمان قبل إبراهيم إلخ، حتى قال أحد علماء البروتستانت: إن خفة هذه الخيالات دليل كاف على ضعفها. أما القول الحق فهو: أيوب عبد صالح امتحنه الله في ماله وأهله وولده وبدنه قصير ثم من الله عليه بالعافية، وأعطاه أكثر مما فقد، وأثنى عليه ثناء جميلا في القرآن وجعله نبيا، ولم يكن عنده المرض المنفر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 548 وساق قصته لثبوت رحمته للمؤمنين، وكيف ينصر عباده المتقين، ولتكون ذكرى للعباد في كل حين، حتى لا ييأس إنسان من عفو الله، ولا يطمع إنسان مؤمن في أنه لا يصاب بمكروه في الدنيا ابتلاء ومحنة، وورد «أشدّ النّاس بلاء الأنبياء ثمّ الصّالحون ثمّ الأمثل فالأمثل» وصدق رسول الله. إسماعيل وإدريس وذو الكفل [سورة الأنبياء (21) : الآيات 85 الى 86] وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86) المعنى: وذكر إسماعيل وهو ابن إبراهيم، وجد النبي- عليهم جميعا الصلاة والسلام- وإدريس نبي بعث بعد شيث وآدم- عليهم السلام- جميعا. وأما ذو الكفل فالظاهر أنه عبد صالح ناب وأتاب إلى الله- سبحانه-، وكان من بنى إسرائيل. روى من حديث ابن عمر عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: كان في بنى إسرائيل رجل يقال له ذو الكفل لا يتورع من ذنب عمله فأتبع امرأة فأعطاها ستين دينارا (على أن يطأها) فلما قعد منها مقعد الرجل من امرأته ارتعدت وبكت فقال: ما يبكيك؟ قالت من هذا العمل والله ما عملته قط! قال: أأكرهتك. قالت: لا. ولكن حملتني عليه الحاجة، قال اذهبي فهو لك. والله لا أعصى الله بعدها أبدا ثم مات من ليلته فوجدوا مكتوبا على باب داره إن الله قد غفر لذي الكفل ، والله أعلم بصحة هذا الحديث! وإسماعيل، وإدريس، وذو الكفل كلهم من الصابرين المحتسبين، وأدخلناهم في رحمتنا، وشملناهم بعطفنا وتوفيقنا. وذلك لأنهم كانوا من الصالحين القانتين. وقد ذكر القرطبي في تفسيره بعد أن ساق الحديث السابق في ذي الكفل روايات قال عمر بن عبد الرحمن بن الحارث، وقال أبو موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلم: إن ذا الكفل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 549 لم يكن نبيا، ولكنه كان عبدا صالحا فتكفل بعمل رجل صالح عند موته إلى آخر ما ذكر ... ولكن سياق الآية وفي سورة (ص) التي ذكر فيها كثير من الأنبياء «وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ» (48) من سورة (ص) أليس دليلا على أنه نبي؟! على أن الكشاف: صرح بأنه نبي وله اسمان إلياس وذو الكفل أى: ذو الحظ الكثير. يونس عليه السلام [سورة الأنبياء (21) : الآيات 87 الى 88] وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَنَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88) المفردات: وَذَا النُّونِ هو يونس- عليه السلام-. صاحب الحوت، والنون هو الحوت نَقْدِرَ من القدر والتقدير الذي هو القضاء والحكم، والمراد فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة.، ويؤيد هذا قراءة نقدر وقيل المراد: أى نقتر يقال قدر يقدر أى: يقتر عليه وقوله تعالى اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ أى: يبسط ويقتر أى: فظن أن لن نضيق عليه. قصة يونس- عليه السلام- صاحب الحوت من المواضع الدقيقة في القرآن الكريم التي تحتاج من الباحث سعة اضطلاع وحسن تصرف، وذلك أن القصة ذكرت في سورة الأنبياء كما هنا، وفي سورة (ص) الآتية، وفيهما يقول الله: إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً، ويقول في سورة (ص) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ ويقول كما هنا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ. إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 550 وظاهر نصوص القرآن الكريم تثبت ليونس أنه غاضب. فممّن غاضب؟!.، وأنه أبق! وأنه ظن أن لن نقدر عليه، وأنه كان من الظالمين..، وهذا بلا شك لا يليق بالأنبياء على أن هذا الموضوع سيجرنا إلى البحث عن عصمة الأنبياء وإلى أى مدى تكون، ويحملنا كذلك على تأويل تلك النصوص بما يتفق وروح الدين والقول الحق في نظري عن عصمة الأنبياء خلاصته: أن الأنبياء- صلوات الله عليهم- معصومون عن الكبائر مطلقا. وأما عن الصغائر فهم معصومون على الإتيان بها عمدا في حال النبوة، وإن جاز أن يقع منهم شيء فهم متأولون أو ناسون وهذه تعتبر ذنوبا في حقهم، وإن كانت غير ذنوب عند أممهم نظرا لما لهم من القرب والاتصال بالحضرة العلية، وصدق من قال: حسنات الأبرار سيئات المقربين، وموضوع كلامنا قصة يونس فنقول: سائلين الله أن يحفظنا من الخطأ. المعنى: واذكر يا محمد ذا النون وهو يونس إذ ذهب مغاضبا لله، أى: لأجل الله فيونس غاضب قومه من أجل ربه إذ يكفرون به ولا يصدقون برسله. والظاهر أن يونس أرسل إلى قومه فعصوه، ولم يتبعه إلا القليل، وكان ذلك مما يحز في نفسه ويؤلمه ويغضبه، وكان يونس ضيق الصدر شديد الإخلاص لقومه كثير الحرص عليهم فهذا كله يجعله يغضب ويثور، وما هكذا تكون الأنبياء والرسل انظر إلى الله يقول لمحمد صلّى الله عليه وسلم: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ «1» وكثيرا ما كان يعالج القرآن ذلك عند النبي صلّى الله عليه وسلّم المعصوم والمبرأ من كل عيب فيقول: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ [سورة هود آية 12] . ولهذا كان الأنبياء الذين بالغوا في الصبر والمثابرة وهم- إبراهيم، وموسى، وعيسى، ونوح. ومحمد- صلوات الله عليهم جميعا- أولى العزم. فيونس ذهب مغاضبا من أجل عصيان ربه، وليس مغاضبا ربه أو آبقا حقا، وإلا كان من مرتكبا لكبيرة لا تليق بالفرد العادي فما بال يونس النبي الكريم؟! الذي يقول فيه المصطفى «لا تفضّلونى على يونس بن متّى» .   (1) سورة القلم الآية 48. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 551 إذا فهو مغاضب من أجل ربه، وكان في خروجه من عند قومه في صورة الآبق وهذا لا يليق بنبي كريم ولذا كان العتاب وكان وصفه لنفسه أنه من الظالمين وأما قوله تعالى: أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فالمعنى فظن يونس أن لن نقتر عليه ونضيق بل نتركه يسير حيث أراد، أو فظن أن لن نقدر عليه من القدر أى: فظن أن لن نقضي عليه بالعقوبة. والذي ذكر في قصته أنه خرج مغاضبا من أجل ربه خرج في صورة الآبق إلى ساحل البحر فوجد سفينة فركبها، وهو هائم على وجهه فلما سارت السفينة إلى عرض البحر اضطربت واهتزت وأشرفت على الغرق فقال ربانها: لأن يغرق شخص خير من أن نغرق جميعا فاستهموا فخرج سهمه فألقى في البحر فالتقمه الحوت وهو مليم، (فعل فعلا يلام عليه) إذ كان الأولى أن يصبر حتى يأتى أمر الله في قومه، فلما قر في جوف الحوت أدرك نفسه وعرف موقفه فنادى في الظلمات ظلمة الليل، وظلمة البحر، وظلمة جوف الحوت: أن لا إله إلا أنت سبحانك يا رب!! إنى كنت من الظالمين فاغفر لي يا رب فغفر الله له ونجاه مما هو فيه، وكذلك ينجى الله المؤمنين. فاعتبروا يا أولى الأبصار واتعظوا بهذا. أما قومه فلما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين فَلَوْلا كانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ [يونس 98] . زكريا. ويحيى. ومريم [سورة الأنبياء (21) : الآيات 89 الى 91] وَزَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَأَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَيَدْعُونَنا رَغَباً وَرَهَباً وَكانُوا لَنا خاشِعِينَ (90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَجَعَلْناها وَابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 552 المفردات: لا تَذَرْنِي لا تتركني وَالَّتِي أَحْصَنَتْ والمراد: حفظت نفسها والإحصان العفة فإنها تحصن النفس من الذم والعقاب. المعنى: واذكر زكريا وقت ان نادى ربه نداء خفيّا، وقال إنى وهن العظم منى واشتعل الرأس شيبا، وقد عودتني الجميل وإجابة الدعاء، يا رب: لا تذرني وحيدا لا ولد لي وأنت الباقي بعد فناء خلقك، فأنت حسبي ونعم الوكيل، فإن لم ترزقني ولدا يحمل عبء الرسالة من بعدي فإنى أعلم أنك لا تضيع دينك، وأنه سيقوم بذلك من عبادك من تختاره وترتضيه. فاستجاب الله دعاءه، ووهب له يحيى ولم يجعل له من قبل شبيها ولا نظيرا وأصلح الله له زوجه خلقا حتى صارت تحمل ولدا بعد أن كانت عقيما، وخلقا حتى صارت مثله في الخلق الطيب. ولا عجب في هذا فإن زكريا ويحيى وزوجه كانوا دائما يسارعون في الخيرات، ويتسابقون في عمل الصالحات. وقيل: إن الأنبياء جميعا كانوا دائما يتسابقون مسرعين في عمل الخيرات، وهذا تعليل لإكرام الله لهم، وإجابته طلبهم، فاعتبروا أيها الناس.. وكانوا يدعوننا رغبا ورهبا، وفي الرخاء والشدة، وفي المنشط والمكره، وكانوا لنا خاشعين متواضعين متضرعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 553 واذكر مريم البتول التي أحصنت فرجها وأعفت نفسها وحفظتها من كل عيب وذم فنفخنا فيها من روحنا، وقد تقدم قول الله في آدم فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي «1» أى: أحييته، فيكون المعنى هنا: فأحيينا عيسى الذي هو في بطن مريم. وجعلناها وابنها آية على القدرة القادرة لله- سبحانه وتعالى-، فقد خلق عيسى من غير أب كما خلق آدم من غير أب وأم، فجعل عيسى آية للناس جميعا. وذكر مريم وإن لم تكن من الأنبياء هنا لأجل عيسى ابنها. الوحدة الكبرى عند الرسل جميعا وجريان السنن على وتيرة واحدة [سورة الأنبياء (21) : الآيات 92 الى 97] إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94) وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)   (1) سورة الحجر الآية 29. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 554 المفردات: أُمَّتُكُمْ ملتكم حَدَبٍ أى: مرتفع شاخِصَةٌ يقال: أبصار وعيون شاخصة إذا كانت لا تكاد تطرف من هول ما هي فيه. المعنى: بعد ما ذكر أخبار الماضين من الرسل وأقوامهم، وظهر أنهم جميعا يسارعون في الخيرات، ويدعوننا رغبا ورهبا، وكانوا لله خاشعين، وعليه متوكلين، وله مسلمين، دينهم التوحيد الخالص، والإيمان بالله ورسله وكتبه، أشار- سبحانه وتعالى- إلى الدعوة المحمدية على أنها ليست بدعا وليس صاحبها بدعا من الرسل. إن هذه الملة المحمدية هي ملتكم التي يجب أن تتمسكوا بها، ولا تنحرفوا عنها، هي ملة واحدة كما عرفتم من الأمم مع أنبيائهم، أعنى ملة واحدة غير مختلفة في الأصول والعقائد قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [سورة آل عمران آية 64] . إن هذه أمتكم أمة واحدة، وأنا ربكم الواحد الأحد، الفرد الصمد فاعبدوني، ولا تشركوا بي شيئا، وآمنوا برسلي خاصة خاتم النبيين محمدا صلّى الله عليه وسلم. حول الخطاب إلى الغيبة كأنه ينقل أخبارهم إلى قوم آخرين، على معنى: ألا ترون ما ارتكب الناس من مخالفات في دين الله، لقد جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا، كما يوزع الجماعة الشيء، ويقتسمونه فيكون لهذا قطعة ولذاك قطعة، وهذا تمثيل لاختلافهم وكونهم أحزابا وفرقا شتى، وما علموا أن الكل إلينا راجع، وكلهم واردون على حساب شديد يوم الفزع الأكبر، فاحذروا أيها الناس أن تكونوا مثلهم. فإن من يعمل بعض الصالحات وهو مؤمن فسيأخذ جزاءه كاملا غير منقوص، ولا كفران لسعيه أبدا، وإن عمله مكتوب عند الملائكة، وفي كتابه الذي يلقاه بيمينه وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً. وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ. نعم حرام على قرية أردنا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 555 إهلاكها وقدرناه لها أنهم يرجعون عن الكفر إلى الإسلام، ويثوبون إلى رشدهم فأولئك ختم الله على قلوبهم وعلى أبصارهم فهم لا يؤمنون أبدا.. وقوله: (حرام) مستعار لمنع الوجود، كقوله في آية أخرى إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ [سورة الأعراف آية 50] ، أى: منعهما. ومعنى الآية بإيجاز: إن قوما ما أراد الله إهلاكهم لعلمه بحالهم غير متصور أبدا أن يرجعوا إلى الإسلام وحدوده إلى أن تقوم القيامة، وحينئذ يثوبون إلى رشدهم ويقولون: يا ويلنا إنا كنا في غفلة من هذا، بل كنا ظالمين!! فهم لا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، وعلى ذلك فقوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ غاية لما قبلها كما ذكرنا ذلك، ولا في قوله لا يَرْجِعُونَ صلة أى زائدة للتأكيد. وهذا شيء مألوف في الأساليب العربية. وقيل إن معنى الآية: حرام على قرية أهلكناها أن أهلها لا يرجعون إلينا يوم القيامة للحساب إذ الجزاء ليس في الدنيا فقط ... وقوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ إلى آخر الآية. مظهر من مظاهر يوم القيامة، أى إذا فتحت قبور يأجوج ومأجوج وهم الناس جميعا، وقد خرجوا من قبورهم، وأقبلوا من كل حدب يسرعون، ويؤيد هذا قراءة ابن عباس، «وهم من كل جدث (قبر) يسرعون» وهذا هو النشر بعينه. واقترب الوعد الحق فإذا هي الأبصار شاخصة أى: أبصار الذين كفروا من هول ما رأوا لا تطرف أبدا، ويقولون: يا ويلنا وهلاكنا قد كنا في غفلة من هذا!! ولم نعمل حسابا لهذا الموقف، بل لم نؤمن أبدا بل كنا ظالمين لأنفسنا ولغيرنا. وفي التفسير المأثور يروون في قوله تعالى: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ أن المراد حتى إذا فتح سد يأجوج ومأجوج، وذلك يكون في الدنيا، وأنهم يعيثون في الأرض فسادا، ويخرجون ويدمرون ثم يهلكهم الله بعد ذلك، وذكر ابن كثير في تفسيره أحاديث تثبت هذا. والذي يمنع ذلك أنه ليس هناك سد مادى موجود في الدنيا، فإذا تأولنا في السد جاز أن نفهم في تحقيق ذلك جواز طغيان المبادئ الهدامة المنتشرة في روسيا والصين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 556 وأصحابهما في يوم من الأيام، واكتساحهم العالم، وسيبقى نفر قليل من المسلمين كما روى الحديث ويكون هلاكهم من الله- سبحانه وتعالى-، والآية على هذا ذكرت مقدمة من مقدمات قيام الساعة، والله أعلم بكتابه. نهاية الكافرين ونهاية المؤمنين [سورة الأنبياء (21) : الآيات 98 الى 106] إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَكُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَهُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَلَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 557 المفردات: حَصَبُ جَهَنَّمَ حطب جهنم ووقودها، وكل ما ألقيته في النار قد حصبتها به وارِدُونَ داخلون زَفِيرٌ الزفير: صوت نفس المغموم الذي يخرج من القلب حَسِيسَها صوتها وقيل: حركاتها مَا اشْتَهَتْ الشهوة: طلب النفس اللذة الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ هو النفخة الثانية نَطْوِي الطى ضد النشر السِّجِلِّ هو الصحيفة والمراد كطىّ الصحيفة على ما فيها من الكتابة الزَّبُورِ زبرت الكتاب أى كتبته، وعلى ذلك صح إطلاق الزبور على التوراة والإنجيل والقرآن ... ترتيب عجيب محكم، هذه الآيات الكونية ناطقة بالتوحيد، وهؤلاء هم الرسل جميعا يدعون إليه فما حال من يشرك بعد ذلك؟!! لقد ذكرت الآيات مشهدا من مشاهد يوم القيامة تجلت فيه نهاية الموحدين والمشركين روى عن ابن عباس: أنه لما نزلت آية إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ شق على كفار قريش ذلك، وقالوا: شتم آلهتنا، وأتوا ابن الزبعرى وأخبروه فقال: لو حضرت لرددت عليه قالوا: وما كنت تقول؟ قال: كنت أقول له: هذا المسيح تعبده النصارى، وعزير تعبده اليهود، أفهما من حصب جهنم؟ فعجبت قريش من مقالته، ورأوا أن محمدا قد خصم، أى: غلب في المخاصمة، فأنزل الله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى وفيها نزل وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ أى: يضجون من سورة الزخرف. المعنى: إنكم أيها الكفار والمشركون أنتم وما تعبدون من دون الله من صنم أو وثن أو شيطان أو حيوان أو نجم أو غيره حصب جهنم ووقودها فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ «1» أنتم جميعا لها واردون، وفيها داخلون. وانظر يا أخى إلى نار وقودها الناس والحجارة!! وقالوا: إن المراد بالحجارة حجارة الكبريت. وقانا الله شرها. انظر إلىّ بعقلك، وتفهم قول الحق- تبارك وتعالى- فإنه أوضح من الشمس.   (1) سورة البقرة الآية 24. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 558 لو كان هؤلاء الذين عبدوهم آلهة تنفع وتضر كما هو مقتضى العبادة لما وردوا النار، ودخلها العابدون والمعبودون!! وكل منهم في جهنم خالدون معذبون عذابا شديدا، لهم فيها من شدة الكرب والهم- والعياذ بالله- زفير وشهيق، ولهم صوت يدل على شدة الألم، ومنتهى الهم والحزن، وهم فيها لا يسمعون بل هم صمّ بكم عمى وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا [سورة الإسراء آية 97] . هذه عاقبة الكفر ومآله. أما من آمن وعمل صالحا فلا ضير عليه أبدا، وإن عبده غيره إذ لا ذنب عليه وما ذنب المسيح؟ والعزير، وعلى بن أبى طالب مثلا وما ذنب الملائكة التي عبدها بعض الناس؟! فهم داخلون الجنة في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أى: الجنة بسبب أعمالهم الطيبة لا يسمعون صوت النار ولا يصيبهم شررها أولئك عنها مبعدون، وهم في جنات الخلد يمتعون بما اشتهته أنفسهم، وبما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [سورة فصلت الآيتان 31 و 32] . وهم فيها لا خوف عليهم ولا هم يحزنون أبدا، لا يحزنهم الفزع الأكبر، والهول الأعظم الذي ينتاب غيرهم فيزلزل قلوبهم، ويهز كيانهم، وتتلقاهم الملائكة بالبشر والترحاب مسلمين عليهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ [سورة الزمر آية 73] قائلين لهم: هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ فيه الكرامة والمثوبة والحسنى. وهذا كله يكون يوم يطوى الله السماء ويضعها بعد نشرها كما نرى، كطي الصحيفة للكتاب المكتوب فيها، إنه لتصوير رائع لقدرة القادر الذي يطوى عوالم السماء كما تطوى صحيفة كتابك! سبحانك يا رب! إنك على كل شيء قدير. طويت السماء بعد أن كانت منشورة، وأعدت الخلق أحياء كما كانوا في الدنيا، تعيد الخلائق كما بدأتها تشبيها للإعادة بالبدء في تناول القدرة لهما على السواء فكما أوجدت الخلائق أولا من العدم إلى الوجود تعيدها كذلك من العدم إلى الوجود بل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 559 هو أهون عليه- سبحانه وتعالى- في نظرنا. وعد ذلك وعدا عليه، وكان وعد ربك مفعولا، ومن أصدق من الله حديثا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ. ولقد كتبنا في الكتب التي أنزلت على الأنبياء جميعا من بعد الذكر أى: في أم الكتاب أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وقد حكم أن يرثها عباده الصالحون، والأرض هي الجنة فهي التي يستحقها الصالحون المؤمنون كما يستحق الوارث ميراث أبيه. وبعض العلماء يرى أن الأرض أرض الكفار، ويرثها العباد الصالحون المؤمنون القائمون بأمر الدين الحاكمون بالقرآن المتمسكون بهدى النبي صلّى الله عليه وسلم، وهذا رأى حسن بلا شك فقد جعل الله العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، ولم يجعل للكافرين على المؤمنين سبيلا، ولكن يا أخى أين نحن من القرآن؟ وأين المسلمون الصالحون؟!. وبعض الناس يرى أن الأرض هي أرض الدنيا ويرثها أى يملكها العباد الصالحون لعمارتها، ولكن هذا لا يعبأ به حتى يكتب في جميع الكتب: وأما قول بعضهم إن الأرض يأخذها المؤمن الصالح لا الكافر فهذا مردود بالواقع المحسوس.. والله أعلم بكتابه. إن في هذا الذي تقدم من أول السورة إلى هنا من توجيه أنظارنا لآيات الله الكونية، ومن قصص لنا فيها عبر ومواعظ وحكم. لبلاغا- والبلاغ الكفاية، وما تبلغ به البغية، وما تنال به الرغبة- ولكن يكون لقوم عابدين خاضعين قانتين إذ هم المنتفعون بهذا البلاغ. موقف النبي صلّى الله عليه وسلّم من الناس [سورة الأنبياء (21) : الآيات 107 الى 112] وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتاعٌ إِلى حِينٍ (111) قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (112) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 560 المفردات: آذَنْتُكُمْ أعلمتكم، مأخوذ من الآذن، أى: الإعلام. بعد ذلك البيان الرائع ماذا يكون موقف النبي؟ إنه الرحمة المهداة، عليه البلاغ، وعلى الله الحساب. المعنى: عرفنا فيما مضى جزاء المشركين بالله. والمؤمنين به، وكانت العاقبة للمتقين وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم هو مفتاح الخير، وباب الرحمة، ولقد صدق الله وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ أى: للناس أجمعين أما أتباعه فرحمته عمتهم وفضله ونوره وسعهم، وغيرهم كذلك، وإن كان عن طريق غير مباشر. ولسنا مبالغين إذ قلنا إن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أول من شرع العدل وسنه وأول من حكم بالقسط، وقنن القوانين الحكمية، وهو أول من بذر بذور الديمقراطية الصحيحة في العالم، وهو أول من نصر الضعيف وأعان المظلوم، وانتصف للفقير من الغنى، وساوى بين الخصمين، وسوى بين أتباعه وأتباع غيره، وأمر بالعدل والإحسان، وإيتاء ذي القربى، ونهى عن الفحشاء والمنكر والبغي. وكتابه هو المصباح الذي أنار للعالم طريقه، وكان فاتحة الخير والهدى والعلم والمعرفة، كان البلسم الذي هذب عقلية الفرس، والرومان، وكون فلسفة إسلامية عالية. وبدينه ولدت العلوم والمعارف في الشرق أولا ثم انتقلت إلى الغرب عن طريق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 561 الحروب الصليبية وتركيا، وعن جامعات الأندلس. أخذ الغربيون تلك النفائس فنموها، وجودوها، حتى صارت علوما ومعارف واسعة النطاق، وأراد الله لهم ذلك. وأراد الله للشرق وللمسلمين أن يبتعدوا عن دينهم فأهملوا علومهم ومعارفهم فدارت الدائرة عليهم وأذلهم عدوهم. ولقد صدق الله وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران 140] . وأملنا في شبابنا خير، هذا الشباب الذي أخذ ينادى بالقرآن ويدرسه ويتفهمه ليعيد للإسلام مجده، ويتحقق جليا أن رسوله الكريم أرسل رحمة للعالمين ويكون على يديه إنقاذ العالم من وهدته، وضرب المثل عمليا للمؤمن القوى الصالح لعمارة الدنيا والفوز بالآخرة. ويقول ذلك الرسول مأمورا من ربه: قل لهم: إن ديني بسيط جدا. وسهل جدا لا تعقيد فيه، ولا التواء: قل لهم إنما يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فاعبدوه وحده، ولا تشركوا به شيئا من الدنيا أو المال أو الشهوة أو الجاه أو السلطان، وقولوا بقلوبكم ولسانكم: الله أكبر ولله الحمد. فهل أنتم بعد ذلك مسلمون؟ والمعنى أسلموا لله، وأخلصوا النية له فإن تولوا بعد ذلك فقل آذنتكم بحرب لا هوادة فيها، وأعلمتكم بها أنا وأنتم سواء في هذا العلم فلا عذر ولا خيانة منى. ولست أدرى والله أقريب أم بعيد ما توعدونه من العذاب! فأنا رسول الله إليكم فقط، ولا أعلم من الغيب شيئا بل العالم بالحقائق حقا هو الله- سبحانه- الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم الجهر من القول، ويعلم ما تكتمون من عداوة وحسد للمسلمين. ولست أدرى لعل تأخير العذاب عنكم فتنة لكم، وابتلاء ليرى كيف يكون صنيعكم وهو أعلم بكم، ولعله متاع لكم تتمتعون به إلى أجل معلوم وزمن محدود ليكون ذلك حجة عليكم، وليقع الموعد في وقت معين عنده قل لهم يا محمد: رب احكم بالحكم الحق، فأنت الحق، ولا نحب إلا الحق، وربنا رب السموات والأرض صاحب النعم على العالم كله، وربنا الرحمن المستعان وحده، والملجأ إليه وحده، والمفزع إليه وحده، وهو المستعان وحده على ما تصنعون. وقد نصر الله عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده. لا إله إلا هو. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 562 سورة الحج وهي مكية في القول الصحيح إلا بعض آيات. وقال الجمهور: السورة مختلطة منها مكي ومنها مدني. وهذا هو الأصح، وآياتها ثمان وسبعون آية، وهي تتضمن الكلام على البعث وبعض مشاهده، ثم تنتقل إلى الكلام على المشركين وموقفهم من المسجد الحرام واستتبع ذلك الكلام على البيت وشعائر الحج، ثم الكلام على المكذبين ومصارعهم للعبرة بهم وفي نهاية السورة آيات الله في الكون مع ضرب المثل للآلهة. الدعوة إلى تقوى الله [سورة الحج (22) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 563 المفردات: زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ أصل الكلمة من زل عن الموضع إذ زال عنه وتحرك، وزلزل الله قدمه أى: حركها، وعلى ذلك كانت الزلة شدة الحركة مع تكرارها تَذْهَلُ الذهول الذهاب عن الأمر مع الدهشة سُكارى جمع سكران مَرِيدٍ متمرد عات. المعنى: يا أيها الناس اتقوا ربكم، وخذوا الوقاية لأنفسكم من عذابه. وحاصل التقوى أنها ترجع إلى امتثال الأمر واجتناب النهى، والإحسان في العمل، والإخلاص فيه. أمر الله بنى آدم بتقواه، ثم علل وجوبها عليهم بذكر الساعة وأهوالها، ولينظروا إلى يوم الحساب ببصائرهم، ويتصوروه بعقولهم، حتى يبقوا على أنفسهم ويرحموها من شدائد ذلك اليوم وهوله، بامتثال ما أمرهم به ربهم من التحلي بلباس التقوى الذي لا يؤمنهم من الفزع إلا هو. روى أن هذه الآية نزلت ليلا في غزوة بنى المصطلق فقرأها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة «وكان الصحابة بين حزين وباك ومفكر» . يا أيها الناس. اتقوا ربكم، إن زلزلة الساعة واضطرابها شيء عظيم هوله كبير وقعه، إلا على الذين آمنوا وعملوا الصالحات. يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت، نعم في يوم القيامة وساعة الزلزلة تذهل كل مرضعة عن طفلها، الذي ترضعه، والذهول: الغفلة عن الشيء بطروء ما يشغل عنه من هم ووجع أو غيره، والمعنى: أن في هذا اليوم أهوالا تذهل المرضعة عن رضيعها، وتجعل الناس سكارى، والولدان شيبا يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً وترى الناس كأنهم سكارى، والواقع أنهم ليسوا سكارى، ولكن عذاب الله شديد يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ أَبْصارُها خاشِعَةٌ [النازعات 6- 9] ومع هذا ما أجهلك يا ابن آدم، وما أغباك حيث لم تستعد لذلك اليوم، ولم تأخذ لنفسك الوقاية منه فسيحاسبك خبير عليم وناقد بصير، ولا تخفى عليه خافية!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 564 ومع هذا كله فمن الناس من يجادل في الله وقدرته على البعث، واتصافه بصفات الألوهية، ويا ليته يجادل بالحق، ولكنه جدال بالباطل ونقاش بغير علم وعقل، وهو يتبع في هذا كله شيطانه المتمرد العاتي، مع أنه كتب عليه وقدر تقديرا ظاهرا كالرقم على الشيء المعروض في السوق أنه من تولاه واتبعه من الشياطين الإنسية أو الجنية فإنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير. وهناك معنى آخر وهو: كتب على الشيطان أن من تولاه من الإنس فإنه يضله ويهديه- أى: الشيطان- إلى عذاب السعير، ولعل هذا هو المعنى الظاهر. من أدلة البعث [سورة الحج (22) : الآيات 5 الى 7] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَأَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 565 المفردات: رَيْبَ شك نُطْفَةٍ النطفة: المنى وهو ما يخرج من صلب الرجل سمى نطفة لقلته، والنطف القطر عَلَقَةٍ العلقة: الدم الجامد. وقيل: الطري مُضْغَةٍ المضغة: قطعة لحم قليلة. قدر ما يمضغ أَشُدَّكُمْ كمال قوتكم أَرْذَلِ الْعُمُرِ المراد: الهرم والخرف حتى لا يعقل هامِدَةً يابسة لا نبات فيها اهْتَزَّتْ تحركت وتفاعلت وَرَبَتْ نمت وارتفعت بالنبات زَوْجٍ لون وصنف بَهِيجٍ حسن للدين الإسلامى مقصدان مهمان جدا، وأساسان عليهما يدور، وعليهما تبنى الفروع، أما الأول: فتوحيد الله. واتصافه بكل كمال، وتنزيهه عن كل نقص، وأما الثاني: فإثبات البعث والحياة الأخرى، وما يتبعها من ثواب وعقاب وغيره، إذا لا غرابة في تكرارهما في القرآن والسنة، وإثباتهما والاستدلال عليهما بالآيات الكونية وغيرها. المعنى: يا أيها الناس جميعا من كل جنس ولون، في كل عصر وزمن، إن كنتم في شك من البعث- وهذا الشك يجب أن يكون بسيطا جدّا يزول بأدنى تنبيه لتضافر الأدلة على ثبوته- فاتركوه، وانظروا مما خلقتم؟!! ولقد كان اعتماد المنكرين للبعث على أنه يستحيل حياة بعد موت وتفرق للإجراء وانعدام لها بل تحولها إلى شيء آخر، ومن الذي يعيد الحياة لتلك العظام النخرة التي أصبحت ترابا أو صارت ذرات في الهواء، أو انتهى أمرها إلى بطون السباع أو بطون السمك والحيتان؟!! وعلى أى وضع يكون حساب وعقاب؟!! فنزل القرآن ينادى بالبعث، ويسوق الأدلة كالصواعق أو أشد، وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذا كُنَّا تُراباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ؟!! [الرعد 5] فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ. [الإسراء 51] وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ [يس 78- 80] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 566 وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا أَوَلا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً؟!! [سورة مريم الآيتان 66 و 67] . وغير ذلك من آيات القرآن وكلام الرسول كثير. وخلاصة دعواهم، استحالة الحياة بعد الموت، والوجود بعد فناء الخلق، وما علموا أن القادر على البدء قادر على الإعادة، وهو أهون عليه، إذا قسناها بمقاييسنا.. يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فاذكروا خلقكم أولا، واعلموا أنه قد مر عليكم أدوار سبعة لا مناسبة بينها أبدا إذ كل دور كنتم من نوع يخالف الآخر. 1- خلقكم من تراب- أى: خلق أباكم آدم منه، أو خلقكم من المنى والمنى سواء كان من الذكر أو الأنثى فهو من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء نباتا كان أو حيوانا من الأرض فصح أن كل إنسان خلق من تراب. 2- ثم خلقناه من نطفة- ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ فمن الذي حول التراب اليابس إلى ماء فيه حيوانات منوية، ولا علاقة بينهما ولا مناسبة. 3- ثم من علقة- والعلقة قطعة الدم الجامدة، ولا شك أن بين المنى كماء والدم الجامد مباينة، ومع هذا فقد تحول الماء إلى دم جامد بقدرة قادر، وفي هذا إشارة إلى أنه لا معنى لاستبعاد الإعادة بسبب التحول من مادة إلى أخرى فإنه ثابت في بدء الخلق. 4- ثم من مضغة، وهي قدر ما يمضغ من اللحم، وانظر إلى أصلها الأول وكيف وصل التراب إلى ماء ثم إلى دم ثم إلى لحم يمضغ!! .. وهذه المضغة قد تكون مخلقة مسواة سالمة من العيوب والنقصان، تمت فيها أحوال الخلق ورسومه، وقد تكون غير ذلك. يا أيها الناس إن كنتم في شك من البعث فإن خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة قد صورناها، ومضغة لم نصورها، أخبرناكم بهذا كله لنبين ما يزيل عنكم الشك، وينفى عنكم الريب في أمر بعثكم فإن القادر على هذه الأشياء كيف يكون عاجزا عن الإعادة والله- بعد ذلك- يقر في الأرحام ما يشاء إلى أجل مسمى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 567 عنده وهو مدة الحمل فقد يولد الجنين لستة أشهر أو لتسعة أو لسنة أو لسنتين، وبعض الفقهاء قال إن أقل الحمل ستة أشهر ولحظتان، ونهايته أربع سنين. 5- ثم نخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا تتنفسون وتعيشون، وتطعمون، وقد كنتم في بطون أمهاتكم تتنفسون، ولكن على أى كيفية؟. وكنتم تطعمون، ولكن من دم أمهاتكم، فهل هناك مناسبة بين الحالتين بين الطفل في بطن أمه، وبينه وهو في الحياة العامة!! 6- ثم لتبلغوا أشدكم، نعم فالله- سبحانه- القادر على كل شيء مهد لهذا الطفل الصغير سبل الحياة، وأحيا فيه غريزة حب البقاء التي جعلته يرضع من ثدي أمه، وهداه إلى طرق الحياة فعاش حتى بلغ أشده وكمال قوته وعقله. 7- وبعد هذا أو قبله منكم من يتوفى، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر أليس في هذا دليل على وجود إله قوى مختار يحكم لا معقب لحكمه، قادر على كل شيء إذ منكم من يتوفى وهو في تمام قوته، وريعان شبابه، ومنكم من يعيش ويعمر، وقد يكون مريضا عليلا فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [النحل 61] وإذا عمر الإنسان كثيرا، ووصل إلى الهرم ضعفت قواه العقلية والجسمية إلى درجة كبيرة، وفنيت خلايا جسمه كلها أو أغلبها فيصير ضعيف العقل والحواس، لا يعلم شيئا مما كان يعلمه، وهذا أمر مشاهد معروف، وصدق الله حيث يقول: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ [سورة الروم آية 54] . وكيف تشكون في البعث، وإعادة الحياة إلى الجسم، وأنتم ترون مظاهر البعث والحياة بعد الموت أمامكم في كل وقت، ألم تروا إلى الأرض، وهي ميتة هامدة ساكنة لا حياة فيها، ولا نبات بها فإذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وتحركت وقد أثبت العلم الحديث ذلك- وربت وانتفخت وأنبتت من كل صنف من النبات بهيج وحسن. انظر يا أخى: إلى ترتيب القرآن المحكم أثبت البعث واستدل على ذلك بدليلين: (أ) خلق الحيوان. (ب) خلق النبات ثم رتب على ذلك أمورا. 1- ذلك الذي بينه لنا من أمر الخلق في الحيوان والنبات، وانتقال كل من حال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 568 إلى حال متباينة بسبب أن الله هو الحق، والحق هو الموجود الثابت الذي لا يحول ولا يزول، وأن كل ما سواه وإن كان موجودا حقّا، فإنه لا حقيقة له في نفسه لأنه مسخر مذلل للحق- تبارك وتعالى- صاحب الوجود المطلق، والغنى المطلق- سبحانه وتعالى-. 2- وأنه يحيى الموتى، وإذا كان الله صاحب هذه الأفعال، وموجد هذه الأشياء والأحوال فكيف يستبعد منه إعادة الأموات للثواب والعقاب؟ 3- وأنه على كل شيء قدير، ولا عجب فمن صدر منه هذا تكون القدرة صفة ذاتية له، ويكون على كل شيء قدير. 4- وأن الساعة آتية لا ريب فيها حيث وعد بها، وكان وعده مفعولا، وقضى بها وهو القادر المختار. 5- وأن الله يبعث من في القبور للحساب والجزاء. هكذا تكون الناس [سورة الحج (22) : الآيات 8 الى 14] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 569 المفردات: ثانِيَ عِطْفِهِ، المراد معرضا عن الذكر كفرا وتعظما، والأصل في العطف أنه الجانب، ويقال: ثنى فلان عنّى عطفه إذا أعرض، ولوى جانبه خِزْيٌ هوان وذل عَلى حَرْفٍ المراد: على شك وضعف في العبادة كضعف القائم على طرف الجبل وحده. ولقد أمر الله بالتقوى وخوفهم من عذاب يوم شديد ومع هذا فمن الناس من يجادل في الله بغير علم، ثم ساق لهم الأدلة على البعث وقدرة الله على كل شيء، ومع هذا فمنهم من يجادل في الله كذلك بغير علم. هكذا تكون الناس مهما كانت النذر! منهم شقي ومنهم سعيد، ومنهم المؤمن الصادق، والمنافق الكاذب، والكافر الصريح، وهكذا أراد الله. المعنى: ومن الناس من يجادل في وجود الله وصفاته بغير علم، ولا هدى، ولا كتاب منير. نعم من الناس من يجادل بالباطل، ويجادل في الله وصفاته بغير علم صحيح، وفكر سليم، وبغير هدى واستدلال يهدى إلى المعرفة الصحيحة، وبغير كتاب وحجة منقولة. وهذا والله هو الحق، يجادل الإنسان ويخاصم بظن واه، لا دليل معه من علم أو نظر أو حجة، ولكنه العناد والضلال وعمى القلوب والبصائر فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [سورة الحج آية 46] . وهو إذا ذكّر لا يذّكّر بل يعرض وينأى بجانبه كبرا وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً [سورة لقمان آية 7] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 570 ولما أدى جداله إلى الضلال، وكانت عاقبته خسرا، جعل كأنه غرضه، ولما كان الهدى في استطاعته، وتحت سمعه وبصره، ولكنه تركه وأعرض عنه، وأقبل على الجدال بالباطل جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال وبئس المصير. وهؤلاء لهم في الدنيا خزي وهلاك، وهوان وذل، وفي يوم الجزاء يذوقون عذاب الحريق. ذلك الجزاء الكامل المناسب بسبب ما قدمته يداه، وبسبب أنه- سبحانه وتعالى- الحكم العدل، وعدله يقتضى معاقبة الفجار، وإثابة الأبرار: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا، وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [سورة النجم آية 31] ، وما ربك بظلام للعبيد، فيما يجازى به كلا على عمله. صنف آخر أمره عجب!! يعبد الله عبادة ليست صادقة خالصة، عبادة ليس فيها صدق نية، ولا إخلاص في الطوية، عبادة باللسان وترديد في الكلام. لم يدخل الإيمان قلبه، ولم تخالط بشاشة الدين روحه، فهو دائم القلق والاضطراب، كمن يجلس على حرف الجبل وحده لا يهدأ له قرار، ولا تسكن له نفس. هؤلاء هم المنافقون، أو المنافقون صنف منهم يعبدون الله على خوف وشيك، فإن أصابه خير من غنيمة ومال، وزيادة في النسل والإنتاج رضى عن هذا الدين. وإن امتحن بالبلاء، واختبر في الضراء بنقص في المال أو الأنفس، أو هلاك في الثمرات والغلات ينقلب على وجهه، ويرتد معلنا سخطه وعدم رضاه. وهؤلاء خسروا الدنيا بما أصابهم، وخسروا الآخرة إذ لا ثواب لهم على ما أصابهم فإنهم لم يصبروا ولم يحتسبوا. وذلك هو الخسران الكامل، والضلال المبين. ومن ذكر من الكافرين أو المترددين المنافقين، يدعو من دون الله ما لا يضره، ولا ينفعه، وإنما يتمسك ويتجه إلى ما لا يفيد أصلا، بل لا ينفع نفسه، وذلك هو الضلال الموغل في الضلالة البعيد جدا عن الصواب. يدعو من ضره أقرب من نفعه، إذ هو سبب كفره وعذابه، لبئس هذا المولى والناصر ولبئس هذا العشير والصاحب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 571 ولا بد من وجود المؤمنين الموحدين مع هؤلاء، وأولئك ليكون ثوابهم على إيمانهم كثيرا، وها هم أولاء وجزاؤهم. إن الله يدخل الذين آمنوا وأخلصوا في إيمانهم، وعملوا الصالحات، يدخلهم جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار، لهم فيها نعيم مقيم، وثواب عريض، إن الله يفعل ما يريد، من إكرام من يطيعه، وإهانة من يعصيه. الله- سبحانه وتعالى- ناصر رسوله صلّى الله عليه وسلم [سورة الحج (22) : الآيات 15 الى 16] مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15) وَكَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) تقدم الكلام على من يجادل في الله بغير علم، ومن يعبد الله على حرف، وهؤلاء كان يغيظهم ما يرون من حال النبي صلّى الله عليه وسلّم والتفاف الناس حوله. فجاءت هذه الآية لقطع أطماعهم، ورد كيدهم في نحورهم. المعنى: حكى القرطبي عن أبى جعفر النحاس قوله: «من أحسن ما قيل في هذه الآية أن المعنى من كان يظن أن لن ينصر الله محمدا صلّى الله عليه وسلم، وأنه يتهيأ له أن يقطع النصر الذي أوتيه. فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ أى: فليطلب أية حيلة يصل بها إلى السماء. ثُمَّ لْيَقْطَعْ أى: ليقطع النصر إن تهيأ له فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ وحيلته ما يغيظه من نصر النبي صلّى الله عليه وسلم» . والفائدة في الكلام أنه إذا لم يتهيأ له الكيد والحيلة بأن يفعل مثل هذا لم يصل إلى قطع النصر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 572 وذكر الزمخشري في كشافه أن المعنى: «الله ناصر رسوله في الدنيا والآخرة فمن كان يظن من حاسديه وأعاديه أن الله يفعل خلاف ذلك، ويطمع فيه، ويغيظه أنه لم يظفر بمطلوبه فليستقص كل ما في وسعه، وليفرغ مجهوده في إزالة ما يغيظه بأن يفعل ما يفعله من بلغ منه الغيظ كل مبلغ حتى لو مد حبلا إلى سماء بيته للانتحار فاختنق به منتحرا فلينظر، وليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك هل يذهب نصر الله الذي يغيظه» . وسمى الاختناق قطعا لأن المختنق يقطع حياته، وسمى فعله وهو فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ كيدا لأنه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره، أو سمى كيدا على سبيل الاستهزاء لأنه لم يكد به محسوده، وإنما كاد به نفسه. ألست معى في أن هذا رد لأعداء الإسلام في أن يطمعوا في إحباط دعوة الإسلام؟! ألست معى في أن الله متم نوره، ومؤيد رسوله، وعاصمه من الناس، ومؤيده بوحيه، ومنزل عليه آياته البينات. ومثل ذلك الإنزال أنزلنا القرآن كله آيات بينات واضحات، يهدى به الله الذين يعلم أنهم مؤمنون، وفي نفوسهم استعداد للإيمان بالغيب. من مظاهر عدله وقدرته [سورة الحج (22) : الآيات 17 الى 18] إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 573 المفردات: آمَنُوا الإيمان: هو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وَالَّذِينَ هادُوا وهم أتباع موسى- عليه السلام- لقولهم: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ بمعنى رجعنا وتبنا وَالصَّابِئِينَ قوم يعبدون النجوم والكواكب وَالنَّصارى هم أتباع المسيح- عليه السلام- وَالْمَجُوسَ عبدة النار من الفرس وغيرهم وهم يقولون بأن هناك إلهين للخير والشر، وللعالم أصلين نورا وظلمة وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا هم مشركو العرب الذين يعبدون الأصنام والأوثان يَسْجُدُ يخضع وينقاد لما يجريه عليه من حكم. المعنى: إن الله- سبحانه وتعالى- يهدى من يريد لأنه يستحق الهداية على حسب ما اطلع على نفسه وميله في الأزل بحيث لو ترك وحده لاختار ما قدره الله له، وهو يحكم بين الخلائق كلها بالعدل والقسطاس المستقيم فلا يظلم نفسا شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل. فالذين آمنوا بالله وكتبه واليوم الآخر، وهم المسلمون الموحدون المؤمنون بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم وبإخوانه الأنبياء جميعا لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [سورة البقرة آية 285] . والذين هادوا وهم أتباع موسى- عليه السلام-، ولو كانوا أتباعا له حقيقة، ولم يغيروا ويحرفوا التوراة لآمنوا كذلك بعيسى ومحمد صلّى الله عليه وسلم: والصابئون الخارجون عن حدود الدين العابدون للكواكب، والنصارى من أتباع عيسى ابن مريم عبد الله ورسوله، ولو كانوا كذلك لآمنوا بمحمد خاتم الأنبياء والرسل فدينه ينسخ كل ما تقدمه، وفي التوراة والإنجيل البشارة الصحيحة بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 574 والمجوس عباد النار القائلون بوجود إله للخير وآخر للشر، وللعالم أصلان هما النور والظلام. هؤلاء جميعا يفصل الله بينهم بحكمه العدل، ويقضى يوم القيامة، فلا فضل لأمة على أمة، ولا لعنصر على عنصر ولا غرابة في ذلك إن الله على كل شيء قدير، وفي الكون شهيد ورقيب. ألم تعلم أن الله يسجد له من في السموات ومن في الأرض، والشمس والقمر، والنجوم والجبال، والشجر والدواب؟!!، وكيف لا تعلم والله أخبر به، وخبره الصدق. لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. والسجود لله مطلق الانقياد لما أمر، إذ الكل خاضع لأمره وتصريفه إذا قال للشيء كن فيكون. وكثير من الناس يسجد سجود طاعة وعبادة فوق السجود العام الشامل له ولغيره. وكثير حق عليه العذاب لأنه أساء العمل في دنياه، وفسق عن أمر مولاه. ومن يهنه الله بأن يكتب عليه الشقاوة لما سبق عليه من كفره وفسقه وعصيانه- وقد كتب عليه ذلك لأنه يستحق كما قدمناه، ولموافقته لما يعلمه الله من ميله إلى الشر- فما له مكرم أبدا، ومن يكرم من أهانه الله؟!! إن الله نافذ أمره لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، وهو يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. له الملك وله الحمد. وهو على كل شيء قدير: الكافرون والمؤمنون وجزاء كل [سورة الحج (22) : الآيات 19 الى 24] هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 575 المفردات: خَصْمانِ فريقان متنازعان الْحَمِيمُ الماء البالغ النهاية في الحرارة يُصْهَرُ الصهر: الإذابة مَقامِعُ جمع: مقمعة، وهي: قطعة من الحديد اتخذت آلة للقمع سميت مقمعة لأنها تقمع المضروب أى: تذله الْحَرِيقِ أى: العذاب المحرق مِنْ أَساوِرَ جمع أسورة التي هي جمع سوار فالأساور جمع الجمع، وهي حلية تلبسها النساء الآن في معاصمها وَلُؤْلُؤاً هو ما يستخرج من البحر من جوف الصدف وَهُدُوا أى: ارشدوا. المعنى: هذان فريقان من الناس يتميز كل منهما عن الآخر، وقد اختصموا في شأن ربهم الذي خلقهم، فريق منهم في الجنة، وفريق في السعير، فريق كفر بالله وبرسوله، ولم يكن عنده استعداد للإيمان بالغيب والحياة الأخروية، وفريق آمن بالله وبرسله وآمن بالغيب والحياة الآخرة. أما الفريق الأول: فهم الذين كفروا، وكان جزاؤهم أنه قطعت لهم ثياب من نار أى: سويت وجعلت لهم لباسا، تراه قد شبه النار بالثياب لأنها مشتملة عليهم كاشتمال الثياب، وقيل إنها ثياب من نحاس مذاب من شدة الحرارة فصار كالنار، وهذه هي السرابيل التي ذكرت في قوله تعالى: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَتَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ «1»   (1) سورة إبراهيم الآية 50. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 576 من سورة إبراهيم. وهؤلاء يصب من فوق رؤوسهم الحميم، وهو ماء شديد الحرارة مغلى بنار جهنم، ويا ويلهم من هذا العذاب!! يذاب بذلك الماء الحار ويصهر به ما في بطونهم من الأمعاء، وتحرق به جلودهم ولهؤلاء مقامع من حديد يضربون به على رؤوسهم لقمعهم وذلهم، كلما أردوا أن يخرجوا من النار بسبب غمهم بها، أعيدوا فيها بشدة حتى يأخذوا عذابهم كاملا غير منقوص، ويقال لهم: ذوقوا العذاب المحرق فأنتم أهل له. أما الفريق الثاني: فهم الذين آمنوا بالله ورسله وعملوا الصالحات، فسيدخلهم ربهم جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار العذبة، منها يشربون، وبها يتمتعون، ويحلون في الجنة أساور من ذهب خالص. ولؤلؤا، ولباسهم فيها حرير. وعلى ما أعتقد هذا تقريب وتمثيل لنفهم متاع الآخرة المادي وإلا ففي الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ورضوان من الله أكبر من ذلك كله لأنه النعيم الروحي الخالص. هؤلاء لا غرابة في جزائهم هذا فهم قد هدوا إلى القول الطيب والعمل الصالح وهدوا إلى صراط العزيز الحميد ودينه القويم وهو الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين. اللهم وفقنا إلى هذا، واحشرنا مع هؤلاء، واهدنا الصراط المستقيم آمين. روى مسلم عن قيس بن عباد قال: سمعت أبا ذر يقسم قسما إن هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ إنها نزلت في الذين برذوا يوم بدر: حمزة، وعلى، وعبيدة ابن الحارث- رضي الله عنهم-. وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة. والوليد بن عتبة. وبهذا الحديث ختم مسلم- رحمه الله كتابه، وروى هذا الحديث عن ابن عباس مع التنصيص على أن هذه الآية نزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم بالمدينة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 577 صد الكفار عن المسجد الحرام وبيان مكانه [سورة الحج (22) : الآيات 25 الى 26] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَالْبادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25) وَإِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) المفردات: وَيَصُدُّونَ الصد: المنع، والفعل يفيد استمرار المنع الْعاكِفُ، المقيم الملازم وَالْبادِ، أى: أهل البادية بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ يقال: بوأته منزلا وبوأت له كما يقال: مكنتك ومكنت لك، وقيل: بوأنا له مكان البيت، أى: بيناه له. ما مضى كان في بيان المؤمنين العاملين وجزائهم، وهنا بيان للكفار المشركين، وخاصة المعاصرين للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهذا كالمقدمة لما يأتى. المعنى: إن الذين كفروا بالله ورسوله، وهم يصدون عن سبيل الله صدا دائما مستمرا، ولا شك أن المشركين صدوا الناس عن سبيل الله بما عملوا من أعمال ضد المسلمين في مكة وغيرها. وهم يصدون عن سبيل الله، وعن المسجد الحرام، وقد صدوا رسول الله عن المسجد الحرام عام الحديبية، وقد جعله الله للناس جميعا لصلاتهم وطوافهم وعبادتهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 578 والناس من حيث كونهم ناسا، العاكف فيه والبادي سواء وبهذا يعلم أن المسجد الحرام مكان عالمي عام للمسلمين جميعا يستوي فيه المقيم والمسافر، ومع هذا فقد صدوا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن المسجد الحرام وأخرجوه من مكة بلده الحبيب مكرها. ومن يرد فيه مكروها حالة كونه ملحدا ظالما، أى: مائلا عن الحق والعدل بأى صورة كانت يكون جزاؤه أن الله يذيقه العذاب الأليم، وإذا كان هذا هو حكم الله فيمن يرتكب المعاصي في المسجد الحرام، سواء كانت صغيرة أو كبيرة، فما بال من يصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام، ويكفر بالله فيه؟ إنه لظلم عظيم. واذكر يا محمد للناس وقت أن بوأنا لإبراهيم مكان البيت، وهيأنا مكانه، وبيناه له على أن لا يشرك بالله شيئا، وهذا نهى لإبراهيم- عليه السلام- ولأولاده من العرب. وأمرناه أن يطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، يطهره من الأصنام والأوثان، فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ، وهذا تكريم لإبراهيم وتشريف للبيت ... وإذا كان هذا هو موقف إبراهيم- عليه السلام-، وما أمر به فكيف يكون حال المشركين الذين يدعون أنهم من نسل إبراهيم وعلى ملته؟! ثم هم يشركون بالله، ويعبدون الأوثان، ويرتكبون الإثم والعدوان في المسجد الحرام، والبيت المقدس، إن هذا لظلم فادح. حج بيت الله الحرام [سورة الحج (22) : الآيات 27 الى 29] وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَعَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 579 المفردات: رِجالًا المراد: ماشين على القدم، جمع راجل، كتاجر وتجار فَجٍّ الفج: الطريق الواسع عَمِيقٍ بعيد، ومنه بئر عميق أى بعيدة القعر الْبائِسَ ذو البأس والشدة الْفَقِيرَ الذي أضعفه الإعسار وأجهدته الحاجة لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ليؤدوا. التفث أى الدرن والوسخ والمراد: تقصير الشعر وقص الظفر، ونتف الإبط الْعَتِيقِ القديم، وقيل: الكريم. روى أنه لما فرغ إبراهيم- عليه السلام- من بناء البيت، وقيل له: أذن في الناس بالحج قال: يا رب! وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلى الإبلاغ فصعد إبراهيم خليل الله جبل أبى قبيس وصاح: يا أيها الناس إن الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة ويجيركم من عذاب النار، فحجوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك. إن تعلمهم بوجوبه عليهم يأتوك سراعا حالة كونهم سائرين على القدم وراكبين. المعنى: يا إبراهيم أذن في الناس بالحج، وأعلمهم بوجوبه، وطالبهم به وهل الأمر لإبراهيم أو هو للنبي صلّى الله عليه وسلّم الله أعلم به. الركائب، يأتوك على كل ضامر من الإبل بسبب طول السفر، وبعد الشقة، إذ هم يحضرون من كل فج عميق وسفر بعيد، وبلاد نائبة. ومن هنا ومن قوله تعالى في سورة إبراهيم على لسانه فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ندرك السّر الإلهى الذي أودعه الله في قلب كل مسلم نحو زيارة بيت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 580 الله الحرام، وحج بيته الكريم، ففي أيام الحج من كل سنة نجد قلوب كثير من المسلمين تتحرق شوقا إلى مكة والمسجد الحرام، وتنفق في سبيل ذلك النفيس من المال، وتتحمل المشاق والمتاعب، وتهيم على وجوهها شوقا للقاء الحبيب حالة كونهم رجالا أو راكبين الإبل وغيرها من مسافات بعيدة، وترى الحجيج كل عام يجتمع من كل صوب وحدب، ليشهدوا منافع لهم، أى: والله إنها منافع لهم، لا يقدرها حقها، ولا يعرف كنهها إلا الله والراسخون في العلم. نعم: هذا هو الحج: المؤتمر الأكبر الذي يضم شتات المسلمين من كل فج عميق يجتمعون في صعيد واحد وفي أيام معلومات، ويستهدون من الله، ويطهرون نفوسهم من أدران المادة والدنيا ومتاعها، ويستلهمون معاني القوة والاتحاد، والألفة والتعاون والإخاء في سبيل الله. يشهدون منافع لهم دون غيرهم، منافع عامة ليست خاصة، منافع كثيرة في الدنيا والآخرة. وإن من يوفق لأداء فريضة الحج يرى بنفسه أن الحج فيه منافع وأى منافع؟ فالدولة تنفق الأموال، وتطلق الألسنة، وتحشد الجمع لحضور مؤتمر لها، ولكن أيحضر الناس، بقلوبهم؟ معتقدين أنه في ذلك رضاء لربهم؟ كلا!! ولكن في هذا المؤتمر العام يحضر المسلمون ملبين دعوة الله، مجتمعين بقلوبهم، باذلين أموالهم على فقرائهم متعاونين متساندين متعارفين متحابين، يشعرون بالألفة والمحبة والإخاء لكل مسلم في مشارق الأرض ومغاربها.. فحقا صدق الله: ليشهدوا منافع لهم. ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على ما رزقهم من بهيمة الأنعام. وانظر يا أخى- وفقك الله الخير- وقد كنى القرآن عن النحر والذبح بذكر اسم الله لأن الغرض المهم من الذبح أن يتقرب العبد إلى ربه وذكر اسمه حتى يطمئن قلبه، ويمتلئ بنور الله، ولأن أهل الإسلام لا ينفكون عن ذكر اسمه إذا نحروا وذبحوا، ولقد ازداد الكلام روعة وحسنا ظاهرا حيث جمع بين قوله ليذكروا اسم الله وقوله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام من إبل وبقر، وضأن ومعز. ولو قال: ليشهدوا منافع لهم، ولينحروا لكان الكلام أجوف خاليا من البواعث الجزء: 2 ¦ الصفحة: 581 والدوافع الدينية، وهذه ميزة الإسلام يحمل المسلمين على العمل بكل الأساليب المرغبة ليقبلوا على العمل بعقيدة ثابتة ونفس راضية. والأيام المعلومات هي أيام التشريق الثلاث ويوم العيد فتكون أربعة وقيل: هي العشر الأوائل من ذي الحجة ووقت الذبح يوم النحر، وقيل: يوم العيد وأيام التشريق. فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير: أما الأكل منها فالأمر فيه للإباحة جبرا لخاطر الفقير وإشعارا له بالمساواة في المأكل والمشرب ومخالفة لما كان في الجاهلية، والأمر في قوله وأطعموا للوجوب، ومذهب الشافعى رحمه الله أن الأكل مستحب والإطعام واجب فإن أطعمها جميعها أجزأه، وإن أكلها جميعها لم يجزه، هذا فيما إذا كان الذبح تطوعا. فأما الواجبات كالنذر والكفارات ودم الجبر الذي يذبح لنقص في أعمال الحج مثل دم القران والتمتع مثلا فلا يأكل منها، وقيل: يجوز له الأكل. ثم بعد تحللهم وخروجهم من الإحرام ليؤدوا تفثهم، وليزيلوا أوساخهم، ويتحللون بالحلق أو التقصير، ونتف الإبط وإزالة الوسخ، وتفسير القضاء في لْيَقْضُوا بالإزالة تفسيرا مجازيا. وليطوفوا طواف الإفاضة والزيارة، وهو غير طواف القدوم، وطواف الوادع وليطوفوا بالبيت العتيق الطاهر القديم شكرا لله على توفيقه لأداء الحج. ولعل في ذكر الحج والأذان به عقب التسجيل على الكافرين بالصد عن سبيل الله والمسجد الحرام، وبيان مكانة البيت وطهارته، ما يجعلنا نشعر بأن من يقف حائلا في يوم من الأيام ويمنع حج بيت الله الحرام يكون من الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله والمسجد الحرام ... توجيهات إلهية لتعظيم حرمات الله وشعائره [سورة الحج (22) : الآيات 30 الى 35] ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 582 المفردات: حُرُماتِ اللَّهِ مالا يحل هتكه الرِّجْسَ القذر، والمراد: اجتنبوا عبادة الأوثان مِنَ الْأَوْثانِ جمع وثن وأصله من وثن الشيء: أى أقام في مقامه، وسمى الصنم وثنا لأنه ينصب ويركز في مكانه لا يبرح عنه، وقد يسمى الصنم تمثالا إذا كان على صورة الحيوان التي يحيا بها حُنَفاءَ لِلَّهِ مستقيمين أو مائلين لجهة الله خَرَّ مِنَ السَّماءِ سقط فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ تقطعه بمخالبها تَهْوِي تسقط سَحِيقٍ بعيد شَعائِرَ اللَّهِ الشعائر جمع شعيرة، وهي: كل شيء لله فيه أمر أشعر به وأعلم، وعلى ذلك فشعار القوم في الحرب علامتهم مَنْسَكاً أى: ذبحا الْمُخْبِتِينَ المتواضعين الخاشعين وَجِلَتْ خافت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 583 المعنى: الأمر والشأن ذلك الذي ذكر من أحكام الحج وحدوده، وهذا أسلوب عربي سليم، إذ للكاتب حيث قدم جملة أو فصلا من كتابه أن يقول: ذلك والمراد تنبه إليه واحفظه، واعتن بذلك المذكور فالأمر ذلك. ومن يعظم حرمات الله، ويعمل على أنها واجبة الحفظ والمراعاة، ويقوم بحفظها ورعايتها وعدم انتهاكها- وحرمات الله هي مالا يحل هتكه، وجميع ما كلفنا الله- تعالى- بهذه الصفة من مناسك الحج وغيرها- فالتعظيم خير له عند ربه من التهاون في شيء منها، وليس المعنى على التفصيل بين التعظيم وغيره بل المراد الوعد الصادق بالخير. والحج ركن جمع بين العبادة البدنية والمالية، ففيه نسك وذبح وإهداء، ولذا ناسب أن يبين ما يحل ذبحه وأكل لحمه وما لا يحل فقال: وأحلت لكم الأنعام أن تذبحوها وتأكلوا لحمها إلا ما يتلى عليكم في الكتاب من المحرمات كالتي ذكرت في سورة المائدة حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ [سورة المائدة آية 3] . والمعنى أن الله قد أحل لكم الأنعام فكلوها، وحرم عليكم الميتة والموقوذة إلى آخر ما هو معروف فحافظوا على الحدود، وإياكم أن تحرموا مما أحل الله شيئا كتحريم عبدة الأوثان البحيرة. والسائبة. والوصيلة (قد سبق معرفتها في سورة المائدة آية 103) وإياكم أن تحلوا شيئا مما حرمه الله كما أحلوا الموقوذة والنطيحة وغير ذلك.. ولما حث على تعظيم حرمات الله ببيان أن مراعاتها وامتثال الأمر فيها خير لصاحبها أتبعه بالأمر باجتناب الأوثان وقول الزور. إذ توحيد الله- سبحانه- ونفى الشركاء عنه، وصدق القول، والبعد عن الزور كل ذلك من أعظم الحرمات وأهمها. وانظر إلى جمع القرآن الشرك مع قول الزور في سلك واحد!! ولا غرابة فالشرك صورة من صور الزور إذ المشرك يزعم أن الوثن يستحق العبادة، وأنه شريك للباري، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 584 فكأنه قال اجتنبوا الرجس من الأوثان التي هي رأس الزور، وعنوان البهتان، واجتنبوا قول الزور لأنه بالغ النهاية في القبح والقذارة. وانظر يا أخى- وفقك الله إلى إدراك أسرار كتابه- إلى جعل الأوثان من الرجس، والرجس من القذارة، والطبع السليم يأنف من الأوساخ والقاذورات فالواجب على العاقل أن يباعد بينه وبين الأوثان حيث إنها رجس من عمل الشيطان، وكأن المعنى فاجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان. واجتنبوا قول الزور وشهادة الزور فإنه ميل عن الحق إلى الباطل عن النبي صلّى الله عليه وسلم: أنه صلّى الصبح فلما سلّم قام قائما واستقبل بوجهه، وقال: عدلت شهادة الزور والإشراك بالله. عدلت شهادة الزور والإشراك بالله. عدلت شهادة الزور والإشراك بالله. وتلا هذه الآية ... اجتنبوا الرجس الذي هو عبادة الأوثان واجتنبوا الزور والقول به. حالة كونكم حنفاء لله، مستقيمين له، مائلين جهة الحق والعدل، غير مشركين به شيئا، ومن يشرك بالله، ويعبد غيره فقد أهلك نفسه إهلاكا ليس بعده هلاك وهو يشبه حال من سقط من السماء فاختطفته الطيور ومزقت جسده قطعا قطعا، وابتلعته في حواصلها أو عصفت به الريح حتى هوت به في مغاور بعيدة الغور لا يعرف لها قرار. وما أبلغ تشبيه المشرك بالله بالساقط من السماء، مع الأهواء التي تنتابه ونزغات الشيطان التي تتوزعه بالطير تأكل من جسمه، ومعه الشيطان يطوح به في مهاوي الضلال البعيدة الغور كالريح العاصف. ذلك أى احفظ ذلك، أو الأمر هو ذلك الذي ذكرناه. ومن يعظم شعائر الله، وهي الهدايا لأنها من معالم الحج وتعظيمها أن يختارها سمينة غالية الثمن، فإن تعظيمها من أفعال ذوى القلوب المؤمنة المملوءة بالتقوى فالتقوى محلها القلب. لكم فيها منافع إلى أجل مسمى حيث تركبونها، وتأكلون من لبنها، وتنتفعون بأصوافها إلى أجل مسمى، وهو نحرها والتصدق بها وأكلها ... لنا في الهدى منافع دنيوية وهي الركوب وشرب اللبن. ومنافع أخروية وهي التي يعتد الله بها وينظر إليها تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ [سورة الأنفال آية 67] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 585 وأعظم هذه المنافع الأخروية نحرها في الحرام منتهية إلى البيت الحرام ومن هنا تدرك السر في التعبير بقوله: ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ثم تستعمل للتفاوت في الزمن بمعنى أنك إذا قلت جاء محمد ثم على كان المعنى جاء على بعد محمد بزمن، وبعد ذلك استعملت ثم في التفاوت في الرتبة ومن هنا أخذ يحببنا في الذبح وأداء النسك فقال: شرع الله لكل أمة أن ينسكوا له أى: يذبحوا له وقد علل الله بأنهم يذكرون اسم الله على الذبيحة لا اسم غيره شكرا واعترافا بفضله حيث رزقهم من بهيمة الأنعام، فلستم بدعا في ذلك. وإذا كان الأمر كذلك فإلهكم إله واحد، لا إله إلا هو، فله وحده أسلموا، وعليه وحده اعتمدوا وتوكلوا وبشر يا محمد المخبتين المتواضعين القانتين الصادقين، وهم الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم، وخافت من عقابه وعذابه، وامتلأت خشية منه وهم الصابرون على ما أصابهم والمقيمون الصلاة تامة، والمنفقون مما رزقناهم. من آداب الذبح في الحج [سورة الحج (22) : الآيات 36 الى 37] وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36) لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها وَلكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) المفردات: وَالْبُدْنَ جمع بدنة كما يقال ثمرة وثمر، وسميت الإبل بدنا لأنها من البدانة وهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 586 السمن وهذا الاسم خاص بالإبل على الصحيح صَوافَّ قد صفت قوائمها والإبل تنحر وهي قائمة معقولة وأصل هذا الوصف في الخيل يقال صفن الفرس فهو صافن إذا قام على ثلاث قوائم وثنى سنبك الرابعة، والسنبك طرف الحافر، وقرئ صوافي أى خوالص لله- سبحانه- وَجَبَتْ جُنُوبُها أى: سقطت مقتولة على جنوبها ميتة الْقانِعَ هو السائل يقال قنع يقنع من القناعة إذا سأل. وقيل: القانع الراضي الذي لا يسأل وفعله قنع يقنع من القناعة فانظر إلى دقة اللغة وَالْمُعْتَرَّ هو المعترض الذي يطيف بك طالبا ما عندك بالسؤال أو السكوت، وقيل المعتر: المعترض من غير سؤال. المعنى: من نعم الله علينا أن جعل البدن من شعائر الله تذبح ويتقرب بها، فهو الذي أعطى ومنح، وهو الذي يقبل منا ويجازينا على القربى إليه بنعمه التي تفضل بها علينا. لكم في البدن خير، وأى خير أكثر من هذا؟ خير في الدنيا وخير في الآخرة فاذكروا اسم الله على ذبحها متقربين بها إليه حالة كونها صواف قائمات على أرجلها ليس بها عيب ولا مرض. ولعل ذكر صواف يشير إلى أنها تكون سليمة قوية، وصفها على هذا الوضع يملأ قلب الفقير سرورا واطمئنانا فإذا وجبت جنوبها، وسقطت على الأرض ساكنة لا حراك بها فكلوا منها جبرا لخاطره ومخالفة للجاهلين في أنهم كانوا لا يأكلون منها، وهذا الأمر للإباحة، وأطعموا منها السائل وغير السائل، القانع المعترض حتى يطعم الكل، وهكذا الإسلام حريص كل الحرص على أن تكون أعياد المسلمين العامة فيها الفقير ينعم بالخير، ويتمتع بزكاة الفطر، والأضحية، والبدن التي تنحر في الحج. وفي هذا إشارة إلى وجوب التضحية والبذل والفداء حتى يتحقق معنى العيد وحتى تكون كل النفوس راضية مرضية. مثل ذلك التسخير سخرنا الحيوانات لكم وهي أقوى جسوما، ولكن خلق الله لكم ما في الأرض جميعا، وذلل لكم الطبيعة بكل قواها، لعلكم تقومون بواجب الشكر للخالق البارئ المصور- سبحانه وتعالى-. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 587 كان أهل الجاهلية يضرجون بيوتهم بالدماء فأراد المسلمون أن يفعلوا مثلهم فنزلت الآية لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَلا دِماؤُها والنيل لا يتعلق بالمولى ولكن المراد لن يقبل ولن يصل إليه، ولن يصعد إليه شيء من لحومها ولا دمائها، ولكن يناله التقوى والإخلاص، كذلك سخرها لكم لتكبروا الله عند ذبحها على ما هداكم ووفقكم إليه، وبشر المحسنين الذين يحسنون العمل، ويقومون به على أتم ما يكون. المؤمنون الذين يدافع الله عنهم وينصرهم [سورة الحج (22) : الآيات 38 الى 41] إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَواتٌ وَمَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41) المفردات: خَوَّانٍ كثير الخيانة، لَقَدِيرٌ قادر على نصر عباده نصرا مؤزرا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 588 لَهُدِّمَتْ خربت، وقيل: عطلت الصلاة فيها صَوامِعُ وهي: صوامع الرهبان، وقيل: هي خاصة بالصابئين، وَبِيَعٌ جمع بيعة. وهي كنيسة النصارى، صَلَواتٌ: هي كنائس اليهود وأصلها بالعبرية صلوتا فعربت، وَمَساجِدُ هي أماكن الصلاة للمسلمين وإن كانت الأرض كلها جعلت للنبي صلّى الله عليه وسلّم مسجدا وتربتها طهورا لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ والقوى القادر على كل شيء، والعزيز الذي لا يغلبه غالب. ولما ذكر الله- سبحانه وتعالى- صد الكفار للنبي صلّى الله عليه وسلّم عن الحج، ومنعهم له من دخوله الحرم- وبهذه المناسبة بين بعض ما يلزم في الحج ومناسكه، وما فيه من منافع في الدنيا والآخرة- أتبع ذلك ببيان ما يزيل الصد والمنع، وما يجعل المسلمين أعزة أحرارا أقوياء ... المعنى: إن الله يدافع عن الذين آمنوا، ويدفع عنهم شر أعدائهم، وينصرهم، ويؤيدهم على عدوهم، وإن الله لا يحب كل خوان للعهد، كفور بالنعم، يذكر غير الله، ويتقرب بذبيحته لصنم أو وثن، وكان المشركون المعاصرون للنبي صلّى الله عليه وسلّم تنطبق عليهم تلك الأوصاف. كان المشركون يؤذون النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه الكرام بألسنتهم وأيديهم إيذاء شديدا حتى شكا الصحابة لرسول الله ذلك، فكان يقول لهم: «اصبروا فإنّى لم أومر بالقتال» وظل الحال ينتقل من شدة إلى شدة، حتى هاجر المسلمون إلى الحبشة، ثم إلى المدينة، وهاجر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كذلك، فأنزل الله- سبحانه- بالمدينة آيات القتال، وكانت أول آية نزلت: قوله تعالى: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، وهي مقررة أيضا لمضمون قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا، فإذا إباحة القتال لهم، وكونهم يصمدون في الحرب ضد الكفار، بل ويهزمونهم دفاع من الله عنهم، ونصر مؤزر لهم!. أذن للذين يقاتلون، أى: أذن لهم من الله في قتال من يقاتلهم ويعتدى عليهم، وسبق له أن أخرجهم من ديارهم وأموالهم، وسامهم سوء العذاب. وذلك بسبب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 589 أنهم ظلموا في كل ما لحقهم من الكفار، وإن الله على نصر المؤمنين لقدير، ينصرهم بغير حرب ولا تعب، ولكن يريد الله من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته، وليمحص الله الذين آمنوا، ولو يشاء الله لانتصر منهم، ولكن ليبلو بعضكم ببعض. ثم وصف هؤلاء المؤمنون بقوله: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ أى مكة بغير حق يقتضى الإخراج. لكن لقولهم: ربنا الله، وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ [سورة البروج آية 8] . أيها الناس: لا تعجبوا من إذن الله لأوليائه بالقتال، ووعدهم بالنصر على أعدائهم وحثهم على القتال، فلولا ما شرعه الله للأنبياء والمؤمنين من قتال أعداء الله وأعدائهم قديما وحديثا لاستولى أهل الشرك عليهم، ولضاعت مواضع العبادة في الأرض، وهدمت صوامع الرهبان، وبيع النصارى وكنائسهم، وصلوات اليهود وكنائسهم، وكذلك مساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله ذكرا كثيرا. وو الله لينصرن الله من ينصره، إن الله لقوى قادر. عزيز لا يغالب ومن ينصره الله هو من ينصر دينه ويتبع أمره ونهيه، ويطيع رسوله وكتابه، والله- سبحانه وتعالى- أقسم لينصرنه، ومن أصدق من الله حديثا: إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ، أفبعد صريح القرآن نطلب من الله النصر والدفاع. وما نصرنا دينه إلا بالانتساب إليه بالاسم فقط. أما القرآن، وحكمه، أما روح الدين والخوف من الله، فشيء في الكتب فقط، ويردد على اللسان فحسب، ولقد صدق الله: وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ [سورة سبأ آية 13] . من ينصره الله هم الذين إن مكناهم في الأرض وأعطيناهم السلطان على الناس، أتوا بأربعة أمور عليها ينبنى الملك، وبها تؤسس الدولة الصالحة وهي: (أ) إقامة الصلاة كاملة تامة في أوقاتها وبشروطها، إذ هي الواجب العملي الأول على كل مسلم، وهي الصلة بين العبد وربه، وهي مطهرة للنفس، وتقوية للروح، وتجديد لمعنى الإسلام، ودواء لكل داء إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ [سورة العنكبوت آية 45] وإقامة الصلاة لامتثال العبد أمر الله كله. (ب) إيتاء الزكاة. والحوادث التي مرت بالعالم في العصر الحديث، وما نتج من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 590 ظهور المبادئ الهدامة، والأفكار الضارة كانت دليلا على أن الإسلام دين سماوي، ونظام رباني، لا يمكن أن يصدر عن بشر. وحين أوجب على الغنى حقا للفقير، وجعل له في مال أخيه المسلم حقا معلوما. كان يريد الخير للغنى والفقير، ويؤسس دولة على دعائم العدل والرحمة، والتعاطف والبر، بالمجتمع الإنسانى. (ج، د) الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: وجعلهما أساسا في كيان الدولة، وإباحتهما للجميع. وهما أساس النقد الحر، دليل على أن الإسلام يريد لأبنائه الحرية المطلقة، ولكنها حرية مشوبة بروح الدين، ومطبوعة بالطابع الإسلامى الخالص. والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر إذا توافرا في مجتمع كبح جماع العصاة الخارجين وحد من ثورة الحكام الفاسدين، وألزم كل إنسان طريق الحق، وما قيدت الحريات ولا ضعف الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر في أمة من الأمم إلا باءت بالخسران، وانهدم كيانها، وانمحت من الوجود.. ألم يذكر الله من أسباب اللعن لبنى إسرائيل وضياع ملكهم أنهم كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ؟ [المائدة 79] . ومن هنا نعرف أن الله ينصر من ينصره، ويدافع عمن يدفع عن نفسه الهلاك والخسران من الأمم التي تقيم الصلاة، وتؤدى الزكاة، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، وهذه أسس الخير، ودعائم الإصلاح، وما فرطت أمة في واحدة إلا ذلت. ألست معى في أن المسلمين فرطوا في الأربعة، فضاعت هيبتهم بين الأمم وسلط الله عليهم أعدى أعدائهم، ولا طريق لهم إلا التمسك بالقرآن وحكمه، وامتثال أمره واجتناب نهيه، خصوصا هذه الدعائم الأربعة. حثهم على العبرة بمن تقدمهم من الأمم [سورة الحج (22) : الآيات 42 الى 48] وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْراهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَهِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَهِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 591 المفردات: فَأَمْلَيْتُ أمهلت وأخرت عنهم العقوبة نَكِيرِ النكير بمعنى الإنكار وهو يفيد التغيير وقد غير نعمته عليهم وجعلها نقمة فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ كثير من القرى خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ساقطة على سقوفها أى: أن السقف سقط على الأرض ثم تهدمت الحيطان فوقه مُعَطَّلَةٍ متروكة لأنها غائرة الماء أو لفناء أهلها مَشِيدٍ رفيع طويل، أو شيد بالجص والطلاء، وعلى كل فهو قصر حصين. ما تقدم كان في بيان إخراج الكفار للمؤمنين من ديارهم بغير حق، وقد أذن الله للمؤمنين في قتالهم ووعدهم بالنصر على أعدائهم، وهزيمة الكفار على كثرتهم، ولله عاقبة الأمور، وها هو ذا التاريخ يعيد نفسه فانظروا لمن سبقكم من الأمم، وفي هذا سلوى وبيان للمؤمنين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 592 المعنى: وإن يكذبك يا محمد هؤلاء الناس، ويسعوا في الأرض فسادا ويؤذوا أصحابك بأنواع الأذى، فلا تحزن ولا تتألم أنت وصحبك الأبرار فقديما كذبت الأمم رسلها. ثم كان النصر للمؤمنين حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَلا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ [سورة يوسف آية 110] . وها هو ذا أبوك نوح قد كذبه قومه وعصوه، وأخوك هود مع عاد، وصالح مع ثمود، وإبراهيم مع قومه، ولوط مع قومه، وشعيب مع أصحاب مدين، فهل رأيت إلا إيذاء وتكذيبا من القوم، وصبرا وثباتا من الرسل، فلست بدعا من الرسل والناس هم الناس. وهذا موسى- عليه السلام- مع ظهور آياته ومعجزاته كالعصا واليد قد كذب، ولكن الحكم العام أن الله يملى للكافرين، ويمهل الظالمين ولا يهمل أبدا حتى إذا حان وقت العذاب أخذت بعذاب بئيس، وعقاب شديد. فانظر: كيف كان إنكار ربك عليهم؟!! وكيف غير نعمتهم إلى نقمة، وبدل سرورهم إلى حزن، وقصورهم إلى خراب إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ [البروج 12] . فكثير من القرى أهلكناها، وأبدنا أهلها عن آخرهم، والحال أنها ظالمة فأصبحت لا ترى إلا مساكنهم، التي هي خاوية على عروشها، قد سقط السقف أولا ثم الحيطان عليه، وهذا نوع من الإبادة شديد. وكثير من الآبار عطلت لفناء أصحابها أو لغور مياهها، وكذلك كثير من القصور المشيدة أخليت من سكانها وتركت تنعى أصحابها وروادها بلسان الحال!! أعمى هؤلاء المشركون من قريش، والمكذبون للنبي صلّى الله عليه وسلم، والذين يؤذون النبي وأصحابه فلم يسيروا في الأرض!! فتكون لهم قلوب يعقلون بها الحقائق، ويدركون بها الأسرار، وخفيات الأمور، حتى يعلموا عاقبة تكذيبهم، وأنه وبال عليهم، وسيحل بهم ما حل بمن سبقهم، فسنة الله لا تتغير أبدا، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا «1» . فإنها لا تعمى الأبصار الظاهرة وحواسها، ولكنها تعمى القلوب التي في الصدور.   (1) سورة فاطر الآية 43. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 593 اعلم يا أخى أن في الإنسان قوة عاقلة مدركة، تدرك المحسوسات والمشاهدات والمسموعات بواسطة الأذن والعين والأنف وحاسة اللمس والذوق، وهذه الحواس ليست خاصة بالإنسان، بل هي في الحيوان كذلك. وفي المؤمن قوة عاقلة روحية، تدرك الأسرار، وتقف على العبر والعظات من المحسوسات والمشاهدات، فإذا رأت رسما دارسا وبئرا معطلة، وقصرا مهدما نظرت فاعتبرت، وأدركت فعلمت، أن كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم، وإليه ترجعون، وأن أصحاب هذا لا بد أنهم عصوا وبغوا، فحاق بهم المكر السيئ ونزل بهم جزاؤهم المناسب لهم. هذه القوة العاقلة الروحية هي التي تدرك معاني الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، ومحلها القلب، وللقلب عين وأذن وأنف وإحساس، ولكن هذه الأشياء كلها ليست هي الظاهرة التي في الإنسان والحيوان، بل هي حواس قلبية لها زاد هو التقوى، وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى، إذن قد يكون للإنسان أذنين، وله عينين وَتَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لا يُبْصِرُونَ، [سورة الأعراف آية 198] . يا عجبا لهم!! يستعجلونك بالعذاب تكذيبا لك، واستهزاء بوعدك، والله لن يخلف وعده أبدا. وإن يوما عند ربك من أيام العذاب التي تحل بهم في الآخرة، كألف سنة مما يعدون!! فأين هم من عذاب ربك؟ والله بالغ أمره، ولن يخلف الله وعده وهو ناصر رسوله وعاصمه من الناس كلهم. وكثير من القرى أملى لها الله وأخر عنها العذاب وهي ظالمة من باب الإمهال، لا الإهمال، حتى إذا جاء وعد ربك الذي لا يتقدم ولا يتأخر، أخذها ربك أخذ عزيز مقتدر، وإلى الله وحده المصير، وإليه ترجع الأمور. مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلم [سورة الحج (22) : الآيات 49 الى 51] قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 594 المعنى: يقول تعالى لنبيه صلّى الله عليه وسلّم حين طلب منه الكفار وقوع العذاب واستعجلوه به تكذيبا له واستهزاء به لأنهم لا يؤمنون بيوم القيامة، ولا بقدرة الله على إيقاع العذاب. ونسوا ما حصل للأمم السابقة، ولم يعتبروا بما حصل. قل لهم يا محمد: إنما أرسلنى الله إليكم نذيرا بين يدي عذاب شديد، إنما أنا نذير بيّن الإنذار قوى الحجة واضحها، وليس علىّ حسابكم وهدايتكم، بل أمركم إلى ربكم إن شاء عجل العذاب لكم، وإن شاء أخره عنكم ليوم معلوم، لا تستقدمون عنه ساعة ولا تستأخرون، وهو ربكم وإليه أمركم، وهو الفعال لما يريد، لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب. فالذين آمنوا بالله وكتبه ورسله إيمانا صحيحا سليما مصحوبا بالعمل الصالح لهم مغفرة من الله ورزق كريم، وثواب عظيم، وسعادة في الدنيا والآخرة مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ [سورة النحل آية 97] . والذين سعوا جاهدين في إبطال آياتنا، وإطفاء نور الإسلام- وما علموا أن الله متم نوره ولو كره الكافرون- أولئك أصحاب الجحيم الملازمون لها، وهي نار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة، إنها عليهم مؤصدة، في عمد ممددة ... كتاب الله محكم لا ريب فيه [سورة الحج (22) : الآيات 52 الى 57] وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 595 المعنى: روى المفسرون أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قرأ: وَالنَّجْمِ إِذا هَوى فلما بلغ أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى سمع المشركون (تلك الغرانيق العلا وإن شفاعتهن لترتجى) فلقيه المشركون والذين في قلوبهم مرض فسلموا عليه وفرحوا فقال النبي: «إن ذلك من الشيطان» ، فأنزل الله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلَّا إِذا تَمَنَّى الآية . وهناك روايات تثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو المعصوم- هو الذي قرأ وعلى ذلك فيكون معنى الآية: وما أرسلنا يا محمد من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى أى قرأ وتلا ألقى الشيطان في أمنيته أى قراءته وتلاوته، فينسخ الله ما يلقى الشيطان ويزيله، ثم يحكم الله آياته، والله عليم حكيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 596 هذه الرواية، رواية باطلة، وإن تكن رواية بعض المفسرين وكيف تصح؟!! ولو جوزناها لارتفع الأمان عن شرعه، وجوزنا في كل حكم أن يكون فيه زيادة أو نقص من قبل الشيطان على أن هذه الرواية وأمثالها تفتح باب الطعن والشك، وتكون سلاحا في يد أعداء الإسلام، وأعداء الأديان كلها، ولا ينفعنا أن ذلك بشكل واسع في الكتب السابقة. وهل تساعد اللغة تفسير (تمنى) بقرأ؟ أظن لا!! وكيف نجوز هذا والله يقول وهو أصدق القائلين: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ «1» ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ «2» . وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى [سورة النجم الآيات 3- 5] وَإِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَإِذاً لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا [سورة الإسراء 73 و 74] وقد عرفنا تفسيرها ووقفنا على معناها. عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً [سورة الجن الآيات 26- 28] . وقال القاضي عياض في كتاب الشفاء «لقد أجمعت الأمة على أن النبي صلّى الله عليه وسلّم فيما يبلغه عن ربه، معصوم فيه من الإخبار عن شيء بخلاف ما هو عليه لا قصدا ولا عمدا ولا سهوا ولا غلطا. واعلم- أكرمك الله يا أخى- أنهم خرجوا هذا الحديث المسمى بحديث الغرانيق على أن أصله واه، وقال علماء الحديث: إنه لم يخرجه أحد من أهل الصحة، ولا رواه بسند سليم متصل ثقة، وإنما أولع به وبمثله جماعة من المفسرين والمؤرخين بعضهم بحسن نية، وقال أبو بكر البراز: هذا الحديث لا نعلمه يروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم بإسناد متصل يجوز ذكره. وإذا سلمنا بالحديث على أنه مروى بعدة روايات وإن تكن كل واحدة ضعيفة إلا أن كثرة طرقها تجعلنا نقبله بتحفظ ونؤوله بما يتفق مع المبادئ العامة الإسلامية، بل   (1) سورة الحاقة الآيات 44- 46. [ ..... ] (2) سورة يونس الآية 15. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 597 بما يتفق مع صدر السورة، وعجزها، ووصف الأصنام بعد قوله تعالى أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ [سورة النجم الآيات 19- 23] وهذا بلا شك وصف للأصنام بأنها لا حقائق لها، وليس لكم فيها حجة، وما تتبعون في عبادتها إلا الظن الذي لا شبهة معه ... وإذا سلمنا بالحديث فتأويله هكذا. أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يرتل القرآن ترتيلا، ويفصل آياته تفصيلا في قراءته فالجائز أن الشيطان انتظر سكتة من النبي صلّى الله عليه وسلّم ودس ما اختلقه من تلك المفتريات محاكيا صوت النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد شاعت تلك الزيادة في وسط أهل مكة وسر بها المشركون. وأما المسلمون فيحفظون السورة كما أنزلها الله- سبحانه-، وكما كان يتلوها النبي قبل ذلك، وكانوا متحققين من ذم النبي للأوثان، وما عرف عنه في ذلك، ومن هنا تظهر الحكمة الإلهية وهي الاختبار بأمثال هذا. فأما الكافرون الظالمون، ومن في قلوبهم مرض فسيقولون هذا من عند الله، والله قد مدح الأصنام التي كان يذمها محمد. وأما المؤمنون فسيعلمون أن القرآن هو الحق من عند الله، وإن هذا إلقاء شيطان لا يعبأ به، والله عليم حكيم وتكون الآية سلوى للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث كان يحصل هذا مع الأنبياء قبله، وهو لحكمة الله يقصدها ويعلمها، وهي الابتلاء والاختبار. ويمكن بعد هذا كله أن نفهم الآية على هذا المعنى الآتي- مع أن اللغة لا تمنع منه- يقول الله- سبحانه وتعالى-: وما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول له كتاب وشريعة، ولا نبي- ليس له شريعة ولا كتاب بل ألهم أو أوحى إليه أن يتبع شريعة غيره كأنبياء إسرائيل- وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى- من الأمنية التي تهواها النفس، وكل الأنبياء كانت تحب وتهوى أن يؤمن بهم كل الناس- ألقى الشيطان في أمنيته وفي سبيل تحقيقها من العراقيل والعقبات الشيء الكثير فكان يلقى من نفوس الناس ويزين لهم الكفر والفسوق والعصيان، ولا شك أن الناس الذين أرسل إليهم الرسول هم محل الأمنية، التي يتمناها النبي صلّى الله عليه وسلم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 598 فينسخ الله ما يلقى الشيطان، ويزيل الوساوس من بعض قلوب الناس ثم يحكم الله آياته البينات، حتى تكون محكمة سديدة عند من يؤمن بها، والله عليم بخلقه حكيم في صنعه، يعلم خلقه وما هم عليه. ليجعل ما يلقى الشيطان فتنة وضلالا للذين في قلوبهم مرض، من شك ونفاق وحسد وبغضاء: وانظر إلى عبارة القرآن فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والمراد استقر وسكن حتى أصبح طبعا وغريزة، والقاسية قلوبهم، وهم المشركون المكذبون، وإن الظالمين من المنافقين والمشركين لفي شقاق بعيد الغور، كبير الخطر، ولهم عذاب مقيم ... وليعلم الذين أوتوا العلم، وهدوا إلى الصراط المستقيم، وهم المؤمنون القانتون أنه الكتاب المحكم الآيات، البعيد عن الشبهات، هو الحق من ربك، لا شك فيه تنزيل من حكيم حميد، فيؤمنوا به إيمانا صادقا لا شبهة معه، فتخبت له قلوبهم، وتخشع وتسكن مخلصة مطمئنة، وإن الله لهادى الذين آمنوا بهذا القرآن إلى صراط مستقيم، وسيجازيهم على ذلك أحسن الجزاء. ولا يزال الذين كفروا في شك منه مهما أتتهم الأدلة، وتوالت عليهم الحجج، لا يزالون هكذا، في شك وحيرة حتى تأتيهم الساعة بغتة، أو يأتيهم عذاب يوم عقيم لا خير فيه. ولا غرابة في هذا لأن الملك يوم الجزاء والثواب والعقاب لله الواحد القهار. يحكم بينهم، وهو الحكم العدل- جل شأنه-، يحكم بينهم فيما اختلفوا فيه، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنات خالدين فيها، ولهم فيها نعيم مقيم. والذين كفروا، وكذبوا بآياتنا فأولئك أصحاب الجحيم، ولهم عذاب ذو إهانة لهم. جزاء ما عملوا من سيئ الأعمال، وما ارتكبوا من بوائق السيئات ... فضله كبير على الناس جميعا وخاصة المؤمنين [سورة الحج (22) : الآيات 58 الى 66] وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 599 المفردات: هاجَرُوا تركوا أوطانهم في سبيل الله مُدْخَلًا مكانا يدخلونه ويرضونه وهو الجنة عاقَبَ جازى الظالم بمثل ما ظلمه يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ يدخل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 600 الليل في النهار بزيادة وقته على حساب النهار مُخْضَرَّةً ذات خضرة سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ ذلل لكم ما في الأرض تنتفعون به وتذللونه. المعنى: - الملك يومئذ لله يحكم بين عباده فالذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات النعيم، والذين كفروا وكذبوا بآياته لهم العذاب المقيم خالدين فيه أبدا. والذين هاجروا في سبيل الله، وتركوا أوطانهم وديارهم في سبيله وكرسوا حياتهم للجهاد مع رسوله، وإنما خص هؤلاء بالذكر لسمو قصدهم وعلو مكانتهم عند ربهم، وهؤلاء الذين هاجروا ثم قتلوا بعد ذلك أو ماتوا ليرزقنهم الله رزقا حسنا، وانظر إلى علو مكانتهم عند ربهم إذا قتلوا أو ماتوا. ليرزقهم الله رزقا حسنا من عنده. وهو خير الرازقين إذ يعطى بغير حساب وينفق كما يشاء، وكل عطاء فهو من فضل عطائه، ليدخلنهم مدخلا يرضونه يوم القيامة، وهذا المدخل الكريم ما أعد لهم في الجنة من النعيم المقيم، وهذه الجملة بيان للرزق الحسن إذ لا يعقل أن يكون رزقا في الدنيا بعد الموت أو القتل إلا على التأويل، ولا غرابة في ذلك فالله هو العليم بأسرار النفوس، وطوايا القلوب، حليم بعباده لا يعاجل بالعقوبة بل يعفو ويغفر، ويمهل ولا يهمل. الأمر ما قصصناه عليك من إنجاز ما وعدنا المهاجرين الذين قتلوا أو ماتوا. أى الأمر ذلك. روى أن طوائف من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم. ورضى عنهم قالوا: يا رسول الله: هؤلاء الذين قتلوا في سبيل الله قد علمنا ما أعطاهم الله من الخير، ونحن نجاهد معك كما جاهدوا فما لنا إن متنا معك؟ أى فما حالنا لو متنا بلا قتل؟!! فأنزل الله هاتين الآيتين- وهما يفيدان التسوية بين من مات على فراشه ومن قتل في سبيل الله ... وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ [الحج 60] . ووضع هذه الآية هنا يفيد معناها: أن هؤلاء المهاجرين المقاتلين في سبيل الله مع إكرامى لهم في الآخرة بما عرفتم لا أدعهم بل أنصرهم في الدنيا على أعدائهم، وهذا مشروط بنصرهم لله إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ [سورة محمد آية 7] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 601 والمعنى من قاتل من قاتله ظلما وبغيا، لينصرنه الله ويؤيده بروح من عنده واعلموا أن الله عفو غفور فلا تلجئوا للحرب والقتال إلا إذا وقفوا ضدكم، وحاربوا دعوتكم، فإن تركوكم وشأنكم، ولم يعتدوا عليكم فمن الخير ألا تبدءوا بالقتال بل عليكم بالعفو فالله كثير العفو والمغفرة والعقوبة إنما تكون بعد فعل وقع. فهي جزاء منه، وسمى الله ابتداء الظلم عقوبة مشاكلة لتسمية الجزاء وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها [سورة الشورى آية 40] فسمى عقوبة الجزاء سيئة للمشاكلة، والمراد بالمثلية عدم الزيادة. ذلك أى: المذكور كله بسبب أنه- سبحانه- قادر، ومن كمال قدرته إيلاج الليل في النهار، وإيلاج النهار في الليل بمعنى زيادة أحدهما على حساب الآخر فالقادر على ذلك قادر بلا شك على نصرة المظلوم، وإثابة الطائع ومجازاة العاصي، وذلك بسبب أن الله سميع لكل دعاء، بصير بكل عمل فلا يعزب عنه شيء. ذلك أى ما تقدم من اتصافه- سبحانه وتعالى- بكمال القدرة، وتمام العلم بسبب أنه هو الحق، الموجود بلا شك، الموصوف بكل كمال المنزه عن كل نقص، وهو صاحب الدين الحق، فعبادته حق، ونصره لأوليائه حق، ووعده حق، وهو الحق لا شك فيه، وأن ما تدعون من دونه هو الباطل الذي لا ثبوت له، ولا وجود، والحال أن الله هو العلى المتعالي على الكل بقدرته، وقدسيته تنزهه عن الأشباه والأنداد والنظائر. ثم أخذ القرآن يلفت نظرنا إلى الأدلة الكونية التي تثبت ذلك. ألم تعلموا أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة؟ بقدرة الله، فالله- سبحانه- هو الذي أنزل من السماء ماء فأصاب الأرض الميتة فأحياها بالخضرة والنبات، أو سلكه ينابيع في الأرض ثم يرفع بالآلات الرافعة فأصبحت به مخضرة ذات خضرة وبهجة. إن الله لطيف بعباده يدبر لهم أمر المعاش ونظام الدنيا خبير بهم، وبحالهم، وبنظام معاشهم ولا غرابة في ذلك كله إذ له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا، والكل محتاج إليه، وأن الله هو الغنى فلا يحتاج إلى شيء، الحميد المحمود في السموات والأرض. وهذه نعمة أخرى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 602 ألم تعلموا أن الله الرحمن الرحيم بكم سخر لكم كل ما في الأرض من حيوان ونبات وأنهار وقوى طبيعية حتى استخدم الإنسان الأثير والذرة وها هي الفلك تجرى في البحر بأمره، وخصها بالذكر لأنها هي الموجودة ساعة نزول القرآن. أما اليوم فالغواصة، والطيارة، والقنابل والتليفزيون وغيره وغيره مما ستتكشف الأيام عنه. والله- سبحانه- يمسك السماء أن تقع على الأرض، وقد رفعها بلا عمد ترونها فلن تقع السماء (أى ما فيها من كواكب وأجرام) إلا بإذنه وإرادته فليست الدنيا خلقت بالطبع ووجدت بالصدفة لا بل هذا الكون لا يمكن أن يسير وحده بلا مدبر قوى قادر حكيم عليم ناقد بصير هو الله- جل جلاله-، وتقدست أسماؤه. حقيقة إن الله بالناس لرءوف رحيم. وهو الذي أحياكم من العدم ثم يميتكم عند انقضاء أعماركم، وهذا الموت من أكبر النعم على الإنسان، ألم تر لك قريبا عزيزا عليك مرض مرضا شديدا حتى تمنيت له الموت؟ كلنا ذلك الرجل، ولذلك عد الموت في النعم كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ من سورة الرحمن، أليست الدنيا سجن المؤمن وبالموت ينطلق إلى ساحة الرحمن، ثم يحييكم للبعث والجزاء وإعطاء المحسن جزاءه والمسيء عقابه، إن الإنسان لكفور بنعم الله جحود لفضل الله إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وشكروا الله حق شكره فأولئك جزاؤهم عند ربهم ... لكل أمة شريعة صالحة لها [سورة الحج (22) : الآيات 67 الى 70] لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 603 المفردات: مَنْسَكاً عبادة وشريعة يعبدون بها ربهم، والفعل نسك ينسك فهو ناسك، ونسك أى: عبد فهو عابد. المعنى: العالم يتطور تطور الإنسان في الحياة فمن الطفولة إلى دور الشباب إلى دور الرجولة الكاملة، وتلك سنة التطور، وقد عالج الله العالم وقت أن كان كالطفل بعلاج التوراة التي أنزلت على موسى تحكم بالشدة وتعنى بالمادة، ثم جاء الإنجيل متمما لحكم التوراة مع علاج الروح وتنمية الغرائز، والعالم كان في شبابه ميالا لناحية الروح، ثم لما كمل العالم، وتمت رجولته، وأصبح قادرا على تحمل رسالة خاتم المرسلين محمد صلّى الله عليه وسلم أرسل له بتشريع يجمع بين العناية بالمادة والروح، وكان تشريعه وسطا وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً [سورة البقرة آية 143] . نعم لكل أمة من الأمم جعلنا منسكا وشريعة تعبد بها ربها، وهي مناسبة لها فكانت التوراة منسك الأمة التي كانت من مبعث موسى إلى مبعث عيسى، والإنجيل منسك الأمة من مبعث عيسى إلى مبعث محمد- عليهم جميعا الصلاة والسلام-، وكان القرآن وما فيه من تشريع وحكم شامل لكل مناحى الحياة الدنيا والأخرى منسك هذه الأمة إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها ولقد أرسل محمدا صلّى الله عليه وسلّم ونزل عليه القرآن هدى للناس جميعا وبينات من الهدى والفرقان، والعالم في أشد الحاجة إليه، فكان رحمة للعالمين، ومنقذا للإنسانية المعذبة الضالة بين المادية القاسية، والوثنية الضالة لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [سورة المائدة آية 48] . وإذا كان الأمر كذلك فلا ينازعنك في الأمر- أى أمر الدين- فهذا هو الدستور الذي نسخ جمع الدساتير السالفة، وهذا نهى لهم عن النزاع، وأنت يا محمد لا تلتف لنزاعهم وجدالهم واثبت في دينك ثباتا لا يطمعون معه أن يخدعوك ليزيلوك عنه، وادع كل الناس إلى سبيل ربك وهو دين الله الحق، وتوحيده الخالص، إنك على الحجة البيضاء ليلها كنهارها، وأنت على الطريق المستقيم الذي لا عوج فيه، فادع الناس جميعا إلى الإسلام وإن أبوا إلا جدالك بعد ظهور الحجة عليهم فكل أمرهم إلى الله وقل لهم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 604 الله أعلم بما تعملون وسيجازيكم على عملكم، ويحكم بينكم يوم القيامة فيما كنتم فيه تختلفون. ألم تعلموا أن الله يعلم ما في السماء، وما في الأرض؟ وهو العالم الذي لا يغيب عنه شيء في الكون، إن ذلك كله في كتاب مكتوب عنده، فكيف يغيب عنه شيء؟ بل إن ذلك كله عليه يسير، وهذا يفيد أن الحكم يوم القيامة بالعدل الذي لا جور فيه. بعض أعمال الكفار والمشركين [سورة الحج (22) : الآيات 71 الى 76] وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72) يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74) اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 605 المفردات: ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً المراد بالسلطان الدليل الذي ينزله الله- سبحانه وتعالى- وَما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ المراد حجة عقلية الْمُنْكَرَ دلالة الغيظ والغضب يَسْطُونَ يبطشون والسطو شدة البطش ذُباباً الذباب اسما واحدا للذكر والأنثى، وسمى هذا الحيوان به لكثرة حركته لا يَسْتَنْقِذُوهُ الاستنقاذ والإنقاذ التخليص يَصْطَفِي يختار. وهذا بيان لما يقدم عليه الكفار والمشركون بعد بيان نعم الله- سبحانه وتعالى- على خلقه، وبيان مظاهر قدرته وتمام علمه المحيط بكل شيء. المعنى: - الله المتصف بصفات الألوهية الكاملة، ولا إله إلا هو، خالق السماء والأرض، ومبدعهما لا على مثال سابق، ومولج الليل في النهار، والنهار في الليل، ومنزل الماء من السماء ومنبت الشجر والزرع والنبات في الصحراء وهو صاحب الأمر في السموات والأرض، السميع العليم، القدير الخبير، الذي سخر لكم ما في الأرض وخلقه لكم لتذللوه وتنتفعوا به، ورفع السماء وبسط الأرض وأحياكم، وهو الذي يميتكم ثم يحييكم لتأخذوا جزاءكم ومع هذا كله إن الإنسان لكفور مبين، ومع هذا فهم يعبدون من دون الله أصناما وأوثانا لم يتمسكوا في عبادتهم بحجة سمعية نزلت عليهم من الله، تكون لها سلطان عليهم ولم يتمسكوا في عبادتهم بعلم وحجة عقلية، بل عبدوهم من دون الله عبادة ليس لها أساس اللهم إلا التقليد الأعمى والجهل المطبق والشبه التي هي أو هي من بيت العنكبوت. وما للظالمين أمثالهم من ولى يتولى أمرهم يوم الحساب، ولا نصير ينصرهم ويدافع عنهم، ومع هذا الجهل والضلال إذا نبهوا إلى الخير والطريق الحق، وإذا تليت عليهم آياته البينات من القرآن الكريم ظهر في وجوههم المنكر، وبدت عليها دلائل الغيظ والغضب، وامتلأت قلوبهم فجورا ونشوزا وإنكارا، يكادون يسطون بالذين يتلون عليهم آياتنا، ويبسطون إليهم ألسنتهم وأيديهم بالسوء. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 606 ثم أمر الله رسوله أن يقابلهم بالوعيد الشديد فقال: قل أفأنبئكم بشر من ذلكم؟ أى: بشر من غيظكم الذي ملأ قلوبكم، وكأن سائلا سأل وقال: ما شر من ذلكم؟ فقيل: هو النار!! وعدها الله الذين كفروا، وبئس المصير مصيرهم. ولما بين الله أنهم يعبدون من دون الله مالا حجة لهم فيه أتبع ذلك بيان أن آلهتهم أضعف من الضعف فلا يستحقون العبادة بحال. ومن عادة القرآن الكريم أن يعبر عن الصفات أو القصة الرائعة الغريبة بالمثل لأنها تشبهه في الغرابة والتأثير على السامع والذيوع بين الناس. يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له، وتدبروا فيه، وحكموا عقولكم في مغزاه إن الذين تدعونهم من دون الله، وتخصونهم بالقربى والدعاء لن يخلقوا ذبابا أبدا، بل محال منهم ذلك وإنما اختير الذباب لحقارته، وضعفه وقذارته. وكثرته، والحال أنهم مجتمعون متكاتفون متحدون. وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه، ولا يمكنهم أن يستخلصوه منه، يا لهذا العجز المشين، ويا له من تصوير فني رائع، وضع الآلهة في موضع مهين ذليل ضعيف جدا للغاية حتى ولو كانوا مجتمعين!! ضعف الطالب من المشركين، والمطلوب من الأصنام، وما أضعفهم!: وكانوا يزعمون أنهم يعرفون الله حقا، ويتخذون الآلهة قربى إلى الله، فرد الله عليهم بأنهم ما قدروا الله حق قدره، حيث جعلوا هؤلاء الأحجار، والخشب المسندة في صفوف الآلهة، وما أجهلهم حيث وضعوا الخالق الخبير البصير القاهر القادر في صف من يعجز عن دفع ضرر الذباب فكيف يتخذون العاجز المغلوب شبيها له. وهذا الآتي رد على دعواهم أن الرسول لا يكون بشرا ببيان أن الرسل نوعان: رسل من الملائكة إلى الأنبياء كجبريل مثلا، ورسل من البشر إلى الناس كالأنبياء والله وحده هو الذي يختار ويصطفى، وهو السميع لكل قول البصير بكل نفس، العليم الذي يعلم السر وأخفى ويعلم أحوال البشر ما مضى منها، وما هو آت فاختياره على أساس سليم ونظر بعيد، اعلموا أنه إليه المرجع والمآب، وإليه وحده ترجع الأمور. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 607 مجمل التشريع الإسلامى [سورة الحج (22) : الآيات 77 الى 78] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78) المفردات: اجْتَباكُمْ اختاركم مِنْ حَرَجٍ الحرج الضيق والعسر مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ شريعته. لقد ذكر القرآن الإلهيات مع مناقشة المشركين الحساب، ثم عرج على النبوات واختيار الأنبياء، وختم السورة بالتشريع العام الذي يطلبه. المعنى: يا من اتصفتم بالإيمان، بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، اركعوا واسجدوا والمعنى: صلوا صلاتكم، واعبدوا ربكم بامتثال جميع الأوامر واجتناب جميع النواهي، وافعلوا الخير، من حيث هو خير، لكم وللناس، كصلة الرحم والبر! ومكارم الأخلاق وهذا وصف عام كامل لكل فضيلة حث عليها الدين، وهذا الترتيب في الآية حسن، فالصلاة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 608 عبادة، والعبادة خير، ثم علل ذلك الأمر بقوله: لعلكم تفلحون، أى: رجاء الفلاح والفوز، ولقد صدق رسول الله حيث يقول: «لن يدخل أحد مّنكم الجنّة بعمله» . وجاهدوا في الله أى: في دين الله أو ذات الله أو لأجل الله حق جهاده أى: جهادا حقا خالصا لوجه الله، ومن نجاهد؟ إنا أمرنا بجهاد أنفسنا، وجهاد عدونا، وجهاد قرناء السوء، والجهاد في مجتمعنا لرده إلى الجادة بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر» قاله رسول الله وهو راجع من غزوة وها هو ذا القرآن الكريم يذكر المرغبات في الامتثال، وموجبات هذه الأوامر لنعمل راغبين راجين الثواب من الله. هو اجتباكم واختاركم حيث كلفكم وأمركم، ولعل في التكليف مشقة قد تكون شديدة، ولكن الله يتبع ذلك بقوله: وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، بل كله سهولة، وقد قال رسول الله: «إنّ الدّين يسر ولن يشادّ الدين أحد إلّا غلبه الدّين» ويقول الله: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها «1» ويقول الرسول. «إنّ الله يحبّ أن تؤتى رخصه كما يحبّ أن تؤتى عزائمه» . فلم يحتم عليك استعمال الماء، وقال «فإن لم تجدوا ماء فتيمموا» . وجعل التيمم للمريض، وللمسافر، ولمن فقد الماء وما حتم علينا الصيام في السفر ولا في المرض بل أباحه وحث على الفطر، وما حتم علينا القيام في الصلاة بل جعله فرضا على القادر أما غير القادر فقد أباح له الصلاة وهو جالس أو نائم، وقد أثبتت الأيام أنه ليس في نظم الإسلام مشقة ولا حرج أبدا. وعلى العموم: ففي الدين رخص كثيرة وقد استعملها الرسول صلّى الله عليه وسلّم تخفيفا على أمته وتحقيقا لقول الله وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ. اتبعوا ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل هذا أى: في الكتب السابقة وفي هذا أى: في القرآن، وحيث كانت ملة إبراهيم- عليه السلام- هي كملة المصطفى في الأصول العامة فهذا داع من دواعي الامتثال والذي سماكم المسلمين هو أبوكم إبراهيم أو الله- سبحانه وتعالى- ليظهر التعليل في قوله: ليكون الرسول شهيدا عليكم، وتكونوا شهداء على الناس وأنبيائهم يوم القيامة فقد ورد أن الأنبياء تستشهد   (1) سورة البقرة الآية 286. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 609 بالمسلمين على أنهم بلغوا رسالتهم لأممهم فيشهد المسلمون بذلك فتقول الأمم: وممن علمتم؟ فيقولون أخبرنا الصادق الأمين صلّى الله عليه وسلم. وعلى هذا كله فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وهما عنوان العمل في الإسلام، واعتصموا بالله أى: بدينه وقرآنه وأمره، واسألوه العصمة والمغفرة هو مولاكم وسيدكم والمتصرف في أموركم. فنعم المولى، ونعم النصير .... انظر إلى القرآن أمرنا بأمور ثم رغبنا في الامتثال والعمل ثم أكدها مرة ثانية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 610 سورة المؤمنون مكية كلها في قول الجميع، وعدد آياتها ثماني عشرة ومائة آية. وهي تدور حول الإيمان والمؤمنين من أولها إلى آخرها فهي إذ تصف المؤمنين، تذكر أسس الإيمان في الإنسان والكون، ثم تتعرض لرسالات بعض الأنبياء وكلها تدعو للإيمان، ثم تعود إلى المؤمنين وخصالهم وإلى الكافرين وأعمالهم مع تعرض لبعض صفات الله ونراها تختتم الكلام بتوجيهات للنبي صلّى الله عليه وسلم، ثم بذكر مشهد من مشاهد يوم القيامة للعبرة والعظة. من هم المؤمنون؟ [سورة المؤمنون (23) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 611 المفردات: اللَّغْوِ ما لا خير فيه ابْتَغى طلب العادُونَ المتجاوزون الحدود الْفِرْدَوْسَ أعلى مكان في الجنة. روى عن عمر بن الخطاب أنه قال: كان إذا نزل على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الوحى يسمع عند وجهه كدوي النحل فلبثنا ساعة فاستقبل القبلة، ورفع يديه وقال: «اللهمّ زدنا ولا تنقصنا، وأكرمنا ولا تهنّا، وآثرنا. ولا تؤثر علينا، وارض عنّا وأرضنا، ثم قال: نزل علىّ عشر آيات من أقامهنّ (أى: عمل فيهنّ) دخل الجنّة، ثم قرأ: قد أفلح المؤمنون حتّى ختم العشر» رواه أحمد والترمذي. وروى النسائي قال: قلنا لعائشة أم المؤمنين: كيف كان خلق رسول الله صلّى الله عليه وسلم؟ قالت: كان خلقه القرآن، فقرأت قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ حتى انتهت إلى وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ قالت: هكذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم. المعنى: قد أفلح المؤمنون، وفازوا وسعدوا، أولئك المؤمنون الذين وصفهم الحق- تبارك وتعالى- بما يأتى: الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ قد سكنت جوارحهم، وخشعت قلوبهم، وقال الحسن البصري: كان خشوع الصحابة- رضوان الله عليهم- في قلوبهم، فغضوا بذلك أبصارهم، وخفضوا جناحهم. والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن أفرغ قلبه لها، واشتغل بها عما عداها، وآثرها على غيرها، وحينئذ تكون راحة نفسه، وقرة عينه كما قال الرسول صلّى الله عليه وسلم «حبّب إلىّ من دنياكم ثلاث: الطّيب، والنّساء، وجعلت قرّة عيني في الصّلاة» ، وكما روى قوله صلّى الله عليه وسلّم يا بلال «أرحنا بالصّلاة» . وأمارة الخشوع أن يتوقى إصلاح الثوب، والالتفات يمينا وشمالا، والتثاؤب وتغطية الفم باليد، والتشبيك، واللعب في اللحى، والنظر إلى الأصابع، وتقليب الحصى، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 612 وغير ذلك مما يكره فعله في الصلاة باعتبار القانون الشرعي، وفي الواقع هذا مما يضيع الصلاة ويجعلها شيئا لا روح فيه، ولقد صدق رسول الله حيث رأى رجلا يلعب في لحيته وهو يصلى فقال: «لو سكن قلب هذا لسكنت جوارحه» . وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ اللغو هو الباطل، وما لا خير فيه ولا فائدة منه والمؤمن حقيقة هو الذي يشعر بثقل الرسالة التي كلف بها، ويشعر بالواجب عليه نحو نفسه ووطنه ودينه، ويشعر تماما بأن في عنقه أمانة هو محاسب عليها، لا يهدأ، ولا يسكن حتى يقوم بها. ومن كان كذلك كان معرضا عن اللهو، والمجون والعبث وضياع الوقت في غير المجدي. وانظر يا أخى إلى أن هذا اللغو دأب أفراد الأمم المتأخرة المتكاسلة، وإلا فالوقت مهما طال فهو أقل بكثير مما عليك من واجب وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً. وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ يظهر والله أعلم أن المراد بالزكاة مطلق الإنفاق في سبيل الله، وإلا فالزكاة الشرعية المحددة النصيب لم تفرض إلا في السنة الثانية للهجرة وكانوا في مكة يؤمرون بالإنفاق المطلق، ألا ترى إلى قوله- تعالى- في سورة الأنعام الآية 141 وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وفي سورة فصلت وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ [الآيتان 6 و 7] . وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ نعم هم الذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلم يقعوا فيما نهاهم الله عنه من زنا ولواط واستمناء باليد، لا يقربون سوى زوجاتهم التي أحلها الله لهم، أو ما ملكت أيمانهم من السراري التي أخذت في الحروب لا التي شاعت في القرون السابقة، وكانت تباع في الأسواق، فالشرع لم يحلل الرق إلا في صورة واحدة هي في حروب الإسلام مع الكفار فتقسم النساء على المحاربين إكراما. لهم، مع أن الدين حض في كل مناسبة على تحرير الرقاب، ولم يكن الرق واجبا حتميا بل جعله في يد الإمام يفعله متى يشاء وعلى ذلك فلنا أن نحرمه الآن لما يترتب عليه. ومن تعاطى ما أحله الله فلا لوم عليه ولا حرج، فمن ابتغى وراء ذلك أى غير الأزواج والإماء فأولئك هم المعتدون المتجاوزون، وعلى ذلك حرم نكاح المتعة، والاستمناء باليد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 613 والإجماع من كل العلماء ما عدا أحمد بن حنبل تحريمه لظاهر الآية ولحديث أنس ابن مالك «سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يزكّيهم، ولا يجمعهم مع العالمين ويدخلهم النّار في أوّل الدّاخلين: النّاكح يده، والفاعل والمفعول به، ومدمن الخمر، والضّارب والديه حتّى يستغيثا، والمؤذى جيرانه حتّى يلعنوه، والنّاكح حليلة جاره» . وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ وهم إذا اؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدونها إلى أهلها، وإذا عاهدوا أو عقدوا عقدا قاموا به، ووفوا ما عليهم، وهكذا المسلمون دائما يوفون بالعهد، وعلى عكسهم المنافقون الذين وصفهم الرسول بقوله «آية المنافق ثلاث، إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» . وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ فهم يواظبون عليها ويؤدون جميع الصلوات في أوقاتها، مع المحافظة على الصلاة وشروطها وآدابها وأركانها. وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة، واختتمها بالصلاة فدل على أفضليتها ومكانتها وأنها عمود الدين ولقد قال رسول الإسلام: «استقيموا ولن تحصلوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة» . أولئك البعيدون في درجات الكمال، المتصفون بهذه الصفات التي تثبت الإيمان في قلب المؤمن، والتي تغرس في قلبه حب الدين والخوف من الله، والتي تنتج المؤمن الكامل، المؤمن القوى، والمؤمن العامل في جيش الإسلام فهذه صفات تخلق الفرد وهناك صفات للمؤمنين كجماعة من الجماعات الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ [سورة التوبة آية 71] . أولئك هم الأحقاء بأن يأخذوا الجنة، ويستحقوا الفردوس استحقاق الوارث في مال مورثه جزاء ما عملوا، ونتيجة لما قدموا. وهم فيها خالدون وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [الزخرف 72] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 614 الإيمان بالله القادر الحكيم [سورة المؤمنون (23) : الآيات 12 الى 22] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16) وَلَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْها تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22) المفردات: مِنْ سُلالَةٍ من خلاصة استلت من الطين، والسلالة من السل وهو استخراج الشيء من الشيء يقال: سللت الشعر من العجين والسيف من الغمد فانسل قَرارٍ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 615 مَكِينٍ المراد الرحم طَرائِقَ جمع طريقة والمراد السموات السبع، سميت بذلك لأن بعضها فوق بعض بِقَدَرٍ بمقدار معلوم عندنا طُورِ سَيْناءَ طور سيناء، وَصِبْغٍ كل إدام يؤتدم به فهو صبغ، وأصل الصبغ ما يصبغ به الثوب أى يلون، وشبه الإدام به لأن الخبز يلون به إذا غمس فيه. لقد أمر الحق- تبارك وتعالى- بالإيمان وبالاتصاف بشعبه المهمة التي تكون المؤمن الصالح ببيان صفات المؤمنين التي هي سبب في فلاحهم وفوزهم. وذلك في الآيات السابقة. وهذا لا يتم إلا بعد معرفة الإله معرفة حقيقة والإيمان به والاستدلال على ذاته الكريمة وصفاته الجليلة كالقدرة والوجدانية، والعلم والحكمة وغيرها. ولذا ترى القرآن الكريم أخذ يسوق الأدلة على ذلك في خلق الإنسان، وفي تكوين السموات وفي نزول الأمطار وخروج النبات، وفي خلقه الحيوان ومنافعه. المعنى: ولقد خلقنا الإنسان، وقلبناه في أدوار الخلقة وأطوار الفطرة. أفلا يكون ذلك دليلا كافيا على وحدانيته تعالى: واتصافه بكل كمال، وتنزهه عن كل نقص؟ هذه الأطوار كل طور فيها لا يمت إلى الآخر بصلة. لقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين. ومن هو الإنسان؟ أهو آدم أم أولاده أو هو لفظ عام شامل للكل؟ أما آدم فخلق من طين لازب إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [سورة ص الآيتان 71 و 72] . وأما أولاده فقد خلقت من منى يمنى، وهذا المنى من الدم، والغذاء سواء كان نباتا أو حيوانا مصدره الأرض، إذا الإنسان مطلقا خلق من طين كما نصت الآية وعلى ذلك نفهم قوله تعالى خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ أى: صلب الرجل وترائب المرأة أى: عظام صدرها، مع قوله: وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ [السجدة 7 و 8] . تلك نظرية القرآن- كلام الله الذي خلق الإنسان من العدم- في وضوحها وهي لا تعارض بنظرية النشوء والارتقاء في تكوين الإنسان إذ أنها بنيت على الحدس والتخمين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 616 حيث يظن أن أصل الإنسان حيوان ارتقى، والواقع لا يشجعنا على هذا على أن نظرية القرآن تكرم الإنسان على الخلق كلهم إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ نعم هو قرار مكين حقا فالجنين يوضع في كيس (المشيمة) وهذا الكيس فيه ماء قليل حامل للطفل وحافظ له من الحركات العنيفة، وتقلبات الأم الشديدة، وهذا الكيس في الرحم، والرحم مغلق وهو في الحوض، أفلا يكون هذا في قرار مكين؟ ومع هذا كله فالجنين يتغذى ويتنفس بعد مدة من الزمن أما كيف يتنفس؟ فهذا دليل على القدرة التي لا تحد!. ثم خلقنا النطفة التي هي حيوان منوي واحد من ملايين تنزل من الرجل علقة أى: جعلناها علقة فحولنا النطفة من صفاتها إلى صفات العلقة، وهي الدم الجامد. فخلقنا العلقة مضغة: أى جعلناها قطعة لحم قدر ما يمضغ بعد أن كانت جزءا من الدم الجامد. فخلقنا المضغة عظاما، ومن الذي كون العظام من اللحم؟، والعظام لها طابع خاص ومكون من مواد تختلف عن مواد اللحم، إنه الخالق- سبحانه وتعالى-. فكسونا العظام لحما، نعم قد كسى العظام باللحم والعصب. إنه نظام دقيق جدا يعرفه من مارس صنع الآلات، وحاجتها الشديدة إلى ما يشبه المفاصل في الإنسان إنه تركيب دقيق، وصنعة محكمة! والطب الحديث أثبت أن العظم يتكون أولا ثم يكسى باللحم فمن علم ذلك النبي الأمى؟! إنه الله!! ثم أنشأناه خلقا آخر، نعم ثم بعد هذا أنشأناه خلقا آخر يسمع ويتحرك ويتنفس وكان قبل هذا قطعة لحم بدون حياة كاملة ثم بعد ذلك نزل من بطن أمه للحياة يسعى ويعمل، وصار في وضع لو دخل في بطن أمه لحظة بعد خروجه لمات لساعته، سبحانك يا رب!! وانظر إلى التعبير بثم هنا، وبالفاء قبله!! فالفاء للترتيب مع التعقيب، وثم للترتيب مع التراخي فتبارك الله أحسن الخالقين. نعم تعالى الله خالق هذا الإنسان، فالبركات والخيرات والنعم كلها منه- سبحانه وتعالى- وهو المستحق للثناء والتعظيم والعبادة لا إله غيره، ولا معبود سواه. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 617 ثم إنكم بعد ذلك لميتون الموتة الأولى، ثم إنكم يوم القيامة تبعثون والبعث بعد موتكم في قبوركم ليأخذ كل جزاءه وافيا- أليس الموت في الدنيا. والبعث في الآخرة دليلا قويا على القدرة الكاملة؟!! الأدلة الواضحة في خلق السماوات ولقد خلقنا يا بنى آدم فوقكم سبع سموات طباقا، وما كنا عن الخلق غافلين، بل حاسبين عالمين بالغيب والشهادة: والسموات السبع قيل: إن السماء عبارة عن الفلك الذي يدور فيه مجموعة من الكواكب مثل المجموعة الشمسية وهذه المجموعة مكونة من الشمس مثلا وكثير من الكواكب التي تنجذب إليها وتدور حولها في مدارها، وهكذا حتى تتكون سبعة أفلاك وهي السموات السبع التي هي جزء من العالم العلوي. ولكن إذا نظرنا إلى نصوص القرآن المتعددة والمذكورة في كثير من السور مثل قوله تعالى: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً «1» . وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ «2» . إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ «3» وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ «4» . وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ «5» . وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ «6» . أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً «7» . وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً «8» . أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها «9» . إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ «10» إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ «11» .. وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ ... «12» أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ «13» وَيُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ «14» هذه النصوص كلها تجعلنا نقول مع القائلين أن السماء مادة فيها الكواكب والله أعلم بهذه المادة، وإنما قيل سبع طرائق وفي آية أخرى طباقا لأنها متطارقة بعضها فوق بعض، أى متطابقة، وقيل لأنها طرائق الملائكة. ويرى بعض العلماء أن المراد بقوله سبع طرائق- والله أعلم- سبع مدارات أو سبعة مجموعات فلكية، أو سبع كتل سديمية:   (1) البقرة آية 22. (2) الذاريات آية 47. (3) الصافات آية 6. (4) فصلت آية 12. (5) الطور آية 44. (6) الحاقة آية 16. (7) نوح الآيتان 15 و 16. (8) النبأ آية 12. (9) النازعات الآيتان 27 و 28. (10) الانفطار آية 1. (11) الانشقاق آية 1. (12) البروج آية 1. [ ..... ] (13) الغاشية الآيتان 17 و 18. (14) الحج آية 65. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 618 الأدلة في نزول المطر وإنبات النبات والله- سبحانه وتعالى- أنزل من السماء ماء على هيئة المطر، وإن قصته لعجيبة تدل على كمال القدرة فالماء الذي على سطح الأرض (وما أكثره) يتبخر على شكل بخار يصعد إلى أعلى لخفته ثم إذا تجمد تحمله الرياح إلى حيث يراد نزوله، فينزل عذبا فراتا سائغا شرابه، كل هذه الأدوار والأطوار التي مر بها الماء من الذي خلقها؟ إنه الله- سبحانه وتعالى-. الله ينزل من السّماء ماء على من يشاء من عباده ينزله بقدر معلوم، قدر لا يضر ولا يهلك، بل يقدر المصلحة العامة غالبا. والمطر إذا نزل على الأرض تسرب فيها، وكون في باطنها ما يشبه البحيرات والأنهار، وقد أثبت البحث حديثا أن تحت القطر المصرى نهرا أكثر ماء من نهر النيل، وآية ذلك العيون والآبار التي في الصحراء وغيرها، والآلات الميكانيكية التي ترفع المياه الجوفية فيسقى بها الزرع، وتنشأ بها الجنات والبساتين. نعم أنشأ الله بهذا الماء النازل من السماء جنات من نخيل وأعناب وغيرها من أصناف المزروعات المنتشرة الآن في العالم كله، وإنما خص النخيل والأعناب بالذكر لأنهما المعروفان عند العرب كثيرا، وغيرهما بالقياس. لنا في هذه الزروع ما نتفكه به، وما نأكل منه ونشأ به شجرة تخرج في طور سيناء- وهي الصحراء القاحلة، لولا ما ينزل عليها من الأمطار- هي شجرة الزيتون ومنها الدهن والإدام الذي يؤتدم به، وفيه الشفاء لكثير من الأمراض وهو أصح من السمن في كثير من الحالات والله- سبحانه وتعالى- قادر على إذهاب المطر ومنعه، وعلى جفاف المياه الجوفية وإزالتها قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ؟! [سورة الملك آية 30] . الأدلة في الأنعام وخلقها أما الأنعام التي خلقها الله لنا، وسخرها لخدمتنا، وذللها لمنافعنا، فهي الإبل والبقر بنوعيه والضأن والماعز، وغيرها كثير: ولنا في لبنه عبرة وعظة، وأية عبرة هذه!! إنه اللبن الذي تفرزه الغدد ويخرج من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 619 بين فرث ودم فغذاء الحيوان يتحول إلى دم ولبن وفرث، كل ذلك بواسطة شعيرات دقيقة منتشرة في الجسم ومتجاورة، ومع هذا يخرج اللبن صافيا لا كدرة فيه، فسبحان من خلق هذا!! ولكم فيها منافع كثيرة، تحمل أثقالكم من بلد إلى بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وتحرث الأرض وتأخذون أصوافها وأوبارها فتجعلونه لباسا وأساسا، ومتاعا ومن أولادها ولحومها نتغذى ونأكل، وعليها وعلى السفن التي تسير في البحر نركب وننتقل حسبما نشاء أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ [سورة يس الآيات 71- 73] . أفلا يدل هذا على وجود الصانع المختار، الحكيم القادر؟ جل شأنه، وأنه قادر على إعادة الحياة بعد فنائها ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى. أليس من الفلاح والسعادة للبشر أن يؤمنوا بهذا الإله الذي خلق فسوى وأنعم وتفضل؟! العبرة من قصة نوح- عليه السلام-[سورة المؤمنون (23) : الآيات 23 الى 30] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَفارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 620 المفردات: الْمَلَأُ هم أشراف القوم الذين يملؤون العيون بهجة يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ يسودكم ويشرف ويتعاظم عليكم جِنَّةٌ جنون وضعف في العقل فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ فانتظروا به ريب المنون بِأَعْيُنِنا برعايتنا التَّنُّورُ مكان يصنع على هيئة خاصة توقد فيه النار لطهى الخبز، وهو معروف فَاسْلُكْ أدخل فيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذكر وأنثى من كل حيوان موجود وقتئذ مُنْزَلًا إنزالا مباركا أى فيه الخير والبركة. اعلم أن الله- سبحانه وتعالى- لما بين دلائل التوحيد، ووصف نفسه بالقدرة الكاملة والعلم التام بما ذكر من خلق الأشياء السابقة وأطوارها ليدعم مبدأ الإيمان بالله، أردف ذلك بذكر بعض القصص للأنبياء، وفيها آية كمال قدرة الله تعالى، وأنه ينصر أنبياءه ومن آمن معهم، ويهلك أعداءهم، وبدأ بقصة نوح الأب الثاني للبشر وهو من أولى العزم. ومن هنا تدرك السر في سياق القصة هنا، وبهذا الشكل لأنها سيقت لغرض خاص ولون معين، وقد تقدمت في سورة هود مطولة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 621 المعنى: ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فقال: يا قوم اعبدوا الله وحده فهو صاحب الفضل عليكم، ولا يستحق العبادة غيره، لأن غيره لم ينفع أحدا بل قد يضره. وعلى هذا فليس لكم إله غير الله يستحق العبادة، أفلا تتقون؟!! هكذا دعاهم نوح إلى عبادة الله، ولكن أشراف قومه يكرهون ذلك: لخوفهم من الدين الجديد الذي يزيل الفوارق، ويعامل الناس على السواء، كرهوا من نوح أن يدعو إلى عبادة الله، إذ هو سيكون متبوعا، وهم تابعون، وهذا شيء يؤلمهم. فدفعهم الكبر والغرور، والحسد والحقد، إلى أن يتزعموا الخارجين على الدعوة المناوئين لنوح- عليه السلام- ويقولون: ما هذا- أى نوح- إلا بشر مثلكم من عامة الناس يريد أن يتفضل عليكم، ويستأثر بالتعاظم وحده عليكم حيث يدعى أنه رسول الله إليكم، وهو بشر مثلكم لم يزد عنكم في شيء فكيف تسلمون له بالزعامة والقيادة؟ ولو شاء الله حقيقة- كما يدعى نوح- أن يرسل رسولا لأنزل ملائكة من السماء رسلا عنه فإن هذا أدعى للإيمان، وأدل على الصدق، فهم لقصر عقولهم وسوء تفكيرهم يعتقدون أنه لا يمكن أن تكون الرسالة مع البشر، على أنا ما سمعنا بهذا الذي يدعيه نوح في آبائنا الأولين، فما الذي جرى حتى يأتى نوح ويدعى الرسالة؟! وما نوح إلا رجل مجنون حيث يدعى ذلك فتربصوا به ريب المنون، وانتظروا موته، وهو آت بلا شك وستستريحون منه. وهكذا كانت شبههم، وهي أوهى من بيت العنكبوت، ولذا لم يعن القرآن بالرد عليها، لأن بطلانها ظاهر لا يحتاج إلى بيان. فلما ضاق صدر نوح منهم ومن أعمالهم دعا ربه أنى مغلوب فانتصر، وقال: رب انصرني وأهلكهم بسبب تكذيبهم لي، فأوحينا إليه أن اصنع السفينة بأعيننا وتحت رعايتنا وكلاءتنا، وهذا وحينا جبريل يهديك ويعلمك كيف تصنع السفينة؟ فإذا جاء أمرنا، وشأننا العظيم، وقد فار التنور، وزاد الماء، وبلغ الربى فأدخل في السفينة من كل حيوان زوجين اثنين ذكر وأنثى ليبقى التناسل في الدنيا، واحمل فيها أهلك الذين آمنوا فقط لكن من سبق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون فلا تحملهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 622 ولو كان ابنك وزوجتك. ولا تخاطبني في شأن الذين ظلموا أبدا ... لماذا؟ إنهم مغرقون حتما، فإذا استويت يا نوح أنت ومن معك في السفينة فقل أنت وهم: الحمد لله رب العالمين الذي نجانا من القوم الظالمين. وقل عند انحسار الماء عن الأرض أى عند النزول من السفينة. رب أنزلنى إنزالا مباركا فيه البركة والخير، وأنت خير المنزلين. وهكذا يعلمنا الله ما نقوله عند ركوب السفينة أو ما شابهها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ [الزخرف 12 و 13] . إن في ذلك القصص لآيات تدل على قدرة الله الذي أغرق الظالمين، ونجى المؤمنين وعلى تمام حكمته وعدله حيث لم يترك هؤلاء يعيثون في الأرض الفساد، وهكذا شأن الله مع أحبابه وأعدائه إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ [سورة محمد آية 7] إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [سورة الحج آية 38] . قصة هود- عليه السلام-[سورة المؤمنون (23) : الآيات 31 الى 41] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ (32) وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُراباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 623 المفردات: قَرْناً القرن: الجماعة المجتمعة في زمان واحد، سموا بذلك لأنهم يتقدمون على من بعدهم تقدم القرن على الحيوان وَأَتْرَفْناهُمْ أنعمنا عليهم حتى أبطرتهم النعمة هَيْهاتَ اسم فعل بمعنى بعد الصَّيْحَةُ الصوت الشديد غُثاءً المراد هلكى كغثاء السيل. هذه هي قصة هود- عليه السلام-، وقد أرسل إلى قومه عاد، وإن لم يكن ذكر هذا صراحة إلا أنه استفيد من قوله- تعالى- على لسان هود وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وقد ذكرت قصة هود بعد قصة نوح في سورة الأعراف وسورة هود فالأولى أن تكون هذه القصة لهود لا لصالح. المعنى: ثم أنشأنا من بعد قوم نوح قوما آخرين من سلالة من حمل مع نوح من المؤمنين إلا أنهم خلفوا من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة، واتبعوا الشهوات، وطغوا وبغوا فأرسل الله فيهم رسولا منهم أى: من عشيرتهم ويعرفون مولده ومنشأه ليكون سكونهم إلى قوله أكثر، وتصديقهم له أقرب، وهذا يفيد أن الوثنية والعصيان كالطبيعة في الإنسان والداء الكامن، فإذا أرسل رسولا قضى على الوثنية والفساد حينا من الزمن، ولكن لا تلبث بعده أن تظهر في أجلى صورها، ولولا أن الله حفظ الأمة الإسلامية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 624 بالقرآن، ووعد بحفظه إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ لرأينا الوثنية منتشرة فينا، ومع جهاد العلماء ورجال الدين ففيه كثير من الفرق الشيعية والخوارج وغيرهم ضل بهم السبيل. هؤلاء هم أولاد المؤمنين من قوم نوح، ولكنهم كفروا وأشركوا بالله فقال رسولهم هود: اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، فما لكم من إله يستحق العبادة غيره، أفلا تتقون وتخافون منه؟!! وقد وصف الله الذين خرجوا على هود وتزعموا قومهم، وقادوهم إلى الكفر والعصيان بثلاث صفات من أسوأ الصفات: (أ) كفروا بالله وبرسوله. (ب) وكذبوا بلقاء الآخرة، ولم يؤمنوا بالبعث. (ج) أترفوا في الحياة الدنيا، أى أصابهم داء الترف الذي يعمى القلوب، ويجعلها في أكنة من وعاء الخير حتى لا يصل إليها شيء منه. وهؤلاء الذين كفروا، وكذبوا بيوم القيامة، وأترفوا في الحياة الدنيا قالوا، وبئس ما قالوا، ونطقوا بشبه واهية لم تستحق العناية، ولا الرد عليها. أولى الشبهات: هذا الذي يدعى أنه رسول ما هو إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه، ويشرب مما تشربون منه، فلا فضل له عليكم أبدا فكيف يدعى الفضل عليكم ويتعالى بدعوة الرسالة من الله إليكم، وأقسموا لئن أطعتم بشرا مثلكم ليس له فضل ولا مزية. إنكم إذا لخاسرون الشبهة الثانية: كيف يعدكم أنكم تخرجون وتبعثون إذا متم وكنتم ترابا، وعظاما بالية؟! هيهات هيهات لما يعدكم به، وبعيد بعيد ما يدعيه من أن هناك حياة أخرى غير الحياة الدنيا!! ثم أكدوا نفى نظرية البعث: ما هي إلا حياتنا الدنيا، وليس بعدها حياة ثانية أبدا، ولكن هي الدنيا نحيا فيها ونموت، وما يهلكنا إلا الدهر وما نحن بمبعوثين. وأما هذا الرجل الذي يدعى النبوة وإثبات البعث فما هو إلا رجل اختلق على الله الأكاذيب، وادعى أنه رسول الله، وما نحن له بمؤمنين ولا يمكن أن نصدقه جميعا في دعواه. ولما يئس الرسول- عليه السلام- من قبول الأصاغر والأكابر للدين فزع إلى ربه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 625 وقال: ربي انصرني وأهلك أعداءك بسبب كذبهم فأجاب الله سؤاله، وقال عما قليل ليصبحن نادمين على ما فرط منهم من العصيان والكفر. وكان الجزاء أن أخذتهم الصيحة، وهي صوت شديد جدا أعقبه الهلاك والفناء وكانوا كالغثاء الذي يعلو سطح الماء من بقية الأعشاب. فبعدا من رحمة الله وهلاكا للقوم الظالمين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر، وظلموا غيرهم حيث كانوا قدوة لهم في الفساد والشر، وانظر إلى التاريخ يوم مكرر، وإلى أن الشبه واحدة عند الأمم جميعا، والجزاء واحد عند الكل، فكأن القرآن ينادى أن اعتبروا يا أولى الأبصار، وانظروا يا أهل مكة فيمن تقدمكم، إذ كانوا مثلكم، بل أشد، وكانوا يعتقدون كما تعتقدون، وقد حل بهم عذاب الله.. ذكر بعض الأنبياء [سورة المؤمنون (23) : الآيات 42 الى 50] ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44) ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَأَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49) وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ (50) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 626 المفردات: تَتْرا يتبع بعضهم بعضا أَحادِيثَ جمع حديث وهو ما يبقى بعد الإنسان من الذكر، وقيل: جمع أحدوثة كالأعجوبة، وهي ما يتحدث به ويتعجب منه عابِدُونَ أى: هم خدم لنا وحشم رَبْوَةٍ الربوة: المكان المرتفع من الأرض قَرارٍ وَمَعِينٍ استقرار فيها من السكان، والمعين الماء الجاري الظاهر للعيون. يقص القرآن الكريم القصة في أشكال مختلفة تارة بالتطويل، وتارة بالإيجاز والمقام هنا للإيجاز، لأن الغرض التحدث عن الإيمان وجزاء الكفر بالله. المعنى: ثم أنشأنا من بعد عاد أمما آخرين فما خلت الديار من المكلفين أبدا، بل بعد هلاك قوم لكفرهم ينشئ بقدرته من بقاياهم خلقا يعمرون الأرض، وهم خاضعون لأمر ربهم، ما تسبق أمة أبدا أجلها: وما يستأخرون فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [سورة النحل آية 61] وتلك سنة الله في الأمم، فلا تستعجلوا العذاب فكل شيء عنده بمقدار. ثم أرسلنا لتلك الأمم رسلنا يتبع بعضهم بعضا بعد مهلة من الزمن أو بغير مهلة على وفق إرادة الله وعلمه. كلما جاء أمة رسولها كذبوه، وكفروا به وهم قد سلكوا مسلك من تقدمهم من الأمم التي أهلكت بالصيحة والريح العاتية وغيرها فأتبعنا بعضهم بعضا بالهلاك لما اشتركوا في التكذيب والكفر، وجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق فلم يبق منهم عين ولا أثر، بل أصبحوا أحاديث في أفواه الناس يتحدثون به ويتعجبون منه، فبعدا وهلاكا لقوم لا يؤمنون، وهذا وعيد لكل كافر وإنذار شديد. وبيان لقدرة الله ونصرته لعباده المؤمنين، وعذابه الشديد للكافرين والعاصين، فاعتبروا أيها الناس، وانظروا في حاضركم ومستقبلكم. ثم أرسلنا موسى وأخاه هارون لفرعون وملئه يدعوانهما للإيمان بالله الذي خلق فسوى!!، وأرسلناهما مؤيدين بآياتنا المعجزة وهي الآيات التسع: العصا، واليد، والجراد، والقمل، والضفادع، والدم، وانفلاق البحر، والسنون، ونقص الثمرات، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 627 فكان موسى وهارون مؤيدين بالآيات وسلطان مبين وهو أشرف المعجزات وأقواها. وقيل: المراد به العصا إذ تعلقت بها معجزات شتى كانقلابها حية، وابتلاعها ما صنعته السحرة وغير ذلك: وقد حكى الله عن فرعون وملئه أخص صفاتهم وشبههم الواهية التي دعتهم إلى عدم الإيمان، وفي هذا كله عبرة وعظة لأولى الألباب. أما صفاتهم فهم قوم استكبروا وأنفوا من اتباع موسى، وكانوا قوما عالين، أى: على جانب من الحضارة والعز والسلطان والعلم والعرفان، والواقع التاريخى يؤيد ذلك كله. أما شبههم: فقالوا: كيف نؤمن لبشرين مثلنا؟! والرسالة تتنافى مع البشرية، وهكذا شأن القوم الماديين الذين لا يؤمنون بالقوى المعنوية، ويظهر أن هذا كان مرضا شائعا في الأمم السابقة، ولا يزال. الشبهة الثانية: كيف نؤمن بموسى وهارون ونسلم لهما بالزعامة والقيادة، وهم من بنى إسرائيل الذين يقومون بالخدمة لنا وهم من رعايانا النازلين في بلادنا، إن هذا لمكر وحيلة ليخلص موسى وهارون بنى إسرائيل قومهما من حكمنا، ولا يمكن أن يكونا رسولين من عند الله، وترتب على ذلك أنهم كانوا من المهلكين الذين غرقوا في اليم، ونجا موسى ومن معه من بنى إسرائيل المؤمنين فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ [سورة يونس آية 9] . ولقد آتينا موسى التوراة فيها هدى ونور، وفيها الحكم والدستور لبنى إسرائيل بعد أن أغرق آل فرعون، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [القصص 43] . ويقول ابن كثير في تفسيره: لم تهلك أمة هلاكا عاما بعد نزول التوراة، بل أمر المؤمنون بقتال الكفار. وتلك قصة مريم وابنها عيسى بإيجاز كما هو النظام العام في ذكر القصص التي في هذه السورة. وجعلنا عيسى ابن مريم عبد الله رسوله وأمه مريم البتول ابنة عمران التي أحصنت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 628 فرجها، وكانت من القانتين، جعلناهما آية للناس، وحجة قاطعة على قدرته الكاملة فإنه على ما يشاء قدير، والله- سبحانه- قد خلق عيسى من غير أب وجعل مريم تلد عيسى من غير أب فذلك آية الله على القدرة القادرة. وآويناهما إلى ربوة ذات استقرار للناس إذ هي طيبة الإنبات كثيرة الخيرات فيها الماء المعين الظاهر للعيون الذي لا ينضب أبدا، وأين هذه الربوة؟ إنها في بيت المقدس، والله أعلم. المبادئ العامة في الرسالات [سورة المؤمنون (23) : الآيات 51 الى 56] يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) المفردات: زُبُراً جمع زبور والمراد: الكتب التي وضعوها وألفوها، وهذه الكلمة فيها معنى الضم والجمع، ولذا قيل: زبرت الكتاب أى: جمعت حروفه وضممت بعضه إلى بعض، وزبر الحديد قطع الحديد المجتمعة حِزْبٍ أى: جماعة وأمة غَمْرَتِهِمْ المراد: في حيرتهم وضلالهم وغفلتهم. والمادة تدل على الستر، ولهذا قيل الغمر للماء الكثير الذي يغطى ويستر الأرض نُمِدُّهُمْ نعطيهم نُسارِعُ نسرع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 629 المعنى: يأمر الله- تبارك وتعالى- الرسل جميعا بالأكل من الحلال والطيبات من الرزق، وبالعمل الصالح، ثم يحذرهم ويخوفهم من حسابه فإنه عليم خبير. روى عن أبى هريرة- رضى الله عنه- قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «أيّها النّاس إنّ الله طيّب لا يقبل إلّا طيّبا، وإنّ الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ وقال تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ «1» ، ثم ذكر الرسول: «الرّجل يطيل السّفر أشعث أغبر يمدّ يديه إلى السّماء يا رب، ومطعمه حرام ومشربه حرام، وملبسه حرام، وغذّى بالحرام فإنّى يستجاب له» ؟؟ وهذا يدل على أن أكل الحلال عون على عمل الصالح من الأعمال، وعلى ما للأكل من أثر في توجيه النفس ناحية الخير أو ناحية الشر، إذ الأكل غذاء للبدن وقوة له، فإذا كان الغذاء طاهرا نقيا، طيبا حلالا كان وقودا نظيفا يدفع صاحبه إلى العمل الطيب، وبالعكس إذا كان الغذاء حراما خبيثا دفع صاحبه إلى السيئ من الأعمال. وهذا الأمر للرسل جميعا وبخاصة النبي صلّى الله عليه وسلّم ولأنه المخاطب أولا وبالذات وفي هذا دليل على عظم المأمور به، وأنه أمر عام أمر به جميع الرسل لخطورته. وقد سوى الله بين الأنبياء جميعا، وبين المؤمنين في وجوب أكل الحلال وتجنب الحرام. ثم شمل الكل بوعيده لما ذكرنا. واعلموا أيها الناس أن هذا الذي تقدم ذكره في قصص الأنبياء سابقا هو دينكم وملتكم إذ كل الأنبياء أرسلت تدعو إلى الإيمان بالله وحده. وعدم الإشراك به شيئا فالله يقول: اعلموا هذا، ولا تظنوا أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم أتى بجديد، والحال أنى أنا ربكم فاتقونى، ولا تخالفوا أمرى. هكذا كانت الأمم، وبمثل هذا أرسلت الرسل، ولكن بعد ذلك افترقت الأمم فرقا وأحزابا كل حزب بما لديهم فرحون، وصار لكل جماعة كتاب ثم حرفوه وبدلوه، وآمنوا به وكفروا بما سواه.   (1) سورة البقرة الآية 172. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 630 وإن الله- سبحانه وتعالى- يحذر الأمة الإسلامية من هذا الداء الوبيل، ويخاطب قريشا خاصة مهددا لهم بقوله: فذرهم في غمرتهم، و المعنى فذر هؤلاء القرشيين فهم يشبهون من سبقهم في الكفر والعناد، ولا يضيق صدرك بتأخير العذاب عنهم فلكل شيء وقت معلوم، وذرهم في غيهم وضلالهم إلى حين معلوم، وأجل محدود. أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا كلا! ليس الأمر كما يتوهمون في قولهم: نحن أكثر أموالا وأولادا وما نحن بمعذبين، لقد أخطئوا، وخاب فألهم، وما علموا أنا نفعل معهم ذلك استدراجا وإملاء لهم، ولهذا قال الله: بل لا يشعرون فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا [التوبة 55] إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً [آل عمران 178] . يا أيها الناس ليس الإنسان بماله وولده، وليست كرامته عند الله بالدنيا التي عنده، ولكن كرامته ومنزلته بالعمل الصالح إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ [الحجرات 13] . ومن هذه الآيات نفهم أثر الأكل الحلال في سلوك الإنسان، وأن الرسل جميعا جاءت لعبادة الواحد القهار، وأن اختلاف الأمم بعد أنبيائها أمر طبيعي والفوز لمن تمسك بالحق وسار على هدى الكتب السماوية التي لم تحرف كالقرآن وسنة الرسول صلّى الله عليه وسلم، وأن الكرامة والمكانة عند الله ليست بالمال والولد، ولكن بالتقوى والعمل الصالح. المؤمنون المسارعون في عمل الخير [سورة المؤمنون (23) : الآيات 57 الى 62] إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ (61) وَلا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَلَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 631 وتلك صفات أخرى للمؤمنين تدل على عمق الإيمان وتأصله في نفوسهم. المعنى: إن الذين هم من خشية ربهم وخوف عذابه دائمون في طاعته جادون في طلب رضاه، إذ من بلغ في خشية الله حد الإشفاق وهو كمال الخشية كان في نهاية الخوف من سخط الله وعقابه، وهذا الصنف يكون دائما بعيدا عن المعاصي جادا في الطاعة والعمل الصالح. والذين هم بآيات الله الكونية، يؤمنون ويصدقون على أنها دليل ناطق على وجود الله واتصافه بكل كمال وتنزهه عن كل نقص، وهذا لا يكون إلا بعد النظر السليم والفكر الصحيح في آيات الله الكونية، وآيات الله القرآنية. والذين هم بربهم لا يشركون شيئا، وهذا دليل على نفى الشرك الخفى، والذين يؤتون ما أتوا، ويفعلون ما يفعلون من صلاة وصيام، وقيام، وزكاة، وصدقة وبر والحال أن قلوبهم وجلة وخائفة من التقصير فليس عندهم غرور ديني، بل هم دائما خائفون غير مخدوعين، ولو كانت إحدى رجليهم في الجنة. روى أن السيدة عائشة سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقالت: والذين يؤتون ما آتوا، وقلوبهم وجلة، أهو الذي يزنى ويشرب الخمر ويسرق وهو على ذلك يخاف الله- تعالى-، فقال صلّى الله عليه وسلم: «لا يا ابنة الصدّيق ولكنّ الرّجل يصلّى ويصوم ويتصدّق، وهو على ذلك يخاف الله- تعالى-..» . وهذه صفات عالية في نهاية الحسن إذ الأولى دلت على الخوف الشديد، والثانية على الإيمان العميق، والثالثة دلت على نفى الشرك الخفى، والرابعة دلت على المبالغة في العمل وعدم الغرور والكذب، وتلك مقامات الصديقين والشهداء والصالحين نسأل الله أن يوفقنا ويجعلنا في عدادهم. لهذا لا غرابة في أن هؤلاء الموصوفين بتلك الصفات يسارعون في عمل الخيرات ويتعجلون دائما على فعل الطاعات، وهؤلاء آتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة وهم لها سابقون، ولما وصل القرآن إلى العمل ذكر شيئا يتعلق به، فهؤلاء المتصفون الجزء: 2 ¦ الصفحة: 632 بهذه الأوصاف الأربعة والمسارعون في عمل الخيرات، لم يعملوا فوق طاقتهم، واعلموا أيها الناس أن عند الله كتابا تحصى فيه الأعمال ولا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وهو كتاب الله الذي يظهر به الحق المطابق للواقع، وفي هذا تهديد للعصاة، واطمئنان للمطيعين وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً [سورة الكهف آية 49] . الكفار وأعمالهم وأسبابها [سورة المؤمنون (23) : الآيات 63 الى 74] بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 633 المفردات: غَمْرَةٍ الغمرة في اللغة: ما يغمرك ويعلوك، وفيه معنى الستر، ومنه الغمر للحقد لأنه يغمر القلب أى: يستره، والغمرة للبحر لأنه يستر الأرض والمراد هنا: الحيرة وعمق التفكير مُتْرَفِيهِمْ أغنياءهم يَجْأَرُونَ يضجون ويستغيثون. وأصل الجؤار رفع الصوت بالتضرع كما يفعل الثور، ومنه الجؤار كالخوار تَنْكِصُونَ ترجعون وراءكم، والمراد أنهم يعرضون عن الحق سامِراً السامر والسمار الجماعة يتحدثون بالليل وأصله مأخوذ من السمر وهو ظل القمر تَهْجُرُونَ قوله: تهجرون من أهجر إذا نطق بالفحش، وقرئ تهجرون من هجر المريض إذا هذى والمراد يتكلمون بالهوس وسيئ القول في القرآن والنبي جِنَّةٌ جنون خَرْجاً أجرا ورزقا. قد تكلم القرآن عن المؤمنين وصفاتهم ثم ذكر حكمين يتعلقان بالعمل العام وبعد هذا عاد فوصف المؤمنين بصفات أخرى، ثم تكلم عن الكفار وناقشهم وبين أعمالهم، وسببها، مفندا آراءهم ردا على كل شبهة. المعنى: يقول الحق- تبارك وتعالى-: هؤلاء المؤمنون المخلصون الذين وصفوا بتلك الصفات الأربع هم من هذا الوجل والخوف كالمتحيرين المفكرين تفكيرا عميقا في أعمالهم: أهي مقبولة أم مردودة؟ لأنهم يفهمون أن أعمالهم مهما كان فيها من إخلاص فهي دون الواجب عليهم، ولهم أعمال دون ذلك، نعم ولهم- أيضا- من النوافل والصدقات وأعمال البر التي سيعملونها في المستقبل ما هو دون تلك المرتبة. وأما قوله: حتى إذا أخذنا مترفيهم بالعذاب فهذا وصف للكفار قطعا و (حتى) هذه ابتدائية أى: يبتدأ بها كلام جديد. وهذا رأى حسن، وتأويل مستساغ، وقيل: إن هذا الكلام كله في الكفار ولا شك أنهم في غمرة وحيرة وضلال من هذا الذي بيناه في القرآن أو من هذا الذي وصف به المؤمنون المشفقون، ولهؤلاء الكفار أعمال دون ذلك أى: سوى ذلك الكفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 634 والجهل، وهم لها عاملون قطعا لأنها مكتوبة عليهم حتى إذا أخذنا مترفيهم وأغنيائهم بالعذاب يوم القيامة إذا هم يجأرون ويستغيثون رافعين صوتهم لشدة ما هم فيه، ويقال لهم- على سبيل التبكيت والتأنيب-: لا تجأروا اليوم، إنكم منا لا تنصرون ويومئذ هم في العذاب محضرون، ولا هم ينصرون، فانظر إليهم وقد وصلت حالتهم إلى ما وصلت إليه من الحسرة والندامة، وهذا كالباعث لهم على ترك الكفر والجهل. والله- سبحانه وتعالى- بعد ما بين أنه لا ناصر لهم أتبع ذلك ببيان سبب هذا الجزاء فقال: (أ) قد كانت آياتي البينات من القرآن الكريم تتلى عليكم فكنتم تنكصون على أدباركم، وتنفرون منها، وتعرضون عنها. (ب) وقد كنتم مستكبرين بالحرم والبيت العتيق قائلين: لا يظهر علينا أحد لأنا أهل حرم الله، والحال أنكم تعصونه، ولا تقدرونه قدره. (ج) وقد كنتم تجتمعون حول الكعبة ليلا للسمر، وكان سمركم في القرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم والسب فيه ووصفه بأنه ساحر أو مجنون، ووصف القرآن بأنه أساطير الأولين، وأنه كذب وزور، فكنتم تقولون هجرا من القول وزورا، وكنتم تهزأون وتفحشون!! ثم إنه- سبحانه وتعالى- لما وصف حالهم رد عليهم بأن إقدامهم على هذه الأمور لسبب من الأسباب الآتية لا يصح أن يكون!! فلذا أنكر عليهم ما يأتى: 1- أعموا فلم يتدبروا القرآن الذي أنزل على محمد؟ وهو معجزته الباقية الخالدة، وقد نزل بلسان عربي مبين وهم أهل اللسان والفصاحة، وقد تحداهم على أن يأتوا بمثله تحديا سافرا ومع هذا فقد عجزوا أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها؟ من سورة محمد. ولو تدبروا لآمنوا، وما فعلوا ما فعلوا. 2- بل أجاءهم محمد صلّى الله عليه وسلّم بما لم يأت آباءهم الأولين؟. لا، لم يكن محمد بدعا، وما كانت رسالته عديمة النظير، فهم يعرفون بالتواتر أن الأمم ترسل إليهم الرسل فيكونون بين مصدق ومكذب فينجى الله المؤمنين وينصرهم ويهلك الكافرين والمكذبين.. فلم هذا العناد والتكذيب؟!!. أليست هذه الأحوال التي يعرفونها تدعوهم إلى التصديق؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 635 3- بل ألم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون؟!! نعم هم يقرون ويعترفون أن رسولهم محمدا هو الصادق الأمين، ما جربوا عليه كذبا قط، وما خان في يوم مخلوقا! فكيف يخون الله ويكذب عليه؟ وهم أدرى الناس به وبأحواله فكيف يكون إنكاره وتكذيبه بعد الرسالة وكمال العقل والرجولة؟ إن هذا أمر عجيب؟ 4- بل أيقولون: إنه لمجنون، كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً [سورة الكهف آية 5] في اعتقادهم وفي الواقع. ففي الواقع ونفس الأمر ما حملهم على الرجوع عن الحق، والاستكبار الكاذب والسمر وهجر القول إلا ضلالهم وعدم تدبرهم للقرآن، وقد حالت عصبيتهم الممقوتة وجهالاتهم الموروثة. وحقدهم الكامن دون النظر في القرآن بعين الاعتبار المتجردة من الهوى والهوس. وما دفعهم إلى عمل السوء كذلك إلا اعتقادهم الفاسد أن محمدا كاذب، وليس رسولا. تبا لهم!! ألم يعرفوا محمدا صلّى الله عليه وسلّم قبل هذا؟ وأكثر من هذا أن يقولوا: إنه مجنون ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ [سورة القلم آية 2] . بل (إضراب عما مضى) بل جاءهم الرسول الصادق الأمين بالحق. وجاء لنصرة الحق، وجاء رسولا من عند الحق- سبحانه وتعالى-، ولكن أكثرهم للحق كارهون وللحق وحده مخاصمون، وقليل منهم من ينصر الحق، ويطيع دواعي الحق. ولو اتبع الحق- تبارك وتعالى- أهواءهم الفاسدة، ورغباتهم المادية الضالة لفسدت السموات والأرض، ومن فيهن، تنزه الله عن ذلك وتعالى علوا كبيرا. بل أتينا هؤلاء العرب الذين أعرضوا عن القرآن ونأوا عنه، أتيناهم بذكرهم وشرفهم وعلو مكانتهم بين الأمم بل وخلقهم من جديد، أمة لها كيان ونظام وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ [سورة الزخرف آية 44] . ومن العجيب أنهم عن ذكرهم وشرفهم والقرآن الذي نزل عليهم معرضون، عجبا لهم!! وأى عجب؟!! بل أتسألهم رزقا وأجرا على هدايتهم ورفع شأنهم حتى يملوك ويبغضوك؟!! فخراج ربك ورزقه خير لك ولغيرك، وهو صاحب الملك والسلطان، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 636 وهو خير الرازقين، وإنك يا محمد لتدعوهم إلى صراط مستقيم. صراط الله العزيز الحميد، طريق العزة والكرامة، والخير والسداد، الطريق الوسط، والدواء الناجع لأنه دواء حكيم الحكماء. وإن الحوادث أثبتت أن علاج الإسلام خير علاج لمشاكلنا كلها الدينية والدنيوية، وقد شهد بذلك أعداء الإسلام قبل أصدقائه. ومع هذا كله فالذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط المستقيم بعيدون، وعنه مائلون إلى الطريق الضالة التي فيها إفراط وتفريط. وما كان أكثرها اليوم. إصرارهم على الشرك رغم ظهور الأدلة [سورة المؤمنون (23) : الآيات 75 الى 90] وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَآباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83) قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 637 المفردات: - لَلَجُّوا لتمادوا في باطلهم يَعْمَهُونَ يترددون ويتخبطون اسْتَكانُوا الاستكانة الخضوع مُبْلِسُونَ يائسون متحيرون لا يدرون ماذا يصنعون ذَرَأَكُمْ أنشأكم وخلقكم وبثكم أَساطِيرُ جمع أسطورة والمراد: أباطيلهم وترهاتهم مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ ملك كل شيء يُجِيرُ يمنع الغير يُجارُ عَلَيْهِ لا يمنع منه: يقال: أجرت فلانا على فلان إذا أغثته ومنعته منه تُسْحَرُونَ تخدعون وتصرفون عن طاعته وتوحيده. المعنى: هؤلاء القوم ليس لهم وجه من وجوه الحق في كفرهم بالنبي والقرآن الذي أنزل عليه تشريفا لهم وتكريما، وهداية لهم ونورا. ومع هذا كله فهم مصرون على الشرك والكفر به، والتمادي في الباطل، ولو رحمناهم، وأزحنا عنهم الضر، وأ فهمناهم القرآن لما انقادوا له، ولا استمروا على كفرهم وطغيانهم وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال 23] وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ [سورة الأنعام آية 28] . ولقد أخذناهم بالعذاب، وابتليناهم بالمصائب الشداد رجاء أن يثوبوا لرشدهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 638 ويرجعوا عن غيهم، فما ردهم ذلك عما كانوا فيه، وما استكانوا لربهم، وما كانوا يتضرعون فَلَوْلا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَلكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ [سورة الأنعام آية 43] . حتى إذا جاءهم أمر الله، وجاءتهم الساعة بغتة، فأخذهم من عذاب الله ما أخذهم، وفتح عليهم باب ذو عذاب شديد، عند ذلك أبلسوا من كل خير، ويئسوا من كل راحة وانقطع أملهم، ونفد رجاؤهم فأصبحوا حيارى لا يدرون ماذا يفعلون؟!! يا للعجب هذا حالهم!! والله- سبحانه وتعالى- هو الرحمن الرحيم صاحب النعم على الناس جميعا، فهو الذي أنشأ لكم السمع والأبصار والأفئدة لكي تعلموا ما حولكم، وتنظروا وتفكروا في هذا الكون وما فيه من آيات شاهدة ناطقة بوحدانية الله وأنه الفاعل المختار، ما أقل شكركم على نعمه عليكم، وما تشكرون إلا شكرا قليلا، بل إنكم تكفرون به. وها هي آيات الله الناطقة بقدرته التامة، فهو الذي خلقكم وأنشأكم في الأرض تعمرونها، على اختلاف أشكالكم وألوانكم ولغاتكم ثم إليه وحده تحشرون وتجمعون ... وهو الذي يحيى الأحياء، ويميت الموتى، وله وحده اختلاف الليل والنهار وله وحده يرجع الفضل في اختلافهما، وتعاقبهما كل منها يطلب الآخر طلبا حثيثا ينظام دقيق، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ [سورة يس آية 40] . ومع هذا كله فقد أنكروا البعث واستبعدوه لما قالوا: من يحيى العظام وهي رميم؟ قالوا مثل ما قال الأولون السابقون لهم من الأمم قالوا: أإذا متنا، وكنا ترابا، وعظاما بالية، أننا لمبعوثون أحياء؟ وقالوا: لقد وعدنا نحن وآباؤنا مثل هذا من قبل كثيرا، ولم يتحقق شيء منه كأنهم لغباوتهم يفهمون أن الإعادة في الدنيا، وقد قالوا: ما هذا الوعد الذي نسمعه إلا أساطير الأولين، وأحدوثة من أحاديثهم المكذوبة.. ثم يقرر الحق- تبارك وتعالى- وحدانيته، واستقلاله بالخلق والتصريف ليرشدهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 639 إلى أنه الله لا إله إلا هو، ولا معبود بحق سواه، ويجب أن تكون العبادة والتقديس له وحده. ولهذا أمر الرسول صلّى الله عليه وسلّم أن يقول للمشركين سائلا وملفتا نظرهم إلى أبسط الأمور: لمن الأرض ومن فيها؟ إن كنتم تعلمون من خلقها وما فيها من الآدميين والحيوانات والنباتات وسائر الأصناف والأنواع؟!! سيقولون هذا كله لله، وهو الخالق البارئ المصور فاطر السموات والأرض تراهم يعترفون بأن ذلك كله لله وحده لا شريك له فإذا كان ذلك قل لهم يا محمد: أفلا تذكرون أن الذي خلق هذا كله هو الذي يجب أن يعبد وحده، وهذا مقتضى الفطرة التي فطر الناس عليها، وما إنكارها إلا ضرب من الغفلة علاجه التذكر. وهذه الآية تشير إلى أنهم يعترفون لله بالربوبية، وأنه لا شريك له فيها، ويشركون معه غيره في الألوهية حتى عبدوا معه غيره مما لا ينفع ولا يضر، قل لهم أيضا: من رب السموات السبع، ورب العرش العظيم؟. وفي الحديث «ما السّموات السّبع والأرضون السّبع وما بينهنّ وما فيهنّ في الكرسىّ إلّا كحلقة بأرض فلاة، وإنّ الكرسىّ بما فيه بالنّسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك الفلاة» . سيقولون في الإجابة: هي لله وحده.. قل لهم: أفلا تتقون؟ أى إذا كنتم تعترفون بأنه رب السموات ورب العرش العظيم أفلا تخافون عقابه؟ وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره. قل لهم: من بيده ملكوت كل شيء؟ من بيده الملك والتصريف؟ ومن إذا قال للشيء كن فيكون؟ وهو يجير ولا يجار عليه أن يغيث من يشاء ممن يشاء، ولا يغيث أحد منه أحدا، فهو العظيم القدير، له الخلق، والأمر، لا معقب لحكمه، ولا راد لقضائه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن. وهم سيقولون معترفين هذا لله وحده لا شريك له قل لهم فكيف تسخرون؟ ولأى شيء تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم الصريح له بأنه الخالق المالك. ورب السموات السبع ورب العرش العظيم، وهو صاحب الملك والتصريف. بل أتيناهم بالقول الحق والدليل الصدق، وهي تلك الآيات البينات السابقة، وهم مع ذلك كافرون، وفي هذا توعد لهم ووعيد.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 640 ليس لله ولد وليس له شريك [سورة المؤمنون (23) : آية 91] مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) المفردات: لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ لغلب بعضهم بعضا وطلب القوى الضعيف. المعنى: لقد وصف الله نفسه فيما مضى بما يوجب له القدرة والكمال، وأن له التصريف الكامل في هذا الكون علويه وسفليه، وهم يقرون بذلك، ثم أراد الله أن ينزه نفسه من اتخاذ الولد والشريك ليرشد الناس إلى الإيمان الصحيح فقال ما معناه: ما اتخذ الله ولدا، وما كان له أن يتخذ ولدا، وله ما في السموات والأرض وهو الغنى الذي لا يحتاج إلى غيره، والكل محتاج إليه وكيف يكون له ولد؟ واجب الوجود، القديم المعبود. المخالف لجميع الحوادث، الذي لا يشبهه أحد من خلقه، والولد لا بد يشبه والده في شيء. وما كان معه من إله، وليس له شريك، ولو كان كذلك لذهب كل إله بما خلق وانفرد كل منهما بشيء من الكون، ولو كان هذا لاختل نظام الوجود، ولفسدت السموات وما فيها والأرض وما عليها، والمشاهد أن الوجود منتظم متسق بل في غاية الدقة والنظام إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ [سورة آل عمران آية 190] ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ [سورة الملك آية 3] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 641 ولو كان معه آلهة كما يقولون لعلا بعضهم على بعض، ولطلب كل منهما قهر الآخر ليعلو عليه لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا [سورة الأنبياء آية 22] . سبحان الله عما يصفون، وتنزيها له ثم تنزيها عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك، وتعالى ربك علوا كبيرا فهو يعلم الغيب والشهادة، فتعالى وتقدس- عز وجل- عما يقول الكافرون والظالمون. توجيهات إلهية للحبيب المصطفى [سورة المؤمنون (23) : الآيات 92 الى 98] عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) المفردات: هَمَزاتِ الهمزات جمع همزة والهمزة في اللغة: النخس والدفع. المعنى: يقول الله- سبحانه وتعالى- آمرا المصطفى صلّى الله عليه وسلّم وموجها له أن يدعو بهذا الدعاء، فيقول: يا رب إن تريني ما يوعدون، وإن تجعلني أرى تحقيق وعدك الذي وعدته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 642 يا رب فلا تجعلني عندئذ في عداد القوم الظالمين، ولا تجعلني واحدا منهم. وكان- عليه السلام- يعلم أن الله- تعالى- لا يجعله في عداد القوم الظالمين إذا نزل بهم العذاب ومع هذا أمره ربه بهذا الدعاء والسؤال ليعظم أجره، وليكون في كل الأوقات ذاكرا لربه، فما بالنا نحن؟!!. وعلى أن نريك الوعد ونحققه لقادرون، ثم علمه علاجا آخر للناس، لأن الله يعلم أنه لا بد من أن يصيبه أذى منهم فقال: ادفع يا محمد بالفعلة التي هي أحسن السيئة أى: ادفع السيئة بالحسنة، نحن أعلم بما يصفون وما يفترون على الله، وسنجازيهم على ذلك. وقل يا محمد: رب إنى أعوذ بك من همزات الشياطين ووسوستها التي هي كالنخس ولقد أمر الله تعالى نبيه، وكذا المؤمنين بهذا، وعلاجا لسورة الغضب التي كانت تصيب المؤمنين عند سماعهم المشركين، وهم يصفون الله بما لا يليق به فتقع المشادة فلذلك وضعت الآيات هنا. وكلها علاج لهم بعد بيان صفات الله الواجبة والمستحيلة، وفي هذا إشارة إلى أن النبي وصحبه سيلقون بسبب ذلك شدائد من الناس. والعلاج هو ذكر الله والتوجه إليه أن يبعدنا من العذاب إذا نزل، وأن نحسن للناس إذا أساءوا لنا فالحسنة تجب السيئة ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [سورة فصلت آية 34] وبعد هذا فإذا همز الشيطان ووسوس بالغضب والسورة فادعوا الله واستعيذوا به من الشيطان الرجيم إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ [سورة الأعراف آية 201] وإنه لعلاج مفيد يجب أن يتنبه له المسلمون. من مشاهد يوم القيامة [سورة المؤمنون (23) : الآيات 99 الى 118] حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100) فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105) قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَكُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَارْحَمْنا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113) قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 643 المفردات: وَرائِهِمْ، أى أمامهم بَرْزَخٌ أى: سد وحاجز يمنعهم من الرجوع نُفِخَ فِي الصُّورِ الصور بوق ينفخ فيه نفختين النفخة الأولى ليموت الكل والثانية ليحيا الكل وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ وقيل الصور جمع صور والمراد نفخ الروح في الأجساد مَوازِينُهُ موزوناته أى أعماله تَلْفَحُ تحرق واللفح كالنفخ إلا أنه أشد كالِحُونَ عابسون، وقال أهل اللغة الكلوح تكشر في عبوس وتقلص الشفتين عن الأسنان اخْسَؤُا اسكتوا سكوت هوان وذلة وابعدوا في جهنم كما يقال للكلب اخسأ، أى: أبعد شِقْوَتُنا شقاوتنا والمراد: غلبت علينا لذاتنا وأهواؤنا فسمى اللذات والأهواء شقوة لأنهما يؤديان إليها سِخْرِيًّا بكسر السين بمعنى الاستهزاء وبضم السين بمعنى التسخير والاستعباد بالفعل، وهما قراءتان مرويتان عَبَثاً مهملين كالبهائم. المعنى: يخبر الله- سبحانه وتعالى- وخبره الصدق وقوله الحق- عن حالة المحتضر عند الموت من الكافرين والعصاة والمفرطين في حقوق الله حينما يرون ما أعد لهم من العذاب، يقول الواحد منهم: يا رب ارجعنى ارجعنى، ارجعنى لعلى أعمل صالحا فيما تركت، وضيعت من الطاعات، فهو يطلب الرجوع إلى الدنيا متيقنا من نفسه أنه سيعمل الصالح من غير تردد، يرجع إلى رده إلى الدنيا أو إلى التوفيق إلى العمل الصالح. ونصوص القرآن في مثل هذا الموضوع فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ «1» فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ «2» .   (1) سورة الأعراف الآية 53. (2) سورة السجدة الآية 12. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 645 وَلَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَلا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا «1» . رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ «2» . وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ «3» تدل على أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون لها عند الاحتضار، وحين يعرضون على النار، وقت العرض على الجبار. ولذلك جاء الرد: كلا! وهي كلمة ردع لمن طلب شيئا بلا حق، إنها كلمة هو قائلها نعم هو حكم قد حكم به الحكيم الخبير، ولا راد لحكمه، ولا معقب على قضائه وكيف يكون غير هذا؟!!، ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه، فقول الظالم: رَبِّ ارْجِعُونِ كلمة هو قائلها، ولا عمل معها البتة، وحتى التي في أول الآية غاية لما قبلها، والمعنى: هم مصرون على ما وصفناهم به سابقا حتى إذا جاء أحدهم الموت وتيقن ضلالته وعذابه وشاهد الملائكة تقبض روحه بوجه عابس فطلب ما طلب، وأمامهم بعد هذا برزخ وحاجز بين الدنيا والآخرة يستحيل عليهم أن يتخطوه، فهم في حياة بين الدنيا والآخرة وهي حياة القبور، وستظل كذلك فيها العذاب إلى يوم يبعثون فإذا نفخ في الصور النفخة الأولى، وهلك جميع الخلق حتى الملك الذي نفخ في الصورة، نفخ في الصور مرة أخرى فإذا الناس جميعا قيام ينظرون ماذا يحل بهم؟ فلا أنساب بينهم يومئذ، ولا يتساءلون ولا يسأل حميم حميما، كل امرئ عن أخيه مشغول يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى [سورة الحج آية 2] . فمن ثقلت موازينه، ومن رجحت حسناته على سيئاته، ولو بالقليل فأولئك هم المفلحون الفائزون، الذين زحزحوا عن النار وأدخلوا الجنة بسلام، ومن خفت موازينه أى: ثقلت سيئاته على حسناته فأولئك هم الذين خسروا أنفسهم، وخابوا وهلكوا، واشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا النعيم المقيم بالزخرف الفاني، والحياة الفانية، وهم في جهنم خالدون، وماكثون مقيمون، تلفح وجوههم النار وتغشاها وقد كانوا يصعرون خدودهم، ويشمخون بأنوفهم في الدنيا كبرا وعجبا لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ «4» ، وهم فيها كالحون، وعابسون   (1) سورة الأنعام الآية 27. (2) سورة غافر الآية 11. (3) سورة فاطر الآية 37. (4) سورة الأنبياء الآية 39. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 646 مكشرون، وذلك جزاء الظالمين، وهذا تقريع من الله وتوبيخ لهم على ما ارتكبوا من الكفر والإثم والعدوان حيث يقول الله لهم: أَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ؟!! وهذا استفهام تقرير وتوبيخ لهم، والمعنى: قروا بهذا واعترفوا فهو أمر ظاهر لا ينكره عاقل. قالوا: ربنا غلبت علينا شهواتنا. وقادتنا لذاتنا إلى الشقاء ودخول النار، وكنا قوما ضالين غير فاهمين للأمور على وضعها الصحيح ثم عادوا فكرروا ما طلبوه أولا وقالوا: ربنا أخرجنا من هذا الموقف إلى الدنيا فإن عدنا إلى أفعالنا تلك فإنا ظالمون نستحق منك العقوبة الصارمة. فيرد الله عليهم بمنتهى الغلظة والشدة قائلا: اخسئوا فيها، وابعدوا في جهنم، ولا تكلمون أبدا بعد هذا. وكأن سائلا سأل وقال. لم هذا العذاب والرد الشديد؟ فأجيب بقوله: إنه كان فريق من عبادي يقولون في الدنيا: ربنا آمنا بك وصدقنا رسلك فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين فما كان منكم أيها المكذبون الظالمون إلا أنكم اتخذتموهم سخريا تسخرون بهم، وتضحكون عليهم، وتسخرونهم وتعذبونهم. اتخذتموهم سخريا إلى أن نسيتم ذكرى لشدة انشغالكم بالاستهزاء، وكنتم منهم تضحكون، إنى جزيتهم اليوم بما صبروا على فعل الطاعات، وترك المحرمات، والرضا بقضاء الله وقدره، جزاهم ربهم بهذا جنة قطونها دانية، إنهم هم الفائزون. يقول الله لهم تبكيتا وتأنيبا بعد أن طلبوا الرجوع فردوا، وقيل لهم: اخسئوا فيها ولا تكلمون: كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ وهذا سؤال عن مدة مكثهم في الدنيا. قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم، استقصروا مدة لبثهم لما هم فيه من العذاب فاسأل العادين المتمكنين، فإننا في حالة تذهب العقول وتحير النفوس. قال: ما لبثتم في الأرض إلا قليلا من الزمن بالنسبة إلى لبثكم في العذاب المقيم. ألم تعلموا فحسبتم أنا خلقناكم عابثين لاعبين ليس لغرض صحيح؟ أفحسبتم أنكم إلينا لا ترجعون؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 647 فتعالى الله، وتنزه عن الشريك والولد وتعالى عن العبث واللعب هو الملك الحق، لا إله إلا هو، رب العرش الكريم، فكيف لا يكون هذا إلها وربّا للكون كله؟! ومن يدع مع الله إلها آخر. ولا برهان له به، فإنما حسابه عند ربه، وجزاؤه عند خالقه فاطر السموات والأرض حساب عسير. إنه لا يفلح الكافرون. وقل يا محمد لتقتدى بك أمتك: رب اغفر لي سيئاتي، وارحمني فإنك الرحمن الرحيم. وهذا دواء لكل ألم، إذ الاستغفار وطلب الرحمة هما المنجيان من المهالك. روى عن عبد الله بن مسعود. أنه مر بمصاب مبتل فقرأ في أذنه أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً حتى ختم السورة فبرأ فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ماذا قرأت في أذنه؟ فأخبره فقال: «والّذى نفسي بيده لو أنّ رجلا موقتا قرأها على جبل لزال» ولا غرابة فالقرآن علاج حقا، ولكن يتوقف على الطبيب وعلى المريض وقابليته فإذا كان الطبيب ذا نفس مؤمنة، والمحل أى: المريض قابلا للعلاج بالقرآن يبرأ وإلا فلا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 648 سورة النور مدنية بالإجماع- وعدد آياتها ثلاث وستون آية. وفيها إشعاعات النور، والآداب الإسلامية العامة التي تحافظ على الأنساب والأعراض وبيان أن ذلك كله من نور الله. افتتاح السورة [سورة النور (24) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَفَرَضْناها وَأَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) المفردات: سُورَةٌ السورة: جملة من القرآن الكريم لها بدء ونهاية معلومان شرعا بالتوقيف. ولعل الأصل في التسمية أنها كالسور لما فيها من الآيات، أو هي بمعنى المنزلة والمرتبة، ولا شك أن من يقرأها ويفهمها ويعمل بها يصبح ذا منزلة عالية رفيعة أَنْزَلْناها المراد: أوحينا بها إليك يا محمد، ولعل السر في التعبير بالإنزال الذي يشعر بالنزول من العلو هو الإشارة إلى أن هذا القرآن من عند الله، ولا شك أن من دونه نازل عنه في الرتبة والمكانة وَفَرَضْناها أمرنا بها أمرا جازما مؤثرا آياتٍ جمع آية هي العلامة، وقد تطلق على الجملة من القرآن لأنها علامة على النبي صلّى الله عليه وسلم. افتتح الله- سبحانه وتعالى- هذه السورة الكريمة بما هو متحقق في كل سورة فما من سورة في القرآن إلا وقد أنزلها الله على نبيه، وفرضها- جل شأنه- على عباده وألزمهم بالعمل بما فيها من أحكام، وما أنزل فيها من آيات بينات، وحجج واضحات. ولعل السر في بدء هذه السورة بهذا البدء العجيب هو أن يسترعى انتباه المسلمين لها، فينظروا إلى ما فيها من أحكام ومواعظ، ويعملوا به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 649 وهذه السورة حقيقية بهذه العناية فقد عالجت ناحية من أخطر النواحي ناحية الأسرة وما يحفها، وبخاصة العرض وأثره والخوض فيه، ثم ذكرت قصة الإفك وما فيها من آداب وحكم غالية. وإشارات سامية، وما يستتبع ذلك من الأمر بغض النظر، والاستئذان وغير ذلك مما يساعد على العفة، وعلى العموم ففي هذه السورة أسس الحياة المنزلية وآداب الحياة الزوجية الصحيحة، وما يتصل بذلك، وفيها آية النور اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وغير ذلك كثير. ولا شك أن في هذه السورة من الأحكام المفصلة، والآيات البينة ما لو تذكرها المسلم لنجا من مزالق النفس ومسالك الشيطان والهوى، وهي مدعاة للذكرى وإن الذكرى تنفع المؤمنين. الزنا وحدّه [سورة النور (24) : الآيات 2 الى 3] الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3) المفردات: فَاجْلِدُوا الجلد الضرب، وسمى به لأن فيه إصابة الجلد بالسوط أو العصا رَأْفَةٌ الرأفة: الشفقة ورقة القلب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 650 المعنى: جريمة الزنا إحدى الموبقات بل هي أشدها بعد الشرك بالله، ولا تحصل إلا من زان أو مشرك، وكان الواجب ألا تكون من مؤمن ولا مسلم، وهي من الخطورة بمكان. بحيث كانت أول حكم في تلك السورة، وما بعدها من أحكام فوقاية منها، وشرعت من أجلها، وانظر يا أخى إلى حده المخزى الزاجر، ثم إلى النهى عن الرأفة بالزاني والزانية وإن كان من يقيم الحد يؤمن بالله واليوم الآخر، فالغلظة معهما من مقتضيات الإيمان، ثم اشترط التشهير بهما والفضيحة لهما بشهود طائفة من الناس لعذابهما، وما بالك؟ بأن النهى كان عن القرب منه لا عن فعله فقط كغيره من المنكرات، وقد قرنه الله بالشرك وقتل النفس وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً [سورة الفرقان الآيتان 68 و 69] . ثم انظر إلى ما رتب من أحكام على مجرد الاتهام به، وأنه لا يثبت إلا بالإقرار أو الشهادة من أربع شهود عدول. مما يتلى عليكم حكم الزانية والزاني، فإن كان بكرا ببكر فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة على جسمه ما عدا الوجه والفرج. وهذه عقوبة الزنا في الدنيا، وفي الآخرة أشد وأبقى. وهذا هو حكم الزنا مع غير الإحصان، أما المحصن وهو من سبق له زواج شرعي إن زنى فحكمه الرجم بالحجارة، وقيل البكر يجلد مائة ويغرب عاما، والمحصن يجلد ثم يرجم. وكأن الزاني والزانية خرجا عن حدود الإنسانية إلى حد البهائم التي لا تردع إلا بالضرب والألم، أما الموعظة الحسنة فلم تعد تؤثر فيه. ولا شك أن عقوبة الزنا كبيرة وشاقة، ولكنا نهينا عن أن تؤثر فينا الرأفة بهما وتقودنا إلى العطف عليهما في تنفيذ حد الله. وقوله تعالى: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ من باب الإلهاب، واستنهاض الهمم، وشحذ العزيمة حيث علق تنفيذ العقوبة وعدم الرأفة بهما على الإيمان بالله واليوم الآخر كما نقول: إن كنت رجلا فافعل هذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 651 وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين، وهذا إيلام لنفسيهما بعد إيلام جسميهما وهو معنى التشهير والفضيحة فجعل ضربهما أمام جماعة من الناس ليكون الخزي والعار أبلغ وأكمل، وفي هذا شهادة عامة من الناس جميعا بأن هؤلاء قد تجردوا من الإنسانية ومعانيها السامية، فلا حق لهما في إعادة الاعتبار، ودعوى الافتخار. وانظر إلى التنفير من تلك الفعلة الشنيعة بقوله تعالى: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. وهذه الآية من المشكلات في القرآن التي تحتاج إلى تؤدة وتأن حتى يمكن فهمها وفي أسباب نزولها روايات. المعقول منها روايتان: الأولى: أن كثيرا من المهاجرين في المدينة قد أجهدهم الفقر، وأضرّ بهم الاحتياج حيث تركوا أموالهم وديارهم في سبيل الله، وقد رأوا في المدينة البغايا المعلنات عن أنفسهن، وقد كثر عندهن المال والخير فحدثتهم أنفسهم لو تزوجوا من هؤلاء فيكن عونا لهم على الإقامة بالمدينة- فاستأذنوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في ذلك على عادتهم في كل صغيرة وكبيرة فنزلت الآية ليمتنعوا عن ذلك فامتنعوا. وروى جماعة كأبى داود والترمذي والبيهقي أن صحابيا يقال له مرثد، ذهب إلى مكة مستخفيا ليحمل أسيرا فرأته امرأة اسمها عناق- وكانت بغيا وكان له بها صلة قبل إسلامه- وطلبت منه أن يبيت عندها وتسهل له مأموريته فقال لها مرثد: يا عناق إن الله حرم هذا فصاحت المرأة به وأخبرت قريشا بوجوده، ولكنه بلباقته تمكن من الحصول على طلبته ونقل الأسير إلى المدينة ثم يروى مرثد عن نفسه قائلا: فأتيت الرسول صلّى الله عليه وسلّم فقلت يا رسول الله: أأنكح عناق؟ فأمسك ولم يرد على شيئا حتى نزلت هذه الآية فقال النبي: «يا مرثد! الزّاني لا ينكح إلّا زانية أو مشركة والزّانية لا ينكحها إلّا زان أو مشرك وحرّم ذلك على المؤمنين» فلا تنكحها. واعلم يا أخى أن هناك حقائق شرعية سلّم بها من الجميع. وهي أن المسلم ولو كان زانيا لا ينكح مشركة، وكذا المسلمة، وأن المسلم الزاني يحل له نكاح العفيفة، والزانية يحل لها نكاح العفيف. وعلى هذا الأساس فالمعنى الظاهر من الآية- وهو أن الزاني لا يحل له أن ينكح إلا امرأة زانية أو مشركة، وأن الزانية لا يحل لها إلا نكاح الزاني أو المشرك- مخالف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 652 لما أجمع عليه المسلمون، ولما سار عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة أجمعون، وهذا يدلنا على أن هذا الحكم المفهوم من الآيات منسوخ، وبهذا قال بعض العلماء. وخلاصة هذا الرأى. أن الآية واردة لتحريم نكاح الزواني والزناة إلا من بعضهم لبعض أو من بعضهم للمشركين، وأن ذلك نسخ بقوله تعالى وَأَنْكِحُوا الْأَيامى والزانية لم تخرج عن كونها من أيامى المسلمين بالإجماع، ونسخ جواز نكاح المشركين والمشركات ولو زناة المسلمين بقوله تعالى وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ [سورة البقرة آية 221] . وعلى هذا فأحل النكاح بين الزناة والعفائف، وبين الزاني والأعفاء، وحرم النكاح بين المسلمين- ولو زناة- وبين المشركين. ولكن النسخ غير مسلم به عند كل العلماء فمن يمنعه قال. إن الآية مسوقة للتنفير من نكاح المسلم العفيف للزانية، وتنفير المسلمة العفيفة من نكاح الزاني، ولو جاء لكل واحد منهما خير كثير. وتكون الآية مطابقة لأسباب النزول، وهي مسوقة لتنفير المسلمين الضعفاء الذين حدثتهم أنفسهم بالتزوج من البغايا رجاء المال وطمعا في الرخاء الذي يعينهم على ما هم فيه من جهد، وعلى تحقيق ما ألقى على عاتقهم من مسئوليات (كمرثد) . فلما استأذنوا رسول الله في ذلك، نزلت الآية ليبتعد المسلمون عن بيئة الزنى فإنه مدعاة للخروج عن حدود الدين، وينزل بالمسلم إلى درجة قد تؤثر عليه فإن رؤية المنكرات، تميت في المسلم الحمية الدينية والعصبية الإسلامية كما هو موجود عند كثير من المسلمين الذين خالطوا اللادينيين. وهذا بلا شك مما لا يليق بالمؤمن، وإنما هو من سمات الزناة فهم الذين يميلون أو يقبلون نكاح الزواني أو من هن أفحش كالمشركات وكذلك الزانية هي التي تقبل أو يليق بها أن تميل إلى الزاني ومن هو شر منه كالمشرك، وعلى ذلك فالآية مسوقة للتنفير، وبيان ذلك أن هذا لا يليق بالمؤمن المحافظ على دينه ومما يؤيد هذا المعنى قوله تعالى الآتي: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ [سورة النور آية 26] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 653 وَحُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ نعم ومحرم ذلك على المؤمنين الكاملين فنكاح المؤمن الصادق المحمود عند الله زانية خبيثة فاجرة وانخراطه في بيئة الفساق محظور عليه ومحرم، ولو كانت الزانية الفاجرة من أثرياء العالم. وليس معنى ذلك أن العقد محرم ولا يصح، وإنما التحريم معناه لا ينبغي للمسلم ولا يصح ذلك منه من حيث كونه مؤمنا صادقا وإن عقد فالعقد صحيح من ناحية الحكم الشرعي، وكذلك الشأن عند من تتزوج من زان خبيث، ولقد صدق رسول الله صلّى الله عليه وسلم «فاظفر بذات الدّين تربت يمينك» أما نكاح المؤمن للمشركة وبالعكس فحرام مطلقا وهذا تعليم قرآنى كريم لا يصدر إلا من خبير بصير رءوف بنا رحيم، فقد أثبتت الأيام أن هذه الزيجات التي تعقد على أساس المادة مع التعامي عن الخلق والسيرة الحسنة فاشلة وغير مجدية. بقي علينا أن نفهم السر في تقديم الزانية على الزاني في أول الآية، وتقديم الزاني على الزانية في عجز الآية!!. ولعل السر أن الزنى ينشأ غالبا وللمرأة فيه الضلع الأكبر فخروجها سافرة متبرجة متزينة، داعية لنفسها بشتى الوسائل المغرية من أصباغ وعطور وملابس ضيقة تبرز كل أجزاء جسمها فهن العاريات الكاسيات المائلات المميلات، ثم هي تمشى بحركات وسكنات ونظرات كلها إغراء، وإلهاب للشباب وفتنة، وهذه كلها حبائل للشيطان، وليس معنى هذا أن الرجال بريئون، لا. بل عليهم قسط كبير في الجرم وقسط المرأة أكبر ولذا قدمها على الزاني وفي عجز الآية حيث يعالج النكاح بمعنى العقد وللمرأة فيه الخطوة الثانية أما الرجل فله مهما كانت الظروف الخطوة الأولى والكلمة الأولى، ولذا قدمه على المرأة والله أعلم بأسرار كتابه. القذف بالزنا وحدّه [سورة النور (24) : الآيات 4 الى 5] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 654 المفردات: يَرْمُونَ الرمي: الإلقاء والقذف بحجر أو سهم مما يضر أو يؤذى استعير لنفى النسب والقذف بالزنى لما فيه من الأذى والضرر الْمُحْصَناتُ الإحصان هنا معناه العفة شُهَداءُ جمع شهيد وهو الشاهد، وسمى بذلك لأنه يخبر عن شهادة وعلم ويقين وأمانة. وهذا حكم القذف بالزنى، وفيه دلالة على عظيم جرمه وكبير إثمه حيث كان الرمي به حده ثمانون جلدة، ورد الشهادة، والحكم بالفسق فما بال من يرتكب؟ أليس تخصيص هذا الحد بالزنى دون السرقة والقتل دليلا على ذلك. المعنى: والذين يرمون المحصنات العفيفات بالزنى، ويتهمونهم بهذا الجرم الفظيع الذي يثلم العرض، ويؤذى النفس، ويطأطئ الرأس، ثم لم يأتوا بشهداء أربعة يشهدون بصدق قولهم، ولم يحصل إقرار ممن رمى بالزنا فجزاء هؤلاء القاذفين أن يجلدوا ثمانين جلدة، وألا يقبل من لسان فاعل هذا الفعل شهادة أبدا جزاء له على ما ارتكب من جرم، وأولئك هم الفاسقون الخارجون عن حدود الله وحدود شرعه. إلا الذين تابوا وأنابوا من بعد ذلك الخطأ الشنيع، وأصلحوا ما أفسدوا بأن يقروا بأنهم أخطئوا في رميهم بالزنا فإن الله غفور رحيم، وهل تقبل شهادتهم بعد ذلك، ويخرجون من حكم الفسق أو لا تقبل شهادتهم أبدا، ولو بعد التوبة قولان لأئمة الفقه، ولكل سند يؤيد رأيه. أما التوبة الصادقة فتقضى من الإنسان أن يعلم علما يقينا قلبيا بجرم ذنبه وخطأ رأيه، فيندم بعد ذلك ندما عميقا شديدا على فعله، ويستتبع ذلك الإقلاع عن الذنب الجزء: 2 ¦ الصفحة: 655 في الحال، والعزم عزما أكيدا على عدم الرجوع إليه أبدا بحال من الأحوال مهما كانت الظروف والملابسات، وأن يبعد عن الظروف التي قادته إلى مثل هذا العمل. والإصلاح: يقتضى إصلاح نفسه، وتفكيره، وبيئته وظروفه، ويرد المظالم إلى أهلها إذا أمكنه ذلك، تلك يا أخى هي أصول التوبة الطاهرة التي تتوفر، على أن التوبة أمر قلبي لا يطلع عليه إلا الله فحذار حذار من التوبة باللسان فقط إذ هي لا تنفع شيئا. قذف الرجل زوجته [سورة النور (24) : الآيات 6 الى 10] وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَالْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10) المفردات: لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ اللعن: الطرد من الرحمة غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها الغضب هو: إنزال العذاب مع المقت وَيَدْرَؤُا يدفع. الحكم الأول للزنا، والثاني للقذف به مع الأجانب، والثالث للقذف به مع الزوجة، وهذا ما يسمى في كتب الفقه باللعان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 656 المعنى: والذين يرمون أزواجهم بالزنا، وكأن الكلمة قبل أن تتكلم بها تكون في ملكك فإذا خرجت منك كانت كالسهم إذا انطلق فلا يمكن رده ولعل هذا مما يساعد على تفهم السر في التعبير عن القذف بالرمي على ما فيه- كما قلنا- من الألم والضرر. ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم، وهذا أمر معقول فربما يدخل الرجل على امرأته في أماكنها الخاصة فيجد معها الأجنبى على هيئة منكرة فماذا يعمل! أيخرج يطلب الشهود! قد لا يتصور هذا أيسكت ويلحق بنفسه من لا يستحق هذا النسب، ويتخذ لأولاده أخا يرثه ويرثهم وهو لا يستحق! إن هذا لأمر خطير. ولكن الشارع الحكيم قال: إن لم يكن له شهداء يشهدون على مثل الشمس رؤية ويقينا، إذا لم يكن ذلك فليشهد أربع شهادات بالله، فيقول: أشهد بالله العظيم إنى لصادق فيم رميت به زوجتي فلانة من الزنى (أربع مرات) ويقول في المرة الخامسة: وعلى لعنة الله إن كنت من الكاذبين في دعواي، وحينما رمى زوجته بالزنا وجب عليه الحد كما نصت الآية السابقة فإنها عامة من المحصنات سواء كن زوجات أو أجنبيات. وليس يرفع الحد إلا البينة بأربعة شهود أو اللعان منه أى أن يشهد أربع شهادات ثم الخامسة كما تقدم ... عند ذلك يجب عليها الحد إن لم تلاعن هي الأخرى، وذلك كله بعد تحذير الحاكم لهما من الكذب وخطره، وبيان أن عذاب الدنيا بالحد أخف بكثير من عذاب الآخرة فإن أصرت الزوجة على تكذيب زوجها لا عنت فشهدت أربع شهادات بالله العظيم إنه لمن الكاذبين، وتقول: أشهد: بالله العظيم إن فلانا هذا زوجي لمن الكاذبين فيما رمانى به من الزنى، وفي الخامسة تقول: وعلى غضب الله إن كان من الصادقين. وهذا معنى قوله تعالى: وَيَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ ومن أحكام اللعان أنه متى لا عن الزوج حرمت عليه زوجته، قيل حرمة مؤبدة وقيل كالطلقة البائنة يجوز له أن ينكحها إذا عاد وكذب نفسه وأقيم عليه الحد. ولولا ما حفكم من فضل الله ومزيد إحسانه الذي منشؤه الرحمة التي هي صفة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 657 ذاتية لله كتبها على نفسه، وأنه هو التواب الذي يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات لولا ذلك كله لكان ما كان مما لا يطاق، ولا تحيط به العبارة. حقا إن الله- سبحانه وتعالى- بما شرع من اللعان قد خلصنا من أزمات جسام! هب أن الرجل الحر فوجئ برجل على سريره يفعل المنكر فإن قتله قتل به أو ناله أذى على فعله شديد، وإن سكت سكت على ما لا يطاق، وإن تكلم ورمى زوجته بالزنى أقيم عليه الحد، وردت شهادته بين المسلمين فماذا يكون إذا؟ تفضل ربكم عليكم بتشريع يرفع هذا الحرج كله رحمة منه وفضلا فأباح للرجل أن يثبت قوله بشهادته أربع مرات على ما سبق بيانه، ولم يهمل شأن المرأة فقد يكون للظن السيئ والغيرة الشديدة أثر كبير في رمى الزوجة بالزنى وهي بريئة، ففتح لها باب الخلاص تدفع عن عرضها وشرفها وشرف قومها، فشرع لها اللعان، ورحمهما معا بالستر على الكاذب منهما في الدنيا، وقد يتوب فتقبل توبته فينجو من عذاب الدنيا والآخرة، فأى حكم أعدل وأرحم وأفضل من هذا؟!!! وروى في سبب نزولها: أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلّى الله عليه وسلّم بشريك ابن سحماء فقال النبي صلّى الله عليه وسلم: «البيّنة أو حدّ في ظهرك قال: يا رسول الله، إذا رأى أحد رجلا على امرأته يلتمس البينة! فجعل النبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «البيّنة وإلّا حدّ في ظهرك» فقال هلال. والذي بعثك بالحق إنى لصادق، ولينزلن الله في أمرى ما يبرئ ظهري من الحد فنزلت الآية . وقيل إن القاذف لزوجته عويمر بن زيد لا هلال بن أمية. وروى أن آية القذف لما نزلت وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الآية وتناول ظاهرها الأزواج وغيرهم قال سعد بن معاذ: يا رسول الله إن وجدت مع امرأتى رجلا أمهله حتى آتى بأربعة! والله لأضربنه بالسيف غير مصفح عنه فقال رسول الله: «أتعجبون من غيرة سعد لأنا أغير من سعد. والله أغير منّى» ثم لم يمض يسير من الزمن حتى جاء هلال بن أمية ورمى زوجته بالزنى، ونزلت الآية.. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 658 قصة الإفك [سورة النور (24) : الآيات 11 الى 22] إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15) وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21) وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 659 المفردات: بِالْإِفْكِ الكذب البعيد عن الصدق عُصْبَةٌ جماعة من الأربعة فصاعدا لا تَحْسَبُوهُ لا تظنوه شَرًّا الشر ما زاد ضرره على نفعه والخير ما زاد نفعه على ضرره كِبْرَهُ وفي قراءة كبره- بالضم- وهو معظم الشيء أَفَضْتُمْ الإفاضة الخوض مع الإكثار كأنهم زادوا في حديثهم حتى فاض من جوانبهم كما يفيض الماء من إنائه تَلَقَّوْنَهُ تلقى الشيء استقباله والتهيؤ لأخذه، والتلقف كالتلقى إلا أنه يلاحظ فيه معنى السرعة في الالتقاط هَيِّناً سهلا لا مؤاخذة فيه بُهْتانٌ كذب مختلق لا أساس له يفاجأ به الشخص، ولم يكن يخطر له على بال فإن المرمى به يبهت ويدهش تَشِيعَ الْفاحِشَةُ تفشو وتظهر والفاحشة الفعل القبيح المفرط في القبح وقيل الفاحشة في هذه الآية القول السيئ خُطُواتِ الشَّيْطانِ المراد مسالكه ومذاهبه ووساوسه، وواحد الخطوات خطوة وهو ما بين القدمين السَّعَةِ الغنى والثراء وَلا يَأْتَلِ لا يحلف من الألية وهي اليمين وَلْيَعْفُوا أى: يمحو الذنب حتى يعفو كما يعفو أثر الربع. سبب النزول: كان من عادته صلّى الله عليه وسلم إذا خرج إلى غزوة أقرع بين نسائه، فمن خرجت قرعتها أخذها معه، وفي عزوة بنى المصطلق في السنة السادسة للهجرة خرج ومعه عائشة وفي رجوعه إلى المدينة نزل منزلا مع القوم ثم أمر بالرحيل، فسارت عائشة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 660 لبعض شأنها بعيدا عن الجيش ثم عادت وتفقدت عقدا لها فلم تجده، فعادت إلى مكانها في الخلا. تبحث عنه، وفي هذه الأثناء رحل القوم، وأتى الرجال إلى هودجها فحملوه، وكانت فتاة صغيرة قليلة اللحم فلم يشعروا بفقدها وعند ما عادت، لم تجد أحدا فنامت في مكانها وكان من عادة الجيش أن رجلا يتخلف ليأخذ ما ترك سهوا وكان هو صفوان بن المعطل السلمى، فلما أدركها عرفها، فأخذ يسترجع بعد أن أناخ راحلته بجوارها. فاستيقظت، وركبت وقاد هو الراحلة، وكانت آية الحجاب نزلت فلم يرها، وأدرك القوم في المنزل الثاني ومر على قوم من الجيش فيهم عبد الله ابن أبى ابن سلول زعيم المنافقين فسأل عنها فقيل: إنها عائشة فقال كلمة الإفك وفتن بكلامه نفر من المؤمنين، وبخاصة حسان بن ثابت ومسطح بن أثاثة وحمنة بنت جحش. وكان صفوان هذا من خيار الصحابة، وشهد غزوات الرسول، وقتل شهيدا في غزوة أرمينية سنة تسع عشرة في زمن عمر- رضي الله عنهم جميعا-. وعقب رجوع الجيش من السفر مرضت عائشة شهرا في منزل الرسول صلّى الله عليه وسلم ولم تدر ما يقول الأفاكون، وهي تحدث نفسها وتقول: ما رابنى من رسول الله سوى أنى لم أر منه اللطف الذي اعتدته منه إذا كنت أشتكى، فكان يدخل ويسلم، ويقول: كيف تيكم (وتى إشارة إلى المؤنث) ثم ينصرف، فلما برئت عرفت ما قيل فمرضت ثانية بأشد من المرة الأولى، فلما عادها رسول الله استأذنت منه في الانصراف إلى بيت أبيها فأذن لها، فأتت أمها، فاستيقنتها الخبر فقالت أمها: يا بنيّة هوّنى عليك فقلما كانت امرأة وضيئة ولها ضرائر إلا أكثرن عليها، فقالت عائشة: سبحان الله!! ولقد تحدث الناس بهذا!! وملكها البكاء ليلتها لا يرقأ لها دمع، ولا ترى النوم. ولما شاع الخبر وذاع، قام النبي صلّى الله عليه وسلم في المسجد خطيبا، وقال: يا معشر المسلمين! من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهل بيتي؟! يريد بذلك عبد الله ابن أبى بن سلول. فو الله ما علمت على أهلى إلا خيرا. وروى أنه دخل عليها صلّى الله عليه وسلم فقال. يا عائشة، قد بلغني عنك كذا، وكذا فإن كنت بريئة فسيبرئك الله، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه!! قالت عائشة: فلما قضى النبي مقالته تقلص دمعي من شدة الحزن والألم، ثم قالت لأبيها: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 661 أجب عنى رسول الله قال أبو بكر مقالة المؤمن بالله لا يرهقه ولده طغيانا وكفرا قال. والله ما أدرى ما أقول، وقالت لأمها كذلك فأجابت بمثل جواب أبيها فقالت عائشة المؤمنة والواثقة في الله الذي يعلم السر وأخفى، وهو الحكم العادل: والله لقد علمت أنكم سمعتم ذلك القول حتى استقر في نفوسكم، ولئن قلت لكم إنى بريئة- والله يعلم أنى بريئة- لا تصدقوني، وإن اعترفت لكم بما يعلم الله أنى بريئة منه لتصدقننى، والله لا أجد لكم ولي مثلا إلا قول العبد الصالح أبى يوسف: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ واضطجعت في فراشها وقالت عائشة: وأنا أعلم أن الله سيبرئنى . ولكن ما كنت أظن أن سينزل في شأنى وحيا يتلى. ولقد نزل الوحى على رسول الله، وقلوب الناس تضطرب وبخاصة أبويها خوفا على عائشة ولكن عائشة واثقة من نفسها، ومطمئنة إلى ربها، نزل الوحى مبرئا عائشة مما رميت به وقال النبي صلّى الله عليه وسلم أبشرى يا عائشة، أما والله لقد برأك الله فقالت لأمها: لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلا الله الذي برأنى، ونزلت الآيات العشر إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ إلى آخر الآيات. كان مسطح قريب أبى بكر، كانت أمه بنت خالة أبى بكر، وكان ينفق عليه لفقره، فلما وقع في حديث الإفك حلف ألا ينفق عليه فنزل قوله تعالى: وَلا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى - إلى قوله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ. المعنى: إن الذين جاءوا بالإفك، واختلقوا هذا الكذب البعيد عن الصدق جماعة صغيرة منكم تآمرت عليه، واجتمعت حوله، وأخذت تذيع الأراجيف فيه، فلم يأت به جمهرة المسلمين وجماعتهم، على أنهم فيكم، ومعدودون منكم، وهذا كله يجعلكم تهونون من شأن الحادثة. ولا تثور نفوسكم عليهم ثورة جامحة. فالمرء عادة عرضة لأن يصاب من أقاربه وأهل بيته وفي هذا سلوى للنبي صلّى الله عليه وسلم وآل بيته الكرام. لا تحسبوا هذا الحدث شرا لكم بل هو خير لكم، وأى خير؟! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 662 إذ هو خير لعائشة حيث برئت منه في القرآن الكريم فكانت كمريم البتول وأصبح التصديق ببراءتها جزءا من إيمان كل مؤمن، وكل من شك فيه كفر. وبعد أن بين أن فيه خيرا لا شرا أتبع ذلك بأن لكل امرئ منهم جزاء ما اكتسب من الإثم، والذي تولى كبره منهم وقاد هذه الحملة، وهو عبد الله بن أبى بن سلول، له عذاب عظيم من الله، وفي هذا تطمين لنفوسهم، فقد بان خيرهم، وانتقم لهم ممن آذاهم. وهذا عتاب للمسلمين، وتربية لهم وتنبيه، حيث كان الواجب عليهم وقت أن سمعوا تلك المقالة الشنيعة أن يقيسوا الأمور بمقياس صحيح على أنفسهم فإذا كان مثل هذا بعيدا على المؤمن الذي عمر الإيمان قلبه من رجل وامرأة، أفلا يكون بعيدا بل مستحيلا على أمثال عائشة وصفوان؟!! فإذا قسنا هذا بقياس الإيمان أنتج هذه النتيجة، وهذا هو سر قوله تعالى: لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ. وفي هذا بيان لموضع الإيمان من نفوس المؤمنين، وأنه مقياس صحيح، وأن المسلمين جميعا سواء، كان الواجب ألا يكتفوا بالظن الحسن في نفوسهم بل يقولون: هذا إفك وكذب ظاهر بين، فمن المستحيل أن تكون زوجة النبي زانية فإن الزنى أكبر عارا، وأشد حقارة من الكفر، ولقد صدر هذا الإفك من قوم عرفوا بالنفاق والكذب والزور، وكيف يتصور حصول هذا، فإذا لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله وعند الناس جميعا كاذبون!! ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة، بأن أمهلكم للتوبة في الدنيا وأرشدكم إلى الطريق، وفي الآخرة حيث قبل منكم التوبة، وأثابكم على امتثال الأمر. ولولا هذا الفضل وتلك الرحمة لمسكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم، وقد أفاضوا في حديث الإفك، وأكثروا من الكلام فيه حتى فاض من جوانبهم كما يفيض الماء من الإناء والخطاب لجميع المسلمين، ومنهم ابن أبى، ولكنه ضيع الفضل والرحمة في الدنيا والآخرة لإصراره على الكلام، ووقوفه عند دعواه الباطلة لذلك مسه العذاب في الدنيا والآخرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 663 ولولا فضل الله عليكم وتوفيقه لكم، ورحمته بكم لمسكم بسبب ما أفضتم فيه من حديث الإفك عذاب عظيم وقت تلقفكم له بألسنتكم، فقد كانوا يتلاقون مع بعض، ويستثير أحدهم الآخر بسؤاله: ما وراءك؟ ليتكلم ويفيض في الإفك، ويتلقى القول منه، ويجتذبه بلسانه، لا أنه مجرد سماع عفوا، ولعل هذا السر في التقييد بقوله: بِأَلْسِنَتِكُمْ نعم وكانوا يقولون هذا بملء أفواههم غير ملقين له بالا، ولا مقدرين له خطرا ويقولون بأفواههم ما ليس له في قلوبهم حجة ولا برهان، وتحسبونه هينا سهلا لا جرم فيه، وهو عند الله عظيم، وكيف لا يكون كبيرا وعظيما، وفيه رمى بيت النبوة بالزنى، وتدنيس فراش النبي بأقبح القاذورات، ترى أن الله عاتبهم على ثلاثة أمور: (أ) تلقى ذلك بالسؤال عنه واستثارة المخاطب ليتكلم فيه. (ب) قالوا بلا علم ولا دليل. (ج) استهانوا بما صدر منهم، ولم يتبعوه باستغفار ولا استنكار!! ولولا قلتم أيها المسلمون حين سمعتم هذا الخبيث من الكلام: ما يكون لنا أن نتكلم بهذا، ولا ينبغي أن نخوض في عرض النبي صلّى الله عليه وسلم بلا علم ولا حجة أبدا. بل وتقولون: سبحانك يا رب وتنزيها لك وتقديسا أن ترضى لأكرم خلقك وأشرف الناس عندك أن يحل بأقرب الخلق إليه وألصقهم به تلك النقيصة وهذه الفاحشة سبحانك!! يا رب سبحانك!! هذا بهتان عظيم واختلاق أثيم يبهت له الإنسان ويدهش!! وقد روى أن بعض الصحابة قال ذلك حين سمع هذا. وكل ما مضى من التسلية والتربية والتوجيه ليس الغرض منه التقريع والتوبيخ بل القصد هو أن يعظكم به ويرشدكم حتى لا تعودوا لمثله أبدا، إن كنتم مؤمنين، فهذا العمل وأمثاله يتنافى مع أصل الإيمان وحقيقته، ويبين الله لكم الآيات والله عليم بخلقه وبأحوالهم الخاصة والعامة السرية والجهرية حكيم يضع الأمور في نصابها. وهذا نوع آخر لبيان جرم الوقوع في الأعراض، وإشاعة أخبار الزنى والفاحشة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 664 بين الناس، والناس يحسبون هذا هينا لأنه كلام باللسان لا أذى باليد والسنان، وما علموا أن جرح اللسان قد يكون أشد من جرح السيف والسنان. إن الذين يحبون أن تشيع وتنتشر الفاحشة وأخبارها بين الناس، لهم عذاب مؤلم في الدنيا والآخرة، وإذا كان الهم بالمعصية ثم تركها لا عقوبة عليه، فما بال حب ذكر الفاحشة! عليه هذا العقاب!؟ ولعل في ذكر حب الفاحشة إشارة إلى أن هذا داء قلبي يصاب به من يريد التعالي على الناس وهو يحسدهم على ما آتاهم ربهم فتراه يحب من صميم قلبه أن يجرح كرامتهم وأن يقع في أعراضهم ظنّا منه أن هذا شرف له، وقد كان هذا مع ابن أبى ورسول الله، وهو كذلك مع كل إنسان يتكلم في الأعراض ولا تنس أن الآية تشير إلى أن حب إشاعة الفاحشة كاف في لحوق العذاب فما بال من يشيع بالفعل؟! ولعل المراد أن الذين يحبون أن تشيع أخبار الفاحشة، ولكن الآية تقول: يحبون أن تشيع الفاحشة نفسها لأن إشاعة الخبر يقتضى إشاعة الفاحشة نفسها ألا تراك تمتنع مع ذكر أخبار الفاحشة أمام أولادك لاعتقادك أن في هذا خطرا عليهم، ومن الحقائق المعلومة أن ذكر الفاحشة وأخبارها مما يقرب الشخص إليها حتى يقع فيها. هؤلاء الذين أذاعوا أخبار الفاحشة في بيت النبوة لهم عذاب أليم في الدنيا بالحد والإهانة من الناس، ألم تعلم أن من يتكلم في أعراض الناس لا بد أن يتكلم الناس في عرضه؟ فمن غربل الناس نخلوه، ومن لا يتق الشتم يشتم، ولهم في الآخرة عذاب شديد. وانظر إلى التعبير بالفاحشة عن الزنى فإنه أفحش الفواحش لما يلحق صاحبه من المهانة وتنكيس الرأس، والله يعلم هذا وأكثر منه وأنتم لا تعلمون الخطر في أعمالكم فمن الخير لكم أن تمتثلوا أمر الله، وإن الزمن يثبت هذا. ولولا فضل الله عليكم ورحمته حيث أمركم بالخير، وهداكم إلى الطريق الحق، ونهاكم عما يقطع أوصالكم، ويزرع الضغينة في نفوسكم، وكفى شرّا أنه من دواعي الوقوع في نفس الفاحشة، والتكلم في العرض وبخاصة مثل هذه الحادثة فإنها تتعلق ببيت النبوة الذين هم أئمة يقلدون، حقّا لولا فضل الله ورحمته وأنه رءوف رحيم حيث بين لنا خطر هذا الفعل الشنيع، لولا هذا لوقعتم في المهالك، ولضلت بكم السبل فالحمد لله الذي هدانا لهذا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 665 وهذا تحذير من الشيطان ووسوسته بعد تحذيرنا من النفس الأمارة بالسوء التي تحب دائما إذاعة الفاحشة فإن المعاصي تقع دائما من قائد يأمر بالسوء وهو الشيطان ونفس مدفوعة إلى الشر بطبعها. يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان ومسالكه فإنه يأمركم بالفحشاء والمنكر ويدعوكم دائما إلى كل ضار في دينكم ودنياكم الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [سورة البقرة آية 268] . والشيطان يوسوس للنفوس الضعيفة، ويزين لها الوقوع في المعاصي، عن طريق التدرج خطوة فخطوة حتى يتم له ما أراد، وإن خطوات الشيطان تكون فيما نحقر من أعمالنا «ولكنها تجرنا إلى المهالك» . فأعظم حادثة أو أكبر فاحشة لا تقع دفعة واحدة، ولكن لها خطوات يضعها الشيطان حتى يتم له ما أراد. نظرة ... فكلام ... فموعد ... فلقاء.. فوقوع في المهالك ... وهكذا. يحكى أن عابدا في صومعته كان بجواره رجلان لهما أخت، فسافرا لأمر، وتركا أختهما في حراسة العابد، فكان كل يوم يضع لها الطعام أمام باب الصومعة لتأخذه فوسوس له الشيطان أن يضع الطعام على باب بيتها بحجة أنها لا تتجشم مشقة التعب والحضور إليه، ثم انتقل إلى خطوة أخرى، وهي أن يزيدها إكراما فيطلبها لتأخذ الطعام، ثم انتقل إلى خطوة ثالثة ورأى من وسوسة الشيطان أن المرأة في طول مقامها منفردة تلقى مشقة وتعبا فقد يكون من الخير لها أن تجلس معه ليسرى عنها بالتحدث إليه فترة وجيزة ففعل، وهنا ينطبق الحديث «ما اجتمع رجل بامرأة إلّا وكان الشّيطان ثالثهما» ، فلما اجتمعا وقعا في التهلكة، لأن العابد مهما كان فهو رجل، والمرأة مهما كانت فهي أنثى، وفيها الغريزة الجنسية! فأنت ترى أن الشيطان جاءهما من طريق مؤثر، وهو في الظاهر خير، فحقّا لا تتبعوا خطوات الشيطان، إنه للإنسان عدو مبين. أبعد هذا يتوانى المسلمون في فهم الحقائق البشرية، وتطبيق قواعد الدين؟! ومن العجب أن ينادى بعض المسلمين بالاختلاط بين الجنسين، ويجره الشيطان إلى هذا بحجة أن الاختلاط يمنع الوقوع في المعصية، وما علم أن الطبيعة البشرية أقوى، ولا يعدلها الجزء: 2 ¦ الصفحة: 666 ويخفف من حدتها، ويوجهها إلى الوجهة العليا إلا الخوف من الله، وتلاوة القرآن ومدارسة الحديث، ومجالسة العلماء، والانضمام إلى الجمعيات الدينية حتى يشغل فراغه ويصرف وقته في النافع، وإن أساس الوقوع في المعصية هو الشباب والفراغ والمال فإذا أمكننا صرف الشباب إلى الوجهة النافعة، وشغل وقتهم وفراغهم بالهوايات الصالحة النافعة كالرياضة البدنية وغيرها توصلنا بهذا إلى التقليل من وقوع الجرائم الجنسية. والنبي صلّى الله عليه وسلم قد عالج هذا الموضوع بقوله «يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة- أى: النكاح- فليتزوّج وإلّا فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء» ولا شك أن في الصوم جنة، ورياضة روحية، وإضعافا للقوة الجسمية. يا جماعة المسلمين: لولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكا منكم من أحد أبدا وكيف يسير الإنسان على الصراط المستقيم، وهو بين قائد ضال ودافع أضل؟ ولكن الله يزكى من يشاء، ويهدى إليه من ينيب، والله سميع عليم، ويعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، وهو يقبل التوبة عن عباده ويعفو عن السيئات ويعلم ما تفعلون. أليس في هذا خير لنا وهداية؟ نسأله التوفيق والسداد. ولا يأتل أولو الفضل منكم والسعة أى: لا يحلف أصحاب الغنى والجاه أن يؤتوا أولى القربى والمساكين مما أعطاهم الله من خيره جزاء ما اشتركوا في إثم الإفك، وهذا نهى لأبى بكر حتى لا يمنع مسطحا من النفقة التي كان يجريها، وهكذا كل مسلم. وليعفوا عن السيئات، وليصفحوا عن العصاة والمذنبين، ألا تحبون أن يغفر الله لكم؟ وهذا تمثيل أى كما تحبون أن يغفر الله لكم، فاغفروا أنتم لمن دونكم «من لا يرحم لا يرحم» والله سبحانه كثير المغفرة والرحمة فاقتدوا به واعملوا بما أمر فهو خير لكم. نهاية القصة [سورة النور (24) : الآيات 23 الى 26] إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَالطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 667 المفردات: لُعِنُوا طردوا من الرحمة دِينَهُمُ المراد جزاءهم مُبَرَّؤُنَ منزهون وهذا بعد الكلام الخاص في العفو والصفح عن بعض من خاض في الإفك كالدليل على أن هذا الجرم شديد وجزاؤه عظيم. المعنى: إن الذين يرمون المحصنات العفيفات الغافلات البعيدات عن التفكير في المعاصي والفواحش المؤمنات الصادقات هؤلاء لعنوا في الدنيا ولعنوا في الآخرة، ولهم عذاب عظيم هوله شديد وقعه. ومن المعلوم أن هذا الحكم- مع من يرمى المحصن الغافل المؤمن- كذلك وإنما تخصيصهن بالذكر، لأنه الكثير الغالب، وأن رمى النساء بالإفك أكبر إساءة لهن، وهذا هو الموافق لحديث الإفك. ولا شك أن القذف بالزنا كالرمى بالحجارة التي تصيب كل من يصادفها بلا تفريق بين أب أو زوج أو أخ أو قريب. والإحصان والغفلة والإيمان حواجز وموانع كان الواجب أن تمنع القذف وهي كالسبب المقتضى لذلك الجزاء الشديد لمن يقذف المحصنات. وهؤلاء القذفة وبخاصة من قذف السيدة عائشة ملعونون على لسان الملائكة والمؤمنون إلى يوم القيامة، ومطرودون من رحمة الله في الدنيا حيث استحق الحد والتعذيب، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 668 ولعن في الآخرة حيث استحق العذاب الشديد وعظم العذاب بقدر عظيم الجرائم، ومن يقذف بالفاحشة بريئا فقد أقض مضاجع، ونال من كرامات وثلم من شرف، وآذى من أبرياء، فهو يستحق هذا العذاب، وإن الله لا يظلم الناس شيئا، ولكن الناس أنفسهم يظلمون، يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون. نعم هم يستحقون ذلك العذاب يوم تشهد عليهم ألسنتهم. ولعل هؤلاء الناس يوم القيامة يحاولون الإنكار والتنصل فيمنعهم الله من الإنكار، ثم ينطق ألسنتهم، وأيديهم، وأرجلهم بما اقترفوا قطعا لعذرهم. وتنكيلا بهم. كل ذلك بسبب ما كانوا يعملون، يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق، ويعطيهم جزاءهم كاملا عادلا لا يزيد على جريرتهم ولا ينقص. ويومئذ يرون أن كل ما وعد به الرسل، وما وصفوا به من عذاب العصاة وثواب الطائعين كله حق ولا شك فيه ولا مرية وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ وهل هذه الآية عامة في كل محصنة غافلة مؤمنة؟ وإن كان سبب النزول قصة عائشة، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. أم هو خاص بعائشة- رضي الله عنها- نظرا إلى شدة الوعيد وعدم ذكر التوبة، وقيل إن الآية خاصة بكفار قريش إذ كانوا يرمون المؤمنات المهاجرات بأنهن هاجرن للفجور. والظاهر والله أعلم أنها عامة في محصنة غافلة مؤمنة، والسيدة عائشة وأمهات المؤمنين داخلات فيها دخولا أوليّا، وعظم الجزاء لعظم الجرم، وعدم ذكر التوبة لا يمنع من قبولها فبابها مفتوح حتى للكفار. كيف ترمون بيت النبوة بهذا الإفك؟!! أو ما علمتم أن الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وهذا حكم غالبى فالخبيث يكون للخبيثة، ولا يصح أن يتخلف هذا الحكم في أشرف بيت ومع أكرم خلق الله على الله. والطيبات من النساء كالسيدة عائشة وغيرها من أمهات المؤمنين للطيبين من الرجال فالله يختار لكل فئة ما يناسبها ويليق بها، فلا يمكن أن يختار أخبث الخبيثات لأطيب الطيبين، وهذا قريب مما سبق في قوله: الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وعند بعضهم أن المراد الخبيثات والطيبات من الكلام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 669 للخبيثين والطيبين من الرجال والنساء، على معنى أن خبيث القول إنما يوجه للخبيث من الناس، والخبيث من الناس هو المستحق للخبيث من الكلام. أولئك المذكورون من الطيبين والطيبات مبرأون مما يقول الخبيثون والخبيثات. وكلا المعني ين مروى عن ابن عباس. والرأى الأول هو الظاهر والله أعلم. الاستئذان وآدابه [سورة النور (24) : الآيات 27 الى 29] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ (29) المفردات: بُيُوتاً جمع بيت وهو المسكن لأن المرء يأوى عادة إلى مسكنه ليلا تَسْتَأْنِسُوا المراد تستأذنوا لأن من دخل بيتا غير بيته تلازمه الوحشة حتى يؤذن له لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أى لا حرج ولا إثم. وهذا حكم آخر يتعلق بالأسرة والبيوت، وهو مناسب لأصل الموضوع الأول، ومن دواعي البعد عن الريبة والظن والوقوع في الزنى، وأسس الآداب والمدنية والإنسانية. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 670 المعنى: يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان، اعلموا أنه يدعوكم إلى الفضيلة والآداب، ويرشدكم إلى أنكم لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم، أى ليس لكم فيها حق السكنى والمنفعة «وإن كانت ملكا لكم، لا تدخلوا حتى تستأنسوا وتستأذنوا، ولا شك أن الإذن يذهب الوحشة، ولذا سمى الإذن أنسا، بدليل قوله تعالى: فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ. والاستئذان يكون بقرع الباب، أو النداء لمن في البيت، أو التسبيح والتحميد أو صريح الاستئذان وغير ذلك. ومنع الدخول قبل الاستئذان عام في الرجال والنساء، مع المحارم وغير المحارم إذ كل إنسان له حالات لا يحب أن يطلع عليها أحد، ولو كان والدا أو ولدا، ولقد قال رجل للنبي صلّى الله عليه وسلم: أأستأذن يا رسول الله على أمى؟ قال النبي «نعم» قال: ليس لها خادم غيرى أأستأذن عليها؟ قال «أتحبّ أن تراها عريانة؟» قال: لا. قال: «فاستأذن عليها» . حتى تستأنسوا، وتسلموا على أهلها أى: على من فيها، وظاهر الآية أن الاستئذان يحصل ثم السلام، وبعضهم يرى العكس، والبعض يرى أنه إذا رأى أحدا في الدار سلم أولا ثم استأذن: فإن لم ير استأذن أولا. ذلكم خير لكم وأفضل، فإنه أغض للبصر، وأحفظ للسر، وأدعى إلى احترام البيوت والحرمات، ولا تظنوا أن في الاستئذان مذلة، بل هو خير لكم وأزكى، لعلكم تذكرون ذلك فتعملوا بمقتضاه. ولا مانع من جعل حجرات الموظفين كالبيوت يحسن الاستئذان عند دخولها فلربما كان الموظف في شغل شاغل، أو عنده شخص في مصلحة لا يحب أن يطلع عليها أحد، وهذا بلا شك أحفظ للوقت، وأدعى إلى العمل والجد. فإن لم تجدوا فيها أحدا من ساكنيها فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم، وهذا تعبير دقيق يشير إلى معنى أدق، فربما كان في البيت صاحبه، ولم يرد عليك ولم يأذن لك فيصدق على المستأذن أنه لم يجد أحدا في البيت. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 671 وإن قيل لكم ارجعوا، ولا تدخلوا، فارجعوا وامتثلوا أمر صاحب البيت فهذا حقه وهو حر فيه، والرجوع أزكى وأطهر، والله بما تعملون عليم ومحيط. وقد يكون في البيت ما يدعو إلى الدخول بلا إذن كحريق أو حادث أو استغاثة مثلا وهنا تدخل بلا إذن. ولا حرج عليك. ليس عليكم جناح ولا إثم في أن تدخلوا بيوتا غير مسكونة، وفيها متاع لكم كالحوانيت ومحال البيع والشراء، وقد روى أن أبا بكر- رضى الله عنه- لما نزلت آية الاستئذان قال: يا رسول الله فكيف يعمل تجار قريش الذين يختلفون من مكة والمدينة والشام، ولهم بيوت معلومة على الطريق فكيف يستأذنون ويسلمون؟ وليس فيها سكان؟ فنزل قوله تعالى: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ الآية. والمعنى: أن البيوت العامة كالمقاهى والبيوت التجارية ما دامت مفتوحة فلا استئذان في دخولها. وهل بيت الإنسان الخاص الذي فيه أهل بيته يستأذن أم يكفى السلام فقط والإشعار بالحضور بأى شيء، الظاهر أن هذا يكفى. والله يعلم ما تبدون وما تكتمون، فإن إباحة الدخول في الأماكن العامة لغرض، أو في البيوت الخاصة مثلا قد يتخذه بعض الناس لغرض آخر سيّئ فجاء قوله تعالى: وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما تَكْتُمُونَ ليذكرهم بأن الله يعلم، وأنتم لا تعلمون وهو يعلم السر وأخفى. ومن الآداب أنك عند زيارتك لإنسان، ووجدت الباب مفتوحا، أن تقف بحيث لا تطلع على شيء في البيت، فقد روى علماؤنا عن عمر بن الخطاب أنه قال: من ملأ عينيه من قاعة بيت فقد فسق وروى في الصحيح عن سهل بن سعد أن رجلا اطلع في حجر في باب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ومع النبي صلّى الله عليه وسلّم مدرى يرجل به رأسه فقال له الرسول: «لو علمت أنّك تنظر لطعنت به في عينك، إنّما جعل الله الإذن من أجل البصر» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 672 آية الحجاب [سورة النور (24) : الآيات 30 الى 31] قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ (30) وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31) المفردات: يَغُضُّوا غض البصر كفه يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ يظهرن مواضع الزنية بِخُمُرِهِنَّ جمع خمار وهو ما يستر الرأس جُيُوبِهِنَّ جمع جيب وهو فتحة في أعلى الجلباب يبدو منها بعض الصدر لِبُعُولَتِهِنَّ هم الأزواج الْإِرْبَةِ الحاجة يَظْهَرُوا يعرفوا ويطلعوا على عورات النساء. وهذا حكم آخر من الأحكام التي تحفظ العرض، ويصان النسب، وتمنع الفحشاء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 673 وببعد الزنى، فالإذن قبل الدخول، والحجاب وعدم النظر ومنع الاختلاط مما يباعد بلا شك بين الشخص وبين الخطر. المعنى: قل يا محمد، وكذا كل رئيس للمؤمنين أو إمام لهم، قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم، ويكفوها عن النظر إلى الأجنبيات غير المحارم، ويحفظوا فروجهم من كل منكر كالنظر واللمس والزنى، وانظر إلى قوله- تعالى- وقد قدم تحريم النظر على حفظ الفروج التي هي المقصود الأساسى من الكلام ليعلم الناس جميعا ما للنظر من خطر وأثر، وأنه رسول الشهوة: وبريد الزنى، وبذرة الفسق والفجور. وخص المؤمنين بالذكر لأنهم الممتثلون المنتفعون بهذا. ذلك أزكى لهم وأطهر، وأبعد عن الشك وأنفى للريبة، وأبقى للنفس طاهرة زكية بعيدة عن الخطر. واعلموا أيها الناس أن الله خبير بما تصنعون، فراقبوا الله واتقوا عذابه، واعلموا أنه يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، والله يعلم ما تبدون وما تكتمون. وكل أمر في القرآن للمؤمنين فهو كذلك للمؤمنات، ولكنه أعيد الحكم هنا مع المؤمنات لأن النساء في أشد الحاجة إلى ذلك، على أن الحكم من أخطر الأحكام التي تقتضي التفصيل والبيان. وقل: أيها القائد والمربى والمشرف على المؤمنات وتربيتهن والإرعاء عليهن سواء كنت حاكما أو زوجا أو معلما قل لهن يغضضن من أبصارهن، ويمنعن بعض أبصارهن عن النظر أما النظر جملة فمنعه شاق وعسير، ولقد صدق رسول الله حيث يقول: «لك الأولى وعليك الثّانية» أى لك النظرة الأولى دون الثانية، فالمنهى عنه النظر الذي يتجاوز الحد المعروف شرعا. وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن، ويحفظن فروجهن، ولا يبدين مواضع الزينة منهن، وإنما نهى القرآن عن الزينة والمراد مواضعها للمبالغة في المنع، إلا ما جرت به العادة بكشفه لاقتضاء الضرورة ذلك كالوجه والكفين، لأنه لا غنى عن كشفهما. وقد كانت العادة المتفشية في الجاهلية أن تكشف المرأة عن نحرها وصدرها وللأسف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 674 أصبحت هذه العادة متفشية في مجتمعنا الحاضر- ولذا خصها الله بالذكر وإن كان في الحكم السابق يشملهما لاقتلاع تلك العادة السيئة التي يقع فيها كثير من الناس. وكان قوله تعالى: وَلْيَضْرِبْنَ للإشارة إلى معنى الإلصاق والملازمة التي لا تنفك كضرب الخيمة في المكان. وقوله تعالى: وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ، زيادة التقرير والتأكيد وتوطئة للاستثناء الآتي، فليس تكرارا لما مضى. وها هم أولاء الذين استثناهم الله فجاز أن تكشف المرأة زينتها لهم فيما عدا السرة والركبة فكأن الله يقول: ولا يبدين زينتهن لأحد إلا لبعولتهن الآية. 1- الأزواج لأنهن أحق الناس بألا يستر عنهم شيء، ولأنه يباح لهم النظر إلى جميع البدن ما عدا الفرج، وكذلك الاستمتاع بكل أنواعه الحلال ولذا قدمهم على غيرهم. 2- آباؤهن: وكذا الأجداد، سواء كانوا لأب أو لأم. 3- أبناء بعولتهن. سواء كانوا ذكورا. أو إناثا. 4- الإخوة: الأشقاء أو لأب، أو لأم. 5- أبناء الإخوة: كذلك، ويلحق بهؤلاء المذكورين الأعمام والأخوال وهذا الحكم يجرى في الأقارب من جهة النسب كما تقدم، وفي الأقارب من جهة الرضاع وهؤلاء يسمون المحارم. وقوله تعالى: أو نسائهن أى الحرائر من المسلمات، أما الإماء فسيأتى حكمهن، وأما المرأة الكافرة فهي من المسلمة كالأجنبى، وقيل كالمسلمة. أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ ظاهر الآية يشمل العبيد والإماء المسلمات والكتابيات، وهو رأى لبعضهم، وقال ابن عباس لا بأس أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته، وقال سعيد بن المسيب: لا تغرنكم هذه الآية أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ إنما عنى بها الإماء ولم يعن بها العبيد، وكان الشعبي يكره أن ينظر المملوك إلى شعر مولاته أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ وقد اختلف العلماء في المراد بهذه الآية فقيل: هم المسنون الضعفة الذين يتبعون الناس ليصيبوا من فضل طعامهم، أو هم البله الذين لا يفهمون من أمور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 675 النساء شيئا، أو هو العنين أو الممسوخ، وهذا الاختلاف كله متقارب المعنى لا فهم له ولا اتجاه عنده إلى أمر النساء. أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ والمراد الأطفال الذين لم يفهموا عورات النساء، ولم تظهر فيهم الغريزة الجنسية لصغر سنهم، وإنما يكون هذا دون البلوغ. وفي النهاية ختم الآية بقوله: وإياكم أيها النساء أن تضربن بأرجلكن ليعلم ما تخفين من الزينة، والمعنى عليكم ألا تظهروا ما خفى من مواضع الزينة فيكن، وهذه نصيحة قرآنية للنساء خالصة لهن خاصة بهن، فإن بروز المرأة من خدرها، وإظهار ما خفى من زينتها، وعرضها جمالها وجلالها في السوق والشارع كان له عميق الأثر من انصراف الشباب عن الزواج، فلقد صدق من يقول: أحب شيء إلى الإنسان ما منع. ولسنا نقول: إن المرأة يجب أن تكون في السجن، لا، بل نقول لها اخرجى وتعلمي، واقضى حاجتك، ولكن نطالبها بالعفة ونطالبها بالمحافظة على نفسها، ونلح عليها في ألا تبرز زينتها، وألا تعرض نفسها على الناس فيقل طلبها واحترامها والنظر إليها. وتوبوا أيها الناس جميعا مما تلمون به من نظر أو كلام أو اجتماع، توبوا إلى الله وارجعوا إليه لعلكم تفلحون، وهذا ختام جميل، وتذييل دقيق المعنى. ويحسن أن نذكر العورة عند الرجل والمرأة باختصار فنقول: عورة الرجل ما بين سرته وركبتيه بالنسبة للرجال والنساء المحرمات عليه، وهي كذلك في الصلاة وعورة المرأة في الصلاة كل بدنها إلا وجهها وكفيها، وهي كلها عورة بالنسبة للرجال الأجانب وبعضهم يقول: كلها إلا الوجه والكفين ما لم تخف للفتنة. أما المحارم فما بين السرة والركبة، وأما مع الزوج فلا عورة معه أبدا، ويحرم النظر إلى الفرج خاصة من كل منهما، والأمة عورتها كالرجل ما بين السرة والركبة. من علاج أزمة الزواج [سورة النور (24) : الآيات 32 الى 34] وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَإِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَمَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 676 المفردات: الْأَيامى جمع أيم وهو من لا زوج له ذكرا كان أو أنثى، سبق زواج أم لا، وقيل من فقد زوجه بموت أو طلاق فلا يقال للبكر أيم، وقيل: هذا اللفظ خاص بالأنثى الْكِتابَ والمكاتبة هي عقد بين المالك وعبده على أن يؤدى مالا لسيده فيعتق على هذا المال الْبِغاءِ هو زنى النساء خاصة. المعنى: ما مضى في حكم الزنى وفظاعته، وأنه سبة تقتضي عقابا خاصا لمن يسب بها مسلما بدون شهود على فعله، ثم جاءت قصة الإفك، وما فيها من آيات ومواعظ وحكم ومنافع، ثم كان الكلام على الإذن قبل الدخول، وعلى غض البصر كل ذلك لأجل البعد عن الزنى الذي هو من أكبر الفواحش والآثام، وبعد ذلك كان العلاج لهذا الداء الوبيل والخطر الجسيم، وهذا العلاج هو النكاح أى: الزواج الذي هو حرز لنصف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 677 الدين وتنفيس شرعي اجتماعي للغريزة الجنسية، وفي هذه الآيات علاج لأزمة الزواج وقطع لعلل بعض الناس. وأنكحوا أيها الأولياء، والسادة للعبيد، أو هو أمر موجه للأمة جميعا بمعنى التعاون وإزالة العقبات حتى يتم على أكمل صورة، وهل هو أمر للوجوب؟ الظاهر أنه أمر لمطلق الطلب لا للوجوب، إذا لم يقل أحد أن السيد واجب عليه أن يزوج عبده. أيها الأولياء والسادة زوجوا من لا زوج له من الأحرار أو الحرائر، وكذا زوجوا الصالحين من عبيدكم وإمائكم، والمراد بالصالحين هم القائمون بحقوق الشرع الواجبة عليهم من امتثال الأوامر واجتناب النواهي ولا تنظروا إلى المال. وإنما خص الصالحين من العبيد دون الأحرار، لأن الصالح من العبيد هو الذي يستحق أن يطلب من سيده وأن يجاب إلى طلبه. وأما الأيامى من الأحرار فنفقاتهم على أنفسهم فالترغيب في زواجهم محمول على الإطلاق بدون شرط. ولكن نرى كثيرا من الشباب يتعلل بالفقر، ويقول: كيف أتزوج وأنا فقير فيرد الله على هؤلاء بقوله: إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، فالغنى والفقر بيد الله لا بيد مخلوق، وكما أعطاكم ورزقكم متفرقين يعطيكم مجتمعين بالزواج. على أن الزواج قد يكون مدعاة للغنى فالشعور بالمسئولية، وحث الزوجة زوجها على العمل، وأنه صار صاحب بيت وأسرة، وقد تعلق به من هو في حاجة إليه، وقد يصير ذا أولاد بعد زمن، كل ذلك يدفع الرجل إلى العمل والجد والاجتهاد، وهذا يحصل الغنى، وبهذا يتحقق وعد الله، والواقع يؤيد ذلك غالبا. والله واسع الفضل، عليم بالخلق يعطى كما يشاء ويعلم، فقد يتزوج الشخص ثم يظل فقيرا فلا يغتر إنسان بأن الزواج باب موصل مضمون للغنى، وإنما هو مظنة فقط، أو على الأقل هو إزاحة للتعليل الذي يتعلل به البعض. وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أى: ليعمل من لا يجد وسائل الزواج الموصلة إليه على العفة وضبط النفس وعدم الاسترسال في طريق الشهوات والبعد عما يثير الغرائز الجنسية كالاختلاط بالنساء والجلوس إليهن، والتعفف يدخل فيه تقوية الناحية الروحية بقراءة القرآن والصلاة والذكر ومجالسة أهل العلم والجلوس مع الصالحين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 678 والاشتغال بما يفيد الدين ويغرس الخلق الفاضل، والتعفف يكون كذلك بإضعاف الناحية البدنية من شغل الجسم بالأعمال الشاقة والرياضة البدنية العنيفة والاشتغال بالهوايات التي يهواها الشخص أيا كانت بشرط أن تكون حلالا. ولقد جمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم العلاج بقوله: «يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء» والصوم علاج روحي وجسمي وحذار أيها المسلمون من الاندفاع مع دعاة الشر وأتباع الشياطين الذين ينادون بأن الكبت ضار وأن التحلل علاج- وقانا الله شرهم-: وهذا أمر يتعلق بالنكاح أيضا وخاصة الأرقاء فقد يكون الرقيق كبير النفس واسع العقل كبير الهمة فيريد أن يشترى نفسه من سيده بمال ليكون حرّا وهذا غالبا يكون عند شعوره بالحاجة إلى الزواج ذكرا أو أنثى حتى يكون له بيت أو أولاد ويظهر والله أعلم أن هذا هو السر في وضع تلك الآية هنا. والشرع لا يدع فرصة تمر إلا وهو يدعو بإلحاح إلى العتق، وإلى الحرية والذين يبتغون الكتاب والمكاتبة، ويتعاقدون مع سيدهم على إعطائه جزءا من مال منجما على أوقات، فإذا ما وفي صار حرّا، إن حصل هذا فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيرا، واستعدادا طيبا للوفاء، وآتوهم من مال الله الذي آتاكم، وأنفقوا عليهم مما جعلكم مستخلفين فيه، ولا تبخلوا عليهم أبدا، ولحرص الشارع على الحرية، وتحرير الرقاب أمر أن يعطى المكاتب ما لا يستعين به على أداء ما عليه من أقساط، وجعل له حقّا في الصدقات إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَالْمَساكِينِ وَالْعامِلِينَ عَلَيْها وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَفِي الرِّقابِ [سورة التوبة آية 60] أى فك الرقاب. وهذا علاج آخر لمرض كان شائعا مبعثه حب المال والتحكم في الرقيق، فقد كانوا يؤجرون عبيدهم للزنى. وجاء النهى عن تلك العادة بأسلوب شديد، وعبارة قاسية تتناسب مع شناعة الفعلة، فقال: وَلا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً. ولقد نهاهم عن الإكراه، والإكراه أشنع من الإباحة وأفظع، وقال فتياتكم أى في سن المراهقة التي فيها الغرائز على أشد ما تكون، من الميل إلى الفجور وعدم تقدير الأمور، ثم أضافهن إليهم، ومن ذا الذي يقبل أن يكره فتاته المختلطة به وبأهل بيته الجزء: 2 ¦ الصفحة: 679 المنسوبة إليه على الزنى؟!! إنه لمجرد من الشهامة والرجولة، وقد روى أن عبد الله بن أبى كان يفعل هذا! وكان الإكراه في حال أنهن أردن تحصنا وتعففا، يا لله من جرم قبيح تكره فتاتك على الزنى وهي تريد الإحصان والعفة!!! تكرههنّ لأنك تبغى عرض الحياة الدنيا، يا لله من الناس في هذه الأيام!!! ألسنا نسمع الآن أن مصلحة السياحة تريد أن تؤجر سيدات وفتيات يصاحبن السائحين الأثرياء الأغنياء الوافدين علينا، تؤجرهن ليقمن معهم ويصاحبنهم في أسفارهم وحلهم، وخلواتهم.. يا لله من أولئك الرؤساء المتحللين الذين يكرهون الفتيات ويمهدون السبيل إلى البغاء العلنى بحجة الحضارة والمدنية، وللعجب العجاب قام بعض الكتاب والعلماء يطلبون وقف هذا ومنعه رسميا فلم يسمع لهم، بل نفذ الأمر وتم، وقام كاتب فاجر داعر يملك صحيفة وينادى بأن العلماء متأخرون جهلاء ينادون بالرجعية، وهم العقبة في سبيل التقدم!! إننا والله نسأله أن يأخذنا وألا تطول حياتنا في هذه الأيام السود، وماذا نعمل وقد عم الفساد والتحلل الخلقي، بل والدعوة السافرة إلى الاختلاط القبيح في الإذاعة والصحف والكتب والنشرات، ونرى تأييدا لهم من كل جهة تأييدا خفيا، حتى إذا تم الأمر وتمكن الحال جاهروا بإماتة الدين والعادات الإسلامية بحجة أننا في عهد الحرية والتقدم، يا رب أنقذنا من هذا!!! ونحن كالمستجير من الرمضاء بالنار. والخلاصة: إن إكراه الفتيات على الزنا المباشر أو غير المباشر، سواء أردن تحصنا وعفة أم لا جرم كبير وذنب فظيع. ومن يكرههنّ، وهن غير راغبات، فإن الله من بعد إكراههنّ غفور رحيم بهن أما من أكرههن فله جهنم، وبئس المصير، والله أقوى من الجميع ووعد بهذا ووعده الحق وقوله الصدق، والعاقبة للمتقين.. أيها الناس! أيها المسلمون! أيها الشرقيون! لقد أنزل الله لكم آيات تدل على كمال العلم والحكمة، وأنها من الله العزيز الحكيم، وهي شاهدة بصدق الرسول، وتبين لنا الطريق الحق، والقول الصدق الذي ينجينا من المهالك إذ هي علاج صاحب الوجود الخالق للنفوس العالم بالطوايا، ولا يغرنكم ما نصاب به من نظريات وتقاليد للأجانب، فلسنا مثلهم، وليست أجواؤنا، وبيئاتنا كبيئاتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 680 ولقد أنزلنا إليكم آيات مبينات ومثلا من الذين خلوا من قبلكم، وقصصا عجبا، لتعتبروا فهذا يوسف رمى بالزنى وبرأه الله، وهذه مريم البتول رماها اليهود وهي العفيفة الحصان، وها هي ذي عائشة رماها عبد الله بن أبى وهي البريئة بنص القرآن، فهذا كله موعظة وهدى، ولكن للمتقين. الله نور السموات والأرض [سورة النور (24) : آية 35] اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35) المفردات: نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أصل لفظ النور يطلق على النور الحسى الذي تبصر به العين، وقد تعورف في لسان الشرع على أنه ما به الاهتداء والإدراك كَمِشْكاةٍ المشكاة الكوة غير النافذة في الجبل أو الحائط. وقيل: هي ما يوضع فيه المصباح. مِصْباحٌ هو السراج الضخم الثاقب مأخوذ من الصبح الزُّجاجَةُ جسم كالقنديل شفاف صاف كَوْكَبٌ الكوكب الجرم السماوي المضيء دُرِّيٌّ نسبة إلى الدر لصفائه وتلألئه. المعنى: إن من يقرأ تلك الآيات البينات، والأحكام المحكمات، وذلك النظام الدقيق للأسرة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 681 التي هي نواة المجتمع النظيف، ويكرر النظر في ذلك يجد أن ذلك نور لو استضأنا به ما أظلمت حياتنا أبدا، ولما وقعنا في خطر أبدا، وكيف نضل، ومعنا النور الإلهى الذي يهدينا إلى الحق؟!! والله هو صاحب النور في السموات والأرض، هو يهدى إلى الحق، ويهدى إلى طريق مستقيم. واعلم يا أخى أن الهدى والنور- بمعنى الاهتداء- أساس الفوز في الأعمال وأصل النجاح فيها، وعلى الهدى والنور تؤتى الأعمال ثمرتها والمرجو منها، من أجل هذا توسعوا في لفظ النور حتى أطلقوه على كثير من المعاني التي تعتبر أساسا لغيرها في الثمرات فقيل: فلان نور البلد، إذا كان عليه نظامها وإليه يرجع الفضل في تدبير أمرها وترتيب شئونها ويقال لنفس النظام والتدبير: نور فيقال مثلا: قد بنى هذا النظام على نور أى نظام وإتقان. وعلى هذا يمكن أن نفهم قوله تعالى اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الآية على ما يأتى: الله- سبحانه وتعالى- هو صاحب النور في السموات والأرض وهو خالق ذلك النور الحسى فيهما وهو صاحب النور فيها بمعنى أنه هو الذي بث فيهما من كمال النظام وحسن التدبير، ما لو تفكر فيهما إنسان بعقل حر برىء لآمن به إيمانا كاملا وهو- تبارك وتعالى- نور السماء بالملائكة، والأرض بالشرائع وما فطر عليه النفوس من الفطر السليمة التي تهدى إلى الحق، والله- سبحانه وتعالى- نور السماء بالكواكب، والأرض بالأنبياء. ولك أن تقول بالإجمال، الله- سبحانه- هو المدبر لما يجرى في السموات والأرض وهو المبدع لخلقهما، وهو منزل الشرائع وباعث الملائكة بالوحي، والهادي لعباده بالأنبياء والرسل جل شأنه وتبارك اسمه وتقدس في علاه، فهو نور السموات والأرض حقا. وإن أردت أن تتمثل نور الحق- تبارك وتعالى-، وتتصوره بمثال حسى يجلوه لك فهو كمشكاة فيها مصباح قد وضع في زجاجة صافية كأنها كوكب درى. مثل نوره وهدايته التي بسطها للعالمين من أدلة عقلية وسمعية وأحكام صحيحة وفي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 682 قوته وشدة تأثيره ووضوحه: كمشكاة فيها مصباح قوى الإضاءة، شديد التأثير وهذا المصباح في زجاجة صافية، كأنها كوكب مضيء متلألئ كالدر صفاء وتلألؤا، يدفع نوره بعضه بعضا لشدته ولمعانه ووضعه بهذا الشكل، وهذا المصباح يوقد من شجرة مباركة طيبة هي شجرة الزيتون، وليست تقع شرقى شيء كالجبل، ولا غربي شيء كذلك فإنها إن وقعت في هذا الموقع حجب الحاجز عنها ضوء الشمس في أول النهار وآخره فكانت الشجرة ضعيفة، فالشجرة في مكان جيد متمتع بضوء الشمس والهواء الطلق، وذلك أكمل لنضجها وطيب ثمرها. وانظر يا أخى إلى هذا التمثيل، وذلك التصوير الذي أبرز النور في صورة مؤثرة أخاذة للنفس، فقد جعل النور في مصباح، والمصباح في زجاجة، وهو في كورة داخلة، كل ذلك يجعل نوره مسلطا في جهة معينة، مبددا للظلام الحالك الذي يحيط به، وهو أشد روعة من نور الشمس الوهاج الذي لا يحيط به ظلام، ألا ترى إلى البرق الخاطف وأثره في النفس؟ أليس أشد من ضوء الشمس تأثيرا في النفس وإن المصباح وسط الظلمات المتكاثفة لهو أشبه شيء بنور الحق وسط ظلمات الكفر والفسق والعصيان. ولذا وصف الشجرة بأنها مباركة نامية، لا يحجبها عن نور الشمس والهواء الطليق جبل أو حاجز ولعل قوله تعالى: لا شرقية ولا غربية إشارة دقيقة إلى أن نور الإسلام وشرائعه وسط بين طرفين متقابلين وما في شرائع الإسلام شاهد على ذلك وهذا الزيت المستخرج من تلك الشجرة، زيت صاف يكاد يضيء بدون مس النور. تأمل هذا التصوير تجد نفسك أمام نور قد استجمع مظاهر النور، وتجلى في وسط ظلمة زادت بهاء ظهورا، فهو بحق نور، وهذا شأن هداية الله لعباده نور من كل ناحية، وضوء من كل جانب فهو نور متضاعف يزداد كلما نظرت فيه، وحاولت الوقوف على سره. وانظر إلى التصوير الفنى العالي للمصباح وما يحيط به ثم انظر إليه وقد تعرض لمادة النور، وهم لا يعرفون من مادة الاستصباح إلا الزيت، وأجوده زيت الزيتون. وإذا كان هذا هو وصف هداية الله وتمثيلها بالنور الحسى فما بالنا نرى كثيرا لم يهتد بذلك النور، فرد الله على ذلك بقوله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 683 يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ كل على حسب ما جبلت عليه نفسه، وما اختاره الله له، ولا عيب في النور، ولا عجز فيه. ويضرب الله الأمثال للناس: ويبصرهم بما خفى عليهم في صور مختلفة، والله بكل شيء من المحسوس والمعقول والظاهر والخفى عليم، وبه خبير. المنتفعون بنور الحق تبارك وتعالى [سورة النور (24) : الآيات 36 الى 38] فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَالْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقامِ الصَّلاةِ وَإِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38) المفردات: بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ المراد المساجد المرفوعة لذكر الله بِالْغُدُوِّ الغداة والغدو أول النهار الْآصالِ جمع أصيل وهو آخر النهار. وهذا نهاية المطاف بعد الحديث عن الهداية الإلهية فأثرها إيمان المؤمنين وكفر الكافرين، وهكذا كان الناس منهم سعيد، ومنهم شقي. المعنى: يسبح الله، ويقدس له المسبحون في بيوت أذن الله أن ترفع، ويذكر في تلك البيوت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 684 اسمه، و المعنى ينزهه ويقدسه في الصلاة والوعظ والذكر والتفكير في الملكوت وغيره، يسبحون في بيوت أراد الله أن ترفع وأن تكون خاصة لذكره جل شأنه، يسبحونه في أول النهار وآخره، والمراد كل وقت ... رجال. هؤلاء المسبحون رجال لا تلهيهم تجارة، ولا بيع عن ذكر الله، أى ليسوا ماديين نفعيين، بل هم قوم لا تشغلهم الدنيا عن الآخرة بل يذكرون الله، ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة، ويخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار، يوم تتردد فيه النفوس بين الخوف والرجاء فتتقلب القلوب متجهة إلى اليمين والشمال لا تدرى من أين تؤخذ؟ أو من أين تؤتى كتبها؟ أمن اليمين أم من الشمال؟. فهم يسبحون الله ويذكرونه ويقيمون الصلاة ويؤدون الزكاة، ويخافون يوم الحساب ليجزيهم الله على أحسن ما عملوا الجزاء الأوفى، ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب وهو واسع الفضل، وهو على كل شيء قدير. المحرومون من نور الحق [سورة النور (24) : الآيات 39 الى 40] وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40) المفردات: كَسَرابٍ السراب ما يرى في الصحراء نصف النهار في اشتداد الحر كالماء، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 685 وهو يلتصق بالأرض بِقِيعَةٍ القيعة مفردها قاع وهو ما انبسط من الأرض واتسع ولم يكن فيه نبت، وفيه السراب، وأصل القاع الموضع المنخفض الذي يستقر فيه الماء الظَّمْآنُ العطشان لُجِّيٍّ هو الذي لا يدرك قعره، واللجة معظم الماء واللجة أصوات الناس. وهذا مثل للكفار بعد مثل المؤمنين. المعنى: والذين كفروا بالله ورسوله أعمالهم التي يعملونها وفي ظاهرها خير إذا كانوا يوم القيامة وجدها كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، فهذه أعمالهم التي يعملونها من بر أو صدقة أو غيرها لا خير فيها ولا جزاء عليها يوم القيامة فهو أشبه ما تكون بالسراب مع العطشان لا يفيده شيئا، نرى هؤلاء يوم القيامة، قد خاب أملهم وطاش ظنهم وضاع مرتقبهم كالعطاش في الصحراء إذا اشتد بهم العطش ظنوا الماء في السراب حتى إذا ذهبوا إليه لم يجدوا شيئا وهم في أشد الحاجة إلى الماء. وأما ما عمله من سيئ الأعمال، فإنه يراه وقد عظم جرمه، وتراكم ذنبه من جهة كفره وسوء عمله، وبطلان قصده، وضلال نفسه وكأنه قد قذف به في بحر لجي تلاطمت أمواجه، وتراكمت غيومه، واشتد ظلام ليله، فإذا حاول أن يرى يده لم يرها، لأنه فقد نور ربه، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور. وإن هذه الآيات البينات لتوحى لنا أن شرع الله ونظامه هو نور السموات والأرض نور الدنيا ونور في الآخرة والمتبعون ذلك النور هم المنتفعون به الناجون يوم القيامة. وأما غير ذلك النور، وأما التشريع المخالف لذلك التشريع فهو كالسراب مع الظمآن في الصحراء يحسب فيه الخير فإذا ذهب إليه وعمل به لم يجد شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه، والله سريع الحساب. فهل من مدكر؟!! ولا عجب، فإنما يتذكر أولو الألباب ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 686 انقياد الكون لله [سورة النور (24) : الآيات 41 الى 44] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) المفردات: صَافَّاتٍ مصطفات الأجنحة في الهواء، والطير أثناء طيرانه يقبض أجنحته وقد يسطها بلا تحرك يُزْجِي يسوق يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ يجمعه رُكاماً مجتمعا يركب بعضه بعضا الْوَدْقَ قيل: إنه البرق، أو المطر وبكل نطق العرب سَنا بَرْقِهِ ضوء ذلك البرق الذي في السحاب. إذا كان الله أحكم كتاب الكون الناطق بلسان الحال على قدرته وحكمته أفلا يكون هذا دليلا على إحكام كتابه الناطق المنزل على رسوله وخاتم أنبيائه. المعنى: الله نور السموات والأرض، وواهب الهداية للكل، فمن الخلق من انتفع بذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 687 النور، واهتدى بهديه، ومنهم من ضل سواء السبيل، وتراكمت عليه الظلمات حتى إذا أخرج يده (وهي أقرب الأشياء إليه) لم يكد يراها.. والله قد ساق من الأدلة الحسية ما يشهد بذلك ويؤيده، ويبين مدى انقياد الكون كله لله، وفي هذا ما يدل على فرط جهل الكفار، وبيان ضلالهم. ألم تر وتعلم أيها النبي وكذلك كل مخاطب أن الله- سبحانه- يسبح له من في السموات ومن في الأرض، وما بينهما من الطير، ولقد ساق الله هذا بأسلوب فيه استفهام تقريرى وفي ذلك إشارة إلى أن تسبيح الكائنات وانقيادها له- سبحانه- واضح إلى حد أن يرى ويعلم علما لا شك فيه. هذا الكون كله بما فيه من سماء وأرض وفضاء وكل شيء يدل دلالة قوية على تنزيه الحق- سبحانه وتعالى-، ويشهد على ذلك بلسان الحال لا بلسان المقال، وبما أودع فيها من آيات الإبداع والإتقان الدالات على كمال منشئها وعظيم قدرته وحسن تنظيمه وإتقانه. انظر إلى العوالم التي في السماء، والعوالم التي في الأرض، وإلى عالم الطير الذي يعيش في الجو، وما يحويه كل عالم من عجائب تجدها ناطقة على قدرة القادر، ووحدة الصانع، ووصفه بصفات الكمال والجلال: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد وهذا تقرير الربوبية، ولفت النظر إلى الكائنات العلوية والسفلية، وإنما خص الطير حالة كونها صافات أجنحتها بلا تحرك وهي في أجواء الفضاء طائرة لأن ذلك أدل على قدرة الله الصانع. كل كائن في السماء أو في الأرض أو بينهما قد علم الله صلاته وتسبيحه، والله عليم بما يفعلون، فما بالك أيها الإنسان تكفر بربك، وتجحد نعمته ولا تؤمن بكتابه. والله وحده ملك السموات والأرض، وما فيهن، وإلى الله وحده المصير، وإليه المرجع والمآب، والكل منه وإليه. وهذا دليل آخر من أدلة العظمة الإلهية، التي نراها ونلمسها في كل وقت وحين ألم تر أن الله يزجى سحابا أى: يسوق بعضه إلى بعض، ولا غرابة فهو يتكون من الجزء: 2 ¦ الصفحة: 688 البخار الذي يخرج من البحار، ويرتفع إلى أعلى منساقا بعضه إلى بعض، ثم يؤلف الله بين أجزائه ويجمعها حتى يتكون منها سحاب عال مرتفع في طبقات الجو الباردة، وهذا معنى قوله: ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً. فترى الودق أى المطر أو البرق يخرج من خلال السحاب. وهذه السحب المتجمعة في السماء تشبه الجبل، وتراها وقد أنزل منها المطر والبرد فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء بحكمته وقدرته. يكاد سنا برق السحاب يذهب الأبصار لقوته وإن منظر السحاب في تراكمه ثم نزوله مطرا أو ثلجا أو بردا مما يوقظ النفوس الغافلة وينبهها إلى الأدلة الحسية التي تثبت وجود القادر المهيمن على العالم، وإن ظهور البرق الخاطف والرعد القاصف وسط السحاب المملوء ماء لدليل على قدرة الله- جل شأنه- وتصريفه الكامل للسموات والأرض. يقلب الله الليل والنهار، فيتعاقب كل منهما على الآخر، ويأكل كل منهما من أخيه بزيادة أو نقص، وتنقلب الأحوال فيهما من حر وبرد وغيرهما كل هذا يحصل أمام الناس ويشاهدونه، فهل من مدكر؟!! إن في ذلك كله لعبرة وعظة لأولى الأبصار، فهي أدلة مجموعة يكفى لإدراكها البصر فقط، وليست من الأمور العويصة التي تحتاج إلى فكر ونظر وبصيرة. وجود الضلال رغم الآيات الناطقة [سورة النور (24) : الآيات 45 الى 50] وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45) لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46) وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 689 المفردات: دَابَّةٍ الدابة، اسم على لكل ما دب ودرج على وجه الأرض، وقد يستعمل في العرف العام: خاصة بذوات الأربع يَتَوَلَّى يعرض مُذْعِنِينَ طائعين منقادين ارْتابُوا شكوا يَحِيفَ يجور ويظلم. وهذا من تتمة الأدلة على كمال القدرة، وتمام العلم والحكمة، مع التعرض لبعض من عميت بصائرهم فلم يهتدوا بنور الحق كالمنافقين. المعنى: والله- سبحانه وتعالى- خلق كل دابة تدب على الأرض من إنسان وحيوان، وطير، ووحش، وغيرها. خلق كل ذلك من ماء، وهل هو المنى الحيواني الذي يخرج من كل كائن حي للقاح؟ أم المراد بالماء العنصر المعروف، بناء على أنه داخل في قوام كل حيوان، ولا غنى عنه في تخلق الحيوان وحياته، كل هذا يصح. وأيّا ما كان فإن هذه الآية تشبه في الدلالة على باهر القدرة، قوله تعالى: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ [سورة الرعد آية 4] فقد خلق الكل من الماء ثم باين بين الأنواع مباينة تامة، وفي هذا دلالة على كمال القدرة. فمنهم من يمشى على بطنه، وهذا النوع أظهر في الدلالة حيث يمشى بلا رجلين ومنهم من يمشى على رجلين، ومنهم من يمشى على أربعة أرجل، وقد عبر بمن وهي للعقلاء تغليبا ثم عبر في كل نوع بها للمشاكلة فإن من يمشى على رجلين يدخل فيه الإنسان والطير فعبر بمن تغليبا، وعبر بها في غيره المشاكلة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 690 يخلق الله خلقه على ما يشاء ولا غرابة في ذلك. إنه على كل شيء قدير. بعض العلماء يرى أن هذا المثل ضرب للكفار إذ هم يمشون على بطونهم وقد ضرب للمنافق ما يمشى على أربع وضرب للمسلم المنتفع بنور الله من يمشى على رجلين والله أعلم. لقد أنزل آيات دالات على كمال القدرة منها ما ذكر هنا، وهذه الآيات مبينات للحق والهدى، ظاهرات في نفسها، ولكن لا يهتدى بها إلا من يشاء الله له الهداية، لأنه بطبعه يميل إليها وهو يستحقها، والله- سبحانه- يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا وذلك الفضل من الله وكان الله عليما حكيما، وهو على كل شيء شاءه قدير. بعد أن ساق- جل شأنه- من الأدلة والبراهين، ما يثبت الإيمان الحق، في قلوب الناس، وينفى الشك والريب. شرع- جل جلاله- يبين أن هذه الآيات وإن تكن بينة واضحة في نفسها مبينة وموضحة حقيقة الشرع، إلا أنها لا تكفى وحدها بل لا بد من هداية من الله وتوفيقه لمن يشاء، حتى يظل الإنسان طامعا في عفوه، غير خارج عن حظيرة الرجوع إلى الله في كل شيء، وهذه قصة بعض المنافقين، الذين يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم يؤمنون باللسان ثم لا يرضون بحكم الله، وهؤلاء قد ضلوا سواء السبيل. ولعل ذكر أوصافهم صريحة مما يقوى تمثيلهم بالحيوان. روى أن رجلا من المنافقين كان بينه وبين يهودي خصومة، فدعاه اليهودي إلى التحاكم إلى رسول الله، ودعاه المنافق إلى التحاكم إلى كعب بن الأشرف فرارا من الحكم الحق الذي سيحكمه رسول الله ثم انتهى الأمر، وتحاكما إلى رسول الله فحكم لليهودي، لأنه صاحب الحق، ورسول الله لا يحكم إلا به ولو على أقرب الناس إليه، فرضي اليهودي بذلك، ولم يرض المنافق، وتحاكما إلى عمر طمعا فيه فقال له اليهودي: قد تحاكمنا إلى رسول الله ورضيت ولم يرض زميلي فقال عمر: أهذا حصل، قال المنافق: نعم، فضرب عمر رقبته بالسيف حيث لم يرض بحكم رسول الله!!. وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 691 والمعنى: من الناس من يقول بلسانه بدون اعتقاد: آمنا وأطعنا ثم يتسلل فريق منهم ويعرض عن حكم الله الذي هو مقتضى قوله آمنا وأطعنا، وانظر إلى قوله: ثم التي تفيد العطف ولكن مع التراخي في الترتيب إذ بعيد على العاقل أن يقر بالإيمان والطاعة ثم يعرض عن حكم الله ورسوله وما أولئك بالمؤمنين أبدا. أليس هذا كافيا؟! لمن يدعى الإيمان ثم يجاهر بالرضا عن الحكم بغير كتاب الله وسنة رسوله!! إنه بلا شك في الدرك الأسفل من النفاق العملي: وإذا دعوا هؤلاء إلى الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ليحكم بينهم إذا فريق- وقد يكون كبيرا- منهم معرضون، وكيف يقبلون التحاكم إلى الله؟ الله يحكم بشدة على الزاني والسارق وشارب الخمر، والذي يسب المحصنات الغافلات، ويحرم الاختلاط، والسفور، ويقول للمؤمنين وللمؤمنات: غضوا من أبصاركم واحفظوا فروجكم وأنفسكم عن الفاحشة. فلا يقبل هذا ولا يرضى به إلا كل مسلم عفيف، وكل محصنة عفيفة، أما من يريد الإباحية، والفوضى الخلقية، فيتعلل بأنظمة واهية، وتقاليد غريبة بالية لا تصلح لنا ولا تعيش في جونا، وما أشبه الليلة بالبارحة. فأولئك هم الذين ينفقون النفس والنفيس في سبيل عرقلة الدعوة إلى الحكم بكتاب الله، وأصارحكم يا إخوانى أن هناك عدة جهات همها وعملها في الشرق إماتة كل حركة إسلامية فإنها العدو اللدود للاستعمار. ومن الغريب أن يخدع بعض الشباب المسلم بهذا، وينادى بما ينادى به أولئك القوم، ولكن لا غرابة فالله يهدى من يشاء إلى صراط مستقيم. هؤلاء الذين لا يرضون الحكم بكتاب الله يقول الله في شأنهم: أفي قلوبهم مرض؟ أم ارتابوا؟ أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله؟ ... بل أولئك هم الظالمون ... نعم فهم لا يخرجون عن واحد من هذه الفروض ليخلص أن الباعث الحقيقي هو ظلمهم وتوغلهم فيه وحدهم. ومعنى الآية: أعميت بصائرهم فلم يدركوا هذا النور الذي ملأ السموات والأرض؟!! .. بل أهم في شك من أمره صلّى الله عليه وسلم، فلا يدرون أحق ما جاء به أم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 692 باطل؟!! بل ألحقهم الخوف من أن يحيف عليهم حكم الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما شعروا به من ضلالهم وظلمهم؟!! كلا! وألف كلا! لم يكن شيء من ذلك عند من أعرض عن حكم الرسول قديما وبدليل أنهم يأتون إليه مذعنين عند ما يعلمون أن الحكم في جانبهم، وأنهم لا يتكلفون شيئا. فهل هذا إلا لشيء واحد هو ظلمهم، وتمسكهم به، والاستفهام في الآية لإنكار أن يكون السبب غير الظلم فقط وتمسكهم به. وانظر إلى مكانة الرسول صلّى الله عليه وسلّم حيث جعل مع الله في سلك واحد في قوله وَإِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ فقد بينت الآية أن حكم الرسول هو حكم الله فهل يعقل أن من هذا وضعه مع الله- سبحانه- يحيف في الحكم، أو ينطق عن الهوى أو بالإثم؟!!. رب إن الهدى هداك وآيا ... تك نور تهدى بها من تشاء هؤلاء هم المؤمنون الممتثلون [سورة النور (24) : الآيات 51 الى 54] إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَأَطَعْنا وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52) وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 693 المفردات: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ قدر طاقتهم من اليمين وَيَتَّقْهِ أى: ويتق فالهاء للسكت. المعنى: لقد مضى الكلام في المنافقين المترددين في قبول حكم الله وحكم رسوله، الذين يسيرون مع الإسلام إذا كانت لهم مصلحة، فإن ابتعدت المصلحة ابتعدوا عن الإسلام وركبه، واعلم يا أخى أن هذه أمراض لا زلنا نراها في كثير من الناس؟ أما المؤمنون الصادقون فها هو ذا قولهم الحق الناشئ عن إيمانهم الصدق، إنما كان قول المؤمنون إذا دعوا إلى الله ورسوله في أى شيء يتعلق بهم وبخاصة في الحكم بكتاب الله وسنة رسول الله، إنما كان قولهم أن يقولوا بألسنتهم وقلوبهم: سمعنا وأطعنا، أى: سمعنا دعوتكم للتحاكم لرسول الله وشرعه، وأطعناكم فيما تطلبون، وتلك مقالة المؤمنين الواثقين المتمكنين. ومن يطع الله ورسوله في أمور الدين كلها، ومن يخش الله أى: يخف عذابه وعقابه فيما مضى من الذنوب، ويتقه فيما يستقبل منها فأولئك هم الفائزون وحدهم، لأجل اتصافهم بطاعة الله وطاعة رسوله وبخشيته وتقواه. ثم عاد الكلام إلى الفريق الأول من المنافقين، وما أكثرهم في كل زمان ومكان وأقسموا بالله جهد طاقتهم من الأيمان لئن أمرتهم ليخرجن إلى العدو أو ليخرجن من أموالهم بالصدقة، فيرد الله عليهم قائلا: قل لهم: لا تقسموا ... طاعتكم معروفة. فأنتم تطيعون في السهل من الأمور كالصلاة مثلا، أما صعبها كتحكيم كتاب الله أو الجهاد أو الشيء يحتاج إلى بذل وعطاء فلستم معنا إن الله خبير بما تعملون. قل لهم يا محمد: أطيعوا الله وأطيعوا رسوله في كل ما فرض الله وسن رسوله، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 694 فإن تولوا واعرضوا فلا شيء أبدا، إذ لا تذر وازرة وزر أخرى فإنما على الرسول ما حمل، وعليه تنفيذ ما طلب منه، وعليكم إثم ما طلب منكم، ولم تقوموا بأدائه. وإن تطيعوا الرسول تهتدوا وما على الرسول إلا البلاغ فقط وما يتصل به: وليس عليه الهداية والحساب فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ [سورة الغاشية 21- 26] . دولة المؤمنين [سورة النور (24) : الآيات 55 الى 57] وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57) المفردات: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ ليجعلنهم خلفاء فيها وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ليجعلنه ممكنا بتثبيت قواعده وإعزاز جانبه مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أى: لا تلحقهم قدرة الله. لما كشف الله سر المنافقين، وفضح حالهم، وعرفهم المؤمنون، وكان في ذلك تقليل لعددهم، وأراد الله أن يطمئن المؤمنين، ويشد أزرهم ببيان مكانة الدولة الإسلامية بين الدول. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 695 المعنى: - وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليجعلنهم خلفاء الله في أرضه ووعده ناجز، وقوله صادق فالله لا يخلف الميعاد وقد شرط الله ذلك بالإيمان والعمل الصالح فإن تحقق الشرط تحقق المشروط، والعكس صحيح، وقد حقق الله وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فاستخلف المؤمنين في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، ومكّن لهم دينهم، وبدلهم من بعد خوفهم أمنا. ولا يزال هذا شأن كل أمة مسلمة تؤمن بالله حقا وتعمل الصالح الذي أمر الله- تعالى- به. ونهى عن غيره، فأقاموا العدل والنظام وحكموا بما أمر الله، وأخذوا الحيطة لأنفسهم كجماعة ودولة. والتمكين لهم في دينهم بإعزاز جانبه. وإرساء قواعده. وتقوية حجته. حتى يقبلوا عليه بنفوس اشتراها الله ليكون لهم الجنة فيجاهدون في سبيله بأموالهم وأنفسهم ابتغاء رضوانه. وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً اعلم يا أخى أن المؤمنين بالله في كل عصر وزمن قلة بالنسبة لغيرهم فيريد الله أن يقلع جذور الخوف من قلوبهم. ويملؤها. إيمانا ويقينا وثباتا بنصر الله ومعونته وتأييده ودفاعه عنهم. ليعلموا أن النصر والنهاية الحسنة لهم ما داموا مؤمنين عاملين. عابدين حقا لا يشركون به شيئا. والإشراك بالله باب واسع يشمل الشرك في العقيدة كالمشركين والوثنيين، ويشمل الشرك في العمل كالمرائين والمتكبرين والمعجبين. ولقد وعد الله المؤمنين أن يخلفهم في الأرض وأن يمكن لهم في دينهم وأن يبدل خوفهم أمنا إذا آمنوا إيمانا عميقا. وعملوا عملا وثيقا. وعبدوا الله عبادة خالصة يتحقق فيها قوله تعالى. إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ. ومن كفر بعد ذلك البيان الكامل الذي ينير الطريق. فأولئك هم الفاسقون الخارجون عن حدود الدين الصحيح وفي هذا تهديد ووعيد. أيها المؤمنون إن العمل الصالح له دعائم. هي إقامة الصلاة التي هي عماد الدين التي تجر إلى فضائل كثيرة. وتنهى عن رذائل كثيرة، ولا تعترض بما يفعله بعض المصلين الجزء: 2 ¦ الصفحة: 696 من الخروج عن حدود الدين. فأولئك يأتون بصلاة لا روح فيها. صلاة من غير عقل إذ قد خلت من الخشوع والخضوع. وكمال الاستحضار الدعامة الثانية الزكاة فالصلاة لتقويم الفرد أولا ثم المجموع ثانيا. والزكاة لتقويم الجماعة. وتصفية الضمائر، وتقوية الأواصر. وتجعل الأمة كالبنيان المرصوص لهذا قرنت دائما بالصلاة في القرآن. وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون. وفي هذا إجمال لكل ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم لعلكم بعد هذا ترحمون وتلك هي الدعامة الثالثة. لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وفي هذا تبديد لمخاوفهم وتطمين لنفوسهم حتى لا يرهبون أعداء الله مع كثرتهم وقوتهم فإن الله معهم وناصرهم وهو القوى القادر فلا تظنوا أن الكفار مهما كانوا يعجزون الله هربا بل هم في قبضة الله، في الدنيا، وأما في الآخرة فمأواهم النار وبئس المصير مصيرهم. والخلاصة أن دولة المؤمنين وعزهم وسلطانهم مشروط بالإيمان والعمل الصالح والعبادة الخالصة بلا إشراك مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول في كل ما جاء به فإن تخلوا عن ذلك أو عن جزء منه أصابهم الوهن والعجز والانحلال وتحكم فيهم عدوهم وعدو دينهم. آداب لمن يعيشون في بيت واحد [سورة النور (24) : الآيات 58 الى 60] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 697 المفردات: الظَّهِيرَةِ وقت الظهر لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ أى: لم يحتملوا، والبلوغ الذي هو مناط التكليف يكون بالاحتلام أو ببلوغ السن خمس عشرة سنة طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أى يطوفون عليكم وَالْقَواعِدُ النساء قعدن لكبرهن وضعفهن مُتَبَرِّجاتٍ التبرج الظهور والتكشف. المعنى: تلك آداب خاصة لمن يعيش في أسرة كبيرة في بيت واحد، ويكون فيه الإخوة والأولاد والخدم والعبيد مثلا، فالواحد منهم لم يدخل بيتا غير بيته حتى تشمله الآيات السابقة الخاصة بالاستئذان، وما من شخص إلا وله أحوال داخلية، لا يجب أن يطلع عليها إنسان، ولو كان ابنه، لهذا لم يتركنا القرآن الكريم الذي هو الدستور الإسلامى الإلهى بل أنقذنا من ذلك الحرج فقال: يا أيها الذين آمنوا: ليستأذنكم المملوكون لكم والذين لم يبلغوا الحلم منكم ثلاث مرات وكون الصبى غير مكلف لا يمنع أن وليه يعوده على ما يطلب منه من الآداب والحقوق ألا ترى إلى قول الرسول: «مروا أولادكم بالصلاة لسبع واضربوهم لعشر» . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 698 أما الأوقات الثلاث فهي: من قبل صلاة الفجر حين يستيقظ من نومه ويهب من فراشه، فيخلع ثوبا ويلبس ثوبا، ولعله بحاجة إلى خلوة في هذه الحال، ومن بعد صلاة العشاء حيث يكون قد فرغ من عمله، وتخلى عن تكاليف الحياة وأوى إلى أهل بيته ليأنس بهم، ويأنسوا به، وهو يستعد إلى النوم، وربما لبس ثيابا خاصة، ولا منغص له أكثر من طارئ يفاجئه على هذه الحال مهما كان، ولو كان صغيرا ما دام يعقل، ولم يتعرض لما بين الوقتين لندرة الدخول حينئذ ويمكنك أن تفهم بالإشارة استحباب تعجيل النوم عقب صلاة العشاء والتبكير باليقظة قبل صلاة الفجر فذلك أعون على انتظام الصحة العامة الوقت الثالث: حين تضعون ثيابكم من الظهيرة. وليس محددا كأخويه إذ القيلولة قد يتعجلها إنسان. ويتأخر بها آخر. فلذلك قال وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ. هي ثلاث عورات لكم. وهذا تعديل للحكم. وبيان لحكمة التشريع. والعورات كل ما يكره الإنسان أن يطلع عليه غيره. أما في غير هذه الأوقات، فلا حرج ولا جناح عليكم فإن الإنسان في بيته حيث لم يكن في حجرته الخاصة لا يسوؤه أن يراه أحد من خدمه وأولاده مثلا بلا استئذان على أن من في البيت يطوفون عليكم بعضكم على بعض فلو استأذنوا لشق عليهم ذلك كذلك يبين لكم آياته الكاملة والله عليم بخلقه حكيم في حكمه يضع الأمور في نصابها. وإذا بلغ الأطفال منكم الحلم أى: بلغوا سن التكليف فليستأذنوا كما استأذن الذين من قبلهم في الآيات السابقة لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها وهذا علاج لبعض البيوت غير المحافظة التي ترى أن الطفل وإن شب وترعرع فلا مانع من الاختلاط لأنه كان صغيرا وكانوا يطلعون عليه فهذه الآيات تمنع تلك العادة. والقواعد من النساء وهن من قعدن في البيوت أو كان أغلب أحوالهن القعود ولا يطمع فيهن لكبرهن ولا جناح عليهن ولا حرج في أن يضعن ثيابهن التي لا يفضى خلعها إلى كشف العورة مثل القناع والجلباب الذي يلبس فوق الملابس الداخلية، حالة كونهن غير متبرجات بزينة، وهذا المعنى هو الحد الفارق بين من يخشى منها الفتنة ومن لا يخشى منها ذلك، فالثانية لا جناح عليها أن تضع ثيابها التي لا تكشف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 699 العورة بشرط عدم التبرج بالزينة ومع هذا فالاستعفاف، والاحتياط بالستر خير لهن وأكمل نسأل الله أن يوفقنا إلى العمل بكتابه وإرشاداته وأن يعصمنا من الزلل. آداب إسلامية [سورة النور (24) : آية 61] لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61) المفردات: حَرَجٌ الحرج الضيق، وفي لسان الشرع هو الإثم والذنب أَشْتاتاً متفرقين مُبارَكَةً كثيرة الخير. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 700 المعنى: أراد الله- سبحانه وتعالى- وهو أرحم الراحمين بنا ألا يتركنا نتخبط في شيء حتى في الأمور العامة التي هي من المباحات وليست من العقائد والعبادات، أراد الحق- جل شأنه- أن يرسم لنا الطريق، ويؤدبنا بأدب الإسلام العالي في الأكل والشرب مع غيرنا. وقد كان بعض الناس يأنف من الأكل مع الأعمى والأعرج والمريض مثلا حرصا على نفسه، أو حبّا في أن يتمتع صاحب العلة كل حسب ما يريد، فجاء القرآن ونفى الحرج والإثم عن ذلك وقال ما معناه: ليس على الأعمى والأعرج والمريض حرج وليس عليهم إثم في أن يأكلوا مع الأصحاء، وأن يجتمعوا معهن على مائدة واحدة، إذ الأمر أوسع مما تظنون أيها المتزمتون فالله يربينا على أن مسائل الأكل والشرب من توافه الأمور وبسائطها التي يجب ألا يعنى بها المسلم إلى هذه الدرجات لأننا نأكل لنعيش ولنقيم أودنا، ولسنا في الدنيا نعيش لنأكل كالبهائم والكفار. والخلاصة: ليس على هؤلاء حرج في أن يأكلوا مع غيرهم من الأصحاء، وكذلك لا حرج على من يؤاكلهم على مائدة واحدة، وليس عليهم حرج أن يأكلوا من بيوت غيرهم حيث أباحوا لهم ذلك في غيبتهم. وقوله تعالى: وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ إلى آخر الآية إنما هو توسعة على الناس، وبيان لما تقتضيه أواصر الصلات والمحبة بين الأفراد، والآية أباحت لنا أن نأكل من أحد عشر موضعا بلا إذن حيث نعلم أنه لا يتألم، ولا تشح نفسه لذلك بل يسر فإن عرفت أن قريبك يتألم من أكلك طعامه في غيبته فإياك أن تأكل منه وكن عفيفا، والأحد عشر هم: (1) الأكل من بيوتنا، ولعله أراد بيوت أبنائنا، فإن مقتضى الصلة الأكيدة التي بين الأب وابنه أن يجعل من بيوت الأبناء بيوتا للآباء. (2) أو بيوت آبائكم. (3) أو بيوت أمهاتكم. (4) أو بيوت إخوانكم. (5) أو بيوت أخواتكم. (6) أو بيوت أعمامكم. (7) أو بيوت عماتكم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 701 (8) أو بيوت أخوالكم. (9) أو بيوت خالاتكم. (10) أو ما ملكتم مفاتحه، كأن تكونوا وكلاء عن أصحاب المال مثلا. (11) أو بيوت صديقكم، ومحل ذلك كله إذا كنت تعلم أنه يسر ويرضى كما هو مقتضى الصلة والصداقة والأخوة الإسلامية، فإذا ظننت أنه لا يرضى فحرام عليك الأكل لقوله صلّى الله عليه وسلم. «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا عن طيب نفسه» . والواقع يؤيد ذلك فإن من يأكل الطعام في غيبة صاحب البيت يعتبر هذا عملا يسر له صاحب البيت بل ربما كان مثل هذا العمل من دواعي إزالة بعض ما في النفوس. ليس عليكم أن تأكلوا جميعا أى مجتمعين أو أشتاتا أى: متفرقين فلا حرج عليكم في هذا أو ذاك. فإذا دخلتم بيوت الأقارب والأهل والأصدقاء فسلموا على من فيه بتحية الإسلام، وهذا أدب قرآنى أى إذا دخلتم بيتا أبيح لكم دخوله كبيت أبيك أو أخيك أو صديقك مثلا فلا تتهجم وتدخل بلا إذن بل عليك أن تستأذن وتسلم على من فيه بتحية الإسلام تحية من عند الله مباركة نامية كثيرة الخيرات والبركات. على هذا النحو من البيان الرائع والأدب العالي، والتوجيه السليم جرت عادة القرآن الكريم أن يبين الله آياته فيه فتملأ قلوبنا حكمة، ونفوسنا رحمة، وحياتنا تنظيما وكل هذا لعلكم تعقلون فيزداد تمكنكم بها، وتعلقكم بأهدابها، ويكثر شكركم من أجلها والله أعلم. من آداب الجماعة نحو الرسول صلّى الله عليه وسلم [سورة النور (24) : الآيات 62 الى 64] إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62) لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 702 المفردات: جامِعٍ أمر مهم يحتاج إلى الاجتماع والتشاور دُعاءَ الرَّسُولِ طلب الرسول لهم أن يجتمعوا يَتَسَلَّلُونَ التسلل الخروج خفية لِواذاً أى: متسترين بعضهم ببعض. المعنى: كان هذا خير ما يختم به تلك السورة العظيمة التي عالجت علاقة الناس مع بعضهم وبخاصة في الأسرة والبيوت وها هي الآن تعالج أدب الجلوس مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في أمر هام. إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله، وإذا كانوا مع النبي مجتمعين على أمر هام جامع، اجتمعوا فيه للتشاور وأخذ الرأى، لم يذهبوا حتى يستأذنوه، فالانصراف في هذه الحالة ضار بالشخص نفسه لحرمانه من شهود مجتمع هام، وضار بالمجتمعين أنفسهم، لما يلقيه من الوهن والضعف، وشديد على النبي صلّى الله عليه وسلّم لحرصه على هداية قومه، وانتفاعهم بكل مجالسه، لما فيها من الخير النافع لهم في دينهم ودنياهم، والآية الجزء: 2 ¦ الصفحة: 703 قد حصرت المؤمنين في من اجتمع فيه ثلاث خصال: الإيمان بالله، والإيمان برسوله، والتزام مجتمعه صلّى الله عليه وسلّم إذا كان أمر مهم فلا يذهب شخص حتى يستأذنه. وفي هذا بيان لما يجب أن يكون عليه المؤمنون مع النبي صلّى الله عليه وسلم، وهذا الحكم يجرى مع الجماعة ورئيسها العام أم الخاص. فالذين يذهبون ولا يستأذنون أولئك هم المنافقون، وليسوا من الإيمان في شيء وهذا ما يوافق سبب النزول، فقد روى أن الآية نزلت في قوم منافقين كانوا ينصرفون عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أثناء الخطبة عند ما كانوا يحسون بالحرج والألم وقت أن يشرح النبي حال المنافقين. إن الذين يستأذنونك، أولئك الذين يؤمنون بالله ورسوله، فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم، واستغفر لهم الله، وهذا يجعلنا نقول إن الاستئذان يكون للأمر المهم لا لكل أمر عارض، إن الإذن موكول للرئيس إن شاء أذن وإن شاء لم يأذن والمفروض فيه أنه يعالج ما يعرض له حسب الحكمة، ويحسن بنا ألا ننصرف- ولو بإذن لبعض الشئون الهامة- حيث كان الاجتماع لأمر مهم يتعلق بالجماعة، وقوله تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ يفيد أن الإذن مهما كانت دواعية مما يقتضى الاستغفار. يا أيها الناس لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم لبعض فإن النبي حينما يدعوكم لأمر يتعلق بدينكم أو بدنياكم يجب أن تأخذوه على أنه أمر مهم واجتماع من المصلحة العامة ألا تحرموا منه، ويجب أن تتقبلوه بصدر رحب ولا تظنوه كدعوة بعضكم لبعض في توافه الأمور، ودعاء بعضكم لبعض المراد منه دعاء من ليس له ولاية عليكم، فمتى ثبتت الولاية لشخص ثبت له الحكم، واعلموا أن الله يعلم الذين يتسللون ويخرجون خفية متسترين ببعض بلا إذن، وسيجازيهم على ذلك. فليحذر الذين يخالفون خارجين عن أمره- سبحانه وتعالى- مهما كان ليحذروا أن تصيبهم فتنة في دينهم أو دنياهم أو يصيبهم عذاب أليم، وهذا تهديد شديد نشفق منه على الأمة الإسلامية ولعل ما يصيبنا من فتنة راجع لمخالفتنا أوامر القرآن في كل شيء. وهذه الأوامر والتكاليف التي في السورة كلها يجب عليكم أن تتنبهوا لها، وتعملوا بها فإنها صادرة ممن يملك السماء وما فيها، والأرض وما عليها، ويعلم ما أنتم عليه من سر وجهر، ويوم يرجع الناس إليه فينبئهم بما عملوا ويجازيهم عليه، والله بكل شيء عليم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 704 سورة الفرقان مكية: وآياتها سبع وسبعون وقيل هي مكية إلا آيات 68، 69، 70 فقط. لقد تكلم الله في هذه السورة على التوحيد الخالص له وعلى القرآن. وعلى النبوة، وأحوال القيامة، وختمها بوصف العباد المؤمنين، كما افتتحها بالكلام على إثبات الصانع ووصفه بالجلال والكمال، وتنزهه عن النقص وما هو محال، وفي خلال ذلك تكلم عن أعمال المؤمنين والكافرين وعاقبتها ... وهدد الكفار بذكر قصص الأمم السابقة. لا معبود بحق في الوجود إلا الله [سورة الفرقان (25) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلا نَفْعاً وَلا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلا حَياةً وَلا نُشُوراً (3) المفردات: تَبارَكَ البركة: الزيادة في الخير وكثرته الْفُرْقانَ هو القرآن نُشُوراً النشور: الإحياء بعد الموت للحساب. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 705 المعنى: البركة لله وحده، والحمد له، فقد تزايد خيره وتكاثرت نعمه وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها وقد تعالى وتزايد عن الكل ذاتا وصفة وفعلا، فالحمد لله- تبارك وتعالى-، وكيف لا..؟ وهو الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا، والقرآن هو الفرقان، لأنه فرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، بل وفرق بين الحضارة التي تنعم الدنيا في ظلها، وبين الهمجية والجاهلية التي كانت ترزح تحت أثقالها، وانظر إلى وصف النبي الكريم بالعبودية حين يضفى القرآن عليه شيئا يرفعه ويجله لتوضع الأمور في نصبها، وليظل المسلم على نور الحق والصراط المستقيم فلا يرفع المصطفى صلّى الله عليه وسلّم عن موضع العبودية لله كما فعلت النصارى مع المسيح، ألم تر إلى قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا إلى قوله: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً على أن في وصف النبي بالعبودية تكريم له وتشريف ونزل الله على عبده القرآن فارقا بين الحق والباطل، ومفرقا في النزول، فكان ينزل منجما تبعا للحوادث، ليكون ذلك أدعى إلى حفظه والتثبت منه وفهمه وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا. ليكون النبي أو القرآن للعالمين جميعا إنسه وجنه في كل زمان ومكان، نذيرا وسراجا منيرا يهدى به الله من يشاء من عباده. تبارك الحق الذي نزل الفرقان، والذي له ملك السموات والأرض، وقد وصف الله- سبحانه وتعالى- نفسه بأنه نزل القرآن، وله ملك السموات والأرض، ولم يتخذ ولدا، ولم يكن له شريك في الملك، وخلق كل شيء فقدره تقديرا، فهذه أوصاف تدل على العظمة واستحقاق العبادة والتقديس. (أ) له ملك السموات والأرض، وإذا كان كذلك فهل يعبد سواه؟ (ب) ولم يتخذ ولدا إذ هو المالك للكل، والملكية تتنافى مع الولدية، فهو غير محتاج للولد في شيء، ولا يشبه أحدا من خلقه في شيء، فهو المستحق وحده للعبادة ولا يصح أن يكون غيره معبودا ووارثا للملك عنه. وفي هذا رد على من ادعى أن له ولدا من النصارى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 706 (ج) ولم يكن له شريك في الملك، إذ له وحده الملك. وهو المنفرد وحده بالألوهية، وهو صاحب الأمر، وإذا عرف العبد ذلك انقطع رجاؤه وخوفه عن الكل، ولا يبقى مشغولا إلا بالحق- تبارك وتعالى-، وفي هذا رد على من زعم أن لله شريكا. (د) وخلق كل شيء فقدره تقديرا، نعم خلق كل شيء مراعيا فيه التقدير والإحكام والتسوية، فقدره وهيأه لما خلق من أجله رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى [سورة طه آية 50] . وإنك يا أخى إذا نظرت إلى هذا الكون وما فيه من عجائب لارتد إليك بصرك، وهو كليل دون إدراك هذه الأسرار العجيبة، ولعرفت أن هذا الكون محكم التقدير كامل التنظيم كالآلة كل جزء فيها يؤدى وظيفته على أتم ما يكون. خذ مثلا الإنسان وما يقوم به من عمل تجده على وضع وشكل مقدر لهذه المهمة العالية والرسالة السامية المطلوبة منه. انظر إلى الجمل تجد له عنقا طويلا، وإلى الحصان ورقبته القصيرة، وإلى الحيوان الذي يعوم في الماء وقد خلق على تصميم وتقدير عجيب ليتمكن من السباحة، ألم تر إلى رجل الفرخة، وما فيها من أظافر تساعدها على نبش التراب باحثة عن رزقها؟ وإلى الإوزة والبطة ورجليهما، وقد صنعت على شكل يساعدها على السباحة في الماء ... والشواهد على ذلك كثيرة ... وقد ثبت بهذا أن ربك العليم الخبير خلق كل شيء فقدره تقديرا، أفتعبدون سواه؟ وتتجهون لغيره؟!! ومع هذا كله فقد اتخذ المشركون آلهة من دونه، وآثروا على عبادة الله- سبحانه وتعالى- عبادة آلهة عاجزة عن كل عمل في الوجود، لا يقدرون على شيء من أفعال الله، بل ولا يقدرون على مثل ما يعمل الناس، حيث لا يفعلون شيئا، ولا يخلقونه، والحال أنهم يخلقون، وإنه لعجيب حقا أن تنحت بيدك وتصنع بنفسك شيئا، لا يحس ولا يسمع ولا يتكلم ثم تعبده من دون الله!!! وهذه المعبودات لا تملك لنفسها نفعا ولا ضرا فما بال نفعها وضرها لغيرها؟، ولا يملكون موتا ولا حياة، ولا نشورا لأحد من الناس! ومن كان كذلك أيليق أن يعبد من دون الله؟ الذي أنزل الفرقان، وله ملك السموات والأرض، وما كان له ولد ولا شريك، وخلق كل شيء فقدره تقديرا!! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 707 شبهاتهم في القرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم والرد عليهم [سورة الفرقان (25) : الآيات 4 الى 9] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً (4) وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6) وَقالُوا مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْلا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَقالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) المفردات: إِفْكٌ الإفك: الكذب البعيد عن الصدق افْتَراهُ اختلقه ظُلْماً هو وضع الشيء في غير موضعه وَزُوراً هو القول الباطل البعيد عن الحق مَسْحُوراً سحر فغلب على عقله. وهذه هي شبهاتهم الواهية، على القرآن، وعلى النبي صلّى الله عليه وسلم، وهذا هو رد القرآن عليهم في ذلك بما يقطع الشك، ويهدى إلى الحق. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 708 المعنى: الله- سبحانه وتعالى- نزل القرآن، وهو كتاب لا ريب فيه، متشابه في البلاغة والبيان، محكم في الحجج والبراهين، تقشعر عند تلاوته قلوب الذين يخشون ربهم ثم تلين لذكر الله، وهذا هو القرآن كتاب الله، وهذا هو موقف المؤمنين منه. أما الذين ختم الله على قلوبهم، وعلى سمعهم، وجعل على أبصارهم غشاوة التعامي عن الحق فيقولون: ما هذا إلا إفك وكذب قد توغل في البعد عن الحق، وقد افتراه محمد من عنده، وأعانه عليه قوم آخرون، هم بعض اليهود. ومن أسلم من أهل الكتاب كأبى فكيهة مولى بن الحضرمي، وعداس مولى حويطب بن عبد العزى، ويسار مولى عامر ابن الحضرمي، ولقد رد الله عليهم هذه الشبهة والواهية بقوله فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. نعم لقد قالوا شيئا إدّا- منكرا عظيما- فقد تحداهم الله على لسان النبي بالقرآن تحديا ظاهرا على أن يأتوا بمثله، مستعينين في ذلك بشهدائهم وأعوانهم من الإنس والجن، فلو كان محمد افترى هذا القرآن، وكذب في نسبته إلى الله، واستعان على ذلك بقوم آخرين، فلم لم تستعينوا أنتم أيها المشركون بهم أو بغيرهم وتأتوا بمثل هذا القرآن؟ وأنتم أهل الفصاحة والبيان، فإن لم تفعلوا، ولن تفعلوا، هذا أبدا رغم شدة تلك النتيجة عليكم فاعلموا أنكم بقولكم إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ.. قد جئتم بظلم وزور من القول لا سند له أصلا، أما أن قولكم ظلم فلأنكم نسبتم القرآن إلى النبي، وهو مبرأ منه لأنه من عند الله، ولا شك أن ذلك ظلم، وأما أنه وزر فلأنكم قلتم كذبا وادعيتم باطلا، وانظر إليهم في شبهتهم الثانية حيث قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا يا لها من شبهة واهية!! أهذا القرآن المحكم الآيات أساطير الأولين وأحاديثهم؟! كتبها النبي صلّى الله عليه وسلّم بمعنى أنه أمر بكتابتها له إذ هو أمى لا يقرأ ولا يكتب، فهي تملى عليه وتقرأ أول النهار وآخره ليحفظها، ويلقى عليكم ما يتلى عليه صباحا في المساء، وما يتلى عليه في الأصيل يقرأه عليكم في الصباح. وقد رد الله عليهم بقوله قُلْ أَنْزَلَهُ على رسوله ربكم الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ وأخفى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أنزله عالم الغيب والشهادة فكيف يكذب عليه النبي في نسبة القرآن إليه، ويتركه وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ والله- سبحانه وتعالى- هو القادر وحده على تركيب مثل هذا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 709 القرآن. وعلى إيجاده كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ومع هذا فالله غفور رحيم لمن يتوب ويرجع عن عناده وكفره. وانظر إليهم، وقد ساقوا صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم زعموا أنها تتنافى مع الرسالة، وهذه الشبهة إن دلت على شيء فإنما تدل على قصر في العقل، وسوء في الرأى، ومادية غالبة أضلتهم السبيل، وأعمتهم عن الصراط المستقيم. (1) يأكل الطعام (2) يمشى في الأسواق. (3) ليس معه ملك من السماء يؤيده. (4) لم يلق إليه كنز ينفق منه. (5) لم تكن له جنات وبساتين يأكل منها. كأنهم فهموا أن الرسالة تتنافى مع البشرية، وكيف يكون رسولا وهو يأكل ويتبرز، ويأتى النساء، ويمشى في الأسواق؟!!، وما علموا أن الرسول بشر أوحى إليه قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ [سورة فصلت آية 6] . إن تعجب فعجب هذا كيف ينكرون الرسالة لبشر من الناس ثم يعبدون حجرا لا يسمع ولا يبصر!!! فكأن الألوهية لا تتنافى مع الجماد والحجر. أما طلبهم أن يكون معه ملك يؤيده في قوله فها هو ذا القرآن هو المعجزة الباقية الشاهدة على صدق الرسول فيما يدعيه عن ربه، وهو المؤيد له والمدافع عنه أما كونه ليس له كنز، وليس له جنة كأغنيائهم ورؤسائهم، فالله أعلم حيث يجعل رسالته! وليس الرسول نائبا عن الأغنياء والأثرياء، لكنه رسول الله إلى الناس، يهديهم ويقودهم إلى الخير في الدنيا والآخرة فمن تتوفر فيه صفات الرسالة هو الرسول. وقال المشركون الظالمون: ما تتبعون إلا رجلا قد سحر عقله، وطاش فكره انظر يا محمد: كيف ضربوا لك الأمثال؟ ووصفوك بهذه الصفات فقالوا: كاذب، أو ساحر، أو مجنون، أو هو رجل يمشى في الأسواق، أو يأكل الطعام.. إلخ ما ذكروه هنا، كل ذلك لينالوا منك، وينفروا الناس عنك، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره، ولو كره الكافرون، وانظر إليهم فقد ضلوا عن سواء السبيل إذ الطعن عليك إنما يتوجه إلى معجزتك أو عملك أو خلقك لا إلى هذه الأشياء التي ذكروها، وهم لا يستطيعون سبيلا إلى إطفاء نور الله، وعدم تأييد رسول الله أبدا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 710 رد عليهم وبيان لحالهم يوم القيامة [سورة الفرقان (25) : الآيات 10 الى 16] تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَزَفِيراً (12) وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَمَصِيراً (15) لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16) المفردات: قُصُوراً القصر في اللغة: الحبس، وسمى القصر قصرا لأن من فيه مقصور عن أن تمتد إليه يد، وممنوع من الأعداء، والعرب ترى البيت من الحجارة قصرا أيا كان، وما يتخذ من الصوف أو الشعر تسميه بيتا سَعِيراً نارا شديدة الاستعار تَغَيُّظاً التغيظ: شدة الغضب وَزَفِيراً الزفير: هو النفس الخارج من جوف الإنسان ضد الشهيق مُقَرَّنِينَ مصفدين بالسلاسل قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم ثُبُوراً هلاكا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 711 المعنى: الله الذي رفع السماء وبسط الأرض، وخلق الإنسان وصوره، هو صاحب الخير والبركات، تبارك خيره، وزادت نعمه، وهو إن شاء جعل لحبيبه المصطفى خيرا مما يطلبون من الكنز والجنة، وجعل له بدل الجنة جنات تجرى من تحت أشجارها الأنهار، ويجعل له القصور الشماء، إذ هو صاحب الأمر إذا قال للشيء كن فيكون وفي هذا رد عليه حث قالوا: أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها ولكنه الله- سبحانه وتعالى- أراد لنبيه عيشة الكفاف مع غنى النفس وقوة الإيمان، وكثرة الصبر. حتى لا يشتغل بدنياه عن دينه، وكيف لا يكون كذلك، والله يعده لتحمل أكبر رسالة في الوجود. وهذه الزعامة والرسالة تتنافى مع الدنيا وزخارفها الفانية. وفي رواية سفيان عن حبيب بن أبى ثابت عن خيثمة قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلم: إن شئت أن نعطيك خزائن الدنيا ومفاتيحها، ولم يعط ذلك من قبلك ولا يعطاه أحد بعدك، وليس ذلك بناقصك في الآخرة شيئا، وإن شئت جمعنا لك ذلك في الآخرة فقال النبي: «يجمع ذلك لي في الآخرة» فأنزل الله- عز وجل- هذه الآية. وفي رواية. يا رضوان- حينما عرض عليه ذلك- «لا حاجة لي فيها، الفقر أحبّ إلىّ وأن أكون عبدا صابرا شكورا» وعلى ذلك فيكون المعنى أن هذه الجنان والقصور تكون في الآخرة. بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ هذا إضراب عن شبههم، وبيان أن هذه التعللات ليست حقيقية فلو أجيبوا إلى ما طلبوا ما آمنوا أبدا، وإنما السبب هو أنهم كذبوا بالساعة، ولم يؤمنوا بالغيب والحياة الآخرة ومن كان كذلك لم يكن عنده استعداد للبحث والنظر والإيمان بالرسل، وهؤلاء قد أعد الله لهم جهنم سعيرا ذات نار مسعرة موقدة. والله قد وصف السعير المعد لهم بصفات: (أ) إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظا وزفيرا وهذا كقوله- تعالى-: إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ وهذا وصف يفيد بوجه عام شدة النار ولهبها [سورة الملك الآيتان 7 و 8] . (ب) وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا، وهذا وصف لهم في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 712 النار بعد ما وصفهم خارج النار روى عن عبد الله بن عمر قال: إن جهنم لتضيق على الكافر كضيق الزج- الحديدة التي في أسفل الرمح- على الرمح، أما الجنة فعرضها السموات والأرض ولا شك أن الضيق شيء مؤلم للنفس وهم مع ذلك مصفدون في الأغلال والسلاسل. يسحبون على وجوههم في النار فإذا ألقوا فيها بهذا الوضع دعوا هناك قائلين: ووا ثبوراه! فقيل لهم: لا تدعوا اليوم ثبورا واحدا، ولكن ادعوا ثبورا كثيرا فما وقعتم فيه ليس يكفيه ثبور واحد بل ثبور كثير، إما لأن العذاب أنواع وألوان كل نوع منه ثبور، أو لأنهم كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودا غيرها فلا غاية لثبورهم وهلاكهم. بعد أن وصف النار بما وصف مما يفتت الأكباد، ويقطع القلوب حسرة وندامة على أصحابها أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول: قل لهم: أذلك خير أم جنة الخلد؟ وأى خير في النار؟ ولكنه استهزاء بهم، وسير على طريقتهم الضالة التي يرون فيها أن للنار خيرا حيث لم يعملوا للجنة وثوابها تلك الجنة التي وعد المتقون أن يدخلوها ويتمتعوا بها وكانت لهم جزاء ومصيرا ونعم الثواب وحسنت مرتفقا، لهم فيها ما يشاءون، وما تشتهيه نفوسهم، وتلذه أعينهم، وترنو إليه أبصارهم، وهم فيها خالدون، ورضوان من الله أكبر من كل ذلك، وكان ذلك وعدا كتبه على نفسه، وتفضل به على خلقه المؤمنين، وقد سأله الناس فقالوا: رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ [آل عمران 194] رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنا عَذابَ النَّارِ [البقرة 201] . من مشاهد يوم القيامة [سورة الفرقان (25) : الآيات 17 الى 20] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَلكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلا نَصْراً وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19) وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 713 المفردات: بُوراً هلكى مأخوذ من البوار أى: الهلاك. المعنى: هذا مشهد من مشاهد يوم القيامة، مشهد يتبرأ فيه المتبوعون من التابعين ويتخلص المعبودون من العابدين بل يكذبونهم فيما يقولونه عنهم وفي هذا تأييد لأهل الحق والإيمان، وكشف لستر المخدوعين المغرورين بالأصنام والأوثان ومن عبدوهم من دون الرحمن. ويوم يحشرهم ربك وما يعبدون من دون الله، فيقول لهم على سبيل التقرير والتثبيت ليقروا بما يعلمون عن هذا السؤال فيظهر الحق وينكشف الصبح: أأنتم أضللتم عبادي هؤلاء الذين عبدوكم أم هم ضلوا السبيل؟ وهذا السؤال كما يقول علماء البلاغة للتقرير أى: حمل المخاطب على الإقرار بما يعرفه هو، ونظيره قول الله لعيسى ابن مريم: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ؟ [سورة المائدة آية 116] . وكان جواب المعبودين من الملائكة والجن والإنس كعيسى والعزير وغيرهم وكذا الأصنام- وجوابهم بلسان الحال أو المقال- سبحانك ربنا وتنزيها لك!! ما كان ينبغي لنا نحن العبيد الفقراء إليك، المستعينين بك العابدين لك وحدك. ما كان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء وآلهة فما بال هؤلاء؟!!، وقيل المعنى: ما كان يصح لنا ولا يستقيم منا أن نتخذ أولياء من دون الله، فكيف يصح لنا أن نحمل غيرنا على أن يتولانا دونك، سبحانك هذا بهتان منهم عظيم!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 714 ولكن السبب في هذا يا رب، وأنت العالم بكل شيء، أنك متعتهم وآباءهم حتى أبطرتهم النعمة، وأضلهم الغرور حتى نسوا الذكر الذي أنزلته على رسلك، وكانوا قوما هلكى لا خير فيهم «وتلك مقالة الملائكة فيما يظهر» فها أنتم أولاء أيها الكفار. ترون أنهم كذبوكم في دعواكم أنهم يقربونكم إلى الله زلفى، وأنهم آلهة، فحقا كذبوكم فيما تقولون عنهم، فما تستطيعون الآن أيها الكفار صرف العذاب عنكم بأى شكل، ولا تستطيعون نصرا بحال من الأحوال، وقرئ فما يستطيعون، أى: الآلهة المزعومون صرف العذاب، ولا يستطيعون نصركم أبدا. ومن يظلم منكم نذقه عذابا كبيرا يتناسب مع ظلمه، والظلم هو الإشراك أو هو نوع منه إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ. وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ فالظلم أمر عام يدخل فيه الشرك والكفر والفسوق. وهذا رد عليهم في اعتراضهم على الرسول بأنه يأكل الطعام ويمشى في الأسواق، وما أرسل الله رسلا فيما مضى إلا رسلا يأكلون الطعام كالناس تماما، ويمشون في الأسواق جريا وراء العيش وتحصيله من طرق شريفة حيث لم يكن في هذا الوقت جهاد، فليس الفقر عيبا، وليس العمل ينقص من قيمة الشخص، وقد جعل الله بعض الناس فتنة لبعض فجعل المؤمن مع الكافر، والصحيح مع المريض، والغنى مع الفقير كل منهم فتنة لصاحبه فالغنى ممتحن بالفقير إذ تجب عليه المواساة، وعدم السخرية منه، والفقير ممتحن كذلك بالغنى فلا يحسده، ولا يسرق منه، وأن يصبر كل منهما على ما أراد الله له. والرسول وأصحابه فتنة لأشراف القوم من الكفار في عصره، ولذلك نرى أن من يقود الكفار والخارجين على الرسل قديما وحديثهم أشراف القوم، ألم تر إلى قوله تعالى وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ وإرسال رسول من القوم ليس ذا جاه ومال ومادة كان سببا في كفر كثير من الناس، وكان فتنة لبعض القوم لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ. ألم يجد الله غير يتيم بنى هاشم يرسله رسولا؟ نعم وجعلنا بعضكم لبعض فتنة! أتصبرون؟. روى أنها نزلت في أبى جهل بن هشام، والوليد بن المغيرة، والعاصي بن وائل وغيرهم من أشراف قريش حين رأوا أبا ذر، وعبد الله بن مسعود، وعمارا، وبلالا، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 715 وصهيبا، وسالما مولى أبى حذيفة ... فقالوا: أنسلم فنكون مثل هؤلاء!؟ فأنزل الله- تعالى- يخاطب هؤلاء المؤمنين أَتَصْبِرُونَ على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر والجهد والإيلام- كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم والتضييق على المؤمنين فتنة لهم واختبارا، ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا. بعض سوءاتهم وعاقبتها [سورة الفرقان (25) : الآيات 21 الى 24] وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23) أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً (24) المفردات: لا يَرْجُونَ لِقاءَنا أى: لا يخافون لقاءنا والرجاء في بعض لغات العرب الخوف، وقيل لا يأملون لقاءنا بالخير لأنهم لا يؤمنون به وَعَتَوْا العتو: تجاوز الحد في الظلم حِجْراً الحجر: المنع ومنه حجر القاضي عليه، أى منعه من التصرف، وسمى العقل حجرا لأنه يمنع صاحبه من بعض الأعمال هَباءً الهباء ما يرى من الذرات في شعاع الشمس الذي يدخل من النافذة الضيقة مَنْثُوراً متفرقا والمراد أنه لا ينتفع به. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 716 المعنى: هذا ضرب من تعنت الكفار، وعنادهم الشديد الذي يدل حقّا على استكبارهم وعتوهم وفجورهم، وكأنى بهم وقد امتلأت قلوبهم كبرا وطغيانا فطالبوا أن تنزل عليهم الملائكة كما تنزل على النبي صلّى الله عليه وسلم قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ ويحتمل أن يكون مرادهم: لولا أنزلت علينا الملائكة فنراهم عيانا فيخبرونا أن محمدا رسول الله إلى الناس وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً آية 90 من سورة الإسراء حتى قالوا في آية 92 من السورة نفسها أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا ولهذا قالوا هنا: لولا أنزل علينا الملائكة أو نرى ربنا وكأنهم لم يقنعوا بالقرآن على أنه معجزة ناطقة بصدق النبي صلّى الله عليه وسلّم في دعوى الرسالة فطالبوا برؤية الملائكة أو الله- سبحانه وتعالى- وما علموا أن الله لا يرى!! ولو أنزل إليهم ملك فليست فيهم قدرة على الاتصال به، ومكالمته، ولا غرابة في هذا، فها هو النبي صاحب الروح القوية حينما التقى بجبريل- عليه السلام- لأول مرة ناله ما ناله مما لم يقو على تحمله، وقد خفف جبريل عنه الشيء الكثير بضمه إليه مرارا وكأن الله يعده لذلك حتى حبب إليه الخلاء والبعد عن المادة والدنيا ومع ذلك حصل له ما حصل فكيف بعامة الناس؟ ولو جعل الملك رجلا لحصل اللبس، وطالبوا بالدليل وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ من سورة الأنعام الآيتان 8، 9 ولهذا قال الله تعالى: لقد استكبروا كبرا صادرا من أنفسهم مستكنا فيها، وقد عتوا عتوا كبيرا، يدعو إلى العجب العجاب ولقد صدق الله وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَحَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ، وما لهم يطلبون رؤية الملائكة؟! وهم سيرونهم في يوم عبوس قمطرير، يوم تقبض فيه أرواحهم ويطلعون فيه على ما أعد لهم، يوم يرون الملائكة قائلين لهم: لا بشرى لهم أبدا حين يبشرونهم بالنار وغضب القوى الجبار، وتقول الملائكة لهم: أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ حقا يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين، وهل هناك إجرام أشد من إجرام الكفار والمشركين؟ ويقولون: حجرا محجورا، ومن القائلون؟ قيل هم الكفار على عادة الجاهلين حينما يلتقى الرجل بعدوه يقول: حجرا. على معنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 717 الاستعاذة بالله ليمنع منه الخطر. وقيل هم الملائكة تقول للكفار: حراما محرما أن تبشروا بخير كما يبشّر المؤمنون يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ «1» فللمؤمن من الملائكة التحية والبشارة والتثبيت، وللكفار الإنذار والإيلام والإضلال وسوء المصير. هؤلاء الكفار كانوا يعملون بعض البر من صدقة وإكرام، وفك أسير وخدمة البيت والحجيج، وكانوا يعتزون بذلك، ويعلقون عليه آمالا كبارا فقال الله لهم: وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فيه خير فَجَعَلْناهُ لا خير فيه، ولا جزاء له، بل صار كالهباء المبثوث مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ «2» ولا تعجب من هذا فهم قوم لم يؤمنوا بالله، ولم يقدروه حق قدره، وقاسوه بالأصنام والأوثان، وعبدوا معه غيره، وجعلوا له ولدا أو شريكا أو شبهوه ببعض خلقه فأولى بهؤلاء أن يثيبهم على عملهم آلهتهم!! أما المؤمنون بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد من رسله فأولئك هم أصحاب الجنة الفائزون، وهم- يومئذ يتلظى الكفار بنار جهنم- خير مستقرا، وأحسن مقيلا إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ [سورة يس الآيات 55- 57] . وفي الحديث «إن الله- تبارك وتعالى- يفرغ من حساب الخلق في مقدار نصف يوم فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار» وهذا معنى أحسن مقيلا ... من مشاهد يوم القيامة [سورة الفرقان (25) : الآيات 25 الى 29] وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَكانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَكانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)   (1) سورة ابراهيم الآية 37. (2) سورة ابراهيم الآية 17. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 718 المفردات: تَشَقَّقُ تتفتح السماء عن الغمام: الْحَقُّ الثابت الذي لا يزول عَسِيراً شديدا يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ كناية عن الندم خَلِيلًا صاحبا وصديقا الذِّكْرِ المراد القرآن خَذُولًا الخذل الترك من الإعانة. المعنى: واذكر يوم تتشقق السماء عن الغمام. وتتفتح عنه، وتنزل عنه، وتنزل الملائكة من السماء ومعها صحائف الأعمال لتحاسب الخلق! وهذه الآية قريبة من قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَالْمَلائِكَةُ [البقرة 210] . الملك يوم إذ تنتهي الخلائق إلى يوم الفصل، وتزول الدنيا ومعالمها، الملك الحق يومئذ للرحمن «لمن الملك اليوم؟ لله الواحد القهار» وكان هذا اليوم على الكافرين عسيرا وشديدا، إذ هو يوم الفصل والقول الحق فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [سورة المدثر الآيتان 9 و 10] أما المؤمنون فلا يحزنهم الفزع الأكبر، واذكر يوم يعض الظالم على يديه ندما وأسفا على ما فرط منه، ويقول: يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا نافعا، وطريقا موصلا الى الخير، وتركت طرق الغي والشيطان التي أتبعتها وكانت عاقبة أمرها خسرا. يا ويلتى احضرى، فهذا أوانك! ليتني لم أتخذ فلانا هذا الذي أضلنى لم أتخذه خليلا وصديقا حميما أتبعه فيما يشير علىّ به. روى أنها نزلت في عقبة بن أبى معيط، وكان صديقا لأمية بن خلف وأطاعه في إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلم . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 719 لقد أضلنى هذا الصديق عن القرآن والإيمان بعد إذ جاءني، ومعه الدليل على صدقه وأنه حق من الله. وهل هذا اليوم الذي يندم فيه الظالم وهو يوم القيامة أو يوم بدر؟ الآية تحتمل، ولم يسم القرآن الظالم وصديقه تحقيرا لشأنهما، وليعم ذلك كل من شاكلهما. وكان الشيطان للإنسان خذولا، يخذله ولا ينصره وقت شدة الحاجة إلى النصرة، وهكذا دائما شأن الشيطان، فليحذر الذين يتبعونه، ويسمعون لمشورته!! ... من سوءاتهم أيضا [سورة الفرقان (25) : الآيات 30 الى 34] وَقالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَكَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَنَصِيراً (31) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً (34) المفردات: مَهْجُوراً متروكا لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ لنقوى به قلبك وَرَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا بيناه تبيينا بِمَثَلٍ بحال وصفه غريبة تشبه المثل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 720 المعنى: وهذه شكاية الرسول لرب العزة والجبروت من سوءاتهم وأفعالهم التي تناهت في الفحش والسوء، وقال الرسول: يا رب: إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا! ولا شك أن ترك الإيمان بالقرآن والتصديق به هجران له، وترك تدبره وتفهمه هجران له، وإن ترك العمل به وعدم امتثال أمره واجتناب نهيه في كل شيء هجران له، وإن ترك الحكم به والعمل بقانونه في كل صغيرة وكبيرة- مع أن حكمه مرن وصالح لكل زمان ومكان- هجران له، وإن اللغط واللغو عند تلاوته هجران له وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ وناهيك عن وصفه بأنه كذب وسحر وشعر فهو هجران له وأى هجران؟ وفي كل هذا ألم للنبي صلّى الله عليه وسلم، وأى ألم أكثر من هذا؟!!، ولذا يقول الله لا تحزن يا محمد فتلك سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلا، وكذلك جعلنا لكل نبىّ عدوا من المجرمين، إى: وربي قد جعل الله- سبحانه- لكل نبي ورسول عدوا من شياطين الجن والإنس، الذي يوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا. ولماذا يكون للنبي أعداء! ألم يأت بالحق؟ ألم يدع إلى الخير؟ ألم يأمر بالمعروف وينه عن المنكر؟ ألم يدع إلى عبادة الله الذي خلق الخلق، وفطر السموات والأرض، نعم الأنبياء رسل الله إلى الناس، والدعاة إلى كل خير، ولهذا فقط كان لهم أعداء، وأعداء كثيرون!!! سبحانك يا رب ما أعدل حكمك وأجل شأنك!! ألست قادرا على إهلاك الأعداء ونصرة عبادك الأنبياء؟ نعم الله- سبحانه- قادر على كل شيء، ولكن هذا يحصل ليبتلى الله المؤمنين، وليمحص الله الذين اتقوا، ويمحق الكافرين والمنافقين، وليبوء أعداء الله والحق، وأعداء الأنبياء بالإثم الكبير، والذنب العظيم. نعم جعلنا لكل نبي عدوا من المجرمين وكذلك الدعاة إلى الله في كل وقت وحين لهم أعداء يقفون لهم بالمرصاد، ويذيقونهم سوء العذاب أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ [سورة العنكبوت الآيتان 2 و 3] . ولكن مع هذا كله فالله معهم، وناصرهم ومؤيدهم ما داموا على الحق الصريح يحاربون نفوسهم، ويهزمون شياطينهم، وكفى بربك هاديا، وكفى به نصيرا، وهو على كل شيء قدير! الجزء: 2 ¦ الصفحة: 721 اسمع لمشركي قريش يعترضون على النبي والقرآن اعتراضا آخر لما عجزوا وأفحموا وتحداهم القرآن فلم ينجحوا، اسمع لهم يقولون: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة كما نزلت الكتب على موسى وعيسى وداود! كذلك نزل القرآن منجما تبعا للحوادث والظروف لحكم إلهية هي تثبيت فؤاد النبي صلّى الله عليه وسلّم ومن معه، فيكون ذلك أدعى إلى حفظه وفهمه فهما عميقا لأن الحوادث تفسره تفسيرا عمليّا، وكذلك رتلنا القرآن ترتيلا، وبيناه تبيينا وَقُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَنَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا ولا يأتونك بصفة وحال غريبة تشبه المثل كقولهم: لولا أنزل عليه ملك، لولا كانت له جنة إلى آخر ما قالوا. إلا جئناك بالقول الحق والرد القوى الذي يلجمهم، ولا يسألونك سؤالا للتعنت والتحدي إلا جعلناك تجيب بأن ننزل عليك القرآن، وهو الحق من عند ربك، فلو نزل جملة واحدة لوقفت إذا سألوك عن شيء خارج، ... حقا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا. الذين من دأبهم هذا ومن طبعهم، يحشرون على وجوههم إلى جهنم، وبئس القرار، أولئك هم شر مكانا وأضل سبيلا. والخلاصة: ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق، وأنت منصور عليهم بالحجج الواضحة، وهم محشورون على وجوههم، أولئك مأواهم جهنم، وبئس المصير مصيرهم. قصص بعض الأمم التي كذبت رسلها [سورة الفرقان (25) : الآيات 35 الى 40] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَجَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَجَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَأَصْحابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَكُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 722 المفردات: وَزِيراً يقال: فلان وزير الملك أو الرئيس لأنه يؤازره أعباء الملك، أى: يعينه من المؤازرة، وقد مضى الكلام عليه في آية (29) من سورة طه تَدْمِيراً أهلكناهم إهلاكا الرَّسِّ البئر التي لم تطو، وقيل: الرس الحفر، ومنه رس الميت أى: قبر تَتْبِيراً التتبير: التفتيت والتكسير ومنه التبر وهو كسارة الذهب والفضة، والمراد أهلكناهم إهلاكا. وهذا قصص ما مضى من الأمم التي وقفت من أنبيائها مواقف تشبه مواقف قريش مع النبي، وكيف كان جزاؤهم في الدنيا!. المعنى: وتالله لقد آتينا موسى الكتاب الذي هو التوراة، وجعلنا معه أخاه هارون وزيرا له ليشد أزره، ويحمل معه عبء الرسالة، فقلنا: اذهب أنت وأخوك بآياتنا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى، اذهبا إلى القوم- فرعون وملئه- الذين كذبوا بآياتنا وعصوا رسلنا فكانت عاقبتهم أنا دمرناهم تدميرا، فانظروا يا كفار مكة عاقبة الكفر وتكذيب الرسل. واذكر لهم قوم نوح. لما كذبوا الرسل جميعا، إذ من يكذب رسولا فقد كذب الرسل، ومن يؤمن برسول حقا فقد آمن بجميع الرسل، لما كذبوا الرسل أغرقناهم وجعلناهم للناس آية، فهل من مدكر؟ وأعتدنا للظالمين أى: لكل من سلك سبيلهم في تكذيب الرسل عذابا أليما، وقوم نوح يدخلون في ذلك دخولا أوليا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 723 واذكر لهم عادا لما كذبوا هودا وثمود لما كذبوا أخاهم صالحا، وأصحاب الرس قيل: هم قوم من عبدة الأصنام أصحاب آبار وماشية فبعث الله لهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام فكذبوه، وآذوه فخسف الله بهم وبدارهم الأرض، وقيل هم أصحاب الأخدود وقيل غير ذلك، وأيا ما كانوا. فهم قوم أخبر الله عنهم بالهلاك، فاعتبروا يا أولى الأبصار. واذكر لهم قرونا بين ذلك، أى: أمما لا يعلمهم إلا الله بين قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس ... وكلا من الذين ذكروا بالنص كقوم نوح وعاد، ومن الذين ذكروا بالإجمال ضربنا له الأمثال، وبينا له الحجج والآيات، وأجبناهم على كل الشبه والاعتراضات فلما لم يجد هذا ولا ذاك تبرناهم تتبيرا، وأهلكناهم هلاكا تاما. فما لكم لا تعتبرون؟!! ولقد أتى أهل مكة على القرية، ومروا بها في رحلاتهم، والمراد بالقرية (سدوم) من قرى قوم لوط، التي أمطرت بالحجارة فكان أسوأ مطر وأشده عليهم! أفلم يكونوا يرونها؟ أفلم يكونوا في مرورهم ينظرون إلى آثار عذاب الله- تعالى- ونكاله بهم!! بل السبب في جحودهم وعدم اعتبارهم والتفاتهم إلى موضع العبرة والعظة، أنهم قوم كفرة لا يرجون نشورا. نعم إن الإنسان لا يتحمل متاعب التكاليف، إلا رجاء ثواب الآخرة وخوف عقابها فإذا لم يؤمن بها ولم يرج ثوابها فلا يتحمل مشاق التكاليف، ولا يفتح عينه ولا قلبه على موضع العبرة والعظة، وهذا هو معنى قوله تعالى لا يَرْجُونَ نُشُوراً ولعلك تدرك من هذا السر في قوله: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ «1» ولا شك أنهم هم المنتفعون بالقران إذ من لا يؤمن بالحياة الآخرة بعيد عليه ان يتقبل الهدى والنور.   (1) سورة البقرة الآيتان 2 و 3. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 724 من قبيح أعمالهم [سورة الفرقان (25) : الآيات 41 الى 44] وَإِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَهذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44) يا عجبا لهؤلاء! لم يكتفوا بتكذيبهم لرسول الله الصادق الأمين، وإنما جعلوه موضع استهزائهم، يستهزئون به ويتندرون عليه، وأيم الله إن هذا منهم لعجيب فلم يكن المصطفى صلّى الله عليه وسلّم في شكله العام أو تصرفاته الخاصة يصح أن يكون موضع استهزاء، على أن الآيات والحجج التي ظهرت على يد الرسول تمنع من ذلك، بل هم الذين يستحقون الاستهزاء بهم حيث تركوا عبادة الواحد القهار إلى عبادة الأصنام والأحجار!! وإذ رأوك- ما يتخذونك إلا هزوا- يقولون: أهذا الذي بعث الله رسولا؟ والاستفهام هنا للتحقير والاستهزاء، ولعل منشأ ذلك أنه ليس غنيا من أغنياء القوم. والعجب منهم كيف يستهزئون به ثم ينسبون له في الوقت نفسه العمل الجليل والأثر الخطير حيث يقولون: إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْلا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها فهو قوى الحجة شديد التأثير يكاد يصرفنا عن عبادة الآلهة، لولا أن حبسنا أنفسنا على عبادتها وتعظيمها، وهذا يدل على جد الرسول واجتهاده في تبليغ دعوته، وعلى مقدار تمسكهم بالباطل، وقد رد الله عليهم بأمور ثلاثة: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 725 (أ) وسوف يعلمون حين يرون العذاب يوم القيامة من هو أضل سبيلا؟ من هو أقوم طريقا؟ أمحمد وصحبه أم كفار مكة ومن على شاكلتهم؟. (ب) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ والمعنى. تعجب يا محمد من جهل هؤلاء الذين اتخذوا آلهتهم هواهم، فهم لم يتخذوا لأنفسهم آلهة إلا هواهم، وانظر إلى قول سعيد بن جبير: كان الرجل من المشركين يعبد الصنم فإذا رأى أحسن منه رماه، واتخذ الآخر وعبده. وهذا يدل على أنه لم يكن لهم حجة في عبادة الأصنام إلا اتباع الهوى وتقليد الآباء! أما الحجة والنظر السليم فهم بعيدون عنها كل البعد. وقيل المعنى: إن هؤلاء كانوا عبيدا لهواهم. وكان هو الحكم في كل شيء بلا عقل ولا عقيدة ولا نظر ... أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ولست عليه بمسيطر ولن تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين، ما عليك إلا البلاغ فقط. (ج) وهذا هو الرد الثالث عليهم أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا وأم بمعنى بل، وهي تفيد الإضراب عما مضى كأن هذا هو الرد فقط، نعم لا تظن أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون وقد نفى عن أكثرهم السماع والعقل- وهذا حكم عدل إذ كل مجموعة فيها الحسن والقبيح- ونفى السماع والعقل هنا يدلنا على أن المراد بهما السماع والعقل الروحيان الذي يكون القلب موضعهما أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها فليس المراد السماع والعقل الحسى فالكفار يسمعون بلا شك ويعقلون بلا شك، وإنما الروح التي هي من الله، والتي هي القوة الدافعة إلى الخير والمحاربة للنفس المادية والشيطان، تلك الروح لها حواس موضعها القلب، ومن أضله الله وأعمى بصره القلبي وسمعه وعقله وختم عليهما، لا يكون له سمع يسمع الحق ويهتدى به. ولا يكون له بصر يبصر الطريق المستقيم ويسير عليه، وهذا بلا شك لا يعقل ولا ينظر ولا يتذكر إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ. ما هؤلاء الكفار إلا كالأنعام في أن لهم سمعا وبصرا حسيين، وليس لهم إدراك وإحساس روحي، بل هم أضل، لأن البهائم لم تكلف ولم تعص خالقها، وأما هؤلاء فقوم عندهم الاستعداد لإدراك الخير، والقوة لمعرفة الحق، ولكنهم قوم ضلوا وأضلوا، ولهم النار وبئس القرار ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 726 بعض الظواهر الكونية التي تدل على وجود الله ونعمه علينا [سورة الفرقان (25) : الآيات 45 الى 52] أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَالنَّوْمَ سُباتاً وَجَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَأَناسِيَّ كَثِيراً (49) وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50) وَلَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَجاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52) المفردات: الظِّلَّ حالة وسط بين الظلام الخالص والنور الخالص، ومده بسطه، وينشأ من وجود جسم تقع عليه أشعة الشمس فيظهر ظله صباحا جهة المغرب وبعد الزوال يكون جهة المشرق، وقال ابن السكيت: الظل ما نسخته الشمس، والفيء ما نسخ الشمس ساكِناً ثابتا لا يزول لِباساً ساترا كاللباس سُباتاً من السبت وهو القطع لانقطاع التعب فيه، أو لانقطاع الحياة الكاملة نُشُوراً ذا نشور أى انتشار ينتشر فيه الناس لمعاشهم بُشْراً مبشرات طَهُوراً مطهرا لغيره الجزء: 2 ¦ الصفحة: 727 أَناسِيَّ هم الناس صَرَّفْناهُ صرفنا المطر أى: فرقناه وحولناه من جهة إلى جهة، ومنه قيل تصريف الأمور كُفُوراً أى كفرا. ما مضى كان نقاشا لأهل مكة في أمور معنوية عامة، وتهديدا لهم حيث كذبوا ولم يؤمنوا ثم ساق لهم قصصا يؤيد ذلك. وبين لهم أن هلاكهم أمر واقع، ليس له من دافع، ثم ساق أدلة على وجود الصانع المختار، وهذه الأدلة بعض الظواهر الكونية، التي يدركها كل مخلوق مع بيان قدرة الله ونعمه التي لا تنفد، وكان الكلام على الظل. والليل والنهار. والريح. والمطر وغير ذلك مما يناسب عقول هؤلاء الناس، ويلتقى مع خيالهم، وهو عماد بيتهم. المعنى: ألم تنظر إلى صنيع ربك الذي يدل على كمال قدرته، ومنتهى رحمته حيث مد الظل وبسطه، أو قبضه وقلله، والظل نعمة من الله على الناس جميعا، إذ الحياة والدفء من نور الشمس، ولكن قد يبهر العين، ويجلب الحر، ويقتل النفس. وفي الظلام السكون والهدوء، ولكن النفس لا تألفه، والطبع السليم يأباه، فكان من نعم الله علينا الظل وسطا بين النور والظلام، وجاء وصفا للجنة حيث كانت ذات ظل ممدود، ومن هنا ندرك السر في تفسير بعض العلماء للظل بأنه الوقت من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس إذ هو وقت الهدوء والسكون والراحة النفسية، والجو الصافي، وقت النشاط الروحي والصفاء النفسي: ولا تنس أن للظل مكانة عند العرب. ولو شاء ربك لجعل الظل ساكنا ثابتا لا يحول ولا يزول، ومن هنا يذهب رواؤه، ويقل تأثيره، إذ تأثيره الطبعي والمعنوي في ذهابه وحضوره ووجوده وانعدامه وقلته وكثرته. والظل أمر لا يعرف ولا يدرك إلا بالشمس، وتبارك الله أحسن الخالقين ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا فكأن الله- سبحانه- خلق الظل أولا، ثم جعل الشمس دليلا على وجود هذه النعمة الجليلة ذات الأثر الفعال في الإنسان والحيوان والنبات. أليس في وجود الظل ثم تحركه وتغيره، وانتقاله من حال إلى حال ثم جعل الشمس الجزء: 2 ¦ الصفحة: 728 دليلا عليه؟ أليس في ذلك كله ما يدل على الخبير البصير القوى الحكيم؟ على أنه بنا رءوف رحيم. وانظر إلى قوله تعالى: ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً وكأنه يسير الهوينا، ولا شك أن قبضه وبسطه يسير على فاطر السموات والأرض. إنها الشمس تشرق على الكون فتملؤه حياة وبهجة وحركة ودفئا، ويظهر بسببها الظل في أول النهار، والفيء من آخره، ثم يأتى الليل بجحافله، فتغيب الشمس، ويحمر الأفق، وتبيت الطير، وتسكن الحركة، وينام الناس.. أليس في ذلك كله مظاهر دالة على قدرة الله؟ وهو الذي جعل الليل لباسا، فهو ساتر بظلامه الناس. وفي ظلام الليل وسكونه آية وأى آية؟ على وجود الله، وفيه منافع للناس في الدنيا والدين، لا تخفى على ذي بصيرة. سبحانك يا رب خلقت فأبدعت، وصنعت فأحكمت، ولا غرابة فأنت الحكيم العليم!! يا أخى تصور أن الله حرمنا من الليل والنوم، أيكون للدنيا ذلك البهاء، وتلك الروعة؟ إننا نبيت متعبين مكدودين فنأوى إلى فراشنا طلبا للراحة والهدوء فيمن الله علينا بالنوم والسبات العميق فيقطع علينا تفكيرنا وألمنا، ويجدد من نشاطنا بل ويبعثنا من جديد، فنصحو وكلنا نشاط وقوة وعمل واجتهاد، حقا من نعم الله علينا أن جعل لنا النوم سباتا، والنهار معاشا، وإن من يحاول العمل في الليل والنوم في النهار لا يفلح ولا ينتج وما أحسن جعل الليل للسبات والنهار للنشور والمعاش. وهو الذي أرسل الرياح مبشرات بين يدي رحمته تبشر بالغيث والمطر والإنبات وسير السفن، وأنزل ربك من السماء ماء طهورا، أى في نفسه مطهر لغيره، يزيل النجس والخبث، ويرفع الحدث. أنزله ليحيى به الأرض بعد موتها، إذ حياة الأرض بالزرع والنبات، فالأرض المجدبة، والصحراء القاحلة ميتة لا حياة فيها، وإذا كان هذا حالها فما بال البلاد الواقعة فيها والناس الذين يسكنونها؟!! ومن المطر يشرب من خلق الله الأنعام من إبل وبقر وغنم وغيرها: ويشرب منه ويحيا به خلق كثير، ربطت حياتهم بالمطر، وهم سكان الصحارى والقفار. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 729 ولقد صرف الله المطر، وغير أحواله فتارة يكثر، وطورا يقل، بل وينعدم والله- سبحانه- يسوقه إلى حيث يشاء حسب إرادته وعلمه، وصرفه الله وقلب أحواله ليذكر الناس ويتدبروا، ويعلموا أن ذلك صادر من فاعل مختار، ولا يمكن أن يكون بالطبع والعلة كما يقول الطبعيون، ومع ذلك فقد أبى وكفر أناس كثيرون. وقيل المراد تصريف القرآن، وتقليب حججه وآياته من حال إلى حال ليذكر الناس ويتعظوا. ومع هذا فقد كفر به خلق كثير ... ولو شاء ربك لبعث في كل قرية أو جماعة نذيرا ينذرهم ويبشرهم كما كان يحصل قديما، ولكن الله- سبحانه وتعالى- أرسل محمدا خاتم النبيين أرسله للناس جميعا، لأنه جمع خير الرسالات، وفضائل الأنبياء وصفاتهم، وكان بعثه فاتحة عصر جديد للعالم، يمكن فيه لسهولة الاتصالات وانتشار نواحي العلم والمدنية أن يعلم الكل ولو بالإجمال إرسال رسول للناس وقد كان ذلك. فما من أمة أو جماعة إلا وقد عرفت برسالة محمد صلّى الله عليه وسلم. فلا تطع يا محمد الكافرين، وجاهدهم بكل سلاح جهادا كبيرا، جهادا يتناسب مع كل عصر وزمن، وهكذا يكون أمراء دينك وحكام أمتك، بل وأمتك كلها واجب عليها ألا تطيع الكافرين وأن تجاهدهم بكل سلاح والويل لها حين أطاعت ولم تجاهد!! من دلائل التوحيد وجميل الإنعام وكريم التوجيه للنبي صلّى الله عليه وسلم [سورة الفرقان (25) : الآيات 53 الى 62] وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَلا يَضُرُّهُمْ وَكانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58) الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَمَا الرَّحْمنُ أَنَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَزادَهُمْ نُفُوراً (60) تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيها سِراجاً وَقَمَراً مُنِيراً (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 730 المفردات: مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خلاهما وأرسلهما متجاورين فُراتٌ المراد شديد العذوبة وأصل الكلمة من فرته وهو مقلوب رفته إذا كسره لأنه يكسر سورة العطش ويزيلها أُجاجٌ شديد الملوحة مع مرارة بَرْزَخاً حاجزا يحجز كلا منهما عن الآخر نَسَباً أى: ذوى نسب أى: ذكورا ينسب إليهم وَصِهْراً أى: وذوى صهر أى: قرابة، واشتقاق الصهر من صهرت الشيء إذا خلطته، وسميت المناكح صهرا لاختلاط الناس بها ظَهِيراً أى: مظاهرا وقيل: هو من الظهر والمراد هينا ذليلا لا يعبأ به نُفُوراً أى: بعدا عن الدين بُرُوجاً أى: منازل كالقصور للكواكب السيارة خِلْفَةً أى: كل منها يأتى بعد الآخر. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 731 المعنى: وهو الذي مرج البحرين العذب والملح وخلى بينهما وخلط، وأفاض أحدهما إلى الآخر، فهما يلتقيان أحدهما عذب فرات، يزيل العطش، ويكسر سورته وذلك كمياه الأنهار والعيون والآبار، وهي المياه الجارية التي فرقها الله بين عباده لاحتياجهم إليها كأنهار النيل والفرات والمسيسبى في أمريكا وغير ذلك كثير في جميع بقاع العالم، وكذا العيون والآبار التي في الواحات والصحارى الكبرى وغالب هذه الأنهار وروافدها تتكون من الأمطار، وبعضها يتسرب في الأرض ثم يظهر على شكل عيون وآبار. والثاني ملح أجاج، مر المذاق لا يستساغ شربه، كالبحار الكبيرة والمحيطات المعروفة، وهذه مياه ساكنة إلا من المد والجزر، وتصب فيها الأنهار الجارية. وإنا نرى أن البحرين العذب والملح، يسيران جنبا إلى جنب بل وقد يصب العذب في الملح، مع ذلك يبقى كل منهما محافظا على خصائصه مسافة طويلة، هذا هو المشاهد عند مصاب الأنهار، ونشاهد كذلك أن الأرض تحمل النوعين، والقارة فيها الصنفان المتميزان كل عن الآخر، لا يبغى أحدهما على الآخر أبدا. وعلى ذلك يصدق فيهم قوله تعالى: وَجَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً وقوله تعالى في سورة الرحمن مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ فالحاجز هو اليابس من الأرض ولقد صرح بذلك بعض أئمة التفسير كابن كثير وغيره، وإلى هذا أميل، وبعضهم يرى أن الحاجز ما يشاهد من نهر النيل مثلا يصب في البحر الأبيض وهو ملح، ومع هذا يظل ماء النيل سائرا في الملح مسافة وهو محتفظ بخاصيته وهذا من نعم الله التي أنعم بها على خلقه فللماء العذب فوائد كلنا يعرفها، وللماء الملح فوائد لا تخفى في تربية بعض الأسماك والأصداف والأحجار الكريمة كاللؤلؤ والمرجان. ولقد أثبت العلم الآن أن للمحيطات وملحها أثرا كبيرا في حياة الناس ولو كانت عذبة لفسد الجو. وهو الذي خلق الإنسان من ماء مهين هو ماء النطفة، فسواه وعدله، وجعله كامل الخلقة ذكرا أو أنثى تكون لها مصاهرة وقرابات وأختان، وتبارك ربك الخلاق وكان ربك قديرا بالغ القدرة، خلق الإنسان، وكان أن جعل منه الذكر والأنثى يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أرأيت الله واهب الوجود مبدع ذلك الجزء: 2 ¦ الصفحة: 732 الكون الغريب؟ كيف ضل عن عبادته وكفر به المشركون، فهم يعبدون من دون الله أشياء لا تنفعهم ولا تضرهم لو أرادت ضررهم، لأنها لا تدفع عن نفسها الضرر، ولا تجلب لها الخير، فكيف بها معكم أيها الجهلة؟!. وكان الكافر على عصيان ربه، ومخالفة أمره، وتكذيب رسله مظاهرا ومتعاونا مع الشيطان وهو وحزبه هم الخاسرون، وقيل المعنى: وكان الكافر هينا لا قيمة له عند ربه. وأما أنت يا محمد فلا يهمنك هذا العناد والكفر، فما أنت إلا نذير، وما أرسلناك إلا مبشرا ونذيرا، وعلى الله وحده الحساب والعقاب قل لهم: لم لا تطيعوني وقد قامت الأدلة على صدقى؟ هل سألتكم أجرا على رسالتي حتى تخالفوني، لا: لم أسألكم أجرا أبدا، لكن من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا حسنا، ومن شاء أن يكون عند الله من المقربين بالإنفاق والعمل الصالح فليفعل، فكل ذلك عنده بمقدار ولا يضيع عنده مثقال ذرة من عمل. وتوكل يا محمد على الحي الذي لا يموت، صاحب هذا الملكوت، القوى الباقي بعد فناء الخلق جميعا، فمن يتوكل عليه فهو حسبه وكافيه من كل شر إن الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرا، والتوكل لا ينافي الأخذ بالأسباب الظاهرة مع اعتقاد أن الله- سبحانه- بيده كل شيء، فهو كما ترى حي لا يموت، فسبحه وقدسه وأطعه واعبده فهو العالم الخبير، وكفى به بذنوب عباده خبيرا، وسيجازى كلا على عمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، وهو الرحمن الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام الله أعلم بمقدارها، ولا تسل عن عددها بل تذكر قول الله في عدد خزنة النار حيث يقول: وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا [سورة المدثر آية 31] . خلق الله السموات والأرض في ستة أيام، ثم استوى على العرش استواء يليق بعظمته، وهو أعلم به- وهذا رأى السلف- أما الخلف فيؤولون ويقولون ثم استولى على العرش يدبر الأمر. ويقضى بالحق وهو خير الفاصلين، وثم للترتيب الإخبارى لا للترتيب الزمنى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 733 فاسأل خبيرا عنه واتبعه واقتد به، ولا أحد أعلم بالله ولا أخبر به من عبده ورسوله والكتاب الذي نزل عليه إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى. [النجم 4 و 5] وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن- سبحانه وتعالى- قالوا: وما الرحمن؟ كما قال فرعون لموسى: وما رب العالمين؟ وهل هم يسألون عن حقيقته؟ أو هم يعرفونها وينكرون الاسم ويسألون عن الوصف. أنسجد لما تأمرنا بالسجود له وهو الرحمن؟ وزادهم هذا القول نفورا، وبعدا عن الصواب والحق، وبخاصة حينما يسجد المسلمون. تبارك وتعاظم الذي جعل في السماء بروجا ومنازل للكواكب السيارة، سبحانه من إله قوى قادر حكيم خبير، ولكن المشركين لا يعقلون. تبارك الله الذي جعل في السماء سراجا قويا ذا ضوء وحرارة، وجعل فيها قمرا منيرا للكون في الليل، وخص هذان لأنهما المعروفان المشاهدان. وهو الذي جعل الليل والنهار خلفة، يخلف كل منهما الآخر فمن فاته خبر في الليل يعلمه في النهار، هذا لمن أراد أن يتذكر ويعمل، وكأن الليل والنهار المختلفان على الكون من آيات ربك الكبرى لمن أراد أن يتذكر ويتعظ، ثم يشكر ربه على نعمه التي لا تحصى.. تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام ... من صفات المؤمنين [سورة الفرقان (25) : الآيات 63 الى 67] وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (66) وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 734 المفردات: هَوْناً المراد متواضعين بسكينة ووقار سَلاماً أى: خيرا من القول يَبِيتُونَ كل من أدركه الليل فقد بات وإن لم ينم غَراماً لازما لا يفترق يَقْتُرُوا القتر والإقتار والتقتير البخل، وهو ضد الإسراف قَواماً بفتح القاف: العدل والاستقامة، وبالكسر: ما يدوم عليه الأمر ويستقر. وهذا بيان لصفات المؤمنين بعد ما تكلم على الكفار والمشركين، وبين أعمالهم واعتقادهم وما هم فيه، وما ينتظرهم من جزاء فكان ختاما للسورة على أتم ما يكون وأحسنه، وقد وصف الله المؤمنين هنا بتسع صفات، كلها ترجع إلى صفة الشخص وخلقه، وقد تعرض القرآن الكريم إلى صفات المؤمنين في عدة مواضع لاعتبارات مختلفة، فمرة يذكرهم كجماعة وأمة، ومرة كأفراد عاملين، وأخرى يذكر صفاتهم وأخلاقهم كما هنا- إن شئت فارجع إلى الآيات من سورة التوبة، والآيات 40، 41 من سورة الحج، وكذا أول سورة المؤمنون إلى آخر ما مضى وما مر عليك. المعنى: وعباد الرحمن- وهم المؤمنون حقا- الذين يفعلون كيت وكيت ... أولئك يجزون الغرفة بما صبروا، يلقّون فيها تحية وسلاما. والعبودية للرحمن، أعلى صفة للإنسان: بل أعطيت لأكرم الرسل وخاتم الأنبياء صلّى الله عليه وسلّم انظر إلى قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ، تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ فدل ذلك على أن هذه الصفة من أشرف صفات المخلوقات، ولا تعطى إلا للمشتغلين بالعبودية حقا، وإلا فالكل عبد الله. 1- الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً.. هم الذين يمشون في نهارهم مع الناس ويعاملونهم برفق ولين، ويمشون في سكينة ووقار، وخضوع وتواضع من غير أشر ولا بطر، ولا عجب ولا كبر، ولا يفسدون، ولا يتكبرون، ولا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا، وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعا ورياء، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا مشى كأنما ينحط من صبب. أى: مرتفع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 735 2- وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً أى: إذا تعرض لهم غيرهم من الناس بسوء ردوا عليه بالخير، وألقوا قولا فيه سلام وتسليم، وفيه العفو والصفح، فهم يقابلون السيئة بالحسنة حيث صدرت السيئة من جاهل حقيقة أو حكما وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ فإذا وصلت حالة إلى أنه لا يعتبر جاهلا بل قاصدا عامدا للإهانة فهم يعتزون بالله وبرسوله، ويدفعون عنهم الذل والعار، ويضربون على أيدى السفيه الأحمق المعاند حتى يكون عبرة له ولغيره. 3- وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِياماً وهذه صفة تختلف باختلاف الناس فمنهم من إذا صلّى العشاء في جماعة وأتبعها بسنتها ثم صلّى الفجر في جماعة كان متصفا بأنه بات لربه ساجدا وقائما، ومن الناس من يصدق فيهم قوله تعالى كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ. تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وفي الحق أن كل نفس عليها ما تستطيعه بل وأقل منه حتى لا تنفر من العبادة، ولا يصيبها الملل والكسل. وقد وصف الله عباده في النهار بالمشي هونا، وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وفي الليل بأنهم يبيتون لربهم سجدا وقياما «عبّاد الليل وفرسان النهار» . 4- وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً نعم هؤلاء هم عباد الرحمن حقا يفعلون من الخير ما يفعلون، ولكنهم دائما في حذر وخوف، ولا يأمنون مكر الله، إنه لا يأمن مكره إلا القوم الفاسقون، هؤلاء دائما يذكرون الله، ويخشون عذابه، ويقولون سائلين متضرعين: ربنا اصرف عنا عذاب جهنم الذي أعد للعصاة إن عذابها كان لازما لزوم الغريم، إنها ساءت مستقرّا ومقاما وهذه الآية كقوله تعالى: وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ [سورة المؤمنون آية 60] . 5- وَالَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً وتلك أساس الاقتصاد بل أولى دعائمه ساقها القرآن من أربعة عشر قرنا، وإن جهلها المسلمون ولم يعملوا بها حتى غزانا الأجنبى اقتصاديا كما غزانا سياسيا. والدين كثيرا ما أمرنا به انظر إلى قوله تعالى: وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ. إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ من سورة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 736 الإسراء. والإنفاق المطلوب شرعا في الأمور المباحة هو ما كان بين الإسراف والتقتير إذ خير الأمور أوسطها، واعلم أنه لا سرف في الخير ولا خير في السرف، وقد قيل: الاقتصاد نصف المعيشة وما عال من اقتصد. والاقتصاد فضيلة بلا شك بشرط أن لا يصل إلى حد التقتير والمبالغة في الإمساك، واحذروا أيها المسلمون من أعدائكم في الاقتصاديات فهم يريدون فرض نفوذهم علينا إما بالسيف أو بالمال أو بالعلم، وحذار ثم حذار من ألا عيبهم التي تجوز على كثير منا. من صفاتهم أيضا [سورة الفرقان (25) : الآيات 68 الى 77] وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74) أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَسَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 737 المفردات: أَثاماً عقابا وجزاء مُهاناً ذليلا مطرودا لا يَشْهَدُونَ إما من الشهادة أو من الشهود أى الحضور بِاللَّغْوِ اللغو: كل ما لا خير فيه من قول أو فعل لَمْ يَخِرُّوا الخرور. السقوط على غير ترتيب ونظام قُرَّةَ أَعْيُنٍ المراد ما به تقر عيوننا أى: تسكن وتهدأ الْغُرْفَةَ كل بناء عال فهو غرفة المراد الدرجة الرفيعة، وهي أعلى منازل الجنة وأفضلها ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي يقال: أنا لا أعبأ بفلان أى لا أبالى به، وأصل العبء هو الحمل الثقيل: والمراد ما كان له عندي وزن ولا قدر. وهذه صفات سلبية بعيدة كل البعد عن العباد المؤمنين، وهي صفات المشركين الجاهلين، فقد كان منتشرا عندهم الشرك وعبادة الصنم، وقتل النفس بغير حق، والإغارة على الآمن، ووأد البنات خوف الفقر، والزنا السرى في الأشراف، العلنى في الإماء. وغير ذلك من الموبقات. وقد روى مسلم من حديث عبد الله بن سعود قال: قلت: يا رسول الله. أى الذنب أكبر عند الله؟ قال: «أن تدعو لله ندّا وهو خلقك» قال: ثم أى؟ قال: «أن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك» قال: ثم أى؟ قال: «أن تزانى حليلة جارك» فأنزل الله- تعالى- تصديقها في هذه الآيات. المعنى: وعباد الرحمن الموصفون بما تقدم من صفات هم أيضا المنزهون عن تلك.. 6- وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فهم البعيدون عن الشرك بالله، ولا يدعون مع الله إلها آخر بل وجهتهم ربهم، به آمنوا، وعليه توكلوا، وإليه التجئوا مخلصين غير مشركين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 738 7- وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ اعلم يا أخى أن دم الإنسان محترم ولا يباح الاعتداء عليه إلا في ثلاث، إذا ارتد بعد إسلام، أو زنى بعد إحصان أو اعتدى بقتل إنسان لم يحل قتله، فالمؤمنون هم الذين لا يقتلون نفسا حرم الله قتلها إلا بحق، وصاحب الحق في قتل من ارتد أو قتل أو زنى هو الإمام، أى الحاكم. 8- وَلا يَزْنُونَ ... والزنى جريمة شنعاء، وفعلة نكراء، لا يأتيها إنسان ومعه ضمير حي، ولقد صدق رسول الله «لا يزنى الزّاني حين يزنى وهو مؤمن» ولذا كان النهى عن القرب من الزنا في قوله تعالى وَلا تَقْرَبُوا الزِّنى [الإسراء 32] وهذه الصفات الثلاث أمهات الكبائر، وعنوان الرذائل فمن يفعلها يلق أثاما وعذابا ونكالا. ويضاعف له العذاب يوم القيامة أضعافا، الله أعلم بها، ويخلد فيه حالة كونه مهانا، إلا من تاب وأناب، وآمن بالله وعاد إلى رشده، وعمل عملا صالحا كدليل على صدق التوبة، وحسن النية، وحقيقة الندم. والتوبة كما قلنا مرارا عملية تطهير للنفس، لها أصول تقتضي الإيمان الكامل، والعلم بالذنب والإقرار به، والندم عليه. والعزم على عدم العودة إليه والعمل الصالح فليست التوبة باللسان فقط. فأولئك التائبون العاملون يبدل الله سيئاتهم حسنات، وكان الله غفورا للذنوب رحيما بالعباد يقبل التوبة عنهم، ويعفو عن سيئاتهم. وفي تبديل السيئة بالحسنة نظريتان، قيل يبدل الله إيمانا بدل الشرك، وإخلاصا بدل النفاق والشك، وإحصانا بدل الفجور، وحسنات بدل سيئات الأعمال، وقد روى أبو ذر الغفاري عن النبي صلّى الله عليه وسلم «إنّ السّيئات تبدّل بحسنات» . وفي الخبر: «ليتمنين أقوام أنهم أكثروا من السيئات» فقيل: ومن هم؟ قال: «الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات» رواه أبو هريرة .. ولا حرج على فضل الله يجعل مكان السيئة حسنة إذا تاب العبد وأحسن التوبة، ففي الحديث «اتّق الله حيثما كنت، وأتبع السّيّئة الحسنة تمحها، وخالق النّاس بخلق حسن» . النظرية الثانية أن المراد تغيرت أحوالهم السيئة إلى أحوال حسنة فأبدلهم الله بالعمل السيئ العمل الصالح، والأمر كله بيد الله، ومن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 739 تاب عن أى ذنب عمله فإنه يتوب إلى الله توبة حقا، والله تكفل بجزائه الجزاء الحسن على ذلك. 9- وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً والزور هو: الكذب أو الشرك وعبادة الأصنام، أو الفسق والباطل، وقيل هو أعياد المشركين أى: مشاركة الكفار في مواسمهم وأعيادهم، وعلى هذا فالمراد حضور تلك المآثم والاشتراك فيها، أو المعنى لا يشهدون الزور وهو الكذب متعمدا على الغير. وقد روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم في الصحيحين عن أبى بكرة قال: قال رسول الله «ألا أنبّئكم بأكبر الكبائر؟ - ثلاثا» - قلنا: بلى يا رسول الله قال: «الشّرك بالله، وعقوق الوالدين» وكان متكئا فجلس فقال: «ألا وقول الزّور ألا وشهادة الزّور» فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت. والأظهر أن المراد لا يحضرون الزور وكل بهتان وإثم، وإذا اتفق ومروا عليه مرور الكرام لا يلتفتون، ولا يشتركون مع الآثمين. 10- وَالَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَعُمْياناً فهم الذين إذا ذكروا بآيات الله أو تليت عليهم آياته وجلت قلوبهم، وازداد إيمانهم وتوكلهم على الله بخلاف الكفار فهم إذا سمعوا آيات الله لم يتأثروا، ولم يتغيروا عما كانوا عليه بل يظل حالهم على ما كان بل وقد يسوء وَإِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً؟ «1» فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «2» ، إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا «3» وقال الزمخشري في تفسير هذه الآية ما معناه: إذا ذكروا بآيات الله أكبوا عليها وأقبلوا على من ذكروهم بها بأذن سامعة وأعين باصرة، وقلوب واعية لا كالكفار وعصاة المؤمنين إذا ذكروا بالقرآن تراهم مقبلين بوجوههم فقط وهم صم الآذان عمى البصائر والأبصار حيث لم يفهموا من هذا القرآن شيئا، ولم يتعظوا بمرور تلك الآيات أبدا. 11- وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً المؤمن الكامل هو الذي يجعل نفسه متجهة إلى الباقية لا العاجلة فيكون همه الآخرة وما فيها، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون، وهو الذي يطلب من الله أن   (1) التوبة الآية 124. - (2) التوبة الآيتان 124 و 125. -[ ..... ] (3) مريم الآية 58. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 740 يهب له زوجا وذرية مؤمنة صالحة عاملة الخير مبتعدة عن الشر لتقر عينه وتسكن نفسه، ولا تتطلع إلى غيره، وليس معقولا أن يطلب ذلك لمال أو جمال بدليل قوله تعالى بعد ذلك: وَاجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً يقتدى بنا في الإيمان العميق والعمل الوثيق «إنكم أيها الرهط أئمة يقتدى بكم» وكان ابن عمر يقول في دعائه: اللهم اجعلنا من أئمة المتقين أولئك الموصفون بما ذكر من جليل الصفات وعظيم الأعمال والخلال الإيجابية والسلبية وهي إحدى عشرة صفة: التواضع وعدم الكبر، والحلم. والتهجد ليلا. والخوف من عذاب الله، وترك الإسراف والتقتير، والبعد عن الشرك، والزنا، والقتل، والبعد عن شهادة الزور، ودعاء الله بصالح الأزواج والذرية أولئك يجزون الغرفة بما صبروا، ويعطون الجنة بما عملوا من صالح الأعمال، ويلقون فيها تحية من الله وسلاما من الملائكة. خالدين فيها حسنت الغرفة مستقرا، وحسنت مقاما وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها.. [سورة هود آية 108] . وفي الختام بين الله أنه غنى عن الكل، وإنما كلفهم لينتفعوا، وعذبهم لعصيانه وتكذيب رسله فقال ما يفعل الله بعذابكم ... الآية والمعنى. لا يبالى بكم، ولا يكترث، وليس لكم وزن عنده إذا لم تعبدوه، فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه، ويوحدوه، ويسبحوه بكرة وأصيلا، والمعنى لولا إيمانكم ما أبالى بكم أى: إنى لا أعتد بعبادي إلا لعبادتهم، وأما أنتم يا كفار مكة فقد خالفتم بتكذيبكم حكمى فسوف يلزمكم نتيجة تكذيبكم وهو عقاب الآخرة لزوما دائما مستمرا فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ [سورة هود الآيتان 106، 107] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 741 سورة الشعراء مكية كلها إلا آيات أربع من قوله تعالى: «يتبعهم الغاوون» إلى آخر السورة، وعدد آياتها مائتان وسبع وعشرون آية. موقف المشركين من الدعوة الإسلامية [سورة الشعراء (26) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9) المفردات: طسم تقرأ طا. سين. ميم. مع إدغام نون سين في الميم التي تليها باخِعٌ البخع أن يبلغ بالذابح النخاع، وذلك أقصى حد الذابح والمراد قاتلها ومهلكها أَعْناقُهُمْ قادتهم ورؤساؤهم زَوْجٍ صنف كَرِيمٍ حسن جميل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 742 وهذا بدء لسورة الشعراء، وهي سورة مكية، افتتحت بأحرف هجائية فيها ما قلناه في أول سورة البقرة، وما خلاصته أن الله أعلم به ونحن نقف عند هذا الحد، وهو كالشفرة بين الله- جل جلاله- ورسوله الأعظم إذ هو مخاطب به فلا بد أن يعرف معناه، وقال البعض: لا بد أن نفهم له معنى وسرا، والظاهر أنه أتى به للتحدى بالقرآن الذي هو مكون من حروف المعجم العربية التي ينطق بها كل عربي، ومع هذا عجزوا عجزا ظاهرا. وهكذا جاءت السورة بذلك الطابع حيث تكلمت عن القرآن الكريم وموقف المشركين منه، ثم تعرضت لقصص بعض الأنبياء- عليهم السلام-، ثم ختمت بالكلام على القرآن والنبي صلّى الله عليه وسلم. المعنى: هذه الآيات- الإشارة إلى آيات هذه السورة- آيات من الكتاب أى: القرآن الكريم المبين عن أغراضه ومقاصده وأحكامه وإعجازه، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ وهذه الإبانة في الواقع ونفس الأمر بقطع النظر عن عقيدة الكفار. نعم أنزل عليك يا محمد كتاب أحكمت آياته، وفصلت من لدن حكيم خبير، فيه الهدى والنور لك ولأمتك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون، وإذا كان هذا القرآن كذلك، ولم يؤمنوا به، فليس لنقص فيه. ولكن الله أراد ذلك، وعلى هذا فلا تبالغ في الحزن والأسف على عدم إيمانهم لأنك إن بالغت فيه كنت كمن يقتل نفسه، ويبالغ في ذبحها، ثم لا ينتفع بذلك أبدا، فنحن مشفقون عليك أيها الرسول إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ. واعلم أن الله على كل شيء قدير، وهو قادر على أن ينزل آية تلجئهم إلى الإيمان وتقسرهم عليه، وهم يذلون لها ويخضعون وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «1» . وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً «2» وكانت حكمته أن جعل الناس أحرارا، وجعل لهم اختيارا فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وقد قامت الحجة على الناس بإرسال الرسل إليهم، وإنزال الكتب عليهم مبشرين ومنذرين، ولهذا أثابهم وعاقبهم.   (1) سورة يونس الآية 99. (2) سورة هود الآية 118. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 743 ولكن كلما جاء أمة رسولها كذبوه، وأعرض أكثرهم فهم لا يؤمنون، وها هم أولاء كفار مكة ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا كانوا عنه معرضين، والقرآن الكريم نزل على النبي صلّى الله عليه وسلم منجما تبعا للحوادث، وتلاه جبريل على النبي سورة بعد سورة وآية بعد آية فالقرآن أى الحروف والأصوات حادث بهذا المعنى. والله- سبحانه- يقول لهم ما معناه: إن الله قادر على أن ينزل آية تخضع لها أعناقهم وتذل، ومع هذا فهو ينزل القرآن آية بعد آية رحمة بهم لعلهم يهتدون ويتذكرون ولكنهم أبدا لا يتعظون ولا يؤمنون، بل هم معرضون ومكذبون ومستهزئون، وإذا كانوا هم بهذا الوضع فلا ينفع معهم إلا الزجر الشديد، والوعيد الذي يهز القلوب وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ «1» ولقد صدق الله حيث يقول فيهم: وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ «2» نعم سيرون هذا بنزول العذاب عليهم في الدنيا، ونصرة محمد وصحبه الضعاف عليهم، أو سيرون ذلك يوم القيامة. وقد بين الله- سبحانه- أنه مع إنزال القرآن آية بعد آية، وحالا بعد حال قد أظهر أدلة كونية في كتاب الوجود لا تخفى على أحد ممن يعقل فقال. أعموا ولم يروا إلى الأرض وعجائبها؟ التي تنطق بأن لهذا الكون إلها قويا قادرا عليما خبيرا، لا يمكن أن يقاس بتلك الأصنام والأحجار، أو لم يروا إلى الأرض كثيرا ما أنبتنا فيها من كل زوج وصنف كريم، ولا شك أن كل نبات في الأرض كريم أى له فوائد، وإن خفيت على بعض الناس. إن في ذلك الإنبات لآية بليغة معجزة قوية وأى آية؟!! وما كان أكثرهم مؤمنين وإن ربك لهو العزيز يعز أولياءه وينصر أحبابه، القوى الذي يهزم أعداءه، ويهلكهم حيث يستحقون ذلك، الرحيم بالعباد جميعا ففي نعمه ونقمه رحمة بالخلق وقد نفى القرآن عنهم الرؤية مع أنهم يرون، ولكنهم كالبهائم التي ترى ولا تعقل، والرؤية المنفية عنهم هي رؤية الروح والقلب التي بها العظة والعبرة والذكرى لا رؤية العين فإنها موجودة.   (1) سورة ص الآية 88. (2) سورة الشعراء الآيتان 5 و 6. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 744 قصة موسى مع فرعون وملئه [سورة الشعراء (26) : الآيات 10 الى 68] وَإِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19) قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22) قالَ فِرْعَوْنُ وَما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28) قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَماذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَأَخاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَإِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسى وَهارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51) وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 745 المفردات: كَلَّا كلمة زجر وردع والمراد: اتق الله وانزجر عن خوفك منهم بِآياتِنا المراد هنا معجزاتنا فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ خرجت من بينكم إلى مدين لا ضَيْرَ لا ضرر فيما يلحقنا من عذاب الدنيا أَسْرِ بِعِبادِي أى سربهم ليلا لَشِرْذِمَةٌ لجميع قليل محتقر لَغائِظُونَ أى: غاظونا بخروجهم من غير إذن حاشِرِينَ جامعين لأفراد الجيش مُشْرِقِينَ داخلين في وقت الشروق تَراءَا الْجَمْعانِ المراد التقى الجيشان فِرْقٍ الفرق القطعة من البحر كَالطَّوْدِ الجبل الشامخ وَأَزْلَفْنا وقربنا هناك قوم فرعون حاذِرُونَ آخذون حذرهم وأهبتهم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 747 هذه هي قصة موسى مع فرعون وملئه، وقد ذكرت في سور هي البقرة. والأعراف. ويونس. وهود. وطه. والشعراء. والنمل. والقصص. وغافر. والسجدة. والنازعات، ولكن بأساليب مختلفة. وقصة موسى مع فرعون تشتمل على عناصر وقد ذكرت في مواضع سنلخصها بما يأتى: ولادته وإرضاعه: في سورة القصص من آية 7 إلى 13 في سورة طه من آية 27 إلى 40 تربيته في بيت فرعون: في سورة الشعراء من آية 18 خروج موسى من مصر إلى أرض مدين: في سورة طه من آية 40 في سورة القصص من آية 15 إلى 21 أرض مدين ونزوله بها: في سورة القصص من آية 22 إلى 25 قضاء موسى مدة استئجاره: في سورة القصص من آية 26 إلى 28 موسى بالوادي: في سورة طه من آية 9 إلى 23 في سورة القصص من آية 44 إلى 46 في سورة القصص من آية 29 إلى 32 في سورة النمل من آية 7 إلى 12 بعثته عليه السلام: في سورة طه من آية 24 إلى 36 في سورة طه من آية 42 إلى 47 في سورة الشعراء من آية 10 إلى 16 في سورة النازعات من آية 15 إلى 19 عودة موسى إلى مصر ودعوته لفرعون: في سورة الأعراف من آية 104 إلى 105 في سورة الشعراء من آية 17 إلى 22 موسى يحاج فرعون في ربوبية الله في سورة طه من آية 48 إلى 55 في سورة الشعراء من آية 23 إلى 55 فرعون يتجاهل الله ويدعى الألوهية في سورة القصص من آية 28 في سورة غافر من آية 36 إلى 37 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 748 معجزة العصا واليد: في سورة الأعراف من آية 106 إلى 126 في سورة يونس من آية 79 إلى 89 في سورة طه من آية 57 إلى 76 في سورة الشعراء من آية 29 إلى 52 تمادى فرعون في الكفر وإيذاء بنى إسرائيل: في سورة الأعراف من آية 127 إلى 129 في سورة غافر من آية 25 إلى 52 الائتمار بموسى لقتله: في سورة غافر من آية 28 إلى 46 آيات الله على فرعون: في سورة الأعراف من آية 130 إلى 135 في سورة الإسراء من آية 101 إلى 102 في سورة النمل من آية 13 إلى 14 في سورة القصص من آية 36 إلى 37 في سورة الزخرف من آية 46 إلى 50 في سورة النازعات من آية 20 إلى 21 انطلاق بنى إسرائيل وغرق فرق فرعون: في سورة الأعراف من آية 136 إلى 137 في سورة يونس من آية 90 إلى 92 في سورة الإسراء من آية 103 إلى 104 في سورة طه من آية 77 إلى 79 في سورة الشعراء من آية 52 إلى 68 في سورة الدخان من آية 17 إلى 31 نرى أن تلك القصة التي عنى بها القرآن الكريم، وجاء بالقول الفصل فيها. ذكرت في عدة مواضع، وبأساليب مختلفة في الإجمال والتفصيل، وكل سورة ذكر فيها شيء عن القصة، وبعض السور اشتركت في بعض العناصر المهمة- وقد عرفنا أن كل موضع في القرآن ذكر فيه شيء عن موسى أو غيره فالمذكور مناسب تماما لسياق الآيات السابق واللاحق، والقصة هنا ذكرت آية على قدرة الله، وأنه ينصر أولياءه ويهلك أعداءه الذين كذبوا رسله مهما كان لهم من حول وطول وملك وسنسوق المعنى الإجمالى للآيات المذكورة هنا بعون الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 749 المعنى: واذكر يا محمد وقت أن نادى ربك موسى، وهو بالوادي المقدس طوى والمراد ذكر ما حصل في الوقت من عجائب وأحوال، ولقد ناداه ربك بكلام هو أعلم بكيفيته، والمهم أن موسى عرف ما ناداه به ربه، وقام بما كلفه خير قيام، ناداه، وقال له: أئت القوم الظالمين، قوم فرعون فإنهم ظلموا أنفسهم بالشرك، وظلموا بنى إسرائيل حيث أذاقوهم العذاب الأليم، ألا يتقون هؤلاء الناس؟ ألا يخافون بطش العزيز الجبار؟!! يوم لا ينفع مال ولا بنون. قال موسى: يا رب إنى أخاف أن يكذبوني ويضيق صدري بما يعملون، ولقد عشت بعيدا عن مصر مدة من الزمن فضعفت لهجتى المصرية، فلا ينطلق لساني بها، وأخى هارون هو أفصح منى لسانا، وأقوى بيانا، ولهم على ذنب، فإنى قد قتلت قبطيا قبل خروجي من مصر، لهذا وذاك فإنى أخاف أن يقتلوني، قال الله- سبحانه وتعالى- كَلَّا لن يصيبك شيء أبدا، فالله معك، وناصرك أنت وأخيك، فاذهبا إلى فرعون وملئه بآياتنا ومعجزاتنا، إنا معكم، ولن نترككم لحظة، فالله سميع بصير، لا تخفى عليه خافية. فأتيا فرعون. فقولا له: إنا رسولا رب العالمين لك ولقومك، فأرسل معنا بنى إسرائيل ليعبدوا ربهم في البرية، ولا تعذبهم يا فرعون ... قد جئناك بآية من ربك، والسلام على من اتبع الهدى. طلب موسى من فرعون، أن يرسل معه بنى إسرائيل ليذهب بهم إلى فلسطين قال له فرعون: يا موسى: كيف تجيء بدين يخالف ديننا، وتأتى بأمور على غير رغبتنا؟! ألم نربك فينا وليدا؟ وقد لبثت بين يدينا في بيت الملك مدة من الزمن نحتضنك ونربيك؟ فكيف يصدر هذا منك؟، ومتى كان هذا الذي تدعيه؟ والمراد قر واعترف بأنا ربيناك، ومكثت عندنا وفي بيتنا عددا من السنين، ثم ذكره بفعلة فعلها قبل خروجه من مصر فقال له: قر واعترف بأنك فعلت فعلتك التي فعلتها، وهي قتل القبطي، فعلتها وأنت من الكافرين بقتل نفس بغير حق. ومن كان هذا وصفه بأن ربي في بيت فرعون، وكان الأليق به ألا يأتى بشيء على غير رغبته ردّا للجميل، ومن قتل قبطيّا، وارتكب مثل هذا الذنب لا يضيف الجزء: 2 ¦ الصفحة: 750 إلى ذنبه ذنبا آخر هو ترك عبادة الآلهة إلى ديانة غير معروفة وعبادة غير مألوفة، ولذا يرد موسى- عليه السلام- بقوله: أما قتل القبطي فقد فعلت فعلتى هذه، وأنا من الضالين الجاهلين الذين لم يعرفوا الحق فيتبعوه، فليس على فيما فعلته توبيخ، وقد خرجت من دياركم، وفررت منكم لما خفتكم، فوهب لي ربي من عنده حكما وعلما، وجعلني من الأنبياء، والمرسلين، فليس هذا موضع غرابة وتعجب وإنكار منكم على، وتلك نعمة تمنها على، وهي تربيتي في بيتك؟ وقد استعبدت بنى إسرائيل قومي، والمعنى ما كان لك أن تمن على بأن ربيتني في بيتك، في حال إنك عذبت بنى إسرائيل وأذقتهم سوء العذاب. محاجة موسى لفرعون في شأن ربه: لما ألحّ موسى في طلب إخراج بنى إسرائيل من مصر إلى فلسطين، وطلب من فرعون وملئه أن يعبدوا ربهم الذي خلقهم، ولم يجد معه التلطف والتذكير بالنعم وخلق هذا العالم قال له فرعون: وما رب العالمين؟ قال موسى: هو رب السموات والأرض وما بينهما، خلق ذلك وابتدعه على أحسن صورة وأكمل نظام، إن كنتم موفقين فاعلموا ذلك، فالتفت فرعون إلى من حوله من ملئه مظهرا العجب قائلا. ألا تسمعون لهذا التخريف، واستمر موسى في كلامه قائلا: هو ربكم ورب آبائكم الأولين، لفت نظرهم إلى شيء هام، وهو أن الرب الحقيقي الذي خلقكم وخلق آباءكم الأولين، فأنتم محدثون. كنتم بعد العدم، وآباؤكم ذهبوا وماتوا بعد أن كانوا موجودين، وفرعون أمره كذلك كان بعد العدم، وسيفنى بعد الوجود، وأما الإله فهو الباقي بعد فناء خلقه، القديم الذي لا أول لوجوده ... فما كان من فرعون إلا أن قال لقومه: إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون لأنه جاءنا بشيء لا نعرفه. وأما موسى فقال: هو الله رب المشرق والمغرب، ورب الكون كله وصاحب الأمر فيه جل جلاله، وتقدست أسماؤه، وتنزه عن الشبيه والولد والوالد، فهو الإله الحق، لا ما أنتم فيه، إن كنتم تعقلون. وفي سورة (طه) تتميم لهذا الموقف إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) إلى آخر الآيات. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 751 يا فرعون: إنى رسول رب العالمين، ولما أنكر فرعون ذلك قال له موسى: أتنكر ولو جئتك بشيء مبين من المعجزات والآيات الدالة على صدقى؟!! فقال له فرعون. إن كنت من الصادقين فائت بآية تشهد لك، فألقى موسى عصاه من يده، فإذا هي ثعبان ظاهر، لا شك فيه، يتحرك ويسعى، ووضع يده في جيب قميصه ثم نزعها فإذا هي بيضاء للناظرين. ولما رأى فرعون وقومه تلك الآيتين الحسيتين اللتين تشهدان لموسى بالصدق قالوا هذا سحر مبين، وهذا ساحر ماهر يموه علينا، ويقلب الحقائق، فهو كبقية السحرة، وليس رسولا لرب العالمين كما يدعى، هذا الذي يريد أن يخرجكم من أرضكم ويتغلب عليكم بسحره، ويأخذ بنى إسرائيل من تحت أيديكم ... وتشاوروا فيما بينهم: ماذا يفعلون؟ قال بعضهم لفرعون: الرأى أننا نرجئ أمر موسى وأخيه إلى موعد نضربه معهما، ونجمع السحرة المهرة من كل مكان في الدولة، وهؤلاء السحرة ستأتى في مشهد من الناس بأفعال كفعله وأقوى، فتكون النتيجة أنه كباقي السحرة في المدينة، وليس له فضل، ولا حق فيما يدعيه، وكان هذا هو الرأى ... أرسل فرعون في المدائن حاشرين يجمعون له السحرة من كل حدب وصوب، وكان السحرة في القديم هم الطبقة المثقفة، ولهم مكانتهم عند الملوك والجبابرة وجاءوا مدلين واثقين من أنفسهم وتغلبهم على موسى، وطالبوا بأجرهم فقال فرعون. نعم لكم ما تطلبون، وإنكم إذ تغلبون لمن المقربين. فلما اجتمع القوم، التقى السحرة بموسى قال لهم: ألقوا ما أنتم ملقون به، من العصى والحبال، وذلك بعد ما عرضوا على موسى أن يلقى هو أولا ... فألقوا حبالهم وعصيهم، فامتلأ المكان حيات وثعابين، وخيل إلى الكل حتى موسى أنها تسعى وقالوا إنا بعزة فرعون لغالبون. في تلك اللحظة ابتهج فرعون وقومه، وأيقنوا أن السحرة غلبوا، وأن موسى لن يستطيع أن يغلبهم في شيء إذ معه عصاه، وستكون حية واحدة بين آلاف الحيات. وعند ذلك أوجس موسى في نفسه خيفة، فأمره الله أن يلقى عصاه فإذا هي حية تسعى، وإذا هي تبلع حيات السحرة وتتلقفها بسرعة فائقة!! الآن ظهر الحق، وبطل ما كانوا يعملون، ودهش آل فرعون والملأ من قومه، وعلم السحرة أن السحر لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 752 يفعل مثل ذلك، إذ غايته أنه يخيل إلى الناس أشياء في الظاهر. أما الحقائق فتبقى كما هي من غير تغيير، وعصى موسى قد غيرت الحقائق، بل ابتلعت كل ما كانوا يفعلون من العصى والحبال. علم السحرة أن السحر لا يفعل ذلك، إنما هي القوة الإلهية التي صنعت ذلك، القوة القادرة التي هي فوق قوى البشر جميعا، فخروا ساجدين لله بلا شعور ولا نظام ولا ترتيب وآمنوا برب موسى وهارون، مفضلين الحق على الباطل، رامين بقول فرعون وأجره وباطله وجبروته عرض الحائط، غير عابثين بما يترتب على ذلك من نتائج. لما رأى فرعون ذلك تحير ماذا يفعل في هذا الحدث الخطير الذي شاع وانتشر بين الشعب جميعه، وكان في طلبه الناس ليشهدوا الحفل، وجمعه السحرة ليعجزوا موسى، كان في هذا كله كالساعي لحتفه بظلفه. ثم التفت إلى السحرة الذين خذلوه في وقت هو في أشد الحاجة إلى أن ينصروه، وقال لهم متوعدا: آمنتم له، وصدقتم برسالته عن ربه قبل أن آذن لكم؟!! إن هذا لمكر مكرتموه في المدينة، وهو تدبير اتفقتم عليه سابقا، إنه لكبيركم الذي علمكم السحر قديما، قال هذا وهو يعلم أنه ربي في بيته ثم هاجر إلى مدين، وعاد منها رسولا، فلم يجتمع بالسحرة أبدا، ولم يدبر معهم أمرا، ولا علمهم علما، ولكنه المغلوب يتخبط تخبط الأعمى. ثم هددهم بالعذاب المادي فقال لهم: لأقطعن أيديكم وأرجلكم من خلاف، ولأصلبنكم جميعا في جذوع النخل، ولتعلمن بعد هذا: أينا أشد عذابا وأقوى؟! قال السحرة مقالة المؤمن الواثق، المؤمن الفاهم، المؤمن العالم بحقائق الأشياء قالوا: لا ضير علينا، ولا ضرر، فيما يلحقنا من عذاب الدنيا، فعذابك ساعة نصبر عليها، ونلقى الله مؤمنين، إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ وماذا يفعل عذابك؟ إنه لن ينال إلا الجسد الفاني، والمادة الزائلة، أما نحن فيستحيل علينا أن نؤثرك على ما جاءنا من البينات والهدى، والنور الذي قذفه في قلوبنا ربنا، فاقض ما أنت قاض، إنما تقضى هذه الحياة الدنيا، إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا لأن كنا أول المؤمنين، إنا نطمع فيه أن يغفر لنا خطايانا، وما أكرهتنا عليه من السحر، واعلم أن الله خير وأبقى. هكذا أيها الأخ المسلم قديما وحديثا كان العذاب والإيلام لأخيك المؤمن الذي قال الجزء: 2 ¦ الصفحة: 753 الحق، واتبع الحق، وآمن بالحق، وصدق برسول الحق، ولقد صدق الله حيث يقول وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ [سورة الأعراف آية 126] . فصبرا ثم صبرا لكل من عذب في سبيل الله والدعوة لدين الله، فعسى أن يكون هذا تطهيرا لنفوسنا وإصلاحا لقلوبنا أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [سورة العنكبوت آية 2] . انطلاق بنى إسرائيل وخروجهم من مصر وغرق فرعون: أوحى الله إلى موسى بعد هذا كله: أن أسر بعبادي، واخرج بهم ليلا، ففعل موسى، وقد أخبره الله أن فرعون سيتبعه، وكان كذلك فلما علم فرعون بخروجهم أرسل في المدائن من يجمع له الجند الكثيف والجيش الكثير ليردهم إلى العبودية، وقال: إن هؤلاء، أى: بنى إسرائيل جماعة قليلة إذا قيست بالمصريين، وإنهم لنا لغائظون، حيث سفهوا أحلامنا، وجاءوا لنا بدين لم نألفه، وشرع لم نعرفه، إنا لجمع حاشد، ومعنا جيش منظم مستعد كامل العدد والعدد، قد اتخذ أهبته وحمل سلاحه. فلحقوهم عند شروق الشمس صباحا على خليج السويس، فلما رأى بنو إسرائيل فرعون وجنده أيقنوا بالهلاك، ولكن موسى النبي الملهم سكن روعهم، وهدأ نفوسهم وبشرهم بالنصر العاجل، والهلاك الماحق لفرعون ومن حوله فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ فأوحى الله إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق، ولما انفلق البحر صار فيه اثنا عشر طريقا على عدد أسباط بنى إسرائيل، ووقف الماء بينهم كالطود العظيم، فصار لموسى وأصحابه طريقا في البحر يبسا. وأما فرعون وقومه فتبعوا بنى إسرائيل، وصاروا خلفهم حتى إذا ما توسطوا الماء وقد نجا بنو إسرائيل، وجاوزوا البحر، انطبق البحر على فرعون وجنوده وعاد كما كان أولا، ولم يفلت منهم أحد، وهذا معنى قوله تعالى. وَأَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ وَأَنْجَيْنا مُوسى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ [سورة الشعراء الآيتان 64 و 65] . وهكذا نجى الله المؤمنين، وأهلك الظالمين الكافرين، وأخرجهم من جنات وعيون، وكنوز ومقام كريم، هكذا أورثناها بنى إسرائيل حقبة من الزمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 754 إن في ذلك لآية، ومعجزة لمن ينظر ويتعظ ولقد نصر الله عباده المؤمنين وهزم أعداءه وأحزاب الشياطين على كثرتهم، وهكذا سنة الله في خلقه، ولن تتخلف أبدا وحقا إن ربك لهو العزيز يعز أولياءه ويهزم أعداءه الرحيم بالخلق جميعا. قصة إبراهيم [سورة الشعراء (26) : الآيات 69 الى 104] وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82) رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَالْغاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99) فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 755 المفردات: نَبَأَ النبأ الخبر المهم عاكِفِينَ مقيمين على عبادتها خَطِيئَتِي ذنبي حُكْماً فهما وعلما، وحكمة، ومنه قولهم: الصمت حكم وقليل فاعله لِسانَ صِدْقٍ أى ثناء حسنا. وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ قربت وأدنيت ليدخلوها وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ المراد ظهرت جهنم فَكُبْكِبُوا فِيها ألقوا فيها، والكبكبة الإلقاء على الوجه مرة بعد مرة كَرَّةً رجعة إلى الدنيا. وتتلخص القصة التي ذكرت في هذه السورة: (أ) في محاجة إبراهيم لأبيه وقومه في عبادة الأصنام وترك عبادة الواحد القهار. (ب) ما ينتظره المؤمنون والكافرون يوم القيامة من أحوال. (ج) العبرة من القصة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 756 المعنى: واتل يا محمد على كفار مكة وعلى غيرهم نبأ إبراهيم، وخبره المهم ليعرف المشركون خصوصا أهل مكة ما كان عليه أبوهم إبراهيم، وكيف كانت مواقفه مع قومه وبخاصة أبيه، وفي ذلك عبرة لأولى الألباب. واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون؟ سألهم عن عبادتهم وهو بها أعرف ليلفت نظرهم إلى ما يعبدون.. قالوا: يا إبراهيم: نعبد أصناما فنظل لها عاكفين، وعلى عبادتها مقيمين.. قال إبراهيم مناقشا لهم: عجبا لكم! هل يسمعون دعاءكم إذ تدعون؟ وهل ينفعونكم في شيء أو يضرون؟ .. قالوا مجيبين له على سؤاله واعتراضه: بل وجدنا آباءنا لها عابدين يا عجبا؟ يلفت إبراهيم نظرهم إلى هذه الأصنام التي لا تسمع دعاء، ولا يكون منها نفع ولا ضرر مقصود، يعنى ليس لهم حجة أبدا في عبادتها وتقديسها، وهم لا يرون لهم حجة أبدا إلا التقليد الأعمى فيقولون حجتنا: أنا وجدنا آباءنا لها عابدين، وإنا على آثارهم مقتدون. قال إبراهيم: أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون؟ والمعنى أخبرونى عن حال ما كنتم تعبدون. هل هم يستحقون العبادة أم لا؟ وهذا استهزاء منه بعبدة الأصنام، أخبرونى عن حالهم إن كانت لهم قوة حتى أحتاط لنفسي لأنهم أعداء لي. لكن رب العالمين ليس كذلك بل هو وليي في الدنيا والآخرة، وهو الذي خلقني، فهو يهديني إلى خيرى الدنيا والآخرة، ولقد صدق الله إذ يقول سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى [سورة الأعلى الآيات 1- 3] . وهو الذي يطعمنى ويسقيني أليس هو ربي وربكم الذي خلق ما في الكون وسخره- للإنسان، يأكل منه ويشرب، ويلبس ويتمتع رزقا للعبادا. ومتاعا لكم ولأنعامكم؟ وإذا مرضت فهو ربي الذي يشفيني إن كان في العمر بقية، وانظر إلى أدب النبوة العالي حيث نسب المرض إلى نفسه والشفاء لله مع أن الكل منه وإليه، وهذا لا يمنع من اتخاذ الأسباب والعمل بها. كالمتوكل على الله بعد الأخذ بها. والذي يميتني إذا انقضى أجلى، ثم يحييني للحساب والثواب، والموت وما بعده من حياة نعم من نعم الله على عبده. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 757 والذي أطمع وأرجو أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين والحساب، وهل لإبراهيم خطيئة وذنب؟ إنه من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، فمخالفة الأولى من هؤلاء ذنب، وإن كان منا ليس ذنبا. هذا هو الثناء على الحق جل جلاله بما يليق ثم أتبعه بالدعاء لنعلم أن من وسائل الاستجابة الثناء والتضرع والعبادة الخالصة ثم الدعاء، فإن دعونا بدون ذلك فقد جانبنا أدب الدعاء. رب هب لي حكما وحكمة، وعلما وفضلا يا واسع الفضل، وألحقنى بالصالحين في الدنيا والآخرة كما قال النبي صلّى الله عليه وسلّم عند الاحتضار «اللهم في الرفيق الأعلى» وإذا كان دعاء إبراهيم- عليه السلام- وهو أبو الأنبياء- عليهم جميعا الصلاة والسلام- أن يلحقه ربه مع الصالحين فما بالنا نحن؟ وبماذا ندعو الله؟!!!. يقول إبراهيم داعيا ربه: واجعل لي لسان صدق في الآخرين أى ذكرا جميلا، وثناء حسنا أذكر به، ولهذا كانت كل أمة تحبه وتتولاه، وتؤمن به وتدعى أنها على طريقته، وقيل معنى الآية: واجعل لي صاحب لسان صدق في الآخرين يجدد أصل ديني، ويدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه، من التوحيد الخالص والإيمان بالبعث وبيوم القيامة. وصاحب هذا اللسان الصادق هو محمد صلّى الله عليه وسلم. واجعلنى من ورثة جنة النعيم الذين يعطونها ويستحقونها بعملهم كاستحقاق الوارث من مال مورثه، واغفر لأبى إنه كان من الضالين الذين لم يعرفوا طريق الحق وهذا الدعاء قبل أن يتبين له أنه عدو لله فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ [سورة التوبة آية 114] . ولا تخزني يوم يبعثون، يوم لا ينفع مال ولا بنون، فإنه لا يقي المرء من عذاب الله ماله، ولو افتدى نفسه بملء الأرض ذهبا، ولا يقيه بنوه، ولو افتدى بمن في الأرض جميعا، ولا ينفع يومئذ إلا الإيمان بالله، والإخلاص له والبعد عما يغضبه من المعاصي والشرك، ولهذا قال الله: إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ سالم من دنس الشرك والمعاصي سليم من الشك والنفاق إذ هي أمراض القلوب فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ [التوبة 125] . هذا حال إبراهيم الخليل مع أبيه وقومه يحاجهم ويناقشهم، وهذا حاله مع ربه يثنى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 758 عليه الثناء الجميل، ويدعو بلسان رطب لسان مشغول بذكره تعالى لا ينساه، أما حال الناس فلا يخلو إما أن يكونوا مؤمنين أو كافرين، ولذا تعرض القرآن لهاتين الحالتين فقال: وأزلفت الجنة للمتقين، نعم، وقدمت لهم مجلوة كالعروس تملأ العين بهجة والقلب رواء، فلم يبحثوا عنها، ولم يتعبوا يوم القيامة في طلبها، وبرزت الجحيم للغاوين، وظهرت لهم تملأ قلوبهم حسرة، ونفوسهم حزنا وكدرة على ما فرط منهم من جهل وضلال في الدنيا، وقيل لهم تأنيبا: أين ما كنتم تعبدون؟ أين أولياؤكم من دون الله؟ هل ينفعونكم اليوم؟ هل ينصرونكم ويمنعونكم من العذاب؟ وهل ينصرون هم من عذاب الله؟ .. لا هذا ولا ذاك ولكنهم جميعا العابد والمعبود يلقون في النار على وجوههم، وسيلقى الله بعض الكفار على بعض إلقاء مكررا حتى يهوون في قعر جهنم جزاء بما كانوا يعملون. فكبكبوا فيها هم والغاوون لهم من شياطين الإنس والجن وجنود إبليس وأعوانه أجمعون. قالوا أى بعضهم لبعض- وهم في جنهم يختصمون- تالله إن كنا لفي ضلال مبين، إذ نسويكم أيها الأصنام والأحجار والملائكة وبعض البشر إذ نسويكم برب العالمين، ونجعل أمركم كأمره، وطاعتكم كطاعته، وفي الحق ما أضلنا إلا المجرمون فما لنا من شافعين يشفعون لنا، وما لنا من صديق حميم يدافع عنا أى ليس لنا هذا ولا ذاك إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ [سورة ص آية 64] . فلو أن لنا كرة فنكون من المؤمنين، تمنوا أن يرجعوا إلى الدنيا مرة ثانية ليعملوا ولكن كما قال لهم الله وَلَوْ رَحِمْناهُمْ وَكَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ [سورة المؤمنون آية 75] إنها قلوب عميت وضلت ولن تهتدى أبدا. إن في ذلك لآية وعبرة، نعم إن في محاجة إبراهيم لقومه، وتغلبه عليهم، وإقامة الحجة عليهم في التوحيد لآية وعبرة لأولى الألباب، وإن في موقف إبراهيم من أبيه وقومه لما يثبت قلب النبي ويهدئ روعه فلا يحزن على كفر قومه وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز المنتقم الجبار لمن عصاه، الرحيم بعباده المؤمنين الطائعين ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 759 قصة نوح مع قومه [سورة الشعراء (26) : الآيات 105 الى 122] كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110) قالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122) المفردات: الْأَرْذَلُونَ جمع أرذل. والمراد السفلة وأصحاب الحرف الوضيعة، وقيل هم الفقراء فَتْحاً احكم حكما الْمَشْحُونِ المملوء بالناس والحيوان. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 760 المعنى: هذه هي قصة نوح الذي عاش في قومه ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى عبادة الله، وترك الشرك وعبادة الأوثان، ومع ذلك كذبه قومه فقال الله فيهم: كذبت قوم نوح المرسلين، فإن من كذب رسولا واحدا فقد كذب الكل لأن الرسول يدعو إلى الإيمان بجميع الرسل وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ [سورة البقرة آية 285] . كذبوا إذ قال لهم أخوهم نوح: ألا تتقون! أتدعون صنما وتذرون أحسن الخالقين، والله ربكم ورب آبائكم الأولين، إنى يا قوم لكم رسول أمين في رسالتي صادق في دعواي أنى رسول رب العالمين، فاتقوا الله، وأطيعونى، وإنى لا أرى سببا لعصياني وتكذيبي وأنا أخوكم تعرفون عنى ما تعرفون من شرف النسب وكرم الخلق وصدق الحديث، وأنا لا أطلب بدعوتي مالا ولا جاها ولا ملكا، وما أجرى إلا على ربي، وليس جزائي إلا عنده فما لكم تكفرون؟ فيا قوم اتقوا الله وأطيعونى. قالوا يا نوح: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون؟ لم يجدوا حجة تؤيدهم في ترك الإيمان إلا أنه قد اتبعه ضعاف الناس وفقراء القوم. يا للعجب! الحياة يوم مكرر، فقديما وحديثا منع الناس من الإيمان ذلك الفهم السيئ، وذلك الغرور الكاذب الذي أوقع إبليس في العصيان لأنه اغتر وقال: أأسجد لآدم، وأنا خير منه خلقتني يا رب من نار وخلقته من طين، ومنع أشراف قريش من الإيمان بمحمد لأنه آمن به بلال وصهيب وغيرهم من عامة الناس. وهؤلاء أتباع نوح يقولون: أنؤمن لك ونصدق بك وقد اتبعك الأرذلون أصحاب الحرف الوضيعة. لا يمكن، نحن أشراف القوم! فيقول لهم نوح: وما علمي بما كانوا يعملون، لم أكلف العلم بأعمالهم وأحسابهم وأنسابهم. إنما كلفت بدعواهم للإيمان برب العالمين فاستجابوا لي، وآمنوا بي بعد إيمانهم بالله وملائكته واليوم الآخر، وأما أعمالهم فحسابهم على ربي لا علىّ، يا ليتكم تشعرون بذلك، لو تشعرون وتعلمون أن حسابهم على ربهم لما عاتبتمونى بصنائعهم، وما أنا بطارد المؤمنين مهما كانوا من فقر أو ضعف أو رقة حال فالكل سواء، ولا فضل لأحد إلا بالعمل الصالح، وما أنا إلا نذير مبين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 761 لم ينفعهم هذا الكلام، ولم يرضهم هذا الأسلوب بل عدوه إهانة لهم وسبأ لآلهتهم، وقالوا: لئن لم تنته يا نوح عن سب آلهتنا وتسفيه أحلامنا لتكونن من المرجومين بالحجارة المقتولين شر قتله. فلما ضاق بهم ذرعا، واستعصى عليه أمرهم دعا ربه وقال: رب إن قومي كذبوني فاحكم بيني وبينهم حكما عدلا، ونجنى ومن معى من المؤمنين. فكان الحكم العدل والقضاء، الذي لا يرد: أن الله أنجاه ومن معه من المؤمنين أنجاه في الفلك المشحون بالخلق، وقد مضى ذكرها والكلام عليها في سورة [هود والمؤمنون] . ثم أغرق الله الكافرين مطلقا. إن في ذلك لآية وأى آية أبلغ من تلك لو كنتم تعلمون يا كفار قريش فهذا نوح دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، وما آمنوا به، بل وقالوا: أنؤمن لك واتبعك الأرذلون، وها أنتم أولاء يدعوكم نبيكم الصادق الأمين فلم تؤمنوا، وقلتم أَهؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا [سورة الأنعام آية 53] . وقلتم إن أردت أن نؤمن لك فلا تجلس مع هؤلاء العبيد والخدم. اتعظوا أيها القوم بما حل بالمشركين قبلكم حينما غضب عليهم نبيهم فقد غرقوا، ولم ينج إلا نوح والمؤمنون معه، وابنه لأنه لم يؤمن قد غرق كذلك، وأما أنت يا محمد فلا تحزن ولا تيئس فالنصر للمؤمنين والهلاك للكافرين، ونوح دعا قومه مدة من الزمن ومع ذلك ما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم. قصة هود مع قومه [سورة الشعراء (26) : الآيات 123 الى 140] كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 762 المفردات: رِيعٍ جمع ريعة. المرتفع من الأرض، وقيل الطريق آيَةً علامة تَعْبَثُونَ تفعلون ما لا فائدة فيه أصلا كاللعب مَصانِعَ جمع مصنعة وهي الحوض أو البركة، وقيل هي القصور والمدائن بَطَشْتُمْ البطش السطوة والأخذ بعنف خُلُقُ عادة وطبع وقرئ خلق بمعنى اختلاق وكذب. المعنى: أرسل الله هودا إلى قومه عاد، وكانوا قوما أولى بأس وشدة ورخاء ونعيم فقال لهم: اعبدوا الله وحده فما لكم من إله غيره ألا تتقون الله، وتخافون عذابه، إنى لكم رسول أمين على رسالتي التي هي من عند الله، فاتقوا الله وأطيعونى، يصلح لكم أعمالكم، ويحفظ عليكم نعمكم، وأنا لا أسألكم على ذلك أجرا ولا مالا، ولا أبغى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 763 بذلك سلطانا ولا جاها إن أجرى إلا على ربي لو كنتم تعلمون، ولكنهم كذبوه إذ قال لهم هذا، ورموه بالسفاهة، والجنون. وقال لهم هود: يا قوم أتبنون بكل مرتفع من الأرض أو بكل طريق بناء كالعلامة التي يهتدى بها حالة كونكم تعبثون؟ وتلعبون بهذا البناء، ولم تنتفعوا به فيما ينفعكم، وقيل أنتم في هذا البناء تسخرون، وتهزءون بغيركم حينما يمرون عليكم؟ وتتخذون مصانع تجمعون فيها الماء كالأحواض والبرك والسدود، أو تتخذون مصانع من المدائن والقصور الشامخات، والتاريخ يحدثنا بأنهم كانوا أصحاب سدود وأحواض لجمع المياه، وأصحاب قصور شامخات لعلكم بذلك كله تخلدون، والمراد فعلتم هذا راجين الخلود في الدنيا منكرين البعث وإذا بطشتم بأحد بطشتم جبارين، وقد كانت تلك القبيلة ذات بأس وقوة وشدة، وقد زادهم الله بسطة في الجسم والخلق، وبوأهم أرضا تدر عليهم من الخير الكثير، لهذا كانوا إذا سطوا أو حاربوا بطشوا بعنف وشدة. وقد وصفهم الله بصفات ثلاثة كلها تدل على أنهم يريدون علوا في الأرض واستكبارا، فهم يبنون بكل ريع بناء ضخما حالة كونهم به يستهزئون ويعبثون، وهم قد اتخذوا المصانع والمنازل كأنهم مخلدون، وإذا بطشوا بالغير بطشوا جبارين، وهذه صفات تتنافى مع الإيمان والتصديق بالرسل الكرام، لذا تجدهم كذبوا هودا وتحدوه يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ. مع أن هودا كان يدعوهم بالحسنى ويذكرهم بالنعمى، لعلهم يثوبون ويرجعون فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ واتقوا يا قوم الذي خلقكم وأمدكم بما تعلمون من النعم، أمدكم بأنعام منها تأكلون، وعليها تحملون، ومن أوبارها وأشعارها تلبسون، وأمدكم ببنين أولى بأس وقوة، وأمدكم بجنات وعيون، وهل بعد هذا نعمة؟ أعطاهم أنعاما ورجالا، وجنات وأنهارا أفليس هذا مما يدعو إلى الشكر وامتثال الأمر، ولذا قال هود لهم: يا قوم. إنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم في الدنيا والآخرة. ولكنهم قوم مغرورون، لم يستجيبوا لنبيهم بل قالوا له: يستوي عندنا وعظك لنا وتحذيرك إيانا وعدم وعظك أصلا، فإنا لا نرعوى لوعظك، ولا نسمع لكلامك والسبب في هذا. أن الذي خوفتنا به ما هو إلا خلق الأولين وافتراؤهم وكذبهم، وعلى قراءة (خلق) يكون المعنى إن هذا الذي نحن عليه من بناء الصروح والقوة في الجزء: 2 ¦ الصفحة: 764 الحروب إلا عادة آبائنا الأولين ورثناها عنهم، وما نحن بمعذبين أبدا لأنه ليس الأمر كما تقول. وكانت النتيجة أنهم كذبوه في كل ما أتى به، فأهلكناهم بريح صرصر عاتية سخرها عليهم سبع ليال، وثمانية أيام حسوما. فترى القوم فيها صرعى، كأنهم أعجاز نخل خاوية. إن في ذلك لآية: وأى آية أقوى وأشد أثرا وأبعد مغزى من هذه؟ فمنها نعرف الموقف النبيل الذي وقفه هود من قومه حينما رموه بالسفاهة والجنون فقال لهم: يا قوم ليس بي سفاهة، ولست أنا مجنونا. ومنها نعرف كيف يتلطف الداعي فيذكر النعم التي منّ الله بها والتي تقتضي الشكر لله، والإيمان به. وفي هذه القصة نرى كيف أهلك الله من عصى رسوله ولم يؤمن به فاحذروا يا آل مكة من عصيانكم وتكذيبكم، وها أنت يا محمد- وأنت الرسول الصادق الأمين- ترى ما فعله أخوك، وما حل بالقوم الكافرين، ومع هذا كله فما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الذي لا يغلبه أحد، الرحيم بمن آمن به ... قصة صالح مع قومه ثمود [سورة الشعراء (26) : الآيات 141 الى 159] كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 765 المفردات: طَلْعُها أول ما يطلع من ثمرة النخل، وهو كنصل السيف في جوفه شماريخ القنو هَضِيمٌ لين متكسر من هضم الغلام يهضم خمص بطنه ولطف كشحه فهو أهضم وهضماء وهضيم. أما هضم يهضم فمعناه كسر أو ظلم فارِهِينَ بطرين أو أشرين أو حاذقين مأخوذ من الفراهة وهي النشاط الْمُسَحَّرِينَ الذين سحروا كثيرا حتى غلب السحر على عقولهم شِرْبٌ نصيب من الماء تشربه فَعَقَرُوها ذبحوها. المعنى: أرسل الله إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا من أوسطهم نسبا وأكرمهم خلقا، فقال لهم: ألا تتقون. دعاهم إلى عبادة الله وترك الأصنام، وقال لهم: إنى لكم رسول أمين، فاتقوا الله حق تقواه، وأطيعونى حيث إنى رسول رب العالمين إليكم وما أسألكم على ذلك أجرا، ولا أطلب منكم مالا، ولا أريد جاها ولا رئاسة. وما أجرى إلا على رب العالمين ... ومن الواضح أن صالحا كغيره أيدت دعواه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 766 بآية دالة على صدقه قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ من سورة الأعراف، وقال لهم صالح: أتتركون في ما ها هنا آمنين؟ أى أتتركون في دنياكم هذه آمنين تتقلبون في النعيم آمنين من العذاب؟ والمعنى لا تظنوا ذلك، ولا ينبغي لكم أن تعتقدوا أنكم تتركون على هذه الحال. أتتركون في ما ها هنا آمنين، في جنات وعيون، ونخل طلعها هضيم؟ لا يعقل أن تتركوا على ما أنتم عليه من الشرك والكفر والظلم المبين، وأنتم تمرحون في بحبوحة من النعيم، وتتمتعون بالجنان والأنهار والزرع والثمار، والنخيل ذات الطلع اللين الجميل. أتنحتون من الجبال بيوتا فارهين؟ الاستفهام هنا للإنكار، والإنكار منصب على قوله فارهين، على معنى لا تنحتوا من الجبال بيوتا وأنتم فرحون فرح بطر وأشر، مع السرعة والنشاط فإن هذه المعاني تفيد الإخلاد إلى الدنيا والركون إليها مع عدم الإيمان بيوم القيامة. فاتقوا الله أيها القوم، ولا تطيعوا المسرفين على أنفسهم بالمعاصي وارتكاب الخطايا، لا تطيعوهم في أمر من الأمور، فإنهم هم الذين يفسدون في الأرض، ولا يصلحون أبدا في وقت من الأوقات، وهؤلاء هم أشراف القوم والملأ أما ضعاف الناس فآمنوا بصالح ورسالته قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ. قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) من سورة الأعراف وقال الذين استكبروا أيضا يا صالح: إنا لفي شك مما تدعونا إليه بالرسالة منك فإنا ذو جاه ومال، وإن كنت رسولا فائت بآية تدل على صدقك، وأغلب الظن أنك رجل سحرت حتى ضاع عقلك فادعيت ما تدعيه، قال صالح: هذه ناقة الله، وهي آية ومعجزة دالة على صدقى، ولها شرب ولكم شرب يوم معلوم، والذي روى أنها ناقة خرجت من صخرة، وكانت تشرب الماء كله في يوم ثم تعطيهم بدله لبنا منها، ولهم ولأنعامهم وزروعهم شرب في يوم آخر ، ويظهر- والله أعلم- أن ذلك عنوان كون الناقة آية، وإلا لو كانت ناقة عادية فكيف تكون دالة على صدق صالح، وطالبهم بأنهم لا يمسوها بسوء بل يتركونها تشرب في يومها، وترعى حيث تشاء، ولا يمسوها بسوء أبدا، وحذرهم أنهم إن تعرضوا لها فسيصيبهم عذاب شديد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 767 فعقرها واحد منهم قيل: إن اسمه (قدار) ، ولكنهم راضون عن فعله، ولذا نسب العقر إليهم جميعا، فعقروها فأصبحوا نادمين ندما بلا توبة، ولكنه ندم من تيقن نزول العذاب، ولا مناص، وكان أن أخذتهم الصيحة مصبحين، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون. إن في ذلك لآية، وأى آية أعظم من هذا، فهم قوم طغوا وبغوا واغتروا بمالهم وجاههم فلم ينفعهم ذلك، وهم قوم لم يؤمنوا برسولهم مع أن معه آية شاهدة بصدقه فلما ظلوا على هذا نزل بهم العذاب. وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم. قصة لوط مع قومه [سورة الشعراء (26) : الآيات 160 الى 175] كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 768 المفردات: الذُّكْرانَ الذكور وَتَذَرُونَ وتتركون عادُونَ متجاوزون الحد الْقالِينَ المبغضين الْغابِرِينَ الباقين الماكثين. المعنى: لوط بن هارون- أخ إبراهيم- عليه السلام- آمن بعمه ورحل معه واهتدى بهديه، ثم أرسله الله إلى أهل سدوم في قطاع الأردن، وكانوا قوما ذوى خلق سيئ، وشرك بالله فقال لهم: ألا تتقون، إنى لكم رسول آمين فاتقوا الله وأطيعون، وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين، يا قوم: أتأتون الذكران في أدبارهم، وتتركون ما أحله الله وأعده لذلك وهو فروج أزواجكم فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ [سورة البقرة آية 222] بل أنتم قوم عادون ومتجاوزون الحدود المعقولة. قالوا يا لوط. كيف تنهانا عن عملنا هذا؟ لئن لم تنته يا لوط عن هذا لتكونن من المخرجين من قريتنا، قال لهم: إنى لعملكم هذا من القالين المبغضين، فإنه عمل يتنافى مع الإنسانية، بل ترتفع عنه الحيوانات البهيمية. فلما استمروا على عملهم، ونفد صبره معهم، ولم تنفعهم مواعظه دعا عليهم، وقال: رب نجنى وأهلى مما يعملون، فإن عمل هؤلاء مدعاة لسخطك، ومباءة لعقابك. فنجيناه وأهله أجمعين إلا عجوزا في الغابرين، وهي امرأته لم تكن مؤمنة معه، وكانت تحب القوم الكافرين، وتنقل إليهم الأخبار، ولذا كانت من الهالكين، ثم دمرنا وأهلكنا القوم الآخرين الذين فعلوا المنكرات، وكفروا بالذي خلقهم، ولم يؤمنوا برسله، وأمطرنا عليهم مطرا، فبئس مطر المنذرين المهلكين. إن في ذلك لآية وعبرة حيث أهلك العصاة المذنبين، ونجى المؤمنين الصالحين، ولم ينفع امرأة لوط قربها وصلتها به بل كل امرئ بما كسب رهين، وما كان أكثرهم مؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الرحيم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 769 قصة شعيب مع أصحاب الأيكة [سورة الشعراء (26) : الآيات 176 الى 191] كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191) المفردات: الْأَيْكَةِ الشجر الكثيف الملتف وقرئ أصحاب ليكة وأصله الأيكة فنقلت حركة الهمزة إلى اللام تخفيفا ثم حذفت فاستغنى عن همزة الوصل وصارت الكلمة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 770 ليكة بِالْقِسْطاسِ بالميزان المستقيم أى العادي وَلا تَبْخَسُوا ولا تنقصوا من الناس شيئا وَلا تَعْثَوْا يقال عثا في الأرض أفسد فيها وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ الجبلة الخلق الكثير من الناس كِسَفاً جمع كسفة وهي القطعة والجانب الْمُسَحَّرِينَ المسحورين مرارا حتى فسدت عقولهم الظُّلَّةِ أصل الظلة ما يظل الإنسان، والمراد العذاب الذي أهلكهم، وكان على شكل ظلة لهم. المعنى: أرسل الله شعيبا إلى قبيلته مدين وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً وإلى أصحاب الأيكة، وهم قوم كانوا أصحاب غيضة وشجر وزرع وثمر، ولذا يقول الله هنا إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ ولم يقل أخوهم لأن شعيبا لم يكن من أصحاب الأيكة وإن أرسل لهم. قال شعيب لهم: ألا تتقون إنى لكم رسول أمين. فاتقوا الله وأطيعون. وما أسألكم عليه من أجر إن أجرى إلا على رب العالمين.. كما قال أخوه نوح. وهود. وصالح لاتفاقهم جميعا على الأمر بالتقوى، والطاعة والإخلاص في العبادة، والامتناع من أخذ الأجر على تبليغ الرسالة، وعلى تحملهم المشاق والصعاب رجاء مثوبة رب العالمين لهم يوم القيامة، وهكذا أصحاب الدعوات لا يرجون بعملهم جزاء ولا شكورا من العبد، ولا يبغون بها مالا ولا جاها ولا رئاسة كاذبة، وإلا كانوا كعلماء اليهود اشتروا الضلالة بالهدى، وباعوا الباقية بالفانية. اتفق جميع الأنبياء في الأمور العامة للرسالات، ثم أخذ كل نبي يعالج المرض الشائع عند قومه، ولذا رأينا هودا يقول منكرا على قومه إنهم يعبثون ببنائهم، وأنهم طامعون في الدنيا حتى كأنهم مخلدون، وإنهم يبطشون بطش الجبارين وقال صالح: منكرا على قومه: أتنحتون من الجبال بيوتا فارهين؟! وقال لوط: أتأتون الذكور من الناس وتتركون النساء من الأزواج؟ وقال شعيب هنا منكرا عليهم التطفيف في الكيل آمرا لهم أن يوفوا الكيل ويعطوه حقا كاملا بلا زيادة ولا نقصان، أن يزنوا بميزان العدل، ولا يخسروا الميزان وألا يبخسوا الناس أشياءهم، وألا يفسدوا في الأرض بالبهتان. وأن يتقوا الله، ويخافوا عقابه فقد خلقهم، وخلق آباءهم والجبلة الأولين، ومن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 771 كان صاحب تلك النعم، كانت عبادته من أوجب الواجبات ... ولكنهم قوم معاندون لم يسمعوا لشعيب بل قالوا: إنما أنت رجل سحرت مرارا حتى فسد عقلك، وضاع لبك، على أنك بشر مثلنا، فكيف تأتيك الرسالة دوننا، ونحن لا نظنك إلا من الكاذبين وإن كنت صادقا حقا، وأننا سنعذب لو لم نطعك فأسقط علينا قطعة من السماء تكون دليلا على أنك رسول من قبل الله ولكن الله يعلم ما عندهم، وقد حكاه بقوله وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ [الطور 44] . وقد طمأن شعيب نفسه وقال: لست مكلفا بإدخال الإيمان في قلوبكم، ولست مكلفا بحسابكم على أعمالكم، إن على إلا البلاغ، وربي وربكم يعلم ما تفعلون، وسيجازيكم على أعمالكم. وكانت النتيجة أنهم كذبوه وعصوه فأخذهم عذاب يوم الظلة، إنه كان عذاب يوم عظيم، روى عن ابن عباس: أنه أصابهم حر شديد فأرسل الله- سبحانه- سحابة فهربوا إليها ليستظلوا بها، فلما صاروا تحتها صيح بهم فهلكوا جميعا وكان هذا من أعظم أيام في الدنيا عذابا. إن في ذلك لآية يا كفار مكة لو كنتم تعلمون، وما كان أكثر قوم شعيب بمؤمنين، وإن ربك لهو العزيز الذي يعز أولياءه، وينصرهم، ويذل أعداءه، ويأخذهم أخذ عزيز مقتدر، وهو الرحيم بالخلق جميعا إن عاقب أو أثاب، ولا يتغير قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ الآية تكريرا لأنها سيقت عقب كل قصة، وفي كل قصة آية وعبرة لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ. الحديث عن القرآن وموقف المشركين منه [سورة الشعراء (26) : الآيات 192 الى 213] وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (209) وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 772 المفردات: الرُّوحُ الْأَمِينُ هو جبريل الأمين على الرسالة زُبُرِ الْأَوَّلِينَ كتب الأولين جمع زبور وهو الكتاب. يقال: زبر الكتاب يزبره أى: كتبه يكتبه الْأَعْجَمِينَ العجمي هو من كان من أصل فارسي وإن كان فصيحا في كلامه والأعجمي هو من كان غير فصيح وإن كان عربيا سَلَكْناهُ أدخلناه بَغْتَةً فجأة مُنْظَرُونَ من الإنظار وهو التأجيل لَمَعْزُولُونَ لممنوعون. وهذا رجوع إلى المقصود الأول في السورة، وهو الكلام على القرآن الكريم، والدعوة المحمدية، وموقف المشركين منها، وكانت القصص التي ذكرت آية، وعبرة لمن يعتبر وحجة دامغة، ودليلا صادقا على نبوة المصطفى صلّى الله عليه وسلم، حيث قص قصص الجزء: 2 ¦ الصفحة: 773 الأولين الذين لم بعاصرهم، ولم يدرس أخبارهم، على معلم أو أستاذ، وهو النبي الأمى الذي لم يقرأ كتابا، ولم يخط حرفا. وقد ساق الله هنا الأدلة على أن القرآن من عند الله، وليس من عند محمد بعد هذا. المعنى: وإن القرآن الذي أنزل عليك يا محمد لتنزيل رب العالمين، وقد نزل به جبريل- عليه السلام-، الأمين على الرسالات، وخادم الآيات المنزلات، نزل به على قلبك فوعاه، وكان هذا الفضل من عند الله لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ «1» وكان ذكر القلب لأنه أمير الجسم، ومركز الحواس الخاصة. الحواس الروحية. ولذا وصف القرآن دائما الكفار بأن قلوبهم مغلقة فقال أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها «2» فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَلكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «3» وفي ذكر القلب إشارة إلى أن القرآن نزل على النبي، فوعاه، وحفظه، ليكون من المنذرين وانظر إلى قوله تعالى: بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ مع تحدى القرآن للعرب على أن يأتوا بمثله، أو بعشر سور، أو بسورة فعجزوا هم وشركاؤهم وأعوانهم، أليس في هذا دليل على أن القرآن من عند الله لا من عند محمد، إذ هو واحد منهم، فكيف يأتى بما عجز عنه قومه مجتمعين مع التحدي والاستهزاء بهم. ثم انظر إلى الدليل الثالث على أن القرآن من عند الله: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ حقا إن القرآن ذكر في الكتب السابقة التي نزلت على الأنبياء بمعنى أنها بشرت بالنبي صلّى الله عليه وسلّم وبأنه سينزل عليه قرآن يشهد بصدقها، ويهيمن عليها وَلَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ [سورة البقرة آية 89] . وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ «4» أعموا وضلوا ولم يكن لكفار مكة في أن يعلمه علماء بنى إسرائيل ويقولون لهم إن   (1) سورة القيامة الآيات 16- 18. (2) سورة محمد الآية 24. (3) سورة الحج الآية 46. (4) سورة المائدة الآية 48. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 774 هذا حق، وهذا هو النبي المبشر به عندنا، أو لم يكن لهم في هذا آية ودليل؟ هذه أدلة أوضح من الشمس على أن القرآن من عند الله، وأن محمدا صادق في دعواه، ولكن العناد والكفر يأبى عليهم الخضوع للحق، ولو أنزل هذا القرآن على بعض الأعاجم، فقرأ عليهم ما كانوا به مؤمنين أبدا خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَعَلى سَمْعِهِمْ وَعَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ «1» مثل إدخالنا التكذيب في قلوبهم لو قرأه عليهم أعجمى، أدخلناه في قلوب المجرمين كفار مكة المشركين. فهم لا يؤمنون به حتى يروا العذاب الأليم، فما هو أشد منه، وهو لحوق العذاب بهم فجأة، فما هو أشد منه، وهو سؤالهم الإنظار من القطع بامتناعه ومعنى الكلام: لا يؤمنون بالقرآن حتى يأتيهم العذاب فجأة، وهم لا يشعرون به فيرونه فيقولوا: هل نحن منظرون ومؤخرون عن الهلاك ولو طرفة عين لنؤمن؟ فيقال لهم اخسئوا في جهنم، ولا تكلمون، وعلى هذا فالفاء التي في الآية ليست للترتيب الزمانى بل للترتيب الرتبى. ومع هذا فهم يقولون: متى هذا العذاب؟ استبطاء له واستهزاء بالنبي أفبعذابنا يستعجلون؟!! إن هذا لعجيب، ولكنهم قالوا: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «2» فبدل أن يقولوا: إن كان هذا الحق فاهدنا إليه قالوا تلك المقالة، فلا عجب أن يستعجلوا العذاب، إن عذاب الله له أجل محدود، ونظام معلوم، ولكل أجل كتاب أيظنون أن الله يهمل! لا. ولكنه يمهل فقط. أفرأيت أيها المخاطب إن متعناهم سنين بتأخير العذاب عنهم ثم جاء العذاب فجأة، وهو ما وعدوا به أى إغناء عنهم ما كانوا يمتعون به؟ أعنى لو أخر العذاب، وكان الإنسان متمتعا استدراجا له ثم حل به العذاب فكان انجعافه وهلاكه مرة واحدة أى فائدة استفادوها من النعم؟ لم يستفيدوا شيئا، ولم يغن عنهم متاعهم شيئا، وإنما كان استدراجا لهم وتنكيلا بهم حتى يكون هلاكهم شديدا وعبرة وعظة ونكالا لمن يأتى بعدهم. وما قصص فرعون وعاد وثمود وقوم لوط عنكم ببعيد ... وهكذا سنة الله مع الأمم قديما وحديثا وما أهلكنا من قرية إلا كان لها رسل منذرون تبشرهم وتنذرهم وتدعوهم إلى الصراط المستقيم بشتى الأساليب وبمنتهى الحكمة   (1) سورة البقرة الآية 7. (2) سورة الأنفال الآية 32. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 775 والموعظة الحسنة فإن أبوا وكفروا حاق بهم سوء العذاب، ونجى الله المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار فسنة الله لا تتغير وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا [سورة الفتح آية 23] . وهاكم الدليل الأخير على أن القرآن من عند الله: ذكر بعد مناقشة المشركين السابقة التي سيقت وسط الأدلة. وكانوا يقولون: إن محمدا كاهن، وإن القرآن كهانة تلقيها الشياطين على محمد كما تلقى على غيره فقال الله: وما نزلت به الشياطين، وما ينبغي لهم، وما يستطيعون إنهم عن سمع مثل هذا القرآن لممنوعون، نعم لقد قص التاريخ أن الكهانة والكهان كانوا موجودين قبل البعثة المحمدية، وكان الشياطين يسترقون السمع وأخبار السماء المتعلقة ببعض الأحداث الجارية في الجزيرة، ثم يلقون بهذا إلى الكهان أمثال (شق وسطيح) . ولكن الله- سبحانه- قبيل البعثة منع هذا بالمرة حتى ضجت الجن، وأخذوا يبحثون عن السبب وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً [سورة الجن الآيات 8- 10] . وإذا ثبت هذا كله، وأظنه ثابتا في ميزان العقلاء الموفقين إذا كان هذا فلا تدع مع الله إلها آخر، فتكون من المعذبين المهلكين.. نصائح ربانية [سورة الشعراء (26) : الآيات 214 الى 220] وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 776 اعلم يا أخى- وفقك الله للخير- أنه- سبحانه وتعالى- أرشد رسوله إلى ترك الأسف والحزن على عدم إيمان أكثر الناس، ثم ساق القصص مؤيدا ذلك ومسليا، ثم أقام الحجة والبرهان على صدق الرسول في دعواه، وناقش المشركين في شبههم الواهية، وبعد ذلك كله نهى الرسول عن اتخاذ الشريك للباري في كل صورة متوعدا من يفعل ذلك بالعذاب الشديد، والمراد من ذلك نهى غير النبي عن الشرك. نفهم من نهى النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الشرك فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ. ثم أمره صلّى الله عليه وسلّم بأن يدعو الأقرب فالأقرب من أهله وعشيرته. يمكن أن نفهم من هذا كله، أن المراد نفى الشك والطعن عن الدعوة المحمدية لأن الإنسان جبل على حب الخير له ولأهله. روى مسلم في صحيحه من حديث أبى هريرة قال: لما نزلت آية وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ دعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قريشا فاجتمعوا فعم وخص فقال: «يا بنى كعب ابن لؤي أنقذوا أنفسكم من النّار. يا بنى عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النّار، يا بنى هاشم أنقذوا أنفسكم من النّار. يا بنى عبد المطّلب أنقذوا أنفسكم من النّار، يا فاطمة أنقذى نفسك من النّار، فإنّى لا أملك لكم من الله شيئا غير أنّ لكم رحما سأبلّها ببلالها أى أصلكم في الدنيا، ولا أغنى عنكم من الله شيئا يوم القيامة. وهذه نصائح غالية تنفع الدعاة والمرشدين إلى الحق والخير حيث تبدأ بدعوتك أقرب الناس إليك. فهم الذين يعرفونك، ويثقون فيك، فإذا أضفت مع هذا لين الجانب وحسن الخلق، وطيب العشرة لمن اتبعك وسار على طريقك، كان لكلامك وقع ولشخصك مكانة في القلوب، ولسلوكك في الناس تأثير وأى تأثير؟ ولذا يقول الله لرسوله وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فإن لم تتبعك عشيرتك وقرابتك وعصوك فقل لهم: إنى برىء مما تعملون، وتوكل على الله، وسلّم أمرك إليه، وفوض أمرك لربك إنه هو العزيز يعز أولياءه، ويقهر أعداءه، وينصرك عليهم برحمته، فإنه يراك، ويلحظك حين تقوم في أى عمل من الأعمال، وحين تتقلب مع الراكعين الساجدين العابدين القانتين، إنه هو السميع لكل قول، العليم بكل فعل. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 777 الرد على من يصف النبي بأنه كاهن أو شاعر [سورة الشعراء (26) : الآيات 221 الى 227] هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223) وَالشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227) المفردات: أَفَّاكٍ كذاب أَثِيمٍ فاجر وادٍ المراد فنون القول وطرقه يَهِيمُونَ الهيام: أن يذهب المرء على وجهه لا يلوى على شيء من عشق أو غيره مُنْقَلَبٍ مصير ومرجع. المعنى: كان للقرآن وقع في نفوس العرب كبير، وكان لجرسه هزة في أسماعهم وكان له أثر السحر فيهم أو أشد، أرأيت إلى الوليد بن المغيرة حين سمع جزءا منه فقال: والله إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وما هو بقول البشر، وإلى العربي الذي سمع قارئا يقرأ فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فسجد فقيل له: لم؟ قال سجدت لبلاغته، وأظنك لا تنسى قصة إسلام عمر حين سمع أول سورة (طه) وهو في أشد عنفوانه، وأقوى عدائه للمسلمين. هذا القرآن حار فيه المشركون بماذا يؤولون هذا السحر الذي فيه، الذي يفرق بين المرء وأبيه، وأمه وأخيه!! فقالوا: إنه سحر، وأخرى إنه كهانة. وثالثة إنه شعر أى له تأثير الشعر، ويرد الله عليهم هنا بأنه ليس كهانة ولا شعرا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 778 وللكهانة عند العرب في أيام الجاهلية تأثير كبير، ولكهانتهم مركز ملحوظ يقطع بهم النزاع، ويحكمون في المعضلات والمشكلات من الأمور، وكتب الأدب العربي مليئة بأخبارهم وقصصهم. فهند بنت عتبة- أم معاوية بن أبى سفيان- مع زوجها الفاكه بن المغيرة المخرومى لها قصة: حيث رماها زوجها بالزنا فذهب أبوها إلى الكاهن فقال لها انهضى يا هند غير رسحاء ولا زانية وستلدين ملكا اسمه معاوية: فالتفتت هند إلى زوجها الفاكه وقالت من غيرك وتزوجت أبا سفيان وولدت معاوية. ومن أشهرهم فاطمة الخثعمية وكانت بمكة، ولها قصة مع عبد الله بن عبد المطلب قبل زواجه بآمنة أم الرسول ... ومن أشهرهم شق أنمار، وسطيح الذئبى. ويرجع فيما أعلم صدق بعض كلامهم إلى قوة الفراسة، وبعد النظر، وإلى استراق السمع من السماء بواسطة الشياطين، وكان لهم قدرة على ذلك قبل البعثة كما قدمنا، وكثيرا ما كذبوا في أخبارهم. ومن هنا يدفع الله عن النبي وعن القرآن وصمة الكهانة بقوله: هل أخبركم أيها الناس على من تنزل الشياطين. إنها تنزل على كل كذاب، أفاك. أثيم فاجر. تلقى الشياطين عليه ما سمعته، وأكثرهم كاذبون يضمون إلى ما سمعوه أكاذيب أخرى كثيرة. فهل أنتم ترون النبي صلّى الله عليه وسلّم من هؤلاء الكهان؟ أما الشعر، وما أدراك ما الشعر، فله تأثير السحر، ولكن النبي صلّى الله عليه وسلم ليس بالشاعر، ولا ينبغي له أن يقول لسمو مكانته وشخصيته عن قرضه. والشعراء يتبعهم الغاوون البعيدون عن الحق، ومحمد صلّى الله عليه وسلّم يتبعه الهداة المهتدون، ألم تر إلى الشعراء في كل واد من القول وفن فيه وغرض من أغراضه كالغزل والهجاء المقذع. والمدح بالباطل بل مدح الشخص وذمه والإجادة في الناحيتين يهيمون ويسيرون على وجوههم. لا يلوون على شيء، وذلك أن عماد الشعر الخيال والخيال لا يجده حد، ولا يقف دونه شيء، فكلما كان الشاعر واسع الخيال قوى العاطفة كان شعره جيدا قويا، والشعر لا يعتمد على الصدق بل على المبالغة والتجوز ولذا قيل: أعذب الشعر أكذبه، والشعراء قوم خياليون عاطفيون يقولون ما لا يفعلون، لهذا كله ما كان ينبغي للنبي أن يقول الشعر والشعر نوع من الكلام فيه الحسن والرديء، والمقبول والمردود، ومن هنا يمكن أن نوفق بين قول النبي صلّى الله عليه وسلم «لأن يمتلئ جوف أحدكم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 779 قيحا حتى يريه خير من أن يمتلئ جوفه شعرا» يريد النبي صلّى الله عليه وسلّم لأن يمتلئ الجوف قيحا يأكله خير من أن يمتلئ جوفه شعرا، وبين قوله صلّى الله عليه وسلم «إن من البيان لسحرا، وإن من الشعر لحكمة» فالشاعر الذي وقف نفسه على نصرة الحق والدفاع عن الوطن، والذود عنه، وعلى مدح من يستحق المدح كمن مدح النبي صلّى الله عليه وسلّم قديما وحديثا، ومن تكلم فأجاد من المواقف الوطنية التي تربى النفوس، وتهذب العقول، وتوحد الصفوف، وليس كالشاعر الذي يتكلم في الغزل، ويتشبب بالنساء والغلمان، والذي يدعو إلى الفجور والفسق، وإن كان كلامه تحفة فنية في باب الأدب، الأول ممدوح شرعا، والثاني مذموم. ولهذا استثنى القرآن بقوله: إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ودفعوا عن النبي ودينه كحسان بن ثابت وابن رواحه الذي يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم في شعره «خلّ عنه يا عمر فلهو أسرع فيهم- أى قريش- من نضح النّبل» وما شعر حسان بن ثابت وشعر البوصيرى، وشعر شوقي عنك ببعيد. ثم ختمت السورة بهذا التهديد الشديد: وسيعلم الذين ظلموا أنفسهم أى منقلب ينقلبون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 780 سورة النمل [سورة النمل (27) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَبُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) المفردات: طس تقرأ هكذا طاسين بمد في السين يَعْمَهُونَ يترددون متحيرين، وهذا افتتاح لسورة النمل، يشبه افتتاح سورة القصص، والله وحده هو العالم بالفرق والسر الخفى بين طسم، وطس. وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا. المعنى: هذه الآيات- آيات تلك السورة- آيات من القرآن، وآيات من كتاب مبين ظاهر في كل أغراضه ومعانيه، ومقاصده وأحكامه، وإننا نقرأ في أول سورة الحجر الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ. وهنا تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَكِتابٍ مُبِينٍ فنجد مرة ذكر الكتاب مقدما معرفا، ومرة ذكر القرآن مقدما فنرى أن الله جمع لكلامه بين الصفتين بأنه قرآن وأنه كتاب، يظهر بالقراءة والكتابة، فكل واحد يصلح مكان الآخر والتنكير في هذا المقام يفيد ما تفيده المعرفة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 781 هو هدى وهداية، وبشرى وبشارة، ولكن المنتفع بذلك حقّا هم المؤمنون، وإن كان القرآن نزل هداية للناس جميعا شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ «1» هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة، ويؤدونها كاملة تامة الأركان والشروط مقومة أحسن تقويم، وهذه هي الصلاة التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، والتي تصل العبد بربه، والتي هي علاج روحي للعبد إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ «2» وهم الذين يؤتون الزكاة التي هي علاج للمؤمنين كجماعة من الجماعات فوق أنها علاج للفرد كذلك، وهم بالآخرة وما فيها هم يوقنون، ويؤمنون بها إيمانا يقينيا صادرا عن علم وبحث واقتناع هؤلاء الموصوفون بتلك الصفات التي تعتبر رموزا لجميع أحكام الدين هم الذين ينتفعون انتفاعا حقيقيا بالقرآن ونوره، وهذا لا يمنع أن العالم كله قد انتفع بنوره. أما الذين لم يهتدوا بنور الحق، وهدى القرآن فهم الذين لا يؤمنون بالآخرة، وهؤلاء زين الله لهم أعمالهم، وحسن لهم أعمال الخير ولكنهم لم يعملوها بل ساروا على الطريق المعوج الذي يسير عليه المغضوب عليهم والضالون، نعم زين الله أعمال الخير بإرسال الرسل وإنزاله الكتب تبين الحلال والحرام، وتبشر العاملين، وتنذر العصاة والمقصرين، وقيل: إن المعنى. الله زين لهم عملهم القبيح حيث أودع فيهم الشهوة والميل إلى الشر، ومكن الشيطان من إغوائهم حتى رأوا الحسن قبيحا، والقبيح حسنا في نظرهم، فوقعوا في الهلاك والآثام، وهم يعمهون، ويتحيرون، وفي الضلال يتيهون، أولئك الذين لهم العذاب السيئ الشديد في الدنيا والآخرة، وهم في الآخرة هم الأخسرون أعمالا، والتفضيل بالنسبة للزمان والمكان، فالمفضل عليه هو أنفسهم لكن باعتبار حالهم في الدنيا أى إن خسرانهم في الآخرة أشد من خسرانهم في الدنيا. وإنك يا رسول الله لتلقى القرآن، وينزل عليك من لدن حكيم عليم خبير بصير. يفعل ما تقتضيه الحكمة والعلم الصحيح. وهذه الآية بساط وتمهيد لما سيذكر بعدها من الأخبار والقصص، وهي دعوى تفيد أن القرآن من عند الله، والدليل على صحة ذلك ما سيذكر من أخبار الماضين وأحوالهم.   (1) سورة البقرة الآية 185. (2) سورة المعارج الآيات 19- 22. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 782 موسى بالوادي المقدس [سورة النمل (27) : الآيات 7 الى 14] إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَها وَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِها وَاسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14) المفردات: بِشِهابٍ بشعلة نار، وقال بعضهم: كل أبيض ذي نور فهو شهاب قَبَسٍ القبس النار المقبوسة تَصْطَلُونَ المراد رجاء أن تستدفئوا بها يقال صلى بالنار واصطلى بها إذا استدفأ بها لَمْ يُعَقِّبْ لم يرجع يقال: عقب فلان إذا رجع جَيْبِكَ طوق قميصك مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير برص مُبْصِرَةً واضحة بينة وَجَحَدُوا بِها كذبوا مستيقنين بها. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 783 وهذا العنصر من قصة موسى- عليه السلام-، وهو وجوده بالوادي المقدس طوى، قد ذكر في عدة مواضع من القرآن كما ذكرنا ذلك في سورة الشعراء، مع اختلاف يتناسب وأسلوب القصة التي ذكر فيها. المعنى: اذكر وقت قول موسى لأهله، والمراد زوجه بنت شعيب في مسيرة من مدين إلى مصر بعد قضاء الأجل المضروب بينه وبين شعيب، وكان إذ ذاك في الوادي المقدس طوى، وكانت ليلته باردة عاصفة مظلمة يحتاج المسافر فيها إلى نار، ولما ضل الطريق أراد نارا يستدفئ بها هو وأهله حتى الصباح فأورى زنده فلم يخرج نارا، فالتفت يبحث فوجد نارا على بعد، فقال لأهله: امكثوا في مكانكم لا تبرحوه، إنى آنست نارا سآتيكم منها بشعلة مقبوسة رجاء أن تصطلوا بها وتستدفئوا، فلما جاءها نودي من قبل الرب- سبحانه وتعالى- أن بورك من في قرب النار، ومن هو حولها، والنار نور، ولكن موسى ظنها نارا، وقد نزه الله نفسه فقال: وسبحان الله رب العالمين، وتنزيها له عن مشابهة أحد من خلقه، يا موسى إنه الحال والشأن أنا الله العزيز الحكيم، يا موسى: ألق عصاك فألقاها من يده فصارت حية فلما رآها تهتز وتتحرك كما يتحرك الجان، وهي الحية البيضاء شبهها بالجان لخفة حركتها. وشبهها في موضع آخر بالثعبان لعظمها، فلما رآها كالجان، ولى مدبرا وخائفا، ولم يعقب على شيء، ولم يلتفت فلما وقع منه ذلك قال الله له: يا موسى لا تخف من الحية وضررها، إنى لا يخاف لدىّ المرسلون، فلا تخف أنت لكن من ظلم نفسه ثم تاب وآمن، وبدل حسنا بعد سوء فإنى غفور رحيم. يا موسى: أدخل يدك في جيب قميصك تخرج يدك بيضاء من غير برص فذانك برهانان من ربك إليك لتعلم أنك بأعيننا، والله معك يرعاك ويحيطك بعنايته. يا موسى اذهب إلى فرعون وقومه في تسع آيات إنهم كانوا قوما فاسقين. أما الآيات فهي العصا. واليد. والطوفان. والجراد. والقمل. والضفادع. والدم. والسنون ونقص الثمرات.. وبعضهم عدها بشكل آخر. فلما جاءتهم آياتنا التسع مبصرة واضحة جلية شاهدة على صدق موسى كأنها لفرط وضوحها تبصر نفسها. قالوا: هذا سحر مبين ظاهر لا يحتاج لبرهان، وجحدوا بها، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 784 وكذبوها. والحال أنهم متيقنون أنها آيات مؤيدة لموسى حالة كونهم ظالمين باغين متعالين. فانظر يا محمد وكذا كل مخاطب كيف كانت عاقبة المفسدين؟ فقد كان جزاؤهم الغرق والإهلاك، ونجاة موسى ومن معه من بنى إسرائيل، حقا لقد صدق الله وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ [سورة النمل آية 6] . من نعم الله على داوود وسليمان وقصة النملة [سورة النمل (27) : الآيات 15 الى 19] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَقالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19) المفردات: مَنْطِقَ الطَّيْرِ المنطق والنطق: كل صوت يعبر به عما في الضمير حُشِرَ جمع يُوزَعُونَ يرد أولهم إلى آخرهم ويكفون، والوازع في الحروب الموكل الجزء: 2 ¦ الصفحة: 785 بالصفوف يزع من تقدم منهم، الوزع الكف والمنع لا يَحْطِمَنَّكُمْ لا يكسرنكم. وهذا جزء من قصة داوود وسليمان ابنه- عليهما الصلاة والسلام-. المعنى: ولقد آتينا داوود نبي الله وسليمان ابنه- عليهما الصلاة والسلام- آتاهما ربهما علما من لدنه، علما شريفا يتعلق بذاته تعالى، وبوصفه بصفات الجلال والكمال، وتنزهه عن كل نقص وما هو في حقه من المحال، علما هو أشرف العلوم والمعارف، علما جامعا لخيرى الدنيا والآخرة، ولقد آتيناهما علما فعملا به حتى امتلأ قلبهما يقينا وعزما أكيدا على فعل الطاعات، وهجر المحرمات، والشكر لله- سبحانه- حتى قالا: الحمد لله وحده، الذي فضلنا على كثير من عباده المؤمنين، بهذه العلوم والمعارف المصحوبة بالعمل القلبي والبدني واللساني، وفي هذا رفع لمرتبة العلم والعلماء. إذ قد أوتيا من الملك ما لم يؤت غيرهما فلم يكن شكرهما على الملك كشكرهما على العلم. وكان لداود أولاد كثيرة، ولكن سليمان ورث أباه في العلم والنبوة والملك والحكم لا في المال لأن الأنبياء لا تورث فيه «نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركناه صدقة» حديث شريف، ومما يؤيد هذا ما سيأتى من معرفة منطق الطير، والإتيان من كل شيء، وذكر جنود سليمان من الجن والإنس والطير. وقال سليمان تحدثا بنعمة الله، وإشهارا لها، وتنويها بها، ودعاء للناس ليصدقوا بها على أنها معجزة. قال سليمان: أيها الناس: قد علمنا منطق الطير والحيوان. وإنما خص الطير لأنه من جنوده التي كان لها مواقف بارزة في حياته كما سيأتى في قصة الهدهد. وللطير منطق إذ هو يصوت بأصوات مختلفة تدل دلالة قوية على أحاسيسه وحاجاته فصهيل الفرس عند طلبها الأكل غير صهيلها عند طلبها الحصان للفساد، وصوتها عند الألم والضرب غير صوتها وهي تدعو رضيعها ليرضعها، وهكذا كل حيوان، فمواء القطة عند حبسها في مكان ضيق غير موائها عند طلبها الأكل أو السفاد مثلا- هذه حقائق معترف بها وكما قال الشيخ البيضاوي في تفسيره ما معناه، ولعل سليمان كان إذا صوت حيوان علم بقوته الحدسية التخيلية صوته والغرض الذي توخاه به، ومن الجزء: 2 ¦ الصفحة: 786 ذلك ما حكى عنه أنه مر ببلبل يصوت ويرقص فقال سليمان: إنه يقول «ليت الخلق لم يخلقوا» فلعل صوت البلبل كان على شبع وفراغ بال. وصياح الفاختة عن مقاساة شدة وتألم قلبها. وعلى كل فإدراك أصوات الحيوانات خصوصا الطير، وما يقصد منه لم يكن إلا هبة من الله- تعالى-، وقد وهبها سليمان وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ. ويقول سليمان تحدثا بنعمة الله وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وهذا يفيد كثرة نعم الله عليهما إن هذا لهو الفضل المبين، وأى فضل أظهر من هذا؟ وفيه تقرير للحمد والثناء على الله- سبحانه وتعالى-، ولا تنس أنه يقر بأنهما أوتيا من كل شيء يتصل بالنبوة والملك والحكم. وأما قوله- تعالى-: وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ فهو دليل على قوة سليمان، وكثرة سلطانه، وتعدد جنده من الجن والإنس والطير أما جند سليمان من الجن فظاهر من قوله- تعالى-: وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ [سبأ الآيتان 12، 13] وأما الطير فقصة الهدهد ستأتى إن شاء الله، وأما الإنس فمعلوم أنه كان لسليمان ملك وجند بنص القرآن الكريم. وهؤلاء الجند لهم قواد وحكام ونظام فهم يوزعون، ويكفون عن الفوضى وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ [سورة الأنعام آية 38] . قصة النملة مع سليمان: حتى إذا أتى سليمان وجنده الكثيف (الكثير) من فوق على وادي النمل والله أعلم. بمكانه ... قالت نملة. لها حق الإمارة على النمل، قالت: ادخلوا مساكنكم لا يكسرنكم ولا يحطمنكم سليمان وجنده بأرجلهم وهم لا يشعرون بكم لصغر حجمكم، وسيركم وسط الرمال. فتبسم سليمان ضاحكا من قولها حيث وصفت جنده بأنهم لا يعمدون إلى الشر، ولا يشعرون بعملهم له ولا شك أن هذه النعم، وخصوصا فهم سليمان عن النملة يقتضى منه الشكر والحمد لله فقال: رب أوزعنى أن أشكر نعمتك التي أنعمت على الجزء: 2 ¦ الصفحة: 787 وعلى والدي ... قال في الكشاف: (وحقيقة أوزعنى اجعلنى أزع شكر نعمتك عندي وأكفه حتى لا ينفلت عنى، ولا أنفك شاكرا لك) وقال بعضهم: المعنى ألهمنى أن أشكر نعمتك التي أنعمت على، قال القرطبي: المراد كفني يا رب عما يسخطك، وامنعني من كفر نعمتك. وعد سليمان النعمة التي لوالده نعمة له بمعنى أنها تستوجب الشكر منه لله. وألهمنى يا رب أن أعمل صالحا ترضاه، وأدخلنى برحمتك في عبادك الصالحين. أيها الناس هذا هو سليمان يطلب من ربه أن يحبسه على الشكر له والثناء عليه ويطلب من ربه أن يوفقه إلى العمل الصالح الذي يرضاه، وهو يطلب أن يدخله برحمته وفضله مع عباده الصالحين الداخلين الجنة بإذن الله- هذا سليمان لم يغتر بعلمه بل طلب الزيادة والمعونة والفضل حتى يدخل في عداد الصالحين، ولقد صدق رسول الله حيث يقول «سدّدوا وقاربوا واعلموا أنّه لن يدخل أحد الجنّة بعمله قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلّا أن يتغمّدنى الله برحمته» . قصة الهدهد أو بلقيس [سورة النمل (27) : الآيات 20 الى 44] وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَقَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24) أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26) قالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ماذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35) فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَهُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40) قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 788 المفردات: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ التفقد تطلب ما غاب عنك وتعرف أحواله. والطير اسم جنس لكل طائر بِسُلْطانٍ بحجة قوية بينة أَحَطْتُ الإحاطة العلم بالشيء من جميع جهاته مِنْ سَبَإٍ اسم مدينة في اليمن والمراد أهلها بِنَبَإٍ النبأ الخبر المهم الْخَبْءَ ما خبأته فاختبأ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ ألا تتكبروا أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أشيروا على أيها الأشراف ماذا أفعل في هذا الأمر قاطِعَةً أَمْراً مبرمة أمرا لا قِبَلَ لَهُمْ بِها لا طاقة لهم بها بِعَرْشِها الظاهر أن المراد بالعرش هو سرير الملك يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ الطرف تحريك الأجفان وفتحها للنظر، وارتداده انضمامها نَكِّرُوا لَها عَرْشَها غيروه صَّرْحَ القصر المشيدجَّةً اللجة: الماء المجتمع الكثيرمَرَّدٌ الممرد الأملس ومنه الأمرد. خلاصة القصة: كان لسليمان علم بمنطق الطير كما مر، فكان يعرف ما تريده الطير، وكانت الطيور مسخرة له، يكلفها بما يشاء، وتفقد سليمان في يوم من الأيام الجزء: 2 ¦ الصفحة: 790 الطير فلم يجد الهدهد، فقال: مالي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين، تعجب سليمان من حال نفسه حيث لم ير الهدهد، ولم يأذن له ثم أضرب ثانية وقال: بل أهو من الغائبين! عد سليمان غيابه بلا إذن جريمة اقترفها، وهدده بالذبح أو التعذيب بنتف ريشه إلا إذا أتاه بعذر بين، وحجة قوية تبرر هذا التخلف. ولم يمض غير زمن قليل حتى جاء الهدهد فسأله عن غيبته فأخبره بأنه أحاط بأمر لم يحط سليمان به، وجاء بنبإ مهم من بلاد سبإ التي هي من بلاد اليمن، وأخبره بملك عظيم وجاه عريض تملكه امرأة اسمها بلقيس، وهي الملكة على تلك الديار، وهذه المرأة أوتيت من كل شيء يتعلق بأسباب الملك واستتباب النظام، ولها عرش عظيم، محلى بالجواهر وأفخر الزينات. وهذه الملكة وقومها يعبدون الشمس من دون الله، ويرتكبون المعاصي، وقد زين لهم الشيطان أعمالهم السيئة حتى حسبوها خيرة، فصدهم عن سبيل الله فهم لا يهتدون، فعل الشيطان بهم هذا لئلا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض، وينزل المطر من السماء، وهو مخبوء فيها، وينبت من الأرض، وقد كان مستورا فيها، وهو العالم بما تخفون أيها الناس، وما تظهرون، إنه عليم بذات الصدور، هو الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم حقا، وصاحب التصريف المطلق، لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، ولكنه الشيطان يزين للناس، ويغويهم حتى ينحرفوا عن الطريق الصواب إلى طريق المغضوب عليهم أو الضالين. وفي قراءة: ألا يا اسجدوا، والمعنى: ألا يا قوم اسجدوا لله الذي يخرج الخبء الآية. قال سليمان حينما سمع مقالة الهدهد: سننظر في أمرك بعين الرؤية لنعلم أصدقت في مقالتك أم كنت من الكاذبين؟! يا هدهد: اذهب بكتابي هذا إلى تلك الملكة فألقه إليهم، ثم أعرض عنهم قليلا، فانظر بعد هذا ماذا يرجعون من القول، ويرددون، وانظر أى رأى يختارون؟ فامتثل الهدهد أمر قائدة ورئيسه، وحمل الخطاب، وأوصله إلى بلقيس فقرأته، وعلمت ما فيه، وجمعت الملأ من قومها، وأشراف مملكتها للتشاور في هذا الحدث، فقالت: يا أيها الملأ: إنى ألقى إلى كتاب كريم لأن مرسله كذلك، ولأنه مختوم، وكريم في عباراته، إنه من سليمان، وقد كتب فيه: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 791 بسم الله الرحمن الرحيم ... ألا تعلو على، وأتونى مسلمين: أى منقادين، غير فاعلين ما تفعله الجبابرة الطغاة.. لم ترد الملكة أن تستبد بالأمر، بل جمعت وجوه القوم للمشاورة، فقالوا، وقد أخذتهم العزة بالإثم، واندفعوا وراء العاطفة بدون عقل قالوا: نحن أولوا قوة وأولو بأس شديد، فعندنا العدد، والعزم الأكيد، ونحن طائعون لأمر الرئيس، فالأمر إليك فانظرى بماذا تأمرين؟ أما بلقيس فكانت امرأة عاقلة حكيمة استعملت العقل والسياسة، ولم تغتر بما أبداه جيشها ورجالها من القوة والبأس، وحسن النظام، وكمال الطاعة، وقالت لهم: أيها القوم، هذا كتاب من ملك، فإذا عاندناه وحاربناه ربما يغلبنا، ويدخل ديارنا فيهتك سترنا، وإن الملوك إذا دخلوا قرية فاتحين غازين أفسدوها، وجعلوا أعزة أهلها أذلة، نعم، ومثل ذلك وأكثر منه يفعلون!! وإنى سأعرض عليكم رأيا آخر، ربما كان أحكم وأسلم، ذلك أن نرسل لسليمان هدية نصانعه بها، وتأتى رسلنا بأخباره الحقيقية، وسيكون لنا بعد ذلك شأن، وهذا رأى سديد ... وقد ارتضاه الكل، وأرسلوا الرسل. فلما جاءت رسلها سليمان بالهدايا قال سليمان: أتمدونني بمال؟! أنكر عليهم هديتهم قائلا: لست طالبا للدنيا وعرضها الزائل، إنى أطالبكم بالدخول في دين الله وترك عبادة الشمس، على أنى لست في حاجة لمالكم، فما آتاني الله خير وأكثر مما آتاكم، بل أنتم أيها القوم بهديتكم تفرحون. ارجع إلى قومك أيها الرسول- والخطاب لزعيم الوفد- فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها، ولا طاقة لهم على لقائها، ولنخرجنهم من ديارهم أذلة، وهم صاغرون. وصل الخبر إلى بلقيس، وعلمت حقيقة سليمان وجنده، وقوة ملكه، وأشفقت على قومها، فأجمعت أمرها، وعزمت على الذهاب إلى سليمان في (أورشليم) بالشام بهدية عظيمة. ولما علم سليمان بزيارة بلقيس له في عاصمة ملكه شيد لها صرحا عظيما، وجعل أرضه من زجاج، وهذا شيء غير معروف باليمن. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 792 ولما قربت من ديار سليمان أراد أن يظهر لها من دلائل عظمته، ونعم الله تعالى عليه ما يبهرها، ويجعلها تؤمن به، وتصدقه في رسالته ونبوته، أراد أن يحضر لها عرشها الذي تركته ببلادها لتجلس عليه في ذلك القصر المشيد، الممرد بالقوارير. فسأل جنوده عن قوى يأتيه بعرشها، فقال عفريت من الجان: أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك، وإنى على حمله وحفظه لقوى أمين، قال الذي عنده علم من الكتاب- والله أعلم به- أنا آتيك به في لمح البصر قبل أن أن تغمض عينك، ويرتد إليك طرفك، وكان كما قال وأحضر العرش الذي هو كرسي الملك على ما يظهر من وصفه الآتي فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ [سورة النمل آية 40] قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها [سورة النمل آية 41] فهذا يدل أن العرش يراد به كرسي الملك. فلما رآه سليمان ماثلا أمامه قد حضر في أقل من لمح البصر قال: هذا من فضل ربي على ليبلوني أأشكر تلك النعم أم أكفر بها؟!! علما بأن من شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإنما وزره على نفسه فقط، وإن ربي- جل شأنه- لغنى عن شكر الشاكرين، كريم يجازى على الحسنة بأضعافها قال سليمان لجنده: نكروا لها عرشها، وغيروا فيه بعض التغير لنرى أتهتدي إليه أم تكون من الذين لا يهتدون؟!! وقد يراد بالاهتداء وعدمه الاهتداء إلى الحق فلما جاءت قيل لها: أهكذا عرشك؟ قالت: كأنه هو .... قيل لها ادخلى القصر الذي أعد لمقامك فيه، ولما أرادت دخول الصرح والوصول إلى العرش ظنت الزجاج المصنوع منه أرض القصر ظنته ماء فكشفت عن ساقيها لئلا تبتل ثيابها بالماء، فأخبرت بأنه ليس ماء إنه قصر مشيد قد مرد بالقوارير، وصنعت أرضه من زجاج. قال سليمان: وأوتينا العلم بإسلامها ومجيئها طائعة منقادة من قبل حضورها، وكنا منقادين في كل ذلك لله- سبحانه وتعالى-. وهذه المملكة، وعلى رأسها بلقيس صدها ما كانت تعبد من دون الله أى: منعها من إظهار الحق والإيمان بالله ما كانت تعبده وهي الشمس إنها كانت من قوم كافرين. فلما رأت كل ذلك، وأراد الله لها الخير والهداية قالت: ربي إنى ظلمت نفسي بما كنت عليه من عبادة غيرك، وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 793 وهكذا أيها الناس من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا مما يطلب منه كأنما يصعد إلى السماء، وكذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون، إن في ذلك لآية، وإنما يعتبر بها أولو الأبصار والعقول ... صالح مع قومه ثمود [سورة النمل (27) : الآيات 45 الى 53] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (53) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 794 المفردات: يَخْتَصِمُونَ يتنازعون اطَّيَّرْنا تطيرنا أى: تشاءمنا والطيرة تعليق الخير أو الشر على طيران الطائر يمينا أو شمالا تُفْتَنُونَ تمتحنون رَهْطٍ الرهط اسم للجماعة لِوَلِيِّهِ من له ولاية عليه مَهْلِكَ هلاك. وهذه قصة أخرى لصالح مع قومه ثمود، دليل على أن محمدا رسول الله، وأنه. يتلقى القرآن من لدن حكيم عليم، وفيها إنذار وتهديد للكفار والمشركين. المعنى: تالله لقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحا فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له، فإذا هم فريقان يختصمون أحدهما مؤمن، والآخر كافر قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ [سورة الأعراف الآيات 75، 76] . قال صالح: يا قومي ويا أهلى ويا عشيرتي لم تستعجلون بالسيئة قبل الحسنة؟ أى لم تؤخرون الإيمان الذي يجلب إليكم الثواب، وتقدمون الكفر وتتعجلون به وهو يوجب العقاب والسوء والعذاب، هلا تستغفرون الله، وتتوبون إليه لكي ترحموا قالوا من فرط جهلهم وسوء تفكيرهم: إنا متشائمون بك وبمن اتبعك من الناس فإنا نرى القحط وقلة المطر أصابتنا من يوم أن ظهرت تدعو إلى ما تدعو إليه. قال لهم صالح: لا يا قوم. إنما طائركم ومصائبكم من عند ربكم بل أنتم قوم تفتنون وتبتلون بما ينزل عليكم من نعمه، وما يصيبكم من نقمه، وتشاؤم الناس بأنبيائهم فكرة جالت في رؤوس كل الأمم «فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه، وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه» . «وإن تصبهم حسنة يقولوا هذا من عند الله، وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك- أى محمد صلّى الله عليه وسلّم قل كل من عند الله» . وكان في تلك المدينة التي يسكنها ثمود تسعة رجال من أشرافهم، لهم أثرهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 795 وخطرهم في القبيلة حتى كأن الواحد منهم رهط بنفسه، كانوا يفسدون في الأرض، ولا يتأتى منهم صلاح بحال من الأحوال. قال هؤلاء متقاسمين فيما بينهم متعاونين على الإثم والعدوان: لنبيتنه وأهله، والمعنى تحالفوا وتبايعوا على قتل نبي الله صالح- عليه السلام- ليلا ثم يقولون لوليه: ما شهدنا مهلك أهله، وما قتلناه، وإنا لصادقون في دعوانا، ومكروا ومكر الله، ولكن لا يحيق المكر السيئ إلا بأهله، وكان أن أهلكهم الله وهم لا يشعرون. فانظر كيف كان عاقبة مكرهم؟ فقد أهلكهم ربك بالصاعقة، ودمرهم بالصحيحة جميعا، فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا، إن في ذلك لآية وعبرة لقوم يعلمون، وانظر كيف نجينا القوم الذين آمنوا بالله ورسوله، وكانوا يتقون، وهكذا سنة الله مع الجبابرة والطغاة، فالويل لهم إن لم يتوبوا إلى رشدهم ويؤمنون بربهم، ويقلعوا عن طغيانهم ... الجزء: 2 ¦ الصفحة: 796 قصة لوط مع قومه [سورة النمل (27) : الآيات 54 الى 58] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58) المفردات: الْفاحِشَةَ الفعلة القبيحة المنكرة، والمراد بها إتيان الذكور في أدبارهم قَدَّرْناها قضينا أنها من الغابرين أى: الباقين في العذاب. وهذه هي آخر القصص التي تلقاها النبي صلّى الله عليه وسلّم في هذه السورة من لدن حكيم عليم. المعنى: ولقد أرسلنا لوطا إلى قومه- أهل سدوم- فقال لهم مؤنبا، وداعيا: أتأتون الفاحشة، وأنتم تبصرون؟ أنكر عليهم إتيان الفعلة المتناهية في الفحش حتى كأنها المعروفة به وحدها، ومن العجيب أنهم يأتونها، وهم يبصرون ويعلمون أنها فاحشة، وما كانوا يستترون حين فعلها بل يبصرون وينظر بعضهم لبعض عتوا وتمردا، واستكبارا في الأرض وفسادا. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 797 أإنكم لتأتون الرجال في أدبارهم؟ متجاوزين النساء، وهن محل ذلك العمل وخلقن لأجله، تأتون ذلك الفعل المنكر للشهوة فقط لا لشيء آخر، وهذا تفسير للفاحشة التي ذكرت أولا، بل أنتم قوم تجهلون حقيقة ما خلقت المرأة له، وتجهلون أنفسكم ومكانكم في المجتمع الإنسانى، وتجهلون خطر ما أقدمتم عليه، ومقدار دعوة نبيكم الذي أرسل رحمة لكم. فما كان جواب قومه على هذا إلا أن قالوا: أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون! يا للعجب يأمرون بإخراج لوط ومن آمن به من القرية لأنهم أناس يتطهرون!! يا للعجب العاجب. من الناس من ينقمون على إخوانهم، لأنهم آمنوا بربهم، ودعوا غيرهم إلى الدين الحق!! ولكن هل يغفل الحق- تبارك وتعالى- أمر هؤلاء وهؤلاء؟ لا. أبدا.. لن يكون ذلك، فهذا لوط مع قومه العتاة العصاة المتجبرين. قد نجاه الله وأهله الذين آمنوا معه إلا امرأته فقد قضى عليها أن تكون من الهالكين، ولم ينفعها قربها من لوط، ما دامت تستحق الهلاك لكفرها وأمطر الله على العصاة المتكبرين مطر السوء فأبادهم وخسف بهم الأرض، فساء وقبح مطر المنذرين، وتلك عاقبة العصاة الفاسقين. الشواهد الدالة على الوحدانية والقدرة [سورة النمل (27) : الآيات 59 الى 66] قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64) قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 798 المفردات: اصْطَفى اختار حَدائِقَ جمع حديقة وهي البستان عليه سور وحائط لأن الحائط أحدق بها بَهْجَةٍ البهجة: حسن المنظر يَعْدِلُونَ يميلون. يقال: عدل عنه أى مال عنه قَراراً مكانا يقر عليه الإنسان وغيره بمعنى يستقر خِلالَها أى: بين جهاتها المختلفة حاجِزاً مانعا الْمُضْطَرَّ الذي أصابه الضر بُشْراً مخفف بشرا جمع بشير، والمراد مبشرات ادَّارَكَ أصله تدارك بمعنى تلاحق عَمُونَ جمع أعمى. ولما فرغ من قصص تلك السورة عاد إلى خطاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم، إذ هو المقصود الأول، وكأن أمر المصطفى صلّى الله عليه وسلّم بالحمد والتسليم صدر خطبة لما يلقى بعد ذلك من البراهين والشواهد الدالة على الوحدانية والعلم والقدرة الكاملة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 799 المعنى: قل يا محمد: الحمد لله، الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون، نحمده- سبحانه- الذي منّ على الأمة المحمدية، بنور القرآن، وشرفها بأن منع عنها عذاب الاستئصال وهلاك الأمم السابقة، وأبقى لها المعجزة الكبرى على مر الأيام والعصور، وهي معجزة القرآن، وسلام من الله وتحية من عنده مباركة طيبة، على عباده المؤمنين ورسله المصطفين الأخيار، الذين صبروا وصابروا على مشاق الرسالة، وتكاليف النبوة، فكان لهم من الله الأجر والثواب الجزيل. أيها الناس: آلله خير أم ما يشركون؟ آلله خير لمن عبده أم الأصنام لمن عبدها؟ وفي هذا تبكيت للمشركين وتأنيب لهم لأنهم آثروا عبادة الأصنام على عبادة الواحد القهار ففي هذا الكلام تنبيه لهم على نهاية الضلال والجهل، روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان إذا قرأها قال: «بل الله خير وأبقى وأجلّ وأكرم» . ثم إنه- تعالى- ذكر ما يفيد أنه المستحق للعبادة دون سواه، إذ هو الخالق للسماء والأرض، والذي يجيب المضطر إذا دعاه وهو الهادي في ظلمات البر والبحر، وهو عالم الغيب والشهادة، ولا يطلع على علمه أحدا، وسيعلم الذين ظلموا كل هذا، يوم لا تنفعهم معذرتهم في شيء، وفي هذا من دلائل القدرة، وكمال الوحدانية، وتمام العلم ما لا يخفى. أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ؟!!، والمعنى بل من خلق السماء وما فيها والأرض وما عليها، وأنزل لكم من السماء ماء فأنبت بسببه حدائق وبساتين وزروعا وأشجارا ذات لون بهيج، ورواء جميل، ما كان لكم أيها الناس أن تنبتوا شجرها؟ أمن خلق هذا كله كمن لم يخلق شيئا؟ أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ؟ أَفَلا تَذَكَّرُونَ؟ أغير الله يقرن به في العبادة، ويجعل شريكا له في القداسة؟!! بل هم قوم يعدلون عن هذا الحق الظاهر، ويجعلون لله عدلا وشريكا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ [سورة الأنعام آية 1] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 800 بل من جعل الأرض قرارا يستقر عليها الإنسان وغيره، ويعيش عليها، فقد جعل الله الأرض رغم كرويتها ودورانها السريع صالحة للاستقرار والمعيشة عليها بهذا النظام الدقيق، وما كانت الزلازل التي تصيب الأرض في بعض الظروف إلا ليشعر العالم أجمع بما هو فيه من نعمة الاستقرار على الأرض، وقد جعل الأنهار تجوس خلالها غادية ورائحة ليتمتع الإنسان الحي بتلك النعم، وقد جعل لها رواسى من الجبال والهضاب لئلا تميد بنا وتضطرب مع ما في تلك الجبال من منافع، فحقا صدق الله خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً، وقد خلق الله على الأرض البحرين العذب الفرات، والملح الأجاج، وجعل بينهما حاجزا من اليابس لئلا يطغى أحدهما على الآخر إذ في كل منهما خير ومنفعة لك يا ابن آدم؟ أمن جعل لك كل هذا كمن لم يجعل لك ولا لنفسه شيئا؟! أيليق أن يكون مع صاحب هذه النعم والقدر إله يعبد؟ بل أكثر الناس لا يعلمون الحق فيتبعونه.. الله- سبحانه- خلق لنا السماء والأرض والبحار والأنهار، والزروع والأشجار، وهل تركنا بعد ذلك؟ لا. إننا محتاجون إليه، وهو- سبحانه- يكشف عنا الضر إذا نزل. بل أمن يجيب المضطر إذا دعاه [والمضطر من أصابه ضر من فقر أو مرض أو حاجة دعته إلى الالتجاء والاضطرار] ويكشف عنه السوء إذا التجأ إلى ربه حقا ودعاه، وهو الذي جعلكم أيها الناس خلفاء في الأرض لغيركم، فكل منا وارث لأبيه وسيرثه ابنه، والدنيا كالمنزل يأوى إليه جماعة من الناس ليلا ثم يفارقونه نهارا، ويخلفهم آخرون؟ أمن يفعل هذا كمن لا يفعل شيئا؟ أيكون مع الله إله آخر تدعونه، وهو لا ينجيكم من البحر، ولا ينقذكم من الضر، ولا يدفع عنكم سوءا؟!! ما تذكرون ذلك إلا ذكرا قليلا. الله يحرسنا بعين لا تنام، ويحفظنا بقدرة لا ترام، ويكلؤنا ويهدينا في ظلمات البر والبحر حتى ننجو بسلام. وسبحانه وتعالى عما يشركون. بل من يهديكم أيها الناس في ظلمات البر والبحر؟ حيث أودع فيكم عقلا وفكرا، وهداكم إلى العلم والمعرفة التي بها تعرفون اتجاهكم وسيركم بمقاييس مضبوطة، نعم هو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 801 الذي هداكم قديما بالنجوم والجبال والطرق والعلامات وحديثا بآيات الضبط، ومن يرسل الرياح مبشرات تبشر بقدوم المطر والخير، وتدفع السفن وتحمل اللقاح إلى الزرع فالرياح تبشر على العموم بالخير ... بل أمن يفعل هذا يكون كمن لا يفعل شيئا؟! أإله مع الله؟ تعالى وتبارك عما يشركون.. بل من يبدأ الخلق ثم يعيده، ولا يقدر على البدء والإعادة إلا هو، ومن يرزقكم من السماء بالمطر، ومن الأرض بالنبات وغيره؟ أمن يفعل هذا كله كمن لا يفعل شيئا أبدا؟ بل أيعقل أن يكون مع الله إله آخر يفعل هذا؟! قل لهم يا محمد: هاتوا برهانكم وحجتكم إن كانت لكم حجة، وكنتم صادقين في دعوى أن له شريكا. قل لهم يا محمد: لا يعلم من استقر في السموات والأرض من الملائكة والإنس والجن حتى الأنبياء والرسل لا يعلمون الغيب أى ما غاب عنهم، ومن جملته قيام الساعة لكن الله يعلم الغيب والشهادة، ويعلم السر وأخفى إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ... الآية: 34 من سورة لقمان، قالت عائشة. من زعم أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ وهذا يفيد وصف الله بالعلم التام الشامل بعد وصفه بالقدرة والوحدانية، وذلك كله يفيد انفراده بالالوهية وما يشعر الكفار في أى وقت يبعثون للحساب والجزاء، وسآتيهم الساعة بغتة، وهم يجحدون بل ادارك علمهم، تلاحق أى: تكامل علمهم في الآخرة عنها لأنهم رأوا كل ما وعدوا به معاينة فتكامل علمهم به بعد إنكارهم لأحواله كلها، بل هم في شك منها في الدنيا، بل هم من الآخرة وأحوالها عمون بقلوبهم، لا يؤمنون بها ولا يفكرون فيها ... اعتقادهم في البعث [سورة النمل (27) : الآيات 67 الى 75] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 802 المفردات: أَساطِيرُ جمع أسطورة وهي ما سطره الأقدمون من خرافاتهم وأحاديثهم ضَيْقٍ في ضيق صدر رَدِفَ لَكُمْ تبعكم ولحقكم ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ ما تخفيه غائِبَةٍ التاء فيها للمبالغة كالتاء في علامة ونسابة والأصل غائب. بعد ما ثبت بالدليل القاطع أن الله هو المستحق وحده للعبودية إذ هو صاحب القدرة الكاملة، والعلم التام، والوحدانية في الذات والصفات والأفعال، ومن كان كذلك كان قادرا على البعث، ومع هذا كله فلم يؤمنوا به. المعنى: وقال الذين كفروا بالله وبرسله أإذا كنا ترابا بعد موتنا نحن وآباؤنا؟ أإنا لمخرجون- من قبورنا بعد أن صرنا ترابا- للبعث والجزاء!؟ إن هذا شيء لا يمكن أن نصدقه، ولا أن نؤمن به، لقد وعدنا هذا نحن وآباؤنا من قبل كثيرا، ولم نسمع أن قام أحد بعد موته وصيرورته ترابا، ما هذا الذي تدعونا إليه، وتخبرنا به أيها الرسول إلا أساطير الأولين وأكاذيبهم التي دونوها. رأى الله- سبحانه وتعالى- فيهم هذا الإنكار للبعث، وهو يعلم أن سبب ذلك حبهم الدنيا، وافتتانهم بها وحبهم للرياسة الكاذبة، والزخرف الزائل، فعالج لهذا الداء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 803 من أساسه وأمر رسوله أن ينبههم إلى السير في أرض الحجاز والشام واليمن لينظروا بأعينهم كيف كانت عاقبة الكفار المجرمين؟ هؤلاء هم الذين اغتروا بدنياهم، وافتتنوا بزخرفها وما هي إلا ساعة حتى فارقوها وتركوا ديارهم تنعاهم لمن بعدهم فيا أيها الناس آمنوا وصدقوا ولا تغتروا بالدنيا فهي متاع زائل، وعرض حائل، والآخرة خير وأبقى. وأنت يا محمد لا تحزن عليهم، ولا تك في ضيق وكرب مما يمكرون، فإن الله معك وناصرك، وعاصمك من الناس ومؤيدك. وانظر إليهم وهم يقولون: متى هذا الوعد؟ إن كنتم أيها القائلون به صادقون وهذا سؤال المراد منه الإنكار واستبعاد تحقق الوعد، فيرد الله عليهم: قل لهم يا محمد عسى أن يكون ردفكم ولحقكم، واقترب منكم بعض الذي تستعجلون من العذاب، وعسى في كلام الله للتحقق، وقد تحقق هذا في غزوة بدر ويتحقق في عذاب القبر قريبا. وإن ربك لذو فضل على الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم حيث يمن على الجميع بنعمة في الدنيا، وعلى المؤمن خاصة بنعمة الهداية، وعلى الكافر بتأخير العذاب لعله يثوب إلى رشده، وإن ربك ليعلم السر وأخفى، ويعلم الغيب والشهادة، وهو العليم بذات الصدور، وما من شيء يغيب عنه ويخفى خفاء شديدا أينما كان في السماء أو الأرض إلا كان في كتاب مسطور، كتاب مبين يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ [سورة لقمان آية 16] . القرآن الكريم والنبي صلّى الله عليه وسلم [سورة النمل (27) : الآيات 76 الى 81] إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 804 المعنى: لقد كان الكتاب الذي سطر فيه ما مضى من أدلة تثبت لله صفات الكمال وتؤيد البعث للثواب والعقاب- وهذان أصلان مهمان للدين الإسلامى- هو القرآن الكريم، فمن الخير التعرض له ببيان أنه من عند الله، وأنه معجزة دالة على صدق محمد صلّى الله عليه وسلم فيما يدعيه. إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فإنه الكتاب الذي أنزل مصدقا لما بين يديه من الكتاب، ومهيمنا عليه، وقد بقي عند اليهود والنصارى من كتبهم الشيء القليل على أصله أى: بدون تحريف والأكثر حرف وبدل فهم مختلفون، دليل ذلك قوله- تعالى- فيهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ [النساء: 44] يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ.. مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ أقرأ الآيتين 13، 14 من سورة المائدة. فضياع جزء من التوراة نسيانا. وتحريف جزء آخر منها عمدا- ومثل هذا حصل في الإنجيل- وليس هذا تجنّيا بل ثبت بنص القرآن كما مر.. هذا جعلهم يختلفون في كثير من المسائل بينهم وبين بعض، بل بين أتباع الدين الواحد وقع اختلاف كثير وقد جاء القرآن بالقصص المحكم، والقضاء العادل، مخاطبا لهم جميعا بقوله: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [سورة النساء آية 171] . اختلف بنو إسرائيل في عيسى ابن مريم اختلافا كثيرا فاليهود كذبوا ورموا أمه بالزنا، وحاولوا قتله وصلبه، والنصارى صدقوه ثم عظموه وألهوه حتى قالوا: إنه إله أو ابن الإله أو ثالث ثلاثة: تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا، وقد جاء القرآن يقص عليهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 805 أن عيسى رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه فآمنوا به وصدقوه، ولا تعظموه بل هو كبقية الأنبياء والمرسلين ومواضع الخلاف كثيرة، ولكن هذه أهمها. وإن القرآن شفاء، ورحمة، وهدى وضياء، ومصدر الخير والبركات والعلوم والمعارف في الواقع للناس جميعا، ولكن المنتفعين بذلك أكثرهم المؤمنون، وإن ربك يقضى بين الناس بحكمه العدل، وهو العزيز الذي لا يغالب، العليم بخبايا النفوس وطوايا القلوب. وأما أنت يا محمد فتوكل على الله حقا، وفوض أمرك إليه صدقا، إنك على الحق المبين، ورسالتك هي المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، ولا تعجب من كفر هؤلاء فليس ذلك راجعا لنقص فيك أو في رسالتك، بل إنك لا تسمع الموتى وأشباههم ولا تسمع الصم الدعاء، وكيف يسمع الأصم دعاء؟ وبخاصة إذا ولى مدبرا. وما أنت يا محمد، وكذا كل من دعا بدعوتك، وسار على طريقتك بهادي العمى عن ضلالتهم. ما تسمع إلا من فيه استعداد لقبول الحق، ومن في روحه صفاء وهو المؤمن بآياتنا، الناظر بعين البصيرة في ملكوتنا، أولئك هم المسلمون، أما غيرهم فكالأنعام لها عيون وآذان، ولا قلب لها ترى به العبرة، بل هم أضل من الأنعام. بعض مناظر القيامة مع ذكر مقدماته [سورة النمل (27) : الآيات 82 الى 86] وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 806 المفردات: وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ دنا وقرب وقوع مدلول القول دَابَّةً كائنا حيا يدب على الأرض فَوْجاً جماعة يُوزَعُونَ في المادة معنى المنع كما تقدم في قصة سليمان والمراد هنا يمنع أولهم ويوقف حتى يتلاحقوا. لا زال الكلام متلاحقا في البعث وإمكانه، وبخاصة بعد ذكر بعض صفات الله كالقدرة والعلم والوحدانية والتعرض للنبوة والقرآن وكونه معجزة للنبي صلّى الله عليه وسلم. المعنى: وإذا وقع القول عليهم ودنا الوقت، وقربت الساعة الفاصلة، وحق عليهم العذاب لفساد الدنيا، وضياع الدين وهذا يكون قبيل قيام الساعة. وإذا دنا وقت ما وعدوا به من قيام الساعة أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون، وما هي تلك الدابة؟ وهنا انفلت خيال الكاتبين والمفسرين، واستندوا إلى بعض أحاديث آحادية، وأخذوا يغربون في وصفها وجسمها وكيفية خلقها. ونوعها. وفي ظني- والله أعلم بكتابه- أن تلك الدابة هي إنسان عادى، عالم بكتاب الله وسنة رسوله وأحكام شرعه، يظهر في هذا الوقت الذي يقل فيه العلماء، ويقبض فيه العلم بموتهم، وينعدم حفظة القرآن الكريم، ورجال الدين العاملون في هذا الوقت الذي يكثر فيه الفساد، ويعم الجهل بأحكام الدين، ويتخذ الناس رؤساء جهلاء يستفتونهم في دينهم فيفتونهم فيضلون ويضلون، يا أخى لا تظن أنى متشائم بل دلائل هذا الأيام السود قد تكون ولدت، فنحن في بلد تعتبر هي الموئل الوحيد للدين والعلم ولكن يجب أن نصارح الناس. أليس الأزهر في محنة؟! في هذه الأيام نعتنى بمحو الجزء: 2 ¦ الصفحة: 807 الأمية، ولكننا نضن بمال قليل ينفق على فصل لتحفيظ القرآن، لقد بح صوتنا لتكون مدارس التحفيظ تعامل كمدارس المرحلة الأولى أو الإعدادية ولكن أهذا معقول؟ إن الدعوة إلى القرآن وحفظه والعناية بتلاميذه من الرجعية التي تتنافى مع مبادئ مسايرة الغرب وتقليده. لقد قام بعض الكتاب يهاجم الأزهر في نظمه وقد يكون فيه عيب راجع لنظمه ولرجاله!! وفي الواقع هي حملة لإثبات أن الدين الإسلامى لم يصلح لتحريرنا، وأنا أمة يجب أن تتحرر من كل شيء حتى من تقاليدها ودينها. أيبعد بعد قرن أو قرنين أو ثلاثة- والله أعلم- أن يوجد هذا الوقت الذي يقبض فيه العلم والعلماء؟ حتى تنتهك الحرمات جهارا ونهارا، فلا يوجد من ينكر وإذا حصل هذا يخرج الله للناس دابة من الأرض- وهي الإنسان المخلوق من التراب- تكلمهم، وتعظهم، وتأمرهم وتنهاهم، ولكن هذا يكون في وقت قد بلغ فيه السيل الزبى وجاوز الحزام الطبيين، وقربت الساعة. والذي دعاني إلى تفسير الدابة بالإنسان وصفها بالكلام، ولأن الإنسان دابة من الدواب، ولقول النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد سئل عن الدابة وخروجها، فقال: تخرج من أعظم المساجد حرمة على الله- تعالى- المسجد الحرام، ولقد قال بهذا بعض المفسرين، وقوله تعالى: أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ [النمل 82] مما تعظ به تلك الدابة. وهاك منظرا من مناظر يوم القيامة بعد الكلام على بشائرها. ويوم يحشر جماعة كثيرة من كل ممن يكذب بآياتنا نجمعهم، ونسوقهم سوقا فهم يوزعون حتى يكبكبوا في جهنم، وهذا إشارة إلى كثرة العدد! وتباعد أطرافه. حتى إذا جاءوا، وأخذوا جزاءهم قيل لهم تبكيتا: أكذبتم بآيات الله، والحال أنكم لم تحيطوا بها علما؟ على معنى أنكم كذبتم قبل بحث الآيات والإحاطة بها لأنكم شغفتم بالتكذيب. بل ماذا كنتم تعملون؟! أى: إذ كنتم لم تبحثوا الآيات وكذبتموها بادى الرأى من غير فكر ولا نظر فبماذا كنتم تشغلون أنفسكم؟. وعند ذلك وقع عليهم بالفعل العذاب الموعود بغشاهم بسبب التكذيب والكفر الجزء: 2 ¦ الصفحة: 808 فشغلهم عن النطق والكلام والاعتذار هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ [سورة المرسلات الآيتان 35، 36] . يا عجبا لأولئك الكفار! ألم يروا أنا جعلنا الليل ليسكنوا فيه، وجعلنا النهار مبصرا يبصرون فيه أمور معاشهم، ومعادهم، إن في ذلك لآيات لقوم يعلمون، فالقادر على إيجاد الليل بعد النهار، والنهار بعد الليل، ومن يقدر على وفاة الناس ليلا ثم إحيائهم نهارا، قادر بلا شك على إيجاد الحياة للبعث والجزاء. بعد الموت والفناء، وفي ذلك آيات معلومة تلفت الأنظار، ولكن لقوم يؤمنون. من علامات يوم القيامة [سورة النمل (27) : الآيات 87 الى 90] وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90) المفردات: - الصُّورِ هو البوق الذي ينفخ فيه فَفَزِعَ الفزع هنا: الخوف الشديد المفضى إلى الموت داخِرِينَ صاغرين من الذل أو الهيبة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ ألقيت من جهنم. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 809 المعنى: ذلك من علامات يوم القيامة، العلامات القريبة التي تتقدمه بزمن يسير فإذا أراد الله.. أمر الملك الموكل بالبوق فنفخ فيه نفخة يرتج لها كل من في الدنيا من الأحياء، ويصيبهم هول وخوف شديد، يؤدى بهم إلى الموت إلا من شاء ربك من الملائكة وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مات مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ آية 69 من سورة الزمر. وعلى ذلك فالنفخ مرة ليموت الكل، ومرة ليحيا الكل للحساب، ومن شاء الله يموت بعد النفخة الأولى وقبل الثانية. وكل أتوه صاغرين صغار ذل إن كانوا كفارا، وصغار هيبة وخشية إن كانوا مؤمنين إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً «1» . وترى الجبال يومئذ تظنها جامدة ساكنة، وهي تمر مر السحاب يدفعها الريح صنع الله الذي أتقن كل شيء وأحكمه، إنه خبير بما تفعلون. من جاء بالحسنة يوم القيامة فله ثواب جزيل بسببها، وأصحابها يومئذ من الفزع آمنون مطمئنون، وكان الفزع الأول عاما لأنه عقب نفخ الصور، وأما الفزع المنفي عن المؤمنين فالمراد به دوامه واستمراره، فالمؤمن يموت أو يحيا للحساب يستبشر بالثواب الجزيل والعطاء الذي لا يقطع فهو بحق من الخوف آمن. وأما من جاء بالسيئة فسيلقى في جهنم على وجهه الذي طالما صعر خده كبرا، وشمخ بأنفه عجبا وتيها على عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا ثم يقال لهؤلاء الكفار: هل تجزون إلا ما كنتم تعملون. وبعض العلماء يقول في قوله تعالى: وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً «2» ... إن ذلك في الدنيا وهذا دليل على دوران الأرض حول الشمس بسرعة فائقة، وتلك نظرية علمية ثابتة، ولكن الظاهر والله أعلم أن ذلك في الآخرة، لأن الآيات التي هنا كلها عن يوم القيامة.   (1) سورة مريم الآية 93. [ ..... ] (2) سورة النمل الآية 88. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 810 خاتمة السورة [سورة النمل (27) : الآيات 91 الى 93] إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93) وهذا ختام للسورة، وإنه لختام رائع لا يصدر إلا من الحكيم العليم الذي أنزل هذا الكتاب المحكم الآيات، المتشابه المقاطع والحلقات، تقشعر منه قلوب الذين يتلونه بخشوع، وخضوع، وتخضع لقوته وأحكامه جباه البلغاء والحكماء، ويخرون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعا. فبعد أن بين أن القرآن ينزل على النبي من لدن حكيم عليم، وساق قصصا لإخواته الأنبياء في عصور مختلفة ليكون عبرة وعظة، وحجة وبرهانا، وتعرض بعد ذلك لأمر التوحيد مناقشا الكفار والمشركين، مبينا آثار فضل الله ونعمه التي تنطق بوحدانيته وقدرته وعلمه، ثم تعرض للبعث، وما في يوم القيامة من أهوال وأحوال ختم هذا كله بما يفيد أن الواجب عليه عبادة الله حقا وتلاوة القرآن، وبعد ذلك فالأمر لله. فقال في النهاية: إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة- مكة- الذي حرمها ربها، وعظّم الله حرمتها، وجعلها حرما آمنا، لا يسفك فيها دم، ولا يظلم فيها أحد ولا يصاد فيها صيد، ولا يعضد فيها شجر، ولا يخوف فيها خائف، بل هي الحرم الآمن تجنى إليه ثمرات الدنيا في كل ناحية، ولله كل شيء ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا وليس علىّ إلا البلاغ والإيمان الخالص، وعلى الله وحده الحساب، وله الأمر من قبل ومن بعد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 811 وأمرت أن أتلو القرآن مصدر البركات- وأساس الخيرات، وأصل كل شيء وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ «1» وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ «2» . وإذا تلونا القرآن وعملنا بما فيه فلا يضيرنا شيء بعد هذا، فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر، ومن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه، ومن ضل فإنما عليه وزرها، وما ربك بغافل عما يعمل الظالمون، وإنما أنت يا محمد نذير وبشير. وقل الحمد لله حمدا يوازى نعماءه، سيريكم الله آياته الدالة على عظمته وحكمته وقدرته فتعرفونها سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «3» . وما ربك بغافل عما تعملون.   (1) سورة الإسراء آية 82. (2) سورة النحل آية 89. (3) سورة فصلت آية 53. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 812 سورة القصص هذه السورة مكية على الأصح، ولذا تراها تعلم المسلمين وقت أن كانوا يسامون الخسف والعذاب من المشركين: أن النصر من عند الله، وأن الأمن في جوار الله، وأن الكفار مهما كانوا على جانب من القوة والجاه والعلم والمال فمآلهم الخسف من الله والإبادة ولذلك ضرب مثلا لهذا بفرعون ذي البطش وبقارون ذي العلم وكيف كان مآلهما.. ووسط ذلك ساق البراهين المادية على قدرته وصدق رسله. مع ذكر بعض المواقف يوم القيامة. افتتاح السورة والكلام على قصة فرعون [سورة القصص (28) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 813 المفردات: طسم تقرأ هكذا طا. سين. ميم بمد في السين والميم مع إدغامه النون في الميم نَبَإِ النبأ: الخبر المهم عَلا استكبر وتجبر شِيَعاً فرقا وأصنافا وَيَسْتَحْيِي يترك نساءهم أحياء أَنْ نَمُنَّ نتفضل عليهم وننعم أَئِمَّةً ولاة وملوكا يَحْذَرُونَ يخافون. هذا افتتاح لسورة القصص، وقد ذكر فيها شيئا عن قصة فرعون و قصة موسى ثم قصة قارون، وفي كل قصة عظة، وشاهد صدق على نبوة محمد صلّى الله عليه وسلم، وهي سورة مكية افتتحت كأخواتها بحروف المعجم، والكلام على القرآن. المعنى: طسم (وفيها ما مضى في أخواتها) . تلك الآيات- والإشارة إلى آيات السورة- من آيات الكتاب المبين الذي بين الحلال والحرام، وبين بما فيه أنه من عند الله، وأن محمدا صادق في دعواه، وبين كل شيء لأن الله لم يفرط في ذكر الأصول العامة فيها ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ [سورة الأنعام الآية 38] . نتلو عليك، بواسطة الروح الأمين جبريل الذي كان مكلفا بتلاوته على النبي، نتلو عليك شيئا من خبر موسى وفرعون وهو الجزء المهم من قصتهما سيق للعبرة والعظة، إذ ليس القرآن كتاب تاريخ وقصص، ونتلوه حالة كوننا محقين في أخبارنا ليس فيها مبالغة ولا مجافاة للحقيقة، أخبار وقصص ذكرت بالحق، وسيقت لأجل الحق وخدمة له، ولا ينتفع بها، ولا يؤمن إلا القوم المتقون، وإن كانت ذكرت للناس جميعا. إن فرعون- ملك مصر- علا في الأرض، واستكبر وطغى فيها، وتجبر على الخلق وأفسد فيها، وجعل أعزة أهلها أذلة، وجعل أبناء مصر شيعا وأحزابا، كل حزب بما لديهم فرحون، أفسد ما بينهما، وقرب هذا وأبعد ذاك ليكون بأسهم بينهم شديدا فيظل الكل خاضعا له مستضعفا عنده، وقيل في المعنى: وجعل أهل مصر شيعا متفرقين يتشيعون لرأيه، ويدافعون عنه حقا كان أو باطلا، وهذا صنف من الناس مرذول، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 814 يصفق لكل خطيب، ويسير مع كل داع، ويخضع لكل رئيس فما باله مع الملك، إن كفر كفروا، وإن قال خيرا أو شرا، أو حقا أو باطلا أمنوا عليه فهم حزب (موافقون) وإن لم يعرفوا الكلام في أى موضوع. ويظهر أن في طبيعة بعض الأمم الشرقية هذا الداء الوبيل الذي يصيب الحاكم والمحكومين، فترى الحاكم أول أمره يتظاهر بالتقى والإيمان والإخلاص للمبادئ الفاضلة والمثل العليا ثم لا يلبث أن يجرفه تيار المادة، وأن يصيبه داء الملك فيصبح فرعون مصر، يتعالى ويتغطرس ويتجبر ويتكبر، ويؤذى ويفسد، ويسجن ويعتقل، ويتنكر لكل صديق وحبيب، وتكون الطامة الكبرى إذا أصبح حيوانا في الناحية الجنسية، أو عبدا للمال إذا جمع المال من كل طريق. أما المحكومون فلا يلبث أن يصيب بعضهم داء الخضوع والذل، والحقارة والضعة حتى يصبح معه متشيعا للرئيس يوافقه ولو قال: إنى أنا ربكم الأعلى. والعلاج الوحيد لذلك كله أن نضع الدين والقرآن نصب أعيننا، وأن نغرس في نفوسنا تقوى الله والتوكل عليه حقّا حتى لا نغتر بدنيا ولا جاه ولا نخشى إلا الله فلا نقول إلا ما يرضى ربنا، ويوافق ديننا. وبعد فلنرجع إلى فرعون الذي علا في أرض مصر، وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم الذكور خوفا على ملكه ودنياه، ويترك نساءهم لأن الأنبياء التي سبقت موسى كانت تبشر به وبمولده، وبأنه سيرفع أمر الله، ويمنع الظلم عن الناس وبخاصة بنى إسرائيل، ويزيل الملك القائم على أساس الظلم والجبروت، إن فرعون كان من المفسدين. يقول الله: وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ، وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً «1» وقادة وولاة وحكاما، ونجعلهم الوارثين الذين يرثون ملك فرعون وأرض مصر بعد أن كانوا يسامون سوء العذاب. ونريد أن نمكن لهم في الأرض، ونرى فرعون الطاغية وهامان وأمثاله من وزراء الملك وحاشيته، وجنودهما ما كانوا يحذرون ويخافون. وقد حقق الله هذا كله بأن أرسل موسى وأنزل معه التوراة.   (1) سورة القصص الآية 5. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 815 فهل لنا أن نلتفت إلى هذا؟ ونفهم أن الذي أنقذ بنى إسرائيل من الذل، وجعلهم ملوكا وحكاما ومكن لهم في الأرض إنما هو الكتاب المنزل والشريعة المقدسة فإذا ما خرجوا منها، وابتعدوا عنها ضربت عليهم الذلة والمسكنة!! وإنما يتذكر بذلك أولو الألباب. قصة موسى قصة موسى كما ذكرنا سابقا تشتمل على عدة عناصر، وقد ذكرت في مواضع كثيرة في القرآن، ويلاحظ أنه ذكر في هذه السورة بإسهاب الجزء الأول من حياة موسى، ويتلخص ذلك في العناصر الآتية. ولادته وإرضاعه .... ، تربيته في بيت فرعون، سبب خروجه من أرض مصر. أرض مدين ونزوله بها، ومصاهرته للشيخ، قضاء موسى مدة استئجاره. موسى بالوادي المقدس. محاجة موسى لهم. وعناد فرعون. وعاقبتهم. ولادته وإرضاعه [سورة القصص (28) : الآيات 7 الى 14] وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 816 المفردات: - وَأَوْحَيْنا ألهمنا وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي الخوف ألم نفسي لما يتوقع حصوله في المستقبل، والحزن ألم يصيب الشخص لأمر واقع في الماضي خاطِئِينَ متعمدين للخطيئة من خطىء إذا تعمد، أما أخطأ فمعناه لم يصب ولكن بغير تعمد قُرَّتُ عَيْنٍ المراد أنه مصدر سرور وارتياح، واشتقاق الكلمة من القرار فإن العين تقر على ما تسر به أى تسكن، أو من القر أى البرد، وبرد العين كناية عن سرور صاحبها فارِغاً خاليا من كل ما عدا موسى لَتُبْدِي بِهِ لتظهر أمره رَبَطْنا المراد ثبتناها قُصِّيهِ القص اقتفاء الأثر وتتبع الخبر عَنْ جُنُبٍ عن مكان بعيد يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ يقومون بأمره أَشُدَّهُ غاية نموه، وهو مفرد جاء على وزن الجمع. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 817 المعنى: وأخيرا ولدت أم موسى (قيل اسمها يوكابد وقيل غيره وهذا لا يهمنا في شيء) ولدت موسى في وقت شديد على بنى إسرائيل، كان يقتل فيه فرعون ذكورهم ويبقى نساءهم فماذا تفعل تلك الأم المسكينة؟! إن ابنها سيكون له شأن، وهو النبي الذي ينقذ بنى إسرائيل، ويرسل إليهم، وتنزل عليه التوراة، وفيها هدى ونور، فمن المعقول أن يرعاه ربه ويحفظه حتى يؤدى رسالته، وقد كان ما أراد الله، وصنعه على عينه، فلما ولدته أمه خبأته من عيون فرعون، فمكث عندها زمنا فلما خافت عليه وخافت من انكشاف سرها المكتوم فيقضى على فلذة كبدها، وموضع أملها لما حصل هذا أوحى الله إليها وألهمها- وهو القادر على كل شيء- أن تصنع له تابوتا ثم تضعه فيه، وتلقيه في البحر. وهنا نقف لحظة أمام قوله تعالى فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخافِي وَلا تَحْزَنِي «1» إذ كيف يكون الإلقاء في البحر نتيجة الخوف؟ وهل من المعقول أنى إذا خفت على ابني مكروها ألقيه من النافذة؟! ولكنها عناية الله ورعايته تحوط بأنبيائه ورسله، وهم في المهد بل وفي ظهور آبائهم «خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح» عناية الله ورعايته بهم هكذا تكون لهم إرهاصا بنبوتهم، ودليلا على أنهم ليسوا بشرا عاديين، فحينما تلقى أم موسى به في البحر الذي يغرق الرجال والشبان، ثم يحفظه الله لها، بل ويرده إليها كما وعدها. تعلم علما أكيدا أن وعد الله حق، وأنه القادر المقتدر لا تخفى عليه خافية، ويكون في هذا دليل على صدق موسى فيما يدعيه مستقبلا إذا خفت عليه من فرعون فألقيه في البحر، ولا تخافي عليه من الغرق فعين الله ترعاه. وإذا العناية لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهنّ أمان أليس في هذا عبرة وعظة للمسلمين في مكة قبل الهجرة. ولا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك، وجاعلوه من المرسلين. وكان من أمرها أنها ألقته بتابوته في البحر فالتقطه آل فرعون، وهم أعداء له ولربه، ولكن الله ألقى عليه المحبة؟ فأحبته امرأة فرعون وحافظت عليه. وأبقته قرة عينها وعين   (1) سورة القصص الآية 7. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 818 زوجها فرعون، راجية أن ينفعهما أو يتخذاه ولدا لهما إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي [سورة طه آية 39] . التقطه آل فرعون لتكون العاقبة والنهاية أن موسى يصير لهم عدوّا مبينا ومصدر حزن وتعب لهم جميعا، إن فرعون وهامان وزيره وجنودهما كانوا مجرمين ومذنبين، إذ لا يستوي الخبيث والطيب ... فلما وصل إلى بيت فرعون قالت امرأته عند ما وقع نظرها عليه- وقد ألقى الله عليه محبتها- قالت هذا الطفل ألمح فيه أنه سيكون لنا سلوى، به تقر عيوننا، وتسكن نفوسنا، فلا تقتلوه، يا فرعون عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا نتبناه، قالوا هذا وهم لا يشعرون ما يضمره الغيب لهم بسبب ذلك الطفل. ولما حصل هذا ألقت أم موسى به في البحر. وهو ابنها فلذة كبدها أصبح فؤادها فارغا من كل شيء إلا من موسى وخبره، وانتابتها الهواجس والظنون، واعتراها ما يعترى البشر من الهلع والجزع عند فقد الحبيب، إنها أوشكت أن تخبر أن الذي وجدتموه هو ابني، وفي رواية كادت تقول: وا ابناه!! من شدة وجدها عليه، كادت تفعل ذلك لولا أن ربطنا على قلبها وألهمناها الصبر، كما يربط على الشيء ليسكن ويستقر لأمر الله، ولتكون من المؤمنين حقّا بقضاء الله وقدره، المصدقين بوعده. وكان من أمرها أنها أمرت أخته أن تقتفى أثره، وتقف على خبره، فأبصرته من مكان بعيد، وهو في بيت فرعون تعرض عليه المرضعات فيأبى أن يرضع من إحداهن لأن الله حرم عليه المراضع، فقالت أخته: هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم، ويقومون بخدمته وإرضاعه والعناية به ونظافته؟ ولا شك أن هذا عمل يقوم به أهل بيت لا امرأة واحدة، وأهل هذا البيت لفرعون وعرشه ناصحون فلا تخشون منهم سوءا، وكان ما أشارت به أخته. وانظر إلى تدبير الله- جل جلاله-، الرحمن الرحيم بخلقه، وخاصة أولياءه وأحبابه، حيث أعاد لأم موسى ابنها ترضعه وتربيه، وتكون ظئرا له، وتتقاضى على ذلك كله أجرا، وهي آمنة من كيد الكائدين، وسعى الساعين. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 819 والله الذي أخرج اللبن من بين الفرث والدم لبنا خالصا سائغا للشاربين، أخرج موسى من بين فرعون وهامان وجنوده، ولا حرج على فضل الله. فرددناه إلى أمه كي تقر عينها، وتسكن نفسها، ولا تحزن عليه، ولتعلم أن وعد الله حق ولكن أكثر الناس لا يعلمون ... وبعد فطامه عاد إلى بيت فرعون، وتربى فيه أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ [سورة الشعراء آية 18] . ولما بلغ مبلغ الرجال، واستكمل قواه العقلية والجسمية وهذا معنى قوله: وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتيناه حكمة وحكما، ونبوة وعلما، ومثل ذلك نجزى المحسنين.. سبب خروجه من أرض مصر [سورة القصص (28) : الآيات 15 الى 21] وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19) وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 820 المفردات: شِيعَتِهِ أى: حزبه وجماعته، وهم الإسرائيليون لأنهم تشيعوا لموسى ولمذهبه فَاسْتَغاثَهُ طلب منه الغوث والنصرة فَوَكَزَهُ مُوسى الوكز واللكز: الضرب بجمع الكف ظَهِيراً معينا وناصرا يَتَرَقَّبُ ينتظر ما ينال من جهة القتيل يَسْتَصْرِخُهُ يستغيث به صارخا لَغَوِيٌّ لضال من غوى يغوى أى: ضل يَبْطِشَ البطش الأخذ بعنف مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ من أبعد جهاتها الْمَلَأَ الأشراف الذين يملؤون العين مهابة يَأْتَمِرُونَ بِكَ يتشاورون فيك، وسميت المشاورة ائتمارا لأن كل من المستشارين يأمر الآخر. المعنى: نشأ موسى في بيت فرعون وتربى فيه. ولكنه إسرائيلى يجمعه معهم صلة القربى واللغة والعادة والدين، وكان الإسرائيليون مضطهدين من فرعون وآله يسومونهم سوء العذاب. لهذا وذاك كان موسى ساخطا على معاملة القبط لبنى جنسه، وكان يدافع عنهم بشدة حتى عرف عنه ذلك، وأصبحوا يتشيعون له. دخل موسى يوما المدينة التي يسكنها فرعون- العاصمة- على حين غفلة من أهلها لأنهم كانوا في القيلولة، فوجد رجلا مصريا يأخذ بتلابيب رجل إسرائيلى، يقال لهما: هذا من شيعته، وهذا من عدوه، فاستغاث العبراني بموسى ليخلصه من ظلم المصرى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 821 فجاءه موسى، وهو مغضب، ووكز القبطي وكزة كانت القاضية، وواراه التراب ولم يعلم بذلك أحد إلا الرجل العبراني الذي نصره موسى. ولما سكنت نفس موسى وهدأ غضبه، ندم على ما فعل، وقال هذا من عمل الشيطان إنه عدو مضل مبين، إذ كان الأولى أن تكون النصرة بغير الضرب المفضى إلى الموت، وقال موسى: رب إنى ظلمت نفسي بهذا العمل فإن فيه قسوة وشدة، وإن كان عمل المصريين يخرج المرء عن صوابه، يا رب إنى ظلمت نفسي، فأنا أتوب إليك، وأندم على فعلى هذا فاغفر لي مغفرة من عندك، فتقبل الله منه توبته النصوح، وغفر له، إنه هو الغفور الرحيم قال: رب بما أنعمت على من فيض نعمك التي لا تحصى، وبسبب هذا فلن أكون ظهيرا للمجرمين، يا رب فلا تجعلني معينا وناصرا لأهل الشر أبدا. ولما كان اليوم الثاني وموسى يخاف افتضاح فعلته التي فعلها، وينتظر ماذا يكون من أمره؟، إذ بالإسرائيلى يتقاتل مع قبطى آخر، فاستغاثه الإسرائيلى- وهو من شيعته- على الفرعوني- الذي هو عدوه- ولكن موسى ندم على فعلته السابقة وكره مثل هذا الفعل فمد يده، وهو يريد أن يبطش بالفرعوني، وفي الوقت ذاته قال للإسرائيلى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ وهو مغضب ثائر، فظن العبراني أن موسى أراده بسوء فقال: أتريد يا موسى أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس؟!. وقيل إن الذي قال هذا هو القبطي يلوم موسى ويقول أيضا ما تريد يا موسى إلا أن تكون جبارا شديد البطش كثير الإيذاء في الأرض، وما تريد أن تكون من المصلحين الذين يفضون النزاع بين الناس، ولما كان أحد الخصوم ذوى قربى شاع خبر قتل موسى للمصرى أى القبطي- أو الفرعوني- تلك ألقاب ثلاثة لسكان مصر في ذلك الوقت- حتى بلغ فرعون وجنده فطلبوا موسى لقتله كما قتل ... في ذلك الوقت جاء رجل مؤمن من أقصى المدينة يسعى ليخبر موسى بما أراده القوم من سوء له. وقال: يا موسى: إن الملأ قد بيتوا العزم وصمموا على قتلك، فاخرج من تلك الديار، إنى لك من الناصحين. فخرج موسى من مصر خائفا يترقب، وفي وسط هذه المحنة الشديدة، قال: رب نجنى من القوم الظالمين، وقد نجاه الله ووصل إلى مدين وَقَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً [سورة طه آية 40] . الجزء: 2 ¦ الصفحة: 822 أرض مدين ونزوله بها ومصاهرته للشيخ [سورة القصص (28) : الآيات 22 الى 28] وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 823 المفردات: تِلْقاءَ تجاه وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ بلغ ماء مدين، ولفظ ورد تكون بمعنى الاطلاع عليه والبلوغ إليه فقط وإن لم يدخل كما هنا أُمَّةً لهذه الكلمة عدة معان منها الجمع الكثير كما هنا تَذُودانِ تحبسان وتطردان وتمنعان ما خَطْبُكُما ما شأنكما؟ يُصْدِرَ الرِّعاءُ حتى ينصرف الرعاة: يقال صدر عن الماء مقابل ورد. انصرف عنه، ويقال: أصدره يصدره صرفه عنه، والرعاء جمع راع كصحاب جمع صاحب قَصَّ روى له القصة تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ جمع حجة وهي السنة فَلا عُدْوانَ فلا مجاوزة للحد. المعنى: انتهى أمر موسى- عليه السلام- إلى الخروج من أرض مصر فارّا بنفسه خائفا من المصريين الذين قتل منهم واحدا، ومن المعقول أن موسى خرج بلا زاد ولا راحلة! فإلى أى الجهات يقصد؟ لقد قصد أرض مدين للنسب الذي بين الإسرائيليين وبينهم لأن مدين من ولد إبراهيم، والإسرائيليون من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم- عليهم السلام- جميعا. ولما توجه جهة مدين، وهو على هذا الوضع الشديد قال متضرعا إلى ربه: عسى أن يهديني سواء السبيل، ويوفقني إلى الطريق المستقيم حتى أصل إلى ما أقصد. ولما وصل أرض مدين- وهي بلاد واقعة حول خليج العقبة من جهة الشمال قريبا من شمال الحجاز وجنوب فلسطين- رأى على الماء جماعات كثيرة من الناس يسقون ماشيتهم، ووجد من دونهم امرأتين تذودان غنمهما عن ورود الماء. وتمنعانها عن الحوض انتظارا حتى يسقى أولو القوة من الرعاة، ويصدرون ماشيتهم، فإذا فرغوا من سقيهم جاءتا واستقتا لماشيتهما، وهذا شأن الضعيف مع القوى، يشرب القوى أولا من الماء الصافي، ويشرب الضعيف البقية الباقية من الماء الكدر. ونشرب إن وردنا الماء صفوا ... ويشرب غيرنا كدرا وطينا موسى رجل جد عمل، وإباء وبطولة، لم يعجبه أن يبتعد النسوة عن الماء الجزء: 2 ¦ الصفحة: 824 لضعفهن، ويتقدم للورود الرجال لقوتهم، وكيف يقبل هذا؟ وهو رجل ثار على الظلم، ولم يعجبه جبروت فرعون وطغيانه!!. فسأل المرأتين عن شأنهما، ولماذا يحبسان ماشيتهما عن الورود؟ فقالتا لا نسقى حتى يسقى هؤلاء الرعاة ماشيتهم، فهم أولو قوة ونحن ضعيفات كما ترى، وأبونا شيخ كبير مسن، لا يقدر على مزاولة أمر الرعي والسقي فثار موسى، وتحركت فيه عوامل الشهامة والرجولة، وسقى لهما، وأدلى بدلوه بين دلاء الرجال حتى شربت ماشيتهما. ثم تولى إلى ظل الشجرة ليستريح من وعثاء الطريق، ومشقته، وهو رجل دائم الصلة بربه يذكره ويتضرع إليه، فلا ينساه أبدا، وبخاصة في هذا الوقت الشديد، فقال: يا رب أعطنى من فضلك، وأسبغ على من نعمك، فإنى لما أنزلته إلى من خير فقير- والخير هو المال هنا- وهل ينساه ربه؟ كلا! فمن يتوكل على الله فهو حسبه، ونعم الوكيل. عادت المرأتان إلى أبيهما الشيخ فسألهما عن السر في حضورهما بسرعة على خلاف شأنهما كل يوم، فأخبرتاه بما كان من الرجل الذي سقى لهما، وسهل لهما العودة مبكرتين، فأرسل إحداهما إليه فوافته بمكان قريب من الماء يستظل تحت شجرة، وقالت له في حياء وخفر إن أبى يدعوك ليعطيك أجر ما سقيت لنا. رأى موسى الفرج في ذلك، وأن الله قد استجاب دعاءه بسرعة، وهل ينساه ربه! كلا! فإن ذلك لا يكون. تبع موسى المرأة إلى منزل أبيها، وطلب منها أن تكون خلفه حتى لا يراها، وأن توجهه إلى الطريق وهي خلفه، لا غرابة في هذا، فهذا أدب النبوة العالي. جاء موسى إلى ذلك الشيخ- وهو شعيب على القول الصحيح- فرحب به وأكرم وفادته، وأحله أهلا بمكان سهل، وقص موسى على شعيب قصته كلها من ولادته إلى ذلك الوقت. وأخبره بأخبار بنى إسرائيل في مصر فطمأنه شعيب، وقال له: لا تخف ولا تحزن لقد نجاك الله من القوم الظالمين الطغاة المتجبرين. مصاهرة موسى لشعيب: لما جاء موسى إليه وكلمه، وطمأنه، وأزال عنه الخوف، قالت إحدى بناته: يا أبت استأجره يرعى غنمنا فهو الرجل القوى الأمين، وهما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 825 الصفتان الممدوحتان في العامل، ولقد رأت قوته في سقيه لهما، وأمانته في طلبه لها أن تسير خلفه، وتنعت له الطريق، قبل شعيب رأى ابنته، واقتنع بأن موسى نعم الرجل القوى الأمين، وطلب إلى موسى أن يخدمه برعي غنمه ثماني سنين فإن أتمها عشرا فمن عنده ولا حرج عليه، وهذا في نظير أن يزوجه إحدى بناته وأشار شعيب لها. قبل موسى ذلك على أنه بالخيار في أى الأجلين، وتمت الصفقة بينهما على ذلك. قضى موسى الأجل، وسار بالوادي المقدس [سورة القصص (28) : الآيات 29 الى 35] فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 826 المفردات: الْأَجَلَ الميعاد المحدد آنَسْتُ أبصرت الطُّورِ اسم للجبل الذي في سيناء جَذْوَةٍ الجذوة الجمرة الملتهبة، وقيل هي القطعة الغليظة من الخشب سواء كان في طرفها نار أو لم يكن تَصْطَلُونَ تستدفئون شاطِئِ الْوادِ جانبه جَانٌّ أى حية صغيرة سريعة الحركة مُدْبِراً هاربا يُعَقِّبْ يرجع من عقب الفارس أى كر اسْلُكْ أدخل جَيْبِكَ جيب القميص طوقه جَناحَكَ قيل المراد بالجناح اليد لأنها تشبهه الرَّهْبِ الخوف رِدْءاً معينا سَنَشُدُّ عَضُدَكَ نقويك سُلْطاناً حجة قوية متسلّطة. المعنى: وأخيرا كان ما كان، وقضى موسى أتم الأجلين وأوفاهما وأكملهما، وسار إلى ما يريد مع أهله أى: زوجته ومن معهما، فلما قضى موسى الأجل وسار بأهله، آنس من جانب الطور نارا موقدة، فلما أبصرها، وكان في ليلة شاتية باردة، قد حاول أن يوقد نارا بزنده فلم يفلح، فلما أبصر تلك النار قال لأهله امكثوا هنا ولا تبرحوا ذلك المكان، فإنى سآتيكم من عندها بخبر يهدينا إلى الطريق، أو جذوة من النار لعلكم تستدفئون. فلما أتاها نودي من الشاطئ الأيمن للوادي من الشجرة، نودي: يا موسى: إنى أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى، يا موسى إنى أنا الله رب العالمين، وأن ألق عصاك، فألقاها فصارت ثعبانا فاهتزت فلما رآها كأنها جان في سرعة حركتها، وكثرة تقلبها ولى مدبرا وصار خائفا مضطربا، ولم يعقب، قيل له إزاء هذا: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 827 يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إنه لا يخاف لدى المرسلون إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ يا موسى اسلك يدك في جيب قميصك، أى أدخلها فيه تخرج منه بيضاء ناصعة من غير سوء ولا برص، وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ أى يدك المبسوطة كالجناح لتتقى بها الحية، كأنك خائف فزع منها، أى اضمم إليك يدك وأدخلها تحت عضدك بدل أن تتقى بها الحية، ثم أخرجها بيضاء لئلا يرى أحد أنك خائف، ولتظهر معجزة أخرى هي إخراج اليد بيضاء، وقد كان موسى رجلا طوالا آدم- أسم- وعلى هذا فيكون المعنى قد عبر عنه بعبارات اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ: وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ. وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ. وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ [سورة القصص آية 32، النمل 12، طه 22] . ويجوز أن يراد بقوله تعالى «واضمم إليك جناحك» . التجلد وضبط النفس والثبات عند انقلاب العصاحية، مستعار من فعل الطائر لأنه إن خاف نشر جناحيه وأرخاهما، وعند الأمان يضم جناحيه. فذانك أى العصا التي قلبت حية، واليد التي خرجت بيضاء من غير سوء، برهانان من ربك، وحجتان قويتان إليك وإلى فرعون وملئه. إنهم كانوا قوما فاسقين وخارجين عن حدود الشرع والعقل. فهم موسى أنه مكلف بالرسالة إلى فرعون وملئه ليخرج بنى إسرائيل من عذابهم وأحس بثقل التبعة الملقاة على عاتقه فقال. رب إنى قتلت منهم نفسا، فأخاف أن يقتلون، وأخى هارون هو أفصح منى لسانا وأقوى بيانا، وأدرى منى بلهجة المصريين لأنه لم يترك بلادهم، فأرسله معى معينا، واجعله وزيرا ألتجئ إليه، ويحمل معى عبء هذه الرسالة إنى أخاف أن يكذبوني. قال الله له: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ، ونقويك به، ونجعل لكما سلطانا وحجة قوية تدل على صدقكما، وأنكما رسولا رب العالمين اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآياتِي وَلا تَنِيا فِي ذِكْرِي والله معكما ناصركما، وعاصمكما من الناس فلا يصلون إليكما بسوء أبدا، بل أنتما ومن اتبعكما الغالبون، لأنكم حزب الله، ألا إن حزب الله هم المفلحون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 828 هذا الموضوع كرر في سورة طه. والنمل. والقصص كما ذكرنا في الجزء (التاسع عشر) ويلاحظ أن موسى نودي، وهو في الشاطئ الأيمن من الشجرة: أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ كما نودي أن بورك من في النار ومن حولها وسبحان الله رب العالمين. فترى أن العبارة مختلفة، والمعنى يكاد يكون واحدا فهو بدء الإيحاء والرسالة بعبارة تدل عليه، والله- سبحانه- ذكر الكل، وقد حكى في كل سورة بعض ما اشتمل عليه ذلك النداء. وشبيه بهذا ما مضى في قوله. اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ، وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ. وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ في أنه معنى واحد صيغ في عبارات متعددة، ثم هنا سؤال قد جعل الجناح وهو اليد تارة مضموما، وتارة مضموما إليه اليد، والجواب أن المراد بالجناح المضموم هو اليد اليمنى وبالمضموم إليه هو اليد اليسرى، وكل واحد من اليدين جناح. وسؤال آخر ما الفائدة في قلب العصا حية وإدخال اليد وإخراجها بيضاء عند نداء الله لموسى؟ والجواب أن ذلك لتمرين موسى على إبراز المعجزات، وليقوى على ملاقاتها حتى لا يخاف عند مشاهدتها كما حصل في أول مرة. محاجته لهم. وعناد فرعون وآله وعاقبتهم [سورة القصص (28) : الآيات 36 الى 43] فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 829 المفردات: مُفْتَرىً مختلق هامانُ وزيره فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فاصنع لي آجرا أى: طوبا صَرْحاً قصرا أَطَّلِعُ أصعد فَنَبَذْناهُمْ طرحناهم الْمَقْبُوحِينَ المطرودين المبعدين. المعنى: أمر موسى بأن يذهب هو أخوه إلى فرعون وملئه، وبأن يقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى، وأخذا يجادلانه في الله الذي يجب أن يعبد، وهو رب السموات والأرض وما بينهما، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى، والذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء، وأنزل منها ماء فأخرج به أزواجا من نبات شتى، كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولى النهى. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 830 ولقد جاءهم موسى بالآيات الشاهدة على صدقه، الدالة على أنه رسول رب العالمين ولكنهم قالوا له: ما هذا الذي جئتنا به إلا سحر قد افتريته من عندك ونسبته لربك وما سمعنا بهذا الذي تدعونا إليه، في آبائنا الأولين، حاجهم موسى بالعقل والمنطق، وساق لهم الآيات الشاهدة مصدقة، فكان الجواب والرد الذي يدل على الحماقة ما هذا إلا سحر، وما سمعنا به قديما، وما سمعنا عن دعوتك في آبائنا الأولين. وقال موسى ردا عليهم: ربي الذي خلق كل شيء، ويعلم الغيب في السموات والأرض أعلم منكم بمن جاء بالهدى والنور من عنده، وهو أعلم بمن تكون له العاقبة الحسنى، والجزاء الأوفى يوم القيامة، ولا يفلح عنده الظالمون أبدا في الدنيا والآخرة. ولو كنت كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا على الله لما أعطانى الآيات، ولما هداني إلى الحق والخير الذي أدعو إليه لأنه غنى حكيم، لا يرسل الكاذبين، ولا الساحرين ولا يفلح عنده الظالمون، وهو القاهر فوق عباده، الخبير بخلقه، لا تخفى عليه خافية وهذا تهديد لهم، وتثبيت لغيرهم. ولما ألح موسى على فرعون بالدعوة إلى الإيمان بالله، وهو في ملأ من قومه، وهذا يحط من شأنه، ويضيع من هيبته، وهو حريص على ذلك جدا، أخذ يقول تارة: إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ «1» ، ويقول مرة أخرى: إنه سيتخذ الوسيلة للصعود إلى إله موسى ليصفى الحساب معه، ولعله فهم من قول موسى. رب السماء والأرض أنه يجلس في السماء لا في الأرض. انظر إليه يخاطب القوم، ويقول: يا أيها الملأ- الأشراف ووجوه القوم ما علمت لكم من إله غيرى، يقصد بذلك نفى وجود إليه غيره. وإذا كان يعتقد أنه هو الإله، ولا إله غيره أبدا فكيف يقول: يا هامان ابن لي صرحا لعلى أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى، وإنى لأظنه من الكاذبين؟! ولعله يقول ذلك من باب التسليم للخصم. ومن الناس من يدعى رأيا ويقول به، وهو عالم أنه مخطئ فيه، ولكن لأن رأيه على غير أساس، لا يلبث أن يشك فيه ويرجع عنه طمعا، في أنه ربما يصادف شيئا.   (1) سورة الشعراء الآية 27. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 831 هذا فرعون يدعى أنه إله، وأن موسى كاذب في أن للكون إلها، ثم بعد لحظة يأمر وزيره أن يوقد النار، ويخرج الآجر ليبنى له صرحا، وبناء فخما يصعد به إلى السماء لعله يصعد إلى إله موسى ليصفى حسابه معه، ثم يختم آثامه وأقواله التي تدل على الارتباك والتخبط بأنه يشك في صدق موسى، ولكن احتياطا فعل هذا وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ. [غافر 37] كل هذا يحصل، ولم يجد فرعون من قومه وملئه من يقول الحق، أو يهدى إلى الخير أو يمنع الظلم بل كانوا يؤمنون على قوله، وينفذون رغبته، وكان عاقبة أمره وأمرهم خسرا. استكبر فرعون في الأرض، وطغى وتجبر، وعلا علوّا كبيرا هو وجنوده، كان من أثره ركوب ذلك الشطط، وفعل تلك الخبائث، وكان مبعث ذلك كله أنهم ظنوا بل تيقنوا أنهم إلى الله لا يرجعون. وانظر إلى الحق- جل جلاله-، وهو يسجل عليهم نهايتهم بعبارة فخمة ضخمة فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ «1» نعم كانوا في قبضة الله الذي يقول للشيء كن فيكون كحصيات يجمعها الشخص في الطريق ثم يلقيها في البحر، فانظر أيها الناظر إلى الدنيا بعقلك، المتفكر فيها بقلبك كيف كان عاقبة الظالمين؟!! وصيرناهم أئمة ورؤساء يدعون إلى النار، فيطاعون، وكأنهم بإصرارهم على الكفر وتماديهم في الباطل يدعون أتباعهم إلى النار لأنهم يأتمرون بهم ويقتدون، ويوم القيامة لا ينصرون أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ «2» وأتبعناهم في هذه الدنيا لعنة وطردا، وبعدا عن رحمة الله، ويوم القيامة هم من المقبوحين المطرودين الممقوتين وَأُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ [سورة هود آية 99] . ولقد آتينا موسى التوراة التي هي نور البصائر، وهدى ورحمة لعلهم يتذكرون، روى أبو سعيد الخدري قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلم «ما أهلك الله قوما ولا قرنا ولا أمّة ولا أهل قرية بعذاب من السّماء ولا من الأرض منذ أنزل الله التّوراة على موسى غير القرية الّتى مسخت قردة» ألم تر إلى قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى «3» ولعل إيتاء التوراة بعد إهلاك الأمم الماضية للإشعار بمسيس الحاجة الداعية إليها، فإن إهلاك القرون الأولى دليل على اندراس معالم شرائعها،   (1) سورة القصص الآية 40. (2) سورة محمد الآية 13. (3) سورة القصص الآية 43. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 832 وحاجة الناس إلى ما ينقذهم من تشريع جديد، ورسالة سماوية تلتقي مع حاجتهم وأحوالهم. الحاجة إلى إرسال الرسل مع سوق بعض الأدلة على صدقهم [سورة القصص (28) : الآيات 44 الى 51] وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 833 المفردات: الشَّاهِدِينَ الحاضرين قُرُوناً أمما فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أى طال عمرهم ثاوِياً مقيما يقال ثوى بالمكان يثوى به أقام فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ المراد فإن لم يفعلوا تَظاهَرا تعاونا وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ أتبعنا بعضه بعضا في الإنزال ليتصل التذكير. وهذا لون من العبرة بقصة موسى، ونتيجة عامة لسوقها، إذ هي من الأدلة على صدق الرسول حيث قص أخبارا صادقة عن قوم لم يشهدهم ولم يكن معهم، ولم ترو له أخبارهم، فلم يبق إلا الوحى مصدرا لهذا كله، وفي ذلك عبرة وعظة، ودليل على صدق النبي صلّى الله عليه وسلم. وهذا أيضا شروع في بيان أن إنزال القرآن الكريم جاء في زمن، الحاجة فيه ماسة وداعية إليه. المعنى: وما كنت يا محمد بجانب المكان أو الجبل الغربي وقت أن قضينا إلى موسى الأمر، وألزمناه العهد، وأنزلنا عليه الحكم، وما كنت من الحاضرين لذلك فتعلمه وتخبر به، ولكنا أوحيناه إليك وأعلمناك بخبره ليكون معجزة لك، وشاهد صدق على نبوتك، وكانت الحاجة القصوى داعية إلى ذلك حيث طال العهد فقست قلوب الناس، وانتشر الفساد والظلم حتى عم العالم أجمع، وأصبح في ضلالة وجاهلية يتردى فيها، نعم تطاول على الناس العمر حتى نسوا ذكر الله، وقست قلوبهم فأرسل محمد صلّى الله عليه وسلّم مجددا العهد الإلهى، وداعيا إلى الله بإذنه، وسراجا منيرا قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 834 فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [سورة المائدة آية 22] . وما كنت مقيما في أهل مدين مع شعيب تتلو عليهم آياتنا حتى تقص خبرهم أحسن القصص على أهل مكة، ولكنا (أى: الله جل جلاله) كنا مرسلين لك، وموحين إليك بأخبارهم حجة قوية على صدقك. وما كنت بجانب الطور إذ نادينا موسى وقلنا له: خذ الكتاب أى: التوراة بقوة وما كنت معه حتى تشاهد ما حصل له ثم تخبر الناس به، ولكن أرسلناك رحمة من ربك للعالمين، ولتنذر قوما هم العرب، ما أتاهم من نذير قبلك، رجاء أن يتذكروا ويؤمنوا بالله العزيز الحميد، والعرب على الصحيح لم يأت لهم نذير بعد إسماعيل- عليه السلام- بناء على أن موسى وعيسى كانت رسالتهما لبنى إسرائيل فقط، ومن هنا ندرك الحاجة القصوى لإرساله صلّى الله عليه وسلّم للعرب ولولا أن الناس وبخاصة العرب يقولون: هلا أرسلت إلينا يا رب رسولا من عندك يبشرنا وينذرنا، ويهدينا بالكتاب الذي معه إلى الصراط المستقيم، فنتبع آياتك ونؤمن برسلك، ونكون من عبادك المؤمنين الصادقين غير المغضوب عليهم ولا الضالين.. لولا قولهم هذا عند إصابة العقوبة لهم بسبب ما جنته أيديهم ما أرسلناك للناس رسولا، ولكن لما كان قولهم هذا محققا لا محيد عنه أرسلناك قطعا لأعذارهم بالكلية رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [سورة النساء آية 165] . أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ.. [سورة الأنعام الآيتان 156، 157] . وهذا من أسباب إرسال الرسل، وبيان للحاجة الداعية إليهم. فلما جاء أهل مكة الحق من عندنا، والنور الذي أنزل على رسولنا، قالوا: لولا أوتى مثل ما أوتى موسى من قبل كالعصا واليد وغير ذلك من الآيات التي أنزلت معجزة لموسى ... عجبا لهؤلاء المشركين! أو لم يكفروا بما أوتى موسى من قبل ولم يؤمنوا به، وقيل المعنى: فلما جاء أهل الكتاب الحق والقول الصدق على يد محمد، وكانوا يستفتحون به على الذين كفروا، فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، وقالوا لولا أوتى الجزء: 2 ¦ الصفحة: 835 مثل ما أوتى موسى، عجبا لهم! أو لم يكفروا بموسى ومن معه، ويقولون ساحران أى: موسى وهارون تظاهرا وتعاونا، وإنا بكل كافرون. وإن أرجعنا القول إلى الكفار من العرب والآية تحتمل هذا وذاك- كان المراد بقوله: ساحران أى: موسى ومحمد ونحن بكل منهما كافرون. قل لهم يا محمد: إذا كان الأمر كذلك فأتوا بكتاب من عند الله هو أكثر هداية، وأقوى تأثيرا، وأحكم آيات إن كنتم صادقين، وهذا الأمر أى «فأتوا» يشبه قولك «اصعد إلى السماء» حيث يكون الصعود محالا فهو من باب التعجيز والسخرية فإن لم يفعلوا ذلك، ولن يفعلوه أبدا، فاعلم أنهم يتبعون في عقائدهم الباطلة أهواءهم، وليس هناك أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله إن الله لا يهدى القوم الظالمين. ولقد وصلنا لهم القول وفصلناه وبيناه، وأتبعنا بعضه بعضا، وبعثنا رسولا بعد رسول كل يلائم وقته وعصره، وكان هذا القول هو مسك الختام لأن صاحبه خير الرسل وخاتمهم وإمامهم، وشرعه صالح لكل زمان ومكان، وها هي الآيات تترا مؤيدة ذلك، لعل الناس يتذكرون ويتعظون. المؤمنون من أهل الكتاب [سورة القصص (28) : الآيات 52 الى 55] الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 836 المفردات: وَيَدْرَؤُنَ يدفعون، يقال درأ عنه كذا أى: دفع اللَّغْوَ هو ما لا يعتد به من القول أو ما كان فيه أذى من شتم أو سب لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نطلب صحبتهم. المعنى: وهذا هو الصنف الذي في قلبه ميل إلى الخير، وفي نفسه استعداد لقبول الطيب من الدعوات، وهم جماعة من أهل الكتاب الذين آمنوا بنبيهم، ولم يحرفوا الكلم وبشارة كتبهم بالنبي العربي فهم قد آمنوا به أولا بظهر الغيب ثم آمنوا به ثانيا إيمان مشاهدة وإقرار بما سبق، وإذا يتلى على هؤلاء القرآن قالوا: آمنا به وصدقناه وصدقنا من جاء على لسانه، وكأن سائلا سأل وقال لهم هذا؟ فأجابوا إنه الحق من ربنا، نعم إنه كلامه الحق الذي لا شك فيه، ونحن أدرى به من غيرنا، إنا كنا من قبل نزوله مسلمين ومنقادين. أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا مرة لإيمانهم بكتابهم ونبيهم، ومرة لإيمانهم بالقرآن والنبي، وصبرهم على ذلك كله، وهم يدرءون بالحسنة السيئة، ويدفعون الشر بالخير، وينفقون مما رزقناهم في سبيل الله. وإذا سمعوا لغوا من قول المشركين أو أصابهم أذى منهم، أعرضوا عنهم، وقالوا لنا أعمالنا، ولكم أعمالكم، سلام عليكم، سلام ترك موادعة، ونحن لا نبتغى الجاهلين، ولا نطلب مصاحبتهم. رد على بعض مزاعم المشركين [سورة القصص (28) : الآيات 56 الى 61] إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (59) وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 837 المفردات: نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا ننتزع منها بسرعة أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً نجعل مكانهم حرما ذا أمن بَطِرَتْ مَعِيشَتَها البطر الأشر وقلة احتمال النعمة والطغيان بها، وكراهة الشيء من غير أن يستحق الكراهة والمراد طغت وتمردت في زمن معيشتها أُمِّها عاصمتها. المعنى: ما مضى كان في بيان فريقين من الناس، فريق طغى وبغى وكفر بالله ورسله، وفريق آمن واهتدى واستجاب لداعي الحق، واتبع رسول الله، ومن هؤلاء وأولئك خلق كثير فقيل للنبي صلّى الله عليه وسلم: الجزء: 2 ¦ الصفحة: 838 إنك لا تهدى من أحببت من الناس، ولا تدخلهم في حظيرة الإيمان، إنما عليك فقط البلاغ والدعوة إلى الله وبيان الشريعة الغراء، ولكن الله- سبحانه- يهدى من يشاء ويوفقه ويشرح صدره للإسلام أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ. لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ نعم الله يهدى من يشاء، وله الحكمة البالغة، والعلم الكامل بخفيات القلوب وبذات الصدور، وهو أعلم بمن عنده الاستعداد للهداية والخير، فيهديه ويوفقه، وقد ثبت في الصحيحين أنها نزلت في أبى طالب عم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والكل يعلم أنه كان يحوط النبي ويرعاه، ويحبه حبا شديدا ويتولاه، فلما حضرته الوفاة وحان أجله دعاه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى الإيمان والدخول في الإسلام فسبق القدر فيه، ولم يرد الله به خيرا، فاستمر على ما كان عليه من الكفر، ولله الحكمة البالغة. وقال بعض المشركين معتذرا بأعذار واهية: إننا إن اتبعنا الهدى الذي جئتنا به، والنور الذي أنزل معك نخشى إن فعلنا ذلك أن يقصدنا المشركون وأحياء العرب من كل جانب بالأذى والحرب ويأخذونا بسرعة وشدة لا قبل لنا بها، ألم تر إليهم وقد خافوا المخلوق الضعيف وأمنوا مكر الخالق الكبير ذي البطش الشديد الفعال لما يريد؟! عجبا لهؤلاء أنسوا ولم يعلموا أن الله مكن لهم في الأرض، وأنزلهم بلادا جعلها حرما آمنا، يقدسه العرب جميعا، وتحج إليه، وتحترم سكانه وأهله وتدين لهم بالإمارة والسيادة عليهم، فيه أسواقهم واجتماعاتهم، وفي بلادهم يأمن الخائف، ويطمئن القاتل وتسكن نفس المعتدى، فالعرب كانت تحرم الاعتداء في الحرم، وفي الأشهر الحرم، وكل هذا بتوفيق الله، وهو الذي جعل في قلوب الناس شوقا إليه وحنينا لزيارته وحجه فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ فكانت فيه الثمرات من كل جهة رخيصة كثيرة، جعلها الله من لدنه رزقا لأهله، أظن هذا العذر الواهي لا يكون مقبولا بعد هذا كله، ولكن أكثر الناس لا يعلمون وهذا رد آخر لقولهم: إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا إذ هم قد اعتقدوا خطأ أنهم ماداموا على شركهم فإنهم في أمن ودعة، وإن اتبعوا الرسول نزل بهم البلاء، فبين الله لهم أن الأمر بالعكس، وأنهم إن تركوا الشرك وأسلموا لله رب العالمين أمنوا من عذاب الدنيا والآخرة، وكانوا عند الله من المقربين، وإن ظلوا على دينهم وتمسكوا بباطلهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 839 حق بهم العذاب من كل جانب، واستحقوا عذاب الدراين بدليل أن الله- سبحانه- أهلك كثيرا من أهل القرى بأنواع العذاب الشديد المبيد المهلك لكفرهم، وقد كانوا يمرحون في النعيم، ويعيشون في بلهنية من رغد العيش فمن الخير لكم يا كفار مكة أن تخشوا بأس الله، ولا تغتروا بالأمن الذي أنتم فيه، فكثير من أهل القرى كانت مثلكم فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف جزاء لما كانوا يعملون، وها هي ذي مساكنهم لم تسكن من بعدهم إلا قليلا، وكان ربك خير الوارثين، تلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، وليعلم الكل أنه هو الحكم العدل، صاحب الموازين القسط، فلا تظلم نفس شيئا، وما كان ربك مهلك القرى والجماعات حتى يبعث رسولا يدعوهم إلى الهدى، ويرشدهم إلى الصراط المستقيم، فإن اتبعوه وآمنوا به نجوا جميعا، وإن خالفوه وكفروا به ضلوا وحاق بهم سوء العذاب فما ثبت في حكمه الماضي وقضائه السابق أن يهلك القرى حتى يبعث في عاصمتها رسولا يتلو عليهم الآيات لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وكان هلاكه للظالمين فقط، الكافرين بالله ورسوله، وها أنتم أولاء جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص على إيمانكم، بالمؤمنين رءوف رحيم، فاحذروا العذاب إن بطش ربك لشديد ... وهذا رد آخر على من يشترى الضلالة بالهدى. ويبيع الباقية بالفانية والآخرة بالدنيا، وما أوتيتم من شيء من الدنيا ونعيمها فهو متاع الحياة فقط وزينتها، والآخرة خير وأبقى، وما عند الله من ثواب وجزاء خير من الدنيا وما فيها، إذ متاع الحياة الدنيا متاع زائل ينقصه ذكر الموت، وفناء الخلق، أفلا تعقلون؟ وتتعظون وتؤثرون الدين على الهوى والغرض!!. أفمن وعدناه وعدا حسنا على العمل الصالح فهو لاقيه حتما ومصيبه في الجنة بلا شك، أفمن وعدناه هذا كمن متعناه المتاع الفاني، والغرض الزائل، ثم هو يوم القيامة من المحضرين؟!! الأول هو المؤمن والثاني هو الكافر، ولا يعقل التساوي بينهما! فمن العقل والحكمة أن نكون من الصنف الأول الذي يجمع بين الوعد الحسن في الآخرة، والعمل الصالح في الدنيا، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.. وفي هذه الآيات رد على مزاعم المشركين، وشحذ لعزائم المسلمين في وقت هم في أشد الحاجة إلى ذلك، ثم بعد ذلك تعرض القرآن لحال الكفار يوم القيامة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 840 بعض مواقف المشركين يوم القيامة [سورة القصص (28) : الآيات 62 الى 67] وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ماذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67) المفردات: حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ ثبت ووجب يقال: حق يحق ويحق ثبت أَغْوَيْنا أى أضللنا يقال. غوى يغوى ضل فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ أى: صارت كالعمى لا تهتدى إليهم وأصل التركيب فعموا عن الأنباء ثم حصل قلب، وهذا مألوف في اللغة العربية. المعنى: واذكر لهؤلاء الذين اتبعوا أهواءهم، وضلوا سبيلهم، وأضلوا غيرهم، اذكر لهم يوم يناديهم الحق- تبارك وتعالى- فيقول لهم سائلا سؤال تبكيت وتأنيب وتوبيخ حيث لم تنفعهم معبوداتهم في هذا الوقت العصيب، يقول لهم أين شركائى الذين كنتم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 841 تزعمون؟ أين الذين عبدتموهم من دوني، وأثبتم لهم شركة في استحقاق العبادة؟! ولن يجيبوا عن هذا السؤال لأنه سؤال تقريع فلا جواب له. وكأن سائلا سأل وقال: ماذا حصل منهم عند هذا السؤال؟ والجواب أنه حصل منهم التنازع والتخاصم بين الرؤساء والمتبوعين، وبين العوام والتابعين، وقد حصل منهم كلما اشتد بهم الأمر مثل هذا الخصام ألا ترى إلى قوله- تعالى- في سورة إبراهيم وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ.. الآية 21. وهنا قال الذين حق عليهم القول، والمراد قال الذين ثبت عليهم مقتضاه، وتحقق فيهم مؤداه، وهذا القول قاله تعالى لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [سورة السجدة آية 13، ص 85] . هؤلاء الذين حق عليهم القول وثبت هم رؤساء الضلالة، وقادة الشرك الذين اتبعهم وقلدهم الناس، قالوا اعتذارا أو ردا لقول العوام إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قالوا: هؤلاء- الإشارة إلى الأتباع والعوام- أتباعنا آثروا الكفر على الإيمان كما اثرنا نحن فلا فرق بيننا وبينهم، ونحن وإن كنا دعوناهم إلى الكفر فقد كان ذلك في مقابلة دعاء الله- تعالى- لهم إلى الإيمان. بما غرس فيهم من تفكير وأوجد فيهم من قوى عاقلة، وبما أرسل إليهم من رسل، وأنزل عليهم من كتب مشحونة بالوعد والوعيد والوعظ والزجر، وناهيك بذلك صارفا عن دعائنا لو كانوا ممن شرح الله صدرهم للإسلام. فهؤلاء الذين أغوينا أغويناهم فغووا كما غوينا. فالخلاصة: أننا جميعا سواء في استحقاق ما نحن فيه من عذاب، ونحن نتبرأ إليك منهم، ما كانوا إيانا يعبدون إنما كانوا يعبدون أهواءهم، ويطيعون شياطينهم. وقيل لهم أيضا: ادعوا شركاءكم ينصرونكم من دون الله، ويمنعون عنكم من عذابه شيئا فدعوهم وألحوا في دعائهم فلم يستجيبوا لهم، وكيف يستجيبون يوم القيامة؟ وقد كانوا في الدنيا صمّا بكما وعميا، بل هم جماد وأحجار: ورأى المشركون النار، وذاقوا العذاب وأبصروه، فيا ليتهم كانوا مهتدين في الدنيا. واذكر يوم يناديهم تقريعا وتوبيخا لهم فيقول: ماذا أجبتم المرسلين؟ الجزء: 2 ¦ الصفحة: 842 روى أنه إذا مات الميت سئل عن ربه، وعن نبيه وعن دينه، أما المسلم فيقول: ربي الله، ونبيي محمد صلّى الله عليه وسلم، وديني الإسلام دين الفطرة، والتوحيد الخالص البريء، وأما الكافر والمشرك فلا يجيب بشيء، بل يسكت، إذ من كان في هذا أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيل، ولهذا قال الله: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ بل يسكتون. وانظر إلى قوله: فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ وما فيها من بلاغة!!. فأما من تاب إلى الله وآمن بالله، وصدق رسول الله، وعمل عملا صالحا لوجه الله فعسى أن يكون من المفلحين الفائزين، وعسى في كلام صاحب الملك والملكوت للتحقيق.. وهكذا يضرب الله الأمثال، ويبين للمؤمنين والكافرين الأحوال، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. فاعتبروا بذلك يا أولى الأبصار. الله سبحانه وتعالى متصف بصفات الجلال والكمال [سورة القصص (28) : الآيات 68 الى 75] وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 843 المفردات: الْخِيَرَةُ أى الاختيار تُكِنُّ تخفى سَرْمَداً دائما مأخوذ من السرد وهو المتابعة تَسْكُنُونَ فِيهِ تهدءون فيه وتستريحون وَنَزَعْنا أخرجنا وَضَلَّ عَنْهُمْ تاه. المعنى: وربك يا محمد صاحب الجلالة، إليه الأمر كله، وهو المنزه عن كل نقص، الموصوف بكل حمد، الرحمن الرحيم، صاحب الفضل العميم، يخلق ما يشاء لا معقب عليه، ولا راد له، ويختار ما يشاء من الأفعال والأحكام، ومن يشاء من الخلق لما يشاء من الأمر، وهذا متصل بذكر الشركاء لله والشفعاء له، وقيل هو رد لكلام الوليد بن المغيرة حين قال: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ يعنى بذلك نفسه وعروة بن مسعود الثقفي شيخ الطائف. وهذا عجب وأى عجب؟! أهم يقسمون رحمة ربك؟ أهم أوصياء على فاطر السموات والأرض، أليس الله أعلم حيث يجعل رسالته، وهو أعلم بخلقه وأحوالهم واستعدادهم أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ سبحان الله وتعالى عما يشركون، وربك يعلم ما تكن صدورهم وتخفيها، وما تبديها وتعلنها إذ هو العليم بذات الجزء: 2 ¦ الصفحة: 844 الصدور، وهو الله جل جلاله؟ لا إله إلا هو، ولا معبود في الوجود بحق إلا هو، له الحمد في الدنيا والآخرة، وفي الأولى والثانية، وله الحكم، وإليه يرجع الأمر كله، وإليه وحده ترجع الخلائق يوم القيامة. هذه حقائق تشهد بها آيات الله الكونية، وآياته القرآنية. قل لهم يا محمد أخبرونى: إن جعل الله عليكم الليل دائما بلا نهار إلى يوم القيامة! هل هناك إله غير الله يأتيكم بضياء تتمتعون به؟ أفلا تسمعون ذلك سماع تفهم وتدبر؟!! قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار دائما إلى يوم القيامة، هل هناك إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه وتهدءون؟ أفلا تبصرون هذه الحقائق فتعرفون لصاحبها- جل جلاله- حقه الكامل، وتصفونه بصفات الجلال والكمال، وتنزهونه عن صفات الحوادث والمخلوقات. ومن رحمته بخلقه جعل لكم الليل لتسكنوا فيه، والنهار لتبصروا فيه منافعكم وتحصلوا أمور معاشكم، ولتشكروا فيه ربكم على ما أسدى لكم من نعمة. وما حباكم به من فضل. وإن من يذهب إلى البلاد الشمالية الواقعة جهة القطب الشمالي مثلا ويرى انعدام الحياة فيها لأن النهار قد يمكث ستة أشهر، والليل كذلك أو قريبا منه يدرك السر في اختلاف الليل والنهار، وتعاقبهما، وما في ذلك من النعم التي لا تحصى وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً [سورة الفرقان آية 62] . يا عجبا! هذه آيات ناطقة بأنه القادر وحده على كل شيء، الواحد ذاتا وصفة وفعلا وله الأمر، ومع هذا فبعض الخلائق تدعى له شركاء لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب!!. واذكر يوم يناديهم فيقول لهم: أين شركائى الذين كنتم تزعمون؟! ولعل النداء كرر لاختلاف الحالتين ينادون مرة- كما سبق- فيدعون الأصنام فلا يستجيبون فتظهر حيرتهم، ثم ينادون مرة أخرى- كما هنا- فيسكتون ولا يجدون جوابا، وهذا توبيخ لهم وتأنيب، ويقول القرطبي رحمه الله. والمناداة هنا ليست من الله لأنه تعالى لا يكلم الكفار لقوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ لكنه تعالى يأمر من يوبخهم ويبكتهم، الجزء: 2 ¦ الصفحة: 845 ويقيم الحجة عليهم في مقام الحساب، وقيل: يحتمل أن يكون من الله ويكون قوله: وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ محمولا على بعض الأحوال حين يقال لهم: اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ [سورة المؤمنون آية 108] . ونزعنا من كل أمة شهيدا يشهد عليهم بأعمالهم في الدنيا، وهو رسولهم الذي أرسل لهم، ثم يأتى محمد صلّى الله عليه وسلّم ويشهد على الأنبياء جميعا فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً [سورة النساء آية 41] فقلنا: هاتوا برهانكم وحجتكم، فعلموا حينئذ أن الحق لله، وأن ما جاءت به الأنبياء حق وصدق، وضل عنهم ما كانوا يفترون. وفي كتب التفسير عند تفسير قوله تعالى: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ يحسن بمن يريد أن يقدم على أمر من أمور الدنيا أن يستخير الله بأن يصلى ركعتين بنبيه صلاة الاستخارة، يقرأ في الركعة الأولى بعد الفاتحة وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ الآية، وفي الركعة الثانية وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ ثم يدعو بعد السلام بهذا الدعاء، وهو ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله، قال: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يعلمنا الاستخارة في الأمور كلها كما يعلمنا السورة من القرآن يقول: «إذا هم أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ثم ليقل. اللهم إنى أستخيرك بعلمك وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم فإنك تقدر ولا أقدر وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب. اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر خير لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمرى أو قال في عاجل أمرى وآجله. فاقدره لي ويسره لي ثم بارك لي فيه، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ودنياى ومعاشي وعاقبة أمرى، أو قال في عاجل أمرى وآجله، فاصرفه عنى واصرفني عنه واقدر لي الخير حيث كان ثم رضني به» . قال: ويسمى حاجته. قصة المال والعلم وتأثيرهما في النفس الإنسانية [سورة القصص (28) : الآيات 76 الى 84] إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78) فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 846 المفردات: فَبَغى عَلَيْهِمْ تكبر عليهم أو ظلمهم الْكُنُوزِ كنز المال: جمعه وادخره، والكنز: المال المدفون وجمعه كنوز لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ لتثقل يقال ناء به الحمل ثقل عليه، والعصبة الجماعة من الناس وَابْتَغِ اطلب عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أوتيته على معرفة عندي وَيْلَكُمْ الويل: الهلاك أو العذاب، فخسفنا المراد جعلنا عاليها سافلها وَيْكَأَنَّهُ كلمة وى بمعنى أتعجب، وكأن للتشبيه وَيَقْدِرُ أى: يضيق ويقتر عُلُوًّا تكبرا وغلبة. وهذه هي قصة المال والغرور بالعلم وكيف كان مآلهما بعد قصة الملك والسلطان وكيف كانت نهايتهما. المعنى: - إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم مع أنه منهم، وعاش معهم ولكنه لم يرع لذلك كله حرمة أو جوارا، وبغى عليهم حتى جمع ذلك المال الوفير، وبغى عليهم بتكبره وطغيانه وظلمه لهم. وآتاه الله من الأموال المنقولة والثابتة ما إن علمه والإحاطة به والمحافظة عليه لتنوء به العصبة من أولى العلم والقوة وبعضهم يرى أن المعنى. وآتيناه من الكنوز والأموال ما إن مفاتيح خزائنه لتنوء بحملها العصبة من الرجال أولى القوة، ومنشأ هذا الخلاف في الرأى أن المفاتيح قد يراد بها العلوم والمعارف نظرا إلى قوله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ [سورة الأنعام آية 59] وقد يراد بها مفاتيح الخزائن المعروفة. كان قارون من قوم موسى، وكان ذا مال وفير، والمقصود المهم من القصة هو ما يأتى: اذكر وقت أن قال له قومه على جهة الوعظ والإرشاد. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 848 لا تفرح وابتغ فيما آتاك الله الدار الآخرة، ولا تنس نصيبك من الدنيا، وأحسن كما أحسن الله إليك، ولا تبغ الفساد في الأرض. وهذه خمسة أصول مهمة، ومن تمسك بها وعمل بمقتضاها نجا من الدنيا وما فيها. 1- قالوا له: لا تفرح بدنياك فرحا مصحوبا بالبطر والأشر، والفتنة والغرور فالدنيا عرض زائل، وعارية مستردة يربح فيها من عرفها، ويخسر من اغتربها لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ. ب- وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ نعم فالدنيا طريق الآخرة، هي المزرعة للباقية من زرع فيها الخير حصد، ومن أضاع عمره فيما لا يرضى ربه ندم والعاقل من طلب بدنياه آخرته، ومن ابتغى فيما آتاه الله الدار الآخرة والله- سبحانه- لا يطالبك بأن تعطى مالك كله، بل إن تنفق القليل طلبا لرضا الرب الجليل، ترجع بالخير الكثير والجزاء الجزيل. ج- وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا نعم فهذا هو الطريق الوسط والرأى الرشد، أن تعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، وتعمل لآخرتك كأنك تموت غدا، فليس من الدين الزهد في الدنيا حتى تتركها وتعيش عالة على غيرك، بل الدين يطالبك بالعمل والجد والغنى من طريق الحلال، فإذا جمعت المال فأعط حق الله فيه، ولا تنس نصيبك من الدنيا، أى: تمتع ببعضه بلا إسراف ولا تقتير، انظر إلى هذا النظام المحكم الدقيق الذي وضعه الحكيم البصير! د- وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ والإحسان هو الإتقان في العمل، وهو يقتضى إعطاء كل ذي حق حقه. هـ- وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ بالظلم أو العسف أو الكبر أو الإضرار بالناس فكل ذلك كان سيئة عند ربك مكروها، إن الله لا يحب المفسدين بأى شكل كان. انظر إلى قارون وقد أبى أن يقبل هذا النصح- لأنه غير موفق- بل زاد عليه بقوله: قال: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي!! بمعنى أنه أوتى هذا المال لفضل علمه وكمال استحقاقه له، أو المعنى أنه أوتيه على علم عنده بوجوه الكسب وطرق الجزء: 2 ¦ الصفحة: 849 الزيادة، وإنماء المال، كأنه قال إنما أوتيت هذا المال لفضل علمي وتمام مجهودي وتجاربي، فليس لأحد حق له في هذا المال، وكأنه ينكر إنعام الله عليه بتلك الأموال لاستحقاقه لها عن جدارة فهو حر التصرف. ولقد رد الله عليه أبلغ رد حيث بين له حقيقة الأمر. أعنده مثل هذا العلم الذي افتخر به وتعاظم، ورأى نفسه مستوجبة لكل نعمة، ولم يعمل به حتى يقي به نفسه مصارع السوء التي أهلك الله بها الطغاة المتجبرين الذين هم أشد منه قوة، وأكثر مالا وعددا، ولا يسأل عن ذنوبهم المجرمون، وهكذا يجب على الإنسان ألا يغتر بماله، وأولاده وجموعه مهما كانت، فإن الله إذا أراد شيئا قال له: كن فيكون، وليعلم المسلم أن الأيام دول، وأن الدهر قلب، وليعتبر بما حصل في الماضي، وليحصن ماله بالإنفاق. هذا حال قارون مع ماله، وموقفه ممن وعظه، وغروره بنفسه واستمع إلى الناس، وقد انقسموا إلى فريقين: فريق ينظر نظرة سطحية، فتعميه الدنيا وزخارفها عن الوضع السليم والطريق المستقيم وآخر قد نور الله بصيرته فهو ينظر إلى الدنيا بعين العبرة والعظة، عين الرجل الفاهم للحقائق الذي لا تخدعه المظاهر الخلابة. أما الفريق الأول فيقول، وقد خرج قارون في أكمل زينته وتمام أبهته: يا ليت لنا مثل ما أوتى قارون، وإنه لذو حظ عظيم، نظر هؤلاء إلى من فوقهم فتمنوا أن يكونوا مثل قارون في غناه وأبهته، ونسوا أن لله في خلقه شئونا، وأن السعادة والخير ليس في المال الكثير، والجاه العريض، وإنما الخير والسعادة شيء وراء ذلك كله، ما دام العبد موصولا بربه، راضيا مرضيّا، ولقد عالج القرآن هذا الداء علاجا حاسما لأن الحق- تبارك وتعالى- يعلم خطره، إذ من يمد عينيه إلى مال غيره ويتمناه، يعود وقد امتلأ قلبه حسدا وحقدا، وناهيك بهذه الأخطار التي ينشأ عنها معظم الجرائم: اقرأ معى قوله- تعالى- لنبيه الكريم وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى [طه 132] . أما الفريق الثاني فيقول ناصحا لأصحابه: ويلكم [هذه كلمة زجر] ثواب الله خير لمن آمن وعمل صالحا فالسعادة فيه، والخير لصاحبه إذ هو دائم، لا تعب معه الجزء: 2 ¦ الصفحة: 850 ولا ضرر فيه، وهذا المال مصدر تعب وشقاء لصاحبه في الواقع ونفس الأمر كما نشاهد ذلك عند أغلب الأغنياء. ولا يلقّاها إلّا الصابرون، أى: ولا يلقى هذه الحقائق ويعمل بها إلا الصابرون، ولا شك أن هذه الحقائق هي الإيمان والعمل الصالح، وإدراك ما يوصل إلى خيرى الدنيا والآخرة. وقد جاءت نهاية قارون مؤيدة لما ذهب إليه أهل العلم والبصر بالدنيا والآخرة فخسف الله بقارون وبداره وبماله وبجموعه الأرض، فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله، ويمنعون عنه بأس الله وبطشه، حيث لم يعمل عملا صالحا يقربه إلى ربه، ولم يحصن ماله بالصدقة والزكاة، ولم يتقرب إلى الله وإلى الناس بترك الكبر والغرور والغطرسة، ولهذا كله كانت النتيجة أن ضاعت دنياه، وخسف الله به الأرض، والله على كل شيء قدير، وبعباده خبير بصير، وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون: وى [كلمة تفيد معنى التعجب] كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، نعم، الله وحده هو الذي يعطى ويمنع ويبسط الرزق لمن يشاء ويقتر، فلم يعط إنسانا لعقله وعلمه، ولم يحرم آخر لجهله وسوء رأيه، بل الأمر كله لله، وإذا كان كذلك فالواجب هو امتثال أمر الله، ومخالفة النفس الأمارة بالسوء، وترك الغرور والكبر فإن الأمر كله بيد الله، وهو صاحب الأمر، لولا أن من الله علينا لأصابنا ما أصاب قارون، وى كأنه لم يفلح الكافرون حقيقة، وما هم فيه في الدنيا فهو استدراج لهم، وفتنة لغيرهم، تلك الدار الآخرة وما فيها من نعيم مقيم دائم لا تعب ولا مشقة معه يجعلها ربك للذين لا يريدون علوّا في الأرض على غيرهم، ولا يريدون فسادا والعاقبة للمتقين، وانظر إلى قوله تعالى: لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً حيث علق الوعد بترك إرادة العلو والفساد وميل القلب إليهما، لا بفعلهما مبالغة في تحذير المؤمنين وإبعادهم عن هذه الأمراض الخطيرة التي تبيد الأمم، وتهلك الأفراد والجماعات. ولا غرابة في ذلك كله فإن هناك قانونا وسنة لا تتخلف هي: من جاء بالحسنة فله خير منها، أى: ثواب خير منها وهو عشر أمثالها. والله يضاعف لمن يشاء، ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها فقط جزاء لعمله، وربك ذو فضل عظيم، إذ لا يجزى بالسيئة إلا مثلها، ويجزى بالحسنة عشر أمثالها، إن ربك واسع المغفرة. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 851 البشرى بالعودة إلى مكة [سورة القصص (28) : الآيات 85 الى 88] إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (85) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88) المفردات: فَرَضَ أنزله عليك مَعادٍ قيل: هو المقام المحمود الذي وعد أن يبعث فيه وقيل: هو مكة إذ معاد الرجل بلده لأنه ينصرف منها ثم يعود إليها ظَهِيراً معينا وناصرا يقول الفخر الرازي في تفسيره: ثم إنه- سبحانه وتعالى- لما شرح لرسوله أمر يوم القيامة واستقصى في ذلك. شرح له ما يتصل بأحواله فقال: إن الذي فرض عليك القرآن ... المعنى: يقول الله- سبحانه وتعالى- إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ وأنزله عليك إنزالا له أثره ومغزاه لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ وهو المقام المحمود الذي وعد أن يبعث فيه بعد الموت، وقيل المعنى: إن الذي أنزل عليك القرآن لرادك إلى مكة بلدك الحبيب الذي انصرفت منه وستعود إليه فاتحا منتصرا بعد خروجك منه مهاجرا، وتكون الآية نزلت على النبي وهو بمكة متحملا لأذى قومه صابرا على آلامهم، وعلى هذا فهي الجزء: 2 ¦ الصفحة: 852 من باب المغيبات، وهذا الرأى هو الأصح، لأنه دليل على النبوة من حيث صدق خبره. قل لهؤلاء المشركين: ربي هو العالم البصير الذي يعلم الغيب والشهادة، وهو أعلم بمن جاء بالهدى من عنده، ومن هو في ضلال بين ظاهر، فينصر الأول ويعصمه من الناس ويؤيده، وأما من هو في الضلال والكفر فهو المخذول، وستكون الدائرة عليه، وسيعاقبه على ضلاله عقابا صارما شديدا. وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب، ولا تأمل إنزال هذا القرآن المحكم البين الكامل في كل شيء، لكن رحمة من ربك وفضلا وإحسانا ألقى إليك هذا الكتاب الذي لا ريب فيه، وهو هدى للناس وآيات للمتقين. وإذا كان الأمر كذلك فها هي ذي تكاليف خمسة يجب عليك أن تحرص عليها إذ هي دعائم الفلاح والفوز في الدنيا والآخرة. 1- فلا تكونن ظهيرا ومعينا للكفار بحال من الأحوال بل كن ظهيرا للمسلمين ومعينا لهم، والله معك وعاصمك من النّاس جميعا وحافظك. 2- ولا يمنعك عن تبليغ آيات الله كلها بعد إذ أنزلت عليك مانع أبدا مهما كان يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [سورة المائدة آية 67] . 3- وادع إلى ربك وإلى دينه بكافة الطرق، متشددا في ذلك أو متساهلا تبعا للظروف ولا يهمك أمرهم. 4- ولا تكونن من المشركين لأن من رضى عن طريقتهم أو مال إليها كان منهم. 5- ولا تدع مع الله إلها آخر في أى عمل من الأعمال، ومعلوم أن النبي صلّى الله عليه وسلم لا يمكن أن يفعل شيئا من ذلك حتى ينهى عنه، والجواب أن هذا من باب [إياك أعنى واسمعي يا جارة] فالكلام مع النبي والمراد غيره، وإنما كان ذلك كذلك تعظيما لأمر هذه الأشياء. وكيف تدعو مع الله إلها آخر؟ وهو الله لا إله إلا هو، كل شيء غيره في العالم هالك لأن وجوده ليس لذاته بل مستند إلى واجب الوجود، فكل شيء سوى الله الجزء: 2 ¦ الصفحة: 853 بهذا المعنى هالك ومعدوم بالقوة أو بالفعل إذ وجوده من غيره، وهو موقوت بوقت مهما طال، كل شيء هالك إلا ذاته- جل شأنه- فهو الواجب الوجود القديم الباقي الذي لا يجوز عليه العدم والفناء بحال من الأحوال. له الحكم وإليه وحده الأمر كله، وإليه وحده ترجعون فتحاسبون، وتجازون على أعمالكم إن خيرا فخير وإن شرا فشر ... سورة العنكبوت مكية كلها في قول بعضهم، وعن ابن عباس إنها مكية إلا عشر آيات من أولها، والظاهر أنها نزلت بين مكة والمدينة كما قال على بن أبى طالب ... وهي تسع وستون آية. وعلى العموم فإنها تدور حول بيان حقيقة الإيمان، وما يصادف المؤمنين من فتن تصهرهم وتقوى روحهم ومع ذلك فالنصر للإيمان، وقد جاء القصص مؤيدا لذلك مع ضرب المثل لقوة الكفار وآلهتهم، ونتيجة الجهاد في سبيل الله. شحذ عزائم المسلمين وتقوية إرادتهم وتهديد أعدائهم [سورة العنكبوت (29) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4) مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 854 المفردات: أَحَسِبَ النَّاسُ أظنوا وتخيلوا لا يُفْتَنُونَ الفتنة: الابتلاء والاختبار بالشدائد التي تصادف الناس أَنْ يَسْبِقُونا أى: يفوتونا فلا ننتقم منهم ساءَ ما يَحْكُمُونَ بئس حكمهم يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ أى: يأمل في لقائه وثوابه، قيل: يخاف لقائه. لقد ذكر الفخر الرازي- رحمه الله- في تفسيره مسائل في تفسير هذه الآية، منها مسألة في حكمة افتتاح هذه السورة بقوله الم وأنا ألخصها فيما يأتى: البليغ الحكيم إذا خاطب مشغول البال، أو من هو في غفلة، يقدم ما يجعل المخاطب يلتفت إليه، ويتجه بقلبه ثم يشرع فيما يريده، وهذا المقدم قد يكون كلاما له معنى مفهوم مثل: اسمع. التفت تنبه إلخ، وقد يكون أداة استعملت للتنبيه كأدوات النداء والاستفتاح مثل أمحمد. يا على: ألا يا خالد، وقد يكون المقدم صوتا غير مفهوم كالتصفير مثلا أو التصفيق باليد إلخ. ومن المألوف في أساليب اللغة أن ألفاظ التنبيه تستعمل عند الغفلة على حسبها، وتستعمل على شكل واسع إذا كان المقصود من الكلام مهما، وموضعه خطيرا. وإذا قدم المتكلم البليغ على كلامه لفظا غير مفهوم المعنى، كان ذلك أدعى للالتفات، وأقوى في التنبيه لما بعده مثل الحروف الهجائية التي تفتتح بها السور فإن قال قائل: ما الحكمة في اختصاص بعض السور بهذه الحروف؟ فالجواب: أن عقل البشر قاصر عن إدراك الأشياء الجزئية والحكم المقصودة من ذلك، والله ورسوله أعلم بذلك كله. ولكن هذا لا يمنع من ذكر ما يوفقنا الله له فنقول (أى الفخر) : كل سورة في أوائلها حروف التهجي فإن في أوائلها ذكر الكتاب أو القرآن، واقرأ أول سورة البقرة وآل عمران. والأعراف. ويس. وق والقرآن المجيد. والحواميم إلا ثلاث سور: سورة مريم، والعنكبوت هذه، والروم ... ولعل الحكمة كما قلنا سابقا أن القرآن عبء ثقيل، وفيه أحكام وحكم، وهو دستور الجزء: 2 ¦ الصفحة: 855 الأمة، فإذا تكلم القرآن على نفسه في أول السورة وجب أن يقدم التنبيه الذي يوقظ النفوس، ويحرك المشاعر. ولعل بدء السورة التي ليس في أولها ذكر للكتاب كما هنا وفي سورة الروم، ومريم بحروف ليست لها معاني معروفة لخطر ما بدئت به وأهميته حتى احتاجت إلى هذا التنبيه، ولا عجب ففتنة المسلم كما هنا، وذكر زكريا ويحيى وعيسى كما في سورة مريم والإخبار بالمغيبات في سورة الروم غاية الأهمية ولقد سبق أن تكلمت في هذا الموضوع، وهو موضوع شائك ولعل سلوى الجميع فيه وفي أمثاله قوله تعالى: مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ [سورة آل عمران آية 7] . المعنى: ألم. أظن الناس أن يتركوا لأنهم قالوا آمنا في حال أنهم لا يفتنون، ولا يبتلون بأنواع المحن والفتن؟ التي تمحص المتقين المخلصين من المنافقين الكاذبين وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ [آل عمران 154] . نزلت هذه الآيات في قوم من المؤمنين كانوا بمكة، وكان الكفار من قريش يؤذونهم ويعذبونهم على الإسلام كسلمة بن هشام. وعياش بن أبى ربيعة. والوليد بن الوليد. وعمار بن ياسر. وياسر أبوه وسمية أمه، فكانت صدورهم تضيق بذلك وربما استنكر بعض الناس أن يمكن الله الكفار من المؤمنين!. فنزلت هذه الآية مسلية ومعلنة أن هذه هي سيرة الله في عباده اختبار للمؤمنين وفتنة لهم وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ [سورة آل عمران آية 141] . قال بعض العلماء: وهذه الآية وإن كانت نزلت بهذا السبب أو ما في معناه فهي باقية في أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم موجود حكمها ما دام هناك إسلام وحق يدافع عنه بعض الناس، فلا بد من وجود إيذاء وشدائد لهم. ولقد فتنا الذين من قبلهم، وابتليناهم قديما كما ابتلينا إبراهيم بإلقائه في النار، وكما الجزء: 2 ¦ الصفحة: 856 حصل لقوم نشروا بالمناشير في دين الله فلم يرجعوا عنه أبدا وروى البخاري عن خباب ابن الأرت: قال شكونا إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة فقلنا له: ألا تستنصر لنا؟ ألا تدعو لنا؟. فقال: «قد كان من قبلكم يؤخذ الرّجل فيحفر له في الأرض فيجعل فيها، فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين، ويمشط بأمشاط الحديد لحمه وعظمه فما يصرفه ذلك عن دين الله. والله ليتمّنّ هذا الأمر حتّى يسير الرّاكب من صنعاء إلى حضر موت، لا يخاف إلّا الله والذّئب على غنمه ولكنّكم تستعجلون» . فليعلن الله الذين صدقوا أى: فليظهرن الله الذين صدقوا، وليظهرن الكاذبين، إذ علمه بهم حاصل قبل الاختبار وبعده. بل أحسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا فلا ندركهم؟ أظنوا أنهم يفوتوننا فلا ننتقم منهم. لا. بل إن ربك لبالمرصاد، وسيجازيهم على أعمالهم جزاء وفاقا. ألا ساء حكمهم وتقديرهم إن فهموا أنهم يسبقوننا. من كان يرجو لقاء الله ويؤمل ثوابه، ويخاف عقابه فليستعد لذلك اليوم استعدادا كاملا، وليعمل عملا صالحا، ولا يشرك بعبادة ربه أحدا، فإن أجل الله لآت له، وإن وقته المضروب للقائه آت بلا شك، فمن الخير له الاستعداد لذلك اللقاء بالعمل الصالح، والله هو السميع لكل قول، العليم بكل فعل. وقد مضت حقائق ثلاثة: هي اختبار المؤمن بالفتن، وعقاب العاصي على العمل، وجزاء المحسن الذي يرجو لقاء ربه آت بلا شك ولا جدل، وربك الغنى عن عباده الطائعين، ولا يضره عصيان العاصين، ومن جاهد نفسه وهواه، واتبع طريق الحق والعدل والكرامة فإنما يجاهد لنفسه لا لغيره مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها «1» إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «2» . والذين آمنوا وعملوا الصالحات من الأعمال لنكفرن عنهم سيئاتهم التي قد يلمون بها. فالإنسان لا بد أن يرتكب بعض السوء وإن لم يشعر به خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ «3» .   (1) سورة فصلت الآية 46. (2) سورة الإسراء الآية 7. (3) سورة التوبة الآية 102. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 857 ولنجزينهم بأحسن أعمالهم فنقدرها على أحسن وجه وأكمله فنجازيهم عليها، وليس المعنى أن الله يختار أحسن الأعمال ويترك الباقي. أرأيت إلى هذه الآيات الكريمة التي تشحذ العزائم وتربط على القلوب ببيان أن المؤمن صاحب العقيدة لا بد من ابتلائه، وأن هذه سنة الله قديما وحديثا، مع بيان أن المسيء الذي يسيء المؤمن سيجازى على عمله حتما، وقد بين الله أنه لا بد من يوم يجازى فيه المحسن والمسيء وهو قريب الحصول، وهذا العمل الصالح من العبد يكون خيرا له لا لغيره، والله يكفر عنه سيئاته ويجازيه على أعماله أحسن الجزاء- اللهم وفقنا واهدنا إلى سوء السبيل. مدى فتنة الكفار للمؤمنين، وتهديد الله للكفار وللمنافقين [سورة العنكبوت (29) : الآيات 8 الى 13] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَإِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَلَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 858 المفردات: وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ أى: أمرناه، فكلمة وصى في اللغة كأمر في معناها وتصرفها حُسْناً أى: بأن يفعل معهم حسنا، أى: فعلا ذا حسن، أو هو نفس الحسن مبالغة فِتْنَةَ النَّاسِ أى أذاهم واستعمال القوة والعنف في الرد عن الإسلام أَثْقالَهُمْ أوزارهم. لا يزال الكلام في فتنة المسلمين وردهم بالقوة عن الإسلام، والذين فتنوهم المستضعفون، ومن فتنهم هم الكفار الأقوياء أصحاب الجاه والسلطان، ومن كان يملك رقابهم، وهناك صنف آخر من المعذبين الذين فتنوا هم الأبناء والأقارب والذين فتنهم آباؤهم وأقاربهم مستخدمين سلاح العطف وصلة الرحم، ولذا نبه الله هنا على ذلك، ونزلت تلك الآية وآية لقمان وآية الأحقاف في سعد بن أبى وقاص. وروى عن سعد قال: كنت بارا بأمى فأسلمت فقالت: لتدعن دينك أولا آكل ولا أشرب حتى أموت فتعير بي ويقال لك: يا قاتل أمك، وبقيت يوما ويوما فقلت يا أماه! لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني هذا، فإن شئت فكلي، وإن شئت فلا تأكلى، فلما رأت ذلك أكلت، ونزلت الآية. المعنى: ووصينا الإنسان بوالديه أن يفعل معهما فعلا حسنا، وقلنا له: إن جاهداك لتشرك بالله ما ليس لك به علم، أى: ما لا علم لك بألوهيته كالأصنام، والمراد بنفي العلم المعلوم كأنه قال: وإن جاهداك وحملاك بالفتنة والإغراء على أن تشرك بالله شيئا لا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 859 يصح أن يكون إلها، ولا يستقيم بحال، فلا تطعهما في ذلك أبدا مع الإحسان إليهما ومداراتهما وترضيهما كما أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم سعدا أن يفعل مع أمه «وقد ثبت ذلك في بعض الروايات» . وصى الله الإنسان بوالديه وأمره بالإحسان إليهما، ثم نبهه إلى عدم طاعتهما، إذا أراداه على الشرك، إذ كل حق وإن عظم ساقط إذا جاء حق الله، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ثم قال: إلىّ مرجعكم، نعم إلى الله وحده ترجع الأمور وسيجازى كلا على ما عمل فلا يحدثن أحد من الناس نفسه بجفوة والديه إذا أشركا، ولا يحرمهما من بره وعطفه في الدنيا إذا عصيا، وإياه ومتابعتهما على الشرك بل اثبت في دينك، واستقم كما أمرت فالله معك، وسيجازيك على هذا كله، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات، وصبروا على المكروه والأذى في سبيل الله فأولئك يدخلون الجنة مع الصالحين والأنبياء والمرسلين والشهداء وحسن أولئك رفيقا. يا أخى لا تظن أن مرتبة الصلاح هينة فلله در الإمام الشافعى حيث يقول: «أحبّ الصّالحين ولست منهم» . وهذا النبي سليمان بن داود يدعو ربه أن يدخله مع الصالحين وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ «1» . وفي إبراهيم يقول الله وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «2» . هذا هو حال المؤمنين الذين فتنوا واختبروا في دينهم كبلال وصهيب وآل ياسر كلهم: وهذا سعد بن أبى وقاص يبتلى بأمه وكانت أحب الناس إليه، وهذا حال من فتن من صناديد قريش وزعماء الكفار. ولكن أليس في المجتمع المسلم منافقون ضعاف الإيمان إذا فتنوا رجعوا عن دين الله؟. نعم فيه ذلك، إذ لا يخلو منهم زمان ولا مكان، والمحن هي محك الاختبار، وفيها الامتحان ليميز الله الخبيث من الطيب. وها هم أولاء يقولون آمنا بالله فإذا أوذوا في سبيل الله، وافتتنوا في دينهم، ومحصوا بالابتلاء الواقع، وانكشفت الستائر، وجعلوا فتنة الناس تمنع من الثبات في دينه كما يمنع عذاب الله من الكفار، وإذا نصر الله المسلمين ليقولن: إنا كنا معكم، وكنا ثابتين على دينكم فأعطونا من الغنائم! أو ليس الله بأعلم بما في الصدور؟! وهو يعلم السر   (1) سورة النمل الآية 19. [ ..... ] (2) سورة البقرة الآية 130. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 860 وأخفى، وليعلمن الله الذين آمنوا بقلوبهم وألسنتهم، وليعلمن المنافقين الذين آمنوا بألسنتهم ولم تؤمن قلوبهم، الثابتين على النفاق الدائمين على المكر والخداع، وسيجازيهم على ذلك كله إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ «1» . وانظر إلى مدى فتنة الكفار، وإغراء المسلمين على ترك دينهم!!! وصحائف التاريخ مملوءة بأخبار المعذبين من الصحابة، وأخبار العتاة المجرمين من زعماء الكفر، وليتهم وقفوا عند حد الإغراء بالعذاب والتنكيل بالإيذاء البدني بل لما رأوا أنهم لم يفلحوا في ذلك، وثبت المسلمون، أو فروا بدينهم إلى الحبشة، ثم إلى المدينة. ولما رأوا أن فتنتهم المادية لم تؤت ثمرها أخذوا يفتنونهم بالحيلة والإغراء بكافة الطرق. انظر إليهم وهم يقولون. وقال الذين كفروا للذين آمنوا: اتبعوا سبيلنا، وارجعوا إلى ديننا، ونحن نتحمل عنكم خطاياكم إن كان هناك حساب أو جزاء. ولقد ثبت أن صناديد قريش كانوا يقولون لمن آمن منهم لا نبعث ولا أنتم، فإن كان ذلك فإننا نتحمل عنكم الإثم، وما هم بحاملين من ذنوبهم وآثامهم شيئا، إذ كل امرئ بما كسب رهين إن هؤلاء الزعماء لكاذبون في هذا القول، وليحملن أثقال أنفسهم وأوزارها، وأثقالا أخر غير الخطايا التي ضمنوا حملها للمؤمنين، وهي أثقال وأوزار الذين كانوا سببا في ضلالهم «من سنّ في الإسلام سنّة سيّئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيئا» حديث شريف. وقال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَمِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ «2» . وليسألن يوم القيامة سؤال تقريع وتوبيخ عما كانوا يفترون ويختلقون من أكاذيب وأباطيل.   (1) سورة النساء الآية 145. (2) سورة النحل الآية 25. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 861 نوح وقومه [سورة العنكبوت (29) : الآيات 14 الى 15] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَهُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَأَصْحابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15) المفردات: الطُّوفانُ ما أطاف وأحاط بكثرة وغلبة من سيل أو موت أو ظلام ليل. وهذه قصة نوح- عليه السلام- أطول الأنبياء عمرا، دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عاما، ومع هذا فلم يؤمن معه إلا قليل، وقد سيقت تسلية وعبرة لمن يعتبر، وقد ذكر بعدها قصص بعض الأنبياء لهذا الغرض. المعنى: ولقد أرسلنا نوحا- وقد ورد أنه أول نبي أرسل- إلى قومه وكانوا أهل كفر وفسق وعصيان فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما يدعوهم إلى الله ويذكرهم بيوم القيامة، ولكنهم كانوا يردون عليه أسوأ رد وأفحشه، وقد بذل نوح منتهى ما في وسعه كبشر، وطال الزمن وهو يدعوهم أن يقلعوا عن عبادة الأصنام فلم يزدهم دعاؤه إلا إعراضا واستكبارا، وقال نوح: رب إنهم عصوني واتبعوا من لم يزده ماله وولده إلا خسارا، ومكروا مكرا كبارا، وأوحى إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن، فقال لما ضاق به الأمر: رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا. وكان أن صنع السفينة وركبها هو والمؤمنون وترك الكفار فغرقوا جميعا، وأخذهم الطوفان وهم ظالمون، ونجاه الله هو ومن معه في الفلك المشحون، وجعل ربك سفينة نوح آية وعبرة للعالمين، فهل من مدكر؟!!. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 862 قصة إبراهيم وقومه [سورة العنكبوت (29) : الآيات 16 الى 27] وَإِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَلِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 863 المفردات: أَوْثاناً الوثن: هو ما اتخذ من جص أو حجر، والصنم ما كان من معدن، والتمثال: ما لوحظ فيه أن يكون مثالا لكائن حي إِفْكاً الإفك: الكذب مأخوذ من الأفك وهو صرف الشيء عن وجهه، والكذب كلام مصروف عن وجهه النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ هي إعادة الخلق في الآخرة تُقْلَبُونَ تردون وَلِيٍّ صديق وناصر أو متولى أمر الإنسان حَرِّقُوهُ أحرقوه مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ لتتوادوا بينكم وتتواصلوا. وتلك قصة إبراهيم أبى الأنبياء فانظر يا أيها الرسول كيف كان موقفه مع قومه وما انتهى إليه أمره وأمرهم، والأمر كله لله. المعنى: واذكر إبراهيم وقت أن قال لقومه اعبدوا الله، والمراد ذكر ما حصل في الوقت، أرسل الله إبراهيم حين بلغ من السن والعلم مبلغا صح معه أن يكون رسولا يهدى إلى الحق فقال لقومه: اعبدوا الله واتقوه، ما لكم من إله غيره، وهو المستحق للعبادة الجزء: 2 ¦ الصفحة: 864 والتقديس دون سواه، ذلكم خير لكم، إن كنتم تعلمون طريق الخير من طريق الشر فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، وتضلوا سواء السبيل. إنما تعبدون من دون الله أوثانا لا خير فيها، ولا نفع يرجى منها بل هي حجارة لا تسمع ولا تبصر، ولا تضر ولا تنفع، إنما تعبدون من دون الله أوثانا. والحال أنكم تخلقون إفكا، واختلاقهم الإفك تسميتهم الأوثان آلهة وشركاء لله أو شفعاء له على أنهم هم الذين صنعوها وخلقوها للإفك والكذب. إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا أبدا قليلا أو كثيرا، فابتغوا عند الله الرزق كله، فإنه هو الرزاق ذو القوة المتين، الذي له ملك السموات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر، وهو الحكيم الخبير، إذا كان كذلك فاعبدوه وحده، واشكروا له حق شكره، إليه وحده ترجعون فاستعدوا للقائه بعبادته وشكره على نعمه. وإن تكذبوني فلا تضروني أبدا؟ فإن الرسل قبلي قد كذبتهم أمم، وما أصابهم من ذلك ضرر، ولكن الأمم قد أضروا أنفسهم بذلك، إذ الواجب على الرسول البلاغ، وعلى الله الحساب، فإذا بلغ كل ما أنزل إليه وأدى الرسالة كاملة فلا عليه شيء بعدها أبدا سواء آمن به الناس أم كفروا. وهذه الآيات والتي بعدها إلى قوله- تعالى-: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ: محتملة أن تكون من جملة قول إبراهيم أو هي معترضة نزلت في شأن الرسول صلّى الله عليه وسلم وشأن قريش في أثناء قصة إبراهيم، والمناسبة بين القصة وبين الكلام المعترض ظاهرة، إذ كل في موضوع واحد وهو تكذيب الأمم لرسلها، وقصة إبراهيم ذكرت تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم فوحدة الموضوع والغرض موجودة، والآيات التي ذكرت بعد هذه الآية من توابعها، ألا ترى أن الله بين التوحيد أولا ثم أشار إلى الرسالة ثانيا بقوله وَما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ. وقد شرع في بيان الأصل الثالث وهو الحشر، وهذه الأصول الثلاثة لا ينفك ذكر بعضها عن بعض. أعموا ولم يروا كيفية بدء الخلق؟ ولما كان العقل يعلم أن البدء من الله بلا شك لأن الخلق الأول لا يتصور أن يكون من مخلوق، وإلا لما كان أول الخلق، وإذا كان الجزء: 2 ¦ الصفحة: 865 الخلق الأول من الله- وهذا معلوم بالضرورة- كان ذلك في مقام الرؤية، والمقصود الاستدلال- بما علموه علما أصبح كالرؤية أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ من أحوال بدء الخلق- على إثبات المعاد، فإن من قدر على البدء يقدر بلا شك على الإعادة بل هي أهون عليه في نظرنا، إن ذلك المذكور من بدء الخلق وإعادته على الله يسير، فكيف ينكرون الإعادة ويؤمنون بالبدء؟ قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ على معنى قال الله لي: قل- يا إبراهيم أو يا محمد- لهم سيروا أيها المنكرون للبعث في الأرض لتشاهدوا مظاهر قدرة الله وآياته الدالة على أنه هو الخالق وحده لهذا الكون. وهو المنفرد ببدء الخلق، ومن قدر على ذلك فهو القادر وحده على أن ينشئ النشأة الأخرى يوم القيامة إن الله على كل شيء قدير، وفي النشأة الأخرى يعذب من يشاء ممن يستحق العذاب من الكفار والعصاة، ويرحم من يشاء من عباده فضلا منه ورحمة. وما أنتم يا بنى آدم بمعجزين الله في الأرض ولا في السماء، وليس في وسعكم الهرب من قضاء الله في جهة السفل أو جهة العلو، وما لكم من غير الله ولى ولا نصير ينصركم من عذابه. والذين كفروا بآيات الله، ولقائه أولئك يئسوا من رحمة الله، إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، أولئك لهم عذاب مؤلم موجع، أما المؤمنون بالله ولقائه فأولئك يرجون رحمته، إن رحمة الله قريب من المحسنين ولنرجع إلى إبراهيم ماذا حصل له؟. لما أمرهم بعبادة الله- تعالى-، وبين خطأهم في عبادة الأوثان، وظهرت حجته عليهم فما كان جواب قومه على قوله لهم: اعبدوا الله واتقوه، واتركوا عبادة الأوثان، وما أنا إلا نذير وبشير، وعلى البلاغ فقط، واعلموا أن هناك يوما للحساب والعقاب ومن خلق الخلق أولا قادر على الإعادة ثانيا. فما كان جواب قومه على ذلك إلا أن قال كبارهم ورؤساؤهم: اقتلوه، أو حرقوه بالنار، يا عجبا لهم!! يدعوهم إلى الخير، ويبصرهم بالطريق الحق فيكون المآل القتل أو الإحراق. ولكن أيتركه ربه الذي أرسله للخلق ووعده بالعصمة والحفظ؟ كلا كلا: فقد أنجاه الله من النار حين قذفوه فيها، وقال الله لها: يا نار كوني بردا وسلاما على إبراهيم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 866 وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين، إن في ذلك كله لآيات لقوم يؤمنون، وأى آية أظهر من تلك؟ يلقى إنسان في النار المحرقة فلا تؤثر فيه شيئا سبحانك يا رب أنت القادر على كل شيء!! وقال إبراهيم بعد خروجه من النار: يا قوم: إنما اتخذتم من دون الله أوثانا تعبدونهم لا ينفعون ولا يضرون. إن الذي اتخذتموه أوثانا لأجل المودة بينكم، أى: لتتوادوا بينكم وتتواصلوا لاجتماعكم على عبادتها لا ينفعكم بل يكون عليكم، بدليل قوله بعد ذلك ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً على معنى أن هذه المودة التي في الدنيا ستنقلب بينكم إلى تلاعن وتباغض، وتعاد، يتلاعن المتبوعون والتابعون، ويتلاعن العبدة كلهم مع الأصنام وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا، ومأواكم النار جزاء ما عبدتم غير الله، وما لكم من ناصرين ينصرونكم وقت الشدة، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم خالص من الذنوب.. ولما خرج من النار إبراهيم سليما معافى آمن لوط بنبوة إبراهيم. وقال إبراهيم: إنى مهاجر إلى أمر ربي أى: حيث أمرنى، وقد هاجر من سواد العراق ومعه زوجته سارة، ولوط ابن أخيه أو ابن أخته، والله أعلم، هاجر من سواد العراق إلى حران ثم منها إلى فلسطين، ونزل لوط قرية سدوم. ووهبنا إلى إبراهيم- بعد إسماعيل- إسحاق ومن نسله يعقوب، وجعلنا في ذريته النبوة فكانت الأنبياء كلها بعد إبراهيم من ذريته، وآتيناه الكتب فنزلت التوراة على موسى والزبور على داود والإنجيل على عيسى والقرآن على محمد، وكلهم من نسله، وآتيناه أجره في الدنيا حيث يحمده الكل، ويؤمن به ويمجده، وهو في الآخرة من الصالحين الذين لهم الدرجات العلا. قصة لوط مع قومه [سورة العنكبوت (29) : الآيات 28 الى 35] وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30) وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 867 المفردات: الْفاحِشَةَ أى: الفعلة الفاحشة المتناهية في القبح، قيل: هي إتيان الرجال في أدبارها وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ أى: الطريق الْمُنْكَرَ الأمر المخالف للشرع المجافى للطبع السلم كاللواط وأنواع الفحش بِالْبُشْرى بالبشارة بإسحاق ويعقوب الْغابِرِينَ الباقين في العذاب سِيءَ بِهِمْ جاءته المساءة والغم بسبهم الجزء: 2 ¦ الصفحة: 868 ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً أى: ضاق ذرعه بهم، وذرع الإنسان كقولهم: ضاقت يده عن كذا مثلا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ عذابا شديدا منها، وسمى بذلك لأنه يقلق المعذب مأخوذ من قولهم: ارتجز إذا ارتجس أى: اضطرب. المعنى: - واذكر لوطا وقت أن قال لقومه: إنكم لتأتون الفعلة المتناهية في الفحش، التي ما سبقكم بفعلها أحد من الجن والإنس لأنها مما تشمئز منها الطباع، وتعافها النفوس. أإنكم لتأتون الرجال في أدبارهم، وتتركون النساء، وتقطعون السبيل حيث تفعلون الفاحشة بمن يمر بكم فترك الناس الطريق لذلك: وتأتون في ناديكم المنكر شرعا وعقلا وعرفا، وذلك أنهم ابتدعوا منكرات ما سبقهم إليها أحدا من خلق الله وقد وعظهم لوط ونصحهم كثيرا وخوفهم عاقبة هذا العمل فلم يأبهوا ولم يرتدعوا، فلما ألح عليهم بالعظات والإنذار ما كان جواب قومه إلا أن قالوا استهزاء به: ائتنا بعذاب الله الذي تعدنا، إن كنت من الصادقين في دعواك، قال لوط لما يئس منهم، ونفد صبره: يا رب انصرني بإنزال العذاب على هؤلاء القوم الذين عاثوا في الأرض الفساد فاستجاب الله الدعاء، فأرسل ملائكة لإهلاكهم، وأمرهم أن يبشروا إبراهيم بذرية طيبة مباركة فجاءوا أولا لإبراهيم بالبشرى بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب، وقالوا له: إنا مهلكوا أهل قرية لوط إن أهلها كانوا ظالمين وكافرين. قال إبراهيم: إن فيها لوطا، وأنتم تعرفون من هو.. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه وأهله إلا امرأته إنها كانت من القوم الفاسقين، فاستحقت أن تكون من الباقين في العذاب المهين. ولما أن جاءت رسل الهلاك إلى لوط سىء بهم وحزن، وضاق بهم صدره، لأنهم جاءوا في صورة غلمان مرد حسان، فجاء أهل القرية إلى لوط طالبين ضيوفه ليفعلوا معهم الفاحشة، وقد جهد لوط في ردهم، وبالغ في ذلك حتى طلب إليهم أن يأخذوا بناته فلم يصغوا إليه، فلما رأت الملائكة حيرته وتغير حاله، قالوا له: لا تخف ولا تحزن إنا جئنا للتنكيل بأولئك القوم، وإنا منجوك وأهلك إلا امرأتك إنها كانت من الباقين في العذاب، وإنا يا لوط منزلون على أهل هذه القرية رجزا من السماء وعذابا تضطرب له النفس وتتزلزل، كل ذلك بما كانوا يفسقون، وقد أخرجت الملائكة لوطا الجزء: 2 ¦ الصفحة: 869 وابنتيه وزوجه من القرية، وأمروهم ألا يلتفتوا، فصدعوا بالأمر إلى امرأته فإنها التفتت إلى أهل القرية لترى ما يحل بهم ولقد تركنا منها آية بينة وعبرة وموعظة لقوم يعقلون ويعلمون نتيجة الكفر والإيمان، ويتدبرون كيف ينجى الله الذين آمنوا، ويهلك الفاسقين والآية التي تركوها عبرة وعظة هي منازلهم الخربة، وقيل هي أخبارهم وقصصهم.. قصص مدين وعاد وثمود وغيرهم [سورة العنكبوت (29) : الآيات 36 الى 40] وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40) الجزء: 2 ¦ الصفحة: 870 المفردات: الرَّجْفَةُ الزلزلة يقال رجف يرجف أى اضطرب جاثِمِينَ باركين على اركبهم ميتين سابِقِينَ فائتين غير مدركين حاصِباً ريحا حاصبا أى: فيها حصباء يقال حصبه يحصبه إذا رماه بالحصباء الصَّيْحَةُ الصرخة الشديدة. المعنى: وإلى مدين أرسلنا لهم أخاهم شعيبا فدعاهم إلى الإيمان بالله وقال لهم: يا قوم اعبدوا الله ربكم مالكم من إله غيره، وارجوا اليوم الآخر أى: افعلوا ما ترجون به العافية في يوم الحساب والجزاء، وإياكم والفساد في الأرض، فإن عاقبته وخيمة. فكذبوه ولم يؤمنوا به فأخذتهم الصيحة بالعذاب فارتجفت قلوبهم واضطربت حيث لا ينفع الاضطراب والخوف، وأصبحوا في ديارهم جائمين على ركبهم ميتين كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية؟ فهل من مدكر؟ وأهلكنا عادا لما أرسلنا لهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الإيمان بالله ورسله، فكذبوا وكفروا، وأهلكنا ثمود لما أرسلنا لهم أخاهم صالحا يدعوهم إلى عبادة الله فكفروا به وكذبوه. وها أنتم أولاء يا أهل مكة، ويا مشركي العرب قد تبين لكم ذلك، أى: إهلاكهم وهم قد زين لهم الشيطان أعمالهم فكانت عاقبة أمرهم خسرا، وكانوا مستبصرين أى: عقلاء أصحاب فكر ونظر ولكنهم لم ينتفعوا بذلك!! أفليس من العقل والحكمة أن تعتبروا وتتعظوا بهؤلاء. وأهلكنا قارون لما طغى ولم يمتثل أمر الله، وأهلكنا فرعون وهامان، ولقد جاءهم موسى بالبينات من عند ربهم فاستكبروا في الأرض، ولكنهم ما كانوا سابقين وفائتين بل أدركهم أمر الله وبطشه إن بطش ربك لشديد. فكلا من هؤلاء وهؤلاء أخذنا بذنبه إذ كل نفس بما كسبت رهينة فمنهم من أرسلنا عليه ريحا حاصبة أهلكته وهم قوم لوط إنهم كانوا قوما يعملون الخبائث، ومنهم من أخذته الصيحة بالعذاب كمدين وثمود، صيحة ترجف الأرض منها والجبال فكانت الجزء: 2 ¦ الصفحة: 871 بحق هي الرجفة، ومنهم من خسفنا به وبداره الأرض. وهو قارون ليكون عبرة لكل طاغية جبار. ومنهم من أغرقنا كقوم نوح وفرعون، لما طغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، وما كان الله ليظلمهم أبدا، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.. مثل اتخاذ الأصنام آلهة [سورة العنكبوت (29) : الآيات 41 الى 44] مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43) خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) المفردات: أَوْلِياءَ أصناما يرجون نفعها الْعَنْكَبُوتِ حشرة معروفة أَوْهَنَ أضعف مَثَلُ المثل الصفة التي تشبه المثل في الغرابة. لما بين الله تعالى أنه أهلك المشركين وأفناهم حينما كذبوا الرسل، وكان هذا بمثابة تعجيل العذاب لهم في الدنيا زيادة على ما أعد لهم في الآخرة من عذاب مقيم ولم ينفعهم في الدارين من دون الله معبود. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 872 لما بين هذا ضرب لهم مثلا في اتخاذهم معبوداتهم آلهة باتخاذ العنكبوت بيتا لم يقها من شر عاد عليها. المعنى: مثل هؤلاء الذين اتخذوا من دون الله أولياء والحال أنهم لم ينتفعوا منها بشيء أبدا مع أنهم اتخذوها راجين النفع والشفاعة منها كمثل العنكبوت اتخذت بيتا من نسيجها، وإن أوهن البيوت لبيوت العنكبوت. ولعل السر في جعل المثل دائرا حول اتخاذ العنكبوت بيتا ولم يقل نسيجا، أن البيت يكون للظل والوقاية من حر الشمس وزمهرير البرد، ومنع العدوان إلى غير ذلك من المنافع، ولكن بيت العنكبوت لا يفيد شيئا ولا يقي خطرا. فكذلك معبوداتهم لا تنفع شيئا، ولا تدفع ضررا، على أن نسيج العنكبوت من حيث كونه بيتا لا يفيد فكذلك الأصنام من حيث كونها آلهة لا تنفع ولا تضر، حقا. وإن أوهن البيوت لبيت العنكبوت لو كانوا يعلمون!. ولعل السر في اختيار لفظ الأولياء بدل الآلهة إبطال الشرك الخفى، وهو العبادة للرياء والسمعة فإن من يفعل ذلك يصدق عليه أنه اتخذ من دون الله وليا ... وانظر إلى قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ بعد التمثيل ... ! على معنى إن الله يعلم أنهم لا يدعون من دونه شيئا له وجود، وهو العزيز الحكيم فكيف يجوز للعاقل أن يترك القادر الحكيم العليم الخبير، ويشتغل بعبادة ما ليس بشيء أصلا. وتلك الأمثال الرائعة التي هي من عيون الكلام لعمق أثرها في النفس، وقوة فعلها في العقل نضربها للناس لا للبهائم والجمادات، وما يعقلها ويدرك سرها ويقف على إشاراتها إلا العالمون، ويقول الفخر: العلم الحدسى التجريبى يعلمه العاقل والعلم الفكرى الدقيق يعقله العالم، وذلك كالأمثال، ومن هنا ندرك السر في تعبير القرآن: وما يعقلها إلا العالمون. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 873 خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فإن خلق الله السموات والأرض بالحق هو للمؤمنين بيان ظاهر وبرهان واضح وإن لم يؤمن به على وجه الأرض كافر. أما خلقهما فقط هو آية لكل عاقل كما قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ ... لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. آداب إسلامية [سورة العنكبوت (29) : آية 45] اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45) لقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا حزبه أمر- أى ألم به أمر شديد- هم إلى الصلاة وحالة الكفار والمشركين الذين لم ينتفعوا بالقصص والأمثال قد تؤلم فجاءت هذه الآية سلوى وعلاجا وإرشادا وتأديبا. فالمناسبة ظاهرة. ولا شك أن العلاج الوحيد لكل الأزمات، والدواء الوحيد لكل الأدواء، هو القرآن وتلاوته العمل بما فيه. ولعلك يا أخى تستشف معى من وضع هذه الآية هنا أن آلامنا ومتاعبنا كافة مسلمة تدين بالإسلام قد يكون معظمه من تلك الناحية والحوادث تؤيد هذا، ولعل العلاج من هذا كله، ومن أمراضنا الداخلية هو القرآن وتلاوته وحفظه للعمل به لا للتغنى به ولا للرقى!!. المعنى: اتل يا محمد، وكذا كل مسلم، اتل ما أوحى إليك من الكتاب الكامل الذي لا ريب فيه، واعمل بما فيه، ففيه نجاتك وخيرك وعلاجك. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 874 وعليك بالصلاة فهي عماد الدين، وهي الصلة بين العبد والرب، فإن ألم بك حادث تكرهه أو جفاك الناس فعليك بالقرآن، والجأ إلى الصلاة تتصل بالله وإذا اتصلت به كنت ربانيا روحانيّا عند ذلك تدين لك الصعاب، وتخضع الرقاب، وتصل إلى ما تريد وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً «1» . والصلاة عملية تطهير لصاحبها، وتتكرر لتغسل أدرانه، وما قد يكون علق بنفسه وروحه من غبار الدنيا، وهي كما يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم ما معناه: هي نهر أمام بيتك تغتسل منه خمس مرات فهل يبق عليك درن ووسخ؟!!. الصلاة الحقيقية التامة الأركان، المستوفية الشروط، المقومة بأركانها وسننها وآدابها، الصادرة من قلب برىء خالص، سليم من الرياء والنفاق، مملوء بالخوف من الله والرجاء في عفوه. هذه الصلاة هي التي تنهى عن الفحشاء والمنكر، عن ابن عباس وابن مسعود قالا: «في الصلاة منتهى ومزدجر عن معاصى الله- تعالى- فمن لم تأمره صلاته بالمعروف ولم تنهه عن المنكر لم يزد بصلاته من الله- تعالى- إلا بعدا» وقال الحسن وقتادة «من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فصلاته وبال عليه» ومن هنا ندرك كيف يقع من بعض المصلين فحش ومنكر؟ والجواب أنها صلاة بلا روح صلاة بلا خشوع ولا خضوع، صلاة فيها رياء وسمعة، صلاة لا يمكن أن تنهى عن فحشاء ومنكر. فليست الصلاة تنهى بقيامها وركوعها وسجودها لا. إنما تنهى بذكر الله وتذكره أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «2» ومن هنا قال الله وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ والله يعلم الغيب والشهادة، وهو العليم بذات الصدور، فراقبوا الله مراقبة من يعلم أن الله يسمعه ويراه. والذكر النافع هو الذي يكون مع العلم وإقبال القلب وتفرغ النفس مما سوى الله، وأما ما لا يتجاوز اللسان فشيء آخر، والله يعلم ما تصنعون وفقنا الله للخير.   (1) سورة الطلاق الآية 2. (2) سورة الرعد الآية 28. الجزء: 2 ¦ الصفحة: 875 فهرس المتخلفون بغير عذر وموقف المسلمين منهم 3 كيف كان الأعراب 5 الناس أنواع 7 الصدقة، والتوبة، والعمل 11 صنف آخر من المتخلفين 13 مسجد الضرار. ولم بنى، وموقف الرسول منه 14 من هم المؤمنون الكاملون؟ 19 الاستغفار للمشركين ومتى يؤاخذ الله على الذنب؟ 21 التوبة وشروطها، والصدق وفضله 23 وجوب الجهاد مع رسول الله وجزاؤه 27 طلب العلم فريضة 29 توجيهات في قتال الكفار 31 المنافقون واستقبالهم للقرآن 32 الرسول عليه الصلاة والسلام ونفسه الكريمة 34 سورة يونس عليه السلام 36 المظاهر الكونية ودلالتها على أصول الإيمان 38 المؤمن والكافر وعاقبة كل 42 من طبائع الإنسان وغرائزه 44 من أوهام المشركين والرد عليهم 46 هكذا فطر الله الناس 49 اقتراح المشركين آيات كونية 50 هكذا طبع الإنسان وخلقه 51 المثل البليغ لحياة الدنيا 53 ترغيب في الجنة وتنفير من النار 55 من مشاهد يوم القيامة 57 نقاش مع المشركين لإثبات التوحيد وبطلان الشرك 58 القرآن كلام الله ومعجزة النبي وموقفهم منه 62 هكذا الدنيا وهذه نهايتها 66 القول الفصل في الرد على المشركين وعلى استعجالهم العذاب 66 القرآن الكريم وأغراضه الشريفة 70 لون آخر في ثبات الوحى والنبوة 72 مراقبته تعالى لعباده، واحاطته بكل شيء علما 73 من هم أولياء الله؟ 74 العزة لله 76 كيف يكون لله ولد؟! 77 قصة نوح عليه السلام 79 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 876 قصة موسى مع فرعون 81 الذين أمنوا بموسى 83 من مواقف موسى مع فرعون 85 تقرير صدق القرآن 88 إيمان قوم يونس 89 إنذار وبشارة، وحث على العلم 91 المبادئ العامة للدعوة الإسلامية 92 خلاصة ما مضى 94 سورة هود 97 من أعمال الكفار مع كمال علم الله وقدرته 100 طباع الإنسان وتهذيب الدين لها 104 تقوية الروح المعنوية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتحديهم بالقرآن 106 من يؤثر الدنيا على الآخرة 109 المؤمنون بالآخرة 110 الكافرون وأعمالهم في الدنيا وجزاؤهم عليها، وكذلك المؤمنون 111 القصة في القرآن 113 قصة نوح عليه السلام 115 اشتداد الحال حتى استعجلوا العذاب 119 صنع نوح للسفينة 121 نهاية القوم واستشفاع نوح لابنه 123 خاتمة القصة وما تشير إليه قصة هود عليه السلام 127 قصة صالح عليه السلام 131 قصة إبراهيم عليه السلام وبشارته 134 قصة لوط مع قومه وكيف نجا المؤمنون وهلك الكافرون 136 قصة شعيب 139 من قصة موسى وفرعون 144 العبرة والعظة من القصص بعذاب الدنيا 145 تحذير وتثبيت 149 نتيجة ما مضى من السورة 150 السبب العام في هلاك الأمم السابقة 153 خاتمة السورة 156 سورة يوسف 158 يوسف في دور الطفولة مع أبيه 159 يوسف وأخوته وما كان بينهم 161 يوسف مع السيارة 166 يوسف في مصر 167 يوسف مع امرأة العزيز وكيف كانت محنته 169 شيوع الخبر في المدينة ما يترتب على ذلك 173 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 877 يوسف في السجن 176 تأويل يوسف لرؤيا صاحبيه 178 تأويل يوسف لرؤيا ملك مصر 180 طلب الملك له وحكمة يوسف 182 النفس أمارة بالسوء 185 يوسف وقد تولى زمام الأمر في مصر 186 موقف أخوة يوسف معه ثم مع أبيه 188 يعقوب يوصى أبناءه الذاهبين إلى مصر 192 يوسف يتعرف على أخيه بنيامين ويحتال على على إبقائه عنده 193 حوار بين يوسف وإخوته وبينهم وبين أبيهم 196 تعرف إخوة يوسف عليه واعترافهم بالذنب 201 يعقوب وقد جاء البشير 203 تأويل رؤيا يوسف من قبل 205 القصة وما تشير إليه من أهداف 207 سورة الرعد: القرآن حق والله قادر على كل شيء 212 بعض أقوالهم والجزاء عليها 215 من مظاهر علمه وحكمته 217 من مظاهر قدرة الله وألوهيته 220 هذا مثل للحق وأهله وللباطل وحزبه 223 من هم أولو الألباب وما جزاؤهم؟ 226 من هم الأشقياء وما جزاؤهم؟ 229 من أوصافهم أيضا 230 رد على المشركين وبيان قدرة الله على كل شيء 232 وصف الجنة، ومناقشة المعترضين من أهل الكتاب المشركين 236 الرسول صلّى الله عليه وسلّم مبلغ والله محاسب ومنتقم 240 سورة إبراهيم: نعمة إنزال القرآن وإرسال النبي صلّى الله عليه وسلّم وأثرهما 243 مهمة الرسل 246 بعض أنباء الأمم السابقة 248 العاقبة للمتقين 251 حوار بين أهل النار 254 مثل كلمة الحق وكلمة الباطل 258 هكذا يفعل الكفار 260 وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها 262 دعاء إبراهيم عليه السلام 264 تذكير وعظة بأيام القيامة ومشاهدها 267 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 878 سورة الحجر 271 من مظاهر قدرته وآثار نعمته 275 قصة آدم وتكوينه، وعلاقته بالملائكة والجن 278 المتقون يوم القيامة 284 أصحاب الأيكة وأصحاب الحجر 289 توجيهات إلهية إلى الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم 291 سورة النحل: من دلائل وحدانية الله 296 من نعمة الله علينا أيضا 300 هذا هو الخلاق المنعم فأين الشركاء 302 المستكبرون وجزاؤهم 304 المتقون وجزاؤهم 306 عاقبة الكفار 308 بعض حججهم الواهية 309 جزاء المؤمنين، وتهديد الكافرين 311 مناقشة المشركين في عقائدهم وأعمالهم 314 من مظاهر قدرته ونعمه علينا 318 من عجائب قدرة الله وآيات وحدانيته 322 مثل الأوثان والأصنام 325 من نعم الله علينا 327 مشهد من مشاهد يوم القيامة 329 أجمع آية للخير والشر 332 من أدب القرآن وتوجيهه 336 المرتدون عن الإسلام والعياذ بالله 338 عاقبة من يكفر بالنعمة 341 نقاش المشركين في معتقداتهم 343 منهاج الوعاظ والدعاة 345 سورة الإسراء 349 خلاصة لتاريخ بنى إسرائيل 353 من نعم الله علينا 357 من أراد العاجلة ومن أراد الباقية 361 دعائم المجتمع الإسلامى 363 الرد على من يدعى لله شريكا 374 السر في كفرهم وعنادهم 376 شبهتهم في البعث والرد عليهم 377 مناقشة المشركين في عقائدهم 380 أصل الداء 383 من نعم الله علينا 385 بعض مشاهد يوم القيامة 387 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 879 إرشادات ومواعظ 390 القرآن هو المعجزة الباقية 393 شبهتهم في الرسالة والرد عليها 395 تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم 398بماذا ندعوا الله 401 سورة الكهف 403 قصة أهل الكهف 405 توجيهات إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم 412 مثل للمعتز بالدنيا المغرور بها 415 مثل الحياة الدنيا 418 من مشاهد يوم القيامة 420 توجيهات إلهية 421 إنذار وتخويف 423 قصة موسى مع الخضر 426 جواز ارتكاب أخف الضررين 432 قصة ذي القرنين 433 عاقبة الكفار يوم القيامة 438 عاقبة الإيمان والعمل الصالح 440 كمال علمه واحاطته بكل شيء 441 سورة مريم- قصة زكريا 443 يحيى عليه السلام 446 قصة ولادة عيسى بن مريم 447 القول الحق في عيسى عليه السلام 452 قصة إبراهيم مع أبيه 454 ذكر بعض الأنبياء عليهم السلام 458 من آثار بعثة الرسل عليهم السلام 461 الأمر كله بيد الله 462 المنكرون للبعث وجزاؤهم 464 حجة واهية 467 هؤلاء هم المشركون 470 فرية اتخاذ الولد 472 ختام السورة 473 سورة طه- القرآن ومن أنزله 476 قصة موسى مع فرعون وبنى إسرائيل 479 موسى بالوادي المقدس 480 بعثة موسى عليه السلام وما طلبه من ربه 483 بعض الألطاف التي صادفت موسى 485 دعوة موسى لفرعون، ومحاجته له 488 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 880 موسى والسحرة الذين جمعهم فرعون 492 خروج بنى إسرائيل من مصر، ورحيل فرعون لطلبهم 497 اتخاذ بنى إسرائيل إلها يعبدونه 499 المعرضون عن القرآن يوم القيامة 504 قصة السجود لآدم 507 عبر ونصائح 511 سورة الأنبياء- المشركون ودعواهم والرد عليهم 515 إنذار وتهديد 519 مناقشة المشركين في عقائدهم 523 الأدلة الكونية على وجود الواحد الأحد 526 من مواقف المشركين مع النبي صلّى الله عليه وسلّم 529 لا راد لقضاء الله 532 عدل السماء 535 موسى وهارون 536 شيء من قصة إبراهيم عليه السلام 537 طرف من قصة لوط ونوح عليهما السلام 543 داود وسليمان عليهما السلام 545 أيوب عليه السلام 547 إسماعيل وإدريس وذا الكفل 549 يونس عليه السلام 550 زكريا ويحيى ومريم 552 وحدة المقصد من إرسال الأنبياء 554 نهاية الكافرين ونهاية المؤمنين 557 موقف النبي صلّى الله عليه وسلّم من الناس 560 سورة الحج- الدعوة إلى تقوى الله 563 من أدلة البعث 565 هكذا يكون الناس 569 الله ناصر رسوله 572 من مظاهر عدله وقدرته 573 الكافرون والمؤمنون وجزاء كل 575 صد الكفار عن المسجد الحرام وبيان مكانه 578 حج بيت الله الحرام 579 توجيهات إلهية لتعظيم حرمات الله وشعائره 582 من آدب الذبح في الحج 586 المؤمنون الذين يدافع الله عنهم 588 حثهم على العبرة بمن تقدمهم من الأمم 591 مهمة الرسول صلّى الله عليه وسلّم 594 كتاب الله محكم لا ريب فيه 595 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 881 فضل الله على المؤمنين 599 لكل أمة شريعة صالحة لها 603 بعض أعمال الكفار والمشركين 605 مجمل التشريع الإسلامى 608 سورة المؤمنون- ومن هم المؤمنون 611 الإيمان بالله القادر الحكيم 615 العبرة من قصة نوح عليه السلام 620 قصة هود عليه السلام 623 ذكر بعض الأنبياء 626 المبادئ العامة في الرسلات 629 المؤمنون المسارعون في عمل الخير 631 الكفار وأعمالهم وأسبابها 633 إصرارهم على الشرك رغم ظهور الأدلة 637 ليس لله ولد وليس له شريك 641 توجيهات إلهية للحبيب المصطفى 642 من مشاهد يوم القيامة 643 سورة النور- افتتاح السورة 646 الزنا وحده 650 القذف بالزنا 654 قذف الرجل زوجته 656 قصة الإفك 659 نهاية القصة 667 الاستئذان وآدابه 670 آية الحجاب 673 من علاج أزمة الزواج 676 الله نور السموات والأرض 681 المنتفعون بنور الحق تبارك وتعالى 684 المحرمون من نور الحق 685 انقياد الكون لله 687 وجود الضلال رغم الآيات الناطقة 689 هؤلاء هم المؤمنون المتمثلون 693 دولة المؤمنين 695 آداب لمن يعيشون في بيت واحد 697 آداب إسلامية 700 من آداب الجماعة نحو الرسول صلّى الله عليه وسلّم 702 سورة الفرقان- لا معبود بحق في الوجود إلا الله 705 شبهاتهم في القرآن والنبي صلّى الله عليه وسلّم والرد عليهم 708 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 882 رد عليهم وبيان لحالهم يوم القيامة 711 من مشاهد يوم القيامة 713 بعض سوءاتهم وعاقبتها 716 من مشاهد يوم القيامة أيضا 718 من سوءاتهم أيضا 720 قصص بعض الأمم التي كذبت رسلها 722 من قبيح أعمالهم 725 بعض الظواهر الكونية التي تدل على وجود الله ونعمه علينا 726 من دلائل التوحيد وجميل الأنعام وكريم التوجيه للنبي صلّى الله عليه وسلّم 730 من صفات المؤمنين 734 من صفاتهم أيضا 737 سورة الشعراء - موقف المشركين من الدعوة الإسلامية 742 قصة موسى مع فرعون وملئه 745 قصة إبراهيم 755 قصة نوح مع قومه 760 قصة هود مع قومه 762 قصة صالح مع قومه ثمود 765 قصة لوط مع قومه 768 قصة شعيب مع أصحاب الأيكة 770 الحديث عن القرآن وموقف المشركين منه 772 نصائح ربانية 776 الرد على من يصف النبي صلّى الله عليه وسلّم بأنه كاهن أو شاعر 778 سورة النمل- افتتاح السورة بالكلام عن القرآن وأثره 781 موسى بالوادي المقدس 783 من نعم الله على داود وسليمان وقصة النملة 785 قصة الهدهد أو بلقيس 788 صالح مع قومه ثمود 794 قصة لوط مع قومه 797 الشواهد الدالة على الوحدانية والقدرة 798 اعتقادهم في البعث 802 القرآن الكريم والنبي صلّى الله عليه وسلّم 804 من مناظر يوم القيامة مع ذكر مقدماته 806 من علامات يوم القيامة 809 ختام سورة النمل 811 سورة القصص- افتتاح السورة والكلام على قصة فرعون 813 قصة موسى 816 ولادته وإرضاعه 816 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 883 سبب خروجه من أرض مصر 820 أرض مدين ونزوله بها ومصاهرته للشيخ 823 قضى موسى الأجل وسار بالوادي المقدس 826 محاجته لهم وعناد فرعون وآله وعاقبتهم 829 الحاجة إلى إرسال الرسل 833 المؤمنون من أهل الكتاب 836 رد بعض مزاعم المشركين 837 بعض مواقف المشركين يوم القيامة 841 الله سبحانه وتعالى يتصف بصفات الجلال والكمال 843 قصة المال وتأثيره في النفس الإنسانية 846 البشرى بالعودة إلى مكة 852 سورة العنكبوت 854 مدى فتنة الكفار للمؤمنين وتهديد الله للكفار وللمنافقين 858 نوح وقومه 862 قصة إبراهيم وقومه 863 قصة لوط مع قومه 867 قصص مدين وعاد وثمود وغيرهم 870 مثل اتخاذ الأصنام آلهة 872 آداب إسلامية 874 الجزء: 2 ¦ الصفحة: 884 [ الجزء الثالث ] [ بقية سورة العنكبوت ] كيف ندعو أهل الكتاب إلى الإسلام [سورة العنكبوت (29) : الآيات 46 الى 49] وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) المفردات: وَلا تُجادِلُوا المجادلة: المناقشة يَجْحَدُ الجحد: إنكار الشيء بعد معرفته لَارْتابَ: لشك الْمُبْطِلُونَ: غير المحقين فيما ذهبوا إليه. وهذا شروع في إرشاد أهل الكتاب ومعالجتهم ودعوتهم إلى الدين الحق دين الفطرة السليمة، وأهل الكتاب هم اليهود والنصارى أتباع موسى وعيسى عليهم السلام، وهم قوم يقولون بوجود الله واليوم الآخر والتصديق ببعض الكتب والأنبياء، هذه عقائدهم الأساسية، وإن حاولوا طمسها في بعض الأحيان والأحوال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 1 وهذه الآية تدعونا إلى البحث في واجب المسلمين نحو دعوتهم ونشر دينهم، وماذا يكون موقفهم أمام معارضيهم وأعدائهم، في هذا الموضوع كتبت أنا وزميل لي بحثا تاما كاملا في مشروعية القتال سيطبع قريبا إن شاء الله. والخلاصة أن علينا نشر الدعوة لأنها دعوة عامة شاملة صالحة لكل زمان ومكان وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ.. [سورة الأنعام آية 19] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً [سورة الأعراف آية 158] . والذي ندعوه إن قبل الإسلام فقد كفى الله المؤمنين القتال، وإن حاربنا ووقف في طريقنا وكمّم أفواه دعاتنا لا سيما إن كان من مشركي العرب الذين بالغوا في عداوة الإسلام حاربناه، ودعوتنا إلى الإسلام أولا تكون بالحكمة والموعظة الحسنة. لهذا لا نعجب إن رأينا آيات في القرآن تحثنا على الدعوة إلى الإسلام بالحسنى وآيات تأمرنا بالقتال وتحث عليه فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ.. [التوبة 5] . المعنى: ادع إلى سبيل ربك، وانشر دينه بالحكمة والموعظة الحسنة، فإن رأيت ممن تخاطبه إعراضا وشكا فيما دعوته إليه أو جحدا وإنكارا فجادلهم بالتي هي أحسن واعلم بأن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله فيجازيه على عمله، ولا شيء عليك أيها الداعي، فإن تحرجت المسألة وانتهت إلى جدال بالعنف والشدة والقتال على أنهم هم البادئون لا أنتم أيها المسلمون، فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم على الأذى في أول الأمر لهو خير للصابرين. ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالطريقة التي هي أحسن من أختها عملا بقوله تعالى ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فصلت 34] . وأهل الكتاب منهم المعتدلون في آرائهم ومعتقداتهم البعيدون عن الشرك وإثبات الولد والتثليث، وهؤلاء يؤمنون بالله وبكتابهم ونبيهم وباليوم الآخر فليس بيننا وبينهم إلا الإيمان بمحمد مع عيسى أو موسى، وأظن أن هؤلاء بعد توفيق الله لهم وشرح صدورهم للإسلام لا يحتاجون إلا إلى نقاش بسيط وجدال بالتي هي أحسن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 2 ومن أهل الكتاب قوم خلطوا بين التوحيد والتثليث، وحرفوا في الكتب وغيروا، ونسبوا لله ولدا أو شريكا وهؤلاء قد ضلوا السبيل، وعموا عن الطريق، ومع هذا فيأمرنا الدين بدعوتهم بالتي هي أحسن، لأن الإسلام يحترم حرية الرأى والعقيدة ويطلب من الناس أن يعاملوه بها، وهو بدوره يعامل الناس بها. نعم إذا سلك أهل الكتاب طريقا معوجا بأن نقضوا العهود. وألّبوا الناس ضد الإسلام، ووقفوا في سبيل نشر دعوته بالقوة، ومنعوا دعاته بالعنف والشدة فلم يسلكوا في رد الإسلام الحجة والبرهان بل سلكوا سبيل القوة والبطش، أليس هؤلاء قد ظلموا وتجاوزوا الحد المعقول؟ أمن العدل والكرامة أن يقف الإسلام منهم موقف الخزي والذل، ويطأطئ رأسه احتراما لظلمهم وعنفهم؟ كلا وألف كلا! فلن يقف الإسلام موقف المتفرج ممن يهدم بيته ويقض مضجعه- ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ورجاله يبغون إحدى الحسنين- بل يقابل الشدة بمثلها ويمنع الظلم بالقتال. وانظر إلى تأديب القرآن وإرشاده لنا بأن نقول عند الجدال بالحسنى: نحن يا أهل الكتاب آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم، وآمنا بأنبيائكم ورسلكم فنحن قوم لم نفرق بين نبي ونبي، ولم نؤمن ببعض الكتب دون بعض، على أن الكل يؤمن بالله الأحد الفرد الصمد، ونحن له مسلمون ومنقادون فما المانع أن تكونوا كذلك؟ وتؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم على أنه خاتم الأنبياء، ورسالته ناسخة لكل الرسالات، فالدستور الجديد ينسخ العمل بالقديم. وقد بشر بالقرآن وبمحمد في كتبكم، ومثل ذلك الإنزال الذي أنزلناه على موسى وعيسى أنزلنا إليك يا محمد الكتاب. أى: القرآن، فليس من العدل أن نؤمن ببعض الكتب ونكفر ببعض، فالذين آتيناهم الكتاب كموسى وعيسى وداود يؤمنون بالنبي محمد وبكتابه بل وبشروا به وأمروكم بتصديقه إذا ظهر بعلاماته المعروفة عندهم. ومن هؤلاء، أى: أهل الكتاب المعاصرين من يؤمن به ويصدق لأنه آثر الباقية على الفانية، ولم تغره الدنيا بزخارفها كأمثال عبد الله بن سلام، وتميم الأنصارى وغيرهم كثير. وما يجحد بآياتنا الظاهرة التي تدل على صدق رسولنا محمد إلا الكافرون، وأنتم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 3 يجب أن تكونوا بعيدين عن الكفر إذ أنتم من الموحدين الذين كنتم تستفتحون بهذا النبي العربي على الذين كفروا. وها كم دليلا آخر على صدق محمد في رسالته، ولعله أوضح مما مضى: يا أهل الكتاب ويا أتباع الأنبياء وأصحاب الكتاب. هذا النبي العربي وصفه عندكم أنه أمى، ما كان يتلو كتابا، ولا يخط بيمينه حرفا، ولم يجلس إلى معلم، ولم يستمع إلى مدرس ومع هذا فقد أتى بالقرآن المعجز في أسلوبه وعلومه، وقصصه وأحكامه وتشريعه، أليس في هذا دليل على صدقه؟! على أنه إذا كان قارئا عالما ثم أتى بهذا القرآن المحكم، ذلك الكتاب الكامل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ما كان يصح أن يرتاب في صدقه إلا المبطلون، فإن جميع علماء الأرض لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ومعينا، فكيف يرتاب إنسان في أن هذا القرآن نزل من عند الله على محمد، وهو المعجزة الشاهدة على صدقه إلى الأبد، ولا يشك في هذا إلا رجل غير محق في رأيه، بل هو آيات بينات واضحات في صدور الذين أوتوا العلم والمعرفة، ولذا ورد.. «هذه الامّة أناجيلهم في صدورهم» وبعد هذا ما يجحد بآيات ربك إلا الظالمون الذين يعرفون الحق ثم ينأون عنه حسدا من عند أنفسهم وبغيا. وأنتم يا أهل الكتاب إذا جحدتم هذه الآية، وكفرتم بتلك الرسالة المحمدية لزمكم إنكار الرسل والكفر بالكتب كلها. وكنتم ملحقين بالمشركين الظالمين، وما يجحد بآياتنا بعد ذلك إلا الظالمون. ذكر بعض الشبه والرد عليها [سورة العنكبوت (29) : الآيات 50 الى 55] وَقالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْلا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 4 المفردات: شَهِيداً: يشهد بصدق. أَجَلٌ مُسَمًّى: معلوم محدد بَغْتَةً: فجأة يَغْشاهُمُ: يصيبهم. المعنى: وقالوا: لولا أنزل على النبي صلّى الله عليه وسلّم آيات من ربه، تكون دليلا على صدقه، ومعجزة بينة له تثبت أنه رسول من عند الله، وكأنهم لم يكتفوا بالقرآن على أنه معجزة مع أنه أكبر شاهد على صدق الرسول كما مضى من قبل. ومن الذي قال ذلك؟ أهم مشركو مكة أم أهل الكتاب؟ قال بعض العلماء: إنهم المشركون! وقال بعضهم: هم أهل الكتاب لأن الكلام معهم والرد عليهم. وقد رد الله على من يطلب آية فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: إنما الآيات التي تطلبونها عند الله وليس عندي شيء منها، إنما وظيفتي الإنذار فقط، ومن شاء فليؤمن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 5 ومن شاء فليكفر، طلبوا من النبي آيات كفلق البحر، وانقلاب العصا حية إلى آخر ما مضى من الآيات التسع التي أنزلت على موسى، وكالآيات التي أنزلت على عيسى من إحياء الموتى وإبراء المرضى إلى آخر ما عرفت، فرد الله عليهم أيضا لافتا نظرهم إلى القرآن الذي هو المعجزة الباقية فقال: أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم، وقد تحداهم ربك أن يأتوا بمثله أو بسورة منه وأن يتعاونوا في ذلك مجتمعين مع شهدائهم وأوليائهم فعجزوا عن هذا مع التحدي الشديد اللهجة، وهم قوم عرب يؤلمهم جدا أن يهزموا، أفلا يكفيهم هذا معجزة؟ ولو أتاهم ربك بآيات كآيات موسى وعيسى لقالوا: سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون!! على أنهم قوم عرب نبغوا في صناعة البلاغة والبيان فيكونون أقدر الناس على فهم حقيقة الإعجاز فيه، كسحرة فرعون بالنسبة إلى عصا موسى. لا يا قوم! إن في ذلك الكتاب لرحمة، وأى رحمة أكثر من هذا؟ وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً وإنه لذكرى وأى ذكرى؟ فهو الباقي، وكل آية مادية تفنى، وهل يكون غيره دليلا على صدق رسالة باقية إلى الأبد؟ فهو الآية المستمرة الباقية على مر الدهور والسنين بخلاف ناقة صالح، وعصا موسى، وإبراء الأكمه من عيسى- عليهم جميعا الصلاة والسلام- نعم هو الكتاب الذي يتلى، وهو الآية التي لا تنقضي عجائبها، ولا تخلق جدتها، بل كلما تقدم الزمن وتقدم العلم ظهرت أسرار الشريعة، وحقائق القرآن واضحة جلية سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ.. [سورة فصلت آية 53] . هو رحمة وذكرى وعظة وعبرة ولكن لقوم يؤمنون. قل لهم يا محمد: كفى الله شهيدا، وكفاه بيني وبينكم حكما مقسطا يشهد بصدقى وهو العليم الخبير بخلقه، ويعلم ما في السموات والأرض، وأنا أدّعى أنى رسوله فلو كنت كاذبا لقطع منّى الوتين، ولخسف بي وبداري الأرض، وكنت من المهلكين، وكيف يكون ذلك. وهو يرعاني ويكلؤنى بعين لا تنام، ويحرسنى بيد لا ترام!! والذين آمنوا بالباطل، وصدقوا بالتّرهات والأراجيف، والذين كفروا بالله، أولئك جميعا هم الخاسرون، أما الأولون فهم أهل الكتاب الذين لم يتبعوا الحق، وأما الآخرون فهم المشركون الضالون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 6 ويستعجلونك بالعذاب الذي وعظتهم به، وخوفتهم من عاقبته، وسقت لهم القصص ليعتبروا بمن سبقهم، ولولا أجل معلوم، ووقت محدود، وأن لكل أجل كتابا، وكل شيء عند ربك بمقدار. لولا هذا كله لجاءهم العذاب عاجلا، وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون، وقد أتاهم ببدر وفي مشارف المدينة من قوم أخرجوا من ديارهم، وأخذت أموالهم وحصروا في الشعب ثلاث سنين ذاقوا فيها الأمرّين. يا عجبا لهم يستعجلونك بالعذاب، وإن جهنم لمحيطة بهم، يوم يغشاهم العذاب من كل جانب، ويصب عليهم من فوقهم، ومن تحت أرجلهم، وما عهدوا نارا تأتى من فوق ومن أسفل، ولكنها نار وقودها الناس والحجارة. ثم يقال لهم- تأنيبا وتوبيخا- ذوقوا جزاء ما كنتم تعملون. توجيهات إلهية للمسلمين [سورة العنكبوت (29) : الآيات 55 الى 64] يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55) يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 7 المفردات: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ لننزلنهم غُرَفاً الغرف: جمع غرفة، وهي الحجرة وَكَأَيِّنْ أى: كم بمعنى كثير من الدواب سَخَّرَ: ذلل دَابَّةٍ: كل ما دب على وجه الأرض من الحيوان يقال له دابة يُؤْفَكُونَ يصرفون يَقْدِرُ لَهُ يضيق عليه، أى: يقتر عليه رزقه لَهْوٌ اللهو: الاشتغال بما لا يعنى وما لا ينفع عن النافع المفيد، وفي المصباح: اللهو الترويح عن النفس بما لا تقتضيه الحكمة، واللعب: هو العبث الْحَيَوانُ: الحياة الدائمة الخالدة الجديرة باسم الحياة. المعنى: بعد ما وفي الحق- تبارك وتعالى- الكلام على المشركين وأهل الكتاب أخذ يوجه نصائح للمسلمين، وهم في أشد الحاجة إليها، وخاصة حينما جاهروا بالدعوة واشتد إيذاء الكفار لهم في مكة، وهذه التوجيهات تهدف إلى خلق المؤمن الكامل الذي يبيع نفسه وماله ووطنه في سبيل إعلاء كلمة الله. يا عبادي الذين آمنوا بالله ورسوله إن أرضى واسعة فهاجروا فيها وفروا بدينكم من عنت المشركين أعداء الله وأعدائكم، يا عبادي إن ضاق بكم موضع فإياى فتوجهوا لأن أرضى واسعة. وهذا تحبيب للمسلمين في الهجرة مع رسول الله، وكانت واجبة قبل فتح مكة ثم بعدها لا هجرة، وإنما المهاجر من هجر ما نهى الله عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 8 وفي هذه الأيام لا هجرة من بلد إلى بلد كما يهاجر سكان شمال أفريقيا إلى بلاد الحجاز خوفا من عنت الفرنسيين، لا يا قوم، اثبتوا في مكانكم وتجمعوا مع إخوانكم وشقوا لأنفسكم الطريق، وتمسكوا بدينكم تفوزوا على أعدائكم. وإلا فسيكون مآل بلاد الإسلام إلى تسليمها للأعداء، فالآية نزلت في الهجرة قبل الفتح لا في الهجرة مطلقا في كل وقت ومن أى بلد. وها هي ذي المرغبات في الجهاد والهجرة في سبيل الله يسوقها الله فيقول: كل نفس مهما كانت لا بد أن تذوق الموت، وإذا لم يكن من الموت بد فمن العار أن تجعل الخوف من الموت سببا في الخضوع والذلة، والمكث في دار الكفر حبا في الدنيا مع أنك مفارقها حتما وميت حتما، وإلى الله وحده ترجع الأمور كلها، فمن العقل أن تعمل لذلك اللقاء، وتدخر ليوم الحساب ما تقدم من صالح الأعمال. وها هم أولاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبوئنهم من الجنة أماكن عالية ولننزلنهم فيها غرفا تجرى من تحتها الأنهار، وخالدين فيها وذلك جزاء المحسنين، ونعم أجر العاملين أجرهم. وهم الذين صبروا على الأذى ما دام المصير خيرا للدين والدعوة، وعلى ربهم يتوكلون إن سافروا وهاجروا في سبيل الله أو قاموا بعمل نافع. وإذا كان الأمر كله بيد الله، وهو الرزاق ذو القوة المتين، فاعلم أنه يرزق من ليس له حيلة حتى يعجب صاحب الحيلة، ويرزق الطير يغدو خماصا ويروح بطانا نعم كم من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها من حيث لا تعلم، ويرزقكم يا أيها المهاجرون وإن لم يكن معكم زاد ولا نفقة، وهو السميع لكل قول، العليم بكل فعل، وهذا غرس لمبدأ التوكل على الله، وقد كان ذلك كذلك فقد هاجر المسلمون إلى المدينة ثم فتح الله لهم الدنيا. ومن الغريب لئن سألتهم من خلق السموات والأرض، وما فيهما من عوالم لا يعلمها إلا خالقها؟ ومن سخر الشمس والقمر تسخيرا يحير العقول في إدراك سره ونظامه؟، فتسخير الشمس والقمر بهذا الوضع الذي ينشأ منه الليل والنهار، والفصول السنوية من صيف وشتاء وربيع وخريف أدل على كمال القدرة وتمام العلم وحسن النظام من نفس خلق الشمس والقمر، ولعل هذا هو السر في تعبير القرآن بسخر، ولئن سألتهم عن هذا ليقولن الله فكيف تصرفون عن التوحيد إلى الإشراك؟! كيف تقرون بأن الله خالق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 9 هذا الكون، ومدبر هذا الوجود ومنظمه، ثم تشركون معه في الربوبية آلهة لا تسمع ولا تبصر ولا تضر ولا تنفع؟!! والله سبحانه هو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويوسعه، ويضيق الرزق على من يشاء ويقتر عليه سواء كان في بلده ووسط أهله وعشيرته أو هاجر إلى بلد ناء بعيد، إن الله بكل شيء عليم. ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به موات الأرض، وعطاش الحيوان؟ ليقولن الله! عجبا لهم فكيف يشركون معه غيره؟! قل لهم: الحمد لله قد لزمتكم الحجة، وقد أقررتم بذلك. والحمد لله على ما أنزل من مطر أحيا به الأرض بعد موتها، الحمد لله على كل حال. بل أكثرهم لا يعقلون إدراك هذه الأسرار. وما هذه الحياة الدنيا التي يتكالب عليها الناس إلا لهو ولعب، فهي في حقارتها وسرعة زوالها وانقضائها، وأنه لا خير فيها ولا دوام لها كاللهو واللعب، وإن الدار الآخرة لهى الحياة الدائمة، الحياة الكاملة التي لا زوال فيها ولا انقضاء، لو كانوا يعلمون ما يبقى على ما يفنى، وفي هذا أيضا تنفير من الدنيا وتحبيب في العمل الصالح. وتربية سليمة لخلق المؤمن الكامل صاحب المثل العليا الذي يستحق من الله وصفه بالعبودية له. بيان حال الكفار في الشدة والرخاء [سورة العنكبوت (29) : الآيات 65 الى 69] فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 10 المفردات: الْفُلْكِ: السفينة في البحر مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ: صادقين في نياتهم حَرَماً آمِناً: حرما ذا أمن وطمأنينة مَثْوىً: مأوى ومستقر يُتَخَطَّفُ الخطف: الأخذ بسرعة، والمراد: يقتل بعضهم بعضا بسرعة ويسبى بعضهم بعضا أَظْلَمُ الظلم: وضع الشيء في غير موضعه. المعنى: هذه الحياة الدنيا التي هي لهو ولعب هي السبب في كفر هؤلاء وشركهم وذلك أنه إذا انقطع رجاؤهم من الدنيا بسبب من الأسباب كأن ركبوا في الفلك واضطرب البحر وعصفت الريح، وتيقنوا الغرق، إذا حصل هذا رجعوا إلى الفطرة الشاهدة بالتوحيد، ودعوا الله مخلصين له النية، صادقين بحسب الظاهر في الدعاء، وفي الحقيقة قلوبهم مشحونة بالشرك بدليل أنه إذا نجاهم إلى البر عادوا إلى ما كانوا عليه من حب الدنيا وأشركوا فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ. وكانت العاقبة أنهم كفروا بالله، وبما آتاهم من نعمه، وبما حباهم من فضل، لتكون عاقبتهم أيضا أنهم يتمتعون في الدنيا متاعا هم مهددون فيه بالفقر والمرض والموت، وفي الآخرة سوف يعلمون عاقبة ذلك كله لأنهم سيجازون الجزاء الأوفى على أعمالهم. عجبا لهؤلاء! يدعون الله مخلصين له الدين إذا كانوا في حال شديدة من الخوف والاضطراب، وعندئذ يضلون عن الأصنام والأوثان، فإذا أمنوا على أنفسهم وزال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 11 الخطر عنهم يكفرون بالله ويدعون الأوثان.. إن هذا لعجيب فإن حالهم متناقضة إذ دعاؤهم الله في الضراء دليل على أنهم يثقون أن النعمة ودفع الأذى منه وحده، فما بالهم وقد عادوا إلى السراء، وحلوا بالأوطان يكفرون بالرحمن.. ويعبدون الأوثان؟! أعموا ولم يعلموا أن الله- سبحانه وتعالى- هو الذي جعل حرمهم مكان أمن وطمأنينة يأمن فيه الخائف، ويسكن فيه المضطرب، ويتخطف الناس من حوله بالسرقة والقتل، والسلب والنهب. أعموا ولم يعلموا أن صاحب الفضل في الشدائد الذي أنجاهم من المخاوف هو الله الذي حباهم بالنعمة، وأسكنهم الحرم الأمين؟ عجبا لهم! أبالباطل وما لا خير فيه بل ما فيه الضرر يؤمنون، وبنعمة الله وفضله يكفرون؟! ولما بين الله- سبحانه- الصراط المستقيم الموصل إلى الجنة، والطريق المعوج الموصل إلى النار، وحذر الناس من اتباعه، وحثهم على سلوك طريق الحق والنور، لما بين الله هذا وذاك أمر نبيه أن يقول للناس: لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب. وها أنذا أدعى أنى رسول الله وأن ما أنزل على هو كتاب الله، وبعضكم كذبني، ولا يخلو الحال من أمرين لا ثالث لهما: إما أننى كاذب في دعواي وقد افتريت على الله الكذب، وإما أنكم قد كذبتم بالحق لما جاءكم من عنده، لكنني معترف بالحساب والجزاء لمن كذب على الله فلا يعقل أن أقدم على ذلك إذا في القرآن الذي نزل على أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ والمتنبي الكاذب كافر بلا شك. وأما أنتم فقد كذبتموني وكفرتم بالله وباليوم الآخر، وفي جهنم مثوى القوم الكافرين أمثالكم. وأما أنتم أيها المؤمنون فلا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون، فإن الذين جاهدوا في سبيل الله بأموالهم وبأنفسهم أو بما قدروا عليه فالله هاديهم وموفقهم، وحافظهم وراعيهم، وهو معهم، وناهيك بالمعية القدسية، والقرب من الحضرة العلية، وذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده، وربك ذو فضل عظيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 12 سورة الروم مكية، وعدد آياتها ستون آية: وهي تدور حول إثبات أن الأمر لله من قبل ومن بعد، مع ذكر بعض صفات الله الواجبة له، وتهديد المشركين، وبيان أن الإسلام دين الفطرة، وبيان طبيعة الإنسان، ويلاحظ فيها ذكر الآيات الكونية الدالة على العلم والقدرة والوحدانية كثيرا. من أخبار الغيب [سورة الروم (30) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7) المفردات: الم فيها ما مر في أخواتها من حيث القراءة والمراد الرُّومُ: هي مملكة الرومان وعاصمتها القسطنطينية فِي أَدْنَى الْأَرْضِ المراد أقرب الأرض إلى العرب من جهة الشام مما يلي فارس فِي بِضْعِ سِنِينَ البضع: ما بين الثلاثة إلى التسع من السنين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 13 نزلت هذه الآيات عند ما غزا الفرس الرومان، وغلبوهم في مشارف الشام مما يلي بلاد العرب، ففرح بذلك مشركو العرب إذ قالوا: إن الفرس لا كتاب لهم مثلنا، والرومان لهم كتاب مثلكم لأنهم من النصارى، ولننتصرن عليكم كما انتصر الفرس فحلف أبو بكر بعد نزول الآية أن الرومان سيغلبون الفرس بعد هزيمتهم هذه، فقالوا له: اجعل لنا موعدا ونراهنك على ذلك، فضرب موعدا بسيطا، ثم استشار النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له: زد في الرهان ومد الأجل فإن البضع من ثلاث إلى تسع. ففعل وانتصر الرومان في السنة التاسعة، وأخذ أبو بكر الجعل، وتصدق به. المعنى: الم. غلبت الفرس الروم، ولكن الروم من بعد غلبهم وهزيمتهم سيغلبون الفرس، وذلك في بضع سنين، وتلك الأيام نداولها بين الناس، وكانت هاتان الدولتان هما المسيطرتان على العالم في ذلك الوقت، إحداهما في الشرق وهي فارس والأخرى في الغرب وهي الروم، وقد كانتا تتنازعان على السيادة على بلاد لستام وغيرها. ولله الأمر كله من قبل هذا ومن بعده، إذ الكل منه وإليه، فلو كان الانتصار عن قوة ذاتية لما تخلف، ولو كانت الهزيمة عن ضعف ذاتى لما تخلفت، ولكنها إرادة الله وقدرته، فاعتبروا يا أولى الأبصار! فلا تغرنكم قوتكم يا قريش ولا تستهينوا بقوة المسلمين على ضعفهم، فلله الأمر من قبل ومن بعد، وأما أنتم أيها المسلمون فثقوا بالله واعتمدوا عليه، وتوكلوا فهو نعم المولى ونعم النصير. ويومئذ ينتصر الروم وهم أهل الكتاب على فارس الوثنية يفرح المؤمنون لتحقق وعد الله، إنه ينصر من يشاء، وهو العزيز يعز أولياءه بقوته وقدرته. الرحيم بخلقه لا يدع القوى يتحكم في الضعيف. وعدهم الله وعدا، ووعده لا يتخلف، وكيف يتخلف؟ وهو وعد من هو عالم بالأمور بواطنها وظواهرها، قادر على كل شيء، وله الأمر من قبل ومن بعد، فثقوا أيها الناس بوعد الله فإنه متحقق لا محالة، وما يحصل لكم أيها المسلمون فهو ابتلاء واختبار، وتربية وتهذيب وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ [آل عمران 141] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 14 ولكن أكثر الناس لا يعلمون ذلك، وهم يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا، أى: يعلمون جانبا ظاهريا فقط في الدنيا، وهو التمتع فيها مع الغرور بها وهم لا يعلمون بواطنها وأسرارها وحقيقتها، على أنها طريق الآخرة ومزرعتها، وأنها فانية غير باقية وبعضهم يفسر الآية على أن أكثر الناس لا يعلمون العلم النافع المفيد، العلم المنجى من يوم القيامة وعذابه، ولكنهم يعلمون علوم الدنيا الظاهرة، العلوم المادية التي بها يستخدمون الدنيا وما فيها من عناصر. وهم عن الآخرة وما فيها من أهوال الحساب والجزاء، وما أعد فيها للصالحين والفاسقين من نعيم مقيم، وعذاب مهين. هم عن هذا كله غافلون لم يعملوا لذلك أبدا. لفت أنظار المشركين وتهديد لهم [سورة الروم (30) : الآيات 8 الى 16] أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَجاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10) اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَكانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 15 المفردات: وَأَثارُوا الْأَرْضَ: حرثوها وزرعوها السُّواى: مؤنث الأسوأ، والمراد بها النار يُبْلِسُ أبلس الرجل: إذا سكت وانقطعت حجته، ولا يؤمل أن تكون له حجة، والمبلس: الساكت المنقطع في حجته، اليائس من أن يهتدى إليها رَوْضَةٍ الروضة: الجنة، وأصلها النبات حول الغدير من البقول يُحْبَرُونَ: ينعمون ويسرون، من الحبور وهو السرور. ما سبق يفيد أنهم ينكرون ما يجب لله بإنكار تحقيق وعد الله. وأنهم ينكرون اليوم الآخر لأنهم عن الآخرة غافلون، وفي هذا بيان أن ذلك الجهل والتقصير وعدم وضع الأمور في نصابها راجع لهم، وإلا فأسباب العلم الصحيح والفكر السليم الموصل إلى الحقائق الواجبة لله موجودة معهم، بل هي في نفوسهم وما حولهم. المعنى: أعموا ولم يتفكروا في أنفسهم من الذي خلقها فسواها؟ ومن الذي قدرها فهداها؟ أو لم يتفكروا في أنفسهم، وما انطوت عليه من دقائق ودلائل شاهدة على أن هذا الخلق خلق الله، وأن هذا التركيب العجيب تركيب الخبير البصير القوى الحكيم، إنك إن نظرت في نفسك إلى جهاز الإحساس لرأيت عجبا، أو إلى جهاز الدورة الدموية، وكيف تخرج من القلب ثم تتفرع إلى فروع فشعيرات تصل إلى جميع أجزاء الجسم ثم تتجمع ثانية في شعيرات ثم في فروع إلى القلب والرئة لتصهر وتخرج نقية نظيفة صالحة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 16 للحياة، وهكذا وهكذا من ذلك كثير كما يعرفه علماء الطب والتشريح، ولقد صدق الله حيث يقول: وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ [سورة الذاريات آية 21] . أو لم يتفكروا في أنفسهم، وهي أقرب الأشياء إليهم فيعلموا أن خلق السموات والأرض وما فيها لا يمكن أن يكون إلا وفق حكمة الحكيم وتدبير الخبير البصير وأنه لا بد لهذا الكون من آخر، وله نهاية ينتهى إليها للحساب والعقاب، وأنه لا يعقل أبدا أن يخلق عبثا إلا لحكمة أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون 115] . وقيل: أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ معناه: أو لم يحدثوا التفكير في أنفسهم وفي قلوبهم الفارغة الخالية من الفكر والتفكير فيعلموا أنه ما خلق السموات والأرض إلا بالحق، أى: ما خلقهما باطلا وعبثا بغير غرض صحيح، وحكمة بالغة، وإنما خلقهما خلقا مقرونا بالحق مصحوبا بالحكمة، والتقدير إلى أجل مسمى عنده، ينتهى إلى قيام الساعة. وإن كثيرا من الناس بعد هذا كله بلقاء ربهم لكافرون وجاحدون. ثم انتقل بعد هذا إلى الدلائل المحسوسة والشواهد الناطقة بهلاك أمثالهم ومن هم أشد منهم قوة وأكثر مالا، وإثارة للأرض حتى عمروها لعلهم يعتبرون. أو لم يسيروا في الأرض فينظروا إلى آثار من قبلهم من عاد وثمود وغيرهم من الأمم العاتية وقد كانوا أشد من كفار مكة قوة في المال والرجال! وكانوا أصحاب زرع وضرع، وعمارة وبناء، وقد عمروا الأرض أكثر مما عمرها العرب، وقد جاءتهم رسلهم بالبينات، وأمروهم بالمعروف، ونهوهم عن المنكر، فلما كذبوا رسلهم أخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر وما كان الله ليظلمهم، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون. ثم كان عاقبة الذين أساءوا هي السوأى، أى: أن ما تقدم من الهلاك كان عقابا لهم في الدنيا، وأما في الآخرة فلهم السوأى، أى: جهنم، لأنهم كفروا برسلنا وكذبوا بآياتنا، وكانوا بها يستهزئون، فانظروا يا آل مكة إلى أنفسكم، فأنتم أولى بالهلاك في الدنيا والعقاب الشديد في الآخرة فهل من مدكر؟؟ ولا غرابة في ذلك فالله يبدئ الخلق ثم يعيده، ثم إليه ترجعون، واذكروا يوما ترجعون فيه إلى الله، ويبلس فيه المجرمون، من شدة الأهوال فيسكتون وتنقطع عنهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 17 الأخبار، ولم يكن لهم من شركائهم شفعاء يشفعون لهم أو يردون عنهم عذابا أو ألما، وكانوا بشركائهم وآلهتهم كافرين في ذلك اليوم. ويوم تقوم الساعة يومئذ يتفرقون فمنهم شقي، ومنهم سعيد. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم في روضة من رياض الجنة فيها يحبرون ويسرون سرورا أبديّا بما يؤتون فيها من نعم مقيم، ولهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، ولهم فيها ما يدعون فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ [سورة السجدة آية 17] ورضوان الله أكبر. وأما الذين كفروا وكذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة فأولئك في العذاب مقيمون، كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها، وقيل لهم: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون. أوقات التسبيح والعبادة [سورة الروم (30) : الآيات 17 الى 19] فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَكَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) المفردات: فَسُبْحانَ: علم على التسبيح، وهو التنزيه، وقيل: هو الصلاة تُمْسُونَ: تدخلون في المساء وهو انتشار الظلام وَعَشِيًّا العشى والعشية: من صلاة المغرب إلى العتمة، وقيل: العشاء: آخر النهار عند ميل الشمس إلى المغيب، وهو مأخوذ من عشا العين وهو نقص النور من الناظر، وذلك هو وقت العصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 18 لما بين الله- سبحانه- أن المقام الأعلى لمن آمن وعمل صالحا حيث قال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ قال: إذا علمتم ذلك فاعلموا أن الإيمان تنزيه بالجنان، وتوحيد باللسان وعمل صالح يشمل جميع الأركان، وكل هذا تنزيه وتقديس، وتحميد وتسبيح، فسبحان الله، أى: فسبحوا الله تسبيحا، علمه سبحان الله وهو بهذه المعاني إيمان وتوحيد وعمل- فإنه الموصل إلى الحبور، والجالب للسرور في جنان الخلد والنعيم. سبحوه حين تمسون، وحين تصبحون، وفي العشى وحين تظهرون، عن ابن عباس- رضى الله عنه-: «الصلوات الخمس في القرآن» قيل له: أين؟ فقال: «قال الله: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ صلاة المغرب والعشاء وَحِينَ تُصْبِحُونَ صلاة الفجر وَعَشِيًّا صلاة العصر وَحِينَ تُظْهِرُونَ صلاة الظهر» ولعل تخصيص هذه الأوقات للعبادة إشارة إلى ما يجب عمله في تحصيل المعاش وجلب الرزق فالإسلام دين الجد والعمل لا دين الرهبانية والكسل. ولله الحمد- سبحانه وتعالى- في السموات والأرض، نعم له الحمد من كل مخلوق، وهذه الجملة معترضة بين الأوقات للإشارة إلى أن هذا التسبيح لله في الصلاة إنما هو لأصحابه وألا يعود منه شيء على الله، فعليهم أن يحمدوه حمدا يوازى نعماءه وهدايته. والله- سبحانه وتعالى- يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، ويحيى الأرض بالنبات بعد موتها وجدبها، ومثل ذلك الإخراج والانتقال من حال إلى حال مخالفة تخرجون وتبعثون من موت وفناء إلى حياة خاصة للثواب والعقاب. وعلى هذا فالمراد بالتسبيح في الآية ما يعم الصلاة والتنزيه لله عن صفات النقص ووصفه بصفات الكمال والجلال، ولا شك أن الصلاة عماد ذلك الدين وعموده. ولعل المناسبة بين هذه الآية والآية التي قبلها أن الإنسان في الصباح يخرج من الموت الأصغر وهو النوم إلى الحياة، فكذلك تبعثون من الموت إلى الحياة الآخرة. وعن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «من سرّه أن يكال له بالقفيز الأوفى فليقل: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (الآية) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 19 بعض آيات الله الناطقة بقدرته ووحدانيته [سورة الروم (30) : الآيات 20 الى 27] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَمِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 20 المفردات: تَنْتَشِرُونَ أى: منتشرون في الأرض تبتغون من فضل الله لِتَسْكُنُوا إِلَيْها يقال: سكن إليه إذا مال إليه مَوَدَّةً وَرَحْمَةً قال السدى: المودة والمحبة والرحمة: الشفقة الْبَرْقَ: هو الشرارة الكهربائية التي تظهر في الجو وخاصة عند السحب، وينشأ عنها الرعد قانِتُونَ: مخلصون في طاعته الْمَثَلُ الْأَعْلى: الصفة العليا. وهذه بعض آيات الله الناطقة بوحدانية الله تعالى، الشاهدة بربوبيته، وأنه لا إله إلا هو، وأنه لا يستحق العبادة والتقديس سواه، وهذا كدليل على ما سبق من قوله فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ.. (الآية) . وقد ذكر الله- سبحانه وتعالى- في هذه الآيات بدء خلق الإنسان، وعمارته للأرض وبقاءه فيها بخلق الذكر والأنثى، ثم ذكر من مظاهر الكون السماء والأرض، ثم ذكر من لوازم الإنسان اختلاف ألسنته وألوانه، ومن عوارضه النوم والسعى في الرزق، ثم ذكر من عوارض السماء والأرض البرق والمطر، ومن لوازمهما قيامهما، وإنا نرى أن الله- سبحانه وتعالى- ذكر لفظ (ومن آياته) ست مرات جمع فيها بين بدء خلق الإنسان ونهايته خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ.. إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ. المعنى: ومن آياته الدالة على ربوبيته ووحدانيته أن خلقكم من تراب، على معنى أنه خلق أبانا من تراب، ثم خلق أبناءه من ماء مهين، ولنا أن نتوسع ونقول: نحن جميعا مخلوقون من تراب: أما أبونا آدم فظاهر فيه ذلك بنص القرآن الكريم، وأما ذريته فهم من ماء مهين، وهذا الماء من الدم، والدم من الغذاء. والغذاء يرجع في جملته إلى النبات، والنبات من الأرض، فتكون النتيجة أنا خلقنا من تراب، فإذا عبر القرآن بخلق البشر من التراب فهذا هو الأصل والأساس، وإن عبر بأنه خلقنا من ماء مهين فهذا هو الظاهر في ذرية آدم. خلقكم من تراب يابس جاف لا حياة فيه ولا نمو ولا حركة ثم مع هذا كله إذا أنتم بشر أحياء عقلاء مفكرون تتصرفون في قوام معايشكم، وعمارة أرضكم، واستخدام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 21 قوى الطبيعة لخدمتكم، أليس الله القادر على هذا كله بقادر على أن يحيى الموتى؟ بل إنه هو الواحد الأحد، القادر المنفرد بالألوهية! وانظر إلى تصوير القرآن ذلك التصوير العجيب المستفاد من قوله: (ثم إذا..) فإن كوننا بشرا يأتى بعد أطوار ذكرت في سورة المؤمنون وغيرها ولذا أتى بثم المفيدة للترتيب والمهلة فإنه بعد أطوار النطفة والعلقة إلى آخر ما مر فاجأ بالبشرية والانتشار. وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها، وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً [سورة الروم آية 21] . نعم من آياته أنه خلق لكم من أنفسكم نساء أنتم وهن سواء في البشرية والآدمية وفي الطباع العامة والغرائز، خلقهن الله بهذا الوصف لتسكنوا إليهن، فإن النفس ميالة إلى ما يوافقها ويلائمها ويلتقى معها في الغرض العام، وهذا معنى قوله: من أنفسكم. والإنسان الذي يجتمع مع المرأة في الحلال يدرك بوضوح معنى السكنى إليها والميل لها، والهدوء النفسي عند ما يزورها، ومن هنا سمى المكان الذي يلتقى فيه الرجل بالمرأة سكنا ومسكنا لأن فيه تسكن النفس وتهدأ، ويطمئن الرجل، ويستريح من وعثاء الطريق ومشاق الحياة الكادحة، وفي الحديث «إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتّى تصبح» . وجعل بينكم مودة ومحبة، وصلة روحية قوية قد تفوق في غالب الأحيان صلتك بأقرب الناس إليك، والشرع الشريف يلاحظ هذا جيدا في تقدير الميراث والنفقات والمخالطة الداخلية، والإسرار إلى الزوجات بذات الصدور. وجعل بينكم رحمة وشفقة، وعطفا عميقا، ليس مصدره الغريزة الجنسية والاتصال المادي، بل مبعثه اختلاط الأرواح، واتصال النفوس، والاجتماع لغرض واحد وبناء عش الزوجية على أسس كريمة، ودعائم قويمة هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ [البقرة 187] . إن ذلك لآيات ناطقة بوحدانية الله، وقدرته وحكمته. وأنه بصير، ولكنها آيات لقوم يتفكرون، لأن الفكر السليم يؤدى إلى الوقوف على تلك المعاني الحية في الحياة الزوجية، هذه يا أخى الحياة الزوجية الصالحة التي يمتن الله بها على عباده، أما ما يحدث من بعض الناس فهذا شيء لا يتحمله الدين، وليس عنوانا على الإسلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 22 ومن آياته خلق السموات والأرض: وما فيها من عوالم لا يعلمها إلا خالقها، ومن آياته كذلك اختلاف ألسنتكم في اللغات واللهجات، إذ كل سكان العالم من أصل واحد، ومن أبناء رجل واحد وامرأة واحدة، فمن الذي أوجد اختلاف اللغات واللهجات؟! إنهم يقولون: إن اللغة في الإنسان نشأت لمحاكاته للأصوات التي يسمعها في بيئته، وهذا معقول وجميل، ولكن الذي أودع في الإنسان قوة المحاكاة، وفي الطبيعة تلك الأصوات المختلفة أليس هو الله؟! ومن هنا تدرك السر في اقتران اختلاف الألسنة والألوان بخلق السموات والأرض. ومن آياته اختلاف الألوان والاتجاهات والمعاني النفسية والخلقية في كل نفس، وهذا الاختلاف يكون بين أبناء الرجل الواحد الذين عاشوا في بيئة واحدة. إن في ذلك كله لآيات للعالمين بأسرار الكون سمائه وأرضه علويه وسفليه، ونظام الجماعات والأفراد والعلماء بعلوم الاجتماع واللغات والأخلاق، وليس القرآن يخاطب بذلك الفلاسفة وحدهم. لا بل هو خطاب عام، ولكن فهم تلك الآيات فهما واسعا دقيقا إنما هو للعلماء، ولا يمنع أن غيرهم يدرك إدراكا متناسبا مع قواه، ولعل هذا هو السر في قوله تعالى عند خلق الإنسان وخلق الزوجات.. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وهنا.. قال: للعالمين. ومن آياته نومكم بالليل والنهار، وابتغاؤكم من فضله، وتصرفكم في طلب المعيشة بإرادته، نعم من آياته النوم بالليل والنهار. ولا شك أن النوم موت أصغر، وأن هذه الحساسية والتفكير والإدراك تختفى عند النوم الذي يلقى فيه الإنسان بنفسه بين أحضانه فيترك الدنيا ويستريح جزءا من الوقت يكون فيه أشبه بالميت ثم يعود ثانية إلى الحياة نشيطا مجدّا بلا كسل ولا ملل يبتغى من فضل الله ويسعى لجلب الرزق، فهذه القوى العقلية، وأجهزة الإدراك أين ذهبت حساسيتها؟ وكيف تعود؟ إن في ذلك لآيات شاهدة على الألوهية ولكن لقوم يسمعون القول فيتبعون أحسنه. ومن آياته يريكم البرق الخاطف الذي يظهر بين السحب المتراكمة المحملة بالماء والذي يبهر الأنظار، أى: يجعلكم ترون البرق خائفين من صواعقه وأمطاره الضارة طامعين في خيره وبره، والله- سبحانه- هو الذي يعلم الضار والنافع، وهو الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 23 خلق الخلق على أوضاع: فمنهم من يخاف المطر، ومنهم من يرجوه، وسبحانه من أودع في كل قلب ما أشغله! وهو ينزل من السماء ماء فيحيى به الأرض بعد موتها إن في ذلك لآيات لقوم يستخدمون عقولهم في إدراك تلك الحقائق الكونية، وكيف توجد النار وسط السحب، والنباتات في الأرض القاحلة، فلا غرابة أن توجد حياة بعد الموت والفناء. ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره، فهو وحده الذي حكم بهذا، وهو الذي رفع السماء وبسط الأرض وحملهما بقدرته، وصيرهما بإرادته وأمره الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها [سورة الرعد آية 2] . ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض، أى: وأنتم فيها، كما نقول: دعوته من أعلى البيت فنزل إلى.. تجيبون بلا مكث ولا انتظار كما يجيب الداعي الطائع من دعاه، وليس هنا أطوار ولا انتقالات في الخروج من القبور، بل بعث بسرعة وبلا مهلة ولذا لم يأت هنا بثم فقال: إذا أنتم تخرجون من قبوركم للبعث والحساب والثواب والعقاب. وله من في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا، كل له قانتون ومخلصون في طاعته إن طواعية وإن كرها، فكيف بكم يا من تنكرون البعث وتستبعدونه ظنّا منكم أن الحياة بعد العدم ونفق الأجزاء ضرب من المحال إنه الذي يبدأ الخلق ثم بعد ذلك يعيده فهو أهون عليه بالنسبة لحكمنا العادي في الأمور العادية، وأما بالنسبة لله- سبحانه وتعالى- فكل شيء هين إذ قدرته شاملة، وله- سبحانه وتعالى- كل شيء. وله المثل الأعلى والصفة الكاملة التي تتلخص في وصفه بكل كمال، وتنزهه عن كل نقص، وفي أنه لا إله إلا هو في السموات، والأرض، وهو العزيز في ملكه لا يعجزه شيء من خلقه، الحكيم في صنعه، خلق فسوى وقدر فهدى، سبحانه هو الله لا شريك له. والله- سبحانه وتعالى- قد وصف السموات والأرض على ألسنة الخلق، وبأقلام الحق، وبنطق الآيات الكونية فيهما على أنه هو القادر الذي لا يعجزه شيء من بدء وإعادة، القاهرة فوق عباده لا راد لقضائه، الحكيم الذي يجرى كل شيء في الكون على مقتضى حكمته، ووفق علمه وإرادته، فحقّا: له المثل الأعلى في السموات والأرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 24 المثل من أنفسكم [سورة الروم (30) : الآيات 28 الى 29] ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29) المفردات: مَثَلًا: صفة غريبة تشبه المثل في الغرابة نُفَصِّلُ: نوضح ونبين. بعد ما ظهرت الآيات الناطقة بالوحدانية والقدرة في الإنسان وأطواره، وهذا الكون العجيب وأحواله، وثبت بهذا أنه له المثل الأعلى والصفات الجلى التي منها الوحدانية وغيرها. ضرب مثلا لهؤلاء المشركين حيث أشركوا بالله خلقا من خلقه كشف به سترهم، وقوض به حجتهم، وكان المثل في أقرب شيء لهم وهي نفوسهم. المعنى: ضرب الله لكم مثلا وانتزعه من أنفسكم التي هي أقرب شيء لكم: هل ترضون أن يكون لكم أيها المشركون شركاء فيما رزقناكم؟ وهؤلاء الشركاء من المملوكين لكم كالعبيد والأرقاء مثلا؟ هل لكم شركاء في أموالكم التي رزقكم الله من عبيدكم وإمائكم فتكونوا أنتم وهم في هذه الأموال سواء، تهابون أن تستبدوا بتصرف دونهم لأنهم شركاء كما يهاب بعضكم بعضا وأنتم أحرار! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 25 وإذا كان الإنسان يأبى أن يكون عبده- وقد يبيعه في وقت أو يعتقه- شريكا له في ماله- الذي هو في الواقع رزق سيق إليه من الله- وهو يخافه ولا يتصرف فيه إلا بأمره، لكونه شريكا، إذا كان الإنسان يأبى أن يشاركه عبده في هذا المال مع أن هذا العبد يستوي معه في البشرية والعبودية لله فكيف يقول: إن لله شريكا في تصريف هذا الكون الذي هو ملكه، والشريك عبد دائم العبودية. أظن أنه لا يقول بشركة الأصنام والأوثان لله إنسان عاقل كامل القوى. مثل ذلك التفصيل والبيان في إلزام الخصم الحجة قوية نفصل الآيات ونوضحها لقوم يحكمون عقولهم فيما يعرض لهم. بل اتبع هؤلاء المشركون الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم، اتبعوا أهواءهم ولم يحكموا عقولهم فليس لهم في هذا الشرك سند من عقل أو نقل أو حجة أو منطق فهم قوم ساروا على غير هدى ولا علم ولا بصيرة فلا أمل في رجوعهم إلى الحق وإلى الطريق المستقيم. وإذا كان أمر هؤلاء الناس كذلك فمن يهدى من أضله الله؟ لا أحد يقدر على هداية من خذله الله ولم يوفقه إلى الحق لأنه يستحق ذلك بطبعه، وما له من ناصر ينصره حتى لا يخذل، ويمنعه من عذاب الله حتى لا يعذب. الإسلام دين الفطرة [سورة الروم (30) : الآيات 30 الى 32] فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 26 المفردات: حَنِيفاً: مائلا عن جميع الأديان المحرفة فِطْرَتَ اللَّهِ: خلقة الله الْقَيِّمُ المستقيم على الطريق الحق مُنِيبِينَ إِلَيْهِ: مقبلين عليه شِيَعاً: جمع شيعة وهي الحزب والجماعة المتشيعة لإمامها حِزْبٍ الحزب: الجماعة المتحزبة المتجمعة حول رأى خاص. المعنى: إذا ظهر الحق ودلائله وبطل الشرك وأوهامه، وقامت البراهين القوية على ذلك، فأقم وجهك للدين حنيفا، على معنى: قوم وجهك، وعدل نفسك واتجه بذاتك كلها إلى الدين الحق الذي ظهرت آياته، حالة كونك مائلا عن كل ما عداه، وهذه العبارة- فأقم وجهك للدين حنيفا- تمثيل للإقبال على الدين، والثبات عليه والاهتمام بأسبابه، والأخذ بمبادئه، فإن من اهتم بشيء عقد عزمه عليه، وسدد وجهه إليه، وقوم ذاته نحوه، لا يميل عنه يمنة ويسرة، وهذا أمر للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وهو كذلك أمر لأمته، والزموا فطرة الله التي فطر الناس عليها، والفطرة هي الخلقة والطبيعة التي خلق الله الناس عليها، وقيل في تفسيرها: إنها الإسلام أو الدين الحق، ولكن الرأى الأول أرجح لقوله تعالى.. لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ. فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ بمعنى خالق. إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أى: خلقني، والفطرة بمعنى الخلقة يراد بها أن الله خلق الخلق مستعدين بفطرتهم وطبيعتهم إلى التوحيد قابلين له غير جاحدين ولا منكرين، فلو ترك الشخص وشأنه لما اختار غير الإسلام دينا له لأنه دين الفطرة والطبيعة، دين جاء يخاطب العقل، ويسير مع حاجات النفوس السليمة في كل أحكامه وضوابطه، هذا هو دين الفطرة الأولى صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً، ومن غوى من الناس فإنما يكون بوسوسة الشيطان. وتأثير الإنسان الذي يعاشره في بيئته- وخاصة أبويه- ومن هنا نفهم الحديث القائل: «كلّ مولود يولد على الفطرة، وأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه» وعليه قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما يرويه عن ربه: «كلّ عبادي خلقت حنفاء فاجتالتهم الشّياطين عن دينهم وأمروهم أن يشركوا بي غيرى» الجزء: 3 ¦ الصفحة: 27 أيها الناس: الزموا فطرة الله التي فطر الناس جميعا، ولا تبدلوا ما خلقه الله فيكم من التوحيد، ولا تغيروا فطرتكم الطبيعية باتباع وسوسة الشيطان وإغوائه، وعودوا إلى دين الفطرة دين الإسلام، وذلك هو الدين القيم، المستقيم على الصراط المستقيم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. والزموا فطرة الله حالة كونكم منيبين إليه مقبلين عليه، تائبين وراجعين إلى أحكامه، واتقوه، وأقيموا الصلاة، ولا تكونوا من المشركين، الذين فارقوا دينهم الطبيعي، وتركوا الإسلام وفرقوا دين الفطرة، وجعلوه أديانا وآراء، وكانوا شيعا، وكل حزب بما لديهم فرحون، يظنون أن باطلهم هو الحق لا شك فيه، ولا مرية، والحق ما أراده الله والخير فيما اختاره الله. بيان طبيعة الناس مع توجيهات لهم [سورة الروم (30) : الآيات 33 الى 39] وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 28 المفردات: ضُرٌّ المراد: شدة وبلاء سُلْطاناً: حجة قوية تتسلط عليهم يَقْنَطُونَ القنوط: اليأس من رحمة الله يَبْسُطُ: يوسع يَقْدِرُ: يضيق وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً المراد: ما فعلتم من ربا وجئتم به الْمُضْعِفُونَ مأخوذ من أضعف: إذا صار ذا قوة ويسار. المعنى: لما بين الله- سبحانه وتعالى- التوحيد بالآيات والأدلة وضرب الأمثال، وأبان أن الإسلام والتوحيد دين الفطرة السليمة والطبيعة الكريمة بين هنا أن حالة الناس مع هذا عجب فهم في الشدة والضيق يلجئون للواحد القهار، وفي الغنى والرخاء يتجهون لآلهتهم من أنصاب وأوثان. إذا مس الناس- وبخاصة المشركين- ضر أو شدة من مرض أو قحط أو أزمة من الأزمات دعوا ربهم مقبلين عليه، وضل عنهم ما كانوا يعبدون، ثم إذا أذاقهم- ولو قليلا- بدل العذاب والضر رحمة، إذا فريق منهم بربهم يشركون، يا عجبا لكم أفي الشدة والضراء لا تتجهون إلا إلى الله، وفي السراء والرخاء تنسون أنفسكم، وتشركون بربكم؟! والله إن أمركم لعجب!! يشركون ليكون إشراكهم كفرا بنعمة الإنقاذ من الضر والشدة، وإذا كان الأمر كذلك فتمتعوا أيها المشركون فسوف تعلمون عاقبة ذلك، وهذا الأمر في قوله: فَتَمَتَّعُوا للتهديد، نظير قوله: اعملوا ما شئتم! بل أنزلنا عليهم سلطانا وحجة قوية على ما يفعلون؟! فهو يتكلم بما كانوا يشركون، وإسناد الكلام إلى السلطان كقولك: إن كتابك ينطق بكذا، وهذه الآية تفيد تأكيد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 29 التعجب من حالهم فإن الخطأ في شركهم ظاهر للعيان، والضرر اللاحق بهم لا يختلف فيه اثنان، فماذا بقي بعد ذلك؟ أعندهم حجة؟ بل أهم مأمورون بذلك حتى نلتمس لهم العذر؟ لا هذا ولا ذاك: ولكنهم في ضلالتهم يعمهون. هذه حال المشركين في الشدة والرخاء، وهي حال ظاهر فيها الشرك وسوء الرأى كالشمس، وهناك حال أخرى قد تكون أخف، حال من يعبد الله على حرف فإن أصابه خير اطمأن به ورضى، وإن أصابه شر أو سوء قنط به وسخط، وإذا ذاق نعمة من الله ورحمة فرح بها وسر، وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ «1» فهم لا يصبرون عليها صبرا قليلا لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، ويهبهم من لدنه فرجا، ولكنهم قوم يستعجلون، لم تخالط بشاشة الإيمان قلوبهم، فهم يعبدون الله للدنيا والنعمة، وأما المؤمن حقّا فصابر على البلاء راض بالقضاء، شاكر ربه في السراء والضراء. وهو إن أعطى من الدنيا شكر، وإن حرم صبر.. أنسوا ولم يعلموا أن الله يبسط الرزق ويوسعه لمن يشاء بقطع النظر عن الكفر والمعصية والذنب؟ ويقتر الرزق على من يشاء بصرف النظر عن الإيمان وصالح الأعمال؟ فالدنيا عند الله لا تزن جناح بعوضة، وليست محل ثواب أو عقاب، فالمؤمن هو الراضي بقضاء الله الذي لا ييأس من رحمة الله، فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، ولا يبطر إن أصابته نعمة بل يقوم بالشكر والثناء لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ [سورة الحديد آية 23] إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون. وإذا كان الرزق من الله، وهو الذي يبسط الرزق لمن يشاء ويضيق على من يشاء، فآت كل ذي حق حقه، ولا تبخل بما آتاك الله، وجعلك خليفة عليه، أعط ذوى القربى حقهم والمسكين وابن السبيل، ذلك خير في نفسه، وأى خير؟ للذين يريدون وجه الله، ويقصدون بذلك رضاء الله لا يفعلون ذلك رياء وسمعة، وأولئك هم المفلحون الذين سعدوا في الدنيا والآخرة. يقول العلماء: إن الربا نوعان: ربا لا إثم فيه، وربا فيه إثم كبير. أما الأول فهو من يهب أو يهدى قاصدا أن ترد هديته بزيادة له. والثاني الربا المحرم شرعا الذي يمحقه الله   (1) - سورة النساء آية 79. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 30 ويؤذن صاحبه بحرب لا هوادة فيها يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ «1» يقول الله: وما آتيتم وفعلتم من هدية أو هبة بقصد الزيادة عند ردها- فسمى الهدية والهبة ربا لأن الزيادة هي المطلوبة له، والربا هو الزيادة- ليربو ويزيد في اجتلاب أموال الناس، فلا يربو ولا يزيد عند الله، ففي الحقيقة الذي حصلت له الزيادة هو الذي أعطيت له الهبة وأخذها لا من أعطى ليأخذ الزيادة، إذ هو شخص ارتكب مكروها، وهذا أدب قرآنى عادل وتوجيه لنا سام. وما آتيتم من زكاة ودفعتموها لوجه الله فأولئك هم المضعفون الذين يضاعف الله لهم الثواب، وانظر يا أخى لمن يعطى قاصدا رد العطية وزيادة فكأنه مراب، ومن يعطى صدقة لا يبغى بها سوى وجه الله، فأولئك هم الذين يضاعف الله لهم الحسنات، ويجازيهم عليها عشرا أو سبعمائة وقد تزيد. من دلائل التوحيد ونتائج الأعمال [سورة الروم (30) : الآيات 40 الى 45] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40) ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)   (1) - سورة البقرة آية 276. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 31 المفردات: الْفَسادُ: الجدب، وأخذ المال ظلما، والمفسدة: ضد المصلحة يَرْجِعُونَ: يثوبون إلى رشدهم ويؤمنون بربهم لا مَرَدَّ لَهُ: لا راد له ولا نافع منه. يَصَّدَّعُونَ: يتفرقون يَمْهَدُونَ: يوطئون لأنهم جعلوا لها فراشا ومسكنا وقرارا. المعنى: الله الذي لا إله إلا هو، ولا معبود بحق في الوجود سواه، هو الذي خلقكم على ما ترون من كمال الخلقة، وحسن الهيئة، وشرف الوضع والنظام الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ خلقكم ثم رزقكم بكل أنواع الرزق حيث خلق لكم ما في الأرض جميعا، ثم بعد ذلك يميتكم إذا انتهى أجلكم، ثم يحييكم ليأخذ كلّ جزاءه وافيا، ومن قدر على بدء الخلق فهو القادر على الإعادة، هل من شركائكم من يستطيع أن يفعل شيئا من ذلك؟! لا وأيم الحق إنها عاجزة عن دفع الذباب عن نفسها. سبحانه وتنزيها له وتقديسا، أى: نزهوه ولا تصفوه بالإشراك، وتعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا، فهو لا يجوز عليه شيء من ذلك. لقد كانت الدنيا تموج بالخير، وتسعد بالرخاء، ويعمها الأمن والسعة لقلة الطمع في المال، وعدم التكالب على الدنيا- ولعل قلة العدد لها مدخل في ذلك- وظل الإنسان يرفل في ثوب السعادة يعيش هنيئا حتى ظهر الحقد والحسد، واستشرى الفساد والطمع، وظهر في ألوان مختلفة، وانتهى الأمر إلى الشرك بالله، واتخاذ الآلهة من دونه، فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ليحكموا بين الناس فيما اختلفوا فيه، فوقع الصراع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 32 بين الحق والباطل، وكان لا بد من عقاب العصاة وإثابة المؤمنين، فكان الهلاك والتدمير لبعض الأمم، ونزعت البركة من الناس، وعوقبوا بنقص في الأموال والأنفس والثمرات كي يتوبوا ويثوبوا إلى رشدهم، وهذا معنى قوله تعالى: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فكان القحط ونزع البركة وحلول بعض الآفات جزاء في الدنيا لأعمال الكفار والعصاة لعلهم يرجعون عماهم فيه، فإن من الناس من لا يستقيم أمره إلا بإيقاع العذاب عليهم سريعا. ثم أكد تسبب المعاصي لغضب الله ونكاله حيث كلفهم بأن يسيروا في الأرض لينظروا كيف أهلك الله الأمم السابقة، وأذاقهم سوء العذاب لطغيانهم وسوء أعمالهم وكأن قوله- سبحانه وتعالى-: كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ كالبرهان على أن الشرك وحده لم يكن سبب التدمير وإيقاع العذاب، بل قد يكون ما دونه مما تحقر من الأعمال هو سبب البلاء والعذاب، نعم فالمسلمون الآن يؤمنون بالله، ولكنهم يأتون أعمالا هي سبب خذلانهم وضعفهم وإيقاع العذاب بهم، فهل من مدكر؟! لما نهى الكافر عما هو عليه، أمر المؤمن بالواجب عليه فقال مخاطبا الرسول إيذانا بخطر المأمور به، وعناية به: إذا كان الأمر كذلك فأقم وجهك، واجعل قصدك خالصا للدين القيم الذي هو الإسلام فهو دين الفطرة الإنسانية، ولا تلتفت لغيره أبدا من قبل أن يأتى يوم الحساب والجزاء، وهو يوم لا يرده راد، ولا يتهيأ لأحد دفعه من دون الله. يومئذ يصدعون ويتفرقون، فريق في الجنة وفريق في السعير، وهذا شحذ للهمة، وتحريض على انتهاز الفرصة من قبل هذا اليوم. من كفر فعليه وزر كفره وعاقبته، ومن عمل صالحا بعد الإيمان فلنفسه طلب الخير، ولها مهد مقعدا كريما وهيأ لها مسكنا مناسبا يتناسب مع ما قدم من العمل. كل ذلك ليجزي ربك الذين آمنوا وعملوا الصالحات من فضله إذ لا يدخل أحد منكم الجنة بعمله، ولكن بمحض فضل الله. أما الكفار فإن ربك لا يحبهم، وناهيك بعدم المحبة فهي عنوان العذاب الدائم والألم الشديد بما كانوا يكسبون، وما ظلمهم الله، ولكن كانوا أنفسهم يظلمون.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 33 من آياته في الرياح والمطر [سورة الروم (30) : الآيات 46 الى 53] وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 34 المفردات: مُبَشِّراتٍ: تبشر بالخيرجْرَمُوا : فعلوا جرما وارتكبوا إثما فَتُثِيرُ: تهيجه وتحركه فَيَبْسُطُهُ المراد: تنشره متصلا بعضه ببعض كِسَفاً: جمع كسفة وهي القطعة من الشيء لَمُبْلِسِينَ يقال: أبلس الرجل فهو مبلس: سكت فلم ينطق وقيل: أيس مُصْفَرًّا أى: رأوا الزرع مصفرّا لجفافه الرِّياحَ جمع ريح، قال أبو عمر: كل ما كان بمعنى الرحمة فهو جمع، وما كان بمعنى العذاب فهو مفرد، وعليه قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ اجعلها رياحا ولا تجعلها ريحا» فَتَرَى الْوَدْقَ الودق: هو المطر. المعنى: ومن آياته الكونية التي تنطق بأن صاحبها قادر عالم مريد، له الأمر كله، ويحيى ويميت: الرياح التي يرسلها الله تبشر بالخير والبركة، كالمطر، وتلقيح الشجر، وتحريك السفن، وصلاح الأجواء. أرسل الرياح لتبشر، وليذيقكم من رحمته بالمطر وغيره. ولتجرى الفلك على سطح الماء بأمره وإرادته، فليست كل الرياح تجرى الفلك فقد تكون عكسية في اتجاهها، ولتبتغوا من فضله بالتجارة وتلقيح النبات، ودنو ثمره، ولتشكروا الله على ما أنعم عليكم من نعمة الرياح، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. وتالله لقد أرسلنا من قبلك رسلا إلى قومهم، فجاءوهم بالبينات وحملوا لهم من الكتاب المنزل عليهم الآيات، وأرشدهم إلى آيات من الكون واضحات، فآمن بهم من آمن، وكفر من كفر، فانتقم ربك من الذين كفروا وارتكبوا جرما وإثما، وكان ذلك حقا، وأما من آمن واهتدى، وصدق بالحسنى فكان على ربك نصر المؤمنين حقا، فاعتبروا يا أولى الألباب، واتعظوا بغيركم يا كفار مكة، قبل أن يأتى يوم لا مرد له، وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير، أليس إرسال الرسل بالآيات نعمة من أجل النعم وآية من أقوى الآيات؟ وما ينزل على الرسل كالماء الذي يحيى الأرض بعد موتها؟ أليس هذا كافيا لسوق آية إرسال الرسل وسط آيات المطر؟. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 35 الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا، وتهيجه وتحركه بعد أن كان ساكنا، فتبثّه في السماء- والمراد تنشره متصلا بعضه ببعض- على أى نحو يشاؤه من قلة وكثرة، وسرعة في المشي وإبطاء، وتارة يجعله قطعا متفرقة، فيصيب به على كل حال من يشاء من عباده، وهو على كل شيء قدير، أليس في هذا ما يدل على أن الأمور تجرى بميزان، وأن خالقها قادر واحد مختار؟ فإذا أصاب به من يشاء من عباده فاجأ استبشارهم نزوله، وفرحوا به بخصبه، وقد كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لآيسين من نزول المطر عليهم ساكنين من شدة الحزن الذي أصابهم من طول جدبهم وانتظارهم، وفي قوله تعالى: مِنْ قَبْلِهِ بعد قوله: وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ توكيد لحكمة غالية، ومعنى التوكيد هنا: (للدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد فاستحكم يأسهم وتمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اغتمامهم بذلك) انتهى من الكشاف. ومن هنا كان تكريرا لحكمة سامية، وإشارة إلى معان عالية. فانظروا نظر استبصار واستدلال لتستدلوا على أن من يقدر على ذلك قادر على إحياء الموتى. انظروا إلى آثار رحمة الله إلى إحياء الأرض بعد موتها: بالخضرة والنبات، إن ذلك لمحيى الموتى، وهو على كل شيء قدير. وتالله لئن أرسلنا ريحا مضرة، فأضرت زرعهم، فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون ويجحدون سالف نعمة الله عليهم، فهم قوم قلوبهم خالية من الإيمان الكامل والاعتماد على الله حقا، فهم إذا أصابهم الخير فرحوا واستبشروا، وإن غاب عنهم القطر أبلسوا ويئسوا. وانقطعت أنفسهم حزنا وألما، وإن أصابهم جدب أو هلاك لزرع كفروا بنعمة الله، ونسوا ما أنعم عليهم به، فبئس هؤلاء القوم المترددون بين الإفراط في الفرح والتفريط في الحزن والكمد. ولو أنهم مؤمنون حقا لكانوا متوكلين على الله في كل حال، إذا أعطاهم شكروا وعملوا الطيبات، وإن حبس عنهم خيره لجئوا إلى الاستغفار والدعاء والصلاة حتى ينزل عليهم الفرج، وما يئسوا من رحمة الله، وإذا أصابهم بلاء في المال أو النفس والزرع صبروا، وحمدوا ربهم على السراء والضراء، أولئك هم المؤمنون حقا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 36 وأما أنت يا محمد فقد سقت الأدلة، وضربت الأمثلة، وهددت بالوعد والوعيد فلم يزدهم هذا إلا عنادا واستكبارا، وجحدوا وفرارا، فلا تحزن عليهم ولا تيأس فإنك لا تسمع الموتى الذين ألفوا تقليد الأسلاف حتى ماتت قلوبهم، وعميت بصائرهم، ولا تسمع أولئك الصم عن الحق الذين صموا آذانهم، واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارا، فهؤلاء الذين يصمون آذانهم عن الدعاء، ويولون الأدبار كيف تسمعهم الحق، وتهديهم إلى النور؟!! وما أنت بهادي العمى عن ضلالتهم بحال من الأحوال. إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون. فأنت لا تسمع إلا من عنده استعداد للإيمان والإسلام ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ [سورة البقرة آية 2] . هكذا الإنسان.. وختام السورة [سورة الروم (30) : الآيات 54 الى 60] اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 37 المفردات: ضَعْفٍ الضعف: ما قبل القوة شَيْبَةً أى: شيبا وهو بياض الشعر الأسود ساعَةٍ: مدة من الزمن قليلة يُؤْفَكُونَ يقال: أفك الرجل: إذا صرف عن الصدق والخير وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ أى: لا يطلب منهم الإعتاب. وحقيقة أعتبته: أزلت عتبة فالإعتاب إزالة العتب بفعل ما يرضى، يقال: استعتبته فأعتبنى، أى: استرضيته فأرضانى مُبْطِلُونَ أى: متبعون الباطل والسحر وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ يقال: استخف فلان فلانا، أي: استجهله حتى حمله على اتباعه في الغي. المعنى: وهذه الآية تتعلق بالإنسان ناطقة بإثبات القدرة والعلم والإرادة وغيرها من الصفات لله- سبحانه وتعالى- فهذا الانتقال والتحول من حال إلى حال دليل على القدرة، وآية على البعث الذي ينكره المشركون. الله هو الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة، فالإنسان خلق من منى يمنى، من ماء مهين، من نطفة هي غاية في الضعف والصغر والقلة، حتى أنها تحوى ملايين صالحة لتلقيح بويضة المرأة. والشخص منا يكون واحدا منها، ثم يظل ينتقل الإنسان من ضعف: وهو في بطن أمه ثم وهو رضيع، ثم وهو يدرج حتى يصير في دور المراهقة والشباب والرجولة فتظهر عليه علامات القوة والفتوة والشباب، ثم جعل من بعد القوة ضعفا وشيبة. تلك مراحل لا بد من مرورها على الإنسان ويستحيل عليه أن يولد قويا، كما أنه يستحيل عليه أن يكون في دور الشيخوخة قويا بل لا بد فيها من ضعف وشيبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 38 وانظر إلى أساس الاستدلال، وهو أن تلك الأدوار والأحوال التي في الإنسان والسحاب ليست طبيعية وإنما مردها إلى مشيئة الله يَخْلُقُ ما يَشاءُ [سورة المائدة آية 17] فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ [سورة الروم آية 48] . وهو العليم بأحوال الخلق المجازى عليها بالخير والشر، القدير الذي يقدر على كل ذلك وها هو ذا يذكر بعض أحوال يوم القيامة فقال: ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون قائلين: إنهم ما لبثوا غير ساعة من الزمن، وذلك أن الذي يوعد بالشر يستقل المدة المضروبة له، على العكس: الموعود بالخير يستكثر المدة مهما قلت، وهؤلاء الناس حينما عرفوا أنهم إلى النار صائرون، وأنهم ضلوا السبيل بكفرهم حينما علموا هذا كله ساعة الموت استقلوا مدة لبثهم في القبر، وقالوا: ما لبثنا غير ساعة كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها [سورة النازعات آية 46] مثل ذلك الصرف عن الحق والبعث كانوا يصرفون في الدنيا عن الحق والصدق. أما الذين أوتوا العلم من كتاب الله وأوتوا الإيمان به قالوا: لقد لبثنا إلى يوم البعث مستكثرين هذا المكث لأنهم متطلعون إلى نعيم الجنة. وقالوا: إن كنتم منكرين البعث أيها المشركون فهذا يوم البعث ولكنكم كنتم لا تعلمون. فيومئذ لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم، واعتذارهم عن أعمالهم، فلا يقبل منهم مثل قولهم: رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ [المؤمنون 99، 100] . ولا هم يطلب منهم الإعتاب، أى: إزالة العتب بالتوبة التي تزيل آثار الجريمة وكيف يقبل منهم عذر، أو توبة؟! ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل ولم يحصل تقصير من جانب الرسل في تبليغ الدعوة إلى الله، فإن طلب الناس شيئا بعد تلك المعجزات والشواهد، وتوضيح الرسالة من الأنبياء فذلك عناد، ومن هان عليه تكذيب دليل لا يصعب عليه تكذيب الدلائل كلها كفرا وعنادا، لئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا: إن أنتم أيها المدعون للرسالة إلا مبطلون تتبعون السحر والباطل. وليس هذا لسبب معقول، ولكن الله طبع على قلوب الكفار وختم عليها بالخاتم فلا يدخلها نور لأنهم مردوا على التكذيب والعناد، وملئت عقولهم بالخرافات والضلالات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 39 كما طبع الله على قلوبهم حتى لا يفهموا الآيات، فكذلك يطبع على قلوب الذين لا يعلمون، فهي عادة في الإنسان ليست غريبة منه، فاصبر يا محمد إن وعد الله حق، ولا يستفزنك الذين لا يوقنون بالآخرة حتى تترك ما أنت عليه بل اثبت والله ناصرك وحافظك من الناس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 40 سورة لقمان وهي مكية كلها غير آيتين هما: وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ.. الآية 27، 28. وهي أربع وثلاثون آية، هدفها إثبات البعث والوحدانية، وصدق الرسل في رسالتهم. القرآن وأثره [سورة لقمان (31) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وهذا بدء سورة كريمة جاء على وفق ما هو معروف غالبا في السور المكية التي تبدأ بأحرف هجائية، حيث تكلمت عن القرآن وآياته، وهو افتتاح شبيه بافتتاح سورة البقرة. المعنى: هذه الآيات- والإشارة إلى آيات السورة- آيات من الكتاب الحكيم الصنع البعيد الغاية، المحكم الذي لا خلل فيه ولا عوج، ولا تناقض فيه ولا اختلاف، بل هو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «1» .   (1) - سورة الزمر آية 23. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 41 هو هدى ورحمة ومصدر خير وبركة للناس جميعا شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ [البقرة 185] أما كونه هدى ورحمة فيشهد بذلك الواقع الذي ينطق بأن الرسالة المحمدية كانت فاتحة خير للعالم، ومبدأ عصر العلم والنور في مشارق الأرض ومغاربها. ولكن المنتفعين بهدى القرآن والمغمورين برحمته هم قوم أحسنوا العمل والقصد وأخلصوا النية لله، وراقبوه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه. ومن دلائل الإحسان وعلاماته إقامة الصلاة علاجا للنفس، وإيتاء الزكاة علاجا للأمة، وهم بالآخرة هم يوقنون يقينا لا شك فيه ولا مرية، فهم يعملون لذلك اليوم، ويستعدون له استعدادا كاملا، وهذا من علامات الإنسان الحق، لما له من الأثر الفعال في الفرد والمجتمع واليقين الكامل، وخص الصلاة والزكاة واليقين بالآخرة بالذكر لفضل الاعتداد بها، أولئك- والإشارة للتعظيم- الذين بلغوا شأوا في الكمال والسمو حتى أصبح يشار لهم بالإشارة الحسية التي للبعيد، على هدى من ربهم ومتمكنون منه تمكن الراكب من المركوب، وأولئك هم المفلحون وحدهم إذ لا فلاح إلا بالإحسان، ولا خير إلا في اليقين والإيمان. الكافرون بالقرآن والمؤمنون به [سورة لقمان (31) : الآيات 6 الى 9] وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 42 المفردات: لَهْوَ الْحَدِيثِ اللهو: كل باطل ألهى عن الخير هُزُواً أى: مهزوءا بها وَقْراً: ثقلا وصمما. نزلت الآية في النضر بن الحارث، وكان يتجر إلى فارس فيشترى كتب الأعاجم فيحدث بها قريشا قائلا: إن كان محمد يحدثكم بحديث عاد وثمود فأنا أحدثكم بأحاديث رستم وبهرام والأسرة من ملوك فارس. وأحدثكم عن ملوك الحيرة، وكان بعض الناس يستملح حديثه، ويترك استماع القرآن، وقيل: كان يشترى المغنيات فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينته فيقول: أطعميه واسقيه وغنّيه، ويقول: هذا خير مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه. المعنى: هذا هو القرآن الذي نزل هداية ورحمة، وفيه آيات بينات وأسرار بالغات وحكم محكمات، ومع هذا كله فمن الناس من يشترى لهو الحديث ليضل عن سبيل الله، ويتخذ آياته هزوا وسخرية. لهو الحديث: هو السمر بالأساطير والأحاديث التي لا أصل لها، والتحدث بالخرافات والخيال الكاذب، وبفضول الكلام، وبما لا ينفع في شيء أبدا، وهو بالحديث كالغناء الخليع وبالوضع المغرى المثير للشباب المحرك للشيطان، فليس هو من باب اللهو فقط بل الواقع أنه سم زعاف يسقى للناس من حيث لا يشعرون. والموسيقى المهذبة، المروحة للنفس، المجددة للنشاط، والغناء الرفيع في لفظه ومعناه، والكامل في شكله وموضوعه لا يأباه الدين ما دام لا يشغل عن حق، ولا يضيع منك فرضا، والغناء الذي نسمعه من تلك النسوة بهذا الشكل المزرى حرام بلا شك، ولا يفهمن أحد أن الدين جاف لا يتمشى مع العصر، إذ غرضه أن نرتفع بغرائزنا ونفوسنا عن مستوى الحيوانية البهيمية، وأن نغرس فينا معاني السمو الروحي بحيث نرضى أنفسنا مع العفة والقصد في المغريات المثيرات، والعناية بما يحبب مكارم الأخلاق، ويقوى الرجولة فينا، ذكر القرطبي في تفسير هذه الآية (أن الغناء المعتاد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 43 عند المشتهرين به الذي يحرك النفوس، ويبعثها على الهوى والغزل، والمجون الذي يحرك الساكن ويبعث الكامن، فهذا النوع إذا كان في شعر يشبّب فيه بذكر النساء ووصف محاسنهن، وذكر الخمور والمحرمات لا يختلف في تحريمه.. فأما ما سلم من ذلك فيجوز القليل منه في أوقات الفرح كالعرس والعيد وعند التنشيط على الأعمال الشاقة. وأما ما ابتدعه الصوفية اليوم من الإدمان على سماع المغانى بالآلات المطربة من الشبابات- قصبة الزمر- والطار والمعازف والأوتار فحرام) . وليت شعري ماذا كان رأيه لو امتد به الزمن حتى رأى وسمع ما يحدث عندنا في المسارح والملاهي وعلى الشاشة؟! لقد حدثني أستاذ فاضل حضر رواية في انجلترا ثم حضر عرضها في القاهرة فوجد العجب إذ أنها في لندن تعرض باحتشام وبأدب مع إبراز معاني القوة والشجاعة والإقدام وحب الدفاع عن الوطن وخلق المثل العليا في الشعب. أما إذ عرضت عندنا نزع منها ذلك كله، وظهر فيها معاني الحب العنيف، والدعوة إلى التحليل مع الخلاعة والفجور والرقص الداعر والدعوة السافرة إلى المجون، واعتذارهم عن هذا كله: إرضاء رغبات الشعب! يا لله من الشعب المسلم الذي تحلل من دينه واتبع نفسه وهواه. وبعد فلنرجع إلى الآية التي نحن بصددها. أولئك الذين يشترون لهو الحديث، ويستبدلون بدل الخير والهدى الشر والإثم ليضلوا عن سبيل الله، ويتخذوا آياته هزءا وسخرية، لهم عذاب غاية في الإهانة. وإذا تتلى عليه آيات الله تدعو إلى الفضيلة، وتهدف إلى الخير، وتعمل على خلق أمة عزيرة كاملة ولى مستكبرا ذاما لها لا يعبأ بها معرضا عنها. وهو في هذا الوضع حيث لم يعمل بها تشبه حاله حال من لم يسمعها وهو سامع كأن في أذنيه ثقلا ولا وقر فيهما ولا ثقل. ومن كان هذا وصفه فبشره بعذاب أليم موجع غاية الألم. أما الذين انتفعوا بالقرآن فهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم جنات النعيم حالة كونهم خالدين فيها، وعدهم الله هذا وعدا حقا ثابتا، ومن أوفى بعهده من الله؟! وهو العزيز الذي لا يعجزه شيء، الحكيم في صنعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 44 هذا خلق الله [سورة لقمان (31) : الآيات 10 الى 11] خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ماذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11) المفردات: عَمَدٍ: جمع عماد، وهو ما يعمد به، أى: يسند، يقال: عمدت الحائط إذا دعمته، والدعامة ما يسند به الحائط إذا مال لتمنعه السقوط رَواسِيَ: ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ: تضطرب وَبَثَّ: نشر وفرق زَوْجٍ: صنف. وهذا استئناف مسوق للاستشهاد على عزته تعالى وكمال قدرته، وسيق تمهيدا لإثبات قواعد التوحيد وإبطال الشرك وتبكيت أهله. المعنى: الله- سبحانه وتعالى- خلق السموات بغير عمد مرئية لكم، وأنتم ترونها كذلك، وألقى في الأرض رواسى ثابتات، من الجبال الشامخات التي هي كالأوتاد لئلا تميد بكم الأرض وتضطرب، وبث فيها ونشر كل دابة تدب على الأرض من إنسان وحيوان وطير، وأنزل من السماء ماء يسقى الزرع، وينبت النبات فأنبت فيها من كل صنف من النبات كريم ذي لون بهيج، ونفع كثير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 45 هذا خلق الله ظاهر متميز، فأرونى ماذا خلق الذين من دونه من الأصنام والأوثان؟! بل الظالمون في ضلال مبين، (بل) هذا إضراب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالتورط في ضلال ليس بعده ضلال!! قصة لقمان ووصيته لابنه [سورة لقمان (31) : الآيات 12 الى 19] وَلَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَإِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَفِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَصاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15) يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 46 المفردات: الْحِكْمَةَ: العلم النافع والعمل به، والعقل والبصر بالأمور أَنِ اشْكُرْ الشكر لله: طاعته فيما أمر به لَظُلْمٌ عَظِيمٌ الظلم: وضع الأمور في غير مواضعها وَهْناً الوهن: الضعف فِصالُهُ: ترك إرضاعه وهو الفطاعم أَنابَ: رجع حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ المراد وزن حبة خردل، وهي مثل في الصغر وَلا تُصَعِّرْ خَدَّكَ الصعر: الميل، وأصله داء يصيب البعير يلوى عنقه، والمراد هنا لا تعرض عنهم تكبرا عليهم وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ القصد: التوسط، والمراد توسط في المشي بين الإسراع والبطء وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ أى: انقص منه ولا تتكلف رفع الصوت عن الحاجة. وهذا كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان الشرك، وأن الحكمة في اتباع الحق الذي جاءت به الرسل، وجاء في صورة وصية حكيم لابنه أحب الناس إليه ليكون أدعى للامتثال. المعنى: وتالله لقد آتينا لقمان الحكمة والعقل، ووهبناه الفهم للأمور، والعمل بما يعلم وهديناه إلى المعرفة الصحيحة فكان لقمان حكيما، ولعل هذا السر وهو أن ما دعا إليه لقمان هو من دواعي الحكمة، ومقتضيات الفطرة السليمة، ولم يكن عن طريق النبوة، وهذا بناء على الصحيح من أن لقمان حكيم وليس نبيا. ولقد آتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله على ما أعطاك من النعم وقم بطاعته وأدّ فرضه، ومن يشكر الله فإنما يشكره لنفسه مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ومن كفر فعليه وزر كفره، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وليس شكرك بنافع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 47 ربك، ولا كفرك بضاره في شيء فإنه غنى عن الخلق، محمود في السماء والأرض بلسان الحال أو بلسان المقال، وإن لم يحمده أحد من الناس. هذا هو لقمان الحكيم، أما وصيته لابنه، فاسمعها وتدبرها، فإنها وصية حكيم لابنه، والأب يحب الخير لابنه جدا، فإذا كان عاقلا حكيما كانت وصيته أولى بالاتباع وكان في ذكرها تحريض وإلهاب لكل من يسمعها ليعمل بها، ويتفانى في تحقيقها، فماذا قال؟ وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه: يا بنى لا تشرك بالله أحدا غيره من خلقه إن الشرك لظلم عظيم، وأى ظلم أكثر من هذا! إن الظلم وضع الأمور في غير نصابها، ولا شك أن من يسوى بين الخلق والخالق وبين الصنم وبين الله- جل جلاله- لا شك أنه وضع الأمور في غير وضعها الصحيح فهو حرى بأن يوصف بالظلم، هذا هو الوضع السليم بين الأب وبنيه يعظهم ويرشدهم، ويجنبهم المهالك فإذا تغير الوضع وصار الأب والأم مدعاة للشرك، ومصدرا للعصيان فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ولهذا جاءت الآية وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ.. معترضة بين وصية لقمان لتحديد موقف الابن من أبيه إذا دعاه إلى ما يضله ويرديه فإن الصحيح أن هذه الآية نزلت في سعد بن أبى وقاص وأمه حمنة بنت أبى سفيان كما مر في سورة العنكبوت وذكر القرطبي في تفسيره: أن طاعة الأبوين لا تراعى في ارتكاب كبيرة ولا ترك فريضة وتلزم طاعتهما في المباحات. ووصينا الإنسان بوالديه أمه وأبيه، وأمه أحق بالعطف من أبيه كما ورد في الحديث «من أحقّ النّاس بالبرّ؟ قال أمّك» كررها ثلاثا ثم قال: ثم أبوك، لأنها حملته حالة كونها تضعف ضعفا على ضعف، وفصاله في عامين. وصيناه أن اشكر لي ولوالديك، فهما قد ربياك وأوجداك في الظاهر، والله قد خلقك في الواقع ونفس الأمر، وإن جاهداك على أن تشرك بي شيئا ليس لك به علم إذ لا وجود له، فلا تطعهما فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، وصاحبهما في الدنيا معروفا أى: عاملهما في أمور الدنيا بالحسنى، وأما الدين فلله، واتبع سبيل من أناب إلى وقلد الصالحين المقربين، وخالط هذا الصنف من الناس فإن فيهم الخير كل الخير، ثم إلى مرجعكم يوم القيامة، فأخبركم بما كنتم تعملون، وسأجازيكم عن هذا كله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 48 يا بنى إنها الفعلة السيئة أو الحسنة إن تك مثقال حبة من الخردل فتكن في جوف صخرة، أو في أى ركن في السماء أو في الأرض يأت بها الله، ويعطى عليها جزاءها كاملا، فإنه يعلمها إذ هو يعلم الغيب والشهادة، وهو اللطيف الخبير. يا بنى أقم الصلاة فإنها عماد الدين، وأمر بالمعروف. وانه عن المنكر، أمره بما يقوم نفسه، وهو الصلاة، وما يقوم مجتمعه وبيئته وهو الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، فإن أصابك شيء في سبيل ذلك- ولا بد أن يأتيك، على أن الإنسان في الدنيا غرض لسهام الأحداث والمنايا، والسهام إذا انطلقت لا ترد- فاصبر على ما أصابك إن ذلك من مكارم الأخلاق، وعزائم أهل الحزم السالكين طريق النجاة، ولا تصعر خدك: لا تمله عن الناس تهاونا بهم، وتكبرا عليهم، بل أقبل عليهم بوجهك مستبشرا منبسطا من غير كبر ولا علو، ولا تمش في الأرض مرحا، وتمشى بخيلاء فإن ذلك كله يغضب الله إنه لا يحب كل مختال فخور، وتوسط في مشيك فلا تمش مشى المتماوتين، ولا تثب وثب الشطار قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن» . وأما قول عائشة- رضى عنها-: كان إذا مشى أسرع في مشيته، فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوتين. واغضض من صوتك، أى: انقص بعضه واخفضه حتى لا يصل إلى الصوت الأجش الذي يؤذى الجليس، ويقرع الصماخ بقوته، وربما يخرق طبلة الأذن، على أن ارتفاع الصوت دليل على شيء من الغرور والاعتداد وعدم الاكتراث بالغير، والمراد التوسط حتى لا يجهر جهرا ممقوتا، ولا يخافت مخافتة مرذولة، وخير الأمور أوساطها. فإن من يرتفع صوته في الحديث حيث لا مبرر أشبه بالحمار، وصوته كالنهاق إن أنكر الأصوات وأوحشها لصوت الحمير، وكانت العرب تجعل الحمار مثلا في الذم والغباوة، وكذلك نهاقه. انظر إلى لقمان الحكيم وهو يوصى ابنه بعدم الشرك بالله، الظاهر والخفى، ويوصيه بأن الله عالم الغيب والشهادة وهو يعلم السر وأخفى وسيجازى على ذلك كله فراقبه وأحسن في العمل، ثم يوصيه بإقامة الصلاة، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مهما تحمل في سبيل ذلك، ثم يوصيه بالصبر على المكروه فإنه من عزم الأمور، وعالج فيه أدواء النفس الإنسانية فقال له: لا تصعر خدك ولا تتكبر، ولا تمش مرحا مختالا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 49 فخورا، وتوسط في مشيك وغض صوتك.. حقا إنه لحكيم، وإنه المخلص لابنه جدا، وهكذا وصايا الدين كلها في مصلحة الفرد والأمة والجماعة. كيف تكفرون بالله وهو صاحب النعم؟! [سورة لقمان (31) : الآيات 20 الى 21] أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَباطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدىً وَلا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَوَلَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) المفردات: سَخَّرَ: ذلل وَأَسْبَغَ: أكمل وأتم يُجادِلُ: يخاصم بِغَيْرِ عِلْمٍ: بغير حجة. وهذا رجوع إلى ما مضى قبل قصة لقمان من خطاب المشركين، وتوبيخ لهم على إصرارهم على ما هم عليه مع مشاهدتهم لدلائل التوحيد. المعنى: ألم تروا أيها الناس دلائل التوحيد الناطقة بوحدانية الله- سبحانه- في كل شيء فهو الذي سخر لكم ما في السموات وما في الأرض، وذلل لكم كل شيء، وخلق لكم ما في هذا الكون، وآية ذلك ما نرى من استخدام قوى الطبيعة وتسخير الماء والهواء والبخار والمعادن والذرات لمصلحتك أيها الإنسان، وهو الذي أسبع عليكم نعمه وأتمها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 50 ظاهرة وباطنة، ونعم الله لا تعد ولا تحصى، ومنها الظاهرة والمعروفة وكثير منها لا يعلم، وقد يكشف عنها العلم في يوم من الأيام. ومع هذا كله فمن الناس من يجادل في الله ويخاصم في شأنه بغير علم ولا حجة ولا هدى من رسول أو نبي، ولا كتاب أنزله الله عليه ينير له الطريق الحق، وإنما مصدر هذا الخصام، ومبعث هذا الجدل المؤدى إلى الشرك بالله هو التقليد الأعمى واتباع الهوى والشيطان. وإذا قيل لهم: اتبعوا ما أنزل الله على رسوله بالهدى ودين الحق قالوا: بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا! أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون؟ أيتبعونهم ولو كان الشيطان يدعوهم إلى عذاب السعير؟ المؤمن والكافر [سورة لقمان (31) : الآيات 22 الى 24] وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَإِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24) المفردات: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ: يخلص عبادته إليه مُحْسِنٌ الإحسان: الإتقان نَضْطَرُّهُمْ: نلجئهم ونسوقهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 51 المعنى: وهذان فريقان: فريق في السعير، وفريق أسلم وجهه إلى الله، وأخلص عبادته وقصده ووجهه إليه، وعبد الله لم يشرك به شيئا، وهو محسن في عمله، يراقب ربه مراقبة من يراه ويشاهده، فإن لم يكن يراه فإن الله يراه ويعلم ما يخفيه صدره، وهذا هو الإحسان كما نطق بذلك الحديث «الإحسان: أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لّم تكن تراه فإنّه يراك» . ومن يسلم وجهه إلى الله بهذا الشكل فقد استمسك بالعروة الوثقى، وتعلق بأوثق ما يتعلق به، وهو تمثيل للمتوكل على الله المشتغل بالطاعة بمن أراد أن يرتقى إلى شاهق جبل فتمسك بأوثق عرى الحبل المتدلى منه، وإلى الله عاقبة الأمور فيجازى كلا على عمله خير جزاء. وفريق آخر كفر فلا يحزنك كفره فإنما عليك البلاغ، وعلينا الحساب، وإلى الله المرجع والمآب، فسينبئهم بما عملوا ويجازيهم على ما اجترحوا، إن الله عليم بذات الصدور، هؤلاء نمتعهم في الدنيا زمنا قليلا لأنها لا تزن عند الله جناح بعوضة ثم نضطرهم إلى عذاب جهنم، وبئس القرار. الله هو الخالق وما دونه هو الباطل [سورة لقمان (31) : الآيات 25 الى 32] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26) وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30) أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 52 المفردات: يُولِجُ: يدخل الليل في زمن النهار أَجَلٍ مُسَمًّى أى: معلوم مقدر الْفُلْكَ: السفن صَبَّارٍ: كثير الصبر كَالظُّلَلِ: جمع ظلة، وهي الجبال التي تظل من تحتها مُقْتَصِدٌ: متوسط خَتَّارٍ الختر: أسوأ الغدر كَفُورٍ جاحد لنعم الله كافر به. المعنى: الله- سبحانه وتعالى- خلق السموات بغير عمد ترونها وأسبغ نعمه الظاهرة والباطنة على الناس جميعا، وهنا بين أنهم معترفون بذلك غير منكرين له لوضوح الأمر بحيث اضطروا إلى الاعتراف به، قل الحمد لله على أن جعل دلائل التوحيد من الظهور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 53 بحيث لا يكاد ينكرها المكابرون. بل أكثرهم لا يعلمون أن ذلك يلومهم وأنه حجة عليهم وأنهم لم ينتبهوا مع زيادة التنبيه. لله ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا، وإذا كان الأمر كذلك تحقق أن الحمد كله لله، إن الله هو الغنى عن الكل، والكل محتاج إليه، محمود مشكور في السماء والأرض، وإن لم يحمده أحد، فهو غنى عن حمد الحامدين، ولا يلحقه نقص بسبب كفر الكافرين. إن في قدرته- تعالى- وعلمه عجائب لا تنفد وأسرار لا نهاية لها، فلو أن ما في الأرض من شجرة أقلام يكتب بها، والبحار مداد لها، ما فنيت عجائب صنع الله، وما نفدت كلمات الله، والظاهر- والله أعلم- أن المراد بكلمات الله كلماته التكوينية- كن فيكون- وقال بعضهم: إن المراد بكلمات الله هو الكلام الأزلى القديم إذ هو الذي لا نهاية له، والغرض من الآية الإعلام بكثرة معاني كلمات الله وأنها ليست متناهية وأنها لا تنفد بأكثر من هذه الأقلام والبحور، أى: لا تنفد مطلقا، إن الله عزيز لا يعجزه شيء حكيم لا يخرج شيء عن علمه وحكمته. وهذه آيات قدرته وكمال علمه تبطل إنكارهم للبعث، إذ ما خلقكم أيها المشركون ولا بعثكم إلا كنفس واحدة، إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون، وقد علمتم أن كلمات الله التكوينية لا تنفد أبدا، إنه سميع لما يقولون، بصير بما يعملون. وهاتان آيتان تدلان على أن الله سخر لكم السماء والأرض وما فيهما. ألم تر أن الله يولج الليل في زمن النهار؟ أى: يجعل الليل في الزمان الذي كان فيه النهار، فمثلا إذا كان الليل اثنتي عشرة ساعة والنهار كذلك ثم زيد الليل ساعتين كانتا على حساب النهار فيصبح الليل أربع عشرة ساعة والنهار عشر ساعات، وهذا معنى قوله: يولج الليل في النهار، وكذلك يولج النهار في الليل، وسخر الشمس والقمر كل يجرى إلى أجل مسمى وزمن معلوم، إن الله بما تعملون خبير، فليس بعد هذا وجه لمن يعبد الشمس أو القمر أو غير هما من الكواكب ويترك عبادة من سخر هما وذللهما لمنافع الناس، وكذلك من يعبد الظلام والنور ويترك من أوجد الظلام والنور!! ذلك الذي وصف من عجائب قدرته وحكمته والذي تلى من الآيات السابقة بسبب أنه تعالى هو الحق الثابت الألوهية وأنه لا معبود بحق إلا هو، وأن ما يدعون من دونه من أصنام الجزء: 3 ¦ الصفحة: 54 وأوثان هو الباطل الواضح البطلان، وأن الله هو العلى الشأن الكبير السلطان المتعالي عن أن يشرك به. ولقد ذكر الله- سبحانه وتعالى- آية سماوية تدل على أنه سخر لكم ما في السموات بقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ.. [فاطر 13] وهنا ذكر آية أرضية تدل على أنه سخر لنا ما في الأرض جميعا بقوله: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ. والمعنى: ألم تر أيها المخاطب أن السفن تجرى في البحر وتمخر عبابه بإحسان الله ونعمته وفضله ورحمته ليريكم بعض آياته إن في ذلك كله لآيات لكل صبار في الشدة شكور في النعمة، وإذا غشيهم موج مرتفع كالجبال الشاهقة التي تظل من تحتها- وهذا يكون عند اضطراب البحر- إذا غشيهم هذا الموج وعلاهم رجعوا إلى الفطرة ودعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد في الكفر متأثر بما رأى ومنهم كفور جاحد، وما يجحد بآياتنا الكونية والقرآنية إلا كل ختار كثير الغدر سيئه، كفور بنعم الله. يا عجبا لك أيها الإنسان! هذه الآيات الناطقة الشاهدة بوحدانية الله، وأنه القادر المريد، وأنه لا معبود بحق إلا هو، ثم مع هذا يكفر بالله، وإذا أصابه ضر أو وقع في شدة لجأ إلى الله وحده، ثم إذا كشف عنه الضر إذا هم به يشركون. وعظ وإرشاد [سورة لقمان (31) : الآيات 33 الى 34] يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33) إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 55 المفردات: لا يَجْزِي: لا يغنى فيه أحد عن أحد فَلا تَغُرَّنَّكُمُ: فلا تخدعنكم الْغَرُورُ: هو الشيطان، وقيل: هو تمكينهم مع المعصية من المغفرة. لما ذكر- سبحانه- من أول السورة إلى هنا ما يثبت لله الوحدانية، وينفى عنه الشريك مع إثبات البعث في القيامة للحساب، وهذا ما يغرس في النفوس التقوى والخوف والإيمان، نادى الناس إلى التقوى والخوف من الله ومن حسابه في يوم القيامة، وكان ختاما رائعا دقيقا لتلك السورة. المعنى: يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم فسواكم وعدلكم، وخلق لكم كل ما في السموات والأرض، وسخر لكم هذا الكون، اتقوه حق تقواه، وخذوا لأنفسكم الوقاية من عذابه الشديد، واخشوا يوما شديدا هوله، لا يقضى فيه إنسان عن إنسان ولا يغنى فيه والد عن ولده، ولا مولود هو نافع والده شيئا، بل كل نفس بما كسبت رهينة، ولا تزر وازرة وزر أخرى، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، واعلموا أن وعد الله- البعث- حق لا شك فيه ولا مرية، فلا تخدعنكم الدنيا بزخارفها وزينتها فتركنوا إليها وتتركوا العمل للآخرة، والآخرة خير وأبقى، ولا يغرنكم بالله الغرور من الشيطان الذي أقسم ليغوينكم أجمعين، فهو يعد الناس ويمنيهم، وما يعدهم الشيطان إلا غرورا، وقيل: الغرور هو الأمور الباطلة التي تخدع كثيرا من الناس كمن يغتر بشفاعة شافع أو انتسابه إلى أمة النبي صلّى الله عليه وسلّم مثلا، وهذا داء قديم كان عند أهل الكتاب وعالجه القرآن بقوله: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَلا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً «1» ، وعن سعيد بن جبير رضى الله عنه: الغرور بالله: أن يتمادى الرجل في المعصية ويتمنى على الله المغفرة. وفي قوله تعالى: لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسّه النار إلّا تحلّة القسم» وقال: «من ابتلى بشيء من   (1) - سورة النساء آية 123. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 56 هذه البنات فأحسن إليهنّ كنّ له حجابا من النّار» : قال القرطبي: المعنى في هذه الآية أنه لا يحمل والد ذنب ولده، ولا مولود ذنب والده ولا يؤخذ أحدهما عن الآخر، والمعنى بالأخبار التي مرت بك أن ثواب الصبر على الموت، والإحسان إلى البنات يحجب العبد عن النار، ويكون الولد سابقا له إلى الجنة. هذا اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون لا يعلم وقته إلا الله، فلا يطمعن أحد في معرفته أبدا إذ الله هو العالم به، وهو يعلم كذلك متى ينزل الغيث، الذي يحيى الأرض بعد موتها، وكذلك يحيى الله الناس لهذا اليوم، وهو الذي يعلم ما في الأرحام أذكر هو أم أنثى؟ ومالك تطلب معرفة هذا اليوم؟ وأنت لا تدرى أمس الأشياء بك وأقربها إليك وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ. إن الله عليم حقا خبير بعباده، فهو يجازيهم ويحاسبهم على هذا الأساس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 57 سورة السجدة وهي مكية غير ثلاث آيات منها نزلت بالمدينة: وهي قول الله تعالى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ إلى قوله تعالى: وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ الآية 18: 20، وعدد آياتها ثلاثون آية، روى البخاري عن ابن عباس وأبى هريرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة الم تَنْزِيلُ السجدة، وهَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ وروى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان لا ينام حتى يقرأ سورتي (السجدة وتبارك) . وهي تهدف إلى تقرير توحيد الله بما تعرض من صفحة الكون وما فيه من عجائب ونشأة الإنسان، وما سيكون من مشاهد القيامة، وما لقيه السابقون، وكذلك تقرر صدق الرسول محمد صلّى الله عليه وسلّم الموحى إليه بهذا القرآن لهداية البشر. وكذلك تقرر البعث والحساب بما يقطع حجتهم ويزيل شكهم. القرآن من عند الله الذي خلق ودبر وأحسن كل شيء صنعا [سورة السجده (32) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 58 المفردات: لا رَيْبَ: لا شك افْتَراهُ: اختلقه أَيَّامٍ: جمع يوم. والعرب تطلقه على جزء من اليوم، وقال النحاس: اليوم في اللغة بمعنى الوقت الْعَرْشِ: الملك وَاسْتَوى: بمعنى استولى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أى: أمر الدنيا ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ: يرجع ويصعد نَسْلَهُ: ذريته، وسميت الذرية نسلا لأنها تنسل منه، أى: تنفصل مَهِينٍ أى: ضعيف، وهو النطفة ثُمَّ سَوَّاهُ أى: سوى خلقة وأتمه. المعنى: وهذا افتتاح لسورة السجدة وهي سورة مكية كما قدمنا، جاء افتتاحها على نسق السور المكية من الكلام على القرآن الكريم والرد على المشركين، وذكر الآيات الكونية دليلا على وحدانية الله، وعلى إمكان البعث، وفي القرآن الكريم إثبات لرسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم ودليل على صدقه، وهذه السور المكية جاءت لفتح القلوب وتنوير البصائر وتكوين النفوس. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 59 الم. تنزيل الكتاب الذي أنزل على محمد- حالة كونه لا ريب فيه ولا شك- من رب العالمين، وانظر إلى قوله: الكتاب وما فيه من معنى الكمال في كل شيء حيث جعل أساسا لنفى الشك عنه ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ بل أيقولون افتراه؟! واختلقه محمد من عنده؟! وهذا استفهام إنكارى، على معنى: لا يصح ولا يليق منهم هذا القول بعد قوله تعالى: تنزيل من رب العالمين وبعد ما ثبت عجزهم عن الإتيان بمثله مع التحدي السافر لهم (وبل هنا للإضراب والانتقال من عنصر في الكلام، وبل الثانية للإضراب وإبطال الكلام السابق قبلها) . لا بل هو- أى: القرآن الحق الثابت فيه- من ربك جل شأنه وهو الحق لما فيه من حق وصدق ولما فيه من تفسير للكون، وما فيه من ربط محكم بين الإنسان وهذا الكون وهو الحق لخلوه من ظلم في الدنيا أو في الآخرة، أنزله عليك لتنذر قوما- ما أتاهم من نذير من قبلك- رجاء الهداية لهم والتوفيق، وهل العرب لم يأتها نذير قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم أو أتاهم نذير كبقية الأمم؟ وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [سورة فاطر آية 24] والتاريخ يؤيد أنه لم يكن بين إسماعيل ومحمد نبي. أنذرتهم رجاء الهداية والتوفيق لهم، وهذا أسلوب محكم دقيق حيث أثبت أن القرآن منزل من عند رب العالمين وأنه لا شك فيه، وهذا يستلزم صدق النبي فيما يدعيه ثم أضرب عن ذلك لينكر قولهم: إنه مفترى على الله حيث ثبت عجزهم بعد التحدي ثم أضرب عن إنكارهم هذا إلى إثبات أنه الحق الثابت من عند الله. وما رب العالمين الذي أنزل القرآن على رسوله؟ هو الله الذي خلق السموات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش، عرفهم الله كمال قدرته ليسمعوا القرآن ويتأملوه، وليعلموا أنه صادر من حكيم قادر عليهم، بعباده خبير بصير، الله الذي خلق السموات والأرض، وأبدعهما، وفطرهما لا على مثال سابق في ستة أيام الله أعلم بمقدارها، أيام عند الله لا كأيام الدنيا المقدرة بدورة الأرض أمام الشمس، هذه إشارة إلى التدبير والإحكام في الخلق. ثم استوى على العرش استواء يليق بعظمته وجلاله، وأنه لا يحده زمان ولا مكان ولا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير، وهذا رأى من يفوض أمثال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 60 هذا لله وهم السلف، أما الخلف فيقولون: استوى على ملكه يدبر أمره، ويحكم سياسته، فالاستواء كناية عن الاستيلاء والتدبير. ما لكم من دونه من ولى يلي أموركم، ويدفع عنكم عذابكم، وليس لكم شفيع من دونه ينصركم إن جاءكم بأسنا، فإن خذلكم الله الذي خلقكم لم يبق لكم ولى ولا نصير. الله- سبحانه وتعالى- يدبر أمر الدنيا وينظم شئونها وأحوالها التي تقع فيها، كل ذلك موافق لقضائه السابق، وجار على وفق إرادته الأزلية التي قضت بهذا النظام الموجود على هذا الترتيب، وكان تدبير الأمر ونظامه مبتدئا من السماء ومنتهيا إلى الأرض، لأن التدبير يرجع إلى أمور سماوية، ومنوط بأسباب علوية، وهو ينتهى بآثاره إلى الأرض ويظهر عمليا على وجهها، كل ذلك إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه ذلك الأمر ويصعد إليه ليحكم فيه بحكمه العدل يوم القيامة، يوم مقداره ألف سنة مما تعدون، وقد جاء في سورة «سأل» كان مقداره خمسين ألف سنة، والمخلص من هذا أن يوم القيام فيه أيام فمنها ما مقداره خمسون ألف سنة، ومنها ما مقداره ألف سنة، وقيل: إن الزمن الواحد تارة يكون طويلا جدا وطورا يكون قصيرا عند صاحبه. ويوم كظل الرمح قصر طوله ... دم الزق عنا واصطكاك المزاهر وقيل: إن الملك يعرج إلى مكانه المحدد له في يوم مقدر بالنسبة لنا ألف سنة، وهو عنده لحظة الله أعلم بها. ذلكم الله خالق السماء والأرض ومدبر هذا الكون، هو عالم الغيب والشهادة فاحذروا عقابه، وانظروا في كتابه نظر تأمل وبحث لعلكم ترجعون وتثوبون إلى رشدكم، وهو العزيز لا يعجزه شيء، القاهر لا يقف دونه شيء، ومع هذا فهو الرحيم بخلقه الرحمن بهم، يدعوهم إلى الخير، ويرسل لهم رسلا تهديهم إلى الحق، وينزل عليهم كتبا فيها الشفاء والرحمة والنور والهداية للناس جميعا. وهو الله لا إله إلا هو الذي أحسن كل شيء خلقه، إذ هو مرتب وجار على ما اقتضته الحكمة، وأوحته المصلحة، فكل شيء في الكون له مكانه ونظامه وترتيبه حتى الكلب العقور والثعبان والحية، فالله خلق هذا العالم كله، على نظام دقيق، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 61 وترتيب محكم، وما يعقل هذا إلا العالمون، وإنك قد ترى نباتا أو حيوانا أو شيئا في هذا الكون وتخفى عليك حكمته، ويعمى عنك سر وجوده، تكشف لك الأيام عن أسرار وحكم لا يجليها لوقتها إلا خالقها العليم بها البصير بكنهها. وهو الذي بدأ خلق الإنسان الأول من طين ثم سواه وأتمه، ونفخ فيه من روحه فكان الإنسان مكونا من مادة هي طين لازب ثم من روح هي من الحق تبارك وتعالى. وجعل لكم أيها الناس سمعا وبصرا وقلوبا وأفئدة لعلكم تنظرون فتدركوا الأسرار، وتقفوا على الحكم والأخبار، ولا شك أن هذه طرق العلم الصحيح والمعرفة الصادقة، ولكن قليلا ما تعرفون فتشكرون، بل ران على قلوبهم، وختم على سمعهم وأبصارهم، فهم لا يهتدون، وقليلا ما يشكرون. إنكارهم للبعث [سورة السجده (32) : الآيات 10 الى 14] وَقالُوا أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11) وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَسَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 62 المفردات: ضَلَلْنا العرب تقول: ضل الماء في اللبن: إذا ذهب، وتقول للشيء غلب عليه غيره حتى خفى فيه أثره: ضل، وتقول لما غاب في الأرض: ضل، والمراد هلكنا وصرنا ترابا يَتَوَفَّاكُمْ توفى العدد والشيء: إذا استوفاه وقبضه جميعا، وقالوا: توفاه الله، أى: قبض روحه، والتوفي والاستيفاء بمعنى واحد، والمراد: يقبض أرواحهم حتى لا يبقى أحد منهم ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ مطأطئوها وخافضوها الْجِنَّةِ: الجن. المعنى: وقال المشركون: أإذا هلكنا وصرنا مختلطين بتراب الأرض لا نتميز منه كما يضل الماء في اللبن، أو غبنا في الأرض بالدفن فيها أنبعث؟ والمعنى: أنبعث إذا متنا وصرنا إلى هذا الحال؟ هم بلقاء ربهم للحساب والجزاء كافرون، فلم يكفروا بقدرة الله على الإعادة فقط بل هم كافرون بأصل الثواب والعقاب يوم القيامة، قل لهم: يتوفاكم ملك الموت وهو عزرائيل على الصحيح الذي وكل إليه قبض أرواحكم فلن يفلت منه منكم أحد، ولن يشغله شيء عن قبض أرواحكم إذ هو عمله المطلوب منه ثم إلى ربكم ترجعون، تراه خاطبهم بتوفى ملك الموت لهم ثم بالرجوع إلى ربهم بعد ذلك مبعوثين، وهذا معنى لقاء الله الذي كفروا به. ذكر هذا المعنى في الأنعام بقوله: تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وفي سورة الزمر: بقوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها، ولا منافاة لأن الله- تعالى- هو المتوفى حقيقة بخلق الموت وأمر الملائكة بنزع الروح، ولملك الموت أعوان له ينزعون الروح من الأظافر إلى الحلقوم ثم يقبضها عزرائيل الذي هو ملك الموت فلا منافاة بين الآيات. ولو ترى يا محمد إذ المجرمون ناكسو رءوسهم من الخزي والعار ساعة الحساب لرأيت أمرا فظيعا ولرأيتهم على أسوأ حال وأفظع وضع، وهذا من باب التمني، على معنى ليتك ترى يا محمد المجرمين وقت الحساب وهم في الغم والخزي والهم إلى الأذقان، ليتك تراهم لتشمت بهم حيث تجرعت منهم الغصص ونالك من عداوتهم ما نالك، يقول المجرمون ساعة الحساب: ربنا أبصرنا وسمعنا، أبصرنا بصدق وعدك وسمعنا بصدق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 63 رسلك، فهم قد أبصروا حيث لا ينفعهم البصر أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا «1» يقولون ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا إلى الدنيا نعمل صالحا إنا موقنون، فوعدك حق ولقاؤك صدق، وقد علم الله أنهم لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون، وكيف يكون من هؤلاء إيمان وتوفيقهم إلى الطاعة، ولو شئنا لآتينا كل نفس من النفوس هداها فتهتدى بالإيمان والطاعة باختيار منها وكسب لها ولكن لم نشأ توفيق الناس جميعا إلى ذلك، بل حق القول منى وثبت وحم القضاء ونزل وهو لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «2» وعند بعض العلماء في مثل هذه الآيات أن المعنى: ولو شئنا إلجاء الناس إلى الهدى لآتينا كل نفس هداها، ولكن قضت حكمتنا أن يكون للجنة والنار قوم فتركناهم واختيارهم وحق القول منى لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين، وتقول لهم الخزنة حين دخولهم النار: ذوقوا العذاب الأليم بسبب نسيانكم هذا اليوم وترككم الاستعداد له فذوقوا عذاب الخلد الدائم بما كنتم تعملون من الكفر والتكذيب. وفي قوله تعالى: وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها «3» . وفي قوله: وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً «4» . مع قوله: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا، لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ «5» . وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «6» وقع خلاف بين العلماء هل العبد مجبور لا اختيار له نظرا إلى قوله: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ «7» وأمثالها في القرآن؟ أم هو مختار والاختيار مناط الثواب والعقاب نظرا إلى قوله: فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا؟ والواقع أنه قد فرط أصحاب كل رأى. والحق- والله أعلم- أن هناك فرقا بين فعل فعلته باختيارك الظاهري، وبين فعل فعلته مضطرا كارتعاش اليد مثلا، فالكل من الله، والله صاحب التصريف، ولكن في الأول يظهر الاختيار بصورة واضحة، وصح تعليق الثواب والعقاب حينئذ بصاحبه ضرورة أنه لا يعرف عند الفعل مشيئة الله له، وإن كان في الواقع هو مجبور على هذا الفعل الموافق للمشيئة فهو مجبور في صورة مختار.   (1) - سورة الكهف آية 26. (2) - سورة هود آية 119. (3) - سورة السجدة آية 13. (4) - سورة يونس آية 99. (5) - سورة المزمل آية 19. [ ..... ] (6) - سورة الإنسان آية 30 سورة التكوير آية 29. (7) - سورة الإنسان آية 29. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 64 وهؤلاء هم المؤمنون وهذا هو جزاؤهم [سورة السجده (32) : الآيات 15 الى 22] إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22) المفردات: تَتَجافى التجافي: الابتعاد والارتفاع الْمَضاجِعِ: جمع مضجع، وهو الموضع الذي يضجع فيه بفرش النوم قُرَّةِ أَعْيُنٍ القرة: اسم لما يحصل به القرير، أى: الفرح والسرور فاسِقاً أى: كافرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 65 المعنى: لقد مضى ذكر الكفار الذين أجرموا وعملوا السيئات، وما كان من حالهم يوم القيامة، وهنا الكلام على المؤمنين الذين عملوا الصالحات: إنما يؤمن بآياتنا القرآنية والكونية، ويصدق برسلنا الذين إذا ذكروا بها، وتليت عليهم بعض آياتها خروا ساجدين لله بأعضائهم، وسبحوا بحمد ربهم، أى: جمعوا بين التسبيح والحمد حيث قالوا: سبحان الله وبحمده، وسبحان ربي الأعلى، وهم لا يستكبرون عن عبادته بقلوبهم، فهي عامرة بالإيمان، ترى في العبادة قرة عينها وراحة ضميرها إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ [غافر 6] . ترى أن الله- سبحانه- بين الدرجة العالية للمؤمن الذي إذا ذكر بالقرآن حصل منه سجود بالأعضاء، وحمد وتنزيه باللسان، وخضوع بالقلب والجنان، كل ذلك بمجرد التذكير لا خوفا من عقاب ولا طمعا في ثواب. ثم ذكر صنفا أقل وهم الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع، ويبتعدون عن الفراش الوثير، ويهرعون إلى الصلاة يدعون ربهم خوفا من عقابه، وطمعا في ثوابه، وهم ينفقون بعض ما رزقناهم في سبيل الله. القيام بالليل والتهجد فيه لون من العبادة عال، وتوفيق من الله كبير، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، وقد ورد فيه مع هذه الآيات آيات وأحاديث كثيرة كلها تهدف إلى بيان فضله، وجزيل مثوبته. ففي حديث معاذ بن جبل أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال له: «ألا أدلّك على أبواب الخير؟ الصّوم جنّة، والصّدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النّار، وصلاة الرّجل في جوف اللّيل- قال: ثم تلا تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ حتى بلغ يَعْمَلُونَ أخرجه أبو داود. وغير هذا الحديث كثير، وروى أبو داود عن أنس بن مالك أن هذه الآية المراد بها التنفل بين المغرب والعشاء، وقيل: هو صلاة الرجل العشاء والصبح في جماعة، فإن هذا يستدعى انتظار الجماعة وهو مشغول بالذكر والتسبيح وصلاة النفل، فقد وصل التجافي أول الليل وآخره، هؤلاء الناس الذين قاموا بالليل أو انتظروا الجماعة في صلاة العشاء والصبح والناس نيام، قد أخفوا أعمالهم، وطهروا نفوسهم من الرياء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 66 والنفاق، لهم جزاء من جنس أعمالهم، فلا تعلم نفس عظمة ما أخفى لهم وأعد في الجنات من النعيم المقيم، والثواب الجزيل على سبيل التفصيل، لما أخفوا أعمالهم أخفى الله ثوابها جزاء وفاقا، قال الحسن البصري: أخفى قوم عملهم فأخفى الله لهم ما لم تر عين ولم يخطر على قلب بشر، وعن أبى هريرة- رضى الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: قال الله تعالى: «أعددت لعبادي الصّالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» قال أبو هريرة: اقرءوا إن شئتم فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ. أولئك الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا، وهم الذين يتقبل الله عنهم أحسن ما عملوا، ويتجاوز عن سيئاتهم وعد الله الصدق الذين كانوا يوعدون، ولا غرابة فالعبد يعمل سرا أسره إلى الله لم يعلم به الناس، فأسر الله له يوم القيامة قرة أعين، ولعل التقييد بقوله: «عن المضاجع» لمزيد مدحهم وبيان قوة إيمانهم، لأن المضجع إذا كان مفروشا كان النوم فيه ألذ، والنفس إليه أميل، فإذا هجره المؤمن، والحالة هذه لأجل الصلاة، ومناجاة ربه، كان ذلك أمدح له وأدل على كمال يقينه. أفبعد ما بيناه من التفاوت بين المؤمن الذي ذكرت أوصافه، والفاسق الكافر الذي ذكرت أحواله يكون المؤمن كالفاسق؟ لا. إنهم لا يستوون أبدا في الدنيا والآخرة. أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فأولئك لهم جنات المأوى التي فيها المساكن والدور والغرف العالية التي أعدت وهيئت لتكون نزلا، أى: للضيافة والكرم جزاء لهم بما كانوا يعملون، وأما الذين فسقوا وخرجوا عن الطاعة فالنار هي المأوى لهم، التي يأوون لها من شدة الموقف حتى إذا ما دخلوها وجدوها نارا تلظى، فيحاولون الخروج، وأنى لهم ذلك؟ إذ كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها وقيل لهم تأنيبا وتقريعا: ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون. ولا غرابة في هذا فالله يقول: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ [الجاثية 21] أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [سورة ص آية 28] أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ وليس من العدل في شيء أن يسوى بين المؤمن العامل والكافر الفاسق!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 67 ولنذيقنهم، أى: الكفار والعصاة بعض العذاب الأدنى من مصائب الدنيا وآفاتها لعلهم يرجعون ويتنبهون، لنذيقنهم بعض العذاب البسيط دون العذاب الكبير لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويؤمنون بربهم، وتلك سنة الله مع الأمم فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَالْجَرادَ وَالْقُمَّلَ [سورة الأعراف آية 133] . ولا غرابة في ذلك فلا أحد أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها عتوا واستكبارا وحسدا من عند نفسه! وهذا الصنف من الناس جزاؤه واجب، وعقابه أمر محتم أوجبه العدل والحكم القسط، إن ربك من المجرمين منتقم جبار، سينتقم منهم أشد الانتقام. مواعظ وعبر [سورة السجده (32) : الآيات 23 الى 30] وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَجَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25) أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَفَلا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلا يُبْصِرُونَ (27) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 68 المفردات: مِرْيَةٍ: شك أَئِمَّةً: جمع إمام، أى: زعماء وقادة في الدين أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ: أو لم يتبين لهم الْقُرُونِ: الأمم السابقة الْجُرُزِ: هي الأرض اليابسة التي جرز نباتها، أى: قطع لرعى أو لعدم الماء فيها مع صلاحيتها للإنبات، وقيل: رجل جروز إذا كان لا يبقى شيئا إلا أكله، وناقة جروز، أى: تأكل كل شيء تجده، وسيف جروز، أى: قاطع ماض مَتى هذَا الْفَتْحُ متى هذا الحكم؟ إذ الفتح القضاء، وقيل للحاكم: فاتح وفتاح لأن الأشياء تنفتح على يديه وتنفصل، وعليه قوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ. وهذا رجوع إلى أحد الأصول الثلاثة، وهي الرسالة والتوحيد وإثبات البعث التي تعنى بها السور المكية، وإنما اختار موسى لكثرة الشبه بينه وبين النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم ولكثرة أتباعه وقوة تأثيرهم في المجتمع العربي. وكل من المسيحيين واليهود يؤمنون به، ومع هذا كثير من المواعظ والعبر. المعنى: ولقد آتينا موسى أخاك الكتاب فأوذى وكذّب وناله ما ناله من ألوان العذاب والسخرية، فلا تكن في شك من أنه سيلقاك ما لقيه من التكذيب والأذى، إذ تلك سنة الكون ونظام الناس. لا بد من اصطراع أهل الحق مع أهل الباطل، وجعلنا الكتاب الذي أنزل على موسى هدى ونورا لبنى إسرائيل، وجعلنا منهم أئمة وقادة، وهم أنبياء بنى إسرائيل يهدون الناس بأمرنا، ويدعونهم ويعظونهم، وكانوا بآياتنا يوقنون، كل ذلك لما صبروا على أحكام الدين وتكاليفه، وصبروا على البلاء وعلى متاع الدنيا الزائل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 69 إن ربك هو يفصل بين المؤمنين والكافرين المنكرين للرسالة، ويقضى بحكمه العدل فيجازى كلا على عمله، ويعطيه ما يستحق من ثواب أو عقاب، وقيل: المعنى: إن ربك يقضى بين الأنبياء وأممهم بالحق. أغفلوا ولم يتبين لكفار مكة إهلاكنا كثيرا من الأمم السابقة- حالة كونهم يمشون في مساكنهم- فيعبتروا ويتعظوا بما حل بغيرهم؟! إن في ذلك لآيات دالات على قدرة الله وحكمه العدل بين الكفار والمؤمنين، أفلا يسمعون سماع قبول وتدبر بقلوبهم؟ وأعموا ولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز التي لا نبات فيها بواسطة المطر أو الأنهار والسيول فنخرج بالماء زروعا وثمارا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون؟! ألم يروا إلى مثل مصر فإنها هبة النيل، ولولا أن الله ساقه إليها لبقيت مصر قطعة من الصحراء لا خير فيها ولا حياة، وإن ربك على كل شيء قدير أفلا يبصرون ذلك فيعتبرون ويتعظون؟. وكان المسلمون يقولون: غدا سيفتح الله علينا، ويحكم بيننا بالحق وهو خير الفاصلين. فكان المشركون يقولون: متى هذا الفتح؟ استبعادا وإنكارا واستهزاء بالنبي وصحبه، قل لهم: يوم الفتح، والقضاء الفصل هو يوم القيامة، يومئذ لا ينفع الذين كفروا إيمانهم بأنهم على باطل، وأنهم تركوا الصراط المستقيم واتبعوا سبل الشيطان فضلوا عن سواء السبل، لا ينفعهم إيمانهم بأن النبي والقرآن حق، ولا هم ينظرون بل يأخذون جزاءهم فورا. فأعرض عنهم، وانتظر ما يحل بهم من العذاب في الدنيا والآخرة، إنهم منتظرون بك حادث موت أو قتل فيستريحون منك، وما علموا أن الله عاصمك من الناس ومؤيدك، حتى تؤدى رسالتك كاملة غير منقوصة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 70 سورة الأحزاب مدنية في قول جميع العلماء، وعدد آياتها سبعون آية. نزلت هذه السورة تفضح المنافقين، وتبين إيذاءهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم وطعنهم فيه، وفي نكاحه لأزواجه. وكيف كان موقف المنافقين والكفار في غزوة الأحزاب وغيرها، مع بيان الآداب النبوية لبيت النبي، وقصة زيد بن حارثة، وغير ذلك من الآداب الإسلامية، التي يحتاجها المجتمع الإسلامى الجديد في المدينة وخاصة بعد غزوة بدر الكبرى. توجيهات وآداب [سورة الأحزاب (33) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَاتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3) ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 71 المفردات: تُظاهِرُونَ الظهار: أن يقول الرجل لامرأته أنت على كظهر أمى قصدا إلى تحريمها أَدْعِياءَكُمْ: جمع دعى، وهو من يدعى لغير أبيه على أنه ابنه وفي الواقع هو ابن غيره أَقْسَطُ: أعدل وأقوم وَمَوالِيكُمْ المراد: هم بنو عمومتكم جُناحٌ: ذنب. المعنى: يا أيها النبي دم على تقوى الله، واجتهد في الازدياد منها فإنها باب لا يبلغ مداه، وأنت أولى الناس بها، ولا تطع الكافرين والمنافقين، فلا تساعدهم على شيء، ولا تقبل لهم رأيا، ولا تجعل منهم صاحبا أو صديقا، ولا تطمع فيهم بل احترس منهم فإنهم أعداء الله ورسوله، إن الله كان عليما بحالك وحالهم، حكيما في كل ما أمر به.. روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما هاجر إلى المدينة كان حريصا على إيمان اليهود فإنهم أهل كتاب، ولهم رأى وكلام مسموع في هذا الباب وخاصة عند العرب، وكان يعرف فيهم بعض المنافقين، ويلين لهم الجانب، ويعاملهم معاملة كريمة، ويسمع لهم ويطيع أمرهم، فنزلت. روى أن أبا سفيان بن حرب وعكرمة بن أبى جهل وأبا الأعور السلمى قدموا على النبي صلّى الله عليه وسلّم في الموادعة التي كانت بينه وبينهم. وقام معهم عبد الله بن أبىّ رأس المنافقين، ومعتب بن قشير، والجد بن قيس، فقالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ارفض ذكر آلهتنا، وقل: إنها تشفع وتنفع، وندعك وربك، فشق ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى المؤمنين، وهمّ عمر- وكان حاضرا- بقتلهم، فنزلت ، وهذا نهى للنبي صلّى الله عليه وسلّم عن إطاعة الكفار والمنافقين، وأمر له بإعلان الحرب عليهم غير آبه بهم ولا ملتفت إليهم، وفي هذا من الخطر ما فيه عند العقلاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 72 لذلك جاء الإسلام يعلل ويعالج، ولا يترك المحتاج يتخبط بل يرسم الطرق الحكيمة، ويضع العلامات واللافتات حتى تصبح الصراط المستقيم، فاستمع إلى القرآن وهو يغرس في نفوس المسلمين العزة والكرامة، ويربيهم على أنهم لا يلتفتون إلى الكفار والمنافقين مهما كان شأنهم، يقول: إن الله كان عليما بالمصلحة والصواب حكيما لا يأمر ولا ينهى إلا بداعي الحكمة الحكيمة. فنفذوا النهى، وامتثلوا الأمر فإن هذا خير لكم، والعلاج الثاني هو أن يتبع ومن معه ما يوحى إليه من لدن رب العالمين، إنه بما تعملون خبير فيوحى إليكم بكل نافع إذ هو خبير بالعباد بصير، والعلاج الثالث هو التوكل على الله حقا، والاعتماد على جنابه اعتمادا حقيقيا، لا شبهة فيه ولا ادعاء، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وكفى به وكيلا. يا لله، كأن القرآن ينادينا ويحذرنا من طاعة الكفار المنافقين والركون إليهم والاستماع لهم ما داموا يقفون منا موقف العناد، ويثيرون علينا غبار الذل والهوان، ولا علينا شيء بعد هذا، ولن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا، ثم يقول: ثقوا بالله، إنه عليم حكيم فنفذوا أمره واجتنبوا نهيه، وعليكم باتباع القرآن وتنفيذه في كل صغير وكبير مع أنفسكم ومع إخوانكم وفي بيوتكم وأسركم، ثم بعد هذا توكلوا على الله فإنه من يتوكل عليه يكفيه كل مكروه، واعلموا أن الله يدافع عن الذين آمنوا. وعلى هذا فالواجب علينا ما دمنا مؤمنين بالقرآن والنبي أن نطبق هذا الحكم، وأن نعالج أنفسنا وأمراضنا باتباع القرآن حقا في كل شيء، والتوكل على الله. وانظر إلى قوله تعالى بعد هذا: ما جعل الله لرجل- أيا كان- قلبين في جوفه، والقلب محل التوجيه، ومبعث الاتجاهات والعواطف، فإذا كنت مع الله ورسوله وليس في قلبك مثقال ذرة من كفر أو نفاق، فلن تكون غير مؤمن صالح كامل متبع للقرآن داع له ولحكمه، متوكل على الله، والعرب تفهم في هذا أنه لا يجتمع اعتقادان متغايران في قلب كما لا يجتمع قلبان في جوف، ولا يصح أن تكون أخلاقنا وآدابنا من واد وديننا من واد، ونظامنا واقتصادنا من واد آخر. ومن هنا كان استدراجا محكما حيث نفى اجتماع الزوجية مع الظهار، والتبني مع النسب الصريح بعد ما نفى وجود اجتماع اتجاهين مضادين في قلب واحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 73 ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه، وما جعل أزواجكم اللاتي تظاهرون منهن أمهاتكم كما كانوا يقولون- على سبيل التحريم-: أنت على كظهر أمى، أى: أنت محرمة على كتحريم ظهر أمى على، فجعل زوجته كأمه، ولكن الله- سبحانه وتعالى- ما جعل الزوجة كالأم، وإن من يظاهر من امرأته ليقول منكرا من القول وزورا، فإذا عاد في ظهاره بمعنى أنه مضى عليه وقت يتمكن فيه من الطلاق ولم يطلق وجبت عليه كفارة الظهار (عتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا) وسيأتى في سورة المجادلة تفصيل وبيان لذلك. وَما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذكر القرطبي في تفسيره: أنه أجمع أهل التفسير على أن هذه نزلت في زيد بن حارثة، وروى الأئمة أن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد ابن حارثة إلا زيد بن محمد حتى نزلت ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ. وزيد هذا كان مسبيا من الشام، سبته خيل من تهامة فابتاعه حكيم بن حزام بن خويلد فوهبه لعمته خديجة ثم وهبته للنبي صلّى الله عليه وسلّم فأعتقه وتبناه، وقد اختار زيد الرق مع رسول الله على الحرية مع أهله وقومه، فتبناه النبي وقال: «يا معشر قريش اشهدوا أنّه ابني يرثني وأرثه» ومن هنا نفهم أن التبني كان معمولا به في الجاهلية، وأقره الإسلام مدة، ثم جاء فحرمه حيث قال: ذلكم، أى: دعاؤكم الذين تبنيتموهم قول باللسان فقط لا أساس له من شرع أو عقل، وذلك تأكيد لبطلان القول بهذا، بل الواجب أن تدعوهم لآبائهم في النسب لا في التبني، فالله يقول الحق، وهو يهدى إلى سواء السبيل، والواجب أن تترك تلك العادة وأن تدعوا الإنسان إلى أبيه في النسب فقد قال الحق تبارك وتعالى ما معناه.. ادعوا الذين تبنيتموهم لآبائهم هو أقسط عند الله وأعدل، فمثلا يقال: زيد بن حارثة لا زيد بن محمد كما كان الناس يقولون. فإن لم تعلموا آباءهم فهم إخوانكم في الدين ومن بنى عمومتكم فمثلا تقولون لغير معروف النسب: يا فلان. يا أخى. يا بن عمى.. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات 10] . ولو نسب الإنسان إلى أبيه من التبني لا من النسب فإن كان ذلك على جهة الخطأ من غير تعمد فلا إثم ولا مؤاخذة لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلكِنْ ما تَعَمَّدَتْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 74 قُلُوبُكُمْ ولا يدخل في نطاق التحريم ما غلب عليه اسم التبني، كما حصل مع المقداد ابن عمرو، فإنه كان قد غلب عليه نسب التبني فلا يكاد يعرف إلا بالمقدار بنى الأسود فإن الأسود بن عبد يغوث كان قد تبناه في الجاهلية وعرف به، فلما نزلت الآية قال: المقداد بن عمرو، ومع ذلك فبقى الإطلاق عليه، ولم يسمع فيمن مضى حكم على من أطلق ذلك عليه أنه عصى بذلك، وكان الله غفورا رحيما برفع إثم الخطأ. النبي عليه الصلاة والسلام ومكانته [سورة الأحزاب (33) : الآيات 6 الى 8] النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6) وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً (8) المفردات: مَسْطُوراً: مكتوبا مِيثاقَهُمْ الميثاق: هو العهد المؤكد مِيثاقاً غَلِيظاً: ميثاقا شديدا. المعنى: النبي- عليه الصلاة والسلام- أولى بالمؤمنين من أنفسهم في كل شيء من أمور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 75 الدنيا والدين، فواجب عليهم أن يكون الله ورسوله أحب إليهم من كل ما سواه حتى أنفسهم، وأن يكون حكمه أنفذ عليهم من حكم أنفسهم، وحقه أثبت لديهم من حقوق أنفسهم وتكون نفوسهم فداء له وأجسامهم وقاية له من كل شر، وكل ما يملكون تحت قدميه، وكل ما أمر به أو نهى عنه أقبلوا عليه مؤمنين به، إذ هو إرشاد لهم وتوجيه، ليظفروا بسعادة الدارين، فهو أولى بالمؤمنين، على معنى أرأف بهم وأعطف عليهم وأنفع لهم من أنفسهم. وأزواجه أمهاتهم في التعظيم والمحبة والإجلال وحرمة النكاح وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً «1» وهذه كرامة لهن فقط، وحفظ لحقوقهن فقط فليس بناتهن إخوة، ولا أخواتهن خالات للمؤمنين. وكان المسلمون في صدر الإسلام يتوارثون بالولاية في الدين وبالهجرة لا بالقرابة، فبين الله تعالى أن القرابة أولى من الحلف، والوراثة باسم الدين والهجرة، وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله- القرآن- أى: أولى من سائر المؤمنين والمهاجرين. لكن أن تفعلوا إلى أوليائكم، أى: من توالونهم وتوادونهم من المؤمنين والمهاجرين والأجانب، أن تفعلوا معروفا كوصية فجائز لا شيء فيه، وإنما المحرم الإرث، كان ذلك، أى: تحريم الإرث بالإيمان والهجرة ووجوب الإرث بالقرابة والرحم، كان ذلك في الكتاب، أى: القرآن مكتوبا ومسطورا. واذكر وقت أن أخذنا من النبيين ميثاقهم وعهدهم المؤكد عليهم بأن يبشر بعضهم ببعض، ويصدق بعضهم بعضا، وإذ أخذنا منك يا محمد، ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى- عليهم الصلاة والسلام- وخص هؤلاء بالذكر مع اندراجهم في النبيين لأنهم أصحاب شرائع وكتب، وهم أولو العزم من الرسل، وهذا مما يؤكد تحريم التوارث بين المؤمن والكافر المفهوم من السياق، فهو مما لم تختلف فيه شريعة نوح ومن معه مع شريعة محمد صلّى الله عليه وسلّم. والخلاصة: أنه كان في ابتداء الإسلام توارث بالهجرة ثم توارث بالقرابة مع الإيمان، وأما التوارث بين مؤمن وكافر فلم يكن دين أحد من الأنبياء الذين أخذ عليهم الميثاق، فلا تداهنوا في الدين، ولا تمالئوا الكفار.   (1) - سورة الأحزاب آية 53. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 76 وأخذنا منهم ميثاقا غليظا، أى: عهدا وثيقا على الوفاء بما التزموا من تبليغ للرسالات وتصديق بعضهم بعضا، فالله أكد على الأنبياء الدعوة إلى دينه وأخذ عليهم المواثيق لأجل إثابة المؤمنين على صدقهم وإيمانهم، ولتعذيب الكفار والعصاة بالعذاب الأليم. غزوة الخندق أو الأحزاب [سورة الأحزاب (33) : الآيات 9 الى 25] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9) إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14) وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21) وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 77 المفردات: مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي، أى: من جهة المشرق وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ أى: أسفل الوادي من جهة المغرب زاغَتِ الْأَبْصارُ: مالت فلم تلتفت إلا إلى عدوها دهشا من فرط الهول الْحَناجِرَ: جمع حنجرة، وهي منتهى الحلقوم ابْتُلِيَ: اختبروا بهذه الغزوة وَزُلْزِلُوا: حركوا حركة شديدة من الفزع مَرَضٌ: ضعف اعتقاد، وشك ونفاق غُرُوراً: باطلا لا ينفع يا أَهْلَ يَثْرِبَ: يا أهل المدينة عَوْرَةٌ: غير حصينة، يقال: دار معورة: ودار عورة إذا كان يسهل دخولها إِلَّا فِراراً أى: هربا مِنْ أَقْطارِها أى: من جوانبها ونواحيها، جمع قطر، وهو الجانب لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ أصل الأدبار جمع دبر، وهو ما قابل القبل، ويطلق على الظهر، والمراد الهزيمة والفرار من الصف الْمُعَوِّقِينَ: المثبطين الذين يصدون المسلمين عن القتال مع رسول الله الْبَأْسَ: القتال أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ: جمع شحيح، أى: بخلاء بالمعونة لكم من حفر أو نفقة في سبيل الله سَلَقُوكُمْ السلق: الأذى. والمراد آذوكم بألسنة سليطة الْأَحْزابَ: هم القبائل المتجمعة لحرب النبي والقضاء عليه أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ: قدوة حسنة نَحْبَهُ: مات، وأصل النحب: النذر، فجعلوه كناية عن الموت. هذه هي غزوة الخندق الذي حفر حول المدينة، وسميت غزوة الأحزاب (لتجمع الأحزاب من قريش وغطفان وقبائل نجد مع يهود المدينة) . وهذه الآيات الكريمة تكلمت فيما تكلمت فيه عن: 1- الوصف العام للغزوة ... من آية 9 إلى آية 11. 2- موقف المنافقين واليهود من المسلمين من آية 12 إلى آية 21. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 79 3- موقف المؤمنين.. من آية 22 إلى آية 25. 4- نهاية المعركة.. آية 25. 5- نهاية اليهود الذين ظاهروا المشركين.. من آية 26 إلى آية 27. المعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله اذكروا نعمة الله عليكم إذ جاءتكم جنود لا قبل لكم بها، تجمعت لإبادتكم والقضاء عليكم، فأرسل الله عليهم ريحا قلعت خيامهم وأثارت خيولهم، وكفأت قدورهم، وأرسل عليهم جنودا من الملائكة لم تروها، وكان الله بما تعملون بصيرا وعلى كل شيء قديرا. رأى اليهود أن القبائل العربية لا طاقة لها بحرب النبي وصحبه متفرقين، فأخذوا يجمعون الجموع ويعقدون الأحلاف، ويحزبون الأحزاب حتى ترمى العرب المشركون الإسلام عن قوس واحدة يضربونه ضربة رجل واحد، فيمحونه من الوجود ويستريحون، وكان حيي بن أخطب وغيره من قادة اليهود يقومون بهذا فألبوا قريشا وغطفان، وبنى مرة، وأشجع وغيرها، وخرجت تلك القبائل بقيادة أبى سفيان لقريش، وعيينة بن حصن لغطفان، والحارث بن عوف على بنى مرة، ومسعر على قبيلة أشجع. ولما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم باجتماعهم تشاور هو وصحبه فيما يعملون، فأشار سلمان الفارسي بحفر الخندق حول المدينة مما يلي السهل، وقد اشترك المسلمون على رأسهم النبي صلّى الله عليه وسلّم في حفر الخندق بهمة ونشاط، وإذا استعصت عليهم صخرة جاء النبي ففتتها بفأسه صلّى الله عليه وسلّم. ولما فرغ الرسول وصحبه من حفر الخندق وأقبلت قريش ومن معها من قبائل كنانة وأهل تهامة من أسفل الوادي جهة الشرق، وأقبلت أسد وغطفان بمن معها من أهل نجد من أعلى الوادي جهة الغرب حتى نزلوا إلى أحد، خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم والمسلمون حتى نزلوا بظهر سلع- جبل المدينة- في ثلاثة آلاف، وضربوا خيامهم، والخندق بينهم وبين المشركين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 80 وفي هذا الوقت العصيب أغرى حيي بن أخطب كعب بن أسد القرظي على نقض العهد الذي بينه وبين النبي صلّى الله عليه وسلّم وامتنع في أول الأمر ثم مال إلى النقض، ويا ليته لم ينقض، ولكنهم اليهود لا أمان لهم ولا عهد ولا ذمة، وأقام الأحزاب في مكانهم والمسلمون أمامهم مدة، ذاق فيها المسلمون الأمرين، مما رأوا من تجمع العرب، ونفاق اليهود ونقضهم العهد وإظهارهم ما كانوا يخفون حتى قال بعضهم: إن بيوتنا عورة فلننصرف فإنا نخاف عليها، ومنهم من قال: يعدنا محمد بفتح كنوز كسرى وقيصر، وأحدنا اليوم لا يأمن على نفسه يذهب إلى الغائط. أقاموا على هذا الحال قريبا من شهر، وليس بينهم حرب إلا الرمي بالنبال والحصى، ولقد اشتد على النبي ذلك المقام فبعث إلى عيينة بن حصن الفزاري وإلى الحارث بن عوف المري ليفاوضهما على ثلث ثمار المدينة لينصرفا بمن معهما ويخذلان قريشا ويرجعان بقومهما عنهم، ولكن الأنصار أبوا ذلك قائلين: والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، فسر الرسول لذلك ووافقهم. وفي هذا نزل قوله تعالى: وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً وهذا تصوير لحالة المسلمين تصويرا دقيقا. وكره بعض فوارس مكة أن يقفوا معطلين فأخذوا يدورون حول الخندق يتحسسون نقطة ضعف، وقد وجدوا فضربوا خيلهم فاقتحمت الخندق، ورأى المسلمون في ذلك خطرا عليهم فأسرع على بن أبى طالب ومعه جماعة من الفرسان ليسدوا هذه الثغرة.. وكانت مبارزة بينه وبين عمرو بن عبد ود انتهت بقتله، فلما عرف صاحباه عكرمة بن أبى جهل وضرار بن الخطاب فرا وخرجت خيل المشركين من الخندق منهزمين هاربين. وفي هذه الآونة الشديدة وقع ثقل المقاومة على المؤمنين الخلص الذين كانت قلوبهم عامرة بالإيمان ونفوسهم في سبيل الدفاع عن الحق أشد من الصخرة صلابة وقوة. ولما وقف المؤمنون الموقف المشهود، ودافعوا دفاع الأبطال، وابتلاهم الله فوقفوا وصبروا وصابروا أراد ربك أن يصرف عنهم السوء، وأن يتم نعمته عليهم ويكفيهم شر القتال على أحسن صورة وأكمل وضع، فألقى في قلوب المشركين الخوف وأوقع فتنة بينهم، وقام نعيم بن مسعود- وكان مشركا فأسلم، وكان محبوبا من الطرفين- بدور الجزء: 3 ¦ الصفحة: 81 هام بين قريظة من اليهود، وبين المشركين حتى انصدع الشمل وتفرق الجمع. وأرسل الله ريحا سموما كفأت قدورهم، وقلعت خيامهم، وأصابهم منها قر ومطر شديدان عقد القوم عزمهم على الرحيل فرجعوا غير آسفين. وهذا أبو سفيان يقول: يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام قد هلك الكراع والخف، وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون، ما تطمئن لنا قدر، ولا تقوم لنا نار، ولا يستمسك لنا بناء، فارتحلوا فإنى مرتحل. وارتحل.. وطلع النهار وإذا المدينة خالية من معسكر الأحزاب وقد فك الحصار، ورجعت الطمأنينة إلى النفوس، ونجح المسلمون في الاختبار بعد أن زلزلوا زلزالا شديدا. أما موقف اليهود من المسلمين فهذا ملخصه: لما سمعوا من النبي صلّى الله عليه وسلّم الوعد بكنوز كسرى وقيصر عند اشتداد المعركة قال طعمة بن أبيرق، ومعتب بن قشير وجماعة من اليهود والمنافقين: كيف يعدنا هذا، ولا يستطيع أحد منا أن يتبرز؟! وانظر إلى فظاعتهم حيث يقولون: ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا!! وفارقوا محمدا فإنه هالك، وإن أبا سفيان إن ظفر بكم لم يبق منكم أحدا فارجعوا إلى منازلكم، واهربوا من جند محمد، وما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبى سفيان ومن معه؟! وفي رواية أن الذي قال هذا هم اليهود، قالوه لزعيم المنافقين عبد الله بن أبىّ بن سلول. ومنهم من استأذن من النبي صلّى الله عليه وسلّم قائلا: إن بيوتنا عرضة للهجوم عليها وسرقة ما فيها، وفي الواقع ليست بيوتهم عورة وإنما هم كاذبون، وما يريدون إلا فرارا من القتال، وهربا من الميدان. ولو انتهكت حرمة المدينة من جوانبها ثم طلب إليهم الفتنة والقيام بطعن المسلمين من الخلف لفعلوا كل هذا، وما انتظروا إلا قليلا لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلَّا خَبالًا [سورة التوبة آية 47] . ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل أنهم لا يولون الأدبار، ولا يفرون من القتال وأنهم سيقاتلون مع النبي بإخلاص وعاهدوا الله على ذلك، ولكنهم لا عهد لهم ولا ذمة، وكان عهد الله مسئولا.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 82 قل لهم يا محمد: لن ينفعكم الفرار إن فررتم من الموت وكيف تفرون؟ ولو كنتم في بروج مشيدة لأدرككم الموت ولحقكم، فإن لكل أجل كتابا فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [سورة الأعراف آية 34] . وإذا فررتم وكان في العمر بقية لا تمتعون إلا متاعا قليلا زمنه، إذ الدنيا لم تخلق زهرتها للجبناء. قل لهم: كيف تفرون من حكم الله إلى حكم الله؟ ومن ذا الذي يعصمكم منه إن أراد بكم سوءا أو أراد بكم رحمة من خير ونصر وعافية؟ وهم لا يجدون لهم من دون الله نصيرا ينصرهم ولا وليا يلي أمورهم ويشفع لهم. روى أن عبد الله بن أبىّ وأصحابه من المنافقين قالوا لإخوانهم من المسلمين: ما محمد وأصحابه إلا قلة وهو هالك ومن معه، فهلموا وفارقوا محمدا، وقيل: إن القائل هم اليهود قالوا لإخوانهم من المنافقين: تعالوا إلينا وفارقوا محمدا فإنه هالك وإن أبا سفيان إن ظفر بكم لم يبق منكم أحدا فنزل قوله تعالى: قد يعلم الله المعوقين- المثبطين- منكم والقائلين لإخوانهم هلم إلينا، وهم قوم جبناء لا يأتون البأس- القتال- إلا قليلا خوفا من الموت، ولا يحضرون القتال إلا رياء وسمعة، وهم قوم بخلاء عليكم أشحاء بالمعونة عند الشدائد لا ينفعون، وعند الغنائم يحضرون ويطالبون، فإذا جاء الخوف واشتد لهيب المعركة وحمى وطيسها، رأيتهم- ويا لهول ما ترى- ينظرون يمينا وشمالا تدور أعينهم يمنة ويسرة لذهاب عقولهم حذرا من القتل، وهكذا الجبال الرعديد، فإذا ذهب الخوف سلقوكم بألسنة حداد وبسطوا إليكم ألسنتهم بالسوء، وآذوكم بالكلام الشديد. فهم عن الخير ممسكون وفي الشر مجدون أولئك لم يؤمنوا بقلوبهم فأحبط الله أعمالهم حيث لم يقصدوا بها وجهه، وكان نفاقهم وعملهم على الله هينا، ألا قاتلهم الله أنى يؤفكون! وهؤلاء المنافقون لشدة جبنهم وسوء رأيهم يظنون أن الأحزاب لم ينصرفوا، وهذا شأن الجبان لفرط خوفه إذا رأى شيئا ظنه رجلا، ولفساد اعتقادهم وسوء طويتهم يودون أن تأتى الأحزاب، وهم مع الأعراب المتحزبين حذرا من القتل وتربصا بالنبي الدوائر سائلين عن أنبائكم أيها المسلمون، وهم ليسوا في قليل ولا كثير، ولو كانوا فيكم وفي جيشكم ما قاتلوا إلا قليلا. ولقد كان لكم- أيها المتخلفون عن القتال- أسوة حسنة بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 83 الواجب عليكم أن تتأسوا برسول الله وتقتدوا به في كل أعماله، والرسول الكريم مثل في الشجاعة والإقدام والصبر والمثابرة على النوازل فهو المؤمن الواثق بالله المتوكل عليه. لقد كان لكم أسوة حسنة في النبي صلّى الله عليه وسلّم لمن كان يرجو ثواب الله ويخاف عقابه يوم القيامة، وذكر الله كثيرا حبا في ذكره وأملا في ثوابه. وهذا عتاب للمتخلفين وإرشاد للناس أجمعين حيث يجب عليهم أن يأتموا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم في كل شيء فهو المثل الأعلى: المثل الكامل صلّى الله عليه وسلّم. موقف المؤمنين في هذه الغزوة: لقد عرفنا موقف من في قلوبهم مرض من المنافقين واليهود الذين غلبت عليهم نزعات الجبن والتردد وبرهنوا بأعمالهم على لؤم في الطبع وسوء في الرأى وفساد في العقيدة. أما المؤمنون الواثقون الذين خالطت قلوبهم بشاشة الإيمان وامتلأت نفوسهم بنور اليقين فقد أفادتهم هذه التجربة القاسية وهذا الابتلاء من الله. أفادتهم يقينا على يقينهم، فهم رأوا الأحزاب قد تجمعوا وتكتلوا ضد الإسلام والمسلمين يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم ذلك إلا إيمانا بالله وتصديقا لرسول الله وتسليما بأن النصر من عند الله العزيز الحكيم للمسلمين الصابرين المحتسبين. نعم لقد وعدهم الله ورسوله بالنصر والظفر والظهور على قصور الحيرة ومدائن كسرى وقيصر، وهم واثقون بهذا الوعد مؤمنون بأن أية قوة في الأرض مهما تجمعت وتحزبت فلن تعجز الله في شيء ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا، وما زادهم هذا الجمع الحاشد وتألب القبائل في الداخل والخارج من اليهود والمشركين، وما زادهم ذلك كله إلا إيمانا وتسليما. روى البخاري ومسلم عن أنس قال: «قال عمى أنس بن النضر ولم يشهد بدرا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فكبر عليه فقال: أول مشهد شهده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم غبت عنه، أما والله لئن أرانى الله مشهدا مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فيما بعد ليرينّ الله ما أصنعه. قال: فشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يوم أحد من العام القابل فاستقبله سعد بن مالك. فقال: يا أبا عمرو، أين؟ قال: واه- كلمة تفيد الإعجاب بالشيء- لريح الجنة، أجدها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 84 دون أحد، فقاتل حتى قتل، فوجد في جسده بضع وثمانون ما بين ضربة وطعنة ورمية وما عرفته أخته إلا ببنانه» . وهذا معنى قوله تعالى: بعض المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فوفوا عهودهم وأدوا حق الإسلام عليهم فمنهم من مات ومنهم من ينتظر الموت وما بدلوا من حكم الله تبديلا، والآية عامة إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وقد يقول قائل: إذا كان المسلمون على حق فلم هذا التعذيب والإيلام في الحرب والقتال؟ ولقد أجاب الله عن هذا بقوله: وإنما يحصل لهم ذلك ليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين، وليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء الله أو يتوب عليهم فيوفقهم إلى التوبة الصادقة، إن الله كان غفورا رحيما. نهاية الغزوة: ورد الله الذين كفروا بغيظهم كأبى سفيان وعيينة بن حصن ومن معهما لم ينالوا خيرا بل هتكوا سترهم وافتضح أمرهم ورجعوا بخفي حنين، وأثبتوا للعرب جميعا أن قوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصحبه الذين أخرجوا من ديارهم مطرودين بلا مال ولا زاد أصبحت تلك القوة تضارع قوى العرب مجتمعة متحزبة مع قوة اليهود المالية. وكفى الله المؤمنين القتال، فهو الذي أوقع الرعب في نفوس الأحزاب وثبت قلوب المؤمنين على الحق حتى جاءهم النصر من عند الله العزيز الحكيم. نهاية من ظاهر المشركين من اليهود: رجعت الأحزاب من قريش وغطفان إلى ديارهم وقد ملئت قلوبهم غيظا وحزنا لم ينالوا خيرا، وبقي اليهود في المدينة كالمجرم الآثم الذي ظهرت أدلة جرمه وهو ينتظر حكم القضاء فيه. أما المسلمون فقد امتلأت قلوبهم غيظا وحقدا من أولئك اليهود المنافقين الذين عاهدوهم ونقضوا عهدهم وظاهروا عليهم أعداء من المشركين وخاصة بنى قريظة الذين لم يروا في جوار محمد وصحبه إلا كل بر ووفاء، لهذا كله اندفع المسلمون ضحوة اليوم الذي ذهب فيه الأحزاب إلى قتال بنى قريظة ونادى النبي في المسلمين محدثا عن الروح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 85 الأمين (ما وضعت الملائكة السّلاح بعد) وطلب من المسلمين أن يصلوا العصر في بنى قريظة. تسابق المسلمون حول الراية التي يحملها على قاصدا بنى قريظة حتى إذا اقترب الجيش من منازل اليهود إذ بهم يسبون رسول الله ونساءه سبا قبيحا وقد بلغ ذلك النبي، فلما دنا النبي من حصونهم قال: يا إخوان القردة هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟! فقالوا: ما كنت جاهلا يا محمد فهل تجهل علينا؟! ونزل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فحاصرهم بضعا وعشرين ليلة وانتهى الأمر بتحكيم سعد بن معاذ سيد الأوس وحليف قريظة في الجاهلية، فحكم سعد بقتل الرجال وسبى الذراري من النساء والولدان وتقسيم الأموال، فأورث ربك المسلمين أرض بنى قريظة الخصبة، وديارهم وحصونهم وأموالهم الثمينة، وكان الله على كل شيء قديرا، وأقر النبي هذا القضاء الحازم، وفي هذا نزل قوله تعالى: [سورة الأحزاب (33) : الآيات 26 الى 27] وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (27) المفردات: صَياصِيهِمْ: حصونهم قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ: ألقى في قلوبهم الرعب، وفي هذا التعبير من البلاغة العربية ما فيه. أما معنى الآية- فيظهر مما قلناه سابقا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 86 من آداب البيت النبوي [سورة الأحزاب (33) : الآيات 28 الى 30] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) المفردات: أُمَتِّعْكُنَّ: أعطيكن المتعة، وهي مال يعطى نفلا للمطلقة وَأُسَرِّحْكُنَّ التسريح: الطلاق لقوله تعالى: الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ: ظاهرة كالزنا ضِعْفَيْنِ أى: مثلين ومرتين لقوله تعالى: نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ. المعنى: وهذه الآية متصلة بما تقدم إذا فيها الحث على منع إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم ولو من أقرب الناس إليه، وفيها أدب عال لبيت النبوة الأطهار وتربية لنسائه على العفة والكرامة وحب الله ورسوله، ووصف دقيق لما كان عليه بيت النبي من التقشف. يا أيها النبي قل لأزواجك مخيرا لهن ليخترن ما يرون: إن كنتن أيها النساء تردن الحياة الدنيا وزينتها الزائلة، وتفضلنها على قربكن من رسول الله، والتمتع بجواره الكريم، ومجلسه الطاهر فتعالين أطلقكن وأعطيكن متعة بعد هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 87 روى البخاري ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: دخل أبو بكر يستأذن على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فوجد الناس جلوسا ببابه لم يؤذن لأحد منهم- فأذن لأبى بكر فدخل ثم جاء عمر فاستأذن فأذن له، فوجد النبي صلّى الله عليه وسلّم جالسا حوله نساؤه واجما ساكنا- قال: فقال: والله لأقولن شيئا أضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله لو رأيت بنت خارجة تسألنى النفقة فقمت إليها فوجأت عنقها، فضحك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقال: «وهن حولي كما ترى يسألننى النفقة» فقام أبو بكر إلى عائشة وعمر إلى حفصة كل يريد أن يجأ عنق ابنته- يضغط على عنقها- قائلا: تسألن الرسول ما ليس عنده؟! فقلن: والله لا نسأله شيئا أبدا ليس عنده، ثم اعتزلهن النبي شهرا أو تسعا وعشرين يوما ثم نزلت عليه هذه الآية يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ- إلى قوله: لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً. وبدأ النبي يخير نساءه فبدأ بعائشة فقال لها النبي: يا عائشة «إنّى أريد أن أعرض عليك أمرا أحبّ ألّا تعجلي فيه حتّى تستشيرى أبويك» قالت: وما هو يا رسول الله فتلا عليها هذه الآيات، قالت: أفيك يا رسول أستشير أبوى! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة. وهكذا فعل مع نسائه، وقال العلماء: إنما أمر النبي عائشة أن تستأمر أبويها وتستشيرهما لمحبته لها، ولعلمه أن والديها لا يشيران بالفراق أبدا، وأما أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم فهن كما ترى، حتى يعرف الناس جميعا أن النبي صلّى الله عليه وسلّم لم يكن يتزوج للشهوة أبدا. 1- خديجة بنت خويلد أول من تزوج من النساء تزوجها بمكة ومكثت معه بعد النبوة سبع سنين، ولم يتزوج غيرها حتى ماتت، وهي أول من آمن من النساء، وكان لها فضل وعقل وبصر بالحياة، وكانت لها مكانتها في قريش. 2- سودة بنت زمعة بنت عبد شمس العامرية دخل بها بمكة وتوفيت بالمدينة. 3- عائشة بنت أبى بكر، الصديقة بنت الصديق، حبيبة رسول الله وبنت حبيبه، ولها مكانتها في العلم والسبق في الدين «خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء» حديث شريف، ولم يتزوج النبي بكرا غيرها. 4- حفصة بنت عمر بن الخطاب القرشية تزوجها رسول الله ثم طلقها فأتاه جبريل فقال: إن الله يأمرك أن تراجع حفصة فإنها صوامة قوامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 88 5- ومنهن أم سلمة تزوجها رسول الله من ابنها سلمة على الصحيح. 6- أم حبيبة رملة بنت أبى سفيان تزوجها رسول الله وبنى بها بعد الهجرة بسبع سنين، والذي أصدقها هو النجاشيّ، لما مات زوجها تزوجها الرسول. 7- زينب بنت جحش تزوجها النبي بعد طلاقها من زوجها زيد بن حارثة ولها قصة ستأتى. 8- زينب بنت خزيمة بن الحارث تزوجها النبي ومكثت عنده ثمانية أشهر ثم ماتت. 9- صفية بنت حيي بن أخطب الهارونية سباها النبي يوم خيبر وتزوجها بعد أن أعتقها. 10- ريحانة بنت زيد تزوجها في سنة ست وماتت بعد مرجعها من حجة الوداع. 11- ميمونة بنت الحارث الهلالية تزوجها (بسرف) وهي آخر امرأة تزوجها. فكل نسائه أيم أو مسنة أو بنت زعيم الحي أو لها أولاد وقد قتل زوجها في الحرب فتزوجها إكراما له ولأولاده، ولم يتزوج إلا بكرا واحدة، فلم يكن صلّى الله عليه وسلّم يتزوج لشهوة، وإنما كان زواجه تأليفا للقلوب، وسياسة رشيدة لبناء الدولة وتوحيد الكلمة. وهناك نساء تزوجهن النبي ولم يدخل بهن فمنهن الكلابية. وأسماء بنت النعمان بن الجون، وقتيلة بنت قيس، وغيرهن مما هو مذكور في كتب السيرة. وكان له من السراري سريتان: مارية القبطية وريحانة. لما اختار نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم رسول الله شكرهن على ذلك وكرمهن فقال: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ «1» . وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً «2» ، وجعل ثواب طاعتهن وعقاب معصيتهن مضاعفا. يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ فالله يضاعف لهن العذاب ضعفين لشرف منزلتهن وفضل درجتهن وتقدمهن   (1) - سورة الأحزاب آية 52. (2) - سورة الأحزاب آية 53. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 89 على سائر النساء أجمع، وكيف لا يكون ذلك وهن نشأن في بيت النبوة، ورضعن من لبنها وتمتعن بتلك البيئة الطاهرة فحق عليهن أن يدفعن هذا الثمن غاليا. وكان ذلك، أى: مضاعفة العذاب لهن على الله يسيرا.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 90 من آداب أهل البيت وأوصافهم [سورة الأحزاب (33) : الآيات 31 الى 35] وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34) إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (35) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 91 المفردات: يَقْنُتْ القنوت: الطاعة في سكون والعبادة في خشوع مَرَضٌ: تطلع إلى الفسق والفجور وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ يقال: قررت في المكان أقر به: إذا أقمت فيه وَلا تَبَرَّجْنَ التبرج: الظهور مع إظهار ما يجب ستره الرِّجْسَ: الدنس الحسى وَالْحِكْمَةِ هي حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. المعنى: لما كان أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم في بيت النبوة، ومصدر العلم والمعرفة، ومنبع الحكمة وأساس الهداية كان الذنب منهن كبيرا، والمعصية الصغيرة في قوة الكبيرة، لذلك ضاعف الله لهن الجزاء ضعفين إذا أتين بفاحشة مبينة، ومن يقنت منهن لله ورسوله، وتعمل صالحا في سكون وخشوع وقنوت، مع إخلاص في النية وصدق في الطوية لقربهن من رسول الله وشرفهن بصحبته، وتمتعهن بنور الوحى. من يقنت منهن يؤتها الله أجرها مرتين، ويضاعف لها الثواب ضعفين، وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً نعم وقد أعد الله وهيأ رزقا كريما- لم يجر على يد أحد- في الجنة، ولا غرابة فهن في منازل رسول الله في أعلى عليين فوق منازل البشر جميعا تكريما للنبي صلّى الله عليه وسلّم. وهذه آداب إلهية أمر الله- تعالى- بها نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم ونساء الأمة تبع لهن في ذلك، وكلها تهدف إلى بعد المرأة عن منطقة الخطر، واجتنابها الطرق التي قد تؤدى بها إلى الوقوع في المعصية، ونساء النبي صلّى الله عليه وسلّم أولى الناس بالبعد التام عن هذا كله، وإنما جاء الخطاب لهن أولا لأنهن في مركز القيادة وفي بيت النبوة وهن أمهات المؤمنين، وعندهن الكثير من الأخبار، والناس في أشد الحاجة لمعرفة سيرة الرسول إذ هو القدوة الحسنة للمسلمين، فنساؤه معرضات للتحدث معهن وسؤالهن عن الوحى والحديث، فكان النهى أولا، وليعلم الجميع أن هذا دواء أعطى أولا لأطهر النساء وأعفهن على الله، وفي قبوله فليتنافس المتنافسون. يا نساء النبي لستن كأحد من النساء في الفضل والشرف والقرب من الرسول مصدر الخير والنور، وهذا كقولهم: إن فلانا ليس كآحاد الناس، على معنى أن فيه مزية وأفضلية ليست في غيره، ونساء كذلك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 92 يا نساء النبي لستن كبقية النساء فأنتن أمهات المؤمنين وزوجات خير المرسلين وليس النبي كالناس بل هو غيرهم كما يقول في الحديث: «لست كأحدكم» وقد تحقق فيكم شروط التقوى، والأكرم عند الله هو التقى فلستن كغيركن. وإذا كان الأمر كذلك فلا تخضعن بالقول، ولا تلن فيه بل ليكن كلامكن مع الناس بجد وحزم وخشونة وقوة فلا يطمع الذي في قلبه مرض الفسق والفجور، أمرهن الله أن يكون قولهن جزلا، وكلامهن فصلا، ولا يكن على وجه الليونة والطراوة حتى يطمع فيهن ضعاف الإيمان ممن في قلوبهم مرض، وفي عقولهم قصر. وليس معنى هذا أن يكون أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم على حال فيها إيذاء وأن يقلن منكرا من القول! لا. بل أمرهن أن يقلن قولا معروفا عند الحاجة مع الكف والبعد عن مواطن الريبة وأفهام السوقة ومن في قلبه مرض. وقرن في بيوتكن. ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى، والجاهلية الأولى هي الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء التي تردى فيها العرب قبل الإسلام، وليس هناك أولى وأخرى، والتبرج المنهي عنه ظهور المرأة على وجه لا يرضاه الشرع تكريما لها وصونا لعفافها ومحافظة على مكانتها في مجتمعها. نهى الله نساء نبيه عن التبرج ليعلم العالم أجمع ما في التبرج من الخطر الداهم، وإذا خص الله الخطاب بهن- وإن كان المراد العموم- وهن أزواج حبيبه المصطفى فقد دل ذلك على أنه علاج وصف لبيت أكرم الخلق على الله وأحبهم وأقربهم لديه، أفيليق بنا نحن المسلمين ألا نتأسى بأزواج النبي؟ وألا نعالج نساءنا بما عالج به الخبير البصير نساء حبيبه ورسوله المصطفى صلّى الله عليه وسلّم ولعل ذلك بعض السر في تخصيص الخطاب بزوجات النبي صلّى الله عليه وسلّم. وأمر الله نساء رسوله أن يقرن في بيوتهن وأن يقمن بها فلا يبرحنها إلا لضرورة، فالبيت مملكة المرأة، وهو معهد الطفولة، ومصنع الرجولة، وسكن الرجل ومستراحه، وفيه يقضى نصف وقته ليستريح، وفي البيت متسع لنشاط المرأة، وفيه ما يستنفد حيويتها، وهو في أشد الحاجة لها ولإشرافها حتى تخرج لنا جيلا جديدا، وتبعث لنا بأزواج وإخوة يعرفون وطنهم وحقه، ودينهم وواجبه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 93 والشرع حينما أمر نساء النبي بأن يقرن في بيوتهن لم يحرم عليهن الخروج للحاجة مطلقا ولكن المهم إذا خرجن فلا يتبرجن تبرج الجاهلية الأولى فذلك خير لهن وايم الله!! يا لله من النساء البارزات، العاريات الكاسيات، المائلات المميلات، المتبرجات الكاشفات عن سوقهن ونحورهن، أستغفر الله، بل الكاشفات عن كل شيء!! الصابغات وجوههن بالأصباغ التي يندى لها وجه المروءة والرجولة، الويل ثم الويل لتلك الشعور المكشوفة والسيقان والنحور الظاهرة!! يا أيها النساء حافظن على أنفسكن، واحفظن هذا الجمال لأربابه، ولا تعرضنه عرضا في السوق فيقل بها بل يضيع، فأحب شيء إلى الإنسان ما منع. وليس معنى هذا أن الدين يكره الزينة أو النظافة، لا: بل هو يدعو النساء إلى التزين ما استطعن ولكن لأزواجهن! أما أن تظل المرأة في بيتها وعند زوجها على حالتها الطبيعية فإذا برزت إلى الشارع وخرجت جمعت المساحيق ووضعت الأصباغ وحاولت إظهار كل جزء فيها، لمن هذا؟! إن زوجك أولى به، فإذا خرجت في الشارع لضرورة فليكن ذلك بأدب واحتشام وبعد عن التبرج الممقوت الذي كان يفعل في الجاهلية الأولى من الإماء وبعض الساقطات، وإذا كان تبرج الجاهلية السابقة مذموما، ونحن نعلم أن الناس كانوا فيها على جانب من شظف العيش وقلة المدنية وبداوة التفكير فما يكون الوضع الذي نحن فيه الآن والذي نراه في عواصم الأمم الإسلامية؟! نهاهن الله عن الخضوع في القول والليونة فيه، وعن التبرج وإبداء ما يحسن إخفاؤه ثم أمرهن بالصلاة المطهرة للنفس والمقومة للشخص والموصلة بالله، وبالزكاة المنظمة للمجتمع، المطهرة له من أدران الحسد والحقد، والباعثة على التعاون، وبطاعة الله ورسوله في كل شيء، وليست هذه الأوامر والنواهي لشيء يعود نفعه على الله- معاذ الله- ولكن الباعث على ذلك كله إنما هو إرادة الله لأن يذهب عنكم (يا آل بيت النبي) الرجس والدنس، ويطهركم من كل ما يشينكم تطهيرا كاملا يليق بكم. ومن هم آل البيت؟ هم أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وأولاده كفاطمة وعلى والحسن. أما دخول أزواجه فيهم فلأن السياق السابق واللاحق فيهن، وأما دخول على وفاطمة والحسن والحسين فلأن الله قال: ويطهركم بالميم، ولو كان المراد الزوجات فقط لقال عنهن: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 94 ويطهركن، ولورود أحاديث صحيحة تثبت ذلك، على أن المسألة بسيطة جدّا للغاية، والإسلام يكره المغالاة في المحبة والبغض مطلقا ولو كان لآل البيت. واذكرن يا نساء النبي ما يتلى عليكن من آيات الله القرآنية، والحكمة التي ينطق بها رسول الله، واعملن بذلك كله إن الله كان لطيفا بعباده خبيرا بهم، فكل ما أمر به وحث عليه فهو في منتهى الحكمة فتقبلوه واعملوا به. يا نساء الأمة الإسلامية لستن كغيركن من نساء العالم أجمع. إن اتقيتن الله: فلا تخضعن في القول حتى يطمع فيكن الطامعون ضعاف الإيمان والعقول. وقلن قولا معروفا، فيه خير وبعد عن الشر ما استطعتم.. وقرن في بيوتكن ولا تخرجن إلا لضرورة، فإذا خرجتن فلا تتبرجن تبرج الجاهلية الأولى، وتظهرن في الشارع بهذا الوصف المنافى للآداب الإسلامية وأقمن الصلاة التي هي عماد الدين، وآتين الزكاة، وأطعن الله ورسوله في كل أمر ونهى فإن في ذلك كله خيرا لكن وأى خير؟ إنما يريد الله أن يذهب عنكم الرجس ويطهركم تطهيرا، فطهرن النفوس وأصلحن القلوب وأعمرنها بنور الإيمان إن الله لطيف بكن حيث أمركن بهذا خبير بحالكن وبنفوسكن وما ركب فيكن من غرائز تثار عند مخالطة الرجال، وتندفع لأتفه الأسباب.. وأما خروج عائشة- رضى الله عنها- في موقعة الجمل، فما كان لحرب، ولكن تعلق الناس بها، وشكوا إليها ما صار إليه الحال، ورجوا بركتها وإصلاح ذات البين بها، وظنت هي فخرجت لتصلح بين الناس وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما «1» وانتهى الأمر بطعن الجمل الذي تركبه فأركبها علىّ- رضى الله عنه- إلى المدينة في ثلاثين امرأة، وكانت عائشة أم المؤمنين برة تقية مجتهدة مثابة في تأويلها مأجورة على فعلها. والله أعلم. روى أن بعض النساء شكون إلى رسول الله أن كل شيء للرجال، وأن النساء لا يذكرن بشيء فنزلت هذه الآية. وإن وضعها هنا وهي تحمل علامات الإيمان الكامل إشارة إلى ما يجب أن يعرف به   1- سورة الحجرات آية 9. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 95 أهل بيت النبوة، وما يجب أن يكونوا عليه رجالا ونساء، وأن يعملوا جاهدين على تحقيق تلك الأصناف، وألا يتكلوا على قربهم من النبي صلّى الله عليه وسلّم والله أعلم بكتابه. إن المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، والقانتين والقانتات، والصادقين والصادقات، وهذا ترتيب حسن، فالإسلام قول باللسان وعمل بالجوارح، ثم إذا ثبت ورسخ كان الإيمان والاعتقاد والتصديق الكامل، ثم بعد هذا عمل متواصل، وقنوت لله وخضوع وإخلاص، ثم بعد أن كمل نفسه بالشهادة والإيمان والعمل يدعو غيره صادقا في دعواه، وأنها لله لا للدنيا ولا لشيء. والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات. نعم فبعد الصدق في الدعوة لله إيذاء وإيلام، ولا ينفع صاحبها إلا الصبر، وهل هو يكون متواضعا أم لا؟ فقال: والخاشعين والخاشعات، ثم بعد هذا يتصدق بما تجود به نفسه، جذبا للقلوب، وإرضاء للنفوس. وهو دائما يؤدب نفسه ويهذبها بالصيام حتى يكبح جماحها، ويردها عن غيها، ويحفظ فرجه من ثورات الشهوة الجامحة، وهل هم في هذا كله يذكرون الله أم لا؟ فقال: هم يذكرون الله، ولا ينسونه أبدا، يذكرونه بقلوبهم، ألا بذكر الله تطمئن القلوب!! هؤلاء الذين تحقق فيهم هذا الوصف الجامع أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما جزاء بما كانوا يعملون.. قصة زينب بنت جحش مع زيد بن حارثة [سورة الأحزاب (33) : الآيات 36 الى 40] وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَكَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (40) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 96 المفردات: الْخِيَرَةُ: الاختيار مُبْدِيهِ: مظهره وَطَراً الوطر: كل حاجة المرء له فيها همة، والمراد، بلغ ما أراد من حاجته منها حَرَجٌ: ضيق وإثم. المعنى: زيد بن حارثة بن شرحبيل كان عبدا لخديجة فوهبته للنبي صلّى الله عليه وسلّم فأعتقه وتبناه فكان يدعى زيد بن محمد حتى نزل قوله تعالى: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ فقيل: زيد بن حارثة. وزينب هذه بنت جحش، وأخوها عبد الله بن جحش، وأمها أميمة بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فهي من ذؤابة قريش. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 97 روى أن رسول الله خطب زينب بنت عمته فظنت أن الخطبة لنفسه، فلما تبين أنه يريدها لزيد كرهت ذلك وامتنعت وامتنع أخوها عبد الله لنسبها ومكانتها من قريش وأن زيدا كان بالأمس عبدا، فلما نزل قوله تعالى: وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ رضيا وقال أخوها: مرني بما شئت، فزوجها رسول الله لزيد. نعم ليس لمؤمن ولا مؤمنة- بهذا الوصف- إذا أمر الله- عز وجل- ورسوله صلّى الله عليه وسلّم بأمر أن يعصياه بحال ولا ينبغي منهم ذلك، فالنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وهو حريص عليهم وبهم رءوف رحيم، ومن يختر خلاف أمر الله ورسوله فقد عصى وضل ضلالا مبينا يستحق عليه إثما كبيرا. هذه المرأة التي أكرهت على الزواج من زيد لأنها شريفة وهو عبد أعتق، ولم تقبل إلا امتثالا لأمر الله ورسوله، ماذا تنتظر منها؟ مهما كان إيمانها! إنها إنسانة ومعها نفس لوامة، فلم تعاشر زيدا معاشرة الأزواج، وكانت له كارهة وعليه متعالية، وزيد رجل عزيز بالإيمان يعتقد أن أكرم الناس عند الله الأتقياء، وأنه لا فضل لإنسان على آخر إلا بالتقوى، لهذا كانت حياتهما الزوجية غير سعيدة، وكان زيد يشكو منها لرسول الله كثيرا. روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان قد أوحى إليه: أن زيدا يطلق زينب وأنه يتزوجها بتزويج الله إياها، فلما تشكى زيد للنبي صلّى الله عليه وسلّم من خلق زينب وأنها لا تطيعه، وأعلمه أنه يريد طلاقها قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على جهة الأدب والوصية: «اتّق الله في قولك هذا وأمسك عليك زوجك» وهو يعلم أنه سيفارقها زيد ويتزوجها هو- وهذا ما أخفاه النبي في نفسه- ولم يرد أن يأمره بالطلاق لما علم أنه سيتزوجها وخشي الرسول من كلام المنافقين وقولهم: إن محمدا تزوج زينب بعد زيد وهو مولاه. وقد عاتبه الله على هذا القدر حيث خشي الناس في شيء قد أباحه الله له لحكمة عالية وعلة سيذكرها القرآن لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ وعاتبه ربه حيث قال لزيد: أمسك عليك زوجك واتق الله مع علمه بأنه سيطلق، وحيث خشي الناس والله أحق بالخشية في كل حال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 98 وليس في أمر النبي لزيد بالإمساك وعدم الطلاق- مع علمه بأنه مطلق حتما- شيء، فالله يأمر الناس جميعا بالإيمان، وقد علم أن منهم المؤمن المستجيب والكافر الذي يستحيل عليه أن يجيب، وإنما أمره ليقطع عذره، ويقيم عليه حجته. ولما انقضت عدة زينب خطبها رسول الله ودخل بها بغير إذن ولا عقد ولا صداق لأن الله زوجها له من فوق سبع سموات. فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ- مواليهم ومن تبنوهم- إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وكان أمر الله في كل شيء مفعولا لا محالة إذ هو صاحب الأمر، وإليه يرجع الأمر كله. ما كان على النبي من حرج وليس عليه إثم ولا ضيق في كل شيء فرضه الله وسنه له وهكذا الأنبياء جميعا، وتلك سنة الله في الذين خلوا من قبله من الأنبياء، وكان أمر الله قدرا مقدرا من لدن الحكيم الخبير، والعليم البصير، هؤلاء الأنبياء هم الذين يبلغون رسالات ربهم متوكلين عليه لا يخشون أحدا غيره، وهذا شأن المؤمن الصادق، فما بال الأنبياء والمرسلين؟! وكفى بالله حسيبا ورقيبا، وهو على كل شيء شهيد. أيها الناس: ليس محمد أبا أحد من رجالكم حتى تقولوا: كيف يتزوج محمد زوجة ابنه ومولاه؟ ولكن كان رسول الله وخاتم النبيين وإمام المرسلين لا نبي بعده به ختمت الرسالات، وإليه انتهى الوحى من السماء، وانقطعت الأوامر الإلهية اكتفاء بالأمر الدائم والدستور المحكم الذي أنزل من لدن حكيم خبير على النبي محمد صلّى الله عليه وسلّم. وكان الله بكل شيء عليما فجعل محمدا خاتم الأنبياء ورسالته عامة شاملة كاملة فيها الخير إلى يوم القيامة. ومن المؤسف أن تندس في كتب التفسير أقوال تنسب إلى أكابر العلماء، والله يعلم أنهم برآء، أو هي في الواقع سموم إسرائيلية، وضعها من أسلم من اليهود عن حسن قصد أو عن سوئه، ومنها ما قيل في تفسير هذه الآيات من نسبة أمور لا تليق بأى رجل عادى فضلا عن أشرف الخلق المشهود له من كافة الناس أنه رجل صادق ذو خلق. وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ [سورة القلم آية 4] . قالوا: إن محمدا رأى زينب فأحبها ثم كتم هذا الحب، ثم لم يجد بدا من إظهاره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 99 فأظهره، ورغب في زينب فطلقها زوجها وتزوجها، وزعموا أن العتاب في الآية لكتمان حبه لزينب. ونظرة بسيطة إلى تاريخ زينب وظروفها في زواج زيد تجعلنا نؤمن بأن سوء العشرة التي كانت بين زينب وزيد إنما هو من اختلافهما اختلافا بينا في الحالة الاجتماعية فزينب شريفة، وزيد كان بالأمس عبدا. وقد أراد الله امتحانها بزواج زيد لتحطيم مبدأ العصبية القبلية والشرف الجاهلى، وجعل الشرف في الإسلام والتقوى فخضعت زينب مكرهة، وأسلمت لزيد جسدها دون روحها فكان الألم والضيق. ومحمد هذا كان يعرف زينب من الصغر لأنها ابنة عمته فمن كان يمنعها منه؟ وكيف يقدم إنسان امرأة لشخص وهي بكر، حتى إذا تزوجها وصارت ثيبا رغب فيها؟ لا يا قوم: تعقلوا ما تقولون. وتفهموا الحق لوجه الحق تدركوه بلا تلبيس ولا تشويش. وانظر إليهم وهم يقولون: إن الذي أخفاه محمد هو حبه لزينب ولهذا عوتب، وهل يعاتب الشخص لأنه لم يجاهر بحبه لامرأة جاره؟! ولكن الحق هو أن هذا الزواج كان امتحانا في أوله لزينب وأخيها حيث أكرها على قبول زيد، وفي النهاية كان امتحانا قاسيا للنبي صلّى الله عليه وسلّم حيث يؤمر به، ويعلم نهايته، وزينب تحت مولاه زيد، والحكمة- كما نطق القرآن- هو تحطيم مبدأ كان معمولا به ومشهورا عند العرب هو تحريم زواج امرأة الابن من التبني كتحريمها إذا كان الابن من النسب، ولتغلغل العادة في النفوس جاء هدمها على يد النبي صلّى الله عليه وسلّم وعلى يد زيد بن حارثة مولاه. فالذي كان يكتمه النبي صلّى الله عليه وسلّم في نفسه تأذيه من هذا الزواج المفروض وتراخيه في إنفاذ أمر الله به وخوفه من لغط الناس- وبخاصة المنافقين- عند ما يجدون نظام التبني قد انهار بعد ما ألفوه، ولهذا فقد عوتب. هذه الحادثة تلقفها المستشرقون ومن على شاكلتهم من المسلمين، وخبوا فيها ووضعوا وأباحوا لأنفسهم الخوض في الأعراض، والتكلم في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم وتصويره بصورة يترفع عنها كثير من الناس، وكان سندهم في ذلك كله ما نقلته كتب التفسير الجزء: 3 ¦ الصفحة: 100 من أقوال بعيدة عن الصواب جدا، وقد علمت الحق فيها الذي تؤيده الشواهد الكثيرة. والله أعلم بكتابه. من تأديب الله للمؤمنين وعنايته بهم [سورة الأحزاب (33) : الآيات 41 الى 44] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44) المعنى: يا أيها المؤمنون: اذكروا الله ولا تكونوا كالذين نسوه فأنساهم أنفسهم حتى ضلوا السبيل، يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله كثيرا في القيام والقعود وعلى جنوبكم، أى: في كل حال يجب على المسلم أن يذكر ربه ولا ينساه، يذكره بقلبه، ويستشعر عظمته، ويخشى حسابه وعذابه، ويراقبه مراقبة من يعلم أنه يسمعه ويراه، اذكروه على سبيل التعظيم والإجلال، وسبحوه بكرة وأصيلا، والذكر والتسبيح أعم من الصلاة وأشمل، والمراد بالبكرة والأصيل: أول النهار وآخره، وإن كان المقصود جميع الأوقات فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ [سورة الروم الآيتان 17، 18] . هو الذي يصلّى عليكم أيها المؤمنون، وتصلى عليكم ملائكته، والصلاة من الله رحمة بنا، ومن الملائكة استغفار لنا، كل ذلك ليخرجكم من ظلمات النفس الأمارة بالسوء. ومن ظلمات الدنيا الغرور. ومن ظلمات وسوسة الشيطان. بما يهديكم ويرشدكم ويثنى عليكم ويوفقكم إلى طرق النور والعلم والإسلام والخير، وكان بالمؤمنين رحيما اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة 257] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 101 وإذا كان الله يصلى علينا ويرحمنا ويخرجنا من الظلمات إلى النور، وهو ربنا الرءوف الرحيم أفلا نذكره ذكرا كثيرا؟ وهو القائل: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [سورة البقرة آية 152] . واذكروا أيها المؤمنون أن الله- سبحانه- لا ينساكم يوم القيامة بل هو صاحب الفضل عليكم يحيى عباده بالتحية المباركة الطيبة: تحيتهم يوم يلقونه سلام، سلام من الله وفضل عظيم، وأعد لهم وهيأ أجرا لا يقادر قدره ولا يدرك كنهه، وإنما هو أجر كريم يأتى العباد بلا طلب ولا تعب ولا مشقة. نسأله- سبحانه- أن يوفقنا للعمل حتى نكون مع هؤلاء في ذلك الأجر الكريم!! بعض الآداب الإسلامية [سورة الأحزاب (33) : الآيات 45 الى 49] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (45) وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 102 المعنى: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا على الناس ترقب أحوالهم، وتشاهد أعمالهم، وتتحمل الشهادة على ما صدر عنهم من التصديق والتكذيب، وسائر الأعمال: تشهد عليهم وتؤدى الشهادة يوم القيامة بعد أن دعوتهم سرا وإعلانا ليؤمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً [سورة البقرة آية 143] . يا أيها النبي إن ربك أرسلك شاهدا على الناس يوم القيامة، ومبشرا من آمن بك بالجنة، ومنذرا من كفر بك أو عصاك بالنار، وداعيا إلى الله وإلى طاعته بإذنه وأمره، فلست مدعيا ولا متقولا بل كل هذا أمر الله وإذنه، وأنت أيها الرسول السراج المنير الذي يهدى الناس إلى الحق وإلى الصراط المستقيم. أرسلك ربك لتفتح أعينا عميا وآذانا صما، وقلوبا غلفا، والسكينة والوقار لباسك، والبر شعارك، والتقوى زادك، والحكمة قولك، والصدق طبعك، والخلق الكريم خلقك، والحق والعدل شريعتك، وقد ألفت بهذا أمما متفرقة، وقلوبا متنافرة، وأنقذت بهذا فئات من الناس قد ضلوا من قبل سواء السبيل، حتى أصبحوا خير أمة أخرجت للناس تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، موحدين مؤمنين مخلصين صادقين مصدقين، يهدون بالحق وبه يعدلون، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء وهو ذو الفضل العظيم. فحقا لقد صدق الله إذ يقول: وبشر يا محمد المؤمنين بالله ورسله وكتبه واليوم الآخر، العاملين بكتاب الله وسنة رسوله، بشرهم بأن لهم من الله فضلا لا يعرف له قدره، فضلا من الله كبيرا، وأجرا من عند الله عظيما، ورزقا من الله كريما. وبعد هذا لا تطع الكافرين والمنافقين، ولا تأبه بهم ولا تعن بشأنهم، ودع أذاهم حتى تؤمر بما فيه علاجهم، وتوكل على الله وحده ناصرك وحافظك ومن توكل على الله فهو حسبه، وكفى بالله وكيلا. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ الآية قد يقول قائل: وما مناسبة هذه الآية لما قبلها؟ وقد أجاب على ذلك الفخر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 103 الرازي- رحمه الله-: وجه تعلق الآية بما قبلها هو أن الله- تعالى- ذكر في هذه السورة مكارم الأخلاق وأدب نبيه صلّى الله عليه وسلّم لكن الله- تعالى- أمر عباده المؤمنين بما أمر به نبيه المرسل، فكلما ذكر للنبي مكرمة، وعلمه أدبا ذكر للمؤمنين ما يناسبه، فكما بدأ الله في تأديب النبي صلّى الله عليه وسلّم بذكر ما تعلق بجانب الله بقوله: يا أيها النبي اتق الله! وثنى بما يتعلق بأزواجه حيث قال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ، وثلث بما يتعلق بجانب عامة الأمة بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً. كذلك بدأ في إرشاد المؤمنين بما يتعلق بجانب الله حيث يقول: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ، ثم ثنى بما يتعلق بأزواجهن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ وثلث بما يتعلق بأدب المؤمنين مع النبي حيث قال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ. والمعنى المراد: إذا نكحتم المؤمنات وكذلك الكتابيات- وإنما تركهن ليعلم المؤمنون أن الأولى نكاح المؤمنات- ثم طلقتموهن من قبل الدخول بهن فليس لكم عليهن من عدة، إذ المطلقة قبل الدخول بها لا تحتاج إلى براءة رحم، وإنما المتوفى زوجها عدتها أربعة أشهر وعشر تفجعا على زوجها لا لبراءة الرحم إذ الرحم تبرأ بشهر أو بحيضة. والواجب هو أن يمتّعن، أى: يعطين المتعة وهي نصف المهر إذا فرض لها مهر، أو أى شيء يستمتعن به جبرا لخاطرهن، وسرحوهن سراحا جميلا لا ألم فيه ولا تعذيب. من خصوصيات النبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة الأحزاب (33) : الآيات 50 الى 52] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (52) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 104 المفردات: أُجُورَهُنَّ: مهورهن أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ: رده يَسْتَنْكِحَها: ينكحها حَرَجٌ: إثم وضيق تُرْجِي: من الإرجاء وهو التأخير وَتُؤْوِي: تضم ابْتَغَيْتَ أى: طلبت عَزَلْتَ والعزلة: الإزالة والمراد عزلتها من القسمة. المعنى: يا أيها النبي إن الله أحل لك أن تتزوج من النساء اللاتي أعطيتهن مهورهن واللاتي تملكهن بيمينك من الفيء والغنيمة. وأحل الله لك من بنات أقاربك ما شئت من بنات عمك، وبنات عماتك، وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك. وأحل الله لك امرأة مؤمنة وهبت نفسها إليك. وأردت نكاحها خالصة من دون المؤمنين، كل ذلك لئلا يكون عليك حرج ولا إثم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 105 ومعنى هذا- والله أعلم- أن الله يبين للنبي الجهة والوصف العام الذي يصح أن يكون أساسا لاختياره نساءه، فالمرأة التي أوتيت أجرها وقبلت مهرها مهما كان فهي أولى وأفضل ممن لم تأخذ صداقها، والمملوكة التي سباها الرجل بنفسه أفضل من التي اشتراها من غيره. وبنات عمه وعماته وخاله وخالاته أولى إذا هاجرن مع النبي، فإن من هاجر أشرف وأولى ممن لم يهاجر. روى السدى عن أم هانئ بنت أبى طالب قالت: خطبنى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فاعتذرت إليه- لأننى كنت امرأة كثيرة العيال- فقبل عذري فأنزل الله هذه الآية. قالت: فلم أكن أحل له، لأننى لم أهاجر وكنت من الطلقاء. ويؤكد هذا المعنى- أفضلية وأولوية تلك الأصناف- قوله تعالى: وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وأراد نكاحها خالصة له حتى تصير له زوجة، وللمؤمنين أما. وقد ذكر القرطبي- رحمه الله- في تفسيره لهذه الآية وجهين آخرين: أولهما أن الآية تفيد حل جميع النساء للنبي إذا آتاهن أجورهن، وعلى هذا فالآية مبيحة للنبي صلّى الله عليه وسلّم التزوج بمن شاء ما عدا المحارم لأنه لا جائز أن تفهم أن المراد أحل له أزواجه اللاتي هن معه لأن الحل يقتضى تقدم الحظر، ولا حظر موجود، وأيضا فلم يكن تحته من بنات عمه ولا عماته. ولا خاله ولا خالاته، فثبت أنه أحل له التزويج بهؤلاء ابتداء، وعلى ذلك فالآية ناسخة- على رأى من يقول بالنسخ- لقوله: لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وإن كانت متقدمة عليها. وقيل المراد: أحللنا لك أزواجك اللاتي هن عندك فقط، وآتيتهن أجورهن لأنهن اخترنك وآثرن البقاء معك على الدنيا وزخرفها، والذي رجح هذا قوله- تعالى- آتيت أجورهن: لأن (آتى) فعل ماض ليس للمستقبل، ويؤيد هذا التأويل قول ابن عباس: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يتزوج من أى النساء شاء، وكان يشق ذلك على نسائه. فلما نزلت هذه الآية، وحرم عليه بها النساء، إلا من سمى سر نساؤه، وهذا رأى الجمهور، وفيه تضييق على النبي صلّى الله عليه وسلّم. وقد رجح القول الأول القرطبي لما ذكرناه عنه، ولقول عائشة- رضى الله عنها-: ما مات رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى أحل الله تعالى له النساء. بقي ذكر بنات عمه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 106 وعماته ... إلخ فالجمهور يقولون: أحل الله لك ذلك زائدا على الأزواج اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك، لأنه لولا أراد أحللنا لك كل امرأة تزوجتها وآتيتها المهر لما كان لذكرهن فائدة- وأصحاب الرأى الأول يقولون إن المراد التوسيع على النبي لا التضييق عليه وتلك خصوصية له، وإنما ذكرهن تشريفا لهن ولهذا نظير قوله: فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ [سورة الرحمن آية 68]- الله أعلم بكتابه. وإنما خص المهاجرات من الأقارب بجواز تزوج النبي منهن متى شاء لأن من لم يهاجر لم يكمل، ومن لم يكمل لا يصلح للنبي صلّى الله عليه وسلّم الذي كمل وشرف وعظم. وهل يجوز نكاح الهبة؟ لقد أجمع العلماء أن هبة المرأة نفسها غير جائزة وأن هذا اللفظ من الهبة لا يتم عليه نكاح، وعند أبى حنيفة وصاحبه: إذا وهبت فأشهد هو على نفسه بمهر فذلك جائز. لقد وهب كثير من النساء أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وروى عن عائشة أنها قالت: كنت أغار على اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلّى الله عليه وسلّم وأقول: أما تستحي امرأة تهب نفسها لرجل؟ حتى أنزل الله- سبحانه وتعالى-: تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ فقالت: والله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك. وروى البخاري أن خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن لرسول الله، وقيل الموهوبات أربع: ميمونة بنت الحارث، وزينب بنت خزيمة، وأم شريك بنت جابر، وخولة بنت حكيم. قال الشعبي في قوله تعالى: ترجى من تشاء منهن.. الآية.. هن الواهبات أنفسهن وتزوج رسول الله منهن، وترك منهن، وقال الزهري: ما علمنا أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أرجأ أحدا من أزواجه بل آواهن كلهن. وهذا هو المعقول، والآية سيقت توسعة على رسول الله. وقيل: المعنى المراد هو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم مخير مع أزواجه بين أن يقسم بالسوية أو يترك القسم إن شاء أرجأ وأخر بعضهن، وإن شاء آوى إليه وجمع بعضهن، ولكنه كان يقسم بالسوية، ويؤوى إليه الكل، دون أن يفرض الله عليه ذلك من قبل، وإنما فعل ذلك تطييبا لنفوسهن وصونا لها عن أحوال الغيرة التي قد تؤدى إلى ما لا تحمد عقباه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 107 ومن ابتغيتها وطلبتها بعد أن عزلتها وأزلتها فلا جناح عليك في ذلك، أى: إن أردت أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتهن من القسمة وتضمها إليك فلا بأس عليك في ذلك، وكذلك حكم الإرجاء، ذلك التخيير الذي خيرناك في صحبتهن أدنى إلى إرضائهن وسرورهن بكل ما تفعل، وتلك خصوصية للنبي صلّى الله عليه وسلّم. ومن الأحكام الشرعية أن الرجل الذي يتزوج امرأتين واجب عليه أن يعدل بينهن بالسوية في كل شيء. الله يعلم ما في قلوبكم، وكان الله عليما بكل شيء حليما في كل حكم. لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ الآية.. في هذه الآية خلاف بين العلماء تبعا لما قالوا في تفسير قوله تعالى: إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ الآية. فقال بعضهم: لا يحل لك النساء من بعد ما وصفنا وبينا لك من الأوصاف السابقة أما غيرهن من الكتابيات أو غير المهاجرات من أقاربك فلا يحل لك منهن أحد، وقال بعضهم: هذه منسوخة بالآية المتقدمة، وتقدمها في التلاوة لا يضر. وقال بعضهم: لما اختار نساء النبي صلّى الله عليه وسلّم ذاته الشريفة جوزين على ذلك بتحريم غيرهن على النبي، وعدم طلاقهن منه، وجعلهن أمهات للمؤمنين، ذلك مكافأة لهن على ذلك. ولا أن تبدل بهن من أزواج، أى: لا يحل طلاقهن وتزوج غيرهن، ولو كنت معجبا بحسنهن إلا ما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك. وكان الله على كل شيء رقيبا. كلمة عن تعدد أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم لقد تكلم بعض الناس في أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم وكثرتهن يرمون إلى أنه رجل شهوانى لا يعقل أن يكون نبيا!! حقيقة مات النبي عن تسع نسوة لكل واحدة ظرف خاص في زواجها لو عرفناه لحكمنا حكما صحيحا في هذا الموضوع. أما السيدة خديجة فقد تزوجها وسنه خمس وعشرون سنة وسنها أربعون سنة، ومع هذا الفارق الكبير فقد عاشا عيشة سعيدة حتى توفيت، وقد أمضى معها زهرة شبابه، إذ ماتت وهي في سن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 108 الخامسة والستين، ومع هذا لم يتزوج مع غيرها مع عدم المانع، ثم تزوج بعائشة مع صغر سنها، وبحفصة مع عدم جمالها، وأم سلمة مع كثرة عيالها وكبر سنها كل هذا لإرضاء أصحابه ورجال دعوته، وجبرا لخاطر امرأة كأم سلمة هاجرت مع زوجها إلى الحبشة وإلى المدينة لما مات زوجها، أليس من المروءة أن يجبر خاطرها حتى يطمئن كل قواده وجنوده على أهليهم بعد وفاتهم، وهذه سودة العجوز ليس الزواج بها لشهوة، وهذه زينب بنت جحش قد عرفت قصتها سابقا، وأما النساء الباقيات فأم حبيبة بنت أبى سفيان زعيم قريش أسلمت قبل أبيها وهاجرت إلى الحبشة ثم لما مات زوجها تزوجها النبي إكراما لها وتقديرا لعملها، وصفية بنت حيي بن أخطب زعيم اليهود، وجويرية بنت الحارث زعيم بنى المصطلق وقد هزمت قبيلتهما فأراد النبي أن يجبر خاطر صفية وجويرية فتزوجهما لأسباب سياسية لا تخفى على قائد جماعة وصاحب دعوة. ولا يظن أحد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يعيش عيشة المترفين في بيته، فهذه عائشة يروى أنها قالت: إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أوقدت في أبيات رسول الله نار! فقال لها عروة بن الزبير: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان: التمر والماء. فعلى رسلكم أيها النقاد بغير علم، أو بعلم، وقد أعماكم هذا التعصب الذي يجعل القلوب في أكنة بعيدة عن نور الحق، هذه حياة النبي، وتلك ظروف زوجاته كلهن فما تزوج لجمال أو لشباب، أو لطلب رفاهية؟ وما كان صلّى الله عليه وسلّم مترفا في مأكل أو مشرب أو مسكن «تقول عائشة: لقد توفى رسول الله وما في رفّي من شيء يأكله ذو كبد إلا شطر شعير في رف لي» ، وكان الحصير يؤثر في جنبه صلّى الله عليه وسلّم ما وجب على المؤمنين نحو بيت النبي مع آية الحجاب [سورة الأحزاب (33) : الآيات 53 الى 55] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (54) لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (55) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 109 المفردات: إِناهُ: منتظرين نضجه، وأصل الكلمة من: أنى الشيء يأنى إناه: إذا حان إدراكه، وفي شرح القاموس: (أنى) بمعنى أدرك وبلغ. فَانْتَشِرُوا: اذهبوا حيث شئتم وتفرقوا. مَتاعاً المراد: ما يحتاج إليه وينتفع به من سائر المرافق. هذه الآيات تضمنت أمرين مهمين: أولهما: الآداب العامة عند الطعام والجلوس له. ثانيهما: الحجاب وعدم الاختلاط، وقد نزلت الآيات في بيت النبي، ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. أما الأمر الأول: فالجمهور من المفسرين على أن سبب النزول هو: لما تزوج النبي من زينب بنت جحش أولم عليها ودعا الناس، فلما طعموا جلس بعض الناس يتحدثون في بيت رسول الله، وزوجته مولية وجهها إلى الحائط- إذ البيت عبارة عن حجرة واحدة- فثقلوا على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال أنس بن مالك: فقام رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فخرج الجزء: 3 ¦ الصفحة: 110 وخرجت معه لكي يخرجوا وقد تباطأ القوم في الخروج، قال أنس: وأخبرت النبي أن القوم خرجوا، فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه فألقى الستر بيني وبينه، ونزل الحجاب، فأنزل الله- عز وجل-: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إلى قوله: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً روى هذا الحديث بالمعنى، وأصله موجود في البخاري ومسلم. وعن ابن عباس: أنها نزلت في أناس من المؤمنين كانوا يتحينون طعام النبي صلّى الله عليه وسلّم فيدخلون قبل أن يدرك الطعام فيقعدون إلى أن يدرك ثمّ يأكلون ولا يخرجون. وقال بعضهم: هذا أدب أدب الله به الثقلاء. المعنى: يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي في حال من الأحوال إلا في حال قد أذن لكم فيه إلى طعام غير منتظرين نضجه، أى: لا تدخلوا بيوت النبي إلا في وقت الإذن لكم إلى طعام، ولا تدخلوه إلا غير منتظرين إناه، ولكن إذا دعيتم إلى الطعام وأذن لكم في الدخول فادخلوا فإذا طعمتم فاذهبوا متفرقين، ولا تمكثوا مستأنسين بالحديث كما فعل بعضهم في وليمة زينب جحش. إن ذلكم كان يؤذى النبي، وأى إيذاء أكبر من بقاء عامة الناس في بيت الزوجية؟ الذي هو حق لها، وسكن الزوج مع زوجته، وكان النبي يستحى ويمتنع من إظهار ألمه لكم، ولكن الله لا يستحيى من إظهار الحق. بل يبين للناس ما به يتأدبون بأدب القرآن فاعلموا أن هذا الانتظار خطأ وحرام عليكم فلا تعودوا لمثله أبدا. روى أن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- قال: يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب؟ فنزلت الآية. وانظر إلى القرآن وهو يعالج أمر الحجاب مبتدئا بأمهات المؤمنين اللائي هن أطهر النساء وأعفهن، حتى نتبصر في أمرنا حينما يقال لنا: إنا نختلط ولا يحصل شيء أبدا، ولست أدرى: ما سبب الحوادث التي نقرؤها كل يوم في الجرائد عن الخيانات والقتل والطلاق؟! أليس مرجعها كلها إلى ضعف الوازع الديني وإلى الاختلاط في البيوت والشارع بل وفي المقاهى والمسارح والمصايف؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 111 وإذا سألتموهن- نساء النبي- متاعا أى متاع في الدين والدنيا فاسألوهن من وراء حجاب. ذلكم، أى: ما ذكر من الاستئذان قبل الدخول، وعدم الاستئناس للحديث، وسؤال المتاع من وراء الحجاب ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ من الخواطر التي تعرض لكل رجل وامرأة إذا اختلى بها، وذلك أنفى للريبة، وأبعد للتهمة وأمنع في الحصانة. أليس هذا دليلا على أنه لا ينبغي لأحد أن يثق بنفسه في الخلوة مع من لا تحل له فإن مجانبة ذلك أحسن وأحسن لحاله وأحصن لنفسه وأتم لعصمته. وإذا كان هذا حال الرعيل الأول من المسلمين فما بالنا اليوم؟ اللهم نسألك اللطف والهداية والرحمة. وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله، ولا ينبغي منكم ذلك. وما كان لكم أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا، فإنهن أمهات المؤمنين، ولا يليق بكم أن تفعلوا ذلك أبدا. وهذه الآية رد على من قال: إذا مات رسول الله أتزوج عائشة من بعده، إن ذلكم المذكور من ألم رسول الله بدخول الناس بدون إذن أو مكثهم لغير حاجة أو طلبهم نكاح أزواجه من بعده، إن ذلكم كان عند الله عظيما، فلا ذنب أعظم منه، وهذا يفيد أن هذه من الكبائر، واعلموا أن الله يعلم الغيب والشهادة وهو العليم بذات الصدور، فإن تبدوا شيئا أو تخفوه فإن الله بكل شيء عليم، وسيجازى عليه. ولما نزلت آية الحجاب تساءل بعض أقارب أمهات المؤمنين: أنحن نكلمهم من وراء حجاب؟ فرد الله عليهم بقوله: لا جناح عليهن ولا إثم في أن يكلمن آباءهن أو أبناءهن، أو إخوانهن أو أبناء إخوانهن، أو ما ملكت أيمانهن من العبيد، وكذا بقية المحارم التي ذكرت في سورة النور كالعم والخال مثلا. واتقين الله- أيها النساء- فأنتن سبب الاختلاط، وعليكن الوزر الأكبر فيه، إذ المرأة هي التي تستطيع رد الرجل، ويستحيل عليه أن يتمكن منها إلا برضاها، ولذا خصهن بالأمر بالتقوى، إن الله كان على كل شيء شهيدا ورقيبا، فاحذروه، واتقوه، واعلموا أنّه يراكم ويحصى عليكم أعمالكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 112 مكانة الرسول صلّى الله عليه وسلّم وجزاء من يؤذيه هو والمؤمنين [سورة الأحزاب (33) : الآيات 56 الى 58] إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (56) إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَإِثْماً مُبِيناً (58) المفردات: لَعَنَهُمُ اللَّهُ: أبعدهم وطردهم من رحمته مُهِيناً: غاية في الإهانة مُبِيناً: بينا واضحا. المعنى: وهذه الآية قد أظهرت الرسول، وأبانت مكانته عند الله وعند ملائكته، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم، والصلاة من الله على نبيه رحمة ورضوان، ومن الملائكة دعاء واستغفار، ومن الأمة دعاء وتعظيم للنبي، وصلاتنا عليه صلّى الله عليه وسلّم بل وصلاة الملائكة بعد هذا الشرف العالي بالصلاة عليه من المتعالي- جل جلاله- لإظهار مكانته عند ربه. ولننال شرف الصلاة عليه وثوابها الجزيل، فقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من صلّى علىّ صلاة صلّى الله عليه عشرا» ، وكفاه شرفا أن الله وملائكته يصلون عليه، ولا عجب إذ يوجبها الشافعى في الصلاة ويعد الصلاة على النبي في التشهد الأخير ركنا من أركانها، وإن خالفه في ذلك أكثر الأئمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 113 لهذا نادى الحق- تبارك وتعالى- المؤمنين آمرا لهم بالصلاة على حبيبه وخاتم رسله فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً. أما كيفية الصلاة على النبي فصل بأى صيغة شئت، والوارد أن مالكا روى عن أبى مسعود الأنصارى قال: أتانا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعد: أمرنا الله أن نصلى عليك يا رسول الله فكيف نصلى عليك؟ قال: فسكت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حتى تمنينا أنه لم يسأله، ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «قولوا: اللهمّ صلّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صلّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمّد وعلى آل محمّد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنّك حميد مّجيد. والسّلام كما قد علمتم» أى: في التشهد وهو السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته. هذه مكانة أشرف الخلق على الله وفضل الصلاة عليه، وهم كما يقولون: الضد أقرب خطورا بالبال، فما جزاء من يؤذيه، ولا يصلى عليه؟ أما من يؤذى الله ورسوله فالويل ثم الويل له ألف مرة ومرة، إنما جزاؤه لعنة الله وطرده من رحمته، ويا له من جزاء قاس يناسب هذا الجرم وفي الآخرة أعد له عذاب شديد ذو إهانة وقسوة. من يؤذى الله بالإشراك به ونسبة ما لا يليق له والكذب عليه، وعدم الامتثال لأمره، ومخالفة رسله، وإيذاء الرسول بوصفه بما لا يليق، والهجوم عليه، وعدم الامتثال له وتكذيبه والطعن في آل بيته، والكلام في حقه وعدم الرضا بفعله، كل هذا إيذاء لله ورسوله عليه الجزاء الشديد في الدنيا والآخرة. والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير جرم ارتكبوه أو ذنب اقترفوه إيذاء بالظلم لا بالحق، وهم بهذا الوصف وهو الإيمان، أى: لأجله، هؤلاء قد احتملوا إثما كبيرا هو كإثم البهتان والكذب على الله. ولا يدخل في ذلك من يقوم.. بالرعاية والتأديب فيقسو لغرض شريف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 114 ستر عورات النساء [سورة الأحزاب (33) : آية 59] يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَبَناتِكَ وَنِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) المفردات: يُدْنِينَ الإدناء: التقريب، والمراد الإرخاء والسدل جَلَابِيبِهِنَّ: جمع جلباب وهو الثوب الذي يستر جميع البدن. المعنى: توفى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن تسع من النساء هن عائشة، وحفصة، وأم حبيبة. وسودة، وأم سلمة، وميمونة، وزينب بنت جحش، وجويرية، وصفية بنت حيي ابن أخطب الهارونية. وأما أولاده فسبعة: ثلاثة ذكور، وهم القاسم، وعبد الله وأمهما خديجة، وإبراهيم وأمه مارية القبطية التي أهداها له المقوقس عظيم القبط بمصر، وأربع إناث وهن فاطمة الزهراء- رضى الله عنها- وزوجها على بن أبى طالب وأمها خديجة، وزينب وتزوجها ابن خالتها أبو العاص بن الربيع، ورقية زوجها عثمان بن عفان، وماتت والنبي صلّى الله عليه وسلّم في غزوة بدر، وأم كلثوم تزوجها عثمان بعد وفاة أختها ولذا سمى بذي النورين وتوفيت في حياة النبي صلّى الله عليه وسلّم. فكل أولاده صلّى الله عليه وسلّم الذكور والإناث من خديجة إلا إبراهيم فمن مارية القبطية، وقد فارقن الحياة قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا فاطمة الزهراء فماتت بعد النبي وهي أول من لحق به من آل بيته الكرام- رضى الله عنهم جميعا- فتلك ذرية بعضها من بعض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 115 وقد كانت العرب في الجاهلية منغمسين في التبذل، وإبداء الزينة ومواضعها والكشف عما يجب ستره كما يفعل الإماء. وقد جاء الإسلام دين السلام ودعوة الحق والتحرر من قيد التقليد الأعمى، والانطلاق نحو المثل العليا وتكوين المجتمع الصالح، المؤسس على تقوى من الله ورضوان. جاء الإسلام فخاطب النبي صلّى الله عليه وسلّم أولا في شأن أزواجه وبناته ونساء المؤمنين عامة ليعلم الكل أن هذا علاج مر. وأنه لا يقوم به إلا أولو العزم من الرجال، وحقا لا يستطيع تأديب زوجته وأخته وبنته، وكبح جماح الغريزة التي تدعو إلى التبرج والظهور إلا كل رجل! وكفى!! .. يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن فيسترن أجسامهن كلها حتى وجوههن إلا ما به ترى الطريق، ويرى بعضهم أن ستر الوجه إنما يكون عند الفتنة، ولا يبدين زينتهن، أى: موضعها إلا لمحارمهن التي ذكرت في سورة النور، آية 31. أمر الله تعالى جميع النساء بالستر وإن ذلك لا يكون إلا بما يستر بدنها، إلا إذا كانت المرأة مع زوجها وفي بيتها، فلها أن تلبس ما تشاء لأن لزوجها أن يستمتع بها كيف شاء! يا نساء المؤمنين اسمعن ما نصح به النبي بعض أصحابه: روى أن دحية الكلبي لما رجع من عند هرقل فأعطاه النبي صلّى الله عليه وسلّم قبطية فقال: «اجعل صديعا- نصفا- لك قميصا ولصاحبتك صديعا تختمر» ثم قال له: «مرها تجعل تحتها شيئا لئلّا يصف..» . وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «نساء كاسيات عاريات مائلات مميلات، رءوسهنّ مثل أسنمة البخت- نوع من الإبل- لا يدخلن الجنّة ولا يجدن ريحها» . وقال عمر- رضى الله عنه-: ما يمنع المرأة المسلمة إذا كانت لها حاجة أن تخرج في أطمارها وأطمار جارتها مستخفية لا يعلم بها أحد حتى ترجع إلى بيتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 116 ذلك الذي يأمركم به ربكم من الستر أدنى وأقرب أن تعرفن وتتميزن بأنكن المؤمنات القانتات العابدات الحافظات فروجهن، فلا تؤذين بقول من ساب أو جاهل، ويعرفكن الأبرار الصالحون فيتكون البيت المسلم الكامل. أيتها المؤمنات: إن الدين حينما يفرض الحجاب، ويوصى بالستر التام للجسم كله إنما يهدف إلى عدم الإيذاء لكن، فكم من امرأة عفيفة ظهرت في الشارع سافرة فلاقت من الأذى ما لاقت! وإنى لأعجب حينما نرى بعض نساء المؤمنين في الشارع قد برزن بروزا يلفت النظر، خرجن كاشفات عن مواضع في أجسامهن لا يليق بهن أبدا كشفها. أفيليق من المرأة المؤمنة أن تخرج كاشفة عن وجهها ورأسها وثديها وساقها وإبطها، وتستر الباقي بثوب شفاف يظهر ثديها؟ .. وايم الحق قد ترى حلمة الثدي وموضع السرة!! .. يا لله للمسلمين والمسلمات!! يا نساء المسلمين إن جاز هذا من غيرنا فليس يجوز أبدا منا!! يا نساء المؤمنين ليس في الكشف عن العورة فائدة أبدا بل هناك الضرر كل الضرر.. يا نساء المؤمنين كل بدن الحرة عورة إلا وجهها وكفيها. يا نساء! إن في ستر العورة منعا للفتنة، ومدعاة للعفة وبعدا عن مظان التهمة، وحفظا لكن من تعرض الفساق وإيذائهم بالرفث وفحش القول. يا أيها المؤمنون اعلموا أنكم المطالبون بستر عورات نسائكم، فأنتم مع الرسول مخاطبون يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ الآية.. فلا يعتذرن أحد، ولا يلقين أحد تبعة هذا على النساء وحدهن!! أيتها الأخت المسلمة: كوني مثلا أعلى للمسلمات، واحذرى الشيطان وفتنة المجتمع المنحل الذي تعيشين فيه، وتذرعى بالصبر، واعلمي أنه لا يزال في الأمة من يقدر العفاف والأدب وحسن السيرة! وإنى أختتم هذا بأن أدعو الله أن يرزقنا التوفيق والسداد فهو ربنا الرحمن الرحيم بنا، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 117 فموضوع الاختلاط والتبرج والانحلال الخلقي العام في طبقات الشعب داء استشرى، وفساد عم، لم يعد يكفيه وعظ وإرشاد، وإنما هو في حاجة إلى قوة السلطان وصولة الحاكم الذي يدين بعلاج القرآن، ويؤمن أن فيه خير الشعب والدولة، وما ذلك على الله بعزيز، وهو نعم المولى ونعم النصير. هؤلاء المنافقون وهذا جزاؤهم [سورة الأحزاب (33) : الآيات 60 الى 62] لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62) المفردات: مَرَضٌ المراد: مرض الفسوق والعصيان وَالْمُرْجِفُونَ: الإرجاف والرجفان الاضطراب الشديد، والمراد المتلمسون الفتنة المشيعون للأكاذيب والأباطيل لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ: لنسلطنك عليهم. المعنى: وهذه آية نزلت في المنافقين كاشفة حالهم، هاتكة سترهم، مهددة لهم، وأى تهديد أكثر من قوله: لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا؟! وقد أجمع المفسرون تقريبا على أن هذه الأوصاف الثلاثة- النفاق، ومرض القلب والإرجاف- لشيء واحد، ولا شك أن من لوازم النفاق مرض القلب فهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 118 متلازمان، والإرجاف بالفتنة، وإشاعة السوء نهاية النفاق، والمنافقون جمعوا بين هذه الأوصاف الثلاثة. على أن المنافقين قوم برزوا في إظهار مرض القلب الذي ينشأ عنه كل إثم وفسوق وعصيان، وخاصة تتبع النساء والتعرض لهن بالسوء، وإغرائهن على الفاحشة، وفيهم قوم برزوا في الإرجاف وإذاعة السوء، وإذاعة الأكاذيب التي تفت في عضد الجماعة، وتقتل فيهم روح الإقدام، وكانوا ينتهزون فرص الحرب والقتال فيذيعون كل ضار ومفسد. ولقد أقسم الله بنفسه مهددا لهم: لئن لم يكف هؤلاء المنافقون عن نفاقهم، وينتهوا عن أعمالهم القبيحة التي تنشأ عن مرض القلب وسوء القصد، وفساد النفس، ولئن لم يبتعدوا عن الإرجاف في المدينة بالسوء، لئن لم ينتهوا عن ذلك لنغرينك بهم!! إنه لتصوير بديع جدا حيث أبرز الرسول صلّى الله عليه وسلّم كأنه أسد مفترس أمامه فريسته ضعيفة مهينة، وهو ممنوع منها. ثم هم بعد ذلك لن يجاوروك في تلك المدينة التي جئتها مهاجرا إلا زمنا قليلا، وقد كان ذلك كذلك. وهم ملعونون ومطرودون من رحمة الله ومنبوذون من الناس حيث عرفوا وَلا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً [سورة التوبة آية 84] . أينما ثقفوا ووجدوا أخذوا بالضرب والتنكيل والاحتقار، وهذا جزاء النفاق وهم يقتلون تقتيلا حيثما وجدوا، ولا غرابة في ذلك، فالأمم الحديثة الآن لا تعرف الرحمة مع الجواسيس والخارجين على الدولة الذين يطعنون من الخلف، ويتعاونون مع العدو مع تظاهرهم بالإخلاص. وتلك سنة الله مع المنافقين في كل زمن، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ولا تغييرا. يقول القرطبي في تفسيره لهذه الآية: «وفي الآية جواز ترك إنفاذ الوعيد، والدليل على ذلك بقاء المنافقين معه حتى مات، أى: النبي» . ولعل السر في وضع هذه الآية هنا للإشارة إلى أن إيذاء الرسول صلّى الله عليه وسلّم بالقول أو الفعل، والتعرض بالسوء لنسائه وبيته، وعدم امتثال أمر الله مطلقا وخاصة في ستر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 119 عورات النساء كل هذا من لوازم النفاق العملي الذي يأباه الله ويتنافى مع حقيقة الإسلام، ونرجو أن يمتثل المسلمون اليوم للأمر بستر عورات نسائهم حتى لا ينطبق علينا وصف النفاق. وهذا جزاء الكافرين [سورة الأحزاب (33) : الآيات 63 الى 68] يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَقالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَكُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67) رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً (68) المفردات: سادَتَنا: جمع سيد، وهو كبير قومه ضِعْفَيْنِ: مثلين. المعنى: كان النبي يتوعد الكفار والفساق بعذاب شديد يوم الساعة، فكانوا يسألون عن الساعة استبعادا لها وتكذيبا، لأنهم كانوا ينكرون البعث ويقولون: ما يهلكنا إلا الدهر. فيرد الله عليهم آمرا نبيه أن يقول لهم: قل لهم: إنما علمها عند الله فهو الذي يعلم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 120 وحده متى تأتى؟ وما أنا إلا بشير ونذير، وليس لي علم بالغيب إلا ما أطلعنى الله عليه فقط، على أن إخفاء الساعة من دعائم الحياة في الدنيا، ولو أننا نعلم متى نفارقها لكان لنا نظام آخر في معيشتنا وحياتنا، ولكن الله الحكيم العليم أخفاها لأسرار وحكم هو يعلمها، ولعل إخفاءها لنستعد في كل وقت، وما يدريك؟ لعل الساعة يكون قريبا حدوثها، لقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «بعثت أنا والسّاعة كهاتين» وأشار إلى السبابة والوسطى. إن الله لعن الكافرين وطردهم من رحمته وأعد لهم عذاب جهنم، نارا مسعرة خالدين فيها أبدا لا يجدون وليا يلي أمورهم، ولا نصيرا ينصرهم يوم تقلب وجوههم في النار التي وقودها الناس والحجارة، وخصت الوجوه بالذكر لأنها طالما عصت ربها، وآذت رسوله، وتكبرت على عباده المؤمنين. واذكر يوم يقولون: يا ليتنا أطعنا الله وأطعنا الرسول!! ندموا على ما فرط منهم حين رأوا العذاب المعد لهم، ندموا ولات ساعة مندم؟ وقالوا معتذرين: يا ربنا إنا أطعنا سادتنا وكبراءنا فهم الذين قادونا إلى هذا العذاب وأضلونا عن سواء السبيل. ربنا آتهم ضعفين من العذاب، ضعف لكفرهم، وسوء أعمالهم، وضعف لأنهم أضلونا وقادونا إلى هذا. ربنا اطردهم من رحمتك وأبعدهم عن جنابك بعدا كبيرا فهم يستحقون ذلك، وكثيرا ما ينازعون، ويلقى كل منهم التبعة على الآخر والكل سواء في العذاب المهين لأن الله خلق عقلا وفكرا مستقلا فآثر طريق الشيطان والهوى على طريق الحق والهدى فكان هذا جزاءه ومأواه، وبئس مأوى الظالمين مأواهم. توجيهات وعظات [سورة الأحزاب (33) : الآيات 69 الى 71] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَكانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 121 المفردات: وَجِيهاً الوجيه: العظيم القدر، الرفيع المنزلة، المعروف بكرم الفعال سَدِيداً: صوابا. المعنى: سبق أن بين الحق- تبارك وتعالى- أن إيذاء الله يوجب اللعن والطرد من رحمة الله، وهذا الإيذاء يجر إلى الكفر، وهناك نوع منه يجر إلى الإثم، نهى الله المؤمنين عنه قائلا: يا أيها المؤمنون لا تتقدموا إلى رسولكم بإيذاء أيا كان نوعه حتى لا تكونوا كالذين آذوا موسى، فبرأه الله مما قالوا، وأعد لمن آذاه عذابا شديدا. وكان موسى عند الله وجيها. وقد ورد أن بعض الناس لم يرض بقسمة الرسول، وبحكمه في الفيء، وهذا بلا شك إيذاء. أما إيذاء موسى فحسبك ما رواه القرآن من أن بعض بنى إسرائيل قالوا لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا. وقولهم: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة. وقولهم: لن نصبر على طعام واحد، وقيل: إنهم كانوا يصفونه بأنه آدر. فأراد الله- سبحانه وتعالى- أن يرشد المؤمنين إلى طريق الخير، وينبههم إلى مواضع الخطر، حتى لا يكونوا كبني إسرائيل مع موسى، فإذا أمرهم الرسول بقتال لا يقولون: اذهب أنت وربك فقاتلا، ولا يليق بالمؤمنين أن يسألوا ما لم يؤذن لهم فيه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 122 وإذا أمروا بأمر أن يأتوا منه ما استطاعوا، وقد برأه الله من قولهم: إنه آدر، حيث كشف عورته قهرا عنه فرأوه سليما صحيحا، وقد برأه مما قالوا حيث قطع حججهم، وأبطل كيدهم، ثم ضرب عليهم الذلة والمسكنة، وكان موسى عند الله وجيها وكريما محبوبا. فاحذروا أيها المؤمنون، ولا تكونوا كمن سبقكم، فهذا الرسول الكريم على الله مبرأ من كل دنس وعيب وآل بيته الكرام، فكفوا عن الأذى، واتبعوا ما أنزل عليكم، وأطيعوا الله ورسوله لعلكم تفلحون. ويا أيها المؤمنون اتقوا الله، وقولوا قولا سديدا، قولا صوابا فيه خيركم، ولا تقولوا ما فيه ضلالكم وما به عذابكم من كل قول فيه إثم وفحش وزور وبهتان، فإن تتقوا وتصلحوا أنفسكم، وتقولوا الخير كالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر: يصلح لكم أعمالكم في الدنيا والآخرة ويغفر لكم ذنوبكم. فيا عباد الله: إن تتقوا الله يصلح لكم أعمالكم، ويمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى، ويؤت كل ذي فضل فضله في الآخرة، والله على كل شيء قدير، ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزا عظيما. أمانة التكاليف وحملها [سورة الأحزاب (33) : الآيات 72 الى 73] إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَأَشْفَقْنَ مِنْها وَحَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 123 الْأَمانَةَ: المراد بها التكاليف فَأَبَيْنَ: امتنعن خوفا وإشفاقا. وهذا ختام رائع لتلك السورة التي جمعت أوامر عالية، وآدابا سامية وحكما ومواعظ رائعة كلها من تكاليف الإسلام بل هي لبابه، وفي هذه الآيات بيان أن التكاليف ليست هينة، وإنما هي عظائم الأمور التي نأت عنها السموات والأرضون. المعنى: إنا عرضنا الأمانة- التكاليف كلها من طاعات وفرائض- عرضناها على السموات والأرض والجبال فلم تطقها وأبين أن يحملنها وحملها الإنسان على ما بها إنه كان ظلوما جهولا. الله- سبحانه وتعالى- عرض التكاليف على السموات وما فيها، والأرض وما عليها من جبال وسهول ونبات وغيره، فأدت ما طلب منها فورا، وأبت كل هذه الأشياء أن تحمل الأمانة وتؤخر الوفاء بها، ألا ترى إلى الملائكة؟! هل هم يحملون الأمانة؟ أم هم يقومون بما عليهم فورا، ولا يحملون شيئا، الملائكة على هذا الاعتبار لم يحملوا الأمانة، ولأضربن لك مثلا بسيطا: إذا وجب الظهر وجبت عليك صلاته في وقته، فإن أديته فورا صدق عليك أنك لم تحمل أمانته بل أديتها في وقتها كالرجل الذي عنده وديعة إلى أجل إذا حل الأجل لم يحملها، بل يعطيها لصاحبها، وإذا تأخرت عن الصلاة حتى فات الوقت كنت حاملا للأمانة، والله أعلم. فالسماوات والأرض والجبال ومن فيهن وما عليهن لا يحملون الأمانة أبدا بل يقومون بما طلب منهم فورا ساعة طلبه. أما الإنسان، أى: بعضه فقد حمل الأمانة على ما بها من جزاء العاملين وعذاب المقصرين بهذا المعنى السابق، ولم يأب حملها، ولم يشفق منها ومن عذابها إنه كان ظلوما لنفسه جهولا لم يعمل ما يقيه من العذاب المعد لمن خان الأمانة، ولم يوف بالعهد. وكان من نتائج أن الله حمله تلك التكاليف فحملها: أن الله يعذب المشركين والمنافقين على أعمالهم السيئة، وعلى خيانتهم للأمانة وعدم وفائهم بالعهود. وكان من نتائج ذلك أيضا أن الله يتوب على المؤمنين، ويثيبهم على ما عملوا من صالح الأعمال، وعلى ما أدوا من أمانات ووفوا بالتزامات، وكان الله غفورا رحيما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 124 سورة سبأ مكية كلها إلا آية (6) : وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الآية.. فقيل فيها: إنها مكية وقيل: هي مدنية. وآياتها أربع وخمسون آية. ويدور محور الكلام فيها على البعث، ونقاش المشركين في أعمالهم وعقائدهم، وخاصة إثبات البعث، وفي خلال ذلك سيقت بعض القصص للعبرة والتسلية.. إثبات البعث وبيان دواعيه على منكريه [سورة سبإ (34) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 125 المفردات: يَلِجُ: يدخل فيها يَعْرُجُ فِيها: يصعد فيها لا يَعْزُبُ: لا يغيب مُعاجِزِينَ: عاجزه وأعجزه: سبقه وغالبه مُزِّقْتُمْ: قطعتم قطعا صغيرة نَخْسِفْ خسف المكان: ذهب في الأرض، وخسف به الأرض غاب به فيها كِسَفاً جمع كسفة: وهي القطعة مُنِيبٍ: راجع إلى ربه. وهذا افتتاح لسورة سبأ وهي سورة مكية عنيت بإثبات البعث والرد على منكريه، كما ذكرنا. المقصود من هذه الآيات إثبات البعث، وقدم له الحق- تبارك وتعالى- بمقدمة غاية في الدقة، ونهاية في الحسن والجمال، إذ نعم الله تنحصر في الجملة في نعمتين: نعمة الإيجاد والإبقاء في الدنيا، ونعمة الإعادة والدوام في الآخرة، ونرى أن السورة التي بدأت بالحمد في القرآن خمس: اثنتان في النصف الأول هما الأنعام والكهف، واثنتان في النصف الثاني هما سبأ وفاطر، والخامسة الفاتحة وهي توضع في الأول والآخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 126 وفي أول سورة الأنعام الإشارة إلى نعمة الإيجاد هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ وفي أول الكهف الإشارة إلى الإبقاء الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ ولا تبقى الدنيا بلا قانون وأحكام دستور ونظام ولذا تكلم فيها عن القرآن، وهنا الإشارة إلى الإعادة والبعث بدليل قوله: وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وفي أول سورة فاطر الإشارة إلى دوام وبقاء الحياة الآخرة جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ والملائكة كلها لا تكون رسلا إلا يوم القيامة وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ. وسورة الفاتحة جمعت البدء والإعادة معا فقرئت في البدء والختام للقرآن. المعنى: الحمد لله حمدا يوازى نعماءه، ويكافئ فضله، فهو الله الذي لا إله إلا هو له الحمد المطلق في الأولى، وله الحمد في الآخرة، وله وحده الحكم، وإليه وحده ترجعون، الحمد لله الذي له ما في السموات وما في الأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا فهو وحده صاحب النعم لأنه المالك للكل فهو إذن المستحق للحمد في الأولى والآخرة، وهو الحكيم الخبير بكل كائن. يعلم كل ما يلج في الأرض ويدخل فيها من بذور وماء وثمار وكنوز ودفائن وأجسام، ويعلم كل ما يخرج منها من نبات وأشجار، وحيوان ومياه ومعادن وأحجار، ويعلم ما ينزل من السماء من مطر وثلوج وصواعق وأرزاق وما يعرج فيها ويصعد إليها من الملائكة وأعمال العباد. وهو مع ذلك كله الغفور الرحيم، لمن يفرط في واجب الشكر والثناء لصاحب هذه النعم. ثم بين القرآن أن هذه النعمة التي يستحق بها الحمد وهي نعمة الحياة الآخرة أنكرها قوم وكفروا بها فقال: وقال الذين كفروا من المشركين وغيرهم الذين ينكرون البعث والحياة الآخرة قالوا لا: لا تأتينا الساعة أبدا. فرد الله عليهم بقوله لنبيه: قل لهم: بلى ستأتيكم أيها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 127 المنكرون ثم أقسم على ذلك مؤكدا فقال: وربي لتأتينكم عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين. يا أخى: قف معى عند قوله تعالى: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ، وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ أليست معجزة القرآن حيث ذكر تفتيت الذرة من أربعة عشر قرنا؟! سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ [سورة فصلت آية 53] . لم يكتف الله بالقسم على إتيان يوم الساعة بل ذكر الدليل على ذلك فقال: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ بعد قوله: عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ ولعل هذا هو السر في اختيار وصف الله بالعلم هنا، ووجه الدلالة أنهم كانوا يفهمون أن البعث محال لتفتت الأجسام وضياع الأجزاء فكيف يتأتى جمعها بعد تفريقها؟ والله يرد عليهم بأنه عالم يعلم السر وأخفى، وهو العليم بكل الجزئيات التي في السموات والأرضين، على أنه حكيم ومن الحكمة أن يجازى المحسن على إحسانه، ويعاقب المسيء على إساءته، وأن الدنيا ليست محل جزاء بل هي موضع ابتلاء لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى «1» فربك يوم القيامة يجزى الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالجنة، أولئك البعيدون في درجات الكمال الذين يشار إليهم بالبنان لأنهم آمنوا وعملوا الصالحات أولئك لهم مغفرة من الله ورضوان، ولهم رزق كريم لا يتبعه من ولا ألم، وليس صاحبه مهددا بفقر أو موت. والذين سعوا جاهدين في إبطال آياتنا حالة كونهم معتقدين عجزنا وأننا لن نحيط بأعمالهم، وفي قراءة (معاجزين) أى: مسابقين الله، وإن كان هذا مما لا يتصور إلا أن المكذبين بآيات الله لما قدروا في أنفسهم وطمعوا أن كيدهم في الإسلام يتم لهم شبهوا بمن يسابق الله بحسب زعمهم. والذين سعوا في آياتنا معاجزين أولئك لهم عذاب من رجز- وهو أسوأ العذاب- أليم غاية الألم، إذا لا بد من البعث ليأخذ كل جزاءه على ما قدم.   (1) - سورة النجم آية 31. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 128 تلك مقالة الكفار والرد عليها، أما الذين أوتوا العلم، وهدوا إلى الطيب من القول فيرون أن الذي أنزل إليك من ربك هو الحق، وهو يهدى إلى صراط العزيز الحميد، وفيه الإخبار بالبعث وأحوال يوم القيامة فهو حق لا شك فيه. وانظر إلى الكفار يقولون على سبيل السخرية والاستهزاء: هل ندلكم على رجل يخبركم بالبعث إذا مزقتم كل ممزق؟! أبعد هذا التمزيق وأننا نضل في الأرض نبعث على خلق جديد إن هذا لعجيب؟!! تلك مقالة الكفار ثم يتبعونها بقولهم: أهذا الرجل يفترى على الله الكذب عمدا، أم هو رجل مجنون قد اختلط عقله فما يدرى ما يقول؟! بل أنتم أيها الكفار قوم ليس عندكم استعداد للإيمان بالآخرة، وأنتم في العذاب بسبب أعمالكم والضلال البعيد لاعتقادكم الباطل؟ أعموا فلم يروا ما بين أيديهم، وما خلفهم، وما على جوانبهم في السماء والأرض من آيات شاهدة وأدلة ناطقة على قدرة الله القادرة، وعلى علمه الكامل المحيط بكل صغيرة وكبيرة، وأن الله- سبحانه وتعالى- قادر على أن يخسف بهم الأرض كما خسف بقارون لما بغى، أو يسقط عليهم كسفا من السماء كما فعل بأصحاب الأيكة لما ظلموا، إن في ذلك كله لآيات لكل عبد منيب تواب يرجع إلى الله. داوود وسليمان [سورة سبإ (34) : الآيات 10 الى 14] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11) وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 129 المفردات: أَوِّبِي التأويب: التسبيح سابِغاتٍ المراد: دروعا سابغات، وهي الدروع الكوامل. يقال: سبغ الدرع والثوب وغيرهما: إذا غطى كل ما هو عليه وفضل منه وَقَدِّرْ من التقدير، أى: قدر تقديرا حسنا يجمع بين الخفة والمتانة فِي السَّرْدِ أى: نسج الدروع المحكمة، بمعنى أن تكون حلقها متوالية غير مختلفة أَسَلْنا: جعلناها سائلة عَيْنَ الْقِطْرِ: هو النحاس المذاب يَزِغْ مِنْهُمْ زاغ عن الأمر: ابتعد وعدل عنه مَحارِيبَ جمع: محراب، وهو البناء المرتفع، ومنه محراب الصلاة، لأنه يرفع ويعظم وَتَماثِيلَ: جمع تمثال وهو كل شيء مثلته بشيء، أى: صورته بصورته سواء كان حيوانا أو غيره وَجِفانٍ: جمع جفنة، وهي القصعة الكبيرة، والمراد إناء للأكل كبير كَالْجَوابِ: جمع جابية: وهي الحفرة الكبيرة يجيء إليها الماء، أى: يجتمع فيها الماء راسِياتٍ المراد أنها ثابتات لا تتحرك لعظمها دَابَّةُ الْأَرْضِ: وهي دويبة تأكل الخشب يقال لها الأرضة مِنْسَأَتَهُ أى: عصاه خَرَّ: سقط. المعنى: كان داود في عصر حروب ونزاع بينه وبين الملك المعاصر حتى أتيحت له الفرصة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 130 فقتل داود جالوت، وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء، وخاصة ما يتعلق بالحروب كعمل الدروع السابغات وغير ذلك. ولقد آتينا داود منا فضلا كبيرا يظهر في نواح كثيرة أظهرها أنا قلنا: يا جبال أوبى معه وسبحي إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ [سورة ص 18، 19] . وهذا أمر يدل على عظم شأن داود وكبرياء سلطانه حيث جعل الله الجبال عقلاء منقادين لأمره في نفاذ مشيئته، تسبيح إذا سبح، وتكبر إذا كبر، ولقد سخرنا لداود الطير، وألنا له الحديد، ولا شك أن إلانة الحديد بدون نار معجزة لداود، وهي مناسبة لحاله، وهو في أشد الحاجة لها هو وقومه، وأمرناه: أن اعمل دروعا سابغات كاملات تحفظك من بطش العدو، وتقيك إذا اشتد الحرب وحمى الوطيس. وقدر في نسجها تقديرا حسنا يجمع بين خفتها ومتانتها، وأن تكون متتابعة متلاحقة، ولعل هذا هو السر في قوله: وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ إذ السرد يعطى معنى التتابع. واعملوا يا آل داود بعد هذا صالحا من الأعمال فإنه لا نجاح ولا فوز على العدو بالقوة المادية فقط، بل لا بد من العمل الصالح الذي يقوم النفوس ويطهر الأرواح، ويحصنها حتى لا تكبو، ومن المطلع على خفايا النفوس؟ إنه الله عالم الغيب والشهادة إنه بما تعملون بصير فاحذروه. وسخرنا لسليمان الريح تجرى رخاء حيث أصاب، ريح مسرعة مع الهدوء والسكون تقطع في الغداة ما يقطعه المسافر النشيط في شهر وتقطع في الرواح ما يقطعه المسافر في شهر، فغدوها شهر ورواحها شهر، والله على كل شيء قدير. وأسلنا لسليمان عين القطر، وأجرينا له عينا تخرج نحاسا مذابا بلا نار ولا فحم يستخدمه في أغراضه، وتكون معجزة له أمام بنى إسرائيل. ويظهر- والله أعلم- أن داود كافح وقاتل حتى خلص الملك من الأعداء فمدته كانت مدة حرب وجلاد، ولذلك كان مشغولا بعمل الدروع السوابغ، وفي أيام سليمان كان الهدوء مخيما على المملكة فكان سليمان ينتقل على بساطه الذي يحمله الريح الجزء: 3 ¦ الصفحة: 131 ليشرف على أطراف المملكة الواسعة الأرجاء، والشعب كان مشغولا بالبناء والصناعة وتأسيس الدور والمعابد، ولذلك من الله عليه بإذابة النحاس له، وتسخير الجن يعملون له ما يشاء من محاريب، وتماثيل، وقصاع كالجوابى، وقدور واسعة ثقيلة لا تنقل بل هي راسيات كالجبال. وكانت الجن تعمل بين يديه ما يريده بإذن ربه، وهي مهددة فمن يزغ منهم عن أمر الله: يملّ عنه يذقه عذابا شديدا من عذاب السعير. فيا آل داود: هذه بعض نعم الله عليكم، وهي نعم سابغة كثيرة، ومن أعطى هذا فليعمل لله شكرا، وقليل من عباده الشكور، نعم قليل ما هم، فقليل من تصفو نفسه ويطهر قلبه، ويقابل الإحسان بالشكر والنعمة بالحمد «إن الإنسان لربه لكنود» . وخذوا أيها الناس العبرة من داود وسليمان، عبدا ربهما وشكرا وأخلصا فمن الله عليهما بالنعم التي لا تحصى، وأجرى على أيديهما المعجزات. فلما قضينا على سليمان بالموت، وحكمنا عليه به، ما دل الجن التي كانت تعمل مسخرة تحت أمره على موته إلا دويبة صغيرة كانت تأكل من عصاه فسقط على الأرض بعد موته بسنة- كما ورد-. فلما سقط تبينت الجن أمر موته، وتبين لهم وللناس أنهم لا يعلمون الغيب ولو أنهم يعلمونه لعلموا بموته ولما لبثوا في العذاب المهين الذي هم فيه، وهو عذاب التسخير، ومن هنا يمكننا أن نتبصر فيما يقال عن الجن وعلمهم الغيب حتى لا نكون فريسة لأوهام المضللين الفسقة. فاعتبروا يا أولى الأبصار بتلك القصص فإنها عبرة وعظة. قصة سبأ وسيل العرم [سورة سبإ (34) : الآيات 15 الى 21] لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 132 المفردات: لِسَبَإٍ: قبيلة من قبائل العرب العاربة كانت تسكن بلاد اليمن، وتعتبر أصلا تفرع منها عدة فروع في الجزيرة سَيْلَ الْعَرِمِ: جمع عرمة وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره كالسد ذَواتَيْ مثنى ذات أُكُلٍ بمعنى: مأكول خَمْطٍ: مر بشع، وقيل: كل شجر له شوك وليس له ثمر وَأَثْلٍ: نبات ينتفع بخشبه وليس له ثمر وسِدْرٍ: نوع من الشجر، قيل: له ثمر يؤكل وهو النبق، وقيل: لا ثمر له. ومنه الضار، وهو المراد هنا وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ: فرقناهم في البلاد الغريبة (سلطان) : من حجة في اتباعه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 133 لما بين الله حال المؤمنين الأوابين بذكر قصة داود وسليمان بين هنا حال الكفار الضالين الذين قابلوا النعم بالعصيان، فكان جزاؤهم الحرمان. المعنى: لقد كان لسبأ في مساكنهم باليمن آية وعلامة على قدرة الله التي تحيى الأرض بعد موتها، والتي تخرج من الحبة شجرة يانعة الثمار ذات قطوف دانية، وهذه الآية جنتان عن يمين بلدهم وشماله، وليس المراد بستانين فقط، بل المراد نوعان من البساتين: نوع عن اليمين وآخر على الشمال، وبعض العلماء يفسر الآية في قوله: (آية جنتان) بأنها قصة السبئيين وأنهم قوم أنعم الله عليهم بالنعم ثم أعرضوا فأرسل الله عليهم ما أهلكهم وبدد شملهم، وفي هذا عبرة وعظة فهل من مدكر؟! والسبئيون قوم سكنوا بلاد اليمن وأسسوا مدنا عظيمة ذات حصون وقلاع وقصور شامخة، وقد أنعم الله عليهم بالخصب والمطر، وقد هداهم تفكيرهم إلى إقامة سد عال بين جبلين حجزوا به الماء في الوادي، وصرفوه بحكمة وهندسة، فأخصبت أراضيهم، وزرعوا الزروع، وأنشأوا الحدائق الفيحاء ذات الثمار الكثيرة، روى أنه كانت المرأة منهم تسير وسط الحدائق حاملة مكتلها- المقطف المصنوع من الخوص- فوق رأسها فلا تمضى في السير مدة حتى يمتلئ المكتل من الثمار المتساقطة من الشجر. اتسعت لديهم النعمة، وفاض عندهم الخير، فأكلوا من رزق ربهم، وتمتعوا بنعمه، وقيل لهم على ألسنة الرسل: اشكروا ربكم الذي أنعم عليكم!! وهذه الرقعة من الأرض- بلا شك- بلدة طيبة الثمار والهواء، كثيرة الخيرات والبركات، والمنعم بها عليكم رب غفور ستار يستر الذنوب، ويعفو عن السيئات. فكان أهل سبأ خلقاء أن يشكروا الله على نعمه، وأن يحمدوه على ما أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف، ورزقهم من الطيبات، ولكنهم لم يسيروا في الطريق المستقيم بل كذبوا وأعرضوا، وغرتهم الدنيا بزخارفها وغرهم بالله الغرور، كذبوا رسلهم وأعرضوا عن نصائحهم، فأراد ربك أن يذيقهم وبال أمرهم، وأن يريهم عاقبة كفرهم ليكونوا عبرة لغيرهم، وآية ناطقة لمن تحدثه نفسه أن يفعل فعلتهم ويسلك مسلكهم، فأرسل عليهم سيل العرم فتهدم السد، وتقوض البناء الذي كان يحجز المياه لهم لوقت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 134 الحاجة، ولم يستطيعوا أن يحجزوا السيول المتدفقة بل ضاعت سدى في وقت الفيضان في جوف الصحراء بعد أن هدمت مساكنهم وعاد الوادي قطعة من الصحراء الجرداء لا نبات به سوى أشجار لا تثمر إلا كل مر بشع، وأثل لا غناء فيه ولا نفع، ولم يبق إلا شيء من سدر قليل، فقد بدل الله أفراحهم أتراحا ونعيمهم بؤسا وسرورهم حزنا، وهربت العصافير والبلابل، وخلفتها البوم والغربان تصحيح فوق الخرائب والقصور المتهدمة. أما الأهلون الذين كانوا يرفلون في ثوب النعيم والاستقرار فقد نزحوا عن الديار، وتفرقوا في البلاد حتى ضرب بهم المثل فقالوا: (تفرقوا أيدى سبأ) . ذلك- أى: التبديل والانتقال من حال النعيم إلى البؤس- جزاء بما كانوا يعملون، فقد أعرضوا وكذبوا وكفروا بالله ورسله، فكان هذا، وهل نجازي إلا الكفور؟. فاعتبروا يا أهل مكة بهؤلاء!! وبعد أن كانوا آمنين مطمئنين ينتقلون بين قراهم ومدنهم المتجاورة الآمنة بلا مشقة ولا خوف للرحلة والنزهة والتجارة القريبة، فكانوا يسيرون فيها ليالي ذوات العدد، وأياما قليلة في أمان وهدوء، تعير الحال وتبدل، وقالوا كفرا وبطرا: ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم، فحق عليهم العذاب، وتمت كلمة ربك فيهم، وجعلناهم أحاديث للناس يضرب بهم المثل، ومزقناهم كل ممزق، وفرقناهم في صحراء العرب، فكان منهم الغساسنة في الشام، وقبائل أنمار في يثرب، وجذام في تهامة والأزد في عمان. إن في ذلك لآيات لكل صبار كثير الصبر على النعمة وغرورها، شكور لله على ما تفضل، فكثير من الناس أبطرتهم النعمة، وأضلهم المال وغرهم بالله الغرور، فاعتبروا يا أهل مكة، ولا يغرنكم بالله الغرور!! ولقد صدق عليهم إبليس ظنّا ظنه فيهم، فإنه قال: لأغوينهم جميعا، وقال لما طرد: لأحتنكن ذريته، أى: آدم إلا قليلا، فصدق ظنه فيهم، واتبعوه في إغوائه إلا فريقا منهم هم المؤمنون إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «1» . وما كان لإبليس عليهم من سلطان وحجة تتسلط عليهم، لكن كان ذلك لنعلم علم   (1) - سورة الحجر آية 42. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 135 مشاهدة من يؤمن بالآخرة حقّا ممن هو في شك منها، وربك على كل شيء حفيظ، وقد قطع الله عليهم وعلى أمثالهم حجتهم في أن يقولوا: وماذا نعمل، وقد أغوانا الشيطان وأضلنا؟ لا. ما جعل الله لإبليس عليكم سلطانا فالعيب عيبكم، وقد حذر كم ربكم مرارا فلم ترجعوا عن غوايتكم.. مناقشة المشركين في اتخاذهم من دون الله آلهة شفعاء لهم [سورة سبإ (34) : الآيات 22 الى 30] قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ماذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27) وَما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ (30) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 136 المفردات: مِثْقالَ ذَرَّةٍ: وزن ذرة ظَهِيرٍ: معين فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ: من التفزيع، وهو إزالة الفزع والخوف عن قلوبهم أَجْرَمْنا: أذنبنا، من الجرم وهو الذنب يَفْتَحُ: يحكم، والفتاح: الحاكم لأنه يفتح طريق الحق ويظهره كَلَّا: كلمة ردع لهم كَافَّةً أى: مانعا لهم، من الكف وهو المنع، أو جامعا لهم، مأخوذة من الكف بمعنى الجمع، والتاء للمبالغة، والمراد: جامعا للناس في الإبلاغ. وهذا رجوع إلى خطاب الكفار والمشركين الذي مضى أول السورة بعد ذكر طرف من قصة داود وسليمان، وما أنعم الله به عليهما، وذكر قصة قوم سبأ، وفي هذا من آيات القدرة ما فيه، ومن دلائل تفرد الله بالوحدانية ما هو غنى عن البيان.. وهو خطاب توبيخ وتأنيب لهم، وخاصة بعد ما تقدم! المعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين الضالين سواء السبيل: ادعوا الذين عبدتموهم من دون الله من الأصنام والملائكة، وسميتموهم آلهة، وزعمتم أنهم يستحقون أن يكونوا شركاء لله الواحد القهار، ادعوهم في السراء والضراء كما تدعون الله، والجأوا إليهم في الشدائد كما تلجأون إلى الله، وانظروا استجابتهم لدعائكم كما تنتظرون من الله الإجابة والرحمة. ولقد أجاب الحق- تبارك وتعالى- عنهم بإجابة هي المتعينة وحدها- ولا يجيب منصف إلا بها- فقال ما معناه: إنهم لا يملكون شيئا أبدا، ولا يملكون وزن ذرة من خير أو شر في جميع جهات السموات والأرض، وما لهم في السموات كلها وفي الأرض جميعا من شركة في الخلق أو في الملك ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً [سورة الكهف آية 51] . قل لهم: لا تسألون يوم القيامة عن أعمالنا وذنوبنا، ونحن لا نسأل عما تعملون، قل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 137 وليس لله منهم من ظهير ومعين، وكيف يكون غير ذلك؟! فبطل بهذا اتخاذهم الأصنام آلهة من دون الله حيث لا تملك نفعا ولا ضررا بل إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب. وكانوا يقولون: نحن نتخذهم شفعاء لله يوم القيامة. فيرد الله عليهم أبلغ رد وأكده بقوله: ولا تنفع الشفاعة عنده يوم القيامة إلا لمن أذن له فيها، وهذا تكذيب بلا شك لقولهم: «هؤلاء شفعاؤنا عند الله» . وهل الإذن في الشفاعة يكون من السهولة واليسر كما يظن؟ لا بل هناك موقف شديد، وأمره عسير، يحول بين الإنسان ولسانه بل يجعله في غمرة من الخوف والفزع رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ، لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً «1» . كان الناس يتربصون ويتوقعون مدة من الزمن فزعين وخائفين حتى إذا فزع عن قلوبهم، وكشف عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بكلمة يكلمها الرب جل شأنه- إذا حصل هذا- تباشروا بذلك وسرى عنهم وقالوا: قال القول الحق وهو الإذن بالشفاعة لمن يشاء ويرضى، وهو الحق- تبارك وتعالى- صاحب العلو والكبرياء ليس لملك ولا لنبي أن يتكلم في ذلك اليوم إلا بإذنه وأن يشفع إلا لمن ارتضى. فانظروا يا آل مكة أين أنتم من هذا؟ وأين أصنامكم في هذا الوقت العصيب؟! عجبا لكم أيها المشركون! وأى عجب؟! تدعون من دون الله آلهة لا تنفع ولا تضر أى: قصدا، وإلا فإنها تضر قطعا، قل لهم يا رسول الله: من الذي يرزقكم من السموات والأرض؟! أمره بالإجابة عن هذا السؤال لأن هذه الإجابة هي المتعينة، ولأنهم لو أزيل عنهم كابوس الشرك، وغطاء العناد والكفر وخلّيت قلوبهم وحدها لقالوا: هو الله الرزاق ذو القوة المتين قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ؟ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ؟ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ؟!. [سورة يونس آية 31] . وانظر إلى أدب الخطاب، واستدراج الخصم لعله ينظر في حاله وحال من يجادله   (1) - سورة النبأ الآيتان 37، 38. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 138 وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ بعد ما ساق من الآيات التي تدل على صدق قوله وفساد قول خصمه. قل لهم: لا تسألون يوم القيامة عن أعمالنا وذنوبنا، ونحن لا نسأل عما تعملون، قل لهم: سوف يجمع الله بيننا بالحق ثم يحكم بيننا بالعدل، وهو الحكيم العليم بأمور خلقه، فسيعطيهم جزاءهم وافيا إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. عجبا لكم! قل لهم يا محمد: أرونى الذين ألحقتموهم بالله شركاء، وجعلتموهم لله أندادا، أرونى أين هم؟ وفي هذا توجيه لهم ولفت لأنظارهم لعلهم ينظرون إلى الحق فيتبعوه! كلا وألف كلا! وبعدا لرأيهم المجافى للحق والعدل! فليس الأمر كما زعمتم بل هو الله وحده، لا إله إلا هو العزيز لا يغلبه غالب، ولا يعجزه أحد في أرضه وسمائه، فهو الحكيم في كل أعماله، العليم بكل خلقه، سبحانه وتعالى عما يشركون، وأما أنت يا محمد فما أرسلناك إلا كافة للناس تمنعهم من الكفر والفسوق والعصيان، وتدعوهم جميعا إلى الإسلام، ولا عليك شيء بعد هذا أبدا فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ [سورة الكهف آية 29] . ولكن أكثر الناس لا يعلمون هذا. ويقولون: متى هذا الوعد؟ إن كنتم أيها المسلمون صادقين في قولكم: إن الساعة آتية لا ريب فيها. قل لهم يا محمد: لكم ميعاد يوم معلوم عند الله، وأجل محدود بوقت معين، لا تستأخرون عنه ساعة، ولا تستقدمون لحظة، والأمر كله بيد الله. من مواقف المشركين [سورة سبإ (34) : الآيات 31 الى 33] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 139 المفردات: مَوْقُوفُونَ: محبوسون وممنوعون اسْتُضْعِفُوا: هم المستضعفون اسْتَكْبَرُوا: هم المستكبرون من الرؤساء والمقدمين مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ المكر: الاحتيال والخديعة، والمراد مكركم في الليل والنهار أَنْداداً: جمع ند وهو النظير والشبيه والمثل وَأَسَرُّوا النَّدامَةَ أى: أظهروها الْأَغْلالَ: جمع غل، وهو طوق من حديد يوضع في العنق فلا يفلت صاحبه. المعنى: روى أن المشركين سألوا أهل الكتاب عن صفة النبي عندهم، فقال أهل الكتاب: نعم إن صفته عندنا في كتبنا، فقال المشركون: لن نؤمن بهذا القرآن، ولن نؤمن بالذي بين يديه من الكتب السماوية كالتوراة والإنجيل، وكانوا قبل ذلك يرجعون إلى أهل الكتاب ويسمعون لقولهم في هذا. فانظر إلى اضطرابهم وتضارب آرائهم، وهذا موقف لهم في الدنيا. وفي الآخرة: لو ترى يا محمد هؤلاء الظالمين وقد وقفوا للحساب، ومنعوا من التحرك والانفلات، لو تراهم موقوفين عند ربهم يرجع بعضهم إلى بعض القول، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 140 ويناقش بعضهم بعضا في حالهم التي وصلوا إليها، لو تراهم والحالة هذه لرأيت أمرا عجبا. ولو تراهم إذ يقول الأتباع والمستضعفون للذين استكبروا وتعالوا عليهم من القادة والرؤساء: لولا أنتم أيها الرؤساء موجودون لكنا مؤمنين، فأنتم السبب في كفرنا وعليكم التبعة، وأنتم تستحقون مضاعفة العذاب. وبماذا رد الذين استكبروا؟ قالوا لهم: أنحن صددناكم عن الهدى ومنعناكم منه بعد إذ جاءكم؟ لا لم يحصل هذا أبدا. بل كنتم أنتم مجرمين ومرتكبين الإثم والكفر باختياركم وميلكم، ليس لنا دخل في صدكم وكفركم بالله، وقال الذين استضعفوا للذين استكبروا يردون عليهم مقالتهم: بل مكركم الدائم ليلا ونهارا هو الذي حملنا على الكفر وأمرنا به، نعم دعايتكم المسمومة وحيلتكم الفتاكة ووضعكم في موضع القيادة والتبع، كل هذا أثر فينا حتى كفرنا وأشركنا من حيث لا نعلم، فكان ما صنعتموه معنا أشبه شيء بالمكر والحيلة حتى وصلنا إليه. وأظهروا جميعا- التابعون والمتبوعون- الندامة لما رأوا العذاب محضرا، وجعلنا الأغلال في أعناقهم فلا يفلتون من عذاب ربك أبدا، وهل هذا إلا جزاء أعمالهم في الدنيا؟ نعم وهل يجزون إلا ما كانوا يعملون؟ تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة سبإ (34) : الآيات 34 الى 39] وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 141 المفردات: مُتْرَفُوها: أغنياؤها وقادتها يَبْسُطُ الرِّزْقَ: يوسعه زُلْفى وزلفى كقربى في الوزن والمعنى جَزاءُ الضِّعْفِ أى: الجزاء المضاعف مُعاجِزِينَ: مغالبين وَيَقْدِرُ لَهُ يقدر: يضيق يُخْلِفُهُ: يجعل له خلفا.. وهذه تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ببيان أن أخلاق الكفار وأعمالهم واحدة في كل زمان ومكان حتى لا يتألم الرسول، وبهذا نعرف لكفار مكة موقفا آخر. المعنى: وما أرسلنا قبلك في قرية من نذير ورسول إلا قال مترفوها وأغنياؤها حسدا من عند أنفسهم وبغيا وغرورا كاذبا قالوا: إنا بما أرسلتم به أيها الرسل كافرون، إذ لو كان هذا الذي يدعيه الرسول حقّا لكنا أولى به منه لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ وقالوا كغيرهم: نحن أكثر أموالا وأولادا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَأَحْسَنُ نَدِيًّا وإذا كنا كذلك في الدنيا، وهذا الرزق من عند الله كما هو معلوم، فنحن أكرم على الله منكم إذ أنتم فقراء ضعفاء، وإذا كان الأمر كذلك فما نحن يوم القيامة بمعذبين أصلا إما لأنه لا بعث ولا جزاء، أو إن كان هناك جزاء فنحن أصحاب الجزاء الحسن لأن الله أعطانا لكرامتنا ومكانتنا عنده. عجبا لهؤلاء! ليس الرزق في الدنيا لكرامة صاحبه على الله، ولكن الله يبسط الرزق لمن يشاء، ويقتر الرزق على من يشاء تبعا لحكمة هو يعلمها بقطع النظر عن عمل الصالحين والفاسقين، أما جزاء العمل الصالح والعمل الفاسد فهو يوم القيامة فقط، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 142 يعطى العاصي والكافر استدراجا، ويمنع الطائع ابتلاء واختبارا لتكثر حسناته ويعظم عند الله أجره. ولكن أكثر الناس لا يعلمون، فهم يزعمون أن مدار البسط هو الشرف والكرامة ومدار التضييق هو الهوان والذل، وما علموا أن البسط قد يكون استدراجا، والتقتير قد يكون للابتلاء ورفع الدرجات. وما أموالكم بالتي تقربكم عند الله زلفى وقربى، ولا أولادكم كذلك، فما الأموال ولا الأولاد تقرب أحدا إلى الله، لكن المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل الله، ويعلم أولاده الخير، ويربيهم على الإسلام وينشئهم تنشئة إسلامية مدارها على حب الله والوطن وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، فأولئك لهم الجزاء المضاعف إلى عشر أو إلى سبعمائة بما عملوا، وهم في غرفات الجنة هم آمنون، ولا خوف عليهم، ولا هم يحزنون. والذين يسعون جاهدين ومنفقين النفس والنفيس في إبطال آياتنا معاجزين لله على حسب ظنهم القاصر وإدراكهم العاجز أولئك هم في العذاب محضرون، وفي نار جهنم مخلدون! جزاء بما كانوا يعملون. قل لكفار مكة الذين كانوا يفاخرون ويباهون بكثرة الأموال والأولاد: إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقتر عليه، وقد كرر هذه العبارة للتأكيد، وقيل: بينهما مخالفة فالأولى لشخصين أحدهما وسع عليه والثاني قتر عليه، وأما هنا فلشخص واحد في وقتين بدليل ذكر الضمير الذي يعود على (من) في قوله: «له» وهذا مما يؤكد أن التوسيع والتقتير ليس لكرامة ولا لهوان، فإنه لو كان كذلك لم يتصف بهما شخص واحد، وليس المقصود من الأموال التباهي بها، والاعتماد عليها، وإنما الواجب أن يستغلها صاحبها في الإنفاق، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ليس لك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، أو تصدّقت فأبقيت» . فاعلموا أيها الناس أن ما أنفقتم من شيء في سبيل الله، وسبيل الله هنا موسعة فالنفقة الواجبة من صدقة أو زكاة، والنفقة المندوبة على الأهل والأولاد كلها هنا في سبيل الله، ما أنفقتم من شيء في هذا فالله يخلفه، وهو خير الرازقين. والمراد بقوله: «يخلفه» يعطيه بدله وخلفه، وذلك البدل إما في الدنيا وإما في الآخرة، وعن أبى هريرة قال: قال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 143 رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلّا وملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهمّ أعط منفقا خلفا ويقول الآخر: اللهمّ أعط ممسكا تلفا» . وعن أبى هريرة أيضا عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «إنّ الله قال لي: أنفق أنفق عليك» وهذا إشارة إلى إعطاء البدل في الدنيا إما بالمال أو بالقناعة والرضا، وهما كنزان، أو في الآخرة وهو الثواب الجزيل، وذلك كله إذا كانت النفقة في طاعة الله، وعلم من هذا أن الخلف قد لا يكون في الدنيا. بعض مواقف الكفار في الدنيا والآخرة [سورة سبإ (34) : الآيات 40 الى 54] وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَقالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45) قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50) وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَقالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 144 المفردات: يَصُدَّكُمْ: يمنعكم إِفْكٌ: كذب مُفْتَرىً: مختلق لا أساس له يَدْرُسُونَها: يقرءونها مِعْشارَ المعشار والعشر سواء، وقيل: المعشار: عشر العشر، أى: واحد في المائة، وقيل: هو عشر العشير، والعشير العشر، أى: واحد في الألف نَكِيرِ المراد: فكيف كان عقابي وعذابي مَثْنى وَفُرادى المراد: وحدانا وجماعات مِنْ جِنَّةٍ: من جنون يَقْذِفُ بِالْحَقِّ المراد: يبين الحجة ويرمى بها الباطل فَزِعُوا الفزع: الخوف والاضطراب فَلا فَوْتَ أى: فلا هروب ولا نجاة التَّناوُشُ أصل التناوش: التناول بسهولة ويسر وَيَقْذِفُونَ: يرمون بِأَشْياعِهِمْ جمع (شيع) الذي هو جمع شيعة، وهي الجماعة المتشيعة لمذهب أو لرجل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 145 المعنى: وتلك مواقف من مواقف المشركين في الدنيا والآخرة، ولا غرابة إذا طال نقاش القرآن لهم فيها، وعرض أمورهم عرضا واضحا مكشوفا مع الرد عليهم في كل جزئية، إذ السورة مكية والمقام يقتضى ذلك لعلهم يثوبون إلى رشدهم، ويرجعون عن غيّهم. واذكر يوم يحشرون جميعا، ويجمعون للحساب جميعا، ويا هول ذلك الموقف الشديد موقف الزحام والحساب العسير. ثم يقول ربك للملائكة في هذا الاجتماع وعلى رءوس الأشهاد: أهؤلاء- الإشارة للكفار- إياكم كانوا يعبدون؟! أهؤلاء الكفار كانوا يخضعون لكم بالعبادة والتقديس وأنتم خلق من خلق الله؟! فتقول الملائكة: سبحانك يا رب وتنزيها لك بعد تنزيه، أنت ولينا ومتولى أمورنا وأمور غيرنا من خلقك، يا رب أنت الذي نواليك ونتقرب منك بالعبادة ونواصلك ونرجوك، وليس بيننا وبينهم موالاة من جهتنا، وهذا معنى قوله: «من دونهم» ثم بينوا السبب الحامل لهم على عبادتهم فقالوا: بل كانوا يعبدون الجن، أى: فليس لنا دخل، وإنما السبب هو الجن حيث أطاعوهم في عبادة غير الله، وقيل: إن حيّا من خزاعة كانوا يعبدون الجن ويزعمون أنهم من الملائكة، وأنهم من بنات الله وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً. فالاستفهام في قوله للملائكة: أَهؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ؟ للتفريغ وتوبيخ الكفار على عبادتهم غير الله، وهو جار على نظام المثل القائل: «إياك أعنى واسمعي يا جارة» وهدا يشبه قول الله للمسيح: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ؟ [سورة المائدة آية 116] ، فاليوم لا يملك بعضهم لبعض نفعا كشفاعة ونجاة، ولا ضرا كعذاب أو هلاك بل الأمر يومئذ لله، وإليه وحده ترجع الأمور، ويقال حينئذ توبيخا وتأنيبا للكفار: ذوقوا عذاب النار التي كنتم بها تكذبون. ذلك موقف لهم شديد من مواقف يوم القيامة، وما أطوله عليهم! وهذا موقف آخر في الدنيا سيق بيانا لسبب هذا العذاب الشديد: هؤلاء الكفار والمشركون إذا تتلى عليهم آياتنا بينات واضحات كالشمس أو أشد قالوا: ما هذا الذي يتلو عليكم الآيات إلا رجل- كأنه غير معروف- يريد لأمر في نفسه أن يصدكم عن عبادة آبائكم وأسلافكم الآلهة التي كانوا يعبدونها، فهذا رجل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 146 ) يسفه أحلام أسلافكم، ويعيب آلهتكم.. وقالوا في شأن القرآن الذي يتلى: ما هذا إلا كذب واختلاق وزور وبهتان: ولما رأوا أثره في النفوس وفعله في القلوب قالوا: ما هذا إلا سحر مبين فهم يتخبطون ولا يدرون ماذا يقولون؟ فتارة قالوا: إنه سحر، وتارة قالوا إفك وكذب. وهذا شأن المتخبط المتحير الذي أغشى عينه قوة النور، وبهر نفسه بريق الحق فهو لا يدرى ماذا يقول؟! يا عجبا لهؤلاء! كيف توصلوا إلى ذلك الحكم على النبي صلّى الله عليه وسلّم؟! هل في سيرته أو في دعوته أو في شخصه ما يدعو إلى ذلك؟ معاذ الله إنه الصادق المصدوق، الأمين العفيف عن الدنيا وأعراضها الزائلة! الذي أتى بالهدى والرحمة للناس جميعا وما سندهم في هذا الحكم؟ أعندهم كتاب يقرءون فيه ذلك؟! أو أرسل إليهم قبلك يا محمد رسول بلغهم ذلك؟ لا.. لا لم يكن عندهم كتاب ينطق بتكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم ولم يرسل قبلهم رسول يكذبه، ولم يكن عندهم في الخارج أى دليل على صدق قولهم بأنه ساحر أو كذاب أو به جنون؟! ولكنهم كذبوا لا عن دليل، وأعرضوا مع وجود ألف دليل ودليل على صدق الرسول، ولا غرابة فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم السابقة، وما بلغ أهل مكة معشار ما آتينا تلك الأمم من قوة وسلطان، أو علم وحجة وبرهان. فكذبت الأمم رسلي فكانت العقوبة الصارمة. والجزاء العاجل والهلاك المهلك فكيف كان عقابي؟ وفي هذا تهديد لهم شديد. ثم رجع القرآن بعد هذا يستدرجهم. ويعرض عليهم الدين ويطالبهم أن يحكموا عقولهم، وينظروا ببصائرهم لعلهم يرشدون فقال: قل لهم يا محمد: إنما أعظكم وأذكركم، وأحذركم سوء عاقبتكم، أعظكم بواحدة، أى: بخصلة واحدة فقط هي أن تقوموا لله وحدانا ومجتمعين منفردين بالرأى أو متشاورين. ومعنى القيام هنا هو طلب الحق لوجه الحق، وما أقوى هذا التصوير وما أبلغه؟! إنه لتصوير رب العالمين بلا شك. تقومون تاركين القعود والكسل. والخمول والتقليد، تاركين موت النفس ونوم العقل متسلحين بيقظة الضمير ونشاط العقول، ناظرين متفكرين في هذه الرسالة وصاحبها، مجردين أنفسكم من كل ما يعوق البحث الحر، والفكر السليم الخالي من الهوى والغرض. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 147 ثم تتفكروا ما بصاحبكم؟! هل جربتم عليه كذبا؟ لا: إنه الصادق، هل جربتم عليه خيانة؟ .. لا. إنه الأمين، هل رأيتم فيه ميلا إلى الدنيا حتى يقال إنه يطلب المال أو الملك؟ لا: إنه العفيف عن الدنيا وأهلها، هل رأيتم عليه فسادا أو تحللا أو نشوزا أو سوء خلق؟ لا: بل هو الرجل الحكيم المتزن في كل أفعاله، تفكروا في رسالته هل يدعوكم إلى فسق أو فجور أو يدعوكم إلى حق ونور وعلم وعرفان؟ هل يدعوكم إلى أسر التقليد، وحمى الجاهلية وسوء العمل أو يدعوكم إلى الحرية المنظمة وإلى الحضارة المقدسة وإلى العلم النافع، وإلى تكوين المجتمع الصالح، وخلق الفرد الكامل الذي يسعى لخير الدنيا والآخرة؟! نعم إنه يدعو إلى بناء الفرد والمجتمع والدولة، ويحارب الرذيلة، والاستبداد ويمنع جور الحكام وظلم الأقوياء والأغنياء، إنه يدعو إلى نصرة الفقير، وإعانة المظلوم، وإغاثة الملهوف، إنه نذير بين يدي عذاب شديد. إنه يدعو إلى كل خير، ويحرم كل شر فتفكروا بصائركم عسى أن يهديكم ربكم إلى الحق ونوره. قل يا محمد لهم: لست رجلا طالبا للدنيا وعرضها، ولست أبغى من دعوتي أجرا ولا مالا ولا جاها ولا سلطانا، إن أجرى إلا على الله، وهو على كل شيء شهيد. قل لهم تطمينا لقلوب المؤمنين أتباعك، وتثبيتا لهم على دعوتك، وتهديدا للمخالفين: إن ربي يقذف بالحق ليدمغ الباطل، وهو علام الغيوب، ولله ما أقوى هذا التعبير جعل الحق كالقنبلة التي تقذف من حكيم عليم بارع يعلم خفايا مهنته أتراها لا تصيب الهدف؟ فصبرا أيها المسلمون ثم صبرا، قل: جاء الحق، وزهق الباطل، وما يبدئ الباطل وما يعيد؟ إنه لا ثبات له ولا قرار، فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. قل لهم يا محمد: إنه ضللت فإنما أضل على نفسي لأنها هي التي أمرتنى بالسوء، وإن اهتديت فبسبب ما يوحى إلى من ربي إنه سميع قريب. ومن هنا نعلم أن طريق الضلال هو النفس الأمارة بالسوء، وما يحيط بها من مجتمع فاسد موبوء، وأن الهداية والخير، والنور والفلاح من طريق الوحى والقرآن.. ألم يأن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 148 للذين آمنوا وادعوا أنهم من أتباع الرسول ومن أمة القرآن؟ ألم يأن لهم أن تخشع قلوبهم لنور الحق، وأن تخضع نفوسهم لحكم القرآن؟ ألم يأن لهم أن يرفعوا رءوسهم عالية مجاهدين طالبين مستميتين في طلب الحكم بالقرآن، والسير في ركاب الرحمن، وترك الهوى والشيطان؟!! ألم يأن للشعوب الإسلامية أن ترجع إلى دينها، وتثوب إلى رشدها؟! فلا هداية ولا سعادة إلا في ظل الدستور القرآنى، ومن يتبع غير حكم الله فأولئك هم الضالون أَفَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ! وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة 50] . نحن لا نطالب بحكم القرآن إلا لخير المسلمين وقطع دابر الفتن وعبث العابثين مؤتسين بقول الحق على لسان الرسول صلّى الله عليه وسلّم: قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ. وهناك موقف آخر: ولو ترى يا أيها النبي- أو من يتأتى منه الرؤية- إذ فزعوا وخافوا واضطربوا يوم لقاء الله لرأيت أمرا عظيما، وشاهدت أحوالا هائلة يستريح لها قلب من عضه الألم، وحز في نفسه الحزن من أفعالهم. لو تراهم إذ فزعوا فلا فوت ولا نجاة، وكيف النجاة وهم بين يدي القوى القادر؟ وقد أخذوا من مكان قريب فهم لم يرموا عن بعد بل أخذوا عن قرب فكيف يفلتون؟ وعند ذلك يقولون: آمنا بالقرآن والنبي، فهل ينفع الذين ظلموا إيمانهم في هذا الوقت؟ كلا! وأنى لهم التناوش من مكان بعيد؟ تمنوا أن ينفعهم إيمانهم في هذه الظروف كما ينفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا، وأنى لهم ذلك؟. وهل يسوى بين من يتناول الشيء من مكان بعيد جدّا بيده كمن يتناوله تناولا سهلا من مكان قريب وبلا حاجز، وكيف يستويان؟ وهم قد كفروا بالقرآن والنبي من قبل ويقذفون بالغيب من مكان بعيد كقولهم في النبي: إنه ساحر، وشاعر، وكذاب، وهذا تكلم بالغيب ورجم به من جهة بعيدة جدا عن الحقيقة لأن ما جاء به أبعد شيء عن السحر والشعر والكذب، فهم أشبه ما يكون بمن يقذف الغرض من جهة بعيدة جدا، وهو غائب عنه غير مشاهد له، فهل يصيبه؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 149 وحيل بينهم وبين ما يشتهون من الرجوع إلى الدنيا والفرار من العذاب والخلوص من الموقف كما يفعل بأشباههم ونظرائهم من الأمم السابقة، ولا تعجب من هذا لأنهم كانوا في شك من البعث، ومبدأ الثواب والعقاب كانوا في شك منه مريب!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 150 سورة فاطر أو سورة الملائكة مكية عند الجميع، وآياتها خمس وأربعون آية، نزلت بعد الفرقان. ويدور الكلام فيها حول العقيدة السليمة من وصف لله بما يستحق، ومن خطاب الرسول بما يثبت قلبه. ومن لفت أنظار الناس إلى الكون وما فيه من آيات تدل على قدرة الله على البعث، وفي خلال ذلك هدد المشركين وتوعدوهم. [سورة فاطر (35) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2) يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) المفردات: فاطِرِ أصل الفطر: الشق، وقد شق العدم بإخراج السماء والأرض منه، والمراد خلقهما ابتداء أُولِي أَجْنِحَةٍ: أصحاب أجنحة مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ والمراد اثنين اثنين، فعدل عن هذا التركيب إلى قوله: مثنى، وكذا ثلاث ورباع، وهذا أسلوب معروف في اللغة العربية ما يَفْتَحِ المراد: ما يرسل من رحمة تُؤْفَكُونَ هذا اللفظ إن أخذ من الأفك بمعنى الصرف كان معناه: كيف تصرفون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 151 عن الإيمان إلى الكفر، وإن قلنا: إنه مأخوذ من الإفك بمعنى الكذب كان المعنى: من أين يقع لكم التكذيب بتوحيد الله. المعنى: الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، الحمد لله حمدا كما حمد به نفسه، تعظيما لها وتشريفا، وتعليما لعباده وتأديبا، فهو المستحق وحده الثناء الجميل، لأنه صاحب الفعل الجليل، تبارك اسمه وتعالى، سبحانه وتعالى، خالق السموات والأرض، ومبدعهما لا على مثال سابق، فهو صاحب الخلق الأول، ومن قدر على البدء فهو قادر بلا شك على الإعادة. وهو الذي جعل الملائكة أصحاب أجنحة مثنى وثلاث ورباع، والمراد كثرة الأجنحة التي لا يعلمها إلا الله، ليتصور الخلق بإدراكهم قوة الملائكة على الحركة، وقدرة الله التي لا تحد، يزيد في الخلق ما يشاء، ويزيد زيادة غير محدودة ولا معروفة، وكيف نعرفها، ونحن أجهل الخلق بأنفسنا بل بأمس الأشياء بنا، فكيف نعرف زيادة الله في خلقه؟ وفي كل يوم يكشف لنا العلم والواقع زيادات وزيادات لم تكن معروفة، وما نعرفه جزء من أجزاء كثيرة لا نعرفها، وسبحان علام الغيوب. ولا تعجبوا لأن الله على كل شيء قدير، وبخلقه بصير وخبير. ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها، الله أكبر، ولله الحمد!! نعم ما يرسل الله من نعمة في السماء أو في الأرض فلا ممسك لها موجود، ولا مانع لها معروف، إذ لا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه. وعلى هذا المبدأ يعيش المسلم في حياته سعيدا مطمئنا. ولعلك تسأل: ما الحكمة في التعبير بالفتح «ما يفتح» بدل ما يرسل؟ إذا كان المراد هو الإرسال بدليل قوله تعالى: وَما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ وقد أجاب عن ذلك الزمخشري وتبعه أبو السعود فقال: «عبر عن إرسالها بالفتح إيذانا بأنها أنفس الخزائن التي يتنافس فيها المتنافسون، وأعزها منالا، وتنكيرها للإشاعة والإبهام، أى: أى شيء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 152 يفتح الله من خزائن رحمته أيا كانت من نعمة أو صحة أو أمن أو علم أو حكمة إلى غير ذلك مما لا يحاط به» فلا ممسك لها. وأى شيء من نعمة يمسكه فلا مرسل له من بعده، وما أدق ختام الآية بقوله: وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ هو العزيز لا يغلبه غالب، ولا يعجزه شيء، الحكيم في كل فعله فيرسل لحكمة، ويمسك لحكمة، وهو العزيز الحكيم. يا أيها الناس اذكروا نعمة الله عليكم التي لا تعد ولا تحصى. اذكروها باللسان واذكروها بالقلب ذكرا مصحوبا بالشكر والثناء على صاحب النعم الرحمن الرحيم جل شأنه، هل هناك خالق يرزقكم غير الله؟! تعالى عما يشركون! هل في هذا الكون إله يرزقكم من السماء؟! معاذ الله، لا إله إلا هو، ولا معبود بحق في الوجود سواه. فكيف تصرفون عن الإيمان والتوحيد الخالص إلى الشرك وعبادة الأوثان التي لا تنفع ولا تضر؟! عجبا لكم وأى عجب؟! وإن يكذبوك يا محمد فتأس بمن تقدمك من الرسل أولى العزم فقد كذبوا ونالهم ما نالهم فصبروا على ما كذبوا به وأوذوا في سبيل الله، وإلى الله وحده ترجع الأمور فيجازى المكذبين والكفار، والمعتدين على الرسول بما كانوا يعملون، وهل يجازى إلا الكفور!! والله وحده هو الذي يتولى أموركم وأمور دينه، وإليه يرجع الأمر وحده، فسيجازيكم على صبركم وأعمالكم نعم الجزاء. وعظ وإرشاد مع إثبات مبدأ الثواب والجزاء [سورة فاطر (35) : الآيات 5 الى 10] يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8) وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 153 المفردات: تَغُرَّنَّكُمُ: تلهينكم الْغَرُورُ: الشيطان حِزْبَهُ: صحابه المتحزبين له المجتمعين حوله سُوءُ عَمَلِهِ المراد: عمله السيئ حَسَناً: صوابا فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ: فلا تتعاط أسباب ذهاب النفس، أى: هلاكها حَسَراتٍ: جمع حسرة وهي هم النفس على فوات أمر، بمعنى التلهف الشديد على الشيء الفائت فَتُثِيرُ سَحاباً فتزعجه وتحركه الْعِزَّةَ المراد: العز والجاه يَصْعَدُ صعود الكلم الطيب فيه تجوز والمراد قبول الله له، أو علمه به يَبُورُ: يهلك ويضيع. وهذا كالدليل على ما سبق بيانه إجمالا من إثبات البعث والثواب. المعنى: يا أيها الناس إن وعد الله بالبعث والثواب والعقاب حق لا شك فيه، فلا تغرنكم الحياة الدنيا بأعراضها الزائلة، وزخارفها الفانية، فالآخرة خير وأبقى، ولا تشغلنكم الدنيا بنعيمها ولذاتها عن العمل للآخرة حتى لا تكونوا في موقف الذي يقول: يا ليتني قدمت لحياتي!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 154 ولا يغرنكم بالله الغرور، فيقول لكم الشيطان وأتباعه: اعملوا ما شئتم فإن الله غفور، يغفر السيئات، ويعفو عن الخطيئات، أيها الناس لا تغرنكم الأمانى الكاذبة التي نسمعها من بعض الناس الذين يقولون: نحن أتباع النبي محمد فلن نصاب بسوء، تلك أمانيهم، وليس الإيمان والثواب عليه بالتمني الكاذب. إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا أخبرنا الله- عز وجل- بأن الشيطان يبدو لنا من قديم الأزل فهو الذي أخرج أبانا آدم من الجنة، وأوقعه في الزلة، وهو الذي أقسم على إغوائنا وإضلالنا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ [سورة النساء آية 119] لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ. ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ [سورة الأعراف آية 16] . وإنه لعجيب أن نتولاه ونطيعه فيما يأمر به ويريده، مع أن فيه هلاكنا! ولذا يقول الله: فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا في كل أعمالكم وأحوالكم الظاهرة والخفية، وناصبوه العداء في سركم وجهركم، واعلموا أن لوسوسة الشيطان علامة، ولإلهام الملك علامة، عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «للشّيطان لمّة وللملك لمّة- خطرة- تقع في القلب، فأمّا لمّة الشّيطان فإيعاد بالشّر وتكذيب بالحقّ وأمّا لمّة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحقّ.. الحديث» ، وهو مروى عن عبد الله بن مسعود. احذروا الشيطان، ولا تتبعوا خطواته فإنه إنما يدعو حزبه وأتباعه ليوردهم موارد الهلكة، وليوقعهم في حبائله التي تقذف بهم في نار جهنم يتلظون بسعيرها وما لكم لا تسرعون في البعد عن حزب الشيطان والدخول في حزب الرحمن والقرآن؟!. إن الذين كفروا واتبعوا الشيطان لهم عذاب شديد، والذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك حزب الله لهم مغفرة ورزق كريم، وأجر كبير، ولما ذكر الفريقين الكافر والمؤمن قال لنبيه: أفمن زين له عمله السّيئ فرآه عند نفسه حسنا وصوابا كمن لم يزين له السوء بل اهتدى واتبع الحق؟! وكأن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: لا. فقال الله: فإن الله يضل من يشاء ويهدى من يشاء على معنى هذا الذي عمل السوء حتى أظلم قلبه وفرغ من خشية الله حتى أصبح عنده القبيح حسنا والحسن قبيحا، هذا الصنف لا يعبأ به الله يخذله ويتركه، ومن تاب فالله يهديه ويوفقه ويساعده على ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 155 وإذا كان الله يعامل الذي يتبع الشيطان والهوى هكذا فعليه أيها الرسول ألا تهتم بأمرهم، وألا تعنى بشأنهم، وألا تحزن من أجلهم، وألا تتحسر عليهم حتى تذهب نفسك وتهلكها عليهم متحسرا على عدم إيمانهم وطاعتهم.. إن الله عليم بما يصنعون وسيجازيهم على ذلك كله يوم القيامة. وهاك دليلا حسيا على إمكان البعث وأنه تحت قدرة الله: والله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا وتحركه فيتحرك إلى حيث شاء الله، أى: فساقه الله إلى بلد ميت لا نبات به ولا زرع فأحيا الله به تكل الأرض حتى أصبحت ذات زرع وشجر بعد أن كانت قاعا صفصفا، لا ترى فيها عوجا ولا أمتا، أى: صحراء جرداء لا شيء فيها، مثل ذلك- أى: إحياء الأرض بالخضر بعد موتها- نشر الأموات وإحياؤها للبعث والثواب والعقاب. عن أبى رزين العقيلي قال: قلت: يا رسول الله: كيف يحيى الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: «أما مررت بوادي أهلك ممحلا ثمّ مررت به يهتزّ خضرا؟» قال: نعم يا رسول الله: قال: «فكذلك يحيى الله الموتى وتلك آيته في خلقه» . كان المشركون يعبدون الأصنام يطلبون بها العزة وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا [سورة مريم آية 81] . فبين الله أن العزة لله ولأوليائه، ومن كان يريد العزة فلله العزة جميعا، من كان يريد العزة والجاه فليطلبهما عند الله فإنهما لله وحده ولرسوله وللمؤمنين. العزة- أيها الناس- لله ولرسوله وللمؤمنين، وليست لمصر أو الشام أو غير هما؟ العزة لله يعز بها من يشاء ويذل بها من يشاء، فمن أراد عز الدارين فليطع الله العزيز الحكيم. ثم بين الله أن ما يطلب به العزة في الدنيا والآخرة هو الإيمان والعمل الصالح، إليه يصعد الكلم الطيب، وصعوده: قبوله وعلمه والمجازاة عليه: والكلم الطيب: كل كلام يتصف بأنه طيب كذكر الله والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وتعليم الخير والحث عليه، وتعليم النافع في الدنيا والآخرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 156 والعمل الصالح الله يرفعه ويثيب عليه. ويجازى صاحبه بالخير والحسنى والذين يمكرون المكرات السيئات، ويحتالون الحيل التي لا تخفى على علام الغيوب لهم عذاب شديد، ومكرهم بائر وهالك، ولا خير فيه، فإن الناقد بصير وخبير. الآيات الدالة على قدرة الله وإمكان البعث [سورة فاطر (35) : الآيات 11 الى 14] وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 157 المفردات: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أى: يزداد في عمره فُراتٌ: شديد العذوبة، يقال: فرت الماء فروتة: عذب أُجاجٌ: شديد الملوحة، يقال: أج الماء أجوجا: إذا اشتدت ملوحته حِلْيَةً: ما يتحلى به من سوار أو خاتم مَواخِرَ: تمخر الماء، أى: تشقه شقاّ في إقبالها وإدبارها قِطْمِيرٍ: هو لفافة النواة، أى: القشرة الرقيقة التي تكون على النواة. وهذا دليل آخر على قدرة الله وفضله ونعمه علينا، وهذا مما يجعل البعث أمرا ممكنا من صاحب هذه القدرة. المعنى: والله خلقكم يا بنى آدم من تراب خلق أباكم منه، ثم خلقكم أنتم من نطفة من ظهور آبائكم، ثم جعلكم أزواجا وأصنافا وأشكالا متباينة لا يكاد يتفق إنسان مع أخيه، أليس في هذا دليل قاطع على إمكان البعث؟ فإنهم كانوا يفهمون إحالته لبعد ما بين الحياة والموت، فبعد أن نكون ترابا كيف تعاد لنا الحياة؟ وبين التراب البارد المتفرق، والحياة وما فيها من حرارة وتجمع بون شاسع، ولذا يرد الله عليهم بأنه لا غرابة في ذلك، فقد خلق آدم- وهو إنسان حي- من تراب وبينهما بون شاسع: وخلقناه من نطفة، وهل بين الذرة من منى الرجل والمرأة، وبين الإنسان منا الذي يعقل ويسمع ويتحرك ويمشى بون شاسع أم لا؟! وإذا كان الأصل واحدا فما هذا الاختلاف في الشكل واللون والخلقة والطبيعة والعادة في كل شيء؟ أليس هذا دليلا على القدرة، وعلى إمكان إعادة الخلق يوم القيامة للحساب؟ ولا يدورن بخلدك أن جمع الأجزاء المتفرقة غير ممكن لاستحالة الإحاطة بالجزئيات التي تفرقت في التراب أو في جوف المياه أو بطون السمك والسباع، لا تظن هذا.. فالذي يجمعها هو الذي يعلم الغيب والشهادة، وهو الله الذي يعلم ما تحمل كل أنثى، وما تغيض الأرحام وما تزداد، وكل شيء عنده بمقدار، وما تحمل كل أنثى، ولا تضع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 158 إلا بعلمه، وإن من يعلم تركيب الجهاز التناسلى، وعملية الحمل والوضع، وكيف يتم ذلك، يعرف حقا القدرة الإلهية والعلم الشامل الذي لا يحيط به إلا هو، ولا يعمر من شخص معمر، ولا ينقص من آخر إلا في كتاب، فليست زيادة الأعمار أو نقصها أمورا مرتجلة تخضع لحوادث الكون لا: بل كل شيء عند ربك بمقدار. حقيقة من أراد أن يبسط له في رزقه، وينسأ له في أجله فليصل رحمه- كما نطق بذلك الحديث الشريف- فهذا محمول على زيادة البركة في العمر، وإلا فالقرآن صريح في قوله: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [سورة الأعراف آية 34] . إن كتابة الآجال وتثبيت الأعمار، وتدوين كل ما هو كائن على الله يسير، وبه جدير. وانظروا إلى المياه التي حولكم: هذا عذب شديد العذوبة سائغ شرابه سهل تناوله يزيل العطش أو يجلب الري ويمنع الظمأ، وبجواره مياه ملحة شديدة الملوحة لا يستساغ شربها، وإن كانت هي أصل المياه العذبة فهل تصدق أن جميع المياه العذبة أصلها ماء البحر الملح؟ وما ذلك على الله بعزيز، لا يستوي البحران أبدا، هذا ملح أجاج، وهذا عذب فرات، ومن كل واحد منهما تأكلون لحما طريا، وتستخرجون من البحر الملح حلية تلبسونها يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ «1» وترى الفلك الموقرة بالأحمال الثقال في البحار تمخر العباب جيئة وذهابا، سخر ذلك لكم لتبتغوا من فضل الله عليكم بالتجارة والانتقال، ولتشكروا ربكم الذي سخر لكم البحر بقدرته. أليس في العذوبة والملوحة مفارقات؟ وفي الحلي التي تخرج من البحار والسمك الذي يعيش في جوفه مفارقات. أليس في جرى السفينة على الماء، ولا ترسب في قاعه مفارقات؟ ولكنها القدرة فلا تنكروا البعث لأن فيه مفارقات. هو الله الذي يولج الليل في زمن النهار: ويدخل النهار في زمن الليل إن هذا بلا شك لعجيب! وهو الذي سخر الشمس والقمر، كل يجرى لأجل مسمى عنده ذلكم الله صاحب القوى والقدر، والعالم بكل ما غاب وما حضر، والمتفضل بكل نعمة ما عظم منها وما صغر، ذلكم الله ربكم وحده له الملك، وإليه وحده الأمر، فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا، وآمنوا به وبرسله وباليوم الآخر.   (1) - سورة الرحمن آية 22. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 159 وأما الذين تدعونهم من دون الله فأولئك لا يملكون شيئا مهما صغر، فهم لا يملكون نقيرا ولا قطميرا، ولا صغيرا ولا حقيرا. إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم، وكيف يسمعون وهم أصنام وأحجار؟ ولو سمعوا فرضا، ما استجابوا لكم! ويوم القيامة يوم الفزع الأكبر يكفرون بشرككم، ويتخلصون منكم، انظروا إلى قول الحق مخبرا عن عيسى بن مريم: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ [سورة المائدة آية 117] ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ [سورة المائدة آية 116] . ولا ينبئك عن هذا كله مثل خبير، وهو الله- سبحانه- فهو العالم بخلقه أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ؟ [سورة الملك آية 14] والمراد تحقيق وتأكيد ما أخبر به عن آلهتهم ونفى ما يدعون لها من الألوهية. وعظ وإرشاد [سورة فاطر (35) : الآيات 15 الى 26] يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (19) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (20) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (21) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 160 المفردات: الْفُقَراءُ: المحتاجون وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ المراد: لا تحمل نفس وازرة، أى: آثمة وِزْرَ أُخْرى: حمل أخرى تَزَكَّى: تطهر أُمَّةٍ: الأمة الجماعة الكثيرة وَبِالزُّبُرِ: الكتب المكتوبة نَكِيرِ أى: عقابي على أعمالهم. المعنى: يا أيها الناس: أنتم الفقراء المحتاجون إلى الله في كل أموركم الظاهرة والخفية، وكل الخلائق محتاجة إليه، إلا أن حاجة الإنسان إلى الله أكثر، فكأنه قال: أنتم وحدكم الفقراء (مع عدم الاعتداد بحاجة غيرهم) والله وحده هو الغنى عن الكل فليس في حاجة إلى عبادة العباد. ولا تضره معصيتهم، وهو الغنى المحمود في الأرض والسماء، أى: الغنى النافع بغناه الرحمن الرحيم بخلقه. أيها الناس: اعلموا أن الله على كل شيء قدير، إن يشأ يذهبكم ويستبدل قوما غيركم أطوع منكم وأزكى، يذهبكم، ويأت بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز فإنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. واعلموا أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، ولا تحمل نفس وازرة حمل نفس أخرى: بل كل نفس بما كسبت مرهونة، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى، ثم يجزاه الجزاء الأوفى، فكل نفس لا تستطيع أبدا حمل أى ذنب عن أخرى مهما كانت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 161 وإن تدع نفس مثقلة بحملها نفسا أخرى لتحمل عنها لا يحمل منه شيء أبدا ولو كان الإنسان المدعو ذا قربى. روى أن الرجل يأتى إلى أبيه يوم القيامة فيقول: ألم أكن بك بارا، وعليك مشفقا وإليك محسنا، وأنت ترى ما أنا فيه فهب لي حسنة من حسناتك أو احمل عنى سيئة فيقول: إن الذي سألتنى يسير، ولكن أخاف مثل ما تخاف وإن الأب ليقول لابنه مثل ذلك فيرد عليه نحو هذا الرد. روى أن امرأة تلقى ولدها فتقول: يا ولدي ألم يكن بطني لك وعاء، ألم يكن حجري لك وطاء؟ فيقول: بلى يا أماه! فتقول: يا بنى قد أثقلتنى ذنوبي فاحمل عنى ذنبا واحدا فيقول: إليك عنى يا أماه فإنى بذنبي عنك مشغول. وأما أنت يا محمد فإنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب.. نعم إنك لا تنذر إلا هؤلاء أما غيرهم فقلوبهم في أكنة مما تدعو إليه فلا تلق بالا لهم. إنما يهتدى بك ويسمع لك الذين يخشون ربهم بالغيب، وهم الذين يؤمنون بالغيب، فالناس نوعان: نوع يؤمن بأن هناك إلها له قدرة، هذه القدرة هي اليد المحركة لهذا الكون وهذا الصنف قلبه مفتوح لقبول رسالات الرسل، وهناك صنف مادى لا يؤمن إلا بالمادة فلا يؤمن بالقوة الغيبية، القوة الإلهية، وهذا لا يمكن أن ينتفع بإنذارك. إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب، ويقيمون الصلاة، ويؤدون الزكاة، ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه ففائدة زكاته عائدة عليه، وإلى الله المصير. وهل يستوي المؤمن والكافر؟! أظن لا يستويان أبدا، وكيف يستويان؟ وما يستوي الأعمى والبصير، ولا تستوي الظلمات ولا النور، ولا يستوي الظل ولا الحرور، وما يستوي الأحياء ولا الأموات، فالمؤمن حي حياة سعيدة، والكافر ميت القلب والضمير يعيش كالحيوان، فحياته غير معترف بها. إن الله يسمع من يشاء فهو الذي علم ما فيهم من خير فوفقهم له، وعلم ما في غيرهم من شر فخذلهم عن الحق، وأما أنت فخفى عليك حالهم، ولذا تطمع فيهم وما أنت بمسمع الأموات الذين عطلوا حواس قلوبهم حتى كأنهم أموات في القبور بل أشد، ولا عليك شيء بسببهم، إن أنت إلا نذير، وما أرسلك ربك إلا بالحق حالة كونك مبشرا بالجنة ومنذرا بالنار، وما من أمة إلا مضى فيها نذير من الأنبياء ينذرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 162 وإن يكذبوك فلا تحزن فقد كذبت رسلي من قبلك، كذبتهم أممهم حينما جاءوهم بالبينات، وبالكتب المكتوبة؟ وبالكتاب المنير الذي ينير لهم الطريق كالتوراة والإنجيل والزبور، ثم لما كذبوا أخذتهم أخذ عزيز مقتدر، فانظر كيف كان عقابي؟ الناس مختلفون في خشية الله وأخشاهم لله أعلمهم به [سورة فاطر (35) : الآيات 27 الى 30] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30) المفردات: جُدَدٌ: جمع جدة. وهي الطرائق المختلفة الألوان وَغَرابِيبُ سُودٌ أصل اللفظ: وسود غرابيب، والعرب تقول للشديد السواد: لونه كلون الغراب. أسود غريب لَنْ تَبُورَ: لن تفنى ولن تضيع. وهذا كلام مسوق لتقرير ما مضى من اختلاف أحوال الناس ببيان أن الاختلاف أمر عام، وحقيقة مطردة في كل زمان ومكان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 163 المعنى: أنزل الله من السماء ماء فسالت أودية بقدرها، وانتفع بالماء من أراد الله له الخير. وكل على قدر طاقته، وهكذا كانت الشرائع أشبه شيء بالماء فالماء يحيى موات الأرض، ويزيل الضمأ والصدى، والدين يحيى موات القلوب ويزيل ظمأها وصداها، والناس معه مختلفون اختلافا بينا، وما أدق التعبير القرآنى حين يتكلم على الدين واختلاف الناس فيه فيقدم له بالكلام على نظيره وشبيهه وهو الماء. ألم تر وتعلم أن الله- سبحانه- أنزل من السماء ماء، فأخرجنا من الأرض ثمرات مختلفا ألوانها فهذا رمان وذاك تفاح، والصنف الواحد مختلف ألوانه فهذا أصفر فاقع، وذاك أبيض ناصع، وهذا أحمر قان. ألم تر إلى البرتقال واختلاف شكله ولونه وطعمه وحجمه، وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل، انظر إلى السر في قوله: فأخرجنا: وكان الظاهر أن يقال: فأخرج كما قال: أنزل من السماء ماء. ولعل هذا الالتفات والانتقال من أسلوب الغيبة إلى أسلوب التكلم في قوله: فأخرجنا لأن المنة بإخراج الثمرات مختلفة أبلغ من إنزال الماء وأظهر وأدل على كمال القدرة، وشبيه بهذا تماما قوله تعالى فيما مضى في آية 9: وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ ومن الجبال ما هو ذو طرائق مختلفة في الألوان مع أن الجبل كله من تراب أو صخر فمن الذي غير الألوان؟ منها ما هو أبيض ناصع وأحمر قان، وأصفر فاقع، وأسود قاتم، وسود غرابيب، فهذه ألوان مختلفة. ومن الناس والدواب والأنعام صنف مختلف ألوانه اختلافا كثيرا في أصل الصفة ومقدارها، مثل ذلك الاختلاف الذي رأيناه، وكذا فيما يخرج من الأرض مع أن الماء واحد، واختلاف الناس في خشية الله مع أن الله أنزل الدين عاما للجميع وطالب به الكل على السواء. إنما يخشى الله من عباده العلماء، فهم أحق الناس بخشية الله لأنهم أعرف الناس به وبقدرته وعظمته، وهم أعرف الناس بيوم القيامة وما فيه، ولذا كان من أوائل الناس عذابا يوم القيامة العلماء الذين لم يعملوا بما علموا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 164 ومن هم العلماء؟ قال ابن عباس: الذين علموا أن الله على كل شيء قدير، وفي الحديث: «أعلمكم بالله أشدكم خشية له» وقال رجل للشعبى: أفتنى أيها العالم. فقال: العالم من خشي الله.. ثم ختم الآية بقوله: إن الله عزيز غفور، وهذا مما يدعو إلى الخشية، إذ العزة تقتضي عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم والمعاقب والمثاب حقه أن يخشى الله. ولم يتركنا القرآن نبحث عن العلماء فقد قال: هم الذين يتلون كتاب الله، ويقيمون الصلاة، وينفقون مما رزقناهم سرا وعلانية راجين من الله حسن المثوبة وكمال الأجر، وزيادة الفضل. فالعلماء هم الذين يتلون كتاب الله ويتدارسونه، ويعلمونه، ويعملون بما فيه خاصة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، ويقيمون صلاتهم بالخشوع والخضوع ويؤدون زكاتهم وصدقتهم سرا ما استطاعوا وجهرا إذا دعت الظروف إلى ذلك، وهم المخلصون في أعمالهم وأقوالهم لا يرجون من غير الله ثوابا. ولا يفعلون ذلك رياء، وإنما يرجون من الله تجارة لن تضيع، وثوابا لن يذهب، طالبين من الله زيادة الثواب والفضل، وهو الغفور للسيئات الشكور على قليل الأفعال، الذي يثيب على العمل القليل جزيل الثواب. فكل من توافرت فيهم هذه الأوصاف فهم العلماء العاملون، نسأل الله أن نكون منهم. القرآن والمؤمنون به والكافرون [سورة فاطر (35) : الآيات 31 الى 38] وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35) وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 165 المفردات: أَوْرَثْنَا الْكِتابَ: أعطيناه بلا تعب ولا مشقة كما يعطى الميراث اصْطَفَيْنا: اخترنا، واشتقاقه من الصفو وهو الخلوص من شوائب الكدر ظالِمٌ لِنَفْسِهِ الظلم تجاوز الحد مُقْتَصِدٌ: متوسط سابِقٌ بِالْخَيْراتِ: سبق غيره وبزه بعمل الخير أَساوِرَ: وهي حلية تلبس في اليد كَفُورٍ: كثير الكفر يَصْطَرِخُونَ: يستغيثون في النار بصوت عال، والصراخ الصوت العالي، والصارخ: المستغيث، والمصرخ: المغيث نُعَمِّرْكُمْ: نجعلكم تعمرون وقتا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 166 المعنى: الذي أوحينا إليك من القرآن هو الحق لا شك فيه ولا مرية، حالة كونه مصدقا لما بين يديه من الكتب، ومهيمنا عليه، والله هو الذي وضعه هذا الوضع، وأنزله على خاتم رسله محمد صلّى الله عليه وسلّم لأن الحكمة والعدل يقتضيان ذلك والله بعباده خبير بصير. أوحينا إليك الكتاب ثم أورثناه الذين اصطفينا دينهم واخترناهم من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه، ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله. إلا أن هذه الآية فيها مشكل لم يخف على الصحابة والتابعين، ولا على المفسرين وذلك أن قوله: ظالم لنفسه مع قوله: اصطفينا، وقوله بعده: جنات عدن يدخلونها مشكل، إذ كيف يكون ظالما لنفسه مع أنه من المصطفين؟! وكيف يدخل في قوله تعالى: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها؟ ولقد تعرض لهذا الإشكال العلامة القرطبي في تفسيره، وذكر عددا من الأقوال فروى عن عمر، وعثمان، وأبى الدرداء وابن مسعود، وعقبة بن عامر، وعائشة وخلاصته: أن الظالم لنفسه مؤمن عمل الصغار والمقتصد مؤمن أعطى الدنيا حقها والآخرة حقها، ويكون قوله: جنات عدن يدخلونها تشمل الأصناف الثلاثة. ومما يؤيد هذا قول كعب الأحبار: استوت مناكبهم- ورب الكعبة- وتفاضلوا بأعمالهم، وما روى أسامة بن زيد أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قرأ هذه الآية وقال: «كلّهم في الجنّة» ، وما روى عن عمر بن الخطاب أنه قرأها ثم قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «سابقنا سابق، ومقتصدنا ناج، وظالمنا مغفور له» . وعلى هذا القول يقدر مفعول اصطفينا- كما قلنا أولا- اصطفينا دينهم، فالاصطفاء موجه إلى دينهم لا إلى أشخاصهم إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ وخلاصة الآراء الأخرى: أن الظالم كافر أو فاسق أو مرتكب للكبيرة، وهو لا يدخل الجنة، والرأى الأول على ما أظن أحسن لأن الكافر والمنافق والفاسق لم يصطفوا، وكفاه فخرا أنه رأى ستة من كبار الصحابة. ذلك أن إيتاء الكتاب لهم هو الفضل الكبير، وأى فضل أكبر من هذا؟ جنات عدن يدخلونها مقيمين فيها إلى ما شاء الله يحلون فيها بعض أساور من ذهب ويحلون فيها لؤلؤا، ولباسهم فيها حرير، ولا شك أن نعيم الجنة فوق هذا بكثير، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 167 ولكنه تقريب لأذهاننا وإدراكنا وقالوا: الحمد لله على نعمه، الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن الذي كان يساورنا من خشية الله والإشفاق من عذابه إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ. إن ربنا لغفور للسيئات شكور على فعل الطاعات، الذي أحلنا دار الإقامة من عطائه وأفضاله، لا يمسنا فيها نصب، أى: تعب، ولا يمسنا فيها لغوب، أى: إعياء واسترخاء. هؤلاء هم المؤمنون بالقرآن، وهم حزب الرحمن، أما حزب الشيطان الكافرون بالقرآن فها هم أولاء: والذين كفروا لهم نار جهنم خالدين فيها أبدا لا يقضى عليهم بالموت فيموتوا ليستريحوا، بل كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها، ولا يخفف عنهم من عذابها أبدا، مثل ذلك الجزاء نجزى كل كفور بالله ورسوله، وهم يصرخون فيها، ويستغيثون منها بأصوات عالية قائلين: ربنا أخرجنا منها وأرجعنا إلى الدنيا نعمل صالحا غير الذي كنا نعمل، فيقال لهم: اخسئوا فيها ولا تكلمون أو لم نعمركم وقتا كافيا يتذكر فيه من يريد التذكر؟ وجاءتكم النذر: من الكتاب والرسول ونذر الشيب والموت فلم تتعظوا أبدا بشيء وغرتكم الدنيا وغركم بالله الغرور. فذوقوا فلن نزيدكم إلا عذابا، وذوقوا فما للظالمين من نصير، وهل يجابون إلى طلبهم بالرجوع إلى الدنيا؟! لا فلو رجعوا لعادوا لأفظع مما عملوا، وربك يعلم غيب السماء والأرض، وهو عليم بذات الصدور. نقاش المشركين [سورة فاطر (35) : الآيات 39 الى 41] هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 168 المفردات: خَلائِفَ: جمع خليفة مَقْتاً: غضبا شديدا شِرْكٌ: شركة غُرُوراً: باطلا تَزُولا: من الزوال، أى: يمنعهما منه. المعنى: وهذا نقاش لهم بتعداد نعم الله عليهم وعلى الناس جميعا، وبيان كمال قدرته، مع تسليط الأضواء الكاشفة على آلهتهم وأصنامهم لنعرف أثرها وحقيقتها. هو الذي جعلكم خلائف في الأرض يخلف بعضكم بعضا، أنتم خلائف لله في أرضه إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «1» وهذا الوضع يقتضى منكم أن تتذكروا أنكم مفارقون لهذه الدنيا، فلا تغتروا بها، ولتنظروا إلى أنفسكم، وأنتم خلفاء لله فلا تتخذوا معه شركاء لا يمتون لكم بصلة شريفة. وأنتم خلفاء في أرضى ولقد حكمت أن من يكفر فعليه وزر كفره، فمن كفر من الناس فعليه وبال كفره، ولا يزيد الكافرين كفرهم عند الله إلا مقتا وغضبا شديدا ولا يزيدهم إلا خسارا في الآخرة وعذابا أليما. يا عجبا لكم! قل يا محمد تبكيتا وتأنيبا: أخبرونى عن شركائكم الذين تدعون من دون الله، ماذا خلقوا من الأرض؟ بل ألهم شركة في خلق السماء؟ بل أآتيناهم كتابا يشهد لهم بذلك؟ فهو حجة في أيديهم بأنهم شركاء في خلق أى شيء.. لا شيء من هذا   (1) - سورة البقرة آية 30. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 169 أبدا.. وفائدة هذا الكلام توجيه الأنظار لهم، ولفت العقول إلى باطلهم لعلكم تتفكرون! بل ما يعد الظالمون من رؤسائهم وقادتهم وشياطينهم ما يعد الظالمون غيرهم من أتباعهم، فهم ظالمون أيضا لأنفسهم، ما يعد الظالمون بعضهم بعضا إلا غرورا بقولهم: لا بعث ولا حساب، وإن كان فالآلهة تشفع لنا وسترد عنكم العذاب، ونحن سادة في الدنيا فسنكون كذلك في الآخرة، أليس هذا كله غرورا في غرور؟ وكيف يكون شيء من هذا؟ ولله الأمر وحده من قبل ومن بعد، وهو الذي رفع السماء وبسط الأرض، ويمنعها من السقوط والزوال إلى الأبد، ولئن حكم عليها بالزوال فما أحد من الموجودين بقادر على إمساكهما ومنعهما من الزوال، إنه كان حليما بخلقه غفورا لسيئاتهم. فانظروا أيها المشركون أين أنتم؟ حقيقة هؤلاء المشركين [سورة فاطر (35) : الآيات 42 الى 45] وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 170 المفردات: جَهْدَ أَيْمانِهِمْ: طاقتها وغايتها نُفُوراً: إعراضا وتباعدا عن الهدى يَحِيقُ: يحيط يَنْظُرُونَ: ينتظرون لِيُعْجِزَهُ: ليسبقه ويفوته. بلغ قريشا قبل مبعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم، فقالوا: لعن الله اليهود والنصارى أتتهم رسلهم فكذبوهم، فو الله لئن أتانا رسول لنكونن أهدى من إحدى الأمم، فلما بعث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كذبوه. المعنى: وأقسموا بالله جاهدين بالغين طاقة جهدهم، وغاية أيمانهم، وذلك لأنهم كانوا يحلفون بآبائهم وأصنامهم، فإذا اشتد عليهم الحال، وأرادوا تحقيق الحق حلفوا وأقسموا بالله جهد أيمانهم وطاقتها، لئن جاءهم نذير من أنفسهم، ونبي من العرب- وكانوا يتمنون ذلك لأن الأنبياء كانت من بنى إسرائيل- ليكونن أهدى من كل الأمم، وليؤمننّ به مسرعين. فلما جاءهم نذير من العرب، ورسول من أشرف قبائلهم ما زادهم النذير إلا نفورا وإعراضا عن الحق الذي جاء، حالة كونهم مستكبرين في الأرض وحاسدين وباغين، وماكرين مكر السوء على الضعاف والأتباع وحرصا على دنيا كاذبة، وعرض زائل ولا يحيق المكر السيّئ إلا بأهله، وقد وقعوا في شر أعمالهم، وباءوا بالخسران المبين في الدنيا والآخرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 171 فهل ينتظرون بأعمالهم إلا سنة الأولين، وسنة الله فيهم العذاب لتكذيب رسلهم بعد سوق الآيات الناطقة بصدقهم، فكفار مكة لا ينتظرون بعد تكذيبهم النبي إلا العذاب كما نزل بمن سبقهم من الكفار، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولا تحويلا. أقعدوا ولم يسيروا في الأرض فينظروا حين ينتقلون إلى الشام والعراق واليمن كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ممن كذب رسله واتبع نفسه وهواه؟ وقد كانوا أشد منهم قوة، وأكثر أموالا وأولادا، فما أغنت عنهم في شيء، وما كان الله ليعجزه شيء في السموات ولا في الأرض، وكيف يعجزه أحد، وهو الخالق البارئ العالم المحيط بكل شيء. وانظر إلى تذييل الآية وختامها بقوله: إنه عليم قدير. وبعد هذا يبين الله أنه الرحمن الرحيم بخلقه وهو الغفور الستار بعباده، ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا من المعاصي ما ترك على ظهر الأرض من دابة انتقاما وجزاء لما يصنعون، ولكن اقتضت الحكمة الإلهية والرحمة الربانية أن يؤخرهم إلى أجل مسمى عنده هو أعلم به، إكراما للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتشريفا له ولأمته، ولعلهم يتوبون، ويثوبون إلى رشدهم، فإذا جاء أجلهم لا ستأخرون ساعة ولا يستقدمون بل سيفارقون الدنيا، ويحاسبون على أعمالهم إن كانت خيرا فخير، وإن كانت شرا فجزاؤهم شر، ولا غرابة فإن الله كان بعباده خبيرا بصيرا. فبادروا أيها الناس بالتوبة والرجوع إلى الله وأسرعوا فأنتم لا تدرون انتهاء الأجل، فربّ ليلة نبيتها لا نصبح معها، بل ربّ نفس خرج لا يعود، ولا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم، وهو بالعباد خبير بصير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 172 سورة يس وهي مكية بالإجماع كما حكى القرطبي، وعدد آياتها ثلاث وثمانون آية، وقد ذكر في فضلها أحاديث كثيرة، والله أعلم بصحتها. وهي كالسور المكية المفتتحة بأحرف هجائية تعرضت للقرآن الكريم والنبي صلّى الله عليه وسلّم وإثبات البعث، ثم ضرب الأمثال، وذكر القصص، والتعرض للآيات الكونية، ومناقشة الكفار في بعض عقائدهم وأفعالهم، ثم ذكر صور لمشاهد يوم القيامة، والتعرض لمبدأ التوحيد والبعث مع الاستدلال بالمشاهد المحسوسة على ذلك، وتفنيد شبهة المشركين وقطع حججهم، وكل هذه الموضوعات ترمى إلى فتح قلوب غلف، وإحياء نفوس طال عليها الأمد حتى قست فأصبحت كالحجارة أو أشد. موقف النبي صلّى الله عليه وسلّم مع قومه [سورة يس (36) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9) وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَآثارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 173 المفردات: يس نقرأ هكذا: يأس بمد الياء وإدغام السين في الواو التي بعدها، وقرأ بعضهم ياسين بإظهار النون ساكنة، وبعضهم أظهر حركة النون بالضم أو بالفتح أو بالكسر، ولكل وجه تخريج في الحكم الإعرابى حَقَّ الْقَوْلُ ثبت فلا يبدل الْأَذْقانِ جمع ذقن، وهي ملتقى الفكين الأسفلين مُقْمَحُونَ والمقمح: هو الذي يرفع رأسه ويغض بصره، وفي القاموس: وأقمح الغل الأسير: ضاق على عنقه وترك رأسه مرفوعا وَآثارَهُمْ المراد: ما خلفوه وراءهم من خير أو شر. ولا بد لذكر هذه الحروف من حكمة، ولا بد لها من معنى، وإن خفى علينا وستظل سرّا بين الله وبين رسوله، فهي أشبه شيء بالشفرة في عصرنا، والله أعلم بمراده منها، وقيل: إن هذا اسم من أسماء الله واسم من أسماء النبي ذكر قبل القسم تعظيما له، وقيل غير ذلك. المعنى: أقسم الحق تبارك وتعالى بالقرآن المحكم الآيات الكامل المعجزات بأنك يا محمد لمن المرسلين على صراط مستقيم لا عوج فيه وهو الإسلام، وهو طريق الأنبياء من قبلك.. وليس القسم بالقرآن قد ذكر عرضا من غير قصد، لا. بل الظاهر- والله أعلم- أنه لفت لأنظارنا إذ هو المعجزة الباقية، والدليل الأول على أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم صادق في دعواه، وأنه رسول من عند مولاه. هذا القرآن نزل تنزيل العزيز في ملكه الرحيم بخلقه، وفي هذا إشارة إلى مكانة القرآن وأنه أجل نعمة من نعم الرحمن، أنزل عليك لتنذر قوما ما أنذر آباؤهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 174 الأقربون- وإلا فآباؤهم الأقدمون قد أنذروا بإسماعيل- عليه السلام- فهم غافلون عن طريق الحق والنور. لقد حق القول على أكثرهم وثبت، إذ لا يبدل القول عند العزيز الحكيم، وعلى ذلك فالمراد بالقول: الحكم والقضاء الأزلى، تحقق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون، ولكن لا بطريق الجبر والإلجاء، بل باختيارهم وإصرارهم على الكفر والعناد، وفي هذا تطمين للنبي صلّى الله عليه وسلّم. إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وهذه الآية لتقرير الحكم السابق عليهم «1» بأنهم لا يؤمنون، ولا تنفع معهم النذر بالآيات، فالقرآن الكريم يريد أن يشبههم ويمثلهم حيث لم يؤمنوا ولم يذعنوا بمن غلت يده في عنقه فلم يستطع أن يتعاطى مقصودا للمعنى الحسى القائم به، وهو الغل البالغ إلى الذقن الذي جعل صاحبه مقمحا، أى: رافعا رأسه لا يستطيع أن يبصر تحت قدميه. وقيل: إن الآية حقيقة وليس فيها (استعارة) وإنما هذا تصوير لهم يوم القيامة إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ [سورة غافر آية 71] . وَجَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ وهذا تمثيل آخر لهم أنهم وقد سدت عليهم طرق الإيمان سدا إلهيا معنويا يشبهون من سدت عليهم الطرق سداّ حسيا فلم يصلوا إلى مطلوبهم، والسد الذي بين أيديهم منعهم من قبول الشرائع في الدنيا، والسد الذي خلفهم منعهم عن قبول البعث، انظر إلى قوله تعالى: وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ [سورة فصلت آية 25] والمراد زينوا لهم الدنيا فاغتروا بها، وزينوا لهم الآخرة فكذبوا بها. وجعلنا من بين أيديهم سدا، ومن خلفهم سدا فأعميناهم عن الحق فهم لا يبصرون وسواء عليهم إنذارك وعدمه- وهذا توبيخ لهم- فهم لا يؤمنون. هذا شأن من ختم الله على قلبه، وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله! وما ذاك إلا أنه صرف نفسه عن النظر الصحيح والرأى المجرد عن الهوى، البعيد عن ضلال التقليد.   (1) لذلك فصل بين الجملتين، والفاء في قوله فهي إلى الأذقان! وفي قوله فهم مقمحون فاء النتيجة والعاقبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 175 إنما ينتفع بإنذارك الذين يتبعون الذكر، أى: القرآن، ويخشون بالغيب الرحمن، وعلى هذا فالآية تفيد أن المنتفع بالذكر طبقة خاصة، وأما الإنذار العام فالنبي مكلف به سواء اتبعه فيه بعض الناس أم لا، فلا تعارض بين الآية وعموم الرسالة وعموم الإنذار للجن والإنس. حقا لا ينتفع بالإنذار إلا من طرق قلبه ذكر القرآن، وخشي الرحمن بالغيب، أما تلك القلوب المغلقة، والنفوس الميتة التي لا تؤمن إلا بالمادة وأحوالها فلا يمكن أن ينتفعوا بالإنذار، فبشر- كما أنذرت- من اتبعك وانتفع بك بمغفرة واسعة وجنة عرضها السموات والأرض، وبأجر على ذلك كريم. وإذا سأل سائل عن وقت تحقيق البشارة والنذارة؟ فالجواب: إن ربك يحيى الموتى ليجازى الكل، ويحقق ما وعده من البشارة وضدها، والله يكتب ويحصى ما قدمه الناس وما أخروه من كافة الأعمال، وهو يكتب آثارهم، فآثار المرء التي تبقى وتذكر بعده من خير وشر يجازى عليها، فالآثار الحسنة من علم ينتفع به، أو تكوين جيل تغرس فيه معاني الإسلام غرسا صحيحا، أو تأسيس بناء نافع كمسجد أو مستشفى، أو عمل خيرى باق. والآثار السيئة: كدعوة في كتاب أو مقالة تدعو إلى السوء وإلى التحلل في الأخلاق نرى من بعض كبار الكتاب في مصر يصفون لياليهم الحمراء العابثة، وهم في موضع يقلدهم فيه الشباب المغرور بهم، وكاختراع ألحان أو تأسيس ملاه أو عمل على نشر السوء بأى وسيلة من الوسائل العامة أو الخاصة، تلك هي الآثار النافعة والآثار السيئة الضارة، وكل شيء فعلوه في الزبر، وكل صغير وكبير مستطر. وكل شيء من هذا كله أحصاه ربك في كتاب مبين ظاهر، وسيجازى عليه. قصة أصحاب القرية [سورة يس (36) : الآيات 13 الى 29] وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19) وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 176 المفردات: مَثَلًا: الصفة والحال الغربية التي تشبه في الغرابة المثل أَصْحابَ الْقَرْيَةِ قيل: هي إنطاكية فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ: فقوينا وأيدنا بثالث، وفي قراءة فعززنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 177 بالتخفيف بمعنى غلبنا وقهرنا تَطَيَّرْنا: تشاءمنا بكم لَنَرْجُمَنَّكُمْ: لنقتلنكم رميا بالحجارة طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أى: حظكم وشؤمكم معكم وليس منا أَقْصَى الْمَدِينَةِ المراد من عند أقصى باب من أبواب المدينة فَطَرَنِي: خلقني على أحسن مثال مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ جند السماء: ملائكة الوحى أو ملائكة تنزل بالعذاب خامِدُونَ: ميتون وهامدون كالرماد الخامد. المعنى: اجعل يا محمد أصحاب القرية التي سيأتيك خبرها لهؤلاء مثلا في الغلو والعناد والكفر مع الإصرار على تكذيب الرسل، والمراد: طبق حال مشركي مكة الغريبة بحال أصحاب تلك القرية إذ «1» جاءهم المرسلون، حين أرسلناهم اثنين فلم يكن مجيئهم عن محض اختيارهم بل كان بإرسالنا إليهم فكذبوهما فقوينا الحق وأيدناه برسول ثالث، فقالوا جميعا: إنا إليكم يا أهل القرية مرسلون. وفي تعيين القرية وأسماء الثلاثة ذكر المفسرون كلاما كثيرا الله يعلم أنه لا يسند إلى سند متين، ولكنه من الإسرائيليات. على أننا لا يهمنا معرفة نفس القرية ولا أشخاص الرسل، ولكن المهم أن نعرف ماذا حصل؟ وماذا كانت النتيجة؟ والمفسرون يذكرون أن هؤلاء الرسل كانوا لعيسى ابن مريم فهم رسل رسول الله، ولست أدرى ما الذي حملهم على هذا! ولم لا يكونون رسلا لله سبحانه وتعالى؟ لأنهم ساقوا في كلامهم أنهم أتوا بمعجزات كإحياء الموتى وإبراء الأكمه إلى آخر ما ذكره، وهذا في ظني- والله أعلم- لا يكون إلا لنبي يدعى النبوة. أرسلت الرسل، وقالوا: إنا إليكم مرسلون.. فماذا قال أصحاب القرية؟ قالوا: لستم رسلا ولا يعقل أن تكونوا رسلا لأنكم بشر مثلنا فمن الذي فضلكم علينا؟ وهل فيكم من غنى أوجاه أو قوة حتى تكونوا رسلا إلينا؟ اعترضوا بهذا وما علموا أن الله يعلم حيث يجعل رسالته، والرسول بشر من البشر علم الله أنه يتحمل مشقة الرسالة فأرسله للناس وهو العليم الخبير بخلقه، فليست الرسالة تتنافى مع البشرية، وليست المزية والأفضلية في الاختيار ترجع إلى الغنى أو القوة المادية، وإنما مرجعها إلى نواح نفسية   (1) إذ بدل من أصحاب القرية فهي منصوبة، وإذ الثانية ظرف لقوله: جاءهم المرسلون حين أرسلناهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 178 روحية الله أعلم بها، ومن هنا نعرف أن اعتراضات الكفار قديما وحديثا واحدة. وقالوا: ما أنزل الرحمن من شيء إن أنتم إلا تكذبون كذبا متجددا حادثا كلما ادعيتم الرسالة، وهذه شبهة ثانية لهم تتعلق بالحق تبارك وتعالى. والشبهة الأولى تتعلق بالمرسلين، وخلاصة هذه الشبهة أن الكون أمامنا لم نر فيه أى دليل على أن الرحمن ينزل شيئا من عنده نيابة عنه، ونحن لا نراكم إلا كاذبين، فماذا قالت الرسل لهم ردّا على الاتهام، وتفنيدا لتلك الشبهة؟ قالت الرسل: ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون فنحن لا ندعى أننا رسل من يجهل الخلق أو هو عاجز في نفسه، لا: بل نحن رسل الخبير البصير، فلو أننا كاذبون لمحقنا ولأهلكنا فإن العاقل إذا علم أن هناك من يدعى أنه رسوله ووكيله كذبا وبهتانا لا يمكن أن يتركه بل يفعل معه ما يستطيع من بطلان هذه الدعوى، ولله المثل الأعلى، وأنت ترى أنهم لم يسأموا بل كرروا ما ادعوه مؤكدا أكثر من الأول حيث صدروا دعواهم بقولهم: ربنا يعلم- وهذا كالقسم ثم التأكيد بإن واللام واسمية الجملة- كل ذلك لتأكيد دعواهم، أو للرد على الكفار. وما علينا شيء بعد إبلاغهم هذه الحقائق، وفي ذلك إشارة رقيقة إلى دعواهم فإنهم لم يطلبوا أجرا ولا رئاسة ولا شيئا من حطام الدنيا، وليس عليهم إلا البلاغ وعلى الله الحساب، فتفكروا في أمركم أيها الكفار! فماذا كان بعد هذا؟. قالوا لهم: إنا متشائمون بكم، ومتطيرون، ولقد مسنا سوء حينما ادعيتم هذه الدعاوى الكاذبة وأصررتم وحلفتم الأيمان عليها واليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع فنحن متشائمون بكم لئن لم تنتهوا عما تقولون لنرجمنكم بالقول الغليظ وليمسنكم منا عذاب بالضرب والقتل أليم وشديد. وماذا كان من الرسل..؟ قالوا: لا تتشاءموا بنا ولا تتطيروا، إنما طائركم معكم، أى حظكم من خير أو شر معكم ولازم في أعناقكم، وليس هو منا: أئن ذكرتم ووعظتم وخوفتم تطيرتم وكفرتم؟ إن أمركم لعجيب!! .. بل أنتم قوم مسرفون متجاوزون الحدود في أعمالكم، فبدل النظر السليم في دعوى الرسالة، والبعد عن التقليد الأعمى، وإطلاق العقول من ربقة الاستعباد الفكرى، فبدل هذا تشاءمتم وتطيرتم وأسرفتم في الظلم والبهتان. والله إن أمركم لعجيب!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 179 هؤلاء الرسل قاموا بالرسالة وأدوا الأمانة فهل استجاب لهم أحد أم لا؟ نعم قد استجاب لهم خلق، وجاء من أقصى المدينة رجل كامل الرجولة يسعى سعيا حثيثا لإظهار الحق، ونصرته، ومحاربة الباطل ودولته: قال يا قومي ويا أهلى: اتبعوا هؤلاء المرسلين فإنهم صادقون في دعوى الرسالة، اتبعوا من لا يسألكم أجرا، ولا يطلب منكم مالا، ولا يسعى إلى رئاسة أو غرض وهم مهتدون سائرون على الطريق الحق، والمنهج القصد، وهذا كاف في اتباع الرسل لو أنصف الناس.. وكأنهم ردوا عليه وقالوا له: أنت مؤمن بهم وبأنهم رسل الله، وصدقتهم في عبادة إله واحد؟ قال: وما لي لا أعبد الذي خلقني وأبدعنى على تلك الصورة؟ أى مانع عندي يمنعني من عبادة من فطرني وخلقني فسوانى في أحسن صورة؟ وإليه وحده ترجع الخلائق يوم القيامة للثواب والعقاب، وهكذا المنصف يعبد الله لأنه خلقه، أو يعبده لأنه سيحاسبه. فهو يعبد رغبا أو رهبا. أأتخذ من دونه آلهة لا تنفع ولا تشفع، ولا تبصر ولا تسمع، إن أرادنى الرحمن بضر، لا تدفع ضره ولا تغنى عنى شفاعتهم شيئا، ولا هم ينقذوننى مما بي فلأى شيء يعبدون؟ أليست العبادة تقديسا لمن يستحق التقديس؟! إنى إذ أعبد حجرا أو مخلوقا لا ينفع ولا يضر إنى إذا لفي ضلال مبين. اسمعوا يا قومي: إنى آمنت بربكم وربي فاسمعون. قيل له: ادخل الجنة، فهل قيل له بعد الموت؟ أو بشر بهذا ممن لا يكذب فبنى على تلك البشارة ما يأتى؟ وعلى الرأى الأول يكون ما يأتى حكاية لحاله يوم القيامة، وعلى الثاني فكلامه في الدنيا سيق عبرة وعظة للناس يا ليت قومي يعلمون بغفران ربي لي حيث جعلني من المكرمين يوم القيامة بالثواب الجزيل والأجر العريض، وهذا حال المؤمن المصدق لرسل الله. أما حال من أشرك وكفر وكذب فعاقبته الخسران والضلال والهلاك، اسمع إلى الحق تبارك وتعالى يقول وهو أصدق القائلين: وما أنزلنا على قوم هذا الرجل المؤمن بعد نجاته من جند من السماء، وما كان ينبغي لنا أن ننزل فلسنا في حاجة إلى ذلك أبدا. ما كانت عقوبتهم إلا صيحة واحدة فقط من جبريل فإذا هم بسرعة كسرعة البرق خامدون هامدون لا حراك ولا حرارة ولا حياة، وسبحان الله الواحد القهار فاعتبروا يا أهل مكة إن كنتم من أولى الأبصار!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 180 بعض مظاهر قدرة الله تعالى [سورة يس (36) : الآيات 30 الى 44] يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36) وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40) وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (44) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 181 المفردات: يا حَسْرَةً الحسرة: أن يلحق الإنسان من الندم ما به يصير حسيرا الْمَيْتَةُ: التي لا نبات فيها جَنَّاتٍ: بساتين من شجر النخيل والأعناب وَفَجَّرْنا: شققنا وأنبعنا فيها عيونا كثيرة سُبْحانَ: تنزيها لله عما لا يليق به الْأَزْواجَ: الأصناف والأنواع المختلفة نَسْلَخُ: نفصل منه النهار ونزيله عنه قَدَّرْناهُ مَنازِلَ الأصل: قدرنا له منازل، ثم حذفت اللام فقيل: قدرناه منازل، المراد: جعلنا له منازل، والمنازل: جمع منزل، والمراد به المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة، وهي في حسابهم 27 منزلا كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ العرجون: عود العذق- القنو- ما بين الشماريخ إلى منبته من النخلة فِي فَلَكٍ والفلك: هو المدار الذي يدور فيه الكوكب سمى به لاستدارته كفلكة المغزل يَسْبَحُونَ: يسيرون بانبساط وسهولة الْمَشْحُونِ: المملوء فَلا صَرِيخَ: فلا مغيث. المعنى: وما أنزل ربك- القادر على كل شيء- على قوم الرجل المؤمن الذي جاء من أقصى المدينة يسعى من بعد موته، ما أنزل عند إهلاكهم جندا من السماء؟ وما احتاج الأمر إلى شيء من ذلك فبأى شيء كان إهلاكهم؟ ما كانت إلا صيحة واحدة من جبريل فإذا هم بعدها مباشرة خامدون وميتون لا حراك بهم، خمدوا كما تخمد النار فتصير رمادا. يا حسرة «1» على هؤلاء المكذبين!! يا حسرة على هؤلاء وأمثالهم!! ما يأتيهم من رسول يهديهم إلى الحق، وإلى الصراط المستقيم إلا كانوا به يستهزئون، فاستحقوا الهلاك من رب العالمين، نعم إنهم يستحقون أن يتحسر عليهم المتحسرون وخاصة الملائكة والمؤمنون من الثقلين لما رأوا عاقبة أمرهم ونهاية كفرهم واستهزائهم. عجبا لهؤلاء وأمثالهم من كفار قريش! ألم يروا أن أهلكنا قبلهم كثيرا «2» من الأمم   (1) المنادى محذوف والأصل يا قومي تحسروا حسرة على هؤلاء، وفي قراءة: يا حسرتا، والأصل: يا حسرتى على أنه من كلام الملائكة أو المؤمنين أو من الله. وقيل: المنادى الحسرة نفسها، أى: هذا أوانك فاحضرى. [ ..... ] (2) الاستفهام في (ألم يروا) للتقرير، وكم خبرية مفعول لأهلكنا، وأنهم لا يرجعون بدل اشتمال في المعنى لا في اللفظ من أهلكنا لأن إهلاكهم مشتمل ومستلزم لعدم رجوعهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 182 السابقة لما كذبوا وكفروا؟! ألم يروا أنهم بعد الهلاك إليهم لا يرجعون أبدا؟ وما كلهم إلا محشورون «1» ومجموعون، ولدينا للحساب يوم القيامة محضرون، فهل يتعظون ويعتبرون؟ ويعلمون أن الله على كل شيء قدير، وأنه يجازى كل كفور، وهذا تهديد لهم. والأرض الميتة التي لا نبات فيها ولا حركة، آية شاهدة ناطقة لهم على قدرة الله، وعلى أنه القادر على إحياء الخلائق بعد موتها، والأرض الميتة أحياها ربك بالنبات والخضرة، وأخرج منها حبا كالحنطة وغيرها، فمنه يأكلون ويعيشون، وجعل فيها جنات من نخيل وأعناب، وفجر فيها من العيون ليأكلوا بعد هذا من ثمره الذي تفضل به علينا، وليأكلوا مما عملته أيديهم من أصناف المأكولات الجافة والمحفوظة والطازجة مما نراه ونشاهده أفلا يشكرون الله؟! سبحان الله! ما أعظم فضله وأجل نعمه! سبحانه وتعالى عما يشركون، تنزه سبحانه عما لا يليق به مما فعلوه وتركوه، وهذا أيضا تعليم للمؤمنين وإرشاد لهم ليقولوا: سبحان الله معتقدين مصدقين بهذا التنزيه الإلهى. سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض من النبات وغيره، مما عملته أيديهم، ومما لا يعلمون، فهو لله سبحانه وتعالى نعم سبحانه خالق هذه الأصناف كلها مما لا يحيط به إلا هو فكل ما في الكون لا يعلمه إلا خالقه سبحانه وتعالى.. وهذا الليل وما فيه آية لهم لو كانوا يعقلون، فهذا الظلام الشامل بعد النور الساطع، وهذا السكون والهدوء بعد الجلبة والضجيج، وتلك الكواكب السيارة والأفلاك الدوارة كل ذلك آية على وجود الخبير البصير الذي يسير العالم على وفق نظام محكم دقيق لا يختل أبدا. وآية عظيمة لهم الليل، نسلخ «2» منه النهار، ونزيل ضوءه عنه، ونكشفه عن الليل فيبدو الليل بسكونه وظلامه كالشاة بعد السلخ، فإذا سلخ بك النهار عن الليل فإذا هم   (1) «وإن كل لما جميع» في مثل هذا إعرابان يرجعان إلى قراءة لما مخففة ومشددة، فعلى قراءة التشديد إن نافية ولما بمعنى إلا، وعلى قراءة التخفيف إن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير الشان وكل مبتدأ واللام هي الفارقة، وما زائدة صلة وجميع خبر، ولدينا ظرف متعلق به، ومحضرون خبر ثان. (2) وفي قوله (نسلخ) استعارة تبعية حيث استعار السلخ لكشف الضوء من مكان الليل، والجامع ما يعقل من ترتب أمر على أمر فإنه يترتب ظهور اللحم وظهور الظلمة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 183 مظلمون، أى: داخلون في الظلام مفاجأة وبغتة، فيكون النوم العميق والهدوء الشامل، سبحانه من قادر حكيم. وآية لهم الشمس ذلك الكوكب النهارى الضخم تجرى في فلكها لحد مؤقت مقدر تنتهي إليه، ولا تتجاوزه أبدا، فكأنها تجرى لإدراكه حتى إذا ما انتهت إليه توقفت، والله وحده هو العالم إلى متى تجرى؟ ومتى تقف؟ ذلك تقدير العزيز العليم، نعم هو تقديره وحده، ونظامه المحكم الدقيق الذي لو اختل قيد شعرة فلا يعلم إلا الله ما الذي يحصل؟! فالشمس تجرى وتدور حول نفسها وفي فلكها، والأرض أمامها تجرى وتدور حول نفسها وحول الشمس فينشأ عن كل ذلك النهار والليل والنور والظلام، والفصول الأربعة، أرأيت لو أن هذا النظام اختل في وقت ماذا يكون؟ أمن المعقول أن ذلك يحصل بطبعه بدون إله مدبر؟ تعالى الله عما يقولون. والقمر قدر له ربك منازل يسير فيها، فتراه يبدو صغيرا دقيقا ثم يكبر فيصير هلالا فبدرا ثم يعود يصغر شيئا فشيئا حتى يصير كالعرجون القديم في الرقة والانحناء والصغر وانظر يا أخى إلى هذه الكواكب السماوية وإلى أبعادها وأجرامها وكثرة عددها وسرعة حركتها، ثم هي بعد ذلك كله في نظام دقيق وعمل وترتيب لا عوج فيه ولا خلل لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل يسبق النهار فيفوته، ولكن يعقبه وإنما جعل الله لهذا كله وقتا محددا ونظاما دقيقا فلا يجوز أن تطغى آية الليل (القمر) على آية النهار (الشمس) بل لكل مدة وزمن ونظام لا يعدوه، وكل من النجوم والكواكب في فلك خاص به يسبحون ويجرون، وهذا لا يمنع أن الله يولج النهار في الليل، وبالعكس في بعض أيام السنة. أليست هذه من أعظم الآيات الدالة على وجود الله وقدرته؟!! وآية لهم أنا حملنا ذريتهم في ظهور آبائهم ساعة حملوا في فلك نوح المشحون بالخلق، وخلقنا لهم من مثل السفن ما يركبون من السيارات والقطارات والطائرات وغير ذلك! وما أروع هذا التعبير، وما أدق تصويره! وهم في قبضتنا إن نشأ نغرقهم فلا صريخ لهم، أى: فلا مغيث لهم، ولا ينقذون لشيء أبدا إلا لرحمة منا وتمتيع بالحياة الدنيا إلى حين معلوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 184 ذكر بعض أحوال الكفار [سورة يس (36) : الآيات 45 الى 54] وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54) المفردات: يَخِصِّمُونَ: يختصمون تَوْصِيَةً: وصية الصُّورِ: القرن وهو كالبوق الْأَجْداثِ: جمع جدث، وهو القبر يَنْسِلُونَ: يخرجون مسرعين مَرْقَدِنا: مكان نومنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 185 المعنى: هؤلاء الكفار أمرهم عجيب: لقد ساق الله الآيات الظاهرة التي يعرفها كل مخلوق في الليل والنهار والشمس والقمر والأرض الميتة، وحمل ذرياتهم في ظهور آبائهم فما اتعظوا، ولا تذكروا. بل ظلوا كما هم. والآن يخوفهم الله عاقبة أمرهم بعد عرض الآيات عليهم لعلهم يتوبون فيرحمون ولكنهم مع كل ذلك معرضون فالويل لهم. وإذا قيل لهم: يا أيها الناس اتقوا ما بين أيديكم من أيام الدنيا وحوادثها الجسام واعتبروا بما حل بغيركم، واتقوا ما خلفكم من أيام الآخرة وأهلها ومواقفها الشداد اتقوا الله واخشوا حسابه وعقابه لتكونوا على رجاء رحمة الله عاملين، إذا قيل لهم هذا أعرضوا وأصروا على عنادهم واستكبروا استكبارا، وما تأتيهم من آية من آيات ربهم الكونية أو القرآنية للعبرة والعظة إلا كانوا عنها معرضين، فدأبهم الإعراض عند كل آية وموعظة. وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ نزلت هذه الآية في مشركي قريش حين قال فقراء الصحابة لهم: أعطونا من أموالكم التي زعمتم أنها لله. يعنون قوله تعالى وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً [سورة الأنعام آية 136] فلم يعطوهم وحرموهم، وقالوا للذين آمنوا: أنطعم شخصا لو شاء الله لرزقه كما تزعمون. كان المشركون يسمعون المؤمنين، وهم يعلقون الأفعال بمشيئة الله فيقولون: لو شاء الله لأغنى فلانا، لأعطى فلانا، ولو شاء الله لكان كذا وكذا فأخرج المشركون هذا الجواب أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ مخرج الاستهزاء بالمؤمنين وبما كانوا يقولونه من تعليق الأمر بمشيئته تعالى. كانوا يفهمون لسوء رأيهم: إنه إذا كان الله هو الرازق فهو قادر أن يرزقكم فلم تلتمسون الرزق؟! وهذه حجة واهية، ورأى مأفون فالله قد ابتلى قوما بالفقر وقوما بالغنى، وأمر الفقراء بالصبر وأمر الأغنياء بالعطاء والشكر فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى. وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى. وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى. وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى [سورة الليل الآيات 5- 10] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 186 ما أنتم أيها المشركون إلا في ضلال مبين حيث تفهمون هذا الفهم العقيم وتقولون: متى هذا الوعد إن كنتم صادقين؟! كان الكفرة يستبعدون قيام الساعة، وتحقق الوعد للمؤمنين والوعيد للكفار والمشركين!! واسمع الجواب من جهته سبحانه وتعالى: ما ينتظرون إلا صيحة واحدة هي النفخة الأولى التي يموت بها أهل الأرض، وهل هم ينتظرون ذلك؟ لا ينتظرون بل هم مكذبون، ولكن لما كان لا بد من وقوعها جعلوا كأنهم منتظروها، هذه الصيحة تأخذهم فيهلكون بعدها فورا، وهم يتخاصمون ويتنازعون في أمور دنياهم أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [الأعراف 95] فالناس عندها لا يستطيعون وصية في أمر من أمورهم إلى أهليهم، ولا هم يستطيعون الرجوع لهم بل تبغتهم على حين غفلة منهم. ونفخ في الصور نفخة ثانية فإذا هم قيام من قبورهم، خارجون منها بسرعة إلى ربهم ليوفيهم حسابهم، وكان ذلك على الله يسيرا. وماذا كان قولهم؟ في ابتداء بعثهم من القبور: يا هلاكنا احضر فهذا أوانك، أو يا قومنا انظروا وويلنا وهلاكنا وتعجبوا منه. من بعثنا من مرقدنا؟ والقوم لاختلاط عقولهم ظنوا أنهم كانوا نياما، ولم يدركوا عذاب القبر فاستفهموا عن موقظهم، ولكنهم أجيبوا من الله على طريقة الأسلوب الحكيم: لا تسألوا عن الباعث والموقظ فلستم نياما وليس الباعث يهمكم وإنما الذي يهمكم حقا أن تسألوا ما هذا البعث ذو الأهوال؟ وما هذا الموقف الرهيب؟! والجواب إذا: هذا الذي وعدكم به الرحمن وقد صدق المرسلون فيما قالوا عنه. وما كانت الفعلة التي حكيت قبل وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ إلا صيحة واحدة لا أكثر ولا أقل، وهي نفخ إسرافيل في البوق، وروى أنها قوله بصوت مرتفع: «أيتها العظام النخرة والأوصال المتقطعة والشعور الممزقة إن الله يأمركم أن تجتمعوا لفصل القضاء» . ما كانت إلا صيحة واحدة فإذا هم مجموعون لدينا محضرون لفصل الحساب، فاليوم هو يوم الفصل ليس بالهزل، هو يوم القضاء العدل فلا تظلم نفس شيئا. ولا تجزون إلا بما كنتم تعملون وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ [سورة الأنبياء آية 47] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 187 أصحاب الجنة وأصحاب النار [سورة يس (36) : الآيات 55 الى 65] إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) المفردات: فاكِهُونَ الفاكه والفكه: المتنعم والمتلذذ. ومنه الفاكهة، لأنها مما يتلذذ بها يَدَّعُونَ أصله: يدتعون، والمراد: يتمنون، وعليه قولهم: ادع على ما شئت، بمعنى تمن على بما شئت وَامْتازُوا: تميزوا وانفردوا أَلَمْ أَعْهَدْ: ألم أوص، والعهد: الوصية جِبِلًّا: جمع جبلة، والمراد خلقا كثيرا نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ: نمنعها من الكلام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 188 المعنى: هذا يوم الفصل والقضاء العدل، فلا تظلم نفس شيئا، ولا تجزى إلا بأعمالها ويقال لهم زيادة في إيلامهم: إن أصحاب الجنة اليوم في شغل عنكم بنعيمهم ومتاعهم فاكهون. نعم إن أصحاب الجنة الذين هم يتمتعون بها في شغل، وأى شغل؟ إنه شغل من سعد بالجنة ونعيمها، وفاز بنيل ذلك النعيم المقيم والملك الكبير، وتمتع بما أعده الله للمصطفين من عباده الأبرار ثوابا لهم وإكراما، وجزاء لهم على ما كانوا يعملون، وما أدق وصفهم بقوله: فاكهون، أى: متنعمون ومتلذذون بما هم فيه، فحقّا إنهم لفي شغل عن النار وأصحاب النار، فيا ويلكم أيها المشركون من النار ومن عذابها!! وأزواجهم وهم في ظلال وارفة، على الأرائك والسرر متكئون، يسمرون ويتمتعون ويرزقون رزقا كريما، لهم فيها فاكهة كثيرة، ولهم ما يتمنون مما لا يقع تحت حصر، ومما لا عين رأته ولا أذن سمعته، ولا خطر على قلب بشر. تحيتهم سلام يقال لهم.. قولا من رب رحيم، وهذا السلام بواسطة الملائكة أو من الله مباشرة مبالغة في تعظيمهم، وزيادة في إكرامهم والحفاوة بهم. هذا حال المؤمنين العاملين. نعيم مقيم في جنات الخلد مع التحية والإكرام. أما الفريق الثاني فيقال لهم: امتازوا وانفردوا عن المؤمنين أيها المجرمون، وكونوا على حدة، وحين يحشر الناس ويذهب بالمؤمنين إلى الجنة وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ. فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ. وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا وَلِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ [الروم 14- 16] . ثم يقال لهم تأنيبا وتوبيخا على ما مضى من أعمالهم: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ وعهد الله ببني آدم ما ركب فيهم من القوى العاقلة والفطرة السليمة التي تهتدى إلى الخير، وما أرسل إليهم من رسل مبشرين ومنذرين يدعونهم إلى عبادة الرحمن، ويحذرونهم دائما من طاعة الشيطان، حذرنا الله بواسطة رسله من الشيطان فإنه لنا عدو مبين بين العداوة، وأمرنا بعبادته وحده والاستعانة به وحده فهو الله لا إله إلا هو. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 189 هذا- الإشارة إلى ما عهد به الله من طاعة الرحمن وعصيان الشيطان- صراط مستقيم وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [سورة الأنعام آية 153] . هذا الدين هو الدين الحق وهو الصراط المستقيم الذي لا عوج فيه لأنه من رب العالمين. ولقد أضل منكم الشيطان خلقا كبيرا، ووسوس لهم وزين لهم فعل السيئات حتى وقعوا في المعاصي والعذاب الشديد، أعميتم فلم تكونوا تعقلون؟ هذه جهنم- والإشارة لها لتميزها وظهور آثارها الشديدة- التي كنتم توعدون بها فتكذبون، ويقال لهم مع هذا: اصلوها وذوقوا حرها جزاء لكم بما كنتم تكفرون. روى أنهم حين يقال لهم ذلك يجدون ما صدر عنهم في الدنيا فيخاصمون فتشهد عليهم جيرانهم وأهلهم وعشيرتهم فيحلفون أنهم ما كانوا مشركين ويقولون: لا نجيز علينا شاهدا إلا من أنفسنا، فيختم الله على أفواههم، ويقال لأعضائهم: انطقى فتنطق بما صدر منها، وهذا يفسر قوله تعالى: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ. ولعل سائلا يقول: ما السر في جعل الكلام لليد والشهادة للرجل؟ والجواب كما هو مذكور في كتاب الخازن: أن اليد تباشر والرجل تكون حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة بما رأى، وقول الفاعل إقرار على نفسه بما فعل. فضل الله على الناس كبير [سورة يس (36) : الآيات 66 الى 68] وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 190 المفردات: لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ الطمس: تغطية شق العين حتى تعود ممسوحة، والطميس والمطموس: الأعمى الذي ليس في عينه شق فَاسْتَبَقُوا: تسابقوا إلى الصراط وبادروا إليه فَأَنَّى: فكيف لَمَسَخْناهُمْ المسخ: تبدل الخلقة وقلبها حجرا أو جمادا أو بهيمة نُعَمِّرْهُ: نطل عمره نُنَكِّسْهُ من التنكيس، مأخوذ من نكست الشيء أنكسه نكسا: قلبته على رأسه فانتكس. المعنى: الله- سبحانه وتعالى- صاحب النعم والفضل الكبير على الناس جميعا مسلمهم ومشركهم، ولو شاء إزالة نعمة البصر عنهم فيصيروا عميا لا يقدرون على التردد والسير في الطريق الواضحة المألوفة لهم لفعل، ولكنه فضلا منه وإحسانا أبقى عليهم نعمة البصر فحق الناس أن يشكروا ولا يكفروا. ولو شاء ربك لمسح أعين الكفار، وأذهب أحداقهم وأبصارهم حتى لو أرادوا سلوك الطريق الواضح المعروف لهم لما استطاعوا، فكيف يبصرون حينئذ؟! ولو شاء ربك لمسخ الكفار والعصاة قردة أو خنازير أو حجارة، ولو شاء لمسخهم مسخا يحل بهم في منازلهم فلا يقدرون أن يفروا منه بإقبال ولا بإدبار وما استطاعوا ذهابا، ولا رجوعا، ولكنه لم يشأ ذلك جريا على سنن الرحمة وموجب الحكمة، فكان واجب أن يقابل ذلك بالشكر والعبودية لله، هذا نقاش للكفار وبيان لموقفهم، وقطع لأعذارهم، وبيان لفضل الله عليهم، وقد كانوا يقولون: لو امتد بنا الأجل، وطال العمر لفعلنا كذا وكذا. فيقول الله لهم: أعميتم فلا تعقلون أنكم كلما دخلتم في السن وتقدمتم في العمر ضعفتم اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً «1» وقد عمركم ربكم مقدارا يمكنكم فيه من العمل والتذكر أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ «2» على أن الواجب أن تعلموا أنه كلما مر الزمان بكم وطال عمركم ازداد ضعفكم فإنه من يطل عمره انتكس خلقه وبدل سمعه صمما وبصره عمى وقوته ضعفا، ولذلك يقول الله: وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ «3» ، وقد تعوذ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من أن يرد إلى أرذل العمر..   (1) - سورة الروم آية 54. (2) - سورة فاطر آية 37. (3) - سورة النحل آية 70. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 191 إثبات الوحدانية لله مع نفى الشعر عن رسول الله [سورة يس (36) : الآيات 69 الى 76] وَما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَمِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَمَشارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ (73) وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ (76) المفردات: الشِّعْرَ: كلام موزون مقفى وَيَحِقَّ الْقَوْلُ: يثبت مالِكُونَ: ضابطون وقاهرون وَذَلَّلْناها لَهُمْ: سخرناها لهم مُحْضَرُونَ: يدفعون عنهم ويغضبون لهم. تقدم ما يتصل بالوحدانية في قوله: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ وما يتعلق بالحشر في قوله: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وبقي الأصل الثالث وهو الرسالة يتكلم عنها هنا. المعنى: الشعر نوع من الكلام العربي له طابع خاص، ووزن خاص، وهو يعتمد على وحدة القافية، يعنى بالخيال الخصب، والتصوير الرائع والعاطفة المشبوبة، ولهذا لا يتحرى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 192 الشاعر غالبا في كلامه الصدق، ولا يلتزم جادة الصواب، بل تراه كما وصفه القرآن أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ. وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ «1» ، وقد قيل: أعذب الشعر أكذبه، وقبيل مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم ظهر التكسب بالشعر، وتعرض الشعراء للقول بالحق وبالباطل، وظهر بعد العصر الإسلامى الأول التكسب بالشعر، وصار صنعة يتحاشاها الأشراف لهذا وأشباهه لم يقل النبي الشعر، وما كان ينبغي له، وقد رمى الكفار القرآن بأنه شعر مرة، وأنه سحر مرة أخرى، أو هو من عمل الكهان. وهنا يرد القرآن على المشركين هذه الدعوى الباطلة مثبتا أن الله لم يعلمه الشعر وما ينبغي له- لما قدمناه- والقرآن ليس شعرا، وإن كان أبلغ كلام وأعلاه، وكيف يكون شعرا مع أن للشعر طابعا خاصّا في وزنه ومعناه وأخيلته؟ وما القرآن إلا ذكر للعالمين، وموعظة وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمتقين، هو جلاء القلوب، وعلاج الأرواح، أنزل على النبي المصطفى لينذر به من كان حيّا من الناس. إنه لتعبير دقيق جدّا، وتصوير رائع، فإنه لا يهتدى به ولا يتعظ ولا يقبل إنذار القرآن إلا الأحياء، والأحياء في عقولهم وتفكيرهم وأرواحهم، أما الأموات فأنى يسمعون؟ وكيف يبصرون؟ فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ «2» وعند ذلك يحق القول الحق لأنه من الحق تبارك وتعالى، وتجب الحجة بالقرآن على الكافرين الذين لا يعقلون ولا يتدبرون، بل هم أموات لا يشعرون، وما لهم ينكرون كون القرآن من عند الله، أهم في شك من قدرته؟ أم هم في غفلة عن قوة إعجازه ودلالته على أنه من عند الله؟ ألم يعلموا خلقهم ولم يروا أنّا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون فالله خلق الحيوانات وذللها فنحن متصرفون فيها مختصون بمنافعها. ضابطون لها مهما كان الإنسان صغيرا ومهما كان الحيوان ضخما كبيرا. يصرفه الصبى بكل وجه ... ويحبسه عن الخسف الغرير وتضربه الوليدة بالهراوى ... فلا غير لديه ولا نكير وذللناها لهم فمنها ركوبهم، ومنها أكلهم، ومنها شربهم، ولهم فيها منافع أخرى كالأصواف والأوبار والجلود وغيرها. أفلا يشكرون الله على ذلك؟ ما فعلوا من ذلك شيئا.   (1) - سورة الشعراء الآيتان 225، 226 (2) - سورة الروم آية 52. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 193 واتخذوا من دون الله آلهة راجين منها النصرة، آملين منها المنفعة، وما علموا أنهم لا يستطيعون نفعا ولا ضرّا، وأنهم لا ينصرون أحدا، بل إن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب، والحال أن المشركين لهذه الآلهة جند محضرون في الدنيا يخدمون، ويذبون عنهم، ويغضبون لهم، والآلهة لا يستطيعون لهم شيئا ولا قدرة عندهم، والأمر على خلاف ما توهموا، بل إنهم يوم القيامة جند معدون لهم محضرون لعذابهم لأنهم وقود للنار، وإذا كان الأمر كذلك فلا يهمنك أمرهم، ولا تحزن لتكذيبهم وأذاهم، إن ربك عالم بسرهم وعلنهم وسيجازيهم على أعمالهم. إثبات البعث [سورة يس (36) : الآيات 77 الى 83] أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَهُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83) المفردات: نُطْفَةٍ المراد: ذرة من المنى خَصِيمٌ: مجادل في الخصومة مَثَلًا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 194 المراد: ساق أمثلة عجيبة غريبة كغرابة المثل رَمِيمٌ من رم العظم: إذا بلى بَلى: حرف جواب كنعم: إلا أنه يختص بالاستفهام الإنكارى الذي هو بمعنى النفي أَمْرُهُ: شأنه في الإيجاد مَلَكُوتُ: هو الملك التام. المعنى: هذا كلام مستأنف مسوق لبيان بطلان إنكارهم البعث وإثباته بالدليل القاطع، بعد بيان بطلان إشراكهم بالله بالأدلة المشاهدة، ألم «1» يتفكر الإنسان ولم يعلم أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم بين الخصومة؟ ألم يعلموا خلقه تعالى لأسباب معايشهم ولم يعلموا خلقه تعالى لأنفسهم مع كون العلم بذلك في غاية الظهور والوضوح، ورجوع الإنسان بنفسه إلى مبدأ خلقه، وإلى نشأته الأولى، وأنه خلق من ماء مهين من نطفة قذرة تخرج من مجرى البول، ومع ذلك يفاجئ بالخصومة والجدل للخالق الكبير المتعال، إن هذا لشيء عجيب تنكره العقول السليمة. وقوله تعالى: (فإذا هو خصيم مبين) داخل في حيز الإنكار والتعجب كأنه قيل: أو لم ير الإنسان أنا خلقناه من أخس الأشياء وأحقرها ففاجأنا بالخصومة في أمر يشهد بصحة مبدأ خلقه شهادة بينة. وروى أن بعض المشركين كأبى بن خلف والعاص بن وائل السهمي ذهبوا يجادلون النبي صلّى الله عليه وسلّم ومعهم عظام بالية قد رمت فقال أحدهم: يا محمد أترى أن الله يحيى هذا بعد ما رم؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «نعم ويبعثك الله ويدخلك النّار» ونزلت هذه الآية وَضَرَبَ لَنا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ أى: ونسى خلقنا إياه من نطفة من منى يمنى ثم صار ذا عقل وتفكير وإرادة. عجبا لهذا الإنسان وإنكارا لقوله وضربه الأمثال، أى: إتيانه بقصة غريبة عجيبة تشبه في غرابتها المثل، وهي قوله: من يحيى العظام وهي رميم؟ أتعجب؟ قل لهم يا محمد: يحييها الذي أنشأها أول مرة فمن قدر على الإيجاد الأول من العدم قادر بلا شك على الإعادة بل هو أهون عليه، ولله المثل الأعلى، وهو بكل شيء عليم.   (1) الهمزة للإنكار مع إفادة التعجب، والواو للعطف على مقدر ذكرناه في الشرح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 195 يحييها الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون، وكان أهم شيء يدور في أذهانهم، ويعمى بصائرهم أن العظام البالية أصبحت باردة يابسة لا تقبل الحياة، والحياة لا بد لها من حرارة فمن الذي يحيى هذه العظام؟ والله يضرب الأمثال لهم بأنه يجعل من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم من ذلك الشجر الأخضر توقدون. والمشاهد أن الرجل يأتى بشجر (السنط) وهو أخضر مورق فيوقد فيه النار فتلتهب. وصدق الله الذي جعل من الشجر الأخضر نارا. وهم يقولون: إن المشهور بذلك شجر المرخ والعفار. كان يتخذ من المرخ الزند الأعلى ومن العفار الزند الأسفل فإذا ما احتكا بشدة أوقدا نارا مع أنهما أخضران يقطران ماء. أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ أو ليس الذي خلق السموات والأرض مع كبر جرمهما وعظم شأنهما بقادر على أن يخلق مثل الإنسان في الصغر والضعف بالنسبة لهما؟ بلى- نعم- وهو جواب من الله تعالى يقرر قدرته على الخلق. وهو الخلاق كثير الخلق. العليم كثير العلم. ومن كان كذلك فلا عجب أن يخلق الإنسان وغيره، إنما أمره وشأنه إذا أراد إيجاد شيء أن يقول له: كن فهو يكون، وهل هناك لفظ (كن) ؟ ذهب إلى هذا السلف مفوضين أمره وحقيقته إلى علام الغيوب. وقال الجمهور من العلماء: ليس هناك لفظ (كن) وإنما المراد تمثيل لقدرة الله في مراده يأمر الأمر المطاع للمأمور المطيع في سرعة الحصول من غير امتناع ولا توقف، وإذا كان الأمر كذلك فسبحان الله الذي بيده الملك التام لكل شيء. وإليه وحده ترجع الخلائق. وهذا تنزيه لله- سبحانه وتعالى- عما وصفوه إذ بيده الملك وهو القادر على كل شيء وإليه يرجع الأمر كله، فاعبدوه وقدسوه ووحدوه سبحانه وتعالى عما يشركون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 196 سورة الصافات مكية بالإجماع وآياتها ثنتان وثمانون ومائة. وهي كباقي السور المكية فيها الكلام على التوحيد وإثبات البعث. والتعرض للمشركين وأحوالهم في الدنيا والآخرة والتعرض لإثبات النبوة. والكلام على المؤمنين وأحوالهم في الدنيا والآخرة. مع ذكر قصص بعض الأنبياء وأممهم، ثم كان ختام السورة مع مشركي مكة. وتقوية عزيمة المسلمين. وتوهين عضد الكافرين. إن إلهكم لواحد مع إثبات البعث [سورة الصافات (37) : الآيات 1 الى 21] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَرَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَلَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9) إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10) فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَقالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 197 المفردات: وَالصَّافَّاتِ صَفًّا الصف: أن يجعل الشيء على خط مستقيم، يقال: صففت القوم فاصطفوا: إذا أقمتهم على خط مستقيم لأجل الصلاة أو الحرب مثلا فَالزَّاجِراتِ زَجْراً: الزجر الدفع بقوة الصوت، يقال: زجرت الغنم أو الإبل: إذا فزعت من صوتك فَالتَّالِياتِ: القارئات قرآنا الْمَشارِقِ: جمع مشرق، وهو مطلع الشمس الْكَواكِبِ: هي النجوم والأجرام السماوية التي لا يعلمها إلا خالقها مارِدٍ: عات عار عن الخيرات، مأخوذ من قولهم: شجر أمرد: إذا تعرى عن الورق، ورجل أمرد لتجرده من الشعر. والشيطان من شاط: إذا احترق، لا يَسَّمَّعُونَ: لا يتسمعون مصغين إلى الملأ الأعلى من الملائكة وَيُقْذَفُونَ: يرمون ويرجمون دُحُوراً: طردا وإبعادا واصِبٌ: دائم خَطِفَ الخطف: الاختلاس والأخذ بسرعة وخفة على غفلة من المأخوذ منه شِهابٌ الشهاب: الشعلة الساطعة من النار الموقدة، والمراد به العارض المعروف في الجو الذي يظهر كأنه كوكب منقض من السماء، وهو الذي يسمى بالشهب والنيازك ثاقِبٌ أى: مضيء، أو يثقب ما ينزل عليه فَاسْتَفْتِهِمْ: فاستخبرهم لازِبٍ: شديد متماسك، يقال: لزب يلزب: إذا اشتد ولزق يَسْتَسْخِرُونَ: يبالغون في السخرية داخِرُونَ: صاغرون وذليلون، يقال: دخر: ذل وصغر. المعنى: يقسم الله- سبحانه وتعالى- بالملائكة المصطفين صفوفا للعبادة، أو الصافات أجنحتها في الهواء انتظارا لأمر الله، وقيل: المراد بها الطير تصف أجنحتها في الهواء وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ فالملائكة التي تزجر ما نيط بها من الأجرام العلوية والسفلية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 198 وغيرها على وجه يتناسب بالمزجور، ومن جملة ذلك زجر العباد عن المعاصي بالإلهام وزجر السحاب، أى: سوقها إلى مكانها، زجر الشيطان عن الوسوسة والإغواء، فالملائكة التاليات ذكرا على العباد، إذا هم الذين يجيئون بالكتاب من عند الله- عز وجل- إلى الناس. ولعلك تسأل كيف يقسم الله بالملائكة أو غيرها مع أن الشرع ينادينا بألا نقسم إلا بالله أو بصفة من صفاته؟ ولهذا قيل: إن المراد ورب الصافات صفاّ.. استنادا إلى أنه صرح بهذا في قوله تعالى: وَالسَّماءِ وَما بَناها «1» ويظهر- والله أعلم- أن الله يقسم بهذه الأنواع إظهارا لعظمتها، وبيانا لجميل صنعها، وهذا بالتالى يشعرنا بعظم الخالق وجلال قدره، وكمال قدرته إذ هذه آثاره: «2» إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ وهذا جواب القسم السابق، ولا يقال: إنه كلام مع منكر فماذا يفيد القسم؟ والجواب أنه قسم متبوع بالبرهان الذي يثبت الوحدانية لله- تعالى- رب السموات والأرض، وما بينهما من خلق، ورب مشارق الشمس والكواكب كلها، فإن وجود هذه الكائنات على ذلك التقدير البديع والنظام المحكم أوضح دليل على وحدانية الله- تعالى- وعلى كمال قدرته. وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد وللشمس مشارق بعدد أيام السنة الشمسية، فإن للشمس كل يوم مشرقا خاصا، ولها في كل عام مشرقان رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ «3» باعتبار أقصى مشرق في الشمال وأقصى مشرق في الجنوب، واكتفى بالمشرق عن المغرب لأن عظمة الله في المشرق أظهر وأوضح. إنا زينا السماء الدنيا التي هي أقرب السموات من أهل الأرض بزينة هي الكواكب فإن الكواكب بذاتها وأوضاعها زينة وأى زينة؟ زيناها وحفظناها حفظا من كل شيطان مارد، فالله- سبحانه وتعالى- خلق الكواكب زينة للسماء وحفظا لها من كل شيطان مارد عات خارج عن الطاعة. متعر عن الخيرات. لئلا يسمعوا «4» مصغين إلى الملأ   (1) - سورة الشمس آية 5. (2) - أما الفاء في قوله: والصافات صفا، فالزاجرات زجرا فإنها للترتيب الرتبي. (3) - سورة الرحمن آية 17. (4) - ثم حذفت أن فرفع الفعل، والجملة مستأنفة استئنافا نحويا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 199 الأعلى: أهل السماء الدنيا فما فوقها وهم الملائكة، وكانوا أعلين بالنسبة إلى ملأ الأرض، وكانت الشياطين يتسمعون، ولكن لا يسمعون، ويقذفون، أى: الشياطين ترمى وترجم من كل جانب من جوانب السماء إذا قصدوا الصعود إليها، أى: كل من صعد من جانب رمى منه الدحور والطرد والإبعاد. ولهم في الآخرة عذاب آخر غير عذاب الرجم بالشهب، عذاب دائم إلى ما شاء الله. لا يسمعون إلى أخبار السماء، إلا من اختلس من كلام الملائكة مسارقة تبعه شهاب يثقب ما ينزل عليه. ومن الثابت أن الشياطين كانت قبل البعثة ترمى وقتا، ولا ترمى وقتا، وترمى من جانب ولا ترمى من جانب، وبعد البعثة صاروا يرمون واصبا من كل جانب، كانت الجن قبل البعثة كالمتجسسة من الإنس قد يبلغ الواحد حاجته، وقد لا يبلغ، وقد يقبض عليه ويعاقب، وقد ينجو. فلما بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم زيد في حفظ السماء. وأعدت لهم الشهب في كل مكان ليدحروهم عن جميع جوانب السماء ولا يقروا في مقعد من المقاعد التي كانوا يقعدونها فصاروا لا يسرقون السمع، ولا يقدرون على سماع شيء مما يجرى فيها إلا أن يختطف أحد منهم بخفة وحركة سريعة خاطفة فيتبعه شهاب ثاقب قبل أن ينزل على الأرض فيلقيها إلى إخوانه، وبهذا بطلت الكهانة، وثبتت النبوة والرسالة. وقد كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع حتى إذا قضى الله أمرا وتحدث به أهل السماء استرقوه وأخبروا به بعض الكهان فيضيفون إليه الكثير فتصدقه الناس في الحق وفي الباطل، حتى إذا بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم وجدت الشياطين في السماء الشهب مرصودة لكل من يحاول السمع إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً. وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً [سورة الشعراء آية 212] [سورة الجن الآيتان 8، 9] . فانظروا أيها الناس إلى عظم ملكوت الله وإلى مظاهر قدرته وقدس نوره- جل جلاله- انظروا واعتبروا لعلكم تهتدون.. وإذا كان الأمر كذلك فاستفتهم- الخطاب لأهل مكة ولكل مشرك بالله- أهم أشد خلقا؟ بل أم من خلقنا من عوامل السماء وما فيها من ملائكة وأفلاك وعوالم الأرض- وما تقل من بحار وجبال وأشجار وأنهار؟! - الجزء: 3 ¦ الصفحة: 200 لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «1» إنما خلقنا الإنسان من طين لازب لاصق، وهناك بعد بين الإنسان ككائن حي وبين التراب أو الطين، ولا تستبعدوا البعث ولا تنكروه، بل- إضراب انتقالي من أسلوب لأسلوب- عجبت أنت يا محمد من صنع الله وقدرته، وامتلأ قلبك- وكذا قلب كل مؤمن- خشية من الله وهيبة من جلاله! وهم يسخرون منك ومن تعجبك ومما تريهم من الآيات، وقيل: المعنى: إنك عجبت يا محمد من إنكارهم للبعث والتوحيد مع ظهور الآيات ناطقة بهذا وهم يسخرون من الآيات، وإذا ذكروا بآية ووعظوا بها لا يذكرون، وإذا رأوا آية يستسخرون، أى: يبالغون في السخرية، ويقولون: إنه سحر وأمر عجيب خفى علينا سببه، أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما بالية أنبعث؟! أو آباؤنا الأولون الذين ضاعوا في الأرض وغابت آثارهم فيها أيبعثون كذلك؟! قل لهم يا محمد: نعم ستبعثون أنتم وآباؤكم، وأنتم صاغرون أذلاء، وستأتون فرادى كما خلقكم ربكم أول مرة. إذا كان الأمر كذلك فإنما هي- البعثة المفهومة من السياق العام- زجرة واحدة، وهي النفخة الثانية، فإذا الخلائق كلها مسلمها ومشركها طائعها وعاصيها قيام من مراقدهم أحياء يبصرون كما كانوا في الدنيا يشعرون بكل شيء، وقالوا: يا ويلنا احضر فهذا أوانك! هذا يوم الدين!! هذا يوم الفصل الذي كنتم به تكذبون، وقد كانوا به يكذبون. من مواقف المشركين يوم القيامة [سورة الصافات (37) : الآيات 22 الى 38] احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ وَما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37) إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38)   (1) - سورة غافر آية 57. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 201 المفردات: احْشُرُوا: اجمعوا، والحشر: الجمع وَأَزْواجَهُمْ: أشباههم وقرناءهم من عبدة الأصنام والكواكب وغيرها فَاهْدُوهُمْ: دلوهم وعرفوهم طريقها وَقِفُوهُمْ احبسوهم عند الصراط لا تَناصَرُونَ: لا ينصر بعضكم بعضا. مُسْتَسْلِمُونَ: منقادون خاضعون يَتَساءَلُونَ: يتلاومون ويتخاصمون عَنِ الْيَمِينِ: عن الجهة التي نأمنها ونظن أن فيها الخير سُلْطانٍ: قوة وحجة طاغِينَ: متجاوزين الحدود فَحَقَّ عَلَيْنا: فثبت ووجب فَأَغْوَيْناكُمْ: فدعوناكم إلى الغي. المعنى: أيها الملائكة: احشروا الذين ظلموا أنفسهم بالشرك إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1» احشروهم وأزواجهم وقرناءهم ومن على شاكلتهم من عبدة الأصنام والأوثان والكواكب وكل من عبد إلها دون الله: احشروهم وما كانوا يعبدونه من دون الله، فإنهم حطب جهنم- وقودها- وهم لها واردون، فكل عابد ومعبود في النار إلا عيسى ابن مريم وعلى بن أبى طالب، ومن عبد من الصالحين بلا ذنب، وهذه زيادة في   (1) - سورة الفرقان آية 13. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 202 تحسيرهم، وإيلامهم، احشروهم فاهدوهم إلى صراط جهنم، وعرفوهم طريقها، ووجهوهم إليها، وفي هذا تهكم بهم، وقفوهم في الموقف واحبسوهم فيه لماذا؟ إنهم مسئولون، ولكن عن أى شيء يسألون؟ لا يسألون عن عقائدهم، ولا عن أعمالهم فإن ذلك قد حصل، وإنما يسألون عما يتضمنه قوله: ما لكم لا تناصرون؟! أى مالكم لا ينصر بعضكم بعضا كما كنتم في الدنيا؟! وهذا سؤال للتوبيخ والتهكم بهم. لا يقدر بعضهم على نصرة أخيه بل هم اليوم مستسلمون ومنقادون للعذاب لا ينازعون أبدا في أى شيء. وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون عن طريق الخصومة والجدال العنيف، ولكن كيف يتساءلون؟ فأجيب: قال «1» الأتباع للرؤساء: إنكم أيها المتبوعون كنتم تأتوننا عن اليمين، واليمين عند العرب اصطلاح خاص فإنهم يتيامنون بها ويزاولون بها أشرف الأشياء، وبالشمال يتشاءمون، ويتناولون بها أرذل الأشياء وأحقرها، جاء القرآن فجعل اليمين لها كرامتها، ووعد المحسن باستلام كتابه بيمينه، والمسيء يستلم كتابه بشماله، وكان النبي يحب التيامن، ومن هنا استعيرت اليمين، أى: استعملت في جهة الخير وناحيته فقيل أتاه عن اليمين أى من قبل الخير. وفي الآية يكون المعنى: إنكم أيها الرؤساء كنتم تأتوننا عن اليمين، أى: من جهة الخير فتصدوننا عنه، وكنتم تأتوننا عن اليمين، أى: من الجهة التي نحبها ونثق فيها فكنتم تحلفون لنا فنصدقكم، وكنتم تأتوننا عن اليمين، أى: عن الدين، أى: من قبل الدين فتهونون علينا أمر الشريعة وتنفروننا عنها. وبعضهم يفسر اليمين بالقوة والقهر، بمعنى: كنتم تأتوننا عن جهة القوة والسيطرة وبحكم الرياسة لكم في الدنيا فتضلوننا سواء السبيل. وماذا كان رد المتبوعين؟ قالوا: بل لم تكونوا مؤمنين بقلوبكم حتى يصدق علينا أننا نقلناكم من الإيمان إلى الكفر، بل كنتم قوما بطبعكم طاغين متجاوزين الحدود المعقولة مثلنا.   (1) - كل قول في القرآن كهذا (قالوا. قال ... إلخ) يكون جوابا عن سؤال مقدر، فهو استئناف بيانى واجب الفصل عن الجملة السابقة إذ هو جواب، والجواب يفصل عن السؤال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 203 فحق علينا وثبت وعد ربنا لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [سورة السجدة آية 13] إنا لذائقو العذاب الأليم لأننا عصينا أمر ربنا وأمر رسله. فلما وجب وثبت علينا قضاء ربنا- وهو الوعيد السابق- أغويناكم لأننا صرنا أشقياء مثلكم، ودعوناكم إلى الغي دعوة ملجئة فاستجبتم لنا باختياركم واستحبابكم الغي على الرشد، إنا كنا غاوين فلا عتب علينا في هذا، وإذا كان الأمر كذلك فإنهم يومئذ في العذاب مشتركون. إن بطش ربك لشديد، وإنه يفعل بالمجرمين الأتباع والمتبوعين كلهم مثل ذلك الفعل، وهو عذابهم جميعا إنهم كانوا إذا قيل لهم: لا إله إلا الله يستكبرون عن النطق بها والإيمان بوحدانية الله وتصديق رسوله، ويقولون كبرا: أإنا لتاركوا آلهتنا وعبادتهم لرجل شاعر؟ يقول الشعر الذي لا يعتمد على الحق، ويقصدون بذلك القرآن وأنه شعر، وهذا الشاعر مجنون، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا وزورا. بل هو الرسول المصطفى من عند الله الذي جاء بالحق والنور، والهدى والشفاء لما في الصدور، وصدق المرسلين جميعا ومُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ وما حال هؤلاء المكذبين الضالين؟ إنهم لذائقو العذاب الأليم، وما تجزون إلا ما كنتم تعملون.. المخلصون في الجنة [سورة الصافات (37) : الآيات 39 الى 61] وَما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 204 المفردات: الْمُخْلَصِينَ: هم الذين أخلصهم الله لعبادته، واصطفاهم لدينه وطاعته أو هم المخلصون الذين أخلصوا لله في العبادة فَواكِهُ: وهي جمع فاكهة، وهي الثمار بأى شكل بِكَأْسٍ: الكأس في اللغة يطلق على الإناء مع شرابه، فإن لم يكن فيه خمر مثلا فهو إناء أو قدح مِنْ مَعِينٍ: من خمر تجرى كما تجرى العيون على وجه الأرض، وترى بالعين غَوْلٌ: هلاك وفساد يُنْزَفُونَ نزف الرجل ينزف فهو منزوف ونزيف: إذا سكر، وأصل النزف: نزع الشيء وإذهابه بالتدريج، والمراد لا تذهب عقولهم قاصِراتُ الطَّرْفِ: قد قصرن طرفهن على أزواجهن فلا ينظرن إلى غيرهم، والطرف: النظر عِينٌ: جمع عيناء، وهي المرأة واسعة العين مع حسنها مَكْنُونٌ: مصون لا غبار عليه قَرِينٌ: صديق ملازم الْمُصَدِّقِينَ أى: بالبعث، وفي قراءة: المصّدّقين أى: المنفقين لَمَدِينُونَ: لمجزيون ومحاسبون، وقيل: لمسوسون مربوبون، يقال: دانه: ساسه، وفي الحديث: العاقل من دان نفسه سَواءِ الْجَحِيمِ: وسطها إِنْ كِدْتَ إن هذه هي المخففة من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 205 الثقيلة واسمها ضمير الشأن، واللام بعدها هي الفارقة لَتُرْدِينِ الإرداء: الإهلاك نِعْمَةُ رَبِّي: عصمته وتوفيقه الْمُحْضَرِينَ: الذين أحضروا العذاب وذاقوه. ما مضى كان في شأن الكفار وجزائهم، وقد حكم الله عليهم بأنهم لذائقو العذاب الأليم، وما يجزون إلا بما كانوا يعملون. لكن عباد الله المخلصين لهم جنات الخلد، فيها ينعمون بنعيم دائم مقيم، ولعل ذكر هؤلاء وهؤلاء وجزاء كل متجاورين أدعى للتأثير. وأبلغ في إظهار الفرق جليا للناس لعلهم يعتبرون. المعنى: إنكم أيها الناس لذائقو العذاب الأليم إلا عباد الله الصالحين في عبادتهم الذين أخلصهم الله لطاعته، وحباهم بتوفيقه وهدايته، أولئك لهم رزق معلوم كنهه، معروف بطيب الطعم والرائحة، وجمال المنظر وحسن المخبر، هذا الرزق المعلوم فسر «1» بالفواكه وهي كل ما يؤكل تلذذا ولا يؤخذ تقوتا إذ ليسوا في حاجة إلى ما يقيتهم. وهذا الرزق المعلوم، والفواكه الطيبة يأكلها أصحابها في حال أنهم مكرمون ومعظمون، وهذا النعيم الروحي بعد النعيم الجسماني وليس أكمل عند النفس، ولا أفضل عند الإنسان من التكريم مع الإكرام. لا سيما إذا كان ذلك في جنات خلقت للنعيم المقيم، والمتاع الدائم. وهم فيها على سرر متقابلون، والتقابل أتم للسرور، وآنس للنفس، فلا خصام ولا جدال، بل الوجوه متقابلة، والصدور منشرحة، وهم في مجالسهم يطاف عليهم بخمر في صحاف من ذهب، ويطوف بها عليهم غلمان كأنهم لؤلؤ مكنون، يطاف عليهم بخمر من معين، موصوفة بأنها بيضاء لذيذة للشاربين، هذه الخمر ليست كخمر الدنيا التي فيها السكر والعربدة، والقيء، وإثارة الشهوة الحيوانية، وهلاك النفس والمال وضياع الشرف والكرامة.   (1) - وهذه إشارة إلى أن فواكه تعرب بدلا أو عطف بيان للرزق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 206 خمر الآخرة لا فيها غول، ولا هم ينزفون، ما أروع هذا التعبير وما أبلغه!! خمر الآخرة ليس فيها فساد، ولا هلاك للنفس، وللعقل، وللمال، ولا للشخصية، أى: لا فيها غول، وليس هم لأجلها ينزفون، أى: لا تذهب الخمر عقولهم، ولعل إفراد هذا بالذكر مع أنه داخل في عموم قول: لا فيها غول دليل على أن فساده كثير، وخطر ضياع العقل كبير، حتى كأنه جنس يستحق الذكر برأسه. وعندهم زوجاتهم قاصرات الطرف، قد قصرن أبصارهن عليهم فلا يمددن طرفا إلى غيرهم، فهن عرب- متحببات إلى أزواجهن- أتراب، عين، واسعات العيون والأحداق ومع هذا فهن قاصرات الطرف، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، كأنهن البيض المكنون في البياض والصفاء، والحفظ والنقاء. يطاف عليهم بخمر كأنها النهر فيشربون ويتحادثون كما هي عادة المجتمعين للشرب. فأقبل بعضهم على بعض يتجاذبون أطراف الحديث يتساءلون عما جرى لهم في الدنيا، وما أحلى الذكرى عند فراغ البال، ورفاهية الحال. ماذا قالوا؟ قال قائل منهم في أثناء حديثه: إنى كان لي قرين في الدنيا يقول موبخا ومؤنبا لي على ما كنت عليه من الإيمان والتصديق بالبعث يقول: أإنك لمن المصدقين بيوم القيامة؟ أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما نبعث؟ أإنا لمدينون، أى: لمبعوثون مجازون؟ وهكذا يقول الكفار! قال ذلك القائل الذي كان له قرين يعترض عليه لأنه آمن قال لجلسائه: هل أنتم مطلعون «1» على أهل النار لأريكم هذا القرين ومآله، فاطلع على أهل النار من كوة أو على كيفية- الله أعلم بها- فرآه- أى: القرين- في وسط الجحيم يتلظى بالنار المسعرة التي وقودها الناس والحجارة، وبئس القرار. وماذا قال له؟ قال لقرينه: تالله إن كدت وقاربت لتردينى وتهلكني بما كنت تفعله معى، ولولا نعمة ربي وتوفيقه وهدايته لكنت من المحضرين للعذاب كما أحضرت أنت وأحزابك. أفما نحن بميتين إلا بموتتنا الأولى «2» وهذا رجوع إلى محاورة جلسائه ابتهاجا بما منحه   (1) - الاستفهام هنا مراد به العرض أو الأمر، أى: اطلعوا. (2) - الاستفهام للتقرير فيه معنى التعجب، والفاء فيه للعطف، والمعطوف عليه تقديره: أنحن مخلدون؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 207 الله من فضل، وما أجزله له من عطاء، وتعريضا بالقرين، وعبرة وعظة للناس أجمعين، أنحن مخلدون في الجنة فما نحن بميتين أبدا إلا موتتنا الأولى التي حصلت في الدنيا، وما نحن بمعذبين كأصحاب النار؟!! إن هذا- النعيم الدائم المقيم وهذا الفضل العظيم- لهو الفوز العظيم الذي يستحق ذلك الاسم الكريم، لمثل هذا الأمر الجليل ينبغي أن يعمل العاملون، ويطلب الطالبون لا أن يعمل الناس للدنيا الفانية والأعراض الزائلة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. وهذه هي جهنم مأوى الظالمين [سورة الصافات (37) : الآيات 62 الى 74] أَذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74) المفردات: نُزُلًا: هو الرزق الواسع، وذكر الراغب: ما يعد للنازل من الزاد شَجَرَةُ الزَّقُّومِ التزقم: هو البلع مع الجهد والألم للأشياء الكريهة الرائحة فِتْنَةً: ابتلاء الجزء: 3 ¦ الصفحة: 208 أو عذابا أَصْلِ الْجَحِيمِ: قعر جهنم طَلْعُها الطلع: اسم لثمر النخلة أول بروزه، وإطلاقه على ثمر هذه الشجرة مجاز لَشَوْباً الشوب: الخلط، يقال: شاب طعامه وشرابه إذا خلطهما بشيء يشوبهما حَمِيمٍ الحميم: الماء الحار يُهْرَعُونَ الإهراع: الإسراع برعدة كهيئة الهرولة، يقال: جاء فلان يهرع إلى النار: إذا استحثه البرد إليها، فهذا الفعل ملازم للبناء للمجهول. المعنى: قل يا محمد لقومك- على سبيل التوبيخ والتبكيت والتهكم-: أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم؟ والخيرية بالنسبة إلى ما اختاره الكفار على غير ذلك المعلوم في جنات النعيم الذي مضى ذكر طرف منه وكانت نهايته اللذة والسرور، أذلك خير نزلا أم شجرة الزقوم التي هي طعامه الظلمة الآثمين، والتي نهايتا الألم والحزن، وبعبارة واضحة: إن الرزق المعلوم- الذي مضى وصفه- نزل أهل الجنة. والشجرة الملعونة شجرة الزقوم نزل أهل النار، فأيهما خير في كونه نزلا..؟! إنا جعلنا شجرة الزقوم ذات الرائحة الكريهة والطعم المر البشع جعلناها فتنة للذين كفروا حيث قالوا: كيف تكون شجرة تنبت في قعر جهنم وبين النار المحرقة ورطوبة النبات بون شاسع؟ وجعلها ربك عذابا لهم في الآخرة، وأى عذاب أشد من هذا؟ إنها شجرة تنبت في قعر جهنم ثمرها كأنه رءوس الشياطين في تناهى القبح والهول وفظاعة المنظر وبشاعته «1» . فإنهم لآكلون منها فمالئون منها البطون على بشاعتها وسوء طعمها وقبح مذاقها، ثم إن لهم بعد ذلك لشرابا مخلوطا بالحميم. ويقول الكشاف ذاكرا الحكمة في الإتيان بثم هنا: إنه ذكر الطعام بتلك الكراهة والبشاعة ثم ذكر الشراب بما هو أكره وأبشع فجاء بثم للدلالة على تراخى حال الشراب عن حال الطعام. أى أن حال الشراب كانت أشد فظاعة وألما، ثم إنهم بعد ذلك كله مرجعهم ومأواهم لإلى الجحيم المهيأ لهم نزلا جزاء بما كانوا يعملون.   (1) - والعرب تشبه هنا المنظر الحسن بالملك «إن هذا إلا ملك كريم» وصاحب المنظر الكرية بالشيطان والغول، وتشبيه الشيء المحسوس بالأمر الثابت في الذهن والخيال يسمى تشبيها تخييليا وهو معروف في اللغة يقول امرؤ القيس «ومسنونة زرق كأنياب أغوال» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 209 ولقد علل القرآن استحقاقهم ما ذكر بتقليد الآباء في الدين من غير أن يكون لهم وجه حق إذ قلدوهم في الباطل بدون دليل أو حجة، وقد كان آباؤهم في ضلال مبين فهم على آثار آبائهم يهرعون ويسيرون بسرعة شديدة كأنهم مساقون بسياط من نار. ولقد ضل قبلهم أكثر الأولين في الأمم السابقة، ولقد أرسلنا فيهم أنبياء منذرين أنذروهم سوء العاقبة فانظر كيف كان عاقبة المنذرين؟ فلقد أهلكوا إهلاكا تامّا لما كفروا وكذبوا، لكن عباد الله المخلصين الذين أخلصهم الله له بتوفيقهم إلى الخير والإيمان هم على صراط مستقيم، ولهم جزاء الخلد جزاء بما كانوا يعملون. من قصة نوح [سورة الصافات (37) : الآيات 75 الى 82] وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82) المفردات: نادانا: المراد من النداء الاستغاثة الْكَرْبِ: الغم الشديد المعنى: وهذا تفصيل لما أجمل سابقا ببيان أحوال بعض المنذرين مع بيان حسن عاقبة المؤمنين وسوء عاقبة المشركين، وبدأ بقصة نوح لأنه أول الأنبياء أولى العزم، وأبو البشر بعد آدم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 210 وتالله لقد نادانا نوح واستغاث بنا، ودعا على قومه بالهلاك حيث قال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً وذلك بعد كثرة دعائه لهم إلى الإيمان فلم يزدهم إلا فرارا، فأجابه إلى طلبه أحسن الإجابة فو الله لنعم المجيبون نحن ونجيناه وأهله الذين آمنوا من الغم والكرب العظيم، والمراد نجيناهم من الغرق قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ وجعلنا ذريته هم الباقين الناجين، وتركنا عليه في الأمم التي جاءت بعده الثناء الحسن وهو سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ أى تركنا عليه هذا الكلام بعينه، والمراد أبقينا له دعاء الناس له أمة بعد أمة. إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وهذا تعليل لما ذكر من أنه من استحق الثناء والدعاء له من الأمم كلها، بكونه- عليه السلام- من زمرة المعروفين بالإحسان، وإحسان نوح مجاهدته أعداء الله- تعالى- بالدعوة إلى دينه والصبر الطويل على الأذى في سبيل الله. إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وهذا تعليل لكونه- عليه السلام- من المحسنين بوصفه بخالص الإيمان وكمال العبودية، ونجيناه وأهله، ثم أغرقنا الآخرين المغايرين لنوح- عليه السلام- في الإيمان فاعتبروا بذلك يا أولى الأبصار لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ. من قصة إبراهيم عليه السلام [سورة الصافات (37) : الآيات 83 الى 101] وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 211 المفردات: شِيعَتِهِ شيعة الرجل: أتباعه وأنصاره، وكل قوم اجتمعوا على أمر فهم متشيعون له ثم صارت بعد موت سيدنا على بن أبى طالب تطلق على جماعة خاصة جاءَ رَبَّهُ: حقيقة المجيء بالشيء نقله من مكانه والمراد هنا جاء ربه سليم القلب «1» أَإِفْكاً الإفك: أسوأ الكذب سَقِيمٌ: مريض وعليل فَراغَ مال في خفية روغان الثعلب يَزِفُّونَ: يسرعون المشي والزفيف والإسراع الْجَحِيمِ: النار الشديدة كَيْداً: شرّا. المعنى: وهذه قصة إبراهيم- عليه السلام- أبى الأنبياء جاءت بعد قصة نوح الأب الثاني للبشر، ومما يزيد المناسبة حسنا أن نوحا نجاه الله من الغرق، وإبراهيم نجاه الله من النار، وكذلك ينجى ربك المؤمنين، وإن ممن شايع نوحا وتابعه في الأصول العامة للشريعة، وإن اختلفا في الأحكام الفرعية لإبراهيم الخليل.   (1) - ففي جاء استعارة تصريحية حيث شبه إخلاصه قلبه لله بمجيئه، والجامع تحقق الفوز مما يستجلب الرضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 212 اذكر وقت أن جاء ربه بقلب سليم من كل سوء ومكروه، جاءه مخلصا صادقا إيمانه، كأنه جاء بتحفة من عنده لربه، فاستحق المثوبة والجزاء. إذ قال في هذه الحالة لأبيه وقومه: ما الذي تعبدونه؟ أنكر عليهم عبادتهم للأصنام ولا غرابة في إنكار إبراهيم هذا بعد قوله تعالى وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عالِمِينَ فقال: أإفكا آلهة دون الله تريدون «1» ؟! أى أتريدون آلهة دون الله لأجل الإفك والكذب على الناس؟ أتتخذون آلهة من دون الله الواحد القهار لأجل الإفك والكذب..؟ فما ظنكم برب العالمين إذ عبدتم غيره؟ أتظنون أنه يترككم بلا عقاب شديد جزاء على عملكم هذا القبيح؟: لا.. وقد كان إبراهيم- عليه السلام- كثير التأمل في ملكوت الله فنظر نظرة تفكر في النجوم: من خلقها؟ وكيف تسير؟ ومن حركها؟ وأين هي في النهار؟ هذا هو نظر إبراهيم للنجوم ليتوصل بذلك إلى إدراك بعض الواجب نحو خالق السماء والنجوم وفاطر السموات والأرض. فقال لقومه: إنى سقيم ومريض، ولست مستريحا إلى عبادتكم للأفلاك والنجوم وهذه الأصنام والأوثان، أما قومه فحين حاجهم إبراهيم تولوا عنه مدبرين ورموه بالإفك والبهتان العظيم، فقصد آلهتهم في الخفاء، وراغ إلى أصنامهم قاصدا التعرض لها ليكلموه في شأنها، ويعلمون بالدليل أنها أحجار وخشب لا تسمع ولا تبصر، ولا تغنى ولا تنفع. وقد كانوا يأتون بالطعام إلى آلهتهم لتأكل وتبارك لهم فيه، ويظهر أن السدنة كانت تأكل بعضه فيظنون أن الآلهة أكلت. أما إبراهيم فذهب إلى الآلهة وأمامها الأكل فقال: ألا تأكلون!! ما لكم لا تنطقون؟ عجبا لكم أى شيء دهاكم حتى منعكم من الكلام؟ فلما لم يحصل منهم أكل ولا جواب عن سؤال مال عليهم ضاربا ضربا بالقوة والشدة.   (1) - في هذه الآية الاستفهام إنكارى، وقدم المفعول لأجله على المفعول به لأنه أهم، وقدم المفعول به على الفعل لأن إنكاره- أى المفعول- هو المقصود. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 213 فأقبلوا إليه مسرعين المشي لما سمعوا بالذي حصل من إبراهيم قائلين له: نحن نعبدها ونقدسها، وأنت تضربها وتكسرها؟!: إن هذه لجرأة منك شديدة! قال لهم موبخا: أتعبدون ما تنحتونه بأيديكم، وتصنعونه على أعينكم من حجارة أو خشب، وتتركون عبادة الله الذي خلقكم وسواكم وعد لكم في أحسن صورة وهو الذي خلقكم والمادة التي تعملون منها الأصنام؟!. قالوا بعد أن تشاوروا في أمره: ابنوا له بنيانا واسعا تملأونه حطبا كثيرا، وأضرموا فيه النار، فإذا التهبت فألقوه في تلك النار المسعرة، فأرادوا به كيدا وسوءا باحتيال منهم ومكر فجعلهم ربك من الأسفلين الأذلين حيث أبطل كيدهم ورده في نحورهم، وجعله دليلا على صدق إبراهيم، ودليلا على علو شأنه حيث جعلت النار المحرقة بردا وسلاما عليه. وقال إبراهيم لما نجا من كيدهم: إنى ذاهب إلى ربي يهديني إلى ما فيه صلاح ديني ودنياى، رب هب لي ولدا من الصالحين يعينني على الدعوة والطاعة. ويؤنسني في الغربة والمجاعة. فبشرناه بغلام حليم.. قصة الذبيح [سورة الصافات (37) : الآيات 102 الى 113] فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 214 المفردات: السَّعْيَ: الحد الذي يسعى فيه مع أبيه في تحصيل المعاش وَتَلَّهُ: صرعه على شقه فوقع جبينه على الأرض، وأصل التل: الرمي على التل الذي هو التراب المجتمع، ثم استعمل في كل صرع لِلْجَبِينِ والجبين: أحد جانبي الجبهة، بين جبينين، واللام لبيان ما صرع عليه، كقوله تعالى: يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وكقول الشاعر: وخر صريعا لليدين وللفم- بِذِبْحٍ: بحيوان يذبح. المعنى: دعا إبراهيم ربه قائلا: رب هب لي غلاما من الصالحين، فقبل الله دعاءه واستجاب له، وبشره بغلام كريم الخلق حليم- على لسان الملائكة فوهبناه له، ونشأ كما ينشأ الغلمان فلما «1» بلغ درجة أن يسعى مع أبيه في أشغاله، وتحصيل معاشه قال له أبوه: إنى أرى في المنام أنى أذبحك، ورؤيا الصالحين من عباد الله قبس من نور الله، ورؤيا الأنبياء وحى من السماء لا ينكر، وقد رأى إبراهيم الخليل في منامه أنه يذبح ابنه. وأول رؤياه على هذا، وكان ذلك الولد عزيزا على أبيه لأنه فلذة كبده وإنسان عينه، وقد جاء من الله بعد الدعاء وبشارة الملائكة به فكان له مزيد فضل، وعلو كعب، ومع ذلك فقد صدع إبراهيم لأمر ربه، وعرض الأمر على ابنه الوحيد ليرى ماذا يرى؟ فقال ابنه: يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين، وهنا تبرز أمام الإنسان معاني الإيمان الصادق والاستسلام الحق والصبر والرضاء بالقضاء والقدر؟   (1) - الفاء هنا فاء الفصيحة التي تفصح عن كلام مقدر يفهم من السياق العام (وقد ذكرناه فتنبه) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 215 يؤمر أب بذبح ابنه فيمتثل الأب والابن فَلَمَّا أَسْلَما أى: استسلم الأب ورضى الابن، إن هذا لعجيب!! وليس بالكثير على إبراهيم الخليل وابنه الصابر صادق الوعد الأمين. قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى «1» قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ. فلما أسلما وخضعا لله وانقادا لأمره، وصرع الأب ابنه على الجبين، وأمرّ السكين على الودجين فلم تقطع ولم تكسر، وأعادها مرارا فلم تزد إلا كلالا، وتعجب إبراهيم من هذا، وضجت ملائكة السماء وأتى الله بالفرج القريب، فنادى إبراهيم ملك من قبل الحق- تبارك وتعالى- أى: إبراهيم كفى كفى!! قد صدقت الرؤيا، وقمت بالواجب عليك وبذلت جهدك، وأتيت بما في وسعك (قد حققت ما نبهناك عليه، وفعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك) انتهى من القرطبي. فلما أسلما وتله للجبين، وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا، فديناه بكبش سمين وخلصناهما من الشدة والكرب الشديد، لماذا؟ إن ربك يجزى المحسنين جزاء مثل هذا الجزاء، وقد أحسنا حيث امتثلا الأمر في بذل النفس على صورة رائعة لا يقبلها إلا أولو العزم من الرسل، إن هذا لهو البلاء المبين، وأى بلاء أشد من أن تؤمر بذبح وحيدك فتمتثل صابرا محتسبا أجرك عند ربك؟! وفديناه بذبح عظيم. روى أنه كان كبشا نزل من الجنة فذبحه إبراهيم وهلل وكبر وتركنا عليه في الأمم الآخرة ثناء حسنا وذكرا عاطرا- وسلام على إبراهيم- مثل ذلك أى: بقاء الذكر العاطر فيما بين الأمم نجزى المحسنين، وهذا لأنه من عبادنا المؤمنين وبشرناه بإسحاق حالة كونه نبيا من الصالحين. ومن هنا شرعت الأضحية في عيد الأضحى، عيد الفداء، وذكر إتمام النعمة وظهور كلمة الإسلام، والقضاء على الشرك والظلم والبهتان، ولم يكن ذلك كله إلا   (1) - ذكروا في هذه أعاريب منها أن ماذا (مركبة) من ما الاستفهامية مفعول مقدم لترى، وجملة ترى في محل نصب بالنظر، أو ما استفهام، و (ذا) اسم موصول (مبتدأ أو خبر) والجملة مفعول مقدم أيضا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 216 بعد التضحية من الرسول وصحبه بالنفس والنفيس، وفداء العقيدة والدعوة بالوطن والنفس والمال والجهاد في سبيل الله. فهيا بنا نحن أمة الإسلام، وأتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم نعاهد الله على الجهاد في سبيله وفي سبيل دعوته، باذلين كل مرتخص وغال في إحقاق الحق وإزهاق الباطل وفي سبيل نشر علم الإسلام على حصون الظلم والطغيان. هيا بنا نجاهد ونجاهد في سبيل القرآن وإعادة مجد الإسلام حتى يكون الدين كله لله وكفى بالله شهيدا. وباركنا على إبراهيم وعلى إسحاق فكان منهما الأنبياء والملوك والحكام، وكان من ذريتهما محسن في عمله، وظالم لنفسه ظلما مبينا، ومن هنا كان النسب لا أساس له في الهدى والضلال. بقيت مسألة: من هو الذبيح أهو إسحاق أم إسماعيل؟ في الواقع الآيات القرآنية بعد ما ساق قصة الذبيح قال: وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين فهذا يدل على أن الذبيح غيره، وهو إسماعيل، وبعض العلماء يرى أنه إسحاق، ويستدل على ذلك بأن إبراهيم دعا ربه أن يهب له غلاما صالحا حين فارق قومه وهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط والله يقول: فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ [مريم 49] والفداء كان للغلام الذي بشر به، والذي بشر به هو إسحاق: وبشرناه بإسحاق، ويظهر أن إسحاق كان أكبر من إسماعيل، وأن البشارة كانت قبل إسماعيل، وبعضهم يرى الرأى الأول. والله أعلم بكتابه، والخطب سهل. طرف من قصة موسى وهارون [سورة الصافات (37) : الآيات 114 الى 122] وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (114) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 217 المعنى: بعد ذكر نجاة إسماعيل من الذبح، وخلوص إبراهيم من البلاء الذي نزل به ظافرا بالرضا ممتثلا أمر ربه الكريم. ذكر: ما من به على موسى وهارون وتالله لقد مننا عليهما بالنبوة وآتيناهما الحكمة، ونجيناهما وقومهما من الكرب والخسف وسوء العذاب الذي كان ينالهم من فرعون وملئه، فقد كان يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم إنه كان من المفسدين، وقد أراد الله أن يمن على بنى إسرائيل الذين استضعفوا في الأرض ويجعلهم الوارثين، فنصرهم على عدوهم، وكانوا هم الغالبين، وآتينا موسى وهارون التوراة كتابا بينا ظاهرا فيه الحق الذي لا تحريف فيه ولا بهتان، وأبقينا عليهما في الآخرة ثناء حسنا- سلام على موسى وهارون- وذاك لأن ربك يجزى المحسنين جزاء حسنا مثل ذلك، وقد كان موسى وهارون من المحسنين لأنهما من عبادنا المؤمنين. طرف من قصة إلياس [سورة الصافات (37) : الآيات 123 الى 132] وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 218 المفردات: إِلْياسَ: نبي من أنبياء بنى إسرائيل بَعْلًا: اسم صنم، وقيل: البعل الرب، ومنه بعل المرأة لزوجها وَتَذَرُونَ: تتركون إِلْ ياسِينَ العرب تتلاعب بالأسماء الأعجمية تلاعبا مثل: ياسين وإلياس وإلياسين، كل ذلك شيء واحد. المعنى: وإن إلياس لنبي وإنه لمن المرسلين إلى قومه بنى إسرائيل، واذكر إذ قال لقومه: ألا تتقون الله ربكم، وتخافون يوما يجعل الولدان شيئا، أتدعون ربا غيره، وتتركون الله ربكم الذي هو أحسن الخالقين؟ وليس هناك خالق سواه يستحق العبادة والتقديس: وهو الله ربكم وخالقكم، وخالق آبائكم الأولين. ومن كان كذلك فلا إله غيره، ولا معبود سواه. فكذبوه وكفروا به وبرسالته فكان جزاؤهم أنهم محضرون في جهنم يذوقون العذاب الأليم، لكن عباد الله المخلصين الذين أسلموا لله رب العالمين، وآمنوا بالرسل الأكرمين لهم جنات الخلد، فيها ينعمون وبظلها يتمتعون. وأبقينا عليه الثناء الجميل الذي هو- سلام على إل ياسين- وفي قراءة «آل ياسين» فكأنه- والله أعلم- جعل اسمه إلياس وياسين، وسلّم على آله، أى: أهل دينه ومن اتبعه بالحق، وإذا سلم على آله فالسلام عليه من باب أولى. ثم ذكر في تعليل هذا الإكرام قوله: إنا كذلك نجزى المحسنين، وقد كان إلياس من المحسنين لأنه كان من عبادنا المؤمنين، وسلام الله ورحمته وبركاته عليهم أجمعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 219 ذكر طرف من قصة قوم لوط [سورة الصافات (37) : الآيات 133 الى 138] وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (138) المعنى: وهذا لوط من المرسلين الذين أرسلوا لقومهم يخرجونهم من الظلمات إلى النور، ويهدونهم الطريق المستقيم فكذبوا وأوذوا حتى غضب ربك على القوم الكافرين فأمطرهم بعذاب من عنده، وإن عذاب ربك لشديد، واذكر إذ نجينا لوطا ومن معه من المؤمنين نجيناه وأهله أجمعين إلا امرأته وكانت عجوزا في عداد القوم الغابرين الهالكين. ثم دمرنا الآخرين الذين كذبوا وعصوا أمر ربك، وهذه ديارهم وآثارهم شاهدة عليهم، وإنكم لتمرون عليهم صباحا ومساء بالنهار وبالليل.. أفلا تعقلون أيها المشركون من قريش؟ أفلا تتعظون بما حل بغيركم؟!. قصة يونس عليه السلام [سورة الصافات (37) : الآيات 139 الى 148] وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 220 المفردات: أَبَقَ : هرب بلا إذن، ومنه: عبد آبق الْمَشْحُونِ : المملوء فَساهَمَ : قارع أهل السفينة، من المساهمة وهي الاقتراع الْمُدْحَضِينَ : المغلوبين بالقرعة مُلِيمٌ في كتب اللغة: ألام الرجل: أتى بما يلام عليه، أو مليم نفسه فَنَبَذْناهُ: ألقيناه بِالْعَراءِ: بالساحل سَقِيمٌ: عليل يَقْطِينٍ اليقطين: شجرة الدباء حِينٍ: إلى مدة وأجل معلوم. لقد ذكر يونس بن متى في القرآن الكريم أربع مرات باسمه، وذكر بوصفه مرتين: في سورة الأنبياء وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً [الآية 87] وفي سورة القلم وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ [الآية 48] . المعنى: وإن يونس بن متى لمن المرسلين إلى أهل نينوى، اذكر وقت أن أبق إلى الفلك المشحون بعد أن ذهب مغاضبا قومه لأجل ربه. وإن ليونس مع قومه قصة تتلخص في أنه أرسل إليهم، ودعاهم إلى التوحيد وترك عبادة الأصنام، ولكنهم لم يستجيبوا لقوله، ولم يسمعوا لأمره، فشق عليه ذلك، وامتلأ قلبه غضبا وغيظا من مواقف قومه، فرحل عنهم مغاضبا لقومه يائسا من إيمانهم، وأبق قاصدا الهروب منهم والبعد عنهم فلما وصل إلى شاطئ البحر وجد سفينة مملوءة بالناس فركب معهم ولما جاوز الساحل هاجت الأمواج، واصطلحت على السفينة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 221 الرياح، وتوقع الراكبون سوء المصير، فاضطرب القوم، واشتوروا فيما يصنعون، ثم اتفقوا على الاقتراع فيلقون بمن تقع عليه القرعة، فساهم الجميع، ووقع السهم على يونس، فعز عليهم إلقاؤه في البحر، تكريما لشأنه وعرفانا لفضله، فعادوا للمساهمة مرة ثانية وثالثة فيقع السهم على يونس وحده وأنه سيكون من نصيب البحر حتى تخف السفينة براكبيها فتسير. ولما تحقق يونس من هذا أنه اقترف شيئا يغضب الله لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، وأدراك أن تركه قومه، وعدم صبره على أذاهم، وخروجه بلا إذن عمل ما كان ينبغي أن يكون فألقى بنفسه في البحر، فالتقمه الحوت، وهو مليم نفسه على ما فرط منها. وأوحى الله إلى الحوت أن يبتلعه وظل في جوفه في ظلمات ثلاث، ولقد امتدت يد العناية الإلهية به فكان محفوظا ينادى الله ويدعوه، ويسبحه ويرجوه فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ [سورة الأنبياء آية 87] ، فاستجاب الله دعاءه وأوحى إلى الحوت فألقاه على الساحل، وتلقته العناية وأنبتت عليه شجرة من يقطين، قيل: هي الدباء، أى: القرع. ثم أرسله ربك إلى مائة ألف أو يزيدون وهم أهل نينوى على الصحيح، فآمنوا به وصدقوا برسالته، وتركوا عبادة الأصنام فمتعهم ربك إلى حين معلوم وأجل محدود هو مدة بقائهم في الدنيا، أو مدة إيمانهم والتجائهم إلى الله في كل أمورهم. وهكذا كل أمة آمنت بربها فنفعها إيمانها وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [سورة هود آية 3] . نقاش المشركين في عقائدهم [سورة الصافات (37) : الآيات 149 الى 170] فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160) فَإِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163) وَما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 222 المفردات: فَاسْتَفْتِهِمْ: استخبرهم واطلب منهم الفتيا أَمْ معناها بل- الإضرابية- مع همزة الاستفهام إِفْكِهِمْ الإفك: أشد أنواع الكذب أَصْطَفَى: اختار، والاصطفاء: أخذ صفوة الشيء. سُلْطانٌ: حجة قوية. الْجِنَّةِ: الملائكة وسموا بذلك لاستتارهم عن الأنظار نَسَباً: مصاهرة وصلة بِفاتِنِينَ: بحاملين على الفتنة والإضلال صالِ الْجَحِيمِ يقال: صلى النار يصلاها: دخلها واحترق بها. هذه السورة مكية ناقشت المكيين في عقائدهم وخاصة إثبات التوحيد ونفى الشركة، وإثبات البعث يوم القيامة، وساق الله فيها البراهين القاطعة على ذلك، وبين الجزء: 3 ¦ الصفحة: 223 ما يلاقيه الإنسان من خير أو شر يوم الجزاء، وما أعد للمؤمنين من النعيم المقيم، ثم ذكر- سبحانه- أنه قد ضل من قبلهم أكثر الأولين، وأنه أرسل إليهم منذرين، ثم أورد قصص بعض الأنبياء- عليهم السلام- بشيء من التفصيل متضمنا كل منها ما يدل على فضلهم وعبوديتهم له- عز وجل- وما أعد لهم. ثم أمر الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم هنا- في ختام السورة- بتبكيتهم بطريق الاستفتاء عن كل شيء تنكره العقول، وتأباه الطباع وهو القسمة الجائرة الباطلة حيث كانوا يعتقدون أن الملائكة بنات الله، وذلك أن قبائل جهينة وخزاعة. وبنى مليح. وبنى سلمة. وعبد الدار زعموا أن الملائكة بنات الله تعالى عما يقولون علوا كبيرا أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ؟ «1» كيف يكون ذلك منهم؟ والحال أنه إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا وهو كظيم! يتوارى من القوم من سوء ما بشر به ويقول: والله ما هي بنعم الولد- الولد يطلق على الذكر والأنثى- أيمسكه على هون وذل أم يدسه في التراب؟ ألا ساء ما يحكمون! فهم يجعلون لله ما يكرهون، وتصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى لا جرم أن لهم النار، وأنهم قوم مفرطون. بل أخلقنا الملائكة إناثا؟ وهم حاضرون ذلك؟ وهذا تبكيت وإنكار لهم حيث وصفوا الملائكة وهم قوم أطهار- عباد بالليل والنهار- بأنهم إناث، فهم لا دليل لهم على ذلك إلا الحضور وقد نفى، أما الأدلة العقلية أو النقلية فلا تحتاج إلى بطلان. ألا إنهم من كذبهم وإفكهم الباطل ليقولون: ولد الله وإنهم لكاذبون في هذه الدعوى إذ ليس لها مصدر إلا الإفك الصريح والافتراء القبيح من غير دليل أو شبهة. أصطفى البنات على البنين؟ عجبا لكم كيف تقولون إن البنات أولاد الله، وكيف يصطفى البنات على البنين؟ وما لكم كيف تحكمون بهذا الحكم الذي تشهد ببطلانه بدائه العقول؟!. أتلاحظون ذلك فلا تتذكرون بطلانه؟ مع أن من له أدنى مسكة من عقل ينكره. بل ألكم سلطان مبين؟ وهذا إضراب انتقالي من توبيخهم وتبكيتهم بما ذكر إلى   (1) الهمزة هنا للاستفهام الإنكارى وهكذا كل استفهام في هذه الآيات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 224 مطالبتهم بالحجة المنقولة على ما يدعون من أن الملائكة بنات الله إذ الحكم المقبول لا بد له من سند حسى أو عقلي أو نقلي، وقد انتفى حضورهم ومشاهدتهم خلق الملائكة إناثا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ؟ ولا دليل لهم عقلي يؤيد دعواهم أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ؟ فلم يبق إلا الحجة المنقولة فإن كانت فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين، والأمر هنا (فأتوا) للتعجيز، كقولك: اصعد السماء. روى أن بعض كفار قريش لما قالت: الملائكة بنات الله قال لهم أبو بكر- على سبيل التبكيت والإنكار-: فمن أمهاتهم؟ فقالوا: بنات سروات الجن، فنزل قوله تعالى وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وقد كان الخطاب معهم فالتفت يتكلم عنهم (بالغيبة) للإشارة إلى انقطاعهم عن الجواب وسقوطهم عن درجة الخطاب، وعلى ذلك فالمراد بالجنة هم الشياطين، وبالنسب المصاهرة، ولعل المراد بالجنة هم الملائكة وبالنسب النسبة له- سبحانه وتعالى- حيث قالوا: هم بنات الله. وبالله لقد علمت الجنة: أن من يقول ذلك لمحضرون، وفي عذاب جهنم مخلدون فانظروا أين أنتم يا كفار مكة؟ سبحان الله، وتنزيها له عما يصفون! سبحانه وتعالى عما يشركون، وتقديسا له وتنزيها عما يدعيه المبطلون المفترون!! إن من يشرك بالله لفي جهنم محضرون إلا عباد الله المخلصين الذين أخلصوا لله في عبادتهم واصطفاهم ربهم فأخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإسلام، أولئك في الجنة لهم رزق معلوم فواكه وهم مكرمون لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [سورة ص الآيتان 82، 83] . إذا علمتم هذا فإنكم أيها المشركون ومن عبدتموهم ما أنتم على الله- عز وجل- بفاتنين، على معنى: ما أنتم ومعبودكم مفسدين أحدا على الله- عز وجل- بإغوائكم إلا من سبق في علم الله- تعالى- أنه ممن يدخلون النار ويصلونها، وبئس القرار، فالأمر كله لله، وقد ترك للعبد حرية الاختيار ليجازيه على عمله بالحسنى أو بالنار. أما الملائكة الذين تدعون أنهم بنات الله أو تشركونهم مع الله فها هو ذا اعترافهم الصريح، وها هو ذا موقفهم مع الحق- تبارك وتعالى- وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 225 مَعْلُومٌ في العبادة لا يتعداه، وأما نظام الكون، وتدبير العالم فموكول إلى الله وحده لا شريك له، ونحن لنا حد لا نتجاوزه، ولا نستطيع أن نتعداه خضوعا واستسلاما لقضائه وتواضعا لجلاله، فمنهم الراكع لا يقيم صلبه، ومنهم الساجد لا يرفع وجهه، ولكل منهم مقام معلوم في العبادة لا يتعداه، والله يحكى عنهم أنهم الصافون أنفسهم للعبادة فلا يتقدم أحد ولا يتأخر عن صفته، ومن هنا كانت تسوية الصفوف في الصلاة من إقامتها، وأنهم هم المسبحون والمنزهون الله عما وصفه المشركون، وها هو ذا إقرار الملائكة عن أنفسهم فكيف تعبدونهم أو تقولون: إنهم بنات الله؟! وكان المشركون قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا عيروا بأنهم أميون جهلاء قالوا: لو أن عندنا ذكرا من الأولين، أى لو بعث لنا رسول لكنا أول المؤمنين، فلما جاءهم ما تمنوه كفروا به فسوف يعلمون عاقبة ذلك، يوم لا ينفع مال ولا بنون. إلا من أتى الله بقلب سليم من الشرك خالص من الوثنية. تقوية العزائم [سورة الصافات (37) : الآيات 171 الى 182] وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179) سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 226 المفردات: كَلِمَتُنا: وعدنا وَأَبْصِرْهُمْ: دلهم وأخبرهم عن أشياء كأنها مرئية بِساحَتِهِمْ: بدارهم والساحة في اللغة: فناء الدار الواسع. المعنى: لما هدد الله الكفار، وأوعد المشركين وأنذرهم بسوء العاقبة أكد بما يقوى قلب النبي صلّى الله عليه وسلّم وجنده ويشد من عزيمته هو وصحبه. وتالله لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين، وبالله سبق وتحقق وعدنا لهم بالنصر والغلبة حيث يقول الحق- تبارك وتعالى-: كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي «1» . وما المراد بالوعد المدلول عليه بقوله: كلمتنا؟ هو: إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون «2» والنصرة والغلبة تكون بالحجة والبرهان، أو بالسيف والسنان، وإقامة الدولة وكمال السلطان، فالمؤمن وإن غلب في بعض الأوقات بسبب بعده عن دينه، وضعف نظامه العام وسلوكه في دولته فهو الغالب بالحجة والبرهان، على أن الله يتكلم عن المسلمين حقا الحاكمين بكتابه العاملين بسنة رسوله المتمسكين بما يدعو إليه الدين والقرآن من العمل والجد والنشاط والاستعداد بدليل إضافة الجند له- سبحانه وتعالى- هؤلاء المنصورون وهم الغالبون، وعلينا أن ننظر أين نحن من هؤلاء! وإذا كان الأمر كذلك يا محمد فتول عن الكفار إلى حين، وأعرض عنهم إلى زمن معلوم، وأبصرهم مما ينزل عليهم من العذاب كالقتل والأسر، وبصرهم عاقبة ذلك وأرشدهم إلى أن هذا واقع لا محالة حتى كأنه مشاهد محسوس يدرك بالبصر، أبصرهم فسوف يبصرون كل ما وعدتهم به. وقد كانوا يستعجلون العذاب الذي يهددهم به الله- سبحانه وتعالى- فيرد الله عليهم بقوله: أفبعذابنا يستعجلون؟   (1) - سورة المجادلة آية 21. (2) - وهذا إشارة إلى أن قوله: «إنهم لهم المنصورون» بدل من «كلمتنا» التي هي تفسير لها، أو هو استئناف بيانى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 227 فإذا نزل العذاب- الذي هو كالجيش الزاحف- بساحتهم وحل بدارهم فبئس الصباح صباح المنذرين بهذا العذاب، وخص الصباح بالذكر لأن العذاب كان يأتيهم فيه والغارات والهجوم على الأعداء يكون فيه، وتول عنهم حتى حين، وأبصر فسوف يبصرون. سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين. والحمد لله رب العالمين. وهذا أدب رباني، وختام إلهى لتلك السورة التي نفت عن الله- عز وجل- الصاحب والشريك والولد والقرين حتى يتأدب المسلمون بهذا، ويتحلون به في ختام جلائل أعمالهم فقد ورد عن على- رضى الله عنه- عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة فليقل آخر جلسته حين يريد أن يقوم سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ إلى آخر السورة. وهذه الآيات تشتمل على تنزيه الله وتقديسه عن كل ما لا يليق به (سبحانه) ووصفه بكل ما يليق به من جلائل الصفات، وسمات الجلال (رب العزة) فإن الربوبية تشير إلى التربية مع الحكمة والرحمة والفضل والنعمة، والعزة إشارة إلى كمال القدرة والعلم وتمام الإرادة والوحدانية. سلام من الله- عز وجل- ومن عباده المؤمنين على رسل الله الذين بلغوا عن الله التوحيد الصحيح والرسالة الكاملة فقد ورد عن النبي صلّى الله عليه وسلّم «إذا سلّمتم علىّ فسلّموا على المرسلين فإنّما أنا رسول من المرسلين» وسلام الله عليهم وأمن لهم يوم الفزع الأكبر. والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسل الله أجمعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 228 سورة ص هي مكية عند الجميع، وعدد آياتها ست وثمانون آية. وهي تشمل مناقشة المشركين في عقائدهم والرد عليهم، وذكر قصص بعض الأنبياء التي تؤيد هذا المعنى وخاصة قصة داود وسليمان، وأيوب، والتعرض للمشركين، وبيان حالهم يوم القيامة مع ذكر قصة خلق آدم وسجود الملائكة له. [سورة ص (38) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 229 المفردات: ذِي الذِّكْرِ: صاحب الشرف عِزَّةٍ: استعزاز بالباطل واستكبار عن الحق والإيمان به شِقاقٍ: خلاف قَرْنٍ: أمة من الأمم، سميت بذلك لأنها تتقدم غيرها من الأمم كالقرن يتقدم الجسم مَناصٍ: منجى ومهرب عُجابٌ: كثير العجب الْمَلَأُ مِنْهُمْ أى: الأشراف أَنِ امْشُوا أى: امشوا، والمشي: نقل الأقدام عن المكان، وقيل: هو من مشت المرأة: إذا كثرت ولادتها، ومنه الماشية فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ المراد: ملة العرب ونحلتهم التي أدركوها اخْتِلاقٌ: كذب مختلق لا أساس له فِي الْأَسْبابِ: في المعارج الموصلة إلى ما يريدون جُنْدٌ الجند: هم الأصحاب والأتباع الممتثلون للأمر مَهْزُومٌ وأصل الهزم: غمز الشيء اليابس حتى ينهزم، كهزم القثاء والبطيخ ذُو الْأَوْتادِ المراد: ذو الملك الثابت الذي يشبه البيت المؤسس على أوتاد وعمد فَواقٍ الفواق: الوقت بين الحلبتين أو الرضعتين حتى يجتمع اللبن في الضرع قِطَّنا: قسطنا أو كتابنا. المعنى: صاد، وأقسم بالقرآن ذي الذكر السامي والشرف العالي إنه لحق، وإن محمدا لصادق في دعواه، نعم إنه القرآن كلام الله ذو الذكر الحكيم، والبيان الجامع لكل ما يهم العالم أجمع، وما به صلاح الدنيا وقوم الآخرة وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ «1» . هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ «2»   (1) - سورة البقرة آية 158. [ ..... ] (2) - سورة النحل آية 89. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 230 وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ «1» بل الذين كفروا في عزة وشقاق.. وكأن نظم الآيات هكذا: صاد وأقسم بالقرآن ذي الذكر إنه لمعجزة وإنه لحق، بل الذين كفروا في عزة واستكبار عن الإذعان لذلك والاعتراف بالحق، وهم في شقاق لله ورسوله وخلاف مستمر معهما، ثم أتبع ذلك بتهديد لهم ووعيد يزلزل كبرياءهم، ويحطم عزتهم الجوفاء- أما العزة الحقيقة المرتكزة على أسس من الحق والعدل والكرامة فلله ولرسوله وللمؤمنين فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً «2» - بقوله: كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَلاتَ حِينَ مَناصٍ بمعنى: كثيرا من الأمم التي مضت والتي كانت أشد قوة وأكثر مالا وأولادا أهلكهم ربهم لما طغوا وبغوا، وحينما نزل بهم نادوا واستغاثوا، ولات الحين حين مناص لهم «3» ، وليس لهم في هذا الوقت منجى ولا مهرب. وهذه سيئة من سيئاتهم المتفرعة عن عزتهم الفارغة واستكبارهم بالباطل وَعَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ الآية.. كانوا يرون أن الرسالة تتنافى مع البشرية، وإذا سلمنا بها فكان الأولى والأجدر أن تنزل على رجل من القريتين عظيم، فهم عدو رسالة محمد صلّى الله عليه وسلّم أمرا عجيبا خارجا عن نطاق العقل والمألوف فقال الكافرون منهم: هذا ساحر لأنه يأتى بما نعجز عن تفسيره وتعليله، وكذاب فيما يدعيه، ويرويه عن رب العالمين. أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ «4» تعجبوا عجبا كثيرا من أن الرسول يقول: إن ربكم الله وحده لا شريك له، ويصير الآلهة إلها واحدا، أى: يصيرها ويجعلها في قوله لا في الخارج، تعجبوا من ذلك لأنه خلاف ما ألفوه، وقد أعماهم التقليد عن النظر الصحيح والفكر السليم، فقاسوا الأمور الحية التي هي في مكنة الفرد من الإنسان فرأوا أنه يستحيل عليه القيام بمطالب هذا الكون، فقالوا بتعدد الآلهة، وتعجبوا ممن يقول بوحدة الإله. وروى أنهم اجتمعوا، أى: الأشراف منهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم عند عمه أبى طالب وطالبوه بالكف عن آلهتهم وذمها فرد عليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم قائلا: إنى أريد منكم كلمة واحدة تدين لكم بها العرب وتخضع لكم بها العجم. فقالوا: وما هي؟ قال: لا إله إلا   (1) - سورة الزخرف آية 44. (2) - سورة فاطر آية 10. (3) - لات حين: أخذت من (ليس حين) زيدت عليها التاء لتأكيد النفي، ولا تعمل إلا في زمان، ويحذف أحد معموليها، والغالب أن المحذوف هو الاسم. (4) - الاستفهام للإنكار والتعجب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 231 الله. فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم قائلين: أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب؟! وانطلق الأشراف منهم يتحاورون قائلين: أن امشوا واتركوه، وسيروا على ما أنتم عليه، واصبروا على عبادة آلهتكم، وتجمعوا على عبادتها إن هذا- الإشارة إلى ما وقع وشاهدوه من أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم وتصلبه في أمر التوحيد وتشدده في نفى الآلهة- لشيء عظيم يراد من جهته صلّى الله عليه وسلّم إمضاؤه وتنفيذه لا محالة مهما كانت الظروف.. وقيل المعنى: إن هذا الأمر لشيء من نوائب الدهر يراد بنا، فلا حيلة معه إلا الصبر والمثابرة عليه. ما سمعنا بهذا الذي يقوله في الملة التي عليها العرب أخيرا والنحلة التي رأيناهم عليها فمن أين بهذا؟ ما هو إلا اختلاق وكذب، وزور وبهتان. كانت لمشركي مكة شبه ثلاث هي أوهى من بيت العنكبوت: (ا) تعجبوا من كون الرسول واحدا منهم. (ب) أنكروا أن تصريف هذا الكون يرجع إلى إله واحد. (ج) أنكروا إنزال القرآن على محمد دونهم. وقد تصدى القرآن للرد على الشبهة الثالثة بردود مفحمة، واكتفى بسرد الشبهة الأولى والثانية لأن إثبات أن القرآن نزل من عند الله على محمد هو الغاية والنهاية، وبه تزول كل شبهة. أنزل عليه الذكر من بيننا؟ ولماذا اختص هو بذلك الشرف العالي والدرجة السامية درجة الرسالة عن رب العالمين، وهذه شبهة قديمة وسلاح شهرته الأمم في وجه الرسل فها هم أولاء قوم صالح يقولون: أأنزل عليه الذكر من بيننا بل هو كذاب أشر؟! وقال المشركون من قريش: لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم؟ أهم يقسمون رحمة ربك؟! وهذا هو الرد: بل هم في شك من ذكرى، هؤلاء الناس قد أعماهم التقليد، وأضلهم الجهل المطبق فلم ينظروا بالعقل المجرد عن الهوى إلى الدلائل الشاهدة على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 232 صدق محمد وأن القرآن من عند الله فهم في شك وليس عندهم دليل، ولذلك تارة يقولون: إنه سحر، ومرة إنه شعر، وثالثة إنه كهانة. بل- وهذا إضراب عما مضى- لما يذوقوا عذابي فإنهم لو ذاقوه ولمسوه لفكروا وتدبروا، وأدركوا أن محمدا على حق، ولا غرابة فمن الناس من لا يؤمن حتى يرى العذاب الأليم، ومن النفوس نفوس كالحجارة أو أشد قسوة لا تفتح إلا بالحديد الصلب والضرب الشديد. وفي التعبير بلما دليل على أنهم على وشك ذوقان العذاب. وما لهم ينكرون إنزال القرآن على النبي؟ ويرون أنه لا يستحق، بل أعندهم خزائن رحمة ربك العزيز الوهاب؟ حتى ينكروا ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم؟! نعم فهذه النبوة لا تكون إلا ممن عنده مفاتيح الخزائن كلها، وهو بخلقه رحيم ورحمن. وهو صاحب العزة والسلطان، كثير الخيرات والهبات، والله- سبحانه وتعالى- عنده مفاتيح خزائن هذا الكون، وهو صاحب الرحمة والعزة وواهب الوجود لكل موجود، والعالم بخلقه الحكيم في صنعه. وقد منح النبوة لمن يستحقها، فلا يليق بكم أن تعترضوا هذا الاعتراض، أما أنتم فلا حول لكم ولا قوة. ولا تعلمون شيئا من ذلك، ليرتقوا في الأسباب، وليبلغوا ما أرادوا، وما هم ببالغيه هم جند هنالك مهزوم من الأحزاب، وسيهزم جمعهم ويولون الدبر بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ! [سورة القمر آية 46] . ولا غرابة في ذلك فهذا قصص من سبقهم: كذبت قبلهم قوم نوح. وعاد. وقوم فرعون، وقد كانوا ذوى سلطان ثابت الأركان قوى الدعائم، وكذبت ثمود وقوم لوط وأصحاب الأيكة وقد أرسل إليهم شعيب فكذبوه فحقت عليهم جميعا كلمة ربك، وحاق بهم سوء العذاب. أولئك المكذبون هم الأحزاب المتحزبون على الرسل، المهزومون، إن كل إلا كذب الرسل فحق عقابي، فأغرق قوم نوح، وأهلك فرعون وجنده في البحر: وقوم هود بالريح، وقوم صالح بالصيحة، وقوم لوط بالخسف، وأصحاب الأيكة بعذاب الظلة. وما ينتظر المشركون من قريش إلا صيحة واحدة هي النفخة الثانية، وما لها من فواق أى: ما لها من توقف مقدار فواق، والمعنى أن الصيحة إذا جاء وقتها لم تستأخر لحظة واحدة، فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، ولما سمعوا أن الله منع عذاب الاستئصال عنهم في الدنيا إكراما للنبي صلّى الله عليه وسلّم، وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم، وجعل عذابهم في الآخرة قالوا: ربنا عجل لنا قطنا وحقنا في العذاب قبل يوم الحساب! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 233 قصة داود [سورة ص (38) : الآيات 17 الى 26] اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20) وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ وَظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ راكِعاً وَأَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (25) يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 234 المفردات: ذَا الْأَيْدِ: صاحب القوة والجلد أَوَّابٌ: كثير التوبة والرجوع إلى الله بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ أى: في وقت صلاة العشاء وصلاة الضحى مَحْشُورَةً: مجموعة وَشَدَدْنا مُلْكَهُ: قويناه حتى ثبت الْحِكْمَةَ يمكن تفسيرها هنا بالنبوة والعلم بكتاب الله، أو العدل في الأحكام وَفَصْلَ الْخِطابِ: البيان الفاصل بين الحق والباطل الْخَصْمِ المتخاصمين تَسَوَّرُوا: أتوا من أعلى السور، يقال: تسور الحائط: تسلقه الْمِحْرابَ قيل: هو الغرفة لأنهم تسوروا عليه فيها. أو صدر المجلس ومنه: محراب المسجد فَفَزِعَ مِنْهُمْ: خاف منهم وَلا تُشْطِطْ: ولا تجر ولا تمل أَكْفِلْنِيها أى: انزل لي عنها حتى أكفلها، والمراد: أعطنيها وَعَزَّنِي: غلبني الْخُلَطاءِ: جمع خليط وهم الشركاء فَتَنَّاهُ ابتليناه لَزُلْفى لقربة إلى الله بعد المغفرة وَحُسْنَ مَآبٍ: وحسن رجوع إلى الله. بعد ما ذكر أحوال المشركين وعنادهم وأذاهم لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمر النبي بالصبر على ما يقولون وأن يذكر إخوانه الأنبياء الذين لا قوا ما لاقوا وصبروا محتسبين أجرهم عند الله مقدما في الذكر داود- عليه السلام- وهنا قصته، وقد ذكر فيها عناصر ثلاثة (ا) ما آتى الله داود من فضل (ب) الحادثة التي وقعت له (ج) مسألة استخلافه في الأرض. المعنى: اصبر على ما يقوله هؤلاء المشركون، واذكر عبدنا داود إنه أواب، وفي وصفه بالعبودية الدالة على حسن امتثاله لربه تشريف له وتكريم، ألا ترى إلى قوله تعالى: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ ... [سورة الإسراء آية 1] . وقد ذكر لداود هنا عشر صفات، أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاقتداء بداود فيها: الصبر، وأن الله وصفه بالعبودية، وأنه صاحب الأيد والقوة في العبادة، وأنه أواب كثير التوبة والرجوع إلى الله، وأن الله سخر له الجبال حالة كونها تسبح معه «1» وتردد تسبيحه   (1) يسبحن: حال من الجبال، والطير: معطوفة عليه، ومحشورة حال من الطير، وجاء (يسبحن) فعلا للدلالة على التجدد والحدوث، ومحشورة: اسم مفعول للدلالة على الدوام وعدم التجدد لأنه أبلغ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 235 حتى يسمعها الله بالعشي والإشراق، أى: في صلاة العشاء وصلاة الضحى، وأنه سخر الطير معه محشورة كل له أواب، وشددنا ملكه، أى: أقويناه بالقوى المادية والأدبية، وآتيناه الحكمة ووهبناه النبوة، وأرشدناه إلى فصل الخطاب وإصابة الغرض والعدل في الأحكام وَهَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ..؟ ولما مدح الله داود وذكر له صفات عشرا كلها ثناء عليه أتبع ذلك بذكر حادثة له. وبدأها باستفهام للتنبيه على القصد وسمو الغرض ولفتا للنظر، ألا ترى إلى قوله: «نبأ» والنبأ: هو الخبر المهم، وهذه القصة كانت مثار نقاش كثير من قديم الزمن، وخب فيها وأوضع القصاص ونقلة الأخبار، وقد ساعدهم على ذلك أن في التوراة والإنجيل ما يثبت لبعض الأنبياء- كداود- ما يترفع عنه عامة الناس، فكيف الحال مع الأنبياء والمرسلين؟ ونحن- المسلمين- نقول بعصمة الأنبياء، أى: ترفعهم عن الدنايا وبعدهم عن سفساف الأمور، فإنا نرى أن زعماء الإصلاح قوم غير عاديين يكونون غالبا بعيدين عن الدنايا والأنبياء- عليهم السلام- أولى بذلك منهم، وهم قوم اصطفاهم الله واختارهم، وصنعهم على يده فأرواحهم طاهرة، ونفوسهم عالية، يستحيل عليهم ما قاله الإسرائيليون في حقهم ونقله بعض علماء المسلمين ودونوه في كتبهم، وإن كنا رأينا كثيرا من العلماء نفى مثل هذه الأقوال بشدة كالفخر والبيضاوي وغيرهم. ونحن نسوق القصة على أساس أن داود نبي الله وهو معصوم من الزنا والقتل والدس والوقيعة، فإن ذلك غير مقبول بحال من الأحوال، وسياق القصة يثبت ذلك فالقرآن قد ذكر لداود صفات كلها مدح وثناء فإنه تواب أواب وله زلفى ومكانة عند ربه، وصاحب قوة وفضل في عمله ثم ذكر القصة وأردفها بذكر مدائح له وهذا كله يتنافى مع وصفه بالفعل المنكر والعمل القبيح. بعض الناس أثبت لداود أنه فعل الكبيرة كالزنا والقتل، وبعضهم أثبت له بعض الصغائر التي لا تليق. وفي الواقع تتلخص الحادثة: أن داود كان ملكا له سلطان، وله أتباع وخدم، وله مصالح مادية مع الناس، وهذا كله يوجد له أعداء. واتفق أن جماعة من الأعداء طمعوا في أن ينالوا من نبي الله داود، وكان له يوم يخلو فيه للعبادة، وانتهزوا الفرصة وتسوروا عليه المحراب، فلما دخلوا عليه ووجدوا عنده ما يمنعهم من ذلك، اختلقوا كذبا وزورا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 236 سببا لدخولهم فقالوا: نحن خصمان بغى بعضنا على بعض فاحكم بيننا بالحق، ولا تجر، واهدنا إلى سواء السبيل، ويجوز أن يكونا متخاصمين حقيقة، ولما دخلوا على داود بلا إذن، وتوجس منهم خيفة وظن بهم الظنون، وهم بذلك أن يصيبهم بسوء كانت هذه الواقعة فتنة وابتلاء لداود، ثم إنه استغفر ربه مما هم به من الانتقام، وتاب عما دار بخلده من ظن، وخر راكعا فتاب الله عليه وغفر له. أما قصتهما كما أخبر فهي: إن هذا أخى، أى: في الدين والإنسانية له تسع وتسعون نعجة- هي الواحدة من الغنم أو بقر الوحش- ولى نعجة واحدة، فقال صاحب الغنم الكثيرة أعطنى نعجتك أكفلها لك وأضمها لغنمي وغلبه في المخاصمة والمجادلة. قال داود متسرعا قبل أن يسمع جواب الخصم الثاني- ولعل هذا هو الذنب الذي ألم به داود-: لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، وإن كثيرا من الخلطاء والشركاء ليبغى بعضهم على بعض حبا في الدنيا، وشحا في النفوس إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلا يبغى بعضهم على بعض وقليل ما هم. وظن داود أنما فتناه بهذه الحادثة فاستغفر ربه مما ألم به وتاب، وخر راكعا وصلى لله قائما وساجدا وأناب، فغفر له ربه ذنبه- لا تنس أن حسنات الأبرار سيئات المقربين- وإن لداود عند ربه لقربى ومنزلة كريمة، وحسن مآب، أليس وصف داود بعد القصة بأن له زلفى وحسن مآب يدل على أنه عبد صالح أواب يستحيل عليه الإلمام بمعصية تغضب الله. أما خلافته في الأرض فيقول الله عنها: يا داود إنا جعلناك خليفة لله في أرضه، خليفة لله على عباده تقيم حكمه، وتدعو إلى شرعه. وتثبت دعائم عدله وتقضى بين الناس، فاحكم يا داود بينهم بالحق. ولا يحملنك شنآن قوم على عدم العدل فأنت خليفة أحكم الحاكمين، وأعدل العادلين، يا داود لا تتبع الهوى فإن من اتبع هواه ضل، ومن انحرف عن الصراط وقع في الهاوية، لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله وهو الصراط المستقيم. إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ وهذا تعليل لما قبله، إن الذين يضلون عن سبيله لهم عذاب شديد وقعه بسبب أنهم نسوا يوم الحساب، ولم يعملوا لذلك اليوم، أولئك الذين نسوا الله فأنساهم العمل لخيرهم فكان جزاؤهم النار وبئس القرار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 237 لا بد من ثواب وعقاب [سورة ص (38) : الآيات 27 الى 29] وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29) المفردات: باطِلًا: هزلا ولعبا فَوَيْلٌ: عذاب شديد، أو هو واد في جهنم كَالْفُجَّارِ: هم الأشقياء مُبارَكٌ: كثير الخير والبركات. وهذه كالروضة وسط الصحراء، ورجوع إلى الأصل الأول الذي هو إثبات البعث وسط القصص للإشارة إلى أنه هو المقصود المهم للشارع. المعنى: وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما باطلا لا حكمة فيه، ما خلقنا هما لاعبين، بل خلقنا هما لأسرار وحكم عالية فيها الاستدلال على كمال القدرة وتمام العظمة وهذه الدقة المحكمة في خلقهما دليل على أن الله لن يترك الناس سدى إذا ماتوا، بل يعيدهم ويحاسبهم ويعطى كلا جزاءه، ذلك أن خلقهما باطلا ظن الذين كفروا، فإنهم ينكرون البعث، وإنكاره معناه نفى عظم القدرة، وتعطيل للحكمة أَمْ «1» نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ؟ بل أنجعل المؤمنين الصالحين كالكفرة المفسدين في الأرض؟ وكيف نسوى بين هؤلاء وهؤلاء؟ فلو قلنا بعدم البعث، وأنه   (1) هذه هي (أم) المنقطعة تقدر ببل التي للإضراب الانتقالى، والهمزة استفهامية، ويراد بها الإنكار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 238 لا حياة إلا في الدنيا لاستوى الفريقان في التمتع بالدنيا بل أكثر الكفرة أوفر حظا من أكثر المؤمنين في الدنيا، لكن ذلك النظام محال مخالف للحكمة فتعين أن هناك حياة يظهر فيها عدم التساوي بين المؤمن والكافر هي في دار الجزاء. أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ؟ بل أنجعل المتقين كأشقياء الكفرة؟ لا يعقل هذا وإذا ثبت أن هناك فرقا كبيرا بين المؤمن وغيره، وأن المؤمن له حياة دائمة، فيها السعادة والنعيم فما الطريق إلى ذلك؟ الطريق هو اتباع القرآن الذي نزل تبيانا لكل شيء، وهدى ورحمة للمؤمنين، كتاب أنزلناه إليك يا محمد كثير الخيرات عظيم البركات فيه شفاء للناس ونور وموعظة للمؤمنين، أنزلناه ليدبروا آياته، وليتذكر أولو الألباب. سليمان عليه السلام [سورة ص (38) : الآيات 30 الى 40] وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33) وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَأَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَالشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَحُسْنَ مَآبٍ (40) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 239 المفردات: الصَّافِناتُ القائمات، أو الصافن من الخيل: الذي يرفع إحدى رجليه ويقف على مقدم حافرها الْجِيادُ: جمع جواد، وهو الذي يجود في سيره، أى: يسرع مع الخفة تَوارَتْ: اختفت وغابت بِالْحِجابِ: بالحاجز وقيل: بالليل بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ أى: بسيقانها وأعناقها رُخاءً لينة مع قوتها وشدتها. أَصابَ: أراد الْأَصْفادِ: جمع صفد، وهو القيد. المعنى: ذكر بعض المفسرين في تفسير هذه الآية أن سليمان عرض عليه خيل جياد في وقت العصر فألهاه ذلك عن صلاة العصر فغضب، وطلب من الله أن يرد عليه الشمس بعد غروبها ليصلى العصر فردت إليه، ثم غضب على الخيل التي كانت سببا في فوات الصلاة فقطع أعناقها وسوقها، والضمير في قوله: (حتى توارت بالحجاب) للشمس، ثم قالوا في قوله تعالى: «أحببت حب الخير عن ذكر ربي» إنه أحب هذه الخيل معرضا عن ذكر ربه، وهو الصلاة. وهذا تأويل فاسد، يدل على فساده بداهة أسلوب القرآن، ومكان القصة هنا، وسياق الآيات. إن هذه القصص إنما ذكرها الله- تعالى- بعد قول المشركين: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ وقد بلغوا مبلغا من السفاهة عظيما، حتى قال الله للنبي: اصبر على ما يقولون. واذكر عبدنا داود، ثم ذكر بعد ذلك قصة سليمان وهذا الوضع والسياق يفيد أن القصص سيقت لبيان جلائل الأعمال، وفضائل الخلال التي قام بها هؤلاء الأنبياء وأصحابهم، وعلى هذا فداود وسليمان ليس من الحق أن نفهم فيهما أنهما أتيا أعمالا تتنافى مع مركز النبوة وشرف الرسالة، وخاصة بعد قول الله لمحمد صلّى الله عليه وسلّم: اصبر واذكر داود وسليمان، أى: تأس بهؤلاء، وعلى هذا فيمكن أن نلخص ما يمكن فهمه من هذه الآيات بما يأتى: أن الله وهب لداود سليمان وكان نبيا من المرسلين، وهو نعم العبد الصالح، إنه أواب ومطيع، واذكر وقت أن عرض عليه بالعشي الخيل المطهمة، والصافنات الجياد، ويمكن أن نقول: إن رباط الخيل كان مندوبا إليه في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 240 دينهم، لأنه ملك له دولة وله سلطان، وله جيش منظم، وخيل معدة، وأمر بإحضارها وإمرارها عليه لينظرها ويبدي رأيه فيها، وهو لا يحب الخيل لذاتها وإنما يحبها لأمر الله، وتقوية دينه وتثبيت دعائمه. ثم لما سارت الخيل أمامه وتم عرضها حتى توارت عنه، وغابت عن بصره أمر قواده أن يردوها إليه فلما عادت طفق يمسح مسحا بسيقانها وأعناقها، وإنما فعل ذلك تشريفا لها وتكريما، وليرى رأيه في الخيل لأنه على علم بها وبعيوبها. ولقد فتنا سليمان، فتنة الله أعلم بها، وألقينا على كرسيه جسدا، ثم أناب، وهذه الفتنة تكلم فيها القصاص والإسرائيليون كثيرا، والذي نختاره ما ذكره أئمة التفسير المحققون من أمثال أبى السعود والفخر والآلوسي وغيرهم من أفاضل العلماء، وكان مرجع آرائهم إلى القول بعصمة الأنبياء ومنع تمثل الشيطان بهم، وغلق باب زعزعة الناس في معتقداتهم، وأظهر ما قيل في فتنة سليمان- عليه السلام- ما روى مرفوعا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنه قال: قال سليمان بن داود: لأطوفن الليلة على سبعين امرأة تأتى كل واحدة بفارس يجاهد في سبيل الله تعالى، ولم يقل (إن شاء الله) فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده لو قال: إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرسانا أجمعون ، هذا الحديث ثابت في الصحيحين البخاري ومسلم، وروى بعدة طرق، تلك هي فتنة سليمان كما وردت في الحديث وأما إلقاؤه على كرسيه جسدا فأنه حين الفتنة كان يجلس على كرسي الحكم جسدا لا روح فيه لأنه لما لم يقل: إن شاء الله كأنه ارتكب ذنبا فصار بسببه جسدا، ثم تاب وأناب. وأما قول سليمان: رب اغفر لي فلا يصح أن يكون هذا دليلا على صدور الزلة منه كما قال القصاص مستندين إلى أن طلب المغفرة يدل على سبق الذنب. فالإنسان ولو كان نبيا لا ينفك عن ترك الأفضل والأولى، وحينئذ يحتاج إلى طلب المغفرة لأن حسنات الأبرار سيئات المقربين، ألم تر إلى قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إنى لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة» . وانظر إلى سليمان، وقد طلب من الله المغفرة قبل طلبه الملك الذي لا ينبغي لأحد من بعده، هذا دليل على طلب المغفرة، والرجوع إلى الله سبيل وطريق إلى السعادة في الدنيا والآخرة فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 241 مِدْراراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً [نوح 10- 12] ولقد طلب سليمان ملكا لا ينبغي لأحد من بعده فسخر له ربه الريح حالة كونها جارية بأمره، لينة لا تعب معها، وإن كانت في الأصل عاصفة قوية فهي رخاء لينة تجرى بأمره حيث أراد. وسخر الشياطين له تعمل تحت أمره من كل بناء وغواص يغوص في البحار لاستخراج الدر منها والأصداف، وآخرين منهم مقرنين في الأصفاد والقيود خاضعين لأمره، عاملين تحت إذنه. هذا- والإشارة إلى ما تقدم من إعطاء الملك الواسع والتسلط على الرياح والجن والشياطين- عطاؤنا الخاص لك فأعط من تشاء وامنع من تشاء غير محاسب على ذلك يوم القيامة. وإن لسليمان عند ربه لزلفى وقربة وكرامة وحسنى، وله حسن مآب ومرجع في الجنة، وإن ختام القصة بهذا لدليل على أن كل ما قيل عن سليمان مما هو ثابت في كتب أهل الكتاب أو عند قصاص الأخبار من المسلمين خرافة وأكاذيب لا تليق بمركز النبوة والله أعلم. أيوب عليه السلام [سورة ص (38) : الآيات 41 الى 44] وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَشَرابٌ (42) وَوَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 242 المفردات: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ اركض: التحريك، ومنه: ركض الدابة: إذا حرك راكبها رجليه والمراد: اثبت ضِغْثاً والضغث: الحزمة الصغيرة من الحشيش. المعنى: للناس فيما يقصون عن أيوب طريقان، أحدهما يقول: إن أيوب مسه الشيطان في بدنه وماله بنصب وعذاب، ثم يرسلون خيالهم في تصوير المرض الذي أصابه حتى نفر الناس منه إلى أبعد الحدود المعقولة وغير المعقولة، وهذا بلا شك باطل وأى باطل لا يستسغيه عقل مسلم، فإنا نعتقد أن النبي يستحيل عليه أن يصاب بمرض جسمي ينفر فإنه أرسل ليهدى الخلق ويحتك بهم، فليس من الجائز عقلا أن يكون بحيث ينفر منه الناس، وهل يقدر الشيطان على البلاء بالمرض إلى هذا الحد، لو كان كذلك ما الذي منعه من إصابة أعدائه الألداء جميعا كالأنبياء والمرسلين والهداة والمرشدين بهذا أو أشد منه؟ فإنهم أعداء حقيقة. وكيف يتصور مسلم في الشيطان غير ما حدده له ربه حيث يقول: ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي [يوسف 22] فقد صرح الله بأنه لا قدرة له في حق البشر إلا على إلقاء الوساوس والخواطر الفاسدة قال: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ. إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ [ص 82، 83] . وعلى هذا الأساس فالمعقول في قصة أيوب هو أن الله أمر محمدا صلّى الله عليه وسلّم أن يذكر عبده الممتثل لأمره أيوب وقت أن نادى مستغيثا به: أنى مسنى الشيطان بنصب وعذاب. مسه الشيطان بوسوسته وإلقاء الخواطر الفاسدة في ذهنه، وإبليس وجنده يتحينون الفرص. ويطرقون لكل إنسانا بابا خاصا به. ويدخلون عليه من النقطة الضعيفة عنده- والله أعلم- هل دخل الشيطان على أيوب من جهة بدنه إذ كان مريضا صابرا، أو من جهة ماله أو ولده، أو من جهة قومه ودعوته لهم؟ الله أعلم. ثم أمر من قبل الله أن يركض برجله وأن يضرب الأرض بها ثابتا مستقرا غير عابئ بما حوله من أعاصير، فالعلاج الوحيد عنده هو ما أنزله الله عليه وهداه إلى العمل به فهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 243 الذي يغسل الأوضار والأدران وهو المغتسل البارد والشراب، والقرآن كثيرا ما يكنى عن الوحى بالماء والمطر، ولا شك أن كلام الله هو العلاج لكل داء والدواء لكل مرض وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً. [الإسراء 82] . ووهبنا له أهله وأضعافهم معه، ولعل المراد بالأهل أتباعه في الدين، ووهبنا له ذلك رحمة منا وعظة وذكرى لأولى الألباب الذين يعلمون أن الأمر بيد الله، وأنه يكشف السوء ويجيب المضطر، ويدافع عن عباده المؤمنين الصابرين. وأمر أيوب أن يأخذ بيده ضغثا فيضرب به ولا يحنث. قالوا: إن امرأته خالفته في أمر فأقسم ليضربنها مائة فأرشده الله إلى أخذ (قنو) فيه مائة شمروخ أو يأخذ حزمة فيها مائة عود فيضرب بها ولا يحنث. إن ربك وجد أيوب صابرا على البلاء شاكرا على النعماء لأنه العبد أيوب، وإنما مدحه ربه بهذا لأنه أواب. وهذه ثالث قصة ذكرت في هذه السورة، وكلها فيها بلاء وفتنة واختبار وصبر، ثم نجاح في البلاء والفتنة، ولأصحابها زلفى ومكانة وحسن مآب عند الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. إبراهيم عليه السلام ونسله [سورة ص (38) : الآيات 45 الى 54] وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48) هذا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53) إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 244 المفردات: أُولِي الْأَيْدِي: أصحاب القوة وَالْأَبْصارِ: جمع بصر، أى: بصيرة في الدين أَخْلَصْناهُمْ: جعلناهم خالصين بِخالِصَةٍ: بخصلة خالصة لا شوب فيها الْمُصْطَفَيْنَ: جمع مصطفى، أى: المختارين الْأَخْيارِ: جمع خير قاصِراتُ الطَّرْفِ: حابسات نظرهن على الأزواج أَتْرابٌ: جمع ترب، أى: لدات في سن واحدة نَفادٍ أى: انقطاع. المعنى: واذكر عبادنا إبراهيم الخليل أبا الأنبياء، وإسحاق ابنه، ويعقوب بن إسحاق بن إبراهيم اذكرهم وقد وصفوا بالعبودية وأنهم أصحاب القوة في الطاعة، والبصيرة في الدين فهم من أولى العزم الثابت والنظر الكامل في أمور الدين، ولا غرابة في ذلك فتلك شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء، إنا أخلصناهم بخالصة هي ذكرى الدار الحقيقة دار المثوبة. وهذا تعليل للحكم عليهم بأنهم أولو قوة وبصيرة إنا جعلناهم خالصين لنا بسبب خصلة خالصة جليلة الشأن لا شوب فيها، هي تذكرهم دائما الدار الآخرة، فإن خلوصهم في الطاعة، وصدقهم في العمل كان بسبب تذكرهم الحياة الباقية فإنها مطمع أنظارهم، وأمل نفوسهم في جوار الله- عز وجل- والفوز بلقائه ولا يتسنى ذلك إلا بتذكر الآخرة، والخوف من الحساب يوم الحساب. وإنهم عندنا لمن المصطفين المختارين الأخيار. واذكر إسماعيل ابن إبراهيم وأبا النبي الكريم محمد صلّى الله عليه وسلّم واليسع وذا الكفل، وكل الأنبياء والمرسلين الذين ذكروا هنا أو ذكروا في غير هذا الموضع من الأطهار الأخيار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 245 هذا- والإشارة إلى ما وصفهم به- ذكر لهم، وأى ذكر أبعد من هذا؟ وإن للمتقين وأصحابهم وأتباعهم- وهم يدخلون في ذلك من باب أولى- لحسن مآب ومرجع في الآخرة، فهؤلاء لهم شرف وذكرى في الدنيا، ومثوبة في الآخرة، هي جنات عدن وإقامة يقيمون فيها، حالة كونها مفتحة أبوابها لهم، يدعون فيها بكل فاكهة كثيرة وشراب، ولهم فيها ما يدعون نزلا من غفور رحيم. وعندهم الحور العين مقصورات الطرف على أزواجهن، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان، حور كاللؤلؤ المكنون، وهن عرب أتراب. هذا ما أعد لكم أيها الصابرون المحتسبون في يوم الحساب. إن هذا- ما ذكر من نعيم دائم مقيم- لرزقنا لأهل الجنة ماله من نفاد ولا انقطاع عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ لهم أجر غير ممنون. إن ذلك لحق تخاصم أهل النار [سورة ص (38) : الآيات 55 الى 64] هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58) هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَقالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63) إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 246 المفردات: لِلطَّاغِينَ: للظالمين من الكفار مَآبٍ: مصير ومرجع الْمِهادُ: ما مهدوا لأنفسهم حَمِيمٌ: الماء الحار غَسَّاقٌ: اسم لما يجرى من صديد أهل النار أَزْواجٌ: أصناف وأجناس فَوْجٌ الفوج: الجمع الكثير مُقْتَحِمٌ: داخل فيها بشدة مَرْحَباً بِهِمْ الرحب: السعة، ومنه الرحبة للفضاء الواسع في الدار صالُوا النَّارِ: داخلوها الْقَرارُ: المقر وهو جهنم ضِعْفاً: مضاعفا، ومعناه: ذا ضعف زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ: مالت عنهم احتقارا لهم. المعنى: ما ذكر سابقا كان للمتقين، وما هنا للطغاة المشركين. الأمر هذا، وإن للطاغين لشر مآب ومصير. وإن لهم لجهنم يصلونها، ويدخلونها يصلون حرها ولهيبها فبئس المهاد ما مهدوه لأنفسهم من أعمال العذاب، هذا ولعل الإشارة إليه (بهذا) ليعلم أنه متميز عن غيره كأنه لا عذاب إلا هو، وإذا كان الأمر كذلك فليذوقوه هذا حميم وغساق قد أعد لمن يصلى جهنم. وعذاب آخر من شكله على شاكلته في الشدة والفظاعة أزواج وأجناس لا يعلم كنهها إلا الله. هذا فوج وجمع آخر مقتحم النار داخل فيها معكم أيها القادة والمتبوعون، وتقول الملائكة لهم: لا مرحبا بهم، إنهم صالوا النار، وهذا تعليل لدعاء الملائكة عليهم، ويحتمل أن يكون الدعاء (لا مرحبا بهم) من المتبوعين على التابعين، وماذا قال الأتباع الداخلون النار؟ قالوا: بل أنتم لا مرحبا بكم أيها القادة والمتبوعون، أنتم قدمتم العذاب لنا، وأنتم أغريتمونا على عملنا فاستحققنا ذلك العذاب فأنتم أحق بهذا الدعاء، فبئس المقر جهنم لنا ولكم قالوا- أى: الأتباع-: ربنا من قدم لنا هذا العذاب فزده عذابا مضاعفا من النار. وقالوا، أى: الطغاة بعضهم لبعض على سبيل التعجب والتحسر: مالنا لا نرى رجالا كنا نعدهم من الأشرار الأرذال الذين لا خير فيهم؟ قال ابن عباس: يريدون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 247 أصحاب النبي صلّى الله عليه وسلّم الفقراء كبلال وصهيب وعمار، فيقول: أين عمار؟ أين صهيب؟ .. أولئك في الفردوس ينعمون، وا عجبا لكم يا زعماء قريش!! أتخذناهم سخرية واستهزاء أم زاغت عنهم الأبصار؟! و المعنى: أى الأمرين فعلنا بهم: السخرية والاستهزاء أم الازدراء بهم وتحقيرهم وأن الأبصار تعلو عنهم وتقتحمهم؟! والمراد إنكار الأمرين جميعا على أنفسهم فإنهم قد فعلوا كل ذلك معهم. إن ذلك الذي حكى عنهم لحق ثابت لا شك فيه، هو تخاصم أهل النار، وفي الإبهام أولا والبيان ثانيا زيادة تقرير وتأكيد.. من الأدلة على صدق النبي [سورة ص (38) : الآيات 65 الى 70] قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) المفردات: نَبَأٌ عَظِيمٌ: خبر مهم جدّا بِالْمَلَإِ الْأَعْلى: هم أشرف الخلق الذين يملؤون العيون بهجة ورواء. وهذا رجوع إلى مناقشة الكفار، وإثبات النبوة والتوحيد والبعث. المعنى: قل لهم يا محمد: إنما أنا منذر من يخشاها، وما من إله إلا الله الواحد القهار، وقد أنذرتكم عذابا شديدا وحذرتكم يوما يجعل الولدان شيبا وجئت بالتوحيد ونفى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 248 الشركاء، وإثبات أن الله هو الواحد القهار، رب السموات والأرض وما فيهما وهو العزيز الغفار، أيها الناس إنما هو نبأ عظيم ما جئتكم به. وهو جد ليس بالهزل، وأنتم عنه وعن دلائله معرضون، يا قوم هذه الدلائل ناطقة بصدقى، وهذه المعجزة الباقية الخالدة شاهدة، وهي القرآن. فما كان لي من علم بالملإ الأعلى إذ يختصمون، والمراد بالملإ الأعلى: ما عدا البشر وقت أن قالوا شبههم في صورة المخاصم: أتجعل فيها من يفسد فيها، وقول إبليس لآدم: أنا خير منه، وقول الله على لسان ملك لآدم: أنبئهم بأسمائهم فإخبار النبي صلّى الله عليه وسلّم عن كل دليل واضح على صدقه، وأن هذا القرآن من الله لا من عنده فهو نبي أمى ولم يقرأ ولم يكتب ولم يجلس إلى معلم، وإنما هو وحى يوحى، وما يوحى إلى إلا أنما أنا نذير لكم من بين يدي عذاب شديد، فاعتبروا يا أولى الأبصار. قصة خلق الإنسان وإكرام الله له [سورة ص (38) : الآيات 71 الى 88] إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74) قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 249 المفردات: سَوَّيْتُهُ: أكملت خلقه فَقَعُوا لَهُ: فاسقطوا له ساجدين اسْتَكْبَرَ: عد نفسه كبيرا بغير استحقاق خَلَقْتُ بِيَدَيَّ: تمثيل لكونه- عليه السلام- معتنيا بخلقه الْعالِينَ: المستحقين للعلو. رَجِيمٌ: مرجوم ومطرود. فَأَنْظِرْنِي: فأمهلنى لَأُغْوِيَنَّهُمْ: لأزينن لهم المعاصي نَبَأَهُ: خبره المهلك حِينٍ: مدة من الزمن. وهذا تفصيل لأخبار الملأ الأعلى إذ يختصمون، فهو بيان لما أجمل من الاختصام، وإن ختام هذه السورة ذي الذكر العالي بهذا الختام الرائع لبيان فضل الله على آدم وبنيه، ومعاملة الملائكة له، ومعاملة إبليس لأبينا، وليعلم الناس بعض السر في عناد المشركين وشركهم حتى يحذروا من إبليس وجنده إنه لختام رائع حقا. المعنى: أنا رسول رب العالمين، وها أنذا أبلغكم عن ربي ما كان حاصلا مع الملأ الأعلى إذ يختصمون- وما كان لي ولا لقومي علم بذلك- إذ «1» قال ربك للملائكة، ويدخل معهم إبليس للمجاورة والملازمة، إذ لم يكن منهم على التحقيق كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «2» إذ قال لهم: إنى خالق بشرا من طين مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ   (1) إذ قال ربك بدل من إذ يختصمون. (2) - سورة الكهف آية 50. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 250 [الحجر 26، 28، 33] . فإذا سويته، وأتممت خلقه المادي، ونفخت فيه من روحي، والنفخ تمثيل لإفاضة ما به الحياة، فليس هناك نافخ ولا منفوخ، وإنما المعنى: فإذا أكملت استعداده وأفضت عليه ما يحيا به من الروح الطاهرة التي هي من أمر الله وشأنه فقعوا له ساجدين سجود تحية وتكريم لا سجود عبادة وتأليه. فسجد الملائكة كلهم أجمعون، و (كل) للإحاطة، و (أجمع) للاجتماع إلا إبليس اللعين فإنه أبى واستكبر واستعظم ولم يكن من الساجدين، وكان من الكافرين المستكبرين المتعاظمين على أمر الله. وماذا قال الله له عند ذلك؟ قال- عز وجل- على سبيل الإنكار والتوبيخ: يا إبليس أى شيء منعك من السجود لما خلقته بيدي؟ ما الذي منعك من السجود لآدم وقد خلقته بيدي، وصنعته بنفسي، وقولك: فعلت هذا بيدي مثلا، وصنعته بنفسي: تمثيل لكونك معنيا بفعله عناية تامة. يا إبليس أستكبرت أم كنت من العالين..؟! أى: أتكبرت ادعاء من غير استحقاق أم كنت من العالين المستحقين لذلك؟ والمراد إنكار هذا وذاك. وقال إبليس مدفوعا بطبعه المفهوم من طبيعة النار التي خلق منها- فإن طبعها الحماقة والاندفاع والتعالي والإضرار- قال إبليس: أنا خير منه، لأنك خلقتني من نار وخلقته من طين. قال الله له- ردّا على عمله القبيح-: فاخرج من الجنة فإنك رجيم مطرود من كل خير وبركة، وإن عليك اللعنة إلى يوم الدين. قال إبليس: إذا جعلتني يا رب رجيما مطرودا من رحمتك فأنظرنى وأمهلنى إلى يوم يبعثون عند النفخة الثانية، فلا تمتنى في الدنيا بل أمهلنى مع آدم وذريته إلى يوم البعث، طلب هذا الطلب ليظل يوسوس لآدم وذريته فيأخذ ثأره من آدم فإنه هو السبب في طرده من رحمة الله، فاتعظوا يا بنى آدم واحذروا.. قال الله- سبحانه-: إنك من المنظرين إلى ذلك اليوم المعلوم، وهكذا اقتضت إرادة الله أن يظل إبليس وجنده في وضع يتمكن معه من الوسوسة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 251 قال إبليس: فبعزتك وجلالك لأغوينهم أجمعين بتزيين المعاصي لهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين الذين أخلصتهم لعبادتك، وأصفيتهم لنصرة دينك، وعصمتهم من الغواية. وقرئ المخلصين الذين أخلصوا لله في العبادة والطاعة. إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ «1» . قال- عز وجل-: فالحق منى، وأنا الحق، وإنى أقول الحق. لأملأن جهنم منك يا إبليس ومن ذريتك الشياطين ومن تبعك في الغواية والضلالة من ذرية آدم أجمعين. يا كفار مكة هذه آيات شاهدة ناطقة على صدقى، وقد أخبرتكم خبرا صدقا عن الملائكة، وعن إبليس وطبيعته، وعن الإنسان وغريزته، والواقع يؤيد ذلك كله، أليس هذا دليلا على صدقى؟! أيها المشركون: أنا لا أسألكم على القرآن، وهذا النور الذي أسوقه لكم لا أسألكم على ذلك شيئا أبدا من حطام الدنيا الفاني. وما أنا من المتكلمين الذين يدعون ويتصنعون ويتحلون بما ليس فيهم وأنتم تعلمون عنى ذلك فإنى أنا منكم ونشأت بينكم. ما هو إلا وحى من الله يوحى إلى. وما هو إلا ذكر للعالمين ونور. وهدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، فيه الشفاء والذكرى والموعظة والعلاج والدواء من كل داء. ولتعلمن نبأه حقيقة بعد حين من الزمان سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ «2» . وقد ذكرت هذه القصة وكررت قبل ذلك في سورة الحجر وغيرها.   (1) - سورة الحجر آية 42. (2) - سورة فصلت آية 53. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 252 سورة الزمر وبعضهم يسميها سورة الغرف، وهي مكية. قيل: كلها، وعند بعضهم كلها إلا آيتين نزلتا بالمدينة اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وهي خمس وسبعون آية. وكأنها امتداد لآخر سورة (ص) حيث ذكر فيها خلق حواء من آدم، وخلق الناس كلهم، ثم ذكر أنهم ميتون ثم ذكر أحوال القيامة من حساب وجنة ونار، وختم بالقضاء العدل بين الناس فالحمد لله رب العالمين، ترى أن الله ذكر أحوال الخلق من المبدأ إلى المعاد مع اتصال ذلك كله بقصة آدم- عليه السلام- ذلك هو مجمل ما جاء في السورة، وزيادة على ما فيها من التعرض إلى نقاش المشركين وغيره مما هو معروف في السور المكية، وستعرفه في شرحها. [سورة الزمر (39) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 253 المفردات: زُلْفى: قربة لَاصْطَفى: لاختار. وهذه سورة مكية تكلمت أولا عن القرآن الذي أنزل على محمد بن عبد الله بالحق وناقشت المشركين في عقائدهم، ونفت عن الله اتخاذ الولد. المعنى: ذلك الكتاب الذي أحكمت آياته ثم فصلت، تنزيل من الله العزيز الذي لا يعجزه شيء في السماء ولا في الأرض، الحكيم صاحب الحكمة الذي يضع كل شيء في موضعه، والله سبحانه حكيم حقا لأنه عالم بكل الجزئيات، لا يعجزه شيء من الممكنات، ومستغن عن كل الحاجات، وإذا كان هذا كلامه وجب أن نتبعه في كل شيء وأن نؤمن به، وقد شرع الله في الكلام على ما أنزل عليه بعد الكلام على القرآن نفسه فقال: إنا أنزلنا إليك يا محمد القرآن ملتبسا بالحق الذي لا شك فيه، وبالصدق الذي ليس معه باطل ولا هزل، فكل ما فيه حق لا ريب فيه، موجب العمل به حتما، وإذا كان الأمر كذلك فاعبد الله أيها الإنسان مخلصا له الدين عبادة ليس فيها رياء ولا سمعة عبادة خالصة لوجه الله ليس معها شرك ولا وثنية. ألا لله الدين الخالص، نعم لله وحده الدين الخالص فلا شريك له ولا ند، فالاشتغال بعبادة الله على سبيل الإخلاص أفادته الآية الأولى، وأما نفى الشريك والبعد عن عبادة غير الله فقد أفادته الآية الثانية أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وعلى ذلك فلا تكرار، القرآن يحثنا على عبادة الله وحده مع الإخلاص والصدق في العمل، والذين اتخذوا من دون الله آلهة عبدوها وأشركوها بالله ويقولون: ما نعبدهم إلا ليقربونا زلفى.. كانوا إذا قيل لهم من ربكم؟ ومن خلقكم؟ ومن خلق السموات والأرض وأنزل من السماء ماء؟ قالوا: الله! فيقال لهم: ما معنى عبادتكم غيره؟ قالوا: عبدناهم ليقربونا إلى الله زلفى. ويشفعوا لنا عنده فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً. [الأحقاف 28] كأنهم يقولون: إنا نتخذهم وسطاء وشفعاء لله، والله- سبحانه- ليس في حاجة إلى ذلك إذ هو العليم الخبير بخلقه البصير بهم، واسع الفضل والرحمة فليس في حاجة إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 254 واسطة أو شفيع، وفرق شاسع بين الخالق والمخلوق، وقياس فاسد جدا أن تقيس الرئيس من بنى الإنسان على الرحمن العليم الخبير. إن الله يحكم بين الخلائق الموحدين والمشركين. إن الله لا يهدى من هو كاذب في اتخاذ الشركاء كافر بالله وبحقوقه وصفاته. وكانوا يقولون: الملائكة بنات الله، عجبا لهم!! لو أراد الله أن يتخذ ولدا لما رضى إلا بأكمل الأولاد وهو الابن، فكيف نسبتم إليه البنات؟! تجعلون لكم البنين، ولله البنات، تلك إذا قسمة ضيزى؟! سبحانه وتعالى عما يشركون، سبحانه هو الواحد الأحد الفرد الصمد، وإذا كان الله واحدا في ذاته وصفاته وأفعاله لم يكن من المعقول أن يكون له ولد لأن الولد من الصاحب والصاحبة، وإذا لم يتأت أن يكون له صاحبة لم يتأت أن يكون له ولد، أنى يكون له ولد ولم تكن له صاحبة؟! وكيف يحتاج إلى ولد وهو القهار الذي يقهر غيره فلا يحتاج إلى شيء أبدا، والمحتاج إلى الولد مقهور، أما القاهر فهو الواحد الأحد الغنى عن الشريك والصاحبة والولد، تبارك اسمه وتعالى جده، سبحانه له الملك وله الحمد.. من دلائل عظمة الله وكماله وقدرته! [سورة الزمر (39) : الآيات 5 الى 7] خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6) إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 255 المفردات: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ: يلقى هذا على هذا فإن التكوير في اللغة: طرح الشيء بعضه على بعض، ومنه كور المتاع والعمامة، أى: ألقى بعضه على بعض لِأَجَلٍ مُسَمًّى: لأجل معين محدود أَزْواجٍ: جمع زوج وهو اسم لكل واحد معه غيره، فإذا انفرد فهو فرد، والمراد الذكر والأنثى وِزْرَ حمل. ثبت مما تقدم في الآيات السابقة أن الله منزه عن الصاحبة والولد لأنه إله واحد قهار غالب لكل شيء. ومن كان كذلك فهو كامل القدرة غنى عن كل شيء، وهنا بين بعض مظاهر القدرة. المعنى: ذلكم الله خالق كل شيء، القادر على كل كائن حي، المنفرد بالوحدانية والملكوت، الغنى عن الصاحبة والولد والشريك، الذي خلق السموات وعوالمها، والأرض وما عليها، خلقها بالحق الذي لا يأتيه باطل ولا عبث ولا لهو. يكور الليل على النهار، ويكور النهار على الليل، سبحانه وتعالى جعل الليل والنهار خلفة يخلف بعضه بعضا، فهو يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل. فالتكوير. وجعل كل من الليل والنهار خلفة. وإيلاج زمان أحدهما في الآخر، كل هذا بمعنى واحد. فإن هذا الليل بجحافله وهدوئه وسكونه مع الظلام الدامس. إذا طرح شيء من هذا وألقى. ثم جيء بدله بالنهار وضوئه وضجيجه وشمسه وحره. فيه ما فيه من دلائل العظمة وكمال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 256 القدرة، وهو الله الذي سخر الشمس والقمر. وذللهما. كل يجرى لأجل مسمى. وزمن معلوم ونظام محدد، وبعده تنفطر السموات والأرضين. ويجمع الله الشمس والقمر. ويتبدل الحال غير الحال. وهذه مظاهر القدرة التي تدل على كمال العزة والسلطان فناسب أن تختم الآية بما يدل على الرحمة وسعة الرضوان. ألا هو العزيز الغفار. ثم تعرض القرآن لذكر الإنسان والحيوان فقال: خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ- هي آدم- ثُمَّ «1» جَعَلَ مِنْها زَوْجَها. وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أصناف من الإبل والبقر و، الغنم والمعز كل ذكر وأنثى منها زوج، فتلك أزواج ثمانية أنزلها ربك من عنده. وتفضل بها من لدنه. ثم ذكر حالة عامة تشمل الإنسان والحيوان فقال: يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ. وحالا من بعد حال: ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة ... الآية.. فتلك أطوار الخلق وهم في بطون أمهاتهم حالة كونهم في ظلمات ثلاث: ظلمة المشيمة، ثم ظلمة الرحم، ثم ظلمة البطن، ذلكم الله ربكم خالق كل شيء فاعبدوه. وهو على كل شيء وكيل. له الملك وحده. لا إله إلا هو فكيف تصرفون عبادته إلى عبادة غيره؟ ذلكم الله ربكم الغنى عن عبادتكم لا تضره معصيتكم. إن تكفروا فالله غنى عنكم. وليس محتاجا إلى إيمانكم، ولكنه لا يرضى لعباده الكفر فإنه ظلم. والرضا غير الإرادة. وإن تشكروا الله- سبحانه وتعالى- يرض لكم ذلك ويثبكم عليه لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ [سورة الفتح آية 18] بمعنى أنه أثابهم. واعلموا أنه لا تحمل نفس عن نفس حاملة للأزوار والأثقال من الذنوب شيئا بل كل نفس بما كسبت رهينة ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ يوم القيامة يجازى كلّ على عمله بالعدل والقسطاس المستقيم لأنه خبير بما تعملون. وهو العليم بذات الصدور ومكنونات النفوس.   (1) ثم كما تكون للترتيب في الزمن مع التراخي كذلك لمطلق الترتيب والمعطوف عليه هو خلقكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 257 المؤمن والكافر [سورة الزمر (39) : الآيات 8 الى 9] وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9) المفردات: ضُرٌّ: شدة مُنِيباً: راجعا إليه خَوَّلَهُ: أعطاه وملكه أَنْداداً: جمع ند والمراد: قرناء وشركاء قانِتٌ: مطيع خاشع آناءَ اللَّيْلِ المراد: في جوف الليل. المعنى: هؤلاء المشركون أمرهم عجيب! الأدلة على وحدانية الله وأنه قادر أظهر من الشمس في رابعة النهار. ومع هذا يشركون به غيره من صنم ووثن. وإن تعجب لهذا فعجب حالهم إذا مسهم ضر وشدة في مال أو ولد أو نفس دعوا الله منيبين إليه مستغيثين به. ثم إذا كشف الضر عنهم وخولهم نعمة سابغة لهم نسوا دعاءهم الذي كانوا يدعون به ربهم وَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ [سورة يونس آية 12] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 258 وهكذا إن الإنسان دائما إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «1» . يجعل لله أندادا وشركاء من دونه، وكانت العاقبة أن يضل بعمله هذا غيره عن سبيل الله. قل: تمتع أيها الإنسان بكفرك زمنا قليلا إنك من أصحاب النار، تمتع بالدنيا الزائلة وبمتاعها الفاني المصحوب بالألم والتعب والتهديد بالفناء، هذا هو الكافر بنعمة ربه. أما المؤمن الصالح فهذا وصفه: بل أم من هو قانت في جوف الليل ساجدا وقائما يدعو ربه، ويحذر حسابه ويخشى عقابه، ويرجو رحمته كمن تقدم ذكره من العصاة؟! هل يستوي المؤمن والكافر والطائع والعاصي؟ لا يستويان أبدا فإنه لا يستوي الذين يعلمون الحق فيتبعوه، ويعملوا به، والذين لا يعلمون الحق ولذلك فإنهم يتخبطون تخبط العشواء، ويسيرون في ضلالة عمياء، وإنما يتذكر أولو الألباب والعقول الصافية من المؤمنين. التقوى والإخلاص واجتناب الطاغوت [سورة الزمر (39) : الآيات 10 الى 20] قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16) وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَأَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَأُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)   (1) - سورة العاديات آية 6. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 259 المفردات: ظُلَلٌ: جمع ظلة وهي ما أظلك، والمراد: طبقات النار التي تعلو الطَّاغُوتَ من الطغيان: وهو الظلم، والتاء فيه مزيدة للتأكيد، والمراد: كل ما عبد من دون الله وَأَنابُوا: رجعوا حَقَّ: ثبت ووجب غُرَفٌ: جمع غرفة، وهي الحجرة وَعْدَ اللَّهِ: وعدهم الله بذلك وعدا الْمِيعادَ: الوعد. المعنى: أمر الله رسوله صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لعباده من المؤمنين مذكرا لهم وواعظا، أمره أن يأمرهم بتقوى الله ولزوم طاعته، وتقوى الله أخذ الوقاية من عذابه، وامتثال أو امره واجتناب نواهيه، لم ذا؟ لأن الله قد حكم بأنه للذين أحسنوا في هذه الدنيا بامتثال أمر الله وتنفيذ أحكامه حسنة عظيمة، حسنة في الدنيا بالعزة والسلطان والغنى والجاه، وحسنة في الآخرة بالثواب الجزيل والعطاء الكثير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 260 ومن هنا نعلم أن الإيمان وحده- وهو التصديق بالله وملائكته وكتبه ورسله- لا يكفى بل نحتاج معه إلى تقوى الله، وإن كان الإيمان الكامل جامعا لكل شيء، ولكن الله- سبحانه وتعالى- يرشدنا هنا إلى أن المؤمنين هم أولى الناس بتقبل الوعظ وأنهم في حاجة قصوى إلى تقوى الله في كل وقت، فإنى أسمع من بعض الناس يتشدقون بأنهم مسلمون وليسوا في حاجة بعد الذي هم فيه إلى شيء! وإن تعلل بعض المؤمنين بأنهم من بيئة لا تقام فيها أحكام الله وفي بلد يسير على غير الطريق المستقيم فليس هذا عذرا فأرض الله واسعة أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها «1» وأنتم أيها المسلمون ستلاقون في حلكم وترحالكم وفي جميع أوطانكم بعض العنت والشدة من إخوانكم المواطنين، ولا علاج لهذا كله إلا الصبر الذي يقضى على الشدائد، ولكم الجزاء الأوفى على صبركم. إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب. وأمر الله نبيه أن يقول لهم: إنى أمرت أن أعبد الله وحده مخلصا له ديني عبادة خالية من الشرك والرياء وحب السمعة، أمر صلّى الله عليه وسلّم ببيان ما أمر به من الإخلاص في عبادة الله الذي هو عبارة عما أمر به المؤمنون من التقوى والإخلاص مبالغة في حثهم على الإتيان بما كلفوه، وتمهيدا لما يعقبه. وأمرت لأن أكون أول المسلمين، أى: المقدم في الشرف والعمل الكامل. قل لهم يا محمد: إنى أخاف إن عصيت ربي أخاف عذاب يوم عظيم هوله، شديد ألمه. وفي هذا تحذير للناس وأى تحذير؟! قل لهم: الله وحده أعبد مخلصا له ديني. وليس هذا تكريرا مع قوله: إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ لأنه إخبار بأنه مأمور من جهة الله بالإتيان بالعبادة مع الإخلاص: أما قوله: اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي فهو إخبار بأنه أمر بألا يعبد أحدا غير الله «2» . فاعبدوا ما شئتم من دونه. وهذا الأمر المقصود منه الزجر والتهديد، وكأنه قال بعد هذا البيان السابق: فاعبدوا ما شئتم فأنتم أعرف بأنفسكم.   (1) - سورة النساء آية 97. [ ..... ] (2) - إذ تقديم المفعول- الله- يفيد الحصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 261 قل لهم يا محمد: إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم بالشرك والمعاصي، وخسروا أهليهم، أى: أتباعهم حيث أضلوهم، وأضاعوا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة. ألا ذلك هو الخسران المبين. لهم من فوقهم ظلل من النار وطبقات تعلو رؤوسهم. ولهم من تحتهم ظلل. وتسميتها ظللا من باب المشاكلة. على أنها ظلل لمن تحتهم في طبقة أخرى من النار. ذلك العذاب الفظيع يخوف الله به عباده ليخافوا فيجتنبوا ما يوقعهم به. يا عبادي فاتقون، ولا تتعرضوا لما يوجب سخطى وعذابي. والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها، وأنابوا إلى الله لهم البشرى. والطاغوت هو الشيطان لأنه سبب الكفر والعصيان، أو هو كل معبود دون الله. هؤلاء الذين تركوا عبادة الأوثان، وخالفوا الشيطان لهم البشرى بالثواب من الله على ألسنة الرسل الكرام. فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله ووفقهم، وأولئك هم أولو الألباب وأصحاب العقول السليمة. أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ «1» لست أنت مالك أمر الناس ولا أنت تقدر على إنقاذ من في النار، بل المالك والقادر على ذلك كله هو الله- سبحانه وتعالى- فأنت ترى أن الله- سبحانه وتعالى- جعل استحقاقهم للعذاب وهم في الدنيا بمنزلة دخولهم النار يوم القيامة. وقد جعل حالة النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يدعوهم إلى الإسلام، ويبالغ في تحصيل هدايتهم، بمنزلة حال من ينقذهم من النار إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ [القصص 56] . لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف مبنية من فوقها غرف تجرى من تحتها الأنهار. وعد الله المؤمنين بذلك وعدا كريما محققا. والله- سبحانه- لا يخلف وعده. ومن أصدق من الله حديثا؟!   (1) الهمزة للاستفهام الإنكارى، والفاء للعطف على مقدر تقديره: أأنت مالك أمر الناس فمن حقت عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه؟! والهمزة الثانية لتوكيد الأولى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 262 هذه هي الدنيا [سورة الزمر (39) : آية 21] أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) المفردات: فَسَلَكَهُ: أدخله يَنابِيعَ: جمع ينبوع، وهو عين الماء يَهِيجُ: ييبس، وقيل: يشتد حُطاماً: فتاتا مكسرا، من تحطم العود: إذا تفتت. المعنى: وهذه هي الدنيا الفانية متاعها زائل، وهي عرض حائل، الملتحف بها لا يدفأ، والمعتمد عليها معتمد على أوهى من بيت العنكبوت، إنما مثلها كماء أنزله الله من السماء فسلكه ينابيع من الأرض وأرسل منه عيونا متفجرة أخرج بها زرعا مختلف الأشكال والألوان والأنواع، ثم يهيج وييبس فتراه مصفرا ذابلا، ثم يكون حطاما مكسرا وعصفا مأكولا، إن في ذلك لذكرى، ولكن لأولى الألباب. نعم، إن العاقل الذي ينظر إلى تلك المظاهر التي يمر بها النبات يعرف أن عمر الحيوان كذلك مهما طال، وأنه وإن طال عمره فلا بد له من الانتهاء كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [سورة القصص آية 88] وهكذا الدنيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 263 النور وشرح الصدور بالقرآن [سورة الزمر (39) : الآيات 22 الى 26] أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) المفردات: شَرَحَ: فتح وبسط صَدْرَهُ: المراد قلبه نُورٍ: هدى مُتَشابِهاً أى: يشبه بعضه بعضا في الحسن والدقة مَثانِيَ جمع مثنى، والمراد تتكرر فيها القصص والمواعظ والأحكام تَقْشَعِرُّ الاقشعرار: التقبض، يقال: اقشعر الجلد: إذا تقبض تقبضا شديدا، والمراد: تضطرب وتتحرك بالخوف الْخِزْيَ: الذل والصغار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 264 المعنى: إنما يتذكر القرآن، ويتعظ بالمواعظ الإلهية أولو العقول الصافية من المؤمنين الذين يؤمنون بالغيب، والذين شرح الله صدورهم للإسلام، وهل هؤلاء الناس كمن انحرف عن الحق، وضل عن سواء القصد؟ .. ليس كل الناس سواء، فمن شرح الله صدره للإسلام، وخلقه مستعدا لقبول الحق فبقى على فطرته السليمة فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها فهو بسبب هذا متمكن من نور الحق مستقر على هدى الله، أفمن شرح الله صدره- كما ذكرنا- كمن قسا قلبه، وضاق صدره وغير فطرة الله بسوء اختياره وإعراضه عن آيات الله حتى لا يتذكر بها؟؟ لا يمكن أن يسوى هذا بذاك. فويل شديد لمن قسا قلبه، وضاق صدره من أجل ذكر الله، الويل ثم الويل لهؤلاء الكفرة الذين إذا ذكر الله وحده أو تليت آية من آياته اشمأزت قلوبهم من أجل ذلك أولئك البعيدون في درجات جهنم في ضلال بيّن ظاهر. عجبا لهؤلاء!! الله نزل أحسن الحديث، وهو القرآن الكريم، ولا شك أنه أحسن ما تحدث به الإنسان لأنه حديث الرحمن، وهو ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه لأنه تنزيل من حكيم حميد، وعزيز عليهم، وهل هناك أصدق من الله حديثا؟. وروى عن سعد بن أبى وقاص أنه قال: قال أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لو حدثتنا؟ فأنزل الله- عز وجل-: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ فقالوا: لو قصصت علينا؟ فنزل: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ فقالوا: لو ذكرتنا؟ فنزل: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ فالله نزل على محمد أحسن الحديث وأكمله وأعلاه، وما أروعه وأصدقه أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ؟ فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ. الله نزل أحسن الحديث حالة كونه كتابا موصوفا بصفات هي التشابه، والمعنى أنه كتاب متشابه الأعجاز والأطراف، متشابه في المعنى والغرض، والصحة ودقة الحكم، وتتبع منافع الناس، فهو كما قالت الأعرابية في بنيها: هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها. فالقرآن كذلك- ولله المثل الأعلى- كله حسن وجميل وبليغ ودقيق، وكله من عند الله وكفى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 265 وهو كتاب يشبه بعضه بعضا وتثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام، أى: تعاد وتكرر بمنتهى البلاغة وروعة التصوير ودقة التعبير. هذا وصفه في نفسه، فإذا سمعه المؤمنون اقشعرت منهم الجلود، واضطربت منهم القلوب، ووجلت منهم النفوس، إذا سمعوا وعيد الله، ورأوا بعيون البصيرة ما أعد للمكذبين الكفار دمعت عيونهم وخشعت أصواتهم، واقشعرت جلودهم، ثم تلين قلوبهم وتسكن حينما يسمعون ذكر رحمة الله بالمؤمنين، تفرح نفوسهم، وتنشرح صدورهم إلى ذكر فضله على المؤمنين يوم لقائه. عن أسماء بنت أبى بكر الصديق- رضى الله عنهما- قالت: كان أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إذا قرئ عليهم القرآن- كما نعتهم الله- تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم، فقيل لها: فإن أناسا اليوم إذا قرئ القرآن خر أحدهم مغشيا عليه، فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ومر ابن عمر- رضى الله عنه- برجل من أهل القرآن ساقطا، فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إذا قرئ عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط: فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط.. ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلّى الله عليه وسلّم ذلك- والإشارة إلى الكتاب الذي مر ذكر وصفه- هدى الله، يهدى به من يشاء من عباده ومن يضلله الله فما له من هاد يهديه بعده، ومن هنا ندرك أن القرآن وتلاوته وسماعه هو سر شرح الصدور، والعامل الأول في جلاء القلوب وإزالة صدأ النفوس. هل يستوي المهتدى إلى نور الحق والضال عن سواء السبيل؟ لا يستويان بحال أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ؟ بمعنى: أكلّ الناس سواء؟ فمن شأنه أن يتقى- بوجهه الذي هو أشرف أعضائه- يتقى به العذاب السيئ يوم القيامة لأن يده التي جعلت للاتقاء بها مغلولة إلى عنقه كمن هو آمن لا يعتريه مكروه، ولا يصيبه سوء أبدا؟ من يسوى هذا بذاك؟ وكيف يستويان؟! أحدهما كافر بالقرآن متحزب مع الشيطان والآخر قد اهتدى بنور القرآن، وأفعم قلبه وصدره ببرد اليقين ونور رب العالمين. ولا يستويان وقد قيل للظالمين: ذوقوا ما كنتم تكسبون، وهذا عذاب الكفار يوم القيامة، وهاك عذابهم في الدنيا: كذب الذين من قبلهم فأتاهم العذاب المقدر لهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 266 كالخسف والإبادة أو الذل من حيث لا يشعرون، ولعذاب الآخرة أشد وأنكى، ولكنهم لا يعلمون. الأمثال في القرآن [سورة الزمر (39) : الآيات 27 الى 31] وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) المفردات: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا: المراد بضرب المثل: تطبيق حالة غريبة على حالة تشبهها غَيْرَ ذِي عِوَجٍ: غير ذي اختلاف بوجه من الوجوه. والعوج: ما يدرك بالفكر والنظر، والعوج: ما يدرك بالحس سَلَماً: سالما. المعنى: بعد ما تقدم ذكره يقول الحق- تبارك وتعالى-: ولقد ضربنا للناس في هذا القرآن- والإشارة فيه للتعظيم- الكامل في كل شيء الأمثال في جميع ما يحتاجون إليه في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 267 شئون دينهم ودنياهم ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ «1» ضربناه لهم لعلهم يتذكرون ويتعظون، ضربناه في هذا القرآن حالة كونه قرآنا عربيا لا اختلال فيه بوجه من الوجوه فهو المستقيم في كل قصد وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ «2» وإنما كان ذلك كذلك لعلهم يتقون. فأنت ترى أن الأمثال في القرآن تضرب للتذكرة والموعظة لتحصل التقوى التي هي الغرض الأسمى. ضرب الله للمؤمن الموحد وللكافر المشرك مثلا: رجل مملوك لشركاء متشاكسين مختلفين كل له رأى وحاجة. فكل يطلب من هذا العبد حاجة لا يطلبها الآخر، فماذا يفعل؟ وقد تقاسمته الأهواء واختلفت به السبل؟ وهذا رجل آخر مملوك لشخص واحد فهو سالم له، ليس لغيره سبيل عليه، هكذا المسلم لا يعبد إلا الله، ولا يسعى لإرضاء غير ربه الرحمن الرحيم ذي الفضل العظيم عليه فهل تراه في راحة أم حيرة وضلال؟ أما المشرك فهو يعبد آلهة، ويتجه إلى شركاء مختلفين فهو دائما في حيرة وارتباك لا يدرى كيف يرضى الجميع؟ هل يستوي المسلم الموحد بالكافر المشرك؟ لا يستويان بحال.. الحمد لله الذي وفقنا للإسلام، وهدانا إلى الحق، ولولاه ما اهتدينا فالحمد له جل شأنه، بل أكثر الناس لا يعلمون ذلك. ولما لم يلتفتوا إلى الحق، ولم ينتفعوا بضرب الأمثال هددهم ربك بالموت، وانتهاء هذا الوضع بقوله: إنك ميت يا محمد، وإنهم ميتون، فالكل فان ولا يبقى غير وجه ربك ذي الجلال والإكرام. ثم إنكم يوم القيامة تختصمون، وسيحكم الله بينكم يوم القيامة فلا تأسوا يا أمة محمد على القوم الكافرين، واصبروا إن الله مع الصابرين.   (1) - سورة الأنعام آية 38. (2) - سورة الأنعام آية 153. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 268 من أظلم الناس..؟ ومن أصدقهم؟ [سورة الزمر (39) : الآيات 32 الى 37] فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35) أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37) المفردات: مَثْوىً أى: مقاما لهم، يقال: ثوى بالمكان إذا أقام به بِكافٍ أى: يقيه وعيد المشركين. المعنى: إنك يا محمد ميت، وإنهم ميتون، إذ كل شيء هالك إلا وجهه، ثم إنكم بعد مفارقة الدنيا عند ربكم تختصمون، وسيحكم الله بينكم حكمه الفصل، ويقضى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 269 قضاءه العدل، وإذا كان الأمر كذلك فمن أظلم الناس؟ لا أحد أظلم ممن كذب على الله حيث أضاف إليه الشريك والولد، وكذب بالأمر الذي هو عين الصدق إذ جاءه فلم يترو ولم يفكر، بل فاجأ بالتكذيب والرد، والمعنى أن هذا الذي كذب على الله، وكذب بالقرآن أظلم من كل ظالم، ولا أحد أظلم منه. أليس في جهنم مثوى لهؤلاء الذين افتروا على الله الكذب، وسارعوا إلى التكذيب بالصدق، والمراد أن جهنم أعدت لهؤلاء، وهي كافية لهم حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها [سورة المجادلة آية 8] فهي عقوبة لكفرهم. وأما الذي جاء بالصدق، والقول الحق، وهو رسول الله وخاتم أنبيائه وإمام رسله صلّى الله عليه وسلّم والذين صدقوا به وآمنوا بأنه من عند الله وفيه تبيان كل شيء والخير لكل كائن حي، أولئك هم المتقون دون سواهم، لهم ما يشاءون ويطلبون عند ربهم، من كل نافع لهم ومفيد يوم القيامة، لا في الجنة فقط، ولكن لهم ما يشاءون يوم الحساب يوم الفزع الأكبر، وعند كل موقف عسير، ذلك الجزاء المذكور جزاء المحسنين. وعدهم الله بذلك كله ليكفر عنهم سىء ما عملوا إن كان لهم سىء، وليجزيهم أجرهم كاملا بأحسن أعمالهم التي كانوا يعملونها، وكل عمل لهم فهو أحسن لمزيد إخلاصهم وحسن تقبل الله له. قد يقول قائل: ما معنى أن الله يكفر عن المتقين أسوأ ما عملوا؟ وهل لهم سيّئ وأسوأ والله يكفر الأسوأ فقط؟ والجواب أن هؤلاء المتقين لشدة تقواهم إذا فرط منهم ذنب صغير فهو عندهم أسوأ الذي عملوا لاستعظامهم المعصية في جنب الله، فكل ذنب صغير فهو في نظرهم كبير، بل أسوأ أعمالهم، فليس لهم سىء وأسوأ في الواقع، وكذلك الحسن الذي يعملونه هو عند الله الأحسن، لحسن إخلاصهم ومزيد تقواهم فلذلك ذكر سيئهم بالأسوإ- في نظرهم كما سبق- وحسنهم بالأحسن كما علمت.. أليس الله بكاف عبده «1» والمعنى أن الله كاف عبده وهو النبي صلّى الله عليه وسلّم ومؤيده وعاصمة   (1) مثل هذا التركيب من كل استفهام دخل على نفى يفيد التقرير بمدخول النفي أو بما يعلمه المخاطب، كقوله تعالى: أَلَمْ نَشْرَحْ، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ إلخ ومنشأ هذا أن الاستفهام إنكارى دخل على النفي فأفاد معنى التقرير والتثبيت بالدليل إذ نفى النفي إثبات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 270 من الناس جميعا، وهذا الأسلوب العربي العالي يفيد أن كفاية الله لعبده من التحقيق والظهور بحيث لا يقدر أحد على إنكارها، بل على التفوه بعدمها، ولذلك قيل: أمدح بيت قالته العرب: ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح فلما سمعه عبد الملك بن مروان من جرير الشاعر وكلاهما عربي بطبعه، وكان منصرفا عنه التفت وأجزل مثوبته، والبيت في مدح بنى مروان. أليس الله بكاف عبده؟ ويخوفونك بالذين من دونه من الأصنام التي لا تسمع ولا تنفع، بل لا تدفع عن نفسها الأذى، فأبشر بطول سلامة!! ومن يضل الله حتى يغفل عن قدرته الله وكفايته عبده ورسوله فيخوف النبي بما لا ينفع ولا يضر فما له من هاد يهديه إلى الخير أبدا. ومن يهده الله إلى الحق والصواب فما له من مضل أبدا، أليس الله بعزيز لا يغلب، ولا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض، ذي انتقام ينتقم من أعدائه لأوليائه. مناقشة أهل الشرك في عبادتهم الأصنام [سورة الزمر (39) : الآيات 38 الى 40] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 271 المفردات: بِضُرٍّ الضر: الشدة والبلاء بِرَحْمَةٍ المراد بها: النعمة والرخاء مَكانَتِكُمْ أى: حالكم التي أنتم عليها وعداوتكم التي تمكنتم فيها، وقد استعمل المكانة بمعنى المكان في الحالة التي عليها الشخص «1» . المعنى: لما أطنب الله- تعالى- في ذكر وعيد المشركين وعذابهم في الدنيا والآخرة وفي ذكر ما أعد للمتقين في الفانية والباقية، لما أطنب في ذلك عاد إلى إقامة الدليل على بطلان الشرك وعبادة الأصنام فقال ما معناه: ولئن سألتهم يا محمد: من خلق السموات والأرضين؟ ليقولن مجيبين بجواب واحد لا خلاف فيه: خلقهن الله. عجبا لهؤلاء؟! إذا كانوا يقرون بخلق الله الكون- سماءه وأرضه- فكيف يشركون معه غيره؟! قل لهم: أإذا كان الأمر كذلك فأخبرونى عن آلهتكم إن أرادنى الله بضر هل هن يكشفن عنى ذلك الضر!! نعم وهذا عجيب حقا إذا لم يكن خالق سواه فهل يمكن غيره أن يكشف ما أراده من خير أو ضر؟! هل هذه الأصنام تمنع ضرّا أراده الله؟ أو تمسك رحمة أرادها الله؟ لا هذا ولا ذاك، وقد كانوا يخوفون النبي بالأصنام. قل لهم وقد وضح الصبح لذي عينين: الله حسبي وكفى، وعليه أتوكل وإليه ألجأ، فهو نعم المولى ونعم النصير، وعليه يتوكل المتوكلون. قل: يا قوم اعملوا ما شئتم، اعملوا على مقتضى حالتكم التي أنتم عليها من العداوة السافرة لي ولأصحابى، إنى عامل على مقتضى ما وضعني الله فيه، فسوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه في الدنيا، ويحل عليه في الآخرة عذاب دائم مقيم.   (1) - حيث شبه الحال بالمكان- بمعنى المكانة- القائم فيه الشخص، أى: ثباتهم في تلك الحال بثبات المتمكن في مكانه ووجه الشبه الثبات في كل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 272 إثبات وحدانية الله وقدرته مع مناقشتهم وبيان جزائهم [سورة الزمر (39) : الآيات 41 الى 48] إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَوَلَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45) قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَبَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 273 المفردات: يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ: يقبضها عند انتهاء آجالها اشْمَأَزَّتْ الاشمئزاز: انقباض في القلب وضيق في النفس يظهر أثره في الوجه يَسْتَبْشِرُونَ الاستبشار: امتلاء القلب سرورا فيظهر أثر ذلك في بشرة الوجه وَبَدا لَهُمْ: ظهر ما لم يكن في الحسبان. لا يزال القرآن الكريم يسوق الدليل تلو الدليل على وحدانية الله- سبحانه وتعالى- ووصفه بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص، مع مناقشة هؤلاء المشركين في عقائدهم الفاسدة، تارة بلفت أنظارهم إلى معبوداتهم من حيث ضررها ونفعها، وتارة ببيان آثار القوى القادر، وتارة بالتهديد لهم وتسفيه أحلامهم وبيان عاقبتهم يوم القيامة لعلهم يرجعون عن غيهم، ويثوبون إلى رشدهم. المعنى: الله- سبحانه وتعالى- هو الذي أنزل عليك الكتاب هدى للناس وتبيانا لكل ما يحتاجون في دينهم ودنياهم، أنزله ربك مقرونا بالحق متلبسا به، فمن اهتدى به فلنفسه بغى الخير، ومن ضل عنه وحاد عن طريقه فإنما يضل وضلاله على نفسه، إذ عاقبة خسارته عليها وحدها، وأما أنت يا محمد فلست عليهم بوكيل، إنما عليك البلاغ وعلينا الحساب، فلا يهمنك أمرهم، ولا تحزن عليهم. الله- سبحانه- هو الذي يتوفى الأنفس ويقبضها عن أبدانها حين موتها بحيث لا يستقدمون عنه ساعة من الزمن ولا يستأخرون، ويتوفى الأنفس التي لم تمت في نومها والمعنى أنه- سبحانه- يتوفى هذه الأنفس في وقت نومها فالله- سبحانه- يقطع تعلق الأرواح بالأبدان حتى لا تتصرف فيها إلا بقدر، فتوفيها حين الموت قطع لتصرفها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 274 في البدن ظاهرا وباطنا دائما لا رجوع فيه، وتوفيها حين النوم قطع للتصرف فيه ظاهرا فقط، وإلى وقت محدود، ثم تعود الروح بعده إلى الجسم كما كانت. وتظل معه إلى أجل معلوم محدود الله يعلمه، وهذا معنى قوله تعالى: فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى. فالنوم- كما يقولون- موت أصغر، والموت نوم أكبر، والأمر كله لله، وما أشبه النوم والموت بجهالة المشركين، وما أشبه الحياة واليقظة بنور الإسلام وهدى القرآن، والكل من الله- سبحانه- إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون بعقولهم فلا يحيلون البعث بعد الموت، فيها أنت إذ تصحو بعد النوم، وتحيا بعد الموت في كل يوم مرة أو مرتين «لتموتنّ كما تنامون، ولتبعثنّ كما تستيقظون» ، وكان الكفار إذا لزمتهم الحجة، وانقطع بهم السبيل قالوا- وبئس ما قالوا-: الله خالق كل شيء هو الحكيم العليم، وهذه الأصنام نبعدها لأنها تشفع لنا وتقربنا من ربنا! عجبا لهؤلاء! بل اتخذوا من دون الله شفعاء لهم، يشفعون عند ربهم بدون إذنه ولا علمه؟! قل لهم يا محمد: أيشفعون والحال أنهم لا يملكون شيئا ولا يعقلون؟ عجبا لكم أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا لا يملكون شيئا من الأشياء فضلا عن أن يملكوا الشفاعة عند الله- تعالى- وهم لا يعقلون. قل لهم: لله الشفاعة جميعا، فلن يستطيع أحد أن يشفع إلا بإذنه، والسبب في هذا أنه له وحده الملك التام للسموات والأرض، ثم إليه وحده الأمر والمصير يوم القيامة، فاحذروا عقابه وارجوا ثوابه. وتلك سيئة من سيئاتهم التي لا تحصى إذا ذكر الله مفردا عن الآلهة اشمأزت قلوب المشركين الذين لا يؤمنون بالآخرة، وامتلأت قلوبهم غيظا وغما حتى يظهر ذلك في وجوههم وَإِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً [الإسراء 46] . وإذا ذكر الذين من دونه من الآلهة إذا هم يستبشرون، أى: فاجأهم وقت الاستبشار. ولما ذكر عنهم هذا الأمر العجيب الذي تشهد بدائه العقول ببطلانه أردفه بأمرين أحدهما دعاء الله مع وصفه بالقدرة التامة والعلم الشامل، ثم قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: أنت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 275 يا رب تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، وهؤلاء المشركون بعد ظهور الأدلة ووضوحها ينفرون من التوحيد ويستبشرون بالشرك، وأنت يا رب وحدك القادر على إزالة هذا منهم وصدهم عن عبادتهم هذه. ثانيهما أنهم يوم القيامة في حال يودون أن لو كان لهم ما في الأرض جميعا ومثله معه لافتدوا به أنفسهم من عذاب جهنم إن عذابها كان غراما، وفيه ظهر من أنواع العذاب التي أعدها الله لهم ما لم يكن في حسابهم ولا تقديرهم، ونظير ذلك قول الله في جانب المؤمنين: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ وقد ظهر لهم سيئات ما كسبوا من سىء الأعمال، وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون. فهذا هو جزاؤهم، وقد كانوا من قبل يستهزئون بالنبي وينكرون وعيده لهم، وها هم أولاء قد لمسوه وعرفوه، وندموا ولات ساعة مندم.. هكذا الإنسان [سورة الزمر (39) : الآيات 49 الى 52] فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 276 المفردات: مسه: أصابه خَوَّلْناهُ: أعطيناه وملكناه فِتْنَةٌ: اختبار وابتلاء بِمُعْجِزِينَ: بسابقين الله وبفائتيه. المعنى: وتلك سيئة أخرى من سيئاتهم المتكررة، وهذه كلها تنشأ من أنهم لا يؤمنون حقا بوجود إله قوى يصرف هذا الكون، فهم ينظرون إلى الدنيا نظرة سطحية خاطئة، فإذا مسهم الضر، ووقعوا في الشدة لجئوا إلى الله، ودعوه منيبين إليه، ثم إذا كشف الضر عنهم، وخولهم ربك نعمة من عنده نسوا ما كانوا يدعون من قبل وقالوا: إن هذا الخير وصل إلينا لعلم عندنا بأمور الدنيا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي [القصص 78] . وهكذا الإنسان يلجأ إلى الله في الشدائد حتى إذا نجا وأدرك ساحل السلامة وآتاه الله بسطة في مال أو جاه قال: إنما حصل لي هذا بسبب نشاطي وجدي وكمال عقلي وقوة حدسى، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فهم دائما يذكرون الله في السراء والضراء، فإن مسهم خير شكروا الله لأنه صاحب النعمة، وإن مسهم ضر صبروا ولجئوا إلى الله لأنه وحده هو الذي يكشف الشر، أيها الناس: لا تغتروا بما أوتيتم، بل النعم فتنة وابتلاء ليعلم أتشكرون أم تكفرون، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن إعطاءهم بلاء واختبار! قد قال مقالة الكفار هذه الذين من قبلهم من كفار الأمم السابقة، وهذا دليل على أن ذلك طبع في الإنسان، إنه كثير النسيان، مغرور بما أعطى من مال أو جاه، قد قالها من قبلهم، فما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون. لم تغن عنهم أموالهم ولا أولادهم من عذاب الله، فأصابهم سيئات ما كسبوا، والذين ظلموا من هؤلاء- أى: كفار مكة- سيصيبهم سيئات ما كسبوا فإنهم مغرورون بأموالهم، وكثيرا ما قالوا: أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا؟! أو لم يعلموا أن الله يبسط الرزق لمن يشاء له ذلك ولو كان كافرا جاهلا، وله في ذلك حكم تخفى على كثير من الناس، والله يقتر الرزق على من يشاء ولو كان مسلما عاقلا حكيما لحكم هو وحده يعلمها، فليس الرزق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 277 الواسع دليلا على محبة الله، وليس الفقر دليلا على بغض الله، وليس واحد منهما يرجع إلى عقل صاحبه وتفكيره فقط، فكثيرا ما نرى أن المال يأتى لمن لا حيلة له حتى يتعجب صاحب الحيلة، إن في ذلك لآيات ناطقة بأن الكل من الله، والأسباب الظاهرة ملغاة في غالب الأحوال، ولا يعقل ذلك كله إلا القوم المؤمنون. وعظ وإرشاد [سورة الزمر (39) : الآيات 53 الى 59] قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 278 المفردات: أَسْرَفُوا: تجاوزوا الحد لا تَقْنَطُوا: لا تيأسوا وَأَنِيبُوا: ارجعوا وَأَسْلِمُوا: من الاستسلام والخضوع بَغْتَةً: فجأة يا حَسْرَتى الحسرة: الندامة فِي جَنْبِ اللَّهِ: المراد طاعة الله وطلب مرضاته السَّاخِرِينَ: المستهزئين كَرَّةً: رجعة. روى عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال: لما اجتمعنا على الهجرة، اتعدت أنا وهشام بن العاص بن وائل السهمي، وعياش بن أبى ربيعة بن عتبة، أى: تواعدنا فقلنا: الموعد أضاة بنى غفار- أى: غديرهم- وقلنا: من تأخر منا فقد حبس فليمض صاحبه، فأصبحت أنا وعياش بن أبى ربيعة وحبس عنا هشام، وإذا به قد افتتن فكنا نقول بالمدينة: هؤلاء قد عرفوا الله- عز وجل- وآمنوا برسوله صلّى الله عليه وسلّم ثم افتتنوا لبلاء لحقهم ألا نرى لهم توبة؟! وكانوا هم أيضا يقولون هذا في أنفسهم، فأنزل الله- عز وجل- في كتابه قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ.. الآيات. قال عمر: فكتبتها بيدي ثم بعثتها إلى هشام، قال هشام: فلما قدمت علىّ خرجت بها إلى (ذي طوى) مكان بمكة فقلت: اللهم فهمنيها فعرفت أنها نزلت فينا، فرجعت فجلست على بعيري فلحقت برسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ورويت روايات أخرى في سبب النزول، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. المعنى: قل يا محمد مبلغا عنى الذين أسرفوا على أنفسهم، وأفرطوا في المعاصي: يا عبادي لا تيأسوا من رحمة الله فإنه لا ييأس من رحمة الله إلا القوم الكافرون، لا تقنطوا من مغفرة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعا، إنه هو الغفور الرحيم، وهو تعليل للنهى عن اليأس والقنوط، وهذه الآية في كتاب الله، فهي تفتح باب الأمل للعصاة من المؤمنين حتى لا يظلوا سادرين في غيهم راكبين رءوسهم في طاعة أنفسهم وشياطينهم. والنفس كثيرا ما تشعر بذنبها، وتندم على فعلها، وتذكر ماضيها، وتود لو أنها كانت من المؤمنين الذين عملوا الصالحات، فلو سد باب التوبة والرجوع إلى الله لظل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 279 أغلب الناس يتخبطون في ظلمات المعاصي، ولكن فتح باب التوبة يسد على إبليس كثيرا من النوافذ، وقد تكون توبة العاصي عند الله أحسن من عبادة العابد، والذي يرجع عن السوء، وينخرط في سلك التوابين قد يكون عند الله من المقربين، لأنه يعمل عن عقيدة عملا صادرا من نفس أدركت خطر المعاصي ولذة الطاعات. الله- سبحانه وتعالى- ينهانا عن اليأس ويفتح أمامنا باب الأمل، ويأمرنا بقوله: وأنيبوا إلى ربكم الذي رباكم وتعهدكم وأنتم ضعاف حتى قوى ساعدكم، وأسلموا له واخضعوا لحكمه وامتثلوا أمره، وبادروا إلى ذلك بسرعة من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة ساعة الموت وطلوع الروح ثم لا تنصرون، ومن ينصركم من الله ويمنعكم منه؟ وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ الآية إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ.. [سورة النساء الآيتان 17، 18] . واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم، والله- سبحانه- أنزل على الأنبياء كتبا كالتوراة والإنجيل، وأحسنها وأوفاها وأكملها هو القرآن لأن ما تقدمه كان تهيئة لنزوله وإعدادا لقبوله، والله أعلم بأسرار كتابه، وقيل غير ذلك، وسارعوا إلى ربكم، وأسرعوا في امتثال أمره واجتناب نهيه وأنتم الآن في فسحة من العمل من قبل أن يأتيكم العذاب بغتة، وأنتم لا تشعرون به، اتبعوه كراهة أن تقول نفس يوم الحساب: يا حسرتى احضرى فهذا أوانك، يا حسرتى على ما فرطت في طاعة الله وأهملت في كل ما يوصلني إلى جواره، ويدخلني جنته، ولات ساعة مندم. ويا ليتني فرطت في العمل فقط بل كنت من المستهزئين الذين استهزءوا بدين الله، وبمن آمن به، ولعله يخبر بذلك متحسرا على ما قدم. أو تقول نفس حينما ترى المؤمنين وقد جوزوا على عملهم أحسن الجزاء: لو أن الله هداني لكنت من المتقين كهؤلاء. أو تقول نفس حين ترى العذاب الذي أعد لها: لو أن لي كرة ورجوعا إلى الدنيا فأعمل صالحا وأكون من المحسنين، كلا إنها كلمة هو قائلها، بلى «1» قد جاءتك آياتي   (1) بلى حرف جواب من الله تعالى لما تضمنه قول القائل: «لو أن الله هداني» من نفى، لأنه لا يجاب بها إلا بعد نفى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 280 على لسان رسلي واستكبرت عن اتباع الحق، وكنت من الكافرين وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ- الطريقين- فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ [سورة البلد الآيتان 10، 11] . لا إله إلا الله يجزى كلا على عمله [سورة الزمر (39) : الآيات 60 الى 67] وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (61) اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) المفردات: مَثْوىً: مكان إقامة، يقال: ثوى بالمكان: أقام به بِمَفازَتِهِمْ: بفوزهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 281 بالعمل الصالح مَقالِيدُ: جمع مقليد أو مقلد أو مقلاد: وهو المفتاح لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ الإحباط: الإبطال والإفساد بِيَمِينِهِ اليمين: تطلق على الجارحة، أو على القدرة والملك، أو القوة لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ وعليه قول الشاعر: إذا ما راية رفعت لمجد ... تلقاها عرابة باليمين المعنى: في هذه الآيات الكريمة بيان جزاء الكافرين والمؤمنين يوم القيامة بالإجمال وبيان دلائل التوحيد والألوهية وموقف النبي صلّى الله عليه وسلّم من ذلك.. ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة، والخطاب هنا للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولكل من تتأتى منه الرؤية، ولا شك أن المشركين كذبوا على الله حيث وصفوه بغير صفاته، وأثبتوا له الشريك والولد، وهؤلاء الكذابون، تراهم يوم القيامة قد اسودت وجوههم، وعليها غبرة ترهقها قترة، أولئك هم الكفرة الفجرة الذين كذبوا على الله وعلى رسوله، لما رأوا ما أعد لهم ظهرت عليهم علائم الخوف والاضطراب. أليس في جهنم مثوى لأولئك الكذابين الذين جاءتهم آيات الله فكذبوا بها واستكبروا عنها؟ وهذا تقرير لرؤيتهم يوم القيامة سود الوجوه، وأما المؤمنون الصادقون فأولئك لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وقد نجاهم ربك لأنهم اتقوا ما أعد للكفار حالة كونهم متلبسين ومقترنين بفلاحهم وظفرهم بطلبهم وهي الجنة قد أعدت لهم، لا يمسهم فيها سوء، ولا هم يحزنون. لا غرابة في هذا، فالله خالق كل شيء، وهو على كل شيء وكيل يتصرف فيه كيفما شاء، والكل محتاج إليه «1» ، له مقاليد السموات والأرض وهذه كناية عن قدرته- تعالى- وحفظه لها بمعنى أنه لا يملك التصرف في خزائن السموات والأرض- وهي ما أودع فيها من منافع- غيره تعالى. وأخرج البيهقي عن ابن عمر أن عثمان بن عفان- رضى الله عنه- سأل رسول الله: صلّى الله عليه وسلّم عن تفسير قوله تعالى: لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فقال رسول الله   (1) الفصل بين الجملتين لأن الثانية بمنزلة التوكيد للأولى، وقيل: هي تعليل لقوله: (وهو على كل شيء وكيل) أو بمنزلة عطف البيان، ويرجح بعضهم أنها مستأنفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 282 صلّى الله عليه وسلّم: ما سألنى عنها أحد: لا إله إلا الله والله أكبر. وسبحان الله وبحمده. أستغفر الله. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلى العظيم، هو الأول والآخر والظاهر والباطن، يحيى ويميت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. والمراد أنه يعطى أجرا على ذلك كبيرا، ويحرس من كل شر كما ورد في بعض الروايات، فكأن هذا الدعاء إذا ذكرته صباحا ومساء وكررته تفتح لك خزائن السموات والأرض ولا حرج على فضل الله. روى أن المشركين قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أسلم ببعض آلهتنا ونحن نؤمن بإلهك، فقيل للنبي: قل لهم: أفغير الله الذي اتصف بأنه خالق كل شيء والمتصرف في كل شيء، وله وحده التصرف الكامل في هذا الكون أرضه وسمائه! أفغير الله الموصوف بهذا أعبد، ما هو غير الله؟ أصنام وأحجار، وتماثيل وأوثان، وجمادات مخلوقة لا تسمع ولا تبصر، ولا تغنى شيئا، بل هي الضرر كل الضرر، أعبد غير الله الواحد القهار؟ أتأمروني أيها الجاهلون بعبادة غير الله بعد ما وضح الحق وظهر الصبح؟ إن أمركم لعجيب، وتالله لقد أوحى إليك بالتوحيد وأوحى إلى الذين من قبلك كذلك: لئن أشركت يا محمد ليحبطن عملك وليفسدن، ولتكونن من الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأضلوا أعمالهم، وهذا كلام على سبيل الفرض، أى: لو فرض منك ذلك لكان كذلك، ولقد سيق لإقناط الكفرة من ترك محمد لرسالته، وليعلم الكل فظاعة الشرك وقبحه، فلقد نهى عنه من لا يستطيع الإلمام به، فكيف بمن يأتيه؟!! بل الله وحده فاعبد يا محمد أنت وكل من آمن بك، وكن من الشاكرين على هذا التوفيق فالحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. وما قدروا الله حق قدره أبدا حيث عبدوا معه شركاء لا تسمع، ولا تنفع، والحال أن الأرض في قبضته، والسموات مطويات بيمينه، له الأمر كله وإليه ترجعون، وسبحان الله وتعالى عما يشركون. وهذا الكلام وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ عند بعضهم تمثيل لحال عظمته- تعالى- وكمال تصرفه ونفاذ قدرته بحال من يكون له قبضة فيها الأرض كلها، وله يمين تطوى السموات طيا. ويرى بعضهم أن الكلام على حقيقته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 283 أحوال الخلق يوم القيامة [سورة الزمر (39) : الآيات 68 الى 75] وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَوُضِعَ الْكِتابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَداءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَلكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وَقالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَقالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 284 المفردات: الصُّورِ: هو بوق ينفخ فيه قبل قيام الساعة فَصَعِقَ صعق الرجل: إذا غشى عليه من هزة أو صوت شديد، وصعق: إذا مات، والمراد المعنى الثاني أَشْرَقَتِ: أضاءت بِنُورِ رَبِّها أى: تجليه للحكم والعدل بين الناس، وقيل: هو نور يخلقه الله بلا واسطة أجسام مضيئة وَوُضِعَ الْكِتابُ المراد: صحائف الأعمال سِيقَ: السّوق يقتضى الحث على المسير بعنف وشدة مع الكفار، ومع المؤمنين بلين ولطف للإسراع بالإكرام. زُمَراً: جماعة قليلة متفرقة مرتبة حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ: وجبت كلمة العذاب، أى: حكم الله عليهم بالشقاوة حَافِّينَ: محدقين ومحيطين حول العرش. المعنى: وتلك آية أخرى دالة على كمال قدرته ونفاذ إرادته مظهرها يكون يوم القيامة حيث يكون الأمر يومئذ لله لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ، لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ ونفخ صاحب الصور الموكل به من الملائكة، نفخ فيه النفخة الأولى فصعق ومات كل من في السموات والأرض إلا من شاء الله عدم موته ساعة النفخة فيموت بعدها كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ [سورة القصص آية 88] . ثم ينفخ فيه نفخة أخرى فإذا الخلائق كلها قيام ينظرون الأمر والتوجيه، أو ينظرون نظر المبهوت إذا فاجأه خطب عظيم، ولا يمنع هذا قول الله في حقهم: يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ «1» . وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ «2» أى: يسرعون المشي، لأن لهم في ذلك الوقت مواقف متعددة.   (1) - سورة المعارج آية 43. (2) - سورة يس آية 51. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 285 وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ عند ذلك بِنُورِ رَبِّها أى: أضاءت بنوره، ولعل هذا إشارة إلى تجليه- عز وجل- لفصل القضاء أو الحكم بين الناس بالعدل، ولا يبعد أن يكون هذا النور هو الذي يعنيه الحديث: حجابه النور . وهو نور يظهر عند ذلك التجلي، وفي الحق أن الأمر فوق ما تنتهي إليه عقول البشر، والله أعلم بكتابه، وأشرقت أرض المحشر بنور ربها جل شأنه، ووضع الكتاب وبرزت صحائف الأعمال ليتلقاها أصحابها باليمين أو بالشمال، وجيء بالنبيين- صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين- ليسألوا عما فعلوا، وجيء بالشهداء الذين يشهدون على الأمم أو الأفراد وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ «1» وقيل: المراد بالشهداء الذين يشهدون على الأمم من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «2» وقيل: هم الشهداء الذين استشهدوا في سبيل الله. ووفيت كل نفس ما عملته من خير أو شر، ولا عجب فالذي يجازيها هو أعلم بما فعلته من خير أو شر يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ «3» . وهاك تفصيلا لتوفية كل نفس عملها: وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً يا سبحان الله!! أيساقون إليها سوق الأنعام بالشدة والغلظة؟! يساقون إليها زمرا وجماعات مرتبة على حسب شرورها وآثامها حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها لهم كالسجن يفتح بابه للسجين حينما يصله، وقال لهم خزنتها وحراسها تأنيبا وتقريعا: ألم تأتكم رسل منكم ومن جنسكم تفهمون عنهم، وتعرفون أمرهم، يتلون عليكم آيات ربكم، وينذرونكم يوما عبوسا قمطريرا كهذا اليوم؟ ويخوفونكم لقاء يومكم هذا؟! قالوا: بلى قد جاءتنا الرسل وكثيرا ما وعظتنا وذكرتنا بالله، وخوفتنا لقاء هذا اليوم، ولكن حقت كلمة الله لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ «4» نعم حقت كلمة العذاب على الكافرين، أى: كلمة الله المقتضية للعذاب، والمراد بها حكم الله عليهم بالشقاوة وأنهم من أهل جهنم بسوء اختيارهم وشنيع فعلهم الذي فعلوه مع الأنبياء.   (1) - سورة ق آية 21. (2) سورة البقرة آية 143. (3) سورة لقمان آية 16. (4) - سورة السجدة آية 13. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 286 وماذا حصل بعد هذا؟ قيل لهم من قبل الملائكة: ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثواكم جهنم، وهي مثوى المتكبرين الذين تكبروا على قبول الحق والانقياد للرسل المنذرين لهم، وهذا يشم منه تعليل دخولهم النار بسبب تكبرهم. وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة جماعات على حسب رتبهم في الفضل والشرف، وسوقهم هنا معناه الحث على السير للإسراع في الإكرام بخلافه مع الكفرة فإنه للإهانة والتحقير. حتى إذا جاءوها والحال أن أبوابها مفتحة جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ كالكريم الذي يصنع مع ضيفه يهيئ له المكان ويعد له النمارق والزرابي ثم تفتح له الأبواب استعدادا لمقدمه، ويقف الخدم والحشم عليها للتحية.. ويا حظ أصحاب الجنان حيث يفتح لهم ربهم أبواب جناته وتقف الملائكة للتحية والإكرام، ويقولون لهم مرحبين: سلام عليكم طبتم نفسا وقررتم عينا بذلك النعيم الدائم المقيم فادخلوها خالدين. ونعم أجر العاملين، وقال الذين اتقوا وعملوا الصالحات: الحمد لله والشكر له صدقنا وعده بالبعث والثواب وأورثنا الأرض، أى: المكان الذي نستقر فيه، يتبوأ كل منا في أى مكان أراده من جنته الواسعة الوارفة الظلال، فنعم أجر العاملين هذا الأجر. وترى الملائكة حافين حول العرش محدقين ينتظرون الإشارة من صاحب العرش- جل جلاله- وهم يسبحون بحمد ربهم، ويستغفرونه، وقضى بين العباد كلهم بالقسط، وقيل من المؤمنين: الحمد لله رب العالمين، حمدوا ربهم أولا على إنجاز وعده ووراثتهم الأرض يتبوءون من الجنة حيث يشاءون، وحمدوه ثانيا على القضاء بالحق، والحكم بالعدل بين الناس جميعا.. فالحمد له رب العالمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 287 سورة غافر وتسمى سورة المؤمن، وسورة الطول، وهي مكية كلها في قول أكثر القراء، وعن ابن عباس: هي مكية إلا آيتين منها هما إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ والتي بعدها، وهي خمس وثمانون آية. والسور المبدوءة في القرآن بلفظ حم سبع سور وكلها مكية، وهي عرائس القرآن، وروى عن أنس قول النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: الحواميم ديباج القرآن. وروى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «لكل شيء ثمرة وثمرة القرآن ذوات حم، هن روضات حسان مخصبات متجاورات، فمن أحب أن يرتع في رياض الجنة فليقرأ الحواميم» . وسورة غافر تدور آياتها حول مناقشة المجادلين في آيات الله المشتملة على التوحيد وإثبات البعث والرسالة، ويتطرق الكلام إلى وصف حال المشركين والمجادلين يوم القيامة، ثم ذكر قصة فرعون وهامان وقارون للمشركين، وفي خلال ذلك سيقت آيات تثبت وصف الله بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص. القرآن ومن جادل فيه ومن آمن به [سورة غافر (40) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَقابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6) الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَأَزْواجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 288 المفردات: حم تقرأ هكذا: حاميم بالسكون، وقرأ بعض القراء حاميم، وفي معناها ما مضى في أول سورة البقرة وغيرها من أنها سر بين الله ورسوله الله أعلم به، أو هي سيقت للتحدى، أو هي وغيرها حروف سيقت للاستفتاح والتنبيه لخطر ما بعدها، وقد سئل رسول الله عنها فقال: «بدء أسماء وفواتح سور» التَّوْبِ: مصدر تاب، والمراد التوبة ذِي الطَّوْلِ: صاحب النعم والفضل، والطول: الغنى والسعة أيضا وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا. تَقَلُّبُهُمْ: تصرفهم وتنقلهم وَالْأَحْزابُ أى: الأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم بالتكذيب كعاد وثمود وَهَمَّتْ أى: عزمت لِيَأْخُذُوهُ المراد: ليقتلوه ويعذبوه لِيُدْحِضُوا أى: ليزيلوا به الحق حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وجبت ولزمت كلمة ربك، أى: حكمه وَقِهِمْ: اصرف عنهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 289 وفي هذه الآيات تكلم الحق- تبارك وتعالى- عن نزول القرآن وأنه من عند الله الموصوف بصفات ست، ثم تعرض للكفار الذين كفروا به وجادلوا بالباطل ومآلهم. ثم تعرض لموقف من آمن به وطمأنهم غاية الاطمئنان حيث جعل الملائكة تدعو لهم وتستغفر للمؤمنين. المعنى: هذا القرآن الكريم الذي بين يديك يا محمد تنزيله من الله، فأنت صادق فيما تدعيه من أنك رسول الله وأن القرآن من عند الله، هذا القرآن يجب اتباعه، والسير على طريقته لأنه منزل من عند الله الخالق لكل شيء، القادر الذي له ملك السموات والأرض، العزيز الذي لا يغلبه غالب، العليم الذي يعلم السر وأخفى، ويعلم الغيب والشهادة، وهو مع هذا يغفر الذنوب جميعا ويقبل التوبة من عباده لأنه كتب على نفسه الرحمة، وهو مع هذا شديد العقاب لمن عصى وبغى، ولم يرع ذمة ولا عهدا، ولم يرجع نادما تائبا عما فرط منه، وهو صاحب الطول، وواهب الفضل ومجزل العطاء، وصاحب النعم في السراء والضراء، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، ترى أن الله وصف نفسه بصفات الرحمة والفضل، فلو كان معه إله آخر يشاركه ويساويه لما كان جديرا بهذه الصفات ولما كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة، أما إذا كان واحدا ليس له شريك ولا شبيه، كانت الحاجة إلى عبوديته شديدة، وكانت هذه الصفات به جديرة. فلذلك قال هنا: لا إله إلا هو ولا معبود بحق سواه، واعلموا أنه إليه وحده المرجع والمآب فاحذروا عقابه وارجوا ثوابه. روى عن عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- أنه افتقد رجلا ذا بأس شديد من أهل الشام فقيل له: تتابع في هذا الشراب وأصبح من أهل المدام، فقال عمر لكاتبه: اكتب إليه: سلام عليك وأنا أحمد الله إليك، الذي لا إله إلا هو بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ: حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ.. إلى قوله إِلَيْهِ الْمَصِيرُ. ثم ختم الكتاب وقال لرسوله: لا تدفعه إليه حتى تجده صاحيا، ثم أمر عمر من عنده بالدعاء له بالتوبة، فلما أتته صحيفة عمر، جعل يقرؤها ويقول: وعدني الله أن يغفر لي، وحذرني عقابه وذكرني بنعمه فلم يبرح يرددها حتى بكى، ثم نزع نفسه مما هي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 290 فيه وتاب فأحسن التوبة، فلما بلغ عمر أمره قال: هكذا فاصنعوا إذا رأيتم أحدكم زل زلة فسددوه وادعوا الله له أن يتوب عليه، ولا تكونوا أعوانا للشياطين عليه. هذا هو القرآن الكريم الذي أنزل على النبي الصادق الأمين، والذي أنزله رب العالمين غافر الذنب، وقابل التوب، شديد العقاب، ذو الطول. لا إله إلا هو إليه المصير، فهل آمن به كل الناس؟ لا: من الناس من كفر بالله وجادل في كتاب الله جدالا بالباطل الذي لا حق فيه، وقال تمويها وتضليلا: إنه سحر أو شعر أو كهانة أو هو أساطير الأولين، وإنما يعلمه بشر، وأمثال هذا كثير مما كانوا يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولذا يقول الله هنا: ما يجادل في آيات الله جدالا بالباطل لا بالحق، وإلا فالجدال لإظهار الحق ولتفهم المعنى مطلوب شرعا، ما يجادل بالباطل إلا الذين كفروا، وهؤلاء سنريهم آياتنا، وحسابنا العسير لهم في الدنيا والآخرة، فلا يغررك ما هم فيه من نعمة، ولا يهمنك تمتعهم في الدنيا فهو متاع قليل، مأواهم جهنم وبئس المصير، انظر تر أن العذاب الذي لحقهم سببه أنهم عزموا على إيذاء الرسول وقتله، وجادلوا بالباطل لإزهاق الحق فكانوا بذلك من أصحاب النار. وهذه سنة الله مع من يكذب رسله، ولن تجد لسنة الله تبديلا، فقد كذبت قبلهم قوم نوح، وكذبت عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط، هؤلاء تحزبوا ضد أنبيائهم، وتجمعوا للكيد بهم، وعزمت كل أمة منهم لتأخذ رسولها أسيرا فتهلكه وتقتله، ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين، فعلوا هذا، وما علموا أن الله ينصر رسله ويدافع عنهم وعمن آمن معهم. وهؤلاء الذين كذبوا رسل الله وهموا أن يأخذوا رسلهم ليقتلوهم، وجادلوا بالباطل ليدحضوا به الحق، ويطمسوا معالمه، أخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر، فكيف كان عقاب؟! وَكَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ أى: كما وجب وثبت حكمه- تعالى- وتحقق هلاك هؤلاء المتحزبين على الأنبياء، وجب وتحقق حكمه- سبحانه وتعالى- بالإهلاك على هؤلاء المتحزبين عليك أيضا من قريش لأنهم أصحاب النار «1» فالسبب واحد والعلة واحدة.   (1) هذا إشارة إلى أن (أنهم) منصوبة بنزع الخافض، ويجوز إعرابها بدلا، (وأن وما دخلت عليه) بدل من (كلمة ربك) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 291 هؤلاء الكفار تحزبوا ضد النبي والمؤمنين، وبالغوا في إظهار العداوة للنبي وصحبه وهم قلة بالنسبة لهم، فأراد ربك أن يطمئن خاطر المسلمين ويشد أزرهم ببيان أن معهم أشرف الخلق، من الملائكة الأطهار، يدعون لهم ويستغفرون، وذلك بلا شك هو الفوز العظيم، فقال ما معناه: الذين يحملون عرش ربك، ومن حوله حافين به وهم في خدمته، ورهن إشارته، والقائمون بحفظه وتنفيذ أمر ربهم هؤلاء يسبحون حامدين منزهين ربهم عن كل ما لا يليق بشأنه الجليل، ويؤمنون به إيمانا حقيقيا كاملا بظهر الغيب. ويستغفرون للذين آمنوا قائلين: ربنا وسعت رحمتك وعلمك كل شيء، وإنما عدل عن هذه العبارة إلى ما في النظم الكريم للمبالغة. ربنا فاغفر للذين تابوا إليك، واتبعوا سبيلك الحق وهو الإسلام، وقهم عذاب الجحيم، ربنا وأدخلهم جنات عدن التي وعدتهم، وأدخل معهم من صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم ليتم سرورهم، ويضاعف ابتهاجهم وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ [الطور 21] ، وقهم السيئات، واحفظهم من المكروه والآلام كلها يوم القيامة، ومن يتق السيئات يومئذ يقوم الناس لرب العالمين لقد رحمته بدخول الجنة وذلك هو الفوز العظيم. ومن أهوال يوم القيامة [سورة غافر (40) : الآيات 10 الى 17] إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 292 المفردات: لَمَقْتُ اللَّهِ المقت: أشد أنواع البغض، والمراد به في جانب الله لازمه وهو تعذيبهم والغضب عليهم رَفِيعُ الدَّرَجاتِ: مرتفع الصفات منزه عن مشابهة المخلوقات ذُو الْعَرْشِ: خالقه ومالكه الرُّوحَ المراد به: الوحى، سماه روحا لأنه كالروح في إحيائه الموات من الناس يَوْمَ التَّلاقِ: يوم اجتماع الخلائق للحساب بارِزُونَ: ظاهرون لا سبيل إلى إخفائهم. وهذا حال من أحوال الكفرة يوم القيامة، وهم في جهنم، بعد ما بين سابقا أنهم أصحاب النار. المعنى: إن الذين كفروا بالله ورسوله ينادون من بعيد، وهم في النار يتلظون سعيرها فقال لهم: لمقت الله أكبر من مقتكم أنفسكم إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون، وذلك أنهم حينما يرون ما كانوا يكفرون به حقا لا شك فيه يمقتون أنفسهم أشد المقت لأنهم وقعوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 293 فيما وقعوا باتباع هواها، ويصح أن يكون المعنى أنهم يمقت بعضهم بعضا، الأتباع والمتبوعين الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ «1» يكفر بعضكم ببعض ويعلن بعضكم بعضا فيقال لكم عند ذلك رءوس الأشهاد: لمقت الله أنفسكم الأمارة بالسوء إذ تدعون إلى الإيمان فتكفرون أشد من مقتكم أنفسكم، أو المعنى لمقت الله أنفسكم في الدنيا إذ «2» تدعون من جهة الأنبياء إلى الإيمان فتأبون قبوله فتكفرون اتباعا لأنفسكم ومسارعة في هواها أو اقتداء بأخلائكم المضللين، لمقت الله هذا أكبر من مقتكم أنفسكم أو أكبر من مقت بعضكم لبعض. هؤلاء الكفار حينما يشتد بهم العذاب، ولا يطيقون الصبر يقولون: ربنا أمتنا اثنتين أى: موتتين، الأولى قبل الحياة، والثانية في الدنيا، وأحييتنا اثنتين، الأولى في الدنيا والثانية يوم القيامة، فاعترفنا بذنوبنا وآثامنا، وبدا لنا سيئات ما عملنا، فارجعنا نعمل صالحا في حياة ثالثة فإنا أدركنا خطأنا وتبين لنا صدق الرسل- عليهم السلام- وأصبحنا موقنين بذلك، فهل إلى خروج من سبيل «3» ؟ لا.. فإنهم «لو ردوا لعادوا لما نهوا عنه» ، ذلكم العذاب الدائم المستمر الذي هم فيه بسبب أنه إذا دعى الله وحده كفروا باستمرار، وإن يشرك به يؤمنوا على أن له شريكا، وحيث كان الأمر كذلك فالحكم لله العلى الكبير. هو الذي يريكم أيها الناس آياته الكونية وآياته القرآنية الشاهدة له بالوحدانية والقدرة والاتصاف بكل كمال والتنزه عن كل نقص، وهو الذي ينزل لكم من السماء رزقا، ترى أن الله- سبحانه- جمع في الآية نعمه التي تحيى الأديان والتي تحيى الأبدان، وتقوى الروح والأجسام، ولا يتذكر بهذا، ولا يتعظ إلا من ينيب. وإذا كان الأمر كذلك فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، هو رفيع الدرجات، عظيم الصفات، رافع درجات المؤمنين، ذو العرش وصاحب الملك وكامل التصرف لا إله إلا هو، يلقى الروح على من يشاء من عباده، وهو أعلم حيث يجعل رسالته، فهو الذي ينزل الوحى على الأنبياء، لينذروا الناس يوم التلاقي، واجتماع الخلق   (1) - سورة الزخرف آية 67. (2) - إذ تدعون إذ ظرف لمقت الأول وإن توسط بينهما الخبر، واللام في لمقت لام الابتداء وقعت بعد ينادون لأنها في معنى يقول لهم. (3) - هذا استفهام مراد به التمني لأنهم يعلمون أنهم لا يخرجون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 294 للحساب، ويخوفونهم يوما يبرزون فيه أمام الحق- تبارك وتعالى- وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [الأنعام 94] بروزا أمام الله لا حول لهم ولا قوة ولا ساتر ولا وقاية من عذابه لا يخفى على الله منهم شيء. يا حسرتا على القوم الكافرين!! يقول الله- تعالى- بعد فناء الخلق أجمعين، أى: بعد النفخة الأولى: لمن الملك اليوم؟ فيجيب الله: لله الواحد القهار، فالسائل والمجيب هو الله، أو هو على لسان ملك، أو حال الخلائق ناطقة بذلك. اليوم تجزى كل نفس بما كسبت لا ظلم اليوم إن الله سريع الحساب فهو لا يشغله حساب عن حساب. تخويف الكفار وترويعهم [سورة غافر (40) : الآيات 18 الى 22] وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 295 المفردات: الْآزِفَةِ المراد: يوم القيامة سميت بذلك لقربها إذ كل ما هو آت قريب، ويقال: أزف الرحيل يأزف أزفا: إذا قرب كاظِمِينَ: ممتلئين غما الْحَناجِرِ: جمع حنجرة وهي الحلقوم حَمِيمٍ: قريب نافع خائِنَةَ الْأَعْيُنِ: المراد الأعين الخائنة وهي التي تختلس النظر إلى المحرم وتسارقه واقٍ: حافظ يدفع عنهم السوء. وهذا وصف آخر لأهوال يوم القيامة حتى يرتاع الكفار وتمتلئ قلوبهم روعة ورهبة. المعنى: وأنذر الناس وخاصة الذين يجادلون في آيات الله بالباطل، أنذرهم يوم القيامة اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ «1» ، والقيامة وإن بعد زمانها إلا أنها آتية لا شك فيها، وكل آت قريب أَزِفَتِ الْآزِفَةُ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ «2» إذ «3» القلوب لدى الحناجر كاظمين، والمراد تخويفهم وترويعهم من ذلك اليوم وقت أن تكون القلوب لدى الحناجر، وهذه العبارة كناية عن شدة الخوف والوجل إلى درجة أن تخلع القلوب من أماكنها حتى تصل إلى الحلقوم فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ «4» حالة كون أصحاب القلوب كاظمين، أى: مكروبين وساكتين مع امتلائهم غما وحزنا. ومن هنا فهمنا أن الكفار يوم القيامة يخافون خوفا شديدا يجعل قلوبهم لدى حلقومهم وأنهم من شدة الهم والخوف ساكتون فلا يستطيعون الكلام، ليس للظالمين- وهم أو لهم- حميم يدافع عنهم من صديق أو قريب، وليس لهم شفيع يشفع لهم ويجادل عنهم، وكانوا يعبدون الأصنام على أنها شفعاء عند الله.   (1) - سورة القمر آية 1. (2) - سورة النجم الآيتان 57، 58. (3) - (إذ) بدل من (يوم الآزفة) و (لدى الحناجر) خبر، و (كاظمين) حال من القلوب، على معنى قلوبهم. (4) - سورة الواقعة الآيتان 83، 84. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 296 وهذا الذي يحاسبهم يوم القيامة يعلم الأعين الخائنة التي تسرق النظر إلى المحرم وتختلسه اختلاسا حتى لا يشعر بها أحد من الجالسين، ويعلم ما تخفيه الصدور من الرغبات والحاجات والنوايا، والإنسان يصدر عنه عمل نفسي قلبي أو عمل بالجوارح، فإذا كان الله يعلم أدق شيء عن جوارح الإنسان وهو النظر خلسة فمن باب أولى أن يعلم اليد التي تبطش والرجل التي تسير واللسان الذي يتكلم، ويعلم كذلك خطرات القلوب وما تخفيه الصدور وهو يعلم السر وأخفى، ويا ويلنا إذا كان يحاسبنا وهو من يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور!! والله يقضى بالحق، لا ظلم اليوم، فلا تظلم نفس شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل أتى بها الله وكفى به خير الحاسبين. والذين يدعونهم من دونه لا يقضون بشيء، وكيف يقضون، وهم لا يعلمون شيئا، إن الله هو السميع لكل قول، والعليم بكل فعل، وسيجازى على ذلك كله. نرى أن القرآن ملأ قلوبهم خوفا ورعبا من ذلك اليوم لو كانوا يعقلون، فذرك أنه قريب، وأن القلوب تنخلع فيه لهول ما ترى، وأن المجرمين لا يستطيعون الكلام مع امتلاء قلوبهم غيظا، وليس لهم صديق ولا حميم ولا شفيع يطاع، والحاكم يومئذ عالم بكل شيء لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وهو يقضى بالحق فلا محاباة عنده، وهؤلاء الأصنام لا تنفع عنده بشيء، وهو وحده السميع البصير. ولما بالغ الحق- تبارك وتعالى- في تخويفهم من يوم القيامة أردفه بإنذارهم وتخويفهم في الدنيا، وبيان ما عمله الله مع من كفر وعذب الرسل السابقين لعلهم يتعظون فقال ما معناه: أغفلوا ولم يسيروا «1» في الأرض التي هي حولهم وفي طريقهم فينظروا نظرة اعتبار وموعظة ما حل بالأمم السابقة لما كذبت رسلهم كعاد وثمود وغيرهما، وهؤلاء السابقون كانوا أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا، وقد مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم، وقد أثاروا الأرض وزرعوها، وأصبحت لهم مدن وحضارة، وزراعة وصناعة ولكنهم   (1) الاستفهام إنكارى، و (كيف) خبر مقدم لكان، و (عاقبة) اسمها، والجملة من كان واسمها وخبرها في محل نصب على المفعول لينظروا، وقوله تعالى: (كانوا هم أشد منهم قوة) جواب (كيف) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 297 كذبوا وكفروا فأخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر بسبب ذنوبهم، وما كان عند ذلك من واق يقيهم العذاب. ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالآيات البينات والحجج الواضحات فكفروا بها، فأخذهم الله بسيئات أعمالهم، إنه قوى شديد العقاب. يا أهل الشرك، ويا أصحاب الفسق: احذروا هذا اليوم وخافوه واتعظوا بمن سبقكم، فالعاقل من اتعظ بغيره، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا. وهذه قصة موسى مع فرعون وملئه، ذكر معها موقف رجل آمن من آل فرعون وكتم إيمانه، وقد تخللها حكم ومواعظ، وعبر وآيات، وإنما يتذكر بهذا وأمثاله أولو الألباب، وهي في جملتها بيان لعاقبة بعض الأمم التي سبقتهم، وكانت أشد منهم قوة وأكثر أموالا وأولادا.. وتتلخص القصة في: 1- موقف فرعون من دعوة موسى وما رد به عليه قولا وفعلا. 2- مارد به موسى على تهديد فرعون. 3- دفاع الرجل المؤمن عن موسى. 4- تحذير لآل فرعون من عاقبة فعلهم في الدنيا والآخرة وتذكيرهم بما حل بقوم نوح وعاد وثمود. 5- تذكيرهم بما حصل أيام يوسف- عليه السلام. 6- إنكار فرعون وجود إله واحد كما يقول موسى بدليل حسى. 7- وعظ الرجل المؤمن لقومه وبيانه حقيقة الدنيا والآخرة. 8- نجاة موسى منهم ونهاية أمره وأمرهم. تلك هي عناصر القصة التي سيقت هنا، وسنذكرها بالتفصيل، والله هو الهادي إلى سواء السبيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 298 موسى مع فرعون وهامان وموقف الرجل المؤمن [سورة غافر (40) : الآيات 23 الى 27] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27) المفردات: وَسُلْطانٍ: وحجة قوية ظاهرة وَاسْتَحْيُوا: أبقوهم أحياء ضَلالٍ: ضياع وخسران ذَرُونِي: اتركوني. المعنى: وتالله لقد أرسلنا موسى بآياتنا التسع التي أهمها اليد والعصا وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ أرسلناه بآياتنا وبحجة قوية واضحة على أنه رسول من عند الله، أرسلناه إلى فرعون ملك مصر وهامان وزيره، وقارون وكان صاحب أموال وكنوز، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 299 وكان مدار العداوة على هؤلاء الثلاثة وغيرهم تابعا لهم، فقالوا لما عجزوا عن معارضته ودفع الحجة بالحجة: إنه ساحر كذاب، ولكن موسى لم يعبأ بقولهم، وظل يقوم بدعوته، فلما جاءهم الحق من عند الحق- تبارك وتعالى- قالوا: اقتلوا من الآن أبناء الإسرائيليين الذين معه، واتركوا البنات يعشن فإن خطر الذكور كبير، ونخشى أن يتجمعوا ويكثروا، وفي هذا الضرر، ويظهر أن فرعون كان قد امتنع عن هذا مدة من الزمن، ولكن أنى لهم ذلك وعين الله لا تنام عن أوليائه وأحبائه؟ فأرسل عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم حتى شغلهم ذلك عن استئصال بنى إسرائيل، فهم قد مكروا ومكر الله، وكان كيدهم في ضلال وخسران، ونجى الله المؤمنين وأغرق قوم فرعون أجمعين. وقال فرعون في أثناء ذلك: ذروني أقتل موسى وانتهى من أمره، وليدع ربه الذي يدعى أنه رب السموات والأرض ورب المشارق والمغارب وأنه الذي خلق كل شيء ثم هدى، ذروني أقتله وليدع ربه ليخلصه، يريد بذلك إنكار وجود الإله، إنى أخاف أن يبدل دينكم الحق- في اعتقاده- أو أن يظهر في الأرض الفساد إن لم يبدل دينكم. هذا ما كان من أمر فرعون وآله، أما ما كان من أمر موسى إزاء هذا التهديد فها هو ذا: وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ وقال موسى: إن ربي وربكم الذي خلقنا ورزقنا، ورعانا في بطون الأجنة وفي ظلمات ثلاث، والذي وهب لنا الوجود وعمنا بالخير والبركات أستعيذ به من كل متكبر جبار تعاظم عن الإيمان، وكان لا يؤمن بيوم الحساب، ومن كان كذلك فهو إلى الوحشية أقرب، بل أشد طغيانا وظلما من الحيوان المفترس، ولنا في موسى وهو يستعيذ بالله من كل متكبر طاغ أسوة حسنة والله معنا يحرسنا ويرعانا إن شاء الله. دفاع الرجل عن موسى [سورة غافر (40) : الآيات 28 الى 33] وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَيا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 300 المفردات: ظاهِرِينَ: غالبين بَأْسِ اللَّهِ: عذابه التَّنادِ المراد به: يوم القيامة. وهكذا لا تذهب الدعوة إلى الله سدى بل لا بد من وجود من يدافع ويرد كيد الكائدين لها في مجتمع أعدائها، وقد كان ذلك مع موسى وفرعون، فأوجد الله في قوم فرعون رجلا مؤمنا حقا يكتم إيمانه فلم يعرفه أحد بأنه مؤمن، ويظهر أن الرجل كانت له مكانة في القوم حتى استطاع أن يدلى برأيه هذا. قال: أتقتلون يا قوم رجلا لأنه يقول: ربي الله الذي خلق كل شيء وهو رب السموات والأرض، وقد جاءكم بالبينات والحجج الواضحات على أنه رسول من عند الله؟! فإن يك كاذبا فعليه وزر كذبه، ولا يضركم شيء فاتركوه وشأنه، ولا تتعرضوا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 301 له ولأتباعه، وإن يك صادقا في الذي يحذركم به من عذاب الدنيا والآخرة فلا أقل من أنه يصيبكم بعض الذي يعدكم، واعلموا أن الله لا يهدى من هو مسرف في قوله وعمله وهكذا فيما يدعيه. وقد هدى الله الرجل إلى الحق فبعيد جدّا أن يكون كما تقولون: مسرف كذاب. المعنى: وهذه مقالة الرجل الذي امتلأ قلبه بنور الإيمان، وخالط بشاشته برد اليقين فنظر إلى الدنيا نظرة الحكيم العاقل، فقال: يا قومي لكم الملك اليوم- ملك ظاهرى- حالة كونكم ظاهرين لا يعلو عليكم أحد غالبين لا يغلبكم أحد في أرض مصر، يا قوم لا تفسدوا أمركم، ولا تزيلوا عزكم بتعرضكم لهذا الرجل الذي يقول: ربي الله، ولا تتعرضوا لبأس الله، فإنه إن جاءنا لم يمنعه مانع، فمن ينصرنا من بأس الله؟ قال فرعون بعد سماعه لهذا الكلام: ما أريكم إلا ما أرى، ولا أشير عليكم إلا بقتله حتى نستريح، وما أهديكم بهذا الرأى إلا سبيل الرشاد وطريق الصواب. وقال الذي آمن: يا قوم إنى أخاف عليكم يوما يجعل الولدان شيبا، يا قوم إنى أخاف عليكم من تكذيب موسى والتعرض له بسوء أن يحل بكم مثل ما حل بالذين تحزبوا على أنبيائهم من الأمم الماضية فقد أخذهم ربكم أخذ عزيز مقتدر، وحل بهم الخسف والإغراق، وما الله بهذا يريد ظلما للعباد، ولكن الناس أنفسهم يظلمون بتكذيبهم الأنبياء، وتعرضهم لهم بالسوء. هذا الذي أخافه عليكم في الدنيا أما في الآخرة فإنى أخاف عليكم يوم التنادى الذي هو يوم القيامة، وما أكثر النداء فيه!! فيه ينادى أصحاب الجنة أصحاب النار، وفيه ينادى أصحاب النار أصحاب الجنة، وينادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم- كما ذكر هذا في سورة الأعراف- وينادى المنادى بالشقوة لأهل الشقاء، وبالسعادة لأهل السعادة وفيه تنادى الملائكة كلا بما يستحقه يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطانٍ إنى أخاف عليكم يا قوم يوم التنادى يوم تولون مدبرين هاربين ما لكم من الله من عاصم، وليس لكم من دونه ملجأ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ومن يضلل الله فما له من هاد، ومن يهد الله فما له من مضل، وكل ميسر لما خلق له. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 302 تذكيرهم بما حصل لهم أيام يوسف [سورة غافر (40) : الآيات 34 الى 35] وَلَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35) المعنى: يا قوم تنبهوا، واذكروا ما حصل أيام يوسف الذي أرسل لكم، وتالله لقد جاءكم يوسف من قبل موسى بالآيات البينات فما زلتم، أى: أسلافكم في شك مما جاءكم به، ومتى شك الإنسان في الأمر أعرض عنه ولم يبحثه، حتى إذا هلك قلتم: لن يبعث الله من بعده من يدعى الرسالة، مثل هذا الإضلال والخروج عن جادة الصواب يضل الله كل شخص مسرف في العصيان مرتاب في دينه شاك فيما تشهد به الآيات البينات، وهذا بيان لمن هو مسرف مرتاب وهم الذين يجادلون في آيات الله بغير علم ولا هدى ولا حجة ولا برهان إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ «1» كبر مقتا عند الله، أى: كبر مقت المجادل في آيات الله وعظم جرمه عند الله، وعند الذين آمنوا!! مثل ذلك الطبع الفظيع يطبع الله على كل قلب متكبر جبار يصدر عنه هذا الإسراف والارتياب والمجادلة بغير حق..   (1) - سورة غافر آية 56. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 303 إنكار فرعون وجود الإله [سورة غافر (40) : الآيات 36 الى 37] وَقالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَكَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) المفردات: صَرْحاً: القصر الضخم الْأَسْبابَ: جمع سبب، وهو الطريق الموصل إلى المطلوب تَبابٍ: خسارة وهلاك. المعنى: ولما سمع فرعون قول الرجل المؤمن وخاف أن يذاع خبره ويصل إلى قلوب الناس أراد أن يهدم أساس الدعوة، وينفى وجود الإله بالدليل الحسى ويعلم الناس أن قول موسى: إنى رسول من رب العالمين خطأ باطل، إذ كان رسولا منه فلا بد أن يتصل به شأن كل رسل الملوك، وهذا يكون بالصعود إلى السماء، وهو محال لأن موسى لم يبن بناء مرتفعا وأصلا إليها، ومنشأ ذلك الفهم أن فرعون يفهم أن الله مستقر في السماء، وأن رسله كرسل الملوك. وإذا كان الصعود إلى السماء محالا فكيف نقول بوجود الله فيها؟ وكيف نسلم بأن موسى رسوله؟ ولهذا قال فرعون: يا هامان ابن لي صرحا، ليظهر للكل أن الصعود إلى السماء محال.. لعلى أبلغ الأسباب والطرق الموصلة إلى السماء. فأطلع إلى إله موسى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 304 وإنى لأظنه كاذبا في دعواه أنه رسول، وأن هناك إلها غيرى. ومثل ذلك التزيين البليغ المفرط في الغباوة والطبع على القلوب زين لفرعون الجبار سوء عمله، وقبح صنعه، وصد عن سبيل الحق والعدل والإنصاف، أو هو صد غيره عن ذلك، وما كان كيده وعمله إلا في تباب وخسران. وعظ الرجل المؤمن لقومه [سورة غافر (40) : الآيات 38 الى 46] وَقالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40) وَيا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَلا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَحاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 305 المفردات: لا جَرَمَ: لا شك. أى ثبت وحق أن ما تدعون إليه.. الآية مَرَدَّنا: مرجعنا وَحاقَ: أحاط بهم النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها: المراد يصلونها ويحرقون بها «1» . المعنى: وقال الذي آمن من آل فرعون يعظ قومه: يا قوم اتبعونى فيما أدعوكم إليه أهدكم سبيل الرشاد، سبيل يصل بكم إلى الخير والسداد وفي هذا تعريض بأن سبيل فرعون وآله وما هم عليه سبيل الغي والفساد. يا قوم: إنما هذه الحياة الدنيا متاع زائل وعرض حائل فلا تكن هي السبب في كفركم وغيكم، واعلموا أن الآخرة هي دار القرار والبقاء والخلود، فاعملوا لها واسعوا في نعيمها، ولا تغرنكم الدنيا الفانية فالآخرة خير وأبقى، يا قوم من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها عدلا من الله، ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة التي عرضها كعرض السموات والأرض، يرزقون فيها رزقا رغدا بغير حساب أضعافا مضاعفة، فضلا من الله ورحمة.   (1) في قوله تعالى: (النار يعرضون) استعارة تمثيلية حيث شبه حالهم بحال متاع يعرض للبيع ويبرز لمن يريد أخذه، وقد جعل النار كالطالب الراغب في الكفار لشدة استحقاقهم للهلاك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 306 ويا قوم: مالي أدعوكم إلى النجاة من عذاب النار وغضب الجبار، وأنتم تدعونني إلى النار وعذاب الجبار إذ تدعونني لأكفر بالله وأشرك به ما ليس لي به علم، أى: ما ليس له حقيقة في الوجود حتى أعلم به فنفى العلم هنا كناية عن نفى المعلوم، وأما أنا فأدعوكم إلى العزيز الغفار الموصوف بكل كمال المنزه عن كل نقص. لا شك أن ما تدعونني إليه ليس له دعوة في الدنيا ولا في الآخرة، أى: ثبت وحق عدم دعوة الذين تدعونني إليه من الأصنام إلى عبادته أصلا من أن من حق المعبود بالحق أن يدعو عباده إلى عبادته، ويظهر ربوبيته لخلقه، وما تدعونهم أصناما وأحجارا لا نفع لها ولا ضرر لا تسمع ولا تبصر، فليس لها دعوة إلى عبادتها في الدنيا، في الآخرة يتبرءون من عبادتكم لهم واعلموا أن مردنا إلى الله، وأن المسرفين في ارتكاب الذنوب والآثام هم من أصحاب النار. يا قوم ستذكرون ما أقوله لكم يوم لا تنفع الذكرى، وستندمون يوم لا ينفع الندم، وأما أنا فسأفوض أمرى إلى الله ليعصمني من كل سوء ومكروه إن الله بصير بالعباد، فوقاه الله سيئات ما مكروا، وكفاه شر المستهزئين به المعاندين له، وحاق بآل فرعون العذاب السيئ وأحاط بهم من كل جانب، وما هو العذاب السيئ؟ هو النار يصلونها ويحرقون بلهيبها، ويعرضون عليها صباحا ومساء. ومن هنا كان القول بعذاب القبر. وصح ما روى عن بعضهم: إن أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود تغدو وتروح على النار فذلك عرضها، يشهد بذلك ما روى عن نافع عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم «إنّ الكافر إذا مات عرضت روحه على الجنّة بالغداة والعشىّ» وخرج البخاري ومسلم حديثا كهذا. روحه على النّار بالغداة والعشىّ» ثم تلا: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا وإنّ المؤمن إذا مات عرضت روحه على الجنّة بالغداة والعشىّ» وخرج البخاري ومسلم حديثا كهذا. ويوم القيامة يقال للملائكة: أدخلوا آل فرعون أشد أنواع العذاب، وهذا دليل على أن عرض النار عليهم في الدنيا، وأن عذاب القبر حقيقة واقعة، والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 307 من مواقف الكافرين في الدنيا والآخرة [سورة غافر (40) : الآيات 47 الى 55] وَإِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51) يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَأَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (55) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 308 المفردات: يَتَحاجُّونَ: يتخاصمون ويتجادلون تَبَعاً: جمع تابع، كخدم جمع خادم، وقيل: هي نفس التبع مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً: حاملون عنا جزءا من العذاب ضَلالٍ: هلاك وخسران الْأَشْهادُ: جمع شهيد. المعنى: واذكر يا محمد لقومك لعلهم يتعظون: وقت خصام الكفار ومجادلة بعضهم لبعض، فيقول الضعفاء الأتباع للذين استكبروا بغير حق وادعوا الرياسة بالباطل والظلم: أيها المتبوعون. إنا كنا لكم تبعا وخدما، وأنتم قدمتمونا إلى الضلال والفساد، ولولاكم ما وقعنا في الإثم والشرك، فهل أنتم متحملون عنا جزءا من عذاب النار؟! قال الذين استكبروا للمستضعفين: إنا كل في جهنم فلو قدرنا على دفع شيء من العذاب لدفعنا عن أنفسنا، إن الله قد حكم بين العباد حكمه العدل، ولكل نفس ما كسبت لا ظلم اليوم. وكلنا نستحق ما نحن فيه. ولما يئسوا من دعائهم سادتهم وقادتهم اتجهوا إلى خزنة جهنم يطلبون منهم أن يسألوا ربهم التخفيف، ولو بمقدار يوم من أيام الدنيا، وقالوا لخزنة جهنم: ادعوا ربكم يخفف عنا يوما من العذاب فرد عليهم الخزنة: ألم تنبهوا على هذا ولم تك تأتيكم رسلكم في الدنيا بالحجج الواضحة التي تحذركم سوء عاقبتكم وغاية ما كنتم عليه من الكفر والمعاصي؟ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا «1» والمراد بذلك توبيخهم وإلزامهم الحجة. قالوا- أى الذين في النار-: بلى قد جاءتنا من عند ربنا رسله فكذبنا وقلنا: ما نزل الله من شيء، ما أنتم أيها الرسل إلا في ضلال كبير. قالت الملائكة: إذا كان الأمر كذلك فادعوا أنتم، وما دعاء أمثالكم من الكفار إلا في ضلال وخسران.   (1) - سورة الزمر آية 71. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 309 أما هؤلاء الرسل الذين أرسلوا إليكم ومن آمن بهم من المؤمنين فإنا ننصرهم ونؤيدهم بالحق والآيات البينات إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فهذا شأننا دائما ننصر رسلنا ومن آمن بهم بالحجة والسلطان المبين، وبالانتقام لهم من الكفار بالقتل والسبي والعذاب المبين وغير ذلك من العقوبات، ولا يقدح في ذلك ما نراه الآن في المسلمين. فإنهم إذا آمنوا حقّا أتاهم نصر الله بين عشية أو ضحاها. ويوم يقوم الأشهاد من الملائكة والنبيين وصالحي المؤمنين، أما الملائكة فهم الكرام الكاتبون يشهدون بما شاهدوا، وأما النبيون فالله يقول: فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً «1» وأما المؤمنون فالله يقول: وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «2» ويوم يقوم الأشهاد وهو يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم. ولهم فيه اللعنة، ولهم سوء الدار، ترى أن القرآن وصف الكفار في هذا اليوم بأنه لا تنفعهم المعذرة، ولهم سوء الدار وبئس المصير!! أما المؤمنون فالله ينصرهم ويؤيدهم ويهديهم ولذلك يقول: ولقد آتينا موسى الهدى إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ «3» وجعلنا بنى إسرائيل يأخذون الكتاب، أى: التوراة ويستحقونه استحقاق الميراث حالة كونه مصدر هدى وهداية، ومنبع ذكرى وتذكر، ولكن لأولى الألباب. وإذا كان الأمر كما ذكر فاصبر يا محمد على أذى المجادلين في آيات الله بغير حق، اصبر على أذاهم فالله ناصرك ومؤيدك، وعاصمك من الناس جميعا، إن وعد الله حق، وعليك أمران، أحدهما أن تتوب إلى ربك وتستغفر من ذنبك، وثانيهما أن تسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار، وهذا أدب للأمة الإسلامية رفيع، وإنما خوطب به النبي صلّى الله عليه وسلّم ليعلم أنه طريق لا بد منه، وأدب عال رفيع يجب أن يتحلى به كل مسلم، وانظر إلى هدى القرآن حيث قدم التوبة والمغفرة على العمل، فإنه لا يقبل العمل إلا بعد أن تطهر القلوب من الآثام بالتوبة، والتوبة قد تكون من عمل خلاف الأولى، ولذا لا غرابة أن الله يأمر بها النبي صلّى الله عليه وسلّم.   (1) - سورة النساء آية 41. (2) - سورة البقرة آية 143. [ ..... ] (3) - سورة المائدة آية 44. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 310 الجدل في آيات الله وسببه مع ذكر بعض النعم [سورة غافر (40) : الآيات 56 الى 65] إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56) لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَالسَّماءَ بِناءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 311 المفردات: سُلْطانٍ: حجة وبرهان كِبْرٌ: تكبر وتعاظم لا رَيْبَ فِيها: لا شك ادْعُونِي: اعبدوني داخِرِينَ: صاغرين أذلاء تُؤْفَكُونَ أفك إفكا: كذب، والإفك: الكذب، وأفكه عنه يأكفه أفكا: صرفه وقلبه، وعليه قوله تعالى: قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا. قَراراً: مستقرا بِناءً أى: قبة ومنه أبنية العرب لقبابهم التي تضرب. وهذا رجوع إلى الأصل الأول الذي بنيت عليه السورة وهو مناقشة المجادلين في آيات الله بالباطل، مع التعرض لإثبات البعث، والكلام على صفات الله ونعمه على الناس. المعنى: إن الذين يجادلون في آيات الله ودلائله التي نصبها دالة على الوحدانية وصدق الرسل، بغير سلطان ولا حجة تؤيد كلامهم: إن الذين يجادلون في آيات الله بغير حجة ولا برهان ما في قلوبهم إلا كبر وتعظم عن الحق والتفكير الحر، فهم قوم يريدون الرياسة والتعاظم لأنفسهم حسدا وبغيا حيث قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف 31] لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ [الأحقاف 11] ولذلك يجادلون في آيات الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 312 بالباطل، قد دفعهم الكبر وحب الرياسة إلى هذا الجدال الممقوت، ما هم ببالغي ما يريدون، لأن الله أذلهم، وقضى على أطماعهم. وقيل: إن الآية نزلت في يهود المدينة، وهي مدينة، الحق أن كل جدال في آيات الله من مشركي مكة أو يهود المدينة أو من غيرهم كبر مقته عند الله وعظم جرمه مطلقا، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. إذا كان الأمر كذلك فاستعذ بالله، والجأ إليه من كيد الكائدين، وحسد المشركين، وفيه رمز إلى أن ذلك كان من همزات الشياطين وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «1» . إنه هو السميع لكل قول ونية، البصير بكل فعل وعمل، ولو كان من إشارات العيون وخطرات القلوب. لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس بدءا وإعادة فلا تجادلوا في أمر البعث فإن الله خلق السموات وما فيها، والأرض وما عليها وما في باطنها من عوالم، فلا تظنوا أن الله هذا ليس بقادر على أن يحيى الموتى، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن خلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس. ولا يستوي الأعمى عن الحق، والبصير به، ولا يستوي المؤمنون الذين عملوا الصالحات، وأحسنوا العمل، ولا المسيئون الذين أساءوا الفهم والتقدير حتى جادلوا في آيات الله كلها وكان تذكرهم قليلا جدّا. إن الساعة لآتية لا شك فيها، ولكن أكثر الناس لا يؤمنون لقصور نظرهم، وسوء رأيهم. وقال ربكم: ادعوني أثبكم ثوابا يتكافأ مع أعمالكم، وفعلكم الطاعات، وترك الذنوب والآثام هو الدعاء، فمن ترك الذنب فقد دعا. وأخلص في الدعاء، ومن يقترف ذنبا فليس بداع إلى الله وإن دعا ألف سنة. وبعضهم فسر الدعاء بالعبادة، ويؤيد هذا قوله تعالى: إن الذين يستكبرون عن عبادتي ودعائي سيدخلون جهنم داخرين أذلاء صاغرين، وحق من يستكبر عن دعاء ربه الذي رباه وخلقه، وصوره فأحسن صوره أن يدخل جهنم صاغرا ذليلا، ومهينا حقيرا.   (1) - سورة الأعراف آية 200. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 313 وكيف تتكبرون عن عبادة الله الذي جعل لكم الليل لتسكنوا فيه والنهار مبصرا؟ فالله الذي خلق لكم الليل لتستريحوا فيه وتسكنوا من وعثاء الطريق، ومتاعب الحياة حتى يعود الإنسان نشيطا مجدا مقبلا على عمله بالنهار الذي جعله ربه مبصرا فيه وفيه الضوء والحركة والنشاط. يا سبحان الله!! لو خلقت الدنيا بلا ليل أو خلقت بلا نهار كيف الحال..؟ وكيف نعيش؟ يا رب: هذا الليل المظلم وهذا النهار المبصر ينشآن من حركة واسعة، ونظام دقيق محكم فأنت يا رب الواحد القهار الذي لا يعجزه شيء في السموات والأرض، إن الله لذو فضل على العالمين. ولكن أكثر الناس لا يشكرون، ومن كان هذا شأنه أنجادل في قدرته على البعث، ونقول: من يحيى العظام وهي رميم؟ ذلك الله- جل جلاله- خالق كل شيء، فاطر السموات والأرض واهب الوجود لا إله إلا هو، فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره من الأحجار والأوثان؟!! وهذا كالنتيجة لما تقدم. مثل ذلك الإفك العجيب الذي لا أساس له ولا سند من عقل أو منطق سليم يؤفك الذين كانوا بآيات الله يجحدون. الله الذي جعل لكم الأرض قرارا: مستقرا أو مكانا، وجعل السماء كالبناء، وهذا بيان فضله- تعالى- المتعلق بالمكان بعد بيان فضله في الزمان، ثم تعرض لفضله المتعلق بالإنسان فقال: صوركم فأحسن صوركم، ورزقكم من الطبيات الطاهرات، ذلكم الله ربكم فتبارك الله، وتزايد فضله. وتكامل خيره، وهو رب العالمين، أى: مالكهم ومربيهم، هو الحي حياة ذاتية، لا إله إلا هو، ولا معبود بحق في الوجود سواه. إذا كان الأمر كذلك فادعوه واعبدوه مخلصين له الطاعة صادقين في النية. ولما كان موصوفا بصفات الجلال والعزة، ومنعوتا بالإنعام الكامل على خلقه استحق لذاته أن يقال: الحمد لله رب العالمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 314 كيف نعبد غير الله؟!! [سورة غافر (40) : الآيات 66 الى 68] قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68) المفردات: أُسْلِمَ: أنقاد لرب العالمين أَجَلًا مُسَمًّى: وقتا محدودا ينتهى عند الموت. المعنى: لما أورد تلك الأدلة التي تثبت لله كمال القدرة والوحدانية، وقال: ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين. الحمد لله رب العالمين، أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول المشركين: إنى نهيت نهيا عامّا بالبراهين القاطعة من الآيات القرآنية، أو البراهين العقلية، نهيت أن أعبد الذين تدعونهم من دون الله، نهيت حين جاءني البينات ودلائل التوحيد كلها من عند ربي، وأمرت كذلك أن أسلم لرب العالمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 315 ولما ذكر سابقا أنه خالق الليل والنهار لتسكنوا فيه، والنهار لتبصروا أمر معاشكم وخالق الأرض للاستقرار عليها، والسماء كالبناء عليكم، وصوركم في أحسن صورة ورزقكم من فضله بأبهى نعمه. ذكر هنا من دلائل التوحيد والكمال أنه خلقكم من تراب، أى: خلق أباكم آدم منه أو خلقنا من تراب إذ المنى من الدم، والدم من الغذاء وهو من التراب، ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا ثم يرعاكم لتبلغوا قوتكم ومنتهى شبابكم، ثم يبقيكم لتكونوا شيوخا كبارا ضعافا بعد القوة والفتوة، ومنكم من يتوفى من قبل هذا، ومنكم من يرد إلى أرذل العمر، فعل ذلك بكم لتبلغوا أجلا مسمى ووقتا محدودا ينتهى بانقضاء الآجال. ولعلكم بعد هذه الآيات الكونية الناطقة بوحدانية الله تعالى، وأنه الخالق القادر السميع البصير وأنه الإله ولا إله غيره، ولعلكم بعد هذا تعقلون دلائل التوحيد فتوحدوه. هو الذي يحيى، وهو الذي يميت، وهو الذي إذا أراد شيئا حصل بمقتضى إرادته بسرعة كأنه قال له: كن فيكون، وهذا تمثيل لتأثير قدرة الله في المقدورات التي يريدها وتصوير لسرعة حصولها من غير أن يكون أمر ولا مأمور. المجادلون وجزاؤهم وصبر النبي صلّى الله عليه وسلّم على إيذائهم [سورة غافر (40) : الآيات 69 الى 78] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَبِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 316 المفردات: يُصْرَفُونَ: يبعدون الْأَغْلالُ: جمع غل وهو القيد الذي يوضع في العنق يُسْحَبُونَ السحب: الجر بعنف يُسْجَرُونَ: سجر التنور ملأها بالوقود، والمراد أنهم يحرقون ظاهرا وباطنا ضَلُّوا عَنَّا يقال: ضل الماء في اللبن، أى: خفى، والمراد أنهم صاروا بحيث لا نجدهم تَمْرَحُونَ المرح: فرح بعدوان كالبطر والأشر. اعلم أنه- تعالى- عاد إلى ذم المجادلين في آيات الله مبينا عظيم جرمهم في التكذيب، وجزاءهم على ذلك، فليس فيه تكرار، إذ ما سبق كان لبيان منشأ الجدال وسببه، وهذا تعجيب من أحوالهم الشنيعة وآرائهم الفاسدة مع بيان نهاية جدالهم.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 317 المعنى: انظر إلى هؤلاء المجادلين في آيات الله الواضحة، الموجبة للإيمان والإقرار بالوحدانية والبعث، الزاجرة عن الجدال والتكذيب، انظر إليهم كيف يصرفون عنها؟! هؤلاء المجادلون هم الذين كذبوا بالكتاب المنزل من عند الله، وبكل ما أرسلنا به رسلنا فسوف يعلمون عاقبة فعلهم ونهاية تكذيبهم عند مشاهدتهم العقوبة المعدة لهم ولأمثالهم، فسوف يعلمون يوم القيامة وقت «1» أن تكون الأغلال والسلاسل في أعناقهم، والمعنى أنه يكون في أعناقهم الأغلال والسلاسل ثم يسحبون بها في الحميم، أى: في الماء المغلى بنار جهنم، ثم هم في النار فهي محيطة بهم من كل جانب تحرقهم ظاهرا وباطنا نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ [سورة الهمزة الآيتان 6، 7] . ثم قالوا: بل لم نكن ندعوا شيئا، أى: كنا نظن أننا ندعوا من ينفع أو يشفع من دون الله؟! قالوا: ضلوا عنا، وغابوا عن عيوننا فلا نراهم، ولا نستشفع بهم وما أروع التعبير بقوله: ضلوا عنا! ثم قالوا: بل لم نكن ندعوا شيئا، أى: كنا نظن أننا ندعوا من ينفع أو يشفع فتبين لنا أنهم لم يكونوا شيئا، وما كنا نعبد بعبادتهم شيئا، ويصح أن نفهم: أنهم كذبوا وأنكروا أنهم عبدوا غير الله وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «2» . مثل ذلك الإضلال يضل الله الكافرين عن طريق الجنة، ويضلهم عن الصراط المستقيم. ذلكم العذاب الذي أنتم فيه بسبب أنكم كنتم تفرحون بالمعاصي وارتكاب الآثام وإيذاء الرسل الكرام، وتمرحون مرح بطر وأشر. ادخلوا أبواب جهنم فإن لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم، ادخلوها خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين. إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ «3» .   (1) - «إذ» هنا أعربت مفعولا به لقوله: (تعلمون) وهي مضافة لجملة (الأغلال في أعناقهم) وبعضهم تخلص من تعارض (سوف) مع (إذ) التي للماضي فقال: إن (إذ) هنا بمعنى (إذا) ظرف ل (يعلمون) وعبر ب (إذ) بدلا من (إذا) للدلالة على تحقق ما بعدها. (2) - سورة الأنعام آية 23. (3) - سورة غافر آية 56. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 318 هذا جزاء المجادلين في آيات الله بغير حق ولا حجة، وأما أنت يا رسول الله فاصبر على أذاهم وتوكل على الله واستغفر لذنبك وسبح بحمد ربك بالعشي والإبكار، فالله معك وناصرك ومؤيدك، ووعده الحق وكلامه الصدق، إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وقد وعدك بالنصرة، وأوعدهم بالخزي والمذلة فإن رأيت بعض الذي يوعدون- كما حصل في بدر- في حياتك ثم توفاك الله قبل رؤية الباقي فثق في تحقيق وعدنا، فإنهم إلينا راجعون. ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك خبرهم كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم، ومنهم من لم نقصص عليك خبرهم مما لا يعلمهم إلا ربك. وجميعا كذبوا وأوذوا في سبيل الله وصبروا. وما كان لرسول أن يأتى بآية من عنده بل الآيات من الله يرسلها تبعا للمصلحة وهو أعلم بها، لا كما يريدون فهو أعلم بخلقة، لكل أجل كتاب فإذا جاء أمر الله وقضاؤه قضى بالحق وخسر هنالك المبطلون الذين يجادلون في آيات الله، ويقترحون المعجزات وهم لا يعلمون شيئا، وما دفعهم إلى ذلك إلا تعنتهم وكبرهم وسوء فهمهم.. بعض آيات الله ونعمه علينا [سورة غافر (40) : الآيات 79 الى 81] اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَمِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81) المفردات: الْأَنْعامَ: هي الإبل والبقر والغنم الشامل للمعز حاجَةً: أمرا مهما يشغل بالكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 319 وهذا تذكير بنعم الله على الناس، وبآياته الدالة على كمال القدرة وسط الوعيد الشديد ليعلم الخلق أنه وعيد ولكن من إله رحمن رحيم، قادر عليهم. المعنى: الله- عز وجل- الذي جعل لكم الأنعام، وخلقها لأجلكم ولمصلحتكم لتركبوا بعضها، ومنها تأكلون، ولكم فيها منافع غير الركوب والأكل كالألبان والأوبار والجلود وغير ذلك، ولتبلغوا عليها حاجة تشغل بالكم وهي نقل الأثقال والأحمال من بلد لم تكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس، وعليها وعلى الفلك، أى: السفينة تحملون، فقد حملنا ربنا في البر على الإبل وفي البحر على السفن، وقد علمنا الله كيف نسخر الطبيعة فحملنا الريح والحديد والماء وغيرها. وهكذا يريكم الله آياته الكونية التي تدل على باهر عظمته، وعظيم قدرته جل شأنه. وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد فأى آية من آياته الباهرة تنكرون؟ وبأى آية من آياته تعجبون؟ فكيف تنكرون البعث وتعدونه عظيما؟ من يحيى العظام وهي رميم، عجبا لكم؟! أنتم أشد خلقا في البدء والإعادة أم السماء بناها رفع سمكها فسواها؟! تركيب هذه الآية قد حير جهابذة العلماء قديما حيث قالوا: كان الظاهر أن يؤتى باللام في الجميع أو تترك في الجميع فيقال (مثلا) لتركبوا: ولتأكلوا، ولتنتفعوا، ولتبلغوا.. الآية. وقد أجاب بعضهم على هذا السؤال بأن المراد بالأنعام الإبل خاصة، وركوبها وبلوغ الحاجة بها من أتم الأغراض لأن جل منافعها الركوب والحمل عليها ولذا قال: لتركبوا. وتبلغوا، وأما الأكل والانتفاع بالأوبار والشعر فغرض بسيط، والله أعلم بأسرار كتابه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 320 تهديد المجادلين في آيات الله [سورة غافر (40) : الآيات 82 الى 85] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَخَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85) هذا ختام للسورة رائع، محور الكلام فيها مع المشركين المجادلين في آيات الله المتكبرين على رسله غرورا منهم بدنياهم وأموالهم وأولادهم فكان هذا تهديدا ببيان من هم أشد منهم وأكثر أموالا وأولادا. المعنى: أعجزوا فلم يسيروا في أطراف الأرض فينظروا بعين الاعتبار كيف كان عاقبة الذين من قبلهم «1» ؟! عجبا لهؤلاء المتكبرين من قريش المغرورين بأموالهم وأولادهم، ودنياهم البسيطة بالنسبة لغيرهم، أقعدوا فلم يسيروا حتى يروا آثار من تقدمهم من الأمم صاحبة الصولة   (1) الاستفهام للإنكار، والمنكر هو عدم السير المترتب عليه النظر السليم، وكيف خير متقدم لكان، وعاقبة اسمها مؤخر، ومن قبلهم صلة للموصول، وكانوا أكثر منهم: استئناف مبين لحالهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 321 والدنيا العريضة الذين بنوا الأهرام، وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا آمنين، وكانت لهم حضارة وعلوم، ومعارف وفنون؟ أفلم يروا إلى ما بين أيديهم من آثارهم التي تدل على مبلغ ما كان عندهم من الجاه وعلى نهاية عصيانهم وتكبرهم على أنبيائهم؟ فما أغنى عنهم كسبهم وجاههم، ولم ينفعهم ما لهم ولا أولادهم، فلما جاءتهم رسلهم بالآيات والمعجزات الواضحات فرحوا بما عندهم من العلم الدنيوي يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا «1» ، وقيل: فرحوا بما عندهم من الخرافات والشبهات الواهية، وقالوا: نحن أولو علم وحضارة فلا حاجة بنا إلى دين أو رسالة، عجبا لهؤلاء وأتباعهم!! وربك لقد رأينا وسمعنا عن بعض الجهلة بأمور دينهم الذين تربوا في أحضان (اللادينية) يقولون: لا حاجة بنا إلى شريعة الغاب بعد أن عرفنا أحدث القوانين وأدق النظم!! يا ويلهم فرحوا بما عندهم من علم، الجهالة خير منه، وحاق بهم ونزل ما كانوا به يستهزئون من العذاب. وقيل: إن هذا وصف للأنبياء لما كذبوا من أممهم فرحوا بما عندهم من العلم الذي ينبئهم بأن العاقبة لهم وأن الهلاك للمكذبين المجادلين. فلما رأى هؤلاء المكذبون بأسنا في الدنيا، قالوا: آمنا بالله ربنا، آمنا به وحده وكفرنا بما كنا به مشركين، آمنوا ساعة العذاب، فلم ينفعهم إيمانهم، وتلك سنة الله مع الناس جميعا وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ [سورة النساء آية 18] . وخسر هنالك الكافرون، وضل أولئك المبطلون الكافرون، وتلك سنة الله ولن تجد لسنته تبديلا. فاحذروا يا أهل مكة، احذروا ثم احذروا..   (1) - سورة الروم آية 7. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 322 سورة فصلت وتسمى سورة السجدة، أو سورة المصابيح، وهي مكية عند الجميع، وعدد آياتها أربع وخمسون آية.. وتشتمل هذه السورة على الكلام على القرآن، وموقف المشركين منه والتعرض لمظاهر القدرة في خلق الأرض والسماء، ثم تهديد المشركين بمثل ما حل بعاد وثمود، وتهديدهم بما يحصل لهم يوم القيامة، ثم الكلام على المؤمنين المستقيمين وبيان نهايتهم في الدنيا والآخرة وذكر بعض أخلاقهم، ثم ذكر بعض آياته مع الكلام على القرآن الكريم، وبعض أخلاق الإنسان وطباعه، وغير ذلك مما يذكر في ثنايا الكلام فتفتح به القلوب، وتنار به البصائر، وتزكو به النفوس. القرآن وموقف المشركين منه [سورة فصلت (41) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4) وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 323 المفردات: حم تقرأ كأخواتها حاميم، ومن جهة المعنى فالله أعلم به وإن كان الظاهر أنها كأداة الاستفتاح التي يؤتى بها لتنبيه المخاطب لخطر ما بعدها، أو هي مسوقة لتأكيد إعجاز القرآن وتحديه لهم كما سبق فُصِّلَتْ: بينت وميزت أتم بيان وأروع تفصيل أَكِنَّةٍ: جمع كنان كغطاء وأغطية والكنان- وهو ما يسمى بالجعبة الذي يجعل فيه السهام وَقْرٌ: صمم حِجابٌ: ساتر، والمراد خلاف فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ: توجهوا إليه وَوَيْلٌ: كلمة تهديد لهم، وقيل. اسم واد في جهنم مَمْنُونٍ: مقطوع. المعنى: حم: هذا تنزيل من الرحمن الرحيم والرءوف بعباده الخبير البصير، كتاب وأى كتاب يدانيه؟ هو كتاب أحكمت آياته لأنها من الحكيم العليم، وفصلت آياته وميزت لفظا بفواصلها ومقاطعها، ومبادئ السورة ونهايتها. وفصلت آياته معنى: فهذا وعد وذاك وعيد، وهذا قصص وذلك أحكام وتنظيم، وبعضها في الله وبيان قدسيته وكمال قدرته، وعجائب رحمته، وأحوال خلقه، وعظمة ملكوته، وهذه آيات في المواعظ تضطرب لها القلوب وتخضع لها الجباه، وهذه آيات في فلسفة الأخلاق الإسلامية، وبناء الأسرة وتكوين الجماعة، وماذا نقول؟ إن السكوت في هذا لبيان وبلاغة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. وانظر يا أخى- وفقك الله للخير- إلى قوله: تنزيل من الرحمن الرحيم، أى: هذا المنزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم من الرحمن الرحيم، وفي هذا إشارة إلى تمام النعمة، وكمال الرحمة حيث نزل القرآن شفاء لما في الصدور. وهدى ورحمة للعالمين وهو تبيان لكل شيء، والجامع لكل فضل، والأساس لكل علم، وهو مفتاح السعادة وطريق النجاة، من تمسك به نجا، ومن هدى إليه سما إليه الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم ولم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين. وكيف لا يكون القرآن فوق هذا وأكثر منه! وهو تنزيل رب العالمين الرحمن الرحيم!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 324 وكتاب فصلت آياته حالة كونه قرآنا عربيا نزل بلغة العرب، وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه، فهو أنزل عربيا لقوم يعلمون أسراره ويدركون معانيه وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ «1» حالة كونه بشيرا لمن آمن، ونذيرا لمن عصى فنشأ عن وصف القرآن بهذه الصفات أن أعرض عنه أكثر أهل مكة فهم لا يسمعون سماعا ينتفعون به. وقالوا: قلوبنا في أغطية تمنعنا من فهم ما تدعونا إليه من أمر التوحيد والإقرار بالبعث والتصديق بالرسالة، وفي آذاننا وقر وصمم يمنعنا عن السماع، ومن بيننا وبينك حجاب سميك ابتدأ من عندنا وانتهى إليك. هذا الحجاب يمنعنا عن سماع ما تدعو إليه تراهم وصفوا أنفسهم بثلاث صفات: قلوبهم في أغطية، وفي سمعهم صمم، وبينهم وبينك حجاب. يقول بعض العلماء: هذه تمثيلات لبعد قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم إليه واعتقاده، ومج أسماعهم له وامتناع مواصلتهم وموافقتهم للرسول، وقيل: إنهم شبهوا قلوبهم بالشر المحاط بالغطاء المحيط له بجامع عدم الوصول له من أى ناحية: وشبهوا أسماعهم بآذان بها صمم حيث لم تنتفع بشيء من دعوة النبي، وشبهوا حال أنفسهم مع الرسول بحال شيئين بينهما حجاب سميك يمنع من وصول أحدهما إلى الآخر. وإذا كان الأمر كذلك فاعمل على دينك، إننا عاملون على ديننا. وانظر إلى رد القرآن عليهم الذي أمر به النبي صلّى الله عليه وسلّم: قل لهم: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد، أى: لست ملكا ولا جنيا، وإنما أنا بشر مثلكم وواحد منكم فكيف تقولون: إن بيننا وبينك حجاب؟ والحجاب المانع عن التفاهم يعقل لو كان النبي من جنس آخر أو يتكلم بلغة أخرى لا تفهم، وكأن النبي يسل سخائم حقدهم بقوله: أنا بشر مثلكم لم أزد عليكم في شيء، ولست مكلفا بأكثر مما يعمله البشر غاية الأمر أنه أوحى إلى أنما إلهكم إله واحد، وكلفت بتبليغكم هذه الحقيقة فكيف نقول: إن قلوبنا في أكنة من هذه الحقيقة، وفي آذاننا وقر فلا نسمعها، أى أن دعوتكم حقيقة يقر بها العقل، ويدعو إليها المنطق السليم، والعقل الرشيد، فكيف يكون هذا موقفكم من هذه الدعوة؟!   (1) - سورة فصلت آية 44. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 325 وإذا كان الأمر كذلك فاستقيموا لله، وتوجهوا إليه وحده، واستعينوا به، واعبدوه ولا تشركوا به شيئا مما لا يسمع ولا يبصر، ولا يغنى عنكم شيئا. يا قوم استقيموا له واستغفروه مما سلف منكم، وويل للمشركين من شركهم برب العزة والجبروت، ومن هم المشركون؟ هم الذين لا يؤتون الزكاة.. يا حسرتاه على ما نعى الزكاة من المسلمين! يا حسرتاه على الذين يصلون ولا يزكون، يا حسرة على من يؤمن ببعض الكتاب ويكفر بالبعض الآخر، ومانع الزكاة قد شغلته الدنيا وأعمته عن الآخرة، وهم بالآخرة هم كافرون. ولا غرابة في تخصيص منع الزكاة من بين أوصاف الكفرة بالذكر لأنها المعيار على الإيمان الصحيح المستكن في القلب، فالمال شقيق الروح، وبذله دليل على صدق النية وإخلاص الطوية، ولا نجد مانعا للزكاة من المسلمين كامل الإيمان. إن الذين آمنوا بالله ورسوله، وعملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون ولا مقطوع فنعم أجر العاملين. الله هو القادر المريد [سورة فصلت (41) : الآيات 9 الى 12] قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَبارَكَ فِيها وَقَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَهِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَزَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَحِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 326 المفردات: أَنْداداً: جمع ند وهو الشريك رَواسِيَ: هي الجبال الثابتة سَواءً: استوت بلا زيادة ولا نقصان اسْتَوى إِلَى السَّماءِ: قصد، أى: تعلقت إرادته بها دُخانٌ الدخان: ما ارتفع من لهب النار، ويراد به ما يرى من بخار الأرض عند جدبها، وفي الحقيقة هو شيء الله أعلم به يشبه الدخان في رأى العين فَقَضاهُنَّ: أكملهن وفرغ منهن بِمَصابِيحَ المراد: بنجوم كالمصابيح. وهذا بيان لوحدانية الله التي أوحى بها لرسوله حيث ذكر هنا مظاهر قدرته التي تثبت له الوحدانية، وتنفى عنه الشركة مع تأنيب المشركين وتعنيفهم على كفرهم. المعنى: قل لهم يا محمد: أإنكم «1» لتكفرون بالله الذي خلق الأرض في يومين، وتجعلون له أندادا وشركاء؟! وهو منزه عن الشريك والند، والمراد بخلق الأرض هنا- كما هو الظاهر- تقدير وجودها، والحكم بأنها ستوجد لا خلقها وإيجادها بالفعل، ولا غرابة في هذا فالله يقول: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «2» فخلقه من تراب، أى: أراد خلقه وقدره بالفعل وإلا لما كان لقوله تعالى: كن فيكون معنى أبدا.. والمراد باليوم الوقت مطلقا لا اليوم المعروف، لأنه لم يكن هذا النظام وجد بعد. وكفرهم بالله يتمثل في جدالهم في ذاته وأفعاله، وإنكارهم لوصفه بكل كمال وتنزهه عن كل نقص، وإنكارهم قدرته على البعث وإرسال الرسل، وغير ذلك من عقائد الكفار. ذلك الموصوف بخلق الأرض في يومين- وما سيعطف على هذا في آخر الآية- هو الله جل جلاله، وتعالت أسماؤه رب العالمين رب كل ما في السموات والأرضين! فكيف تجعلون من هذه الكائنات المخلوقة التي تقر له بالربوبية بلسان الحال أو المقال   (1) الهمزة هنا للاستفهام الإنكارى، واللام التي في (لتكفرون) لتأكيد الإنكار، وتقديم الهمزة لصدارتها لا لإنكار التأكيد. (2) - سورة آل عمران آية 59. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 327 كيف تجعلون منها شريكا وندا؟ تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا خلق الأرض في يومين، وجعل فيها رواسى ثابتات من الجبال الشامخات قدر ذلك وأراد أن تكون الجبال من فوقها كأوتاد، وانظر إلى قوله: خلق الأرض وجعل فيها رواسى فالخلق إيجاد من العدم. والجعل تحوير وتبديل في نفس الشيء فكان الخلق بالأرض أولى، وكان الجعل بالرواسى أنسب. وبارك فيها أى قدر- سبحانه- أن يكثر خيرها. ويزداد نفعها من نبات وحيوان وأنهار ومعادن، وقوى خفية فيها سيظهرها علام الغيوب على أيدى سكان تلك المعمورة. وقدر فيها أقواتها، وبين كميتها وأقدارها التي تتناسب مع سكانها وأبنائها وقد سمعنا أن سكان الأرض عددهم (كيت) فأصبحوا الآن يزيدون أضعافا مضاعفة وهم في ازدياد مطرد ومع هذا فالأقوات موجودة والخير كثير، وإنما نحن في حاجة إلى مواصلة الجهود، واستخدام الطاقة والانتفاع بالطبيعة في كل مظاهرها. كل ذلك حصل في أربعة أيام: استوت استواء بلا نقصان ولا زيادة، يومان في خلق الأرض، ويومان في جعل الرواسي وتقدير الأقوات فتلك أربعة كاملة، ثم يومان آخران في السموات السبع فتلك ستة أيام كما نطقت الآيات، والله هو القادر على خلق العالم كله علويه وسفليه في لحظة، ولعله يعلمنا التأنى، ويرشدنا إلى الصبر. ثم استوى إلى السماء وقصد إليها، وهي دخان الله أعلم وحده بكنهه وحقيقته، وكل ما وصل إلينا عن طريق الأخبار فشيء لا نجزم بصحته، وما يقرره العلم كنظرية السديم فشيء ينقصه الدليل العلمي القاطع: فقال لها وللأرض: ائتيا طوعا أو كرها، والظاهر والله أعلم أن الأمر في قوله: ائتيا طائعين أو مكرهين للأرض والسماء أمر تكويني كقوله لشيء كن فيكون، أى: كونا وأحدثا على وجه معين، وفي وقت مقدر، ويكون- كما قلنا- خلق الأرض، وجعل فيها رواسى، وبارك، وقدر فيها أقواتها كلها مراد منها التقدير، أى: قدر خلق الأرض وجعل الرواسي والبركة وتقدير الأقوات، ويكون هنا قوله: ائتيا طوعا أو كرها بيان لكيفية التكوين إثر بيان كيفية التقدير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 328 ولعل تخصيص إرادة الخلق والجعل والبركة ... إلخ بالأرض للإشارة إلى الاعتناء بأمر المخاطبين فكان الأجدر ألا يحصل منهم كفر ولا شرك ولعل تخصيص الاستواء بالسماء دون الأرض مع أن الأمر المترتب لهما معا. جبرا لخاطرها واكتفاء بذكر تقدير الأرض وتقدير ما فيها السابق. قالتا- أى: الأرض وما فيها، والسماء وما فيها-: أتينا طائعين، وهذا تمثيل لسرعة الانقياد، وتصوير لكون وجودهما كما هما عليه جاريا على مقتضى الحكمة البالغة والإرادة السامية. وهذا تفسير وتفصيل لتكوين السماء الذي أجمل ذكره فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ أى: خلقهن خلقا متقنا، وأبدع أمرهن حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية في وقتين الله أعلم بمقدارهما. وأوحى إلى أهل كل من السموات والأرض أوامره، كلفهم بما يليق بهم، وزين السماء الدنيا بالنجوم التي هي كالمصابيح، وحفظها من كل شيطان رجيم. ذلك المذكور الذي يعجز القلم عن وصفه، وكيف يصفه إنسان لا يدرى كنه نفسه؟! ذلك تقدير العزيز القوى القادر العليم الخبير البصير. وليس في الآية ما يثبت أن الأرض خلقت قبل السموات، فليس هناك تعارض أبدا بين هذه الآية والآيات الأخرى مع هذا التأويل. تهديدهم بمثل ما حل بعاد وثمود [سورة فصلت (41) : الآيات 13 الى 18] فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14) فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (18) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 329 المفردات: أَنْذَرْتُكُمْ الإنذار: هو التخويف بنزول العذاب صاعِقَةً المراد بها هنا: الهلاك والعذاب يَجْحَدُونَ: ينكرون ويفكرون صَرْصَراً: ريحا شديدة البرد أو شديدة الحر أو شديدة الصوت إذ يحتمل أن تكون الكلمة مأخوذة من الصر، أى: البرد، أو الصر، أى: الحر أو صر يصر صريرا إذا صوت، ومنه صرير الأقلام، وعليه قوله تعالى: فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ نَحِساتٍ المراد: مشئومات عَذابَ الْخِزْيِ: عذاب الذل الْعَذابِ الْهُونِ: الهوان فَاسْتَحَبُّوا: اختاروا. المعنى: قل لهؤلاء المشركين: إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنما إلهكم إله واحد فإن لم يؤمنوا وكفروا فسق لهم الحجة القوية الواضحة بأنه خلق الأرض والسماء وقدر في الأرض أقواتها: وبارك فيها، وخلق السموات سبعا شدادا وأوحى في كل سماء أمرها، وزينها للناظرين، كل ذلك في ستة أيام سواء للسائلين. فهل يليق بكم أن تشركوا به شيئا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 330 فإن أعرضوا ولم يقبلوا الحجة المعقولة وركبوا رءوسهم واستوحوا العناد من شياطينهم فقل لهم: إنى أنذركم صاعقة تنزل بكم وعذابا شديدا يحل بكم مثل العذاب الذي نزل بعاد وثمود وقت «1» أن جاءتهم الرسل تبشرهم وتنذرهم وتدعوهم إلى الهدى ودين الحق، وقد سلكوا معهم كل الطرق وأتوهم بجميع وجوه الحيل، جاءتهم الرسل بالوحي والشرائع بألا «2» تعبدوا إلا الله وحده ولا تشركوا به شيئا. فماذا قالوا ردّا على هذه الدعوة؟ قالوا: لو شاء ربنا إنزال رسل من عنده للناس لأنزل ملائكة تكون رسلا له لكنه لم يشأ ذلك، وعلى ذلك فإنا بما أرسلتم به- على زعمكم أيها الرسل- لكافرون وغير مؤمنين أبدا فإنكم بشر مثلنا، ولا فضل لكم علينا. فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وهذا تفصيل لما حصل لكل من قبيلة عاد وثمود مع رسلهم بعد ذكره بالإجمال، وبدأ بذكر عاد لأنهم أقدم زمنا من قبيلة ثمود، فأما عاد فكانوا قوما يبنون بكل ريع ومرتفع من الأرض آية بها يعبثون وكانوا يتخذون مصانع لظنهم أنهم مخلدون، وكانوا إذا بطشوا بطشوا جبارين، فهم لذلك قوم مستكبرون، استكبروا في الأرض بغير الحق وكذبوا بالرسل واستهزءوا بنبيهم وقالوا مغترين: من أشد منا قوة؟ قالوا ذلك عند ما أنذرهم رسولهم بالعذاب. عجبا لهؤلاء وأى عجب؟ أغفلوا ولم يعلموا أن الله الذي خلقهم ورزقهم هو أشد منهم قوة وقدرة فليس العذاب الذي يخوفون من عند الرسل، لا، ولكنه من عند خالق القوى والقدر، الإله القوى القادر على كل شيء، وكانوا بآيات ربك الكثيرة يكفرون. فأرسلنا عليهم صرصرا شديدة تهلك بحرها أو ببردها أو هي ريح قاصفة تهلك بصوتها، جاءتهم في أيام نحسات سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ «3» ؟ أرسلنا عليهم لنذيقهم   (1) إذ هنا طرف لصاعقة الثانية لأنها بمعنى (عذب) وقيل: هي حال منها لأنها خصصت بالإضافة. (2) أن هذه يصح أن تكون مفسرة لأن مجيء الرسل بالوحي والشريعة يتضمن معنى القول، و (لا) ناهية. ويصح أن تكون مصدرية، ولا ناهية أيضا على قول، ويصح أن تكون مخففة واسمها ضمير الشأن وفيه تكلف وبعد. (3) - سورة الحاقة الآيتان 7، 8. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 331 عذاب الخزي المذل لأولئك المستكبرين المتعاظمين عن اتباع الرسل، ولعذاب الآخرة بالنسبة لهذا العذاب المبين أشد وأخزى وهم لا ينصرون في الدنيا ولا في الآخرة، وأما ثمود فقد هداهم ربك إلى الطريقين، طريق الخير وطريق الشر، طريق العمى وطريق الهدى، فاختاروا وآثروا طريق الضلال طريق الكفر واستحبوا العمى على الهدى فأخذتهم صاعقة العذاب المهين بما كانوا يكسبون، وقد كانوا قبل ذلك في جنات وعيون وزرع ونخل طلعها هضيم «1» وكانوا ينحتون من الجبال بيوتا فارهين «2» فلما كذبوا وكفروا أهلكهم ربك بالطاغية وهم ينظرون، وأما الذين آمنوا فالله نجاهم من العذاب بسبب إيمانهم وخوفهم من عذاب الله. فانظروا يا آل مكة أين أنتم من هؤلاء! روى أن الملأ من قريش وأبو جهل معهم قالوا: قد التبس علينا أمر محمد، فلو التمستم رجلا عالما بالشعر والكهانة والسحر فكلمه ثم أتانا ببيان من أمره، فقال عتبة بن ربيعة: والله لقد سمعت الكهانة والشعر والسحر، وعلمت من ذلك علما لا يخفى على إن كان كذلك، قالوا: ائته فحدثه فأتى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال له: يا محمد أنت خير أم قصى ابن كلاب؟ أنت خير أم هاشم؟ أنت خير أم عبد المطلب؟ أنت خير أم عبد الله؟ فيم تشتم آلهتنا، وتضلل آباءنا وتسفه أحلامنا وتذم ديننا؟ فإن كنت إنما تريد الرياسة عقدنا إليك ألويتنا فكنت رئيسنا ما بقيت، وإن كنت تريد الباءة زوجناك عشر نساء من أى بنات قريش شئت، وإن كنت تريد المال جمعنا لك مالا تستغني به أنت وعقبك من بعدك، وإن كان هذا الذي يأتيك رئيا من الجن قد غلب عليك بذلنا لك من أموالنا في طلب ما تتداوى به أو نغلب فيك. والنبي صلّى الله عليه وسلّم ساكت، فلما فرغ من كلامه قال: (قد فرغت يا أبا الوليد) قال: نعم. (قال فاسمع منى) : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. حم تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا.. إلى قوله: فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ فوثب عتبة ووضع يده على فم الرسول، وناشده الرحم ليسكتن، ورجع إلى أهله، ولم يخرج إلى قريش، فجاء أبو جهل فقال له: أصبوت إلى محمد؟ أم أعجبك طعامه؟ فغضب عتبة وأقسم ألا يكلم محمدا أبدا. ثم قال: والله لقد تعلمون أنى من   (1) لين متكسر، مأخوذ من هضم يهضم. [ ..... ] (2) أى: حالة كونهم حاذقين ونشطين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 332 أكثر قريش مالا، ولكني لما قصصت عليه القصص أجابنى بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر، ثم تلا عليهم ما سمع منه إلى قوله: مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَثَمُودَ وأمسكت بفيه وناشدته بالرحم أن يكف، وقد علمتم أن محمدا إذا قال شيئا لم يكذب، فو الله لقد خفت أن ينزل بكم العذاب ، يعنى الصاعقة، وفي رواية: فأطيعونى في هذه وأنزلوها بي، خلوا محمدا وشأنه واعتزلوه، فو الله ليكونن لما سمعت من كلامه نبأ، فإن أصابه العرب كفيتموه بأيدى غيركم، وإن كان ملكا أو نبيا كنتم أسعد الناس به، لأن ملكه ملككم وشرفه شرفكم. فقالوا: هيهات!! سحرك محمد يا أبا الوليد. فقال: هذا رأيى لكم فاصنعوا ما شئتم. تهديدهم بعذاب يوم القيامة [سورة فصلت (41) : الآيات 19 الى 25] وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24) وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 333 المفردات: يُوزَعُونَ: يساقون حتى تتكامل عدتهم ثم يدفعون، أى: يحبس أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا ثم يدفعون وَجُلُودُهُمْ: وهي المعروفة، وقيل المراد بها الفروج تَسْتَتِرُونَ: تستخفون أَرْداكُمْ أى: أهلككم مَثْوىً: مأوى يَسْتَعْتِبُوا: استعتب وأعتب بمعنى استرضى، أى: طلب الرضا يقال: استعتبته فأعتبنى، أى: استرضيته فأرضانى (وأعتبنى فلان، إذا عاد إلى مسرتي) راجعا عن الإساءة، والاسم منه العتبى الْمُعْتَبِينَ: المقبول عتابه، وفي قراءة المعتبين، على معنى إن أقالهم وقبل عتابهم وردهم إلى الدنيا لم يعملوا بطاعته وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ هيأنا لهم شياطين من الإنس والجن وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ: ثبت. المعنى: واذكر لهم يا محمد طرفا من عذاب يوم القيامة بعد تهديدهم بعذاب الدنيا لعلهم يرجعون، اذكر لهم يوم يحشر أعداء الله من الكفرة إلى النار ومواقف الحساب فهم يساقون إليها كما تساق الأنعام بشدة حتى إذا تكاملوا واجتمع أولهم على آخرهم يدفعون إلى جهنم دفعا، حتى «1» إذا ما حضروها وسئلوا عما أجرموا فأنكروا شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون. وقالوا لجلودهم، وهل هي المعروفة أو هي كناية عن فروجهم؟ بكلّ قيل، ولكل وجه. قالوا لهم: لم شهدتم علينا؟ قالوا: أنطقنا الله- تعالى- وأقدرنا على بيان الواقع   (1) حتى: غاية لقوله يوزعون، وما في (إذا ما) زائدة لتأكيد ارتباط المجيء بشهادة الأعضاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 334 فشهدنا بما كنتم تعملون، ولا غرابة في ذلك فالله الذي أنطق كل شيء، وخلقكم أول مرة، وإليه وحده ترجعون، هو الذي أقدرنا على النطق والشهادة فليس نطقنا بعجيب بقدرة الله. ثم يقال لهم توبيخا وتقريعا، وتقريرا لجواب الجلود: وما كنتم تستترون وتستخفون عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم بذلك، ولكن ظننتم ظنّا خاطئا أن الله لا يعلم كثيرا مما تعملونه خفية فلا يظهره يوم القيامة ولا ينطق جوارحكم به، ولذلك استترتم من الخلق، ولم تستتروا من الخالق وهو يعلم الغيب والشهادة. وذلك- والإشارة إلى ظنهم المذكور في قوله: (ظننتم) - ظنكم الذي ظننتم بربكم هو الذي أرداكم وأهلككم، فأصبحتم بسببه من الخاسرين. فإن يصبروا على ما هم فيه أولا يصبروا فالنار مثوى لهم، ومحل إقامة أبدية لأمثالهم وإن يستعتبوا ويعتذروا عما فرط منهم ويطلبوا رضا الله فما هم من المعتبين المقبول عذرهم لأنهم فارقوا الدنيا التي هي دار العمل، والرسول صلّى الله عليه وسلّم يقول: «ليس بعد الموت من مستعتب» . وهذا بيان السبب الذي دفعهم إلى العمل الفاسد وَقَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ بمعنى: أننا هيأنا لهم قرناء السوء من شياطين الإنس والجن فزينوا لهم ما بين أيديهم وما خلفهم من أعمالهم، وألقوا في قلوبهم أنه لا جنة ولا نار ولا بعث ولا حساب، وقيل: المراد ما بين أيديهم من أعمال الدنيا، وما خلفهم من أعمال الآخرة فاستمعوا لهم، وعملوا بمشورتهم التي صادفت هوى في نفوسهم. وحق عليهم القول، وتقرر العذاب حالة كونهم في جملة أمم قد مضت قبلهم من الجن والإنس إذ دأبهم كدأب هؤلاء وعملهم كعملهم إنهم كانوا خاسرين. الكفار وأعمالهم وجزاؤهم [سورة فصلت (41) : الآيات 26 الى 29] وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 335 المفردات: وَالْغَوْا فِيهِ: وأتوا باللغو عند قراءته، والمراد باللغو هنا: ما لا معنى له أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ المراد: أعمالهم السيئة الْأَسْفَلِينَ: الأذلين المهانين. بعد أن هددهم الله بالعذاب في الدنيا والآخرة، وتوعدهم بما هو أشد عليهم من وقع السهام بين هنا بعض أعمالهم القبيحة التي تستوجب هذا العذاب وأكثر منه. المعنى: وقال الذين كفروا من مشركي مكة لأتباعهم- أو قال بعضهم لبعض-: لا تسمعوا لهذا القرآن الذي يتلوه محمد، ولا تنصتوا له أبدا. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم إذا قرأ وهو بمكة رفع صوته فكان المشركون يطردون الناس عنه ويقولون: لا تسمعوا لهذا القرآن، وائتوا عند قراءته باللغو ليشوشوا على قارئه، وكانوا يأتون عند قراءته بالمكاء والصفير، وإنشاد الشعر والأراجيز يقولون لبعضهم: افعلوا هذا لعلكم تغلبونه وتميتون ذكره. فو الله لنذيقن هؤلاء الذين كفروا عذابا شديدا يقض مضاجعهم، ويفرق جمعهم ويحط من كبريائهم في الدنيا، وو اللَّه لنجزينهم في الآخرة على سيئات أعمالهم التي هي نفسها أسوأ أفعالهم جزاء وفاقا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 336 ذلك- الذي عرفته- جزاء أعداء الله المعد لهم بسبب ما كانوا يعملون هو النار لهم فيها دار الخلد والإقامة. فهم في جهنم مخلدون إلى ما شاء الله جزاء بسبب ما كانوا بآياتنا يجحدون: فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً. وقال الذين كفروا، وهم يتلظون في نار جهنم: ربنا أرنا الفريقين اللذين أضلانا من الجن والإنس، وأغرونا حتى علمنا ما علمنا نجعلهما تحت أقدامنا وندوسهما انتقاما منهم، وليكونا في الدرك الأسفل من النار، فهم كانوا يمنوننا بالأمانى ويقودوننا إلى ما نحن فيه. أين هما الآن ليكونا من الأسفلين الأذلين المهانين؟ الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا [سورة فصلت (41) : الآيات 30 الى 32] إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) المفردات: اسْتَقامُوا: ثبتوا وداموا على الاستقامة أَلَّا تَخافُوا الخوف: غم يلحق النفس لتوقع مكروه في المستقبل وَلا تَحْزَنُوا الحزن: غم يلحق النفس لفوات نفع في الماضي تَدَّعُونَ : تتمنون وتطلبون نُزُلًا النزل: طعام يعد للضيف. وهذا شروع في بيان أحوال المؤمنين ونهايتهم بعد بيان أحوال المشركين ونهايتهم ليظهر الفرق جليا بين الخبيث والطيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 337 المعنى: إن الذين قالوا: ربنا الله وحده، لا شريك له ولا إله غيره، قالوا هذا اعترافا بربوبيته، وإقرارا بوحدانيته، وأنه- عز وجل- مالك الأمر ومدبره وأن الخلق عبيد له ومربوبون بين يديه لا حول لهم ولا طول. ثم «1» استقاموا على الطريقة وداوموا السير على الصراط المستقيم فلم تزل قدمهم عن طريق العبودية قلبا وقالبا، ونية وعملا واعتدلوا على منهج الطاعة ومنهج العبادة قولا وعملا وعزما، وداوموا على ذلك أولئك تنزل عليهم الملائكة في كل وقت وحين وخاصة عند الموت وفي وحدة القبر وعند شدة الحساب وهوله، وقيل: إن الملائكة تتنزل على عباد الرحمن وجند القرآن يمدونهم فيما يعن ويطرأ عليهم من الأمور والمشاكل الدينية والدنيوية، ويتنزلون عليهم بما يشرح صدورهم، ويدفع عنهم هموم الخوف والحزن، وقد ثبت أن «للشيطان لمة، وللملك لمة» وقد عرفنا أن للكفار قرناء زينوا لهم كل معصية وكفر. وللمؤمنين أولياء من الملائكة يدفعون عنهم كل هم وغم ويتنزلون عليهم بكل خبر سار وإرشاد سليم وبشرى كريمة ويقولون لهم: أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون. ويقول الله لهم: نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فالله ولى الذين آمنوا يخرجهم من ظلمات النفس والشيطان إلى نور الهدى والقرآن، والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت، والله ولى المتقين يوم القيامة يثيبهم ويجازيهم بما قدموا أحسن الجزاء. ويصح أن يكون هذا من كلام الملائكة كما يقتضيه السياق العام، على معنى نحن أعوانكم في الدنيا نلهمكم الحق ونرشدكم إلى الصواب، ولعل ذلك عبارة عما يخطر في بال المؤمنين حين يعملون الخير أن ذلك يرضى الله وهو بتوفيقه. ونحن أولياؤكم في الآخرة نمدكم بالشفاعة ونلقاكم بالتحية والكرامة، في حين يلقى المشركون أولياءهم بالكراهية والبغض والتنكر، ولكم فيها ما تدعون حالة كونه نزلا من غفور رحيم. والنزل، ما يعد للضيف من إكرام له، ولا مانع من إطلاقه على ما يعد للمتقين يوم القيامة على سبيل التشبيه للإشارة إلى عظم ما يعد لهم من الكرامة والإجلال.   (1) ثم وضعت للدلالة على الترتيب مع التراخي في الزمن ويصح هنا أن تكون للترتيب الرتبى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 338 والاستقامة في الآية ورد تفسيرها عن النبي صلّى الله عليه وسلّم فقد ورد في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: قلت يا رسول الله: قل لي في الإسلام قولا لا أسأل عنه أحدا بعدك. قال: «قل آمنت بالله ثمّ استقم» . وعن أبى بكر هي: عدم الإشراك بالله شيئا.. وعن عمر- رضى الله عنه-: استقاموا- لله- على الطريقة لطاعته ثم لم يروغوا روغان الثعلب.. وعن عثمان- رضى الله عنه-: استقاموا أخلصوا العمل لله.. وعن على- رضى الله عنه- أدوا الفرائض،.. وعن الحسن- رضى الله عنه-: استقاموا على أمر الله فعملوا بطاعته واجتنبوا معصيته، ويقول العلامة القرطبي: وهذه الأقوال وإن تداخلت فتلخيصها: اعتدلوا على طاعة الله عقدا وقولا وفعلا وداوموا على ذلك. يا سبحان الله! الذين يقولون: ربنا الله ثم يستقيمون على الطريقة المثلى تنزل عليهم الملائكة بالطمأنينة وعدم الخوف وبالبشرى، وهم أولياؤهم في الدنيا والآخرة ولهم جنات الخلد نزلا من غفور رحيم! إنها تجارة والله رابحة. الدعوة إلى الله وآداب القائمين بها [سورة فصلت (41) : الآيات 33 الى 36] وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36) المفردات: حَمِيمٌ في كتب اللغة: الحميم: الماء الحار، وعليه قوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 339 عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ وقد استحم، أى: اغتسل بالحميم، ثم صار كل اغتسال استحماما، ولا شك أن صديقك يزيل عنك الأدران الحسية والمعنوية كالماء. ولذا سمى حميما يَنْزَغَنَّكَ النزغ والنخس واحد، والمراد: صرفك عن الخصلة الفاضلة صارف فاستعذ. هذه السورة مكية كما مر، وفيها نقاش المشركين الذين يقولون: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب، وقالوا لبعضهم: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون. وهذا بلا شك مما يؤذى النبي ويقطع أمله في هدايتهم فبين الحق- تبارك وتعالى- هنا أن الواجب عليك يا رسول الله أن تتابع المواظبة في الدعوة والسير في طريقها مهما لاقاك من صعاب فإن الدعوة إلى الله أكمل الطاعات وأحسن العبادات، ولا عليك شيء أبدا بعد اتباع هداية القرآن والتخلق بخلقه. ولنا أن نقول وجها آخر- كما ذكره الفخر- ولعله أنسب، وخلاصته أن المبادئ المسلم بها: أصلح نفسك ثم ادع غيرك، ولا شك أن مرتبة دعوة الغير إلى الهدى والخير مرتبة عالية، ولا يلقاها إلا أفراد قلائل زكت نفوسهم وطهرت أرواحهم وامتلأت إيمانا ويقينا. أما مرتبة تربية النفس وإعدادها فهي مأخوذة من قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا الآية. وأما المرتبة الثانية فهي مأخوذة من قوله: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صالِحاً وَقالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. الرأى الأول مبنى على أن قوله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ نازلة في شأن النبي صلّى الله عليه وسلّم ولتوبيخ الذين تواصوا باللغو في القرآن. وأصحاب الرأى الثاني توسعوا في مدلول اللفظ فقالوا: هذه الآية تشمل كل من دعا إلى الله بالموعظة والحجة، وسوق البرهان والقتال بالسيف إذا لم تنفع الحجة. المعنى: ولا أحد أحسن قولا، وأرفع منزلة ممن دعا إلى الله ودعا غيره- بعد تكميل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 340 نفسه- إلى دين الله، فهؤلاء الذين يرفعون عقائرهم في المجتمعات والمحافل وعلى المنابر يطالبون بتحكيم كتاب الله، والسير على شريعة العدل شريعة السماء، شريعة المنطق السليم، قانون رب العالمين الذي وضعه لخلقه وهو أعلم بهم، هؤلاء بلا شك أحسن قولا من غيرهم، بل إن غيرهم الذين لا يدعون إلى الله ليس في قولهم خير ولا في عملهم بركة. الذي يدعو إلى الله لا بد أن يكون عمله صالحا يلتقى مع قوله، بل هو في عمله الظاهر والباطن يكون أشد مراقبة لله وخشية منه، فإنا في زمن ليس للكلام فيه تأثير كثير وإنما التأثير للعمل والتقليد، فما أشد حاجتنا إلى علماء ووعاظ ربانيين وقرآنيين يكون عملهم مثلا أعلى يحتذيه كل مسلم، وقال على سبيل المفاخرة والمجاهرة: إننى من المسلمين وجماعتهم، وهذه الآية مسوقة لتثبيت قلب من يدعو، وتربيته بأدب القرآن والله يعلم أن دعاة الحق لا بد أن يصادفهم ما يؤلمهم فيقول لهم: لا تستوي الحسنة- كالدعوة إلى الله- ولا السيئة كالإعراض عنها وذم القائم بها. والعلاج هو أن تدفع السيئة بالحسنة يا سبحان الله! هذا علاج القرآن وحقا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم خلقه القرآن، ادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن منها، كدفع الغضب بالصبر، ودفع الجهل بالحلم، والإساءة بالعفو. فإذا فعلت مع عدوك ذلك فاجأك «1» في الحضرة انقلابه وصيرورته مشابهة في المحبة للصديق الذي لم تسبق منه عداوة. وما يؤتى هذه الخصلة التي هي دفع السيئة بالحسنة إلا الذين صبروا على المكروه وراضوا أنفسهم على تحمل الأذى، وكانوا أقوياء أشداء، ليس الشديد بالصرعة- هو من يصرع الناس ويغلبهم- إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب، وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم من خلق النفس وكمالها. تلك مرتبة عالية، ومركب صعب أن يقابل الإنسان منا السيئة بالحسنة وخاصة وهو يتحمل العذاب في سبيل خير الناس، فإن لعب بك الشيطان ونزغك وحاول أن   (1) (فإذا الذي بينك) الفاء للسببية، وإذا الفجائية ظرف مطلق، المعنى التشبيه، وهذا على القول باسميتها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 341 يصرفك عن تلك المرتبة فلا عليك إلا أن تستعيذ بالله منه، والله يرعاك ويحميك وهو ولى المتقين، وبالمؤمنين رؤوف رحيم، وهو السميع العليم. فالخلاصة أن الدعوة إلى الله أحسن الأعمال وأفضلها، ولا بد أن يكون الداعية ممن حسن قوله وعمله، وطهر باطنه وظاهره؟ وكان مؤمنا بفكرته إيمانا عميقا إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ولا بد أن يكون واسع الصدر حليما يقابل السيئة بالحسنة حتى ينقلب أعداؤه وأعداء دعوته أصدقاء له ولدعوته، وهذه مرتبة لا يحظى بها إلا أولو العزم من الرجال وأصحاب النفوس العالية. بعض آيات الله عز وجل [سورة فصلت (41) : الآيات 37 الى 39] وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) المفردات: آياتِهِ: جمع آية، وهي العلامة الدالة على وحدانيته وقدرته اسْتَكْبَرُوا: تكبروا لا يَسْأَمُونَ: لا يملون عبادته خاشِعَةً المراد: يابسة لا نبات فيها، والخشوع: التذلل والتقاصر، استعير لحال الأرض اليابسة وَرَبَتْ: انتفخت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 342 وهذه بعض الآيات الدالة على الوحدانية لله تعالى، وعلى القدرة الكاملة له، سيقت كمادة للدعوة إلى الله. المعنى: ومن آياته ودلائل قدرته وعظمته، وعلامات وحدانيته وكمال خلقه آية الليل والنهار، وآية الشمس والقمر، وهذه من مظاهر قدرة الله الكونية الناطقة بجلاله وكبير فضله، وعظيم سلطانه ومنتهى حكمته. وقوة إرادته. هذه الآيات لا تسجدوا لها ولا تعظموها. ولكن الذي يستحق التعظيم والتقديس والعبادة هو خالقها، وصاحب الأمر فيها، ومبدعها على أحسن نظام وأحكمه وإذا كان هذا حال الليل والنهار والشمس والقمر فكيف يعبد بعض الناس حجرا أو خشبا أو حيوانا!! لا. لا. اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا إن كنتم إياه تعبدون. فإن تكبروا عن اتباع كلامك فدعهم وشأنهم ولا يهمنك أمرهم، فالذين عند ربك- عندية مكانة لا مكان- من أشراف الخلق كالملائكة يسبحون له بالليل والنهار، وهم لا يفترون. ومن آياته الدالة على كمال قدرته، وأن البعث يجب أن يكون حقيقة ظاهرة مفهومة للجميع: أنك ترى الأرض خاشعة هامدة يابسة لا نبات فيها فإذا نزل عليها المطر أو سقيت بماء النهر، وفيها البذور اهتزت، وعلماء النبات يسجدون لله عند هذه الكلمة فإنهم يعرفون ذلك «بالمجهر» اهتزت وتفاعلت وتحركت، ونمت ثم انشقت عن نبات غض طرى، يا سبحان الله!! أحييت الأرض بعد موتها، وإنك يا قوى يا قادر لتحيى الموتى يوم القيامة فإنك على كل شيء قدير. تهديد الملحدين في القرآن [سورة فصلت (41) : الآيات 40 الى 43] إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41) لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 343 المفردات: يُلْحِدُونَ الإلحاد: الميل عن الحق والصواب إلى غيره عَزِيزٌ: منيع عن الإبطال والتحريف. وهذا رجوع إلى مشركي مكة الذين قالوا: قلوبنا في أكنة، وقالوا: لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه، رجوع إلى تهديدهم وبيان حقيقة القرآن. المعنى: إن الذين يلحدون في آياتنا القرآنية ويميلون عن الاستقامة فيها بالطعن عليها والتحريف لها، والتأويل الباطل واللغو عند سماعها، هؤلاء لا يخفون علينا، وكيف يخفون على عالم الغيب والشهادة؟! فهو مجازيهم على فعلهم جزاء وفاقا. أغفلتم «1» فمن يلقى في النار إلقاء على سبيل القسر والإلجاء خير أم من يأتى آمنا مطمئنا ويدخل الجنة يوم القيامة؟ لا يقول عاقل بالتسوية اعملوا «2» ما شئتم حيث كان الأمر كذلك إنه بما تعملون بصير، وسيجازى كلا على عمله إن خيرا فخير، وإن شرا فشر. إن الذين كفروا بالذكر، أى: القرآن ذي الذكر العالي والشرف الرفيع لما جاءهم نجازيهم على كفرهم، والحال إنه لكتاب عزيز لا يناله بشر، منيع عن الإبطال   (1) الهمزة هنا للاستفهام المراد به الإقرار بأن الملحدين يلقون في النار وأن المؤمنين يأتون آمنين. (2) والأمر هنا مراد به التهديد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 344 والتحريف، وصدق الله إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1» فها هو ذا القرآن ظل محفوظا طوال السنين لم يمس بسوء رغم كثرة أعدائه وقوتهم، وضعف أنصاره وأتباعه، نعم إنه لكتاب عزيز، لا يأتيه الباطل من بين يديه أى: لا يأتيه الباطل من أى ناحية، من ناحية اللفظ أو العرض أو الحكم أو القصة أو الأسلوب، وكيف يأتيه الباطل بأى صورة ومن أى باب، وهو تنزيل الحكيم العليم المحمود في الأرض والسماء. وأما أنت يا محمد فما قيل لك إلا ما قيل للرسل من قبلك، فالرسالات كلها واحدة تهدف إلى التوحيد الخالص وإثبات مبدأ الثواب والعقاب والحياة والآخرة تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً، وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «2» وما قيل لك من الناس الذين يلحدون في آياتنا هو مثل ما قيل للرسل قبلك فتلك (شنشة أعرفها من أخزم) وتلك هي عادة الناس قديما وحديثا، وإن ربك مع هؤلاء الناس لذو مغفرة واسعة لمن أطاع، وذو عقاب شديد لمن عصى فاحذروا يا أهل مكة عقابه، وانظروا أين أنتم؟! .. القرآن والذين يلحدون فيه [سورة فصلت (41) : الآيات 44 الى 46] وَلَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آياتُهُءَ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَشِفاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)   (1) - سورة الحجر آية 9. (2) - سورة آل عمران آية 64. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 345 المفردات: أَعْجَمِيًّا الأعجمي وصف للكلام الذي لا يفهم، وللمتكلم الذي لا يفصح سواء كان من العرب أو العجم، والعجمي: الرجل الذي ليس من العرب فُصِّلَتْ: بينت بلغتنا حتى نفهمها وَقْرٌ: ثقل في السمع وصمم مُرِيبٍ: شديد الريبة بِظَلَّامٍ: بذي ظلم. المعنى: لقد أنزل ربك القرآن على نبيه بلسان عربي مبين، فقال المشركون: لو كان القرآن أعجميّا فرد الله عليهم: ولو جعلناه قرآنا أعجميا بلسان غير عربي لما أعجبهم ذلك، ولقالوا: لولا فصلت آياته! أى: نتمنى لو كانت آياته قد فصلت وبينت بلغتنا العربية، فإنا قوم عرب لا نفهم الأعجمية بحال، أيكون أعجميا والذي أنزل عليه عربي؟ وهكذا موقف المعترض بغير حق، لو كان الشيء خيرا محضا لقال: هلا كان فيه خير وشر! وقد رد الله عليهم بقوله: قل لهم يا محمد: هذا القرآن يهدى للتي هي أقوم، ويبشر المؤمنين، وينذر الكافرين فهو هدى، وأى هدى! وهو شفاء لما في الصدور وطب للقلوب، وعلاج لأمراض الفرد والمجتمع، علاج وصفه الذي خلق المرض وعلم به، فهل ترى علاجا خيرا منه؟! وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً [سورة الإسراء آية 82] . والذين لا يؤمنون بالله في آذانهم صمم عن سماع القرآن، ولهذا تواصوا عند سماعه، والقرآن عليهم عمى فكأن بينهم وبين الداعي حجابا كثيفا، أولئك المذكورون الجزء: 3 ¦ الصفحة: 346 المتصفون بالتعامي عن الحق الذي يشهدونه كأنهم «1» ينادون من مكان بعيد فهم لا يسمعون إلا دعاء ونداء، ولا يفهمون شيئا. ولا يهولنك أمرهم واختلافهم في القرآن فتلك عادة الأمم مع أنبيائهم، ولقد آتينا موسى التوراة، وفيها هدى ونور- أى: قبل تحريفها- فاختلف بنو إسرائيل فيها بين مصدق ومكذب ومؤمن وكافر، وهكذا حال قومك فلا تأس ولا تحزن على شيء. ولولا كلمة سبقت من ربك، وحكم فيها على أمتك بتأخير العقوبة إلى يوم القيامة بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ «2» لولا هذا الحكم لقضى بين المؤمنين والكافرين باستئصال المكذبين المشركين كما فعل مع الأمم السابقة، وإن كفار قومك لفي شك من القرآن مريب يوجب القلق والاضطراب، وهذا حكم عام: من عمل صالحا فلنفسه بغى الخير، ومن أساء فإساءته على نفسه وحده، وما ربك بذي ظلم للعباد فهو يجازى المحسن على إحسانه لا ينقص منه شيء، ويجازى المسيء على إساءته بلا زيادة ولا نقصان إذ هو أحكم الحاكمين.   (1) وهذا تمثيل لحالهم من عدم فهمهم وانتفاعهم بما دعوا إليه بمن نودي من مسافة نائية بعيدة فهو يسمع الصوت ولا يفهم. (2) سورة القمر آية 46. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 347 إليه يرد علم الساعة [سورة فصلت (41) : الآيات 47 الى 48] إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48) المفردات: أَكْمامِها: جمع كم وكمة، والمراد: أوعيتها، فالأكمام أوعية الثمر، والكم يطلق أيضا على ما يغطى اليد من القميص آذَنَّاكَ: أسمعناك وأعلمناك وَضَلَّ عَنْهُمْ: غاب مَحِيصٍ: مهرب من العذاب. ما مضى كان تهديدا للكفار بأنهم سوف يعاقبون على أعمالهم يوم القيامة، وكأن سائلا سأل: ومتى يكون هذا اليوم؟ فأجيب بأنه إليه يرد علم الساعة. المعنى: إلى الله وحده يرد علم الجواب عن السؤال الخاص بوقت القيامة وزمانها، فلا سبيل إلى معرفة ذلك اليوم، ولا يعلمه إلا هو إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ.. [سورة لقمان آية 34] . يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ [سورة الأحزاب آية 63] . وكما أن علم الساعة عند الله فقط كذلك لا يعلم الأحداث المستقبلة إلا هو، وقد ذكر هنا نوعان. فالله وحده يعلم متى تخرج الثمرة من كمها بالضبط لأنه وحده الخالق لها، والمشاهد عندنا في المزارع أن أحدا لا يعلم متى تخرج الثمرة بالضبط؟ والله وحده الجزء: 3 ¦ الصفحة: 349 هو الذي يعلم ما تحمل كل أنثى أذكر هو أم أنثى، أناقص أم كامل؟ ولا تضع أنثى إلا بعلمه وحده، فمهما ارتقى العلم فهو لا يعلم بالضبط متى يحصل الشيء، وما يقول بعض الناس عن المستقبل فهو من باب الحدس والتخمين لا من باب العلم واليقين، فتارة يصادف الواقع وتارات لا يصادف، ولا تنس أن الموضوع الأساسى في هذه السورة الرد على المشركين وبيان حقائق يوم القيامة وخاصة ما يتعلق بهم وبالمؤمنين مع نقاشهم في قولهم: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ ولذا يقول الله: واذكر يوم يناديهم الحق- تبارك وتعالى- على لسان ملائكته تبكيتا لهم وتأنيبا: أين شركائى الذين كنتم تدعونهم من دوني، وتتخذونهم شفعاء عندي بلا إذنى! قالوا: آذناك وأعلمناك الآن ما منا من شهيد بذلك، فليس أحد منا يشهد بأن لك يا رب شريكا، ونحن لا نشاهدهم الآن أمامنا بل ضلوا عنا، وغابوا عن عيوننا، وقد كانوا يدعونهم من قبل في الدنيا!! فيقول الله ما معناه: وظن الكفار أولا أن لهم منجى ثم تيقنوا الآن أنه لا محيص ولا مهرب من عذاب الله، وقيل: إن الظن هنا مراد به اليقين. الإنسان وطبعه [سورة فصلت (41) : الآيات 49 الى 51] لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجانِبِهِ وَإِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 350 المفردات: لا يَسْأَمُ: لا يمل فَيَؤُسٌ: اليأس قطع الرجاء من رحمة الله قَنُوطٌ والقنوط: إظهار أثر اليأس على ظاهر البدن أَذَقْناهُ: آتيناه لَلْحُسْنى المراد: الجنة غَلِيظٍ: كناية عن الشدة وَنَأى أى: انحرف عنه وذهب بنفسه وتباعد عن الشكر عَرِيضٍ المراد: كثير، فإن العرب تستعمل لفظ الطول والعرض في الكثرة، يقال: أطال فلان في الكلام وأعرض في الدعاء إذا أكثر. المعنى: هذا هو الإنسان على طبعه وحقيقته، كما وصفه خالقه الذي هو أعلم به، أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [الملك 14] وهذه الصفات التي ذكرت هنا وفي بعض السور هي للإنسان من حيث هو إنسان، ولا يخفف من حدتها أو يعدل سورتها أو يقلبها بالمرة إلا اتباع الدين، وتطهير النفس بطهر القرآن، وملؤها بشعاع الإيمان ونور الإسلام وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ [سورة العصر] وهذه الصفات هي التي تكون له عونا له أو عليه في الآخرة وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً [الكهف 36] وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [طه 9- 11] . ونحن نرى أن القرآن وصف الإنسان بأوصاف: 1- أنه لا يمل من طلب الخير كالمال والجاه والصحة وغيرها، وهذا ينشأ من حبه للدنيا وإغراقه في المادة ولقد صدق رسول الله حيث قال: «اثنان منهومان لا يشبعان: طالب علم وطالب مال» . 2- إن مسه شر أو حلت به مصيبة فهو يئوس يقطع الرجاء من رحمة الله، قنوط تظهر آثار يأسه على وجهه وبدنه، وقد بالغ القرآن في يأس الإنسان إذا مسه شر، وهذا ينشأ من عدم الإيمان بالله والكفر به فإنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون، فاليأس والإيمان لا يجتمعان في قلب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 351 3- إذا آتاه الله رحمة من بعد ضراء مسته في صحته أو ماله، نسى ما كان عليه أولا لأنه إنسان كثير النسيان، واغتر بما أوتى، وقال: إنما أوتيت هذا على علم عندي، فهو لي، وأنا له، وهكذا الماديون الذين يؤمنون بالأسباب المادية فقط دون الإيمان بمسببها جل شأنه، وهذا هو الغرور بعينه، يغتر صاحبه في الدنيا حتى يقول: ما أظن الساعة قائمة، ولو فرض ورددت إلى ربي، وكان هناك حساب وبعث، إن لي عند ربي للجنة والسعة لأنه أعطانى في الدنيا وأكرمنى فيعطيني في الآخرة مثلها وَما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها أى: من الجنة التي أوتيتها في الدنيا مُنْقَلَباً هذا داء الغرور قد استشرى في الناس، ولا يمنعه إلا سلاح الدين وحرارة الإيمان، ولذا يقول الله: فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا، وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ فإنه لا يقول بهذا، ولا يعمل بمقتضاه إلا كل كافر أثيم أو من هو مثله. 4- وإذا أنعمنا على الإنسان بنعمنا التي لا تحصى ولا تعد أعرض عن الشكر، ونأى بجانبه، وذهب بنفسه وتباعد عن الله الذي أعطاه تلك النعم وتباعد عن شكر الله بكليته تكبرا وطغيانا. 5- وإذا مسه الشر أو حلت به مصيبة فهو ذو دعاء عريض، فهو إن مسه ضر أو فقر أقبل على دوام الدعاء وأخذ في الابتهال والتضرع، وإن مسه خير أعرض عن شكر الله، فهذا هو الإنسان على حقيقته دائم التبدل والتغير لا يستقر على حال أبدا، فهو في الدنيا مشرك متعصب وفي الآخرة ينكر الأصنام وعبادتها ويتبرأ منها، وهو إن أصابه ضر دعا، وإن أصابه خير بغى، فيا ويلك يا إنسان إن لم يدركك الرحمن بلطفه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 352 ختام السورة [سورة فصلت (41) : الآيات 52 الى 54] قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54) المفردات: شِقاقٍ بَعِيدٍ: خلاف كبير حتى كأنه في شق وجانب والحق في شق وجانب آخر الْآفاقِ: جمع أفق والمراد آفاق أقطار السموات والأرض مِرْيَةٍ: شك. ثبت فيما مضى أن الإنسان لا يقر على حال وهو دائم التغير والانتقال فالواجب على المشركين ألا يقروا على حال العناد والشرك بل يعيدوا النظر لعلهم يثوبون إلى رشدهم. المعنى: قل لهم يا محمد: أخبرونى «1» عن حالكم!! إن كان هذا القرآن من عند الله حقا ثم كفرتم به وأعرضتم عنه إعراضا من غير حجة ولا برهان، وقلتم حين دعاكم إليه: قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه، وفي آذاننا وقر، ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون! ماذا أنتم فاعلون؟!   (1) استعمال (رأى) في معنى (أخبر) مجاز لأن الرؤية بمعنى الإبصار طريق للعلم بالشيء، والعلم به طريق إلى الإخبار عنه لهذا استعملت الصيغة التي هي لطالب الرؤية في طلب الإخبار بجامع مطلق الطلب في كل، ففي العبارة مجازان: استعمال رأى بمعنى أبصر في الإخبار، واستعمال الهمزة التي هي لطلب الرؤية في طلب الإخبار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 353 وكون القرآن من عند الله وكون النبي صلّى الله عليه وسلّم رسولا أمر ممكن وجائز عقلا، وليس الشرك ونفى التوحيد أمرا بدهيّا لا يحتاج إلى دليل فإذا أعرضتم عن ذلك كله، ولم تنظروا في دليل أصلا وقلتم ما قلتم، ثم تبين أنه الحق، وأن التوحيد والبعث وصدق الرسول حقائق، ماذا يكون موقفكم؟! أخبرونى بالله ماذا أنتم فاعلون؟! أرأيتم أنفسكم- إن كان من عند الله ثم كفرتم به- من أضل ممن هو في شقاق بعيد؟! سنريهم آياتنا الكونية التي تظهر في الآفاق، وصدق آياتنا القرآنية في أقطار السموات والأرض وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق. وقد صدق العلم الحديث في القرن التاسع عشر والقرن العشرين كثيرا من نظريات القرآن في المطر والسحاب، والسماء والأرض وفي العلم بما تحمله الأنثى وغير ذلك، سنرى العالم كله آياتنا الكونية في الآفاق وفي أنفس الناس، الآيات الدالة على كمال القدرة وتمام الحكمة ودقة العلم حتى يتبين لهم أن الدين الحق جاء على يد خير الخلق صلّى الله عليه وسلّم وها هي ذي الأيام والواقع يثبتان ذلك. أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد، وأنه عالم الغيب والشهادة، لا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وهو اللطيف الخبير، ألا إنهم في مرية وشك من لقاء ربهم حيث أنكروا البعث، ولم يقولوا بوجود إله موصوف بصفات الكمال والجلال، ألا إنه بكل شيء محيط علما وقدرة وسيجازى الكفار على أعمالهم. ألست معى في أنه ختام رائع لتلك السورة حيث ألزمهم الحجة، ورد كيدهم في نحورهم، وأبان أن الزمن كفيل ببيان صدق الآيات وأنهم على خطأ فيما ذهبوا إليه، والعاقبة للمتقين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 354 سورة الشورى وتسمى سورة حم عسق، وهي مكية عند الجمهور، وحكى عن ابن عباس أنها مكية إلا أربع آيات أولها قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً وقيل: المدني من قوله تعالى ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ إلى قوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ ومن قوله: وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ.. إلى قوله: ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ والأفضل قول الجمهور. وهذه السورة كأخواتها المكية يدور بحثها حول التوحيد والنبوة وإثبات البعث، وركزت أبحاثها في القرآن المنزل على محمد من عند الله الموصوف بصفات الكمال والجلال والقدرة والعلم والحكمة، وإثبات أن هذا الشرع المحمدي يتفق مع الشرائع السابقة في الأصول العامة، فلا عذر لمن كفر ولا حجة له، مع تهديدهم ببيان ما أعد للكفار، وما أعد للمؤمنين، مع ذكر بعض آياته، وبيان أن كل أفعاله موافق للحكمة والمصلحة، مع بيان صفات المؤمنين وصفات غيرهم، وقد بدأ السورة بالكلام على الوحى وختمها كذلك ببيان كيفية اتصاله بالأنبياء. الذي أوحى بهذا القرآن هو الله [سورة الشورى (42) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 355 المفردات: حم عسق تقرأ هكذا: حا ميم. عين سين قاف، بإدغام النون في القاف، وهي كأخواتها من الحروف التي بدأت بها السور إلا أن هنا جعلت حم آية، وعسق آية ثانية، والمعروف أن كل بدء السور آية واحدة مثل كهيعص أول سورة مريم، والمر أول سورة الرعد فلسائل أن يقول: لماذا هذا التفريق؟ والجواب أن ذلك مما استأثر الله بعلمه. وهو أعلم بكتابه يَتَفَطَّرْنَ: يتشققن حَفِيظٌ أى: حافظ ومحص عليهم أعمالهم. المعنى: حم. عسق. كما أوحى إليك هذه السورة العظيمة الشأن الشريفة المقصد يوحى إليك غيرها من القرآن، ويوحى إلى الذين من قبلك الكتب القديمة «1» فالكل من الله، ويهدف إلى دعوة الخلق إلى التوحيد والعدل وإثبات الرسالة عن الله، وتقرير مبدأ المعاد والثواب والعقاب، وإن شئت فاقرأ سورة الأعلى وختامها إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى تجدها تهدف إلى مبدأ التوحيد أولا ثم النبوة ثانيا، ثم المعاد ثالثا، ثم تختم بقوله: إن هذا لفي الصحف الأولى. ومن الذي أوحى بهذه السورة وأخواتها في القرآن الكريم؟ إنه هو الله- جل جلاله، وتباركت أسماؤه- العزيز في ملكه لا يغلبه غالب، القادر على كل شيء الحكيم في كل صنع، العالم بجميع المعلومات، الغنى عن الحاجات، سبحانه وتعالى لا إله إلا هو، له الملك، وإليه الأمر، في هذا الكون كله، سمائه وأرضه، فقدرته كاملة نافذة في جميع أجزاء السموات على عظمتها وسعتها إيجادا وإعداما، وتكوينا وإنشاء، وهو العلى المتعالي عما يقوله الظالمون، صاحب العظمة والأمر.   (1) الكاف في قوله: كذلك بمعنى مثل، وهي مفعول مطلق لقوله: يوحى، ولفظ (يوحى) فعل مضارع مستعمل في حقيقته بالنسبة لما سينزل من القرآن، وفي مجازه بالنسبة لما أنزل من القرآن والكتب السابقة، وفي العبارة تشبيه: المشبه هو ما سينزل من القرآن وما نزل سابقا منه ومن الكتب السابقة، والمشبه به هو هذه الصورة، ووجه الشبه أن الموحى به في كل يرجع إلى تقرير مبدأ التوحيد والنبوة والمعاد. وتقبيح أحوال الدنيا والترغيب في الآخرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 356 تكاد السموات يتشققن من فوق الأرضين هيبة وإجلالا لعظمته- جل شأنه- أو من هول كلمة المشركين الذين قالوا: اتخذ الرحمن ولدا وَقالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا أمرا فظيعا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا هدما شديدا. [سورة مريم الآيات 88- 89] . وهؤلاء الملائكة الذين هم خلق من خلقه يسبحون حامدين ربهم شاكرين له نعمه التي لا تحصى، ويستغفرون لمن في الأرض: أما للكافرين فيدعون لهم بالتوفيق والهداية وأما للمؤمنين فيدعون لهم بأن يتجاوز ربهم عما فرط منهم من سيئات وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ [سورة غافر آية 7] . ألا إن الله هو الغفور الذي ألهم الملائكة الاستغفار لمن في الأرض، الرحيم بالخلق، ألا إن الله هو الذي يعطى المغفرة لمن طلبها مخلصا، ويضم إليها الرحمة الكاملة، الرحمن الرحيم. والذين اتخذوا من دونه أولياء وشركاء وأندادا من الأصنام والأوثان، فالله وحده حفيظ عليهم، ومحص عليهم سيئاتهم، لا يفوته شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة من عمل في السموات أو في الأرض، وما أنت عليهم بوكيل. حقائق الإسلام [سورة الشورى (42) : الآيات 7 الى 12] وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَمَنْ حَوْلَها وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَلكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَمِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 357 المفردات: أُمَّ الْقُرى المراد بها: مكة كأنها أصل للقرى التي حولها يَوْمَ الْجَمْعِ: هو يوم القيامة تجتمع فيه الخلائق السَّعِيرِ: جهنم المسعرة أَمِ اتَّخَذُوا: أم هنا بمعنى بل- التي للانتقال من معنى- والهمزة الاستفهامية يراد بها الإنكار فاطِرُ السَّماواتِ: خالقها ومبدعها لا على مثال سابق يَذْرَؤُكُمْ: يكثركم، ذرأ الله الخلق: بثهم وكثرهم أَزْواجاً: ذكورا وإناثا. المعنى: مثل ذلك الإيحاء البليغ البديع أوحينا إليك قرآنا عربيا بلسان قومك، لا لبس فيه ولا غموض، ولا التباس عليك وعلى قومك، أوحيناه إليك لتنذر أم القرى وتخوفهم بعذاب شديد، وتنذر الناس جميعا بيوم الجمع الذي يجتمع فيه الخلق للحساب أو تجتمع فيه الأعمال وأصحابها، والأرواح وأشباحها، هو يوم لا شك فيه أصلا بعد جمعهم للحساب يكون منهم فريق في الجنة، وفريق في السعير، وهذا حكم الله وقضاؤه، فليس في قدرة مخلوق أن يغيره، ولو كان نبيا مرسلا، وهذا يؤيد قوله- سبحانه وتعالى- اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ فلست عليهم رقيبا ولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 358 حفيظا، ولا يجب عليك أن تحملهم على الإيمان فإن هذا العمل أمره إلى الله، ولو شاء الله ذلك لجعلهم أمة واحدة لأنه هو القادر على ذلك، ولكن ترك للخلق حريتهم، وكلفهم وبنى أمرهم على ما يختارون ليدخل المؤمنين في رحمته، وقد شاء لهم ذلك، وهم قد اقتحموا العقبة واختاروا الهدى وآثروه على الضلالة، وقد ترك الظالمين بلا ولى ولا نصير سوى شياطينهم وأنفسهم فاستحبوا العمى على الهدى، فكانوا في عذاب شديد لا خلاص منه. بل اتخذوا من دونه أولياء؟ لم يتخذوا وليا ينفعهم، ولا نصيرا ينصرهم، وإذا كان الأمر كذلك فالله وحده هو الولي النافع، وهو يحيى الموتى، وهو على كل شيء قدير، أما غيره فلا ينفع بل يضر، ولا يقدر على شيء بل إن يسلبه الذباب شيئا لا يستنقذه منه. وما اختلفتم فيه من شيء من أمور الدين أو الدنيا فحكمه إلى الله الواحد القهار فهو الذي يحكم بين عباده. ذلكم الله- جل شأنه- هو ربي. عليه وحده توكلت، وإليه وحده أنيب وأرجع إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ فالكل منه وإليه، وهو فاطر السموات والأرض، وخالقهما على نظام بديع محكم، جعل لكم من جنس أنفسكم أزواجا إليها تسكنون، وبسببها تتناسلون وتتكاثرون، وجعل من الأنعام أزواجا كذلك، فكل حيوان في الكون له ذكر وأنثى، وفيه غريزة المحافظة على جنسه ونوعه، وبهذا يتكاثر ويتوالد، وكأنه منساق إلى ذلك بطبعه وغريزته، وبهذا يفهم قوله تعالى: يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ أى: يخلقكم ويكثركم في هذا الجعل السابق، أى: خلق الذكر والأنثى في الإنسان والحيوان، وكان هذا الجعل منبعا للتكاثر ومصدرا له، وأظن أن الواقع يؤيد ذلك. هو الله الواحد الفرد الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، وهو الواحد في ذاته وصفاته وأفعاله ليس مثله شيء من خلقه، ولا يشبهه شيء من الحوادث في أى ناحية كانت. وهو السميع البصير، صاحب الملك والملكوت، بيده الخير وعنده مفاتيح الخزائن كلها، ومن عنده المفتاح فهو صاحب الخزانة والمتصرف فيها، يبسط الرزق لمن يشاء، ويقتر الرزق على من يشاء لحكم هو وحده يعلمها، إنه بكل شيء عليم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 359 تلك حقائق إسلامية يجب الاعتراف بها، وهي من أمهات المسائل الدينية، فالقرآن عربي مبين أوحى به إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم غايته الإنذار والبشارة، والناس معه فريقان، وقد اقتضت حكمته ذلك، الله وحده هو الولي وهو يحيى الموتى، وهو على كل شيء قدير، والقرآن والسنة مرجع الحكم، وبهما يزال الخلاف، والله- سبحانه- موصوف بكل كمال ومنزه عن كل نقص وهو وحده الخالق لكل الخلق، والمتصرف في هذا الكون كله. حقيقة الرسالة المحمدية وهدفها [سورة الشورى (42) : الآيات 13 الى 19] شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزانَ وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 360 المفردات: شَرَعَ: أوضح وبين وسن ما وَصَّى المراد: أمر به نوحا ومن معه، ولعل ذكرها دون الأمر للإشارة إلى الاعتناء بشأن المأمور به وتأكيده أَقِيمُوا الدِّينَ المراد: تعديل أركانه والمحافظة عليه كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ: عظم وشق عليهم ذلك يَجْتَبِي إِلَيْهِ: من الاجتباء والاصطفاء «قالوا: لولا اجتبيتها» . يُنِيبُ: يرجع إليه ويقبل بَغْياً: ظلما وتجاوزا للحد مُرِيبٍ: شديد الريب والشك لا حُجَّةَ لا احتجاج داحِضَةٌ: زائلة باطلة وَالْمِيزانَ: العدل والمساواة مُشْفِقُونَ الإشفاق: الخوف مع الاعتناء، فإذا عدى بمن كما هنا فالخوف أظهر، وإذا عدى بعلى كقولك، أشفقت على اليتيم فالعناية أظهر يُمارُونَ: يجادلون، وأصل المري: مسح ضرع الناقة للحلب. وإطلاقه على المجادلة لأن كلا من المتجادلين يحاول استخراج ما عند صاحبه. وهذا تفصيل لما أجمل سابقا في قوله تعالى: كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ [سورة الشورى آية 3] ، وبيان لحقيقة الرسالة المحمدية وهدفها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 361 المعنى: الله- سبحانه وتعالى- له مقاليد السموات والأرض شرع لكم من الدين، وسن وأوضح، ما وصى به نوحا والأنبياء أولى العزم، وأصحاب الشرائع القديمة، الخطاب لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم لبيان أن الرسالة المحمدية ليست بدعا من الرسالات، وهي موافقة لما جاء به الأنبياء السابقون في الأصول العامة، وما أمرهم الله به أمرا مؤكدا- كما يشير إلى ذلك لفظ وصينا- ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وتخصيص هؤلاء الأنبياء بالذكر لأنهم أولو العزم وأرباب الشرائع القديمة، ونوح أول رسول أرسل بشريعة موافقة لزمانه، وإبراهيم أبو الأنبياء، ويدين له أكثر العرب، وموسى نبي اليهود، وعيسى نبي المسيحيين. شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ ولعل إيثار الإيحاء عند الكلام على النبي صلّى الله عليه وسلّم دون ما قبله وما بعده لأن فيه تصريحا برسالة محمد التي هي الأساس والمقصود، ولتوافق هذه الآية ما قبلها كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ والإشارة إلى الاعتناء به وبشريعته التي جمعت كل خير، وأتمت كل نقص، ولعل تقديمه في الذكر على من سبقه في الزمن من الرسل يشير إلى ذلك. وما هذا الذي شرعه؟ هو أن أقيموا الدين الحق، دين التوحيد والطاعة والتقديس لله وعدم الإشراك به بأى صورة كانت من قرب أو من بعد، مع الإيمان برسل الله كلهم وكتبه واليوم الآخر وما فيه، والإيمان بالمثل العليا التي تبنى الفرد والأسرة والمجتمع، وإقامة الدين هو الإيمان الكامل والمحافظة عليه من الزيغ وزيف العقائد والمواظبة على كل ما يطلبه الشرع، ولا تتفرقوا فيه يا أمة الإسلام، حتى تكونوا كغيركم شيعا وأحزابا، وجماعات، بل الزموا سنة رسول الله والخلفاء الراشدين بعده، الزموا القرآن والسنة الصحيحة وروح الدين تكونوا الأمة الناجية يوم الحساب. كبر على المشركين، وعظم ما تدعوهم إليه من التوحيد والهداية وترك الآثام والفسوق والإشراك بالله أصناما وأوثانا!! وأنت يا محمد ثق بأن الله يجتبى إليه وإلى دينه من يشاء من خلقه الذين يعلم فيهم الصلاحية والخضوع للحق وقبوله، يعلم فيهم ذلك في عالم الأرواح، ويهدى إليه من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 362 يميل إليه وينيب، ويقبل على طاعته، ويثوب إلى رشده، وما تفرقت أمم الأنبياء السابقة إلا من بعد ما جاءهم العلم بأن الفرقة ضلال وفساد، وبأنهم مأمورون بإقامة الدين وعدم التفرقة فيه، وهذا بلا شك ينطبق على الأمة الإسلامية تمام الانطباق. تفرقوا عن الحق الصريح بغيا بينهم وحسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم أنه الحق. وفي القرطبي: عن ابن عباس أن المراد: وما تفرق أهل مكة إلا من بعد ما جاءهم العلم، أى: النبي صلّى الله عليه وسلّم، وذلك لأنهم كانوا يتمنون أن يبعث لهم نبي فلما أرسل لهم كفروا به وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلَّا نُفُوراً. اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ [سورة فاطر الآيتان 42، 43] وقيل: هم أهل الكتاب بدليل قوله تعالى: وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ [سورة البينة آية 4] . وكان هذا التفرق بعد مجيء العلم لهم بفساده ناشئا من البغي بينهم والحسد، وليس ناشئا عن قصور في الرسالات والحجج. ولولا كلمة سبقت من ربك. وهي: وعدة بترك معاجلتهم بالعذاب إلى أجل مسمى عنده لقضى أمرهم واستأصلوا حين افترقوا لعظم جرمهم، وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم، وهم أهل الكتاب الذين كانوا في زمنه صلّى الله عليه وسلّم لفي شك من كتابهم مريب! فهم لم يؤمنوا به إيمانا كاملا ولذا تفرقوا فرقا شتى. إذا كان الأمر كما ذكر وأن الأمم السابقة تفرقت واختلفت، وكان مبعث ذلك هو عدم الإيمان الصحيح الكامل فلذلك فادع إلى الائتلاف والاتفاق على الحنيفية البيضاء واستقم كما أمرت، واثبت على الدعاء إلى ذلك ودم عليه، وقد رأينا أن التفرق في الشريعة الإسلامية ظهر عند ضعف الوازع الديني، وقام به أناس دخلوا في الإسلام عنوة أو لغرض، ولم يدخلوه رغبة أو حبا فيه، هؤلاء قاموا بدور خطير جدا واستغلوا طيبة الشعوب الإسلامية وسلامة ضميرها، وحسن نيتها، ألست معى في أن هدف الشريعة الإسلامية هو الوحدة والاتحاد على قبول الحق، والبعد عن الخلافات المذهبية الضارة وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وليس المراد الاختلاف في الفروع الفقهية فذلك له سند من الكتاب والسنة وفعله النبي صلّى الله عليه وسلّم أو هذا الاختلاف المذهبى في الفروع أشبه بالاختلاف في الرسالات مع اتفاق كل الأنبياء على مبدأ التوحيد الخالص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 363 والإيمان باليوم الآخر وبالأنبياء كلهم وبالكتب، أما الشرائع العملية فتختلف باختلاف الأمم وعصورها لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهاجاً [سورة المائدة آية 48] . فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم الباطلة، وقل لهم: آمنت بما أنزل الله من الكتب كلها، وأمرت لأعدل بينكم في كل شيء، وأحكم بينكم بالحق، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا لا يتخطانا ثوابها ولكم أعمالكم لا يتخطاكم ثوابها آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «1» تلك هي الحقائق الإسلامية التي جاء بها محمد صلّى الله عليه وسلّم. فهل بعد هذا الإيمان الصريح الكامل الذي لا يفرق بين نبي ونبي ولا بين كتاب وكتاب مع التوحيد الخالص البريء من الشرك وشوائبه هل بعد هذا تكون حجة؟ لا حجة ولا احتجاج ولا خصومة بيننا وسيحكم بيننا وبين غيرنا إذا لم يبق بعد ذلك إلا المكابرة والعناد، ومع كل فالله يجمع بيننا بالعدل، وإليه وحده المصير والمآب، والذين يحاجون في الله وصفاته من بعد ما استجاب له الناس، ودخلوا في دينه أفواجا، حجتهم- بل في الواقع أوهامهم وأباطيلهم- داحضة عند ربهم وزائلة وباطلة، وعليهم غضب لمكابرتهم في الحق بعد ظهوره، ولهم عذاب شديد هوله عظيم وقعه. الله الذي أنزل الكتاب الكامل الجامع المهيمن على غيره من الكتب، وهو القرآن متلبسا بالحق بعيدا عن الباطل، وأنزل الميزان ليحكم بالعدل والقسطاس المستقيم، وما يدريك لعل الساعة تكون قريبة. يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها من الكفار، لأنهم يظنون أنها أوهام لا حقائق لها، والذين آمنوا بها، واعتقدوا بوجودها مشفقون منها وخائفون من مواقفها المشهودة التي تذهل فيها كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد وكيف لا يشفقون منها، وهم يعلمون أنها الحق الذي لا مرية فيه ولا شك ألا إن الذين يمارون في الساعة ويشكون فيها لفي ضلال بعيد حيث لم يعملوا لها، والله لطيف بعباده يفيض عليهم بجلائل نعمه التي لا يعلمها إلا هو يرزق من يشاء من عباده بما يحب، وهو القوى العزيز، فلا غرابة في أن يخص بعض عباده بألطاف إلهية.   (1) - سورة البقرة آية 285. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 364 العاملون وجزاؤهم [سورة الشورى (42) : الآيات 20 الى 26] مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَيَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَيَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 365 المفردات: حَرْثَ الْآخِرَةِ الحرث في الأصل: إلقاء البذر في الأرض، وقد يطلق على الثمر، ويستعمل في ثمرات الأعمال ونتائجها «1» الْفَصْلِ أى: القضاء والحكم رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ المراد: أطيب بقعة فيها، وأصل الروضة: المكان الذي يكثر فيه الماء والشجر أَجْراً: نفعا، والعرف يخصصه بالنفع المالى يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ: يطبع عليه بالخاتم وَيُحِقُّ أى: يثبته يَقْبَلُ التَّوْبَةَ: يثيب عليها. لما بين الله- سبحانه وتعالى- أنه لطيف بعباده كثير الإحسان إليهم، بين هنا أنه لا بد من العمل والسعى في طلب الخير، والبعد عن القبيح، وقد ناقش هنا الكافرين في أعمالهم وبين جزاء العاملين مطلقا، ثم رد على من يقول بافتراء القرآن وختم بأنه واسع الفضل يقبل التوبة من عباده. المعنى: الإنسان في الدنيا أحد رجلين: رجل قلبه ملئ بنور الإيمان ومراقبة الله فهو دائما في خوف وحذر منه يرجو ثوابه ويخشى عقابه، ويريد بعمله ثواب الآخرة فكل عمل يعمله يثاب عليه، وإنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى وهذا الصنف يعمل للدنيا وللآخرة، ولكنه يريد بعمله كله ثواب الله في الآخرة وهؤلاء يضاعف الله ثواب أعمالهم مرات أو تزيد. ورجل آخر قد ملئ قلبه شكا ونفاقا، وحبا للدنيا بشكل عنيف، فهو دائما ينظر للأمور بمقياس الدنيا فقط، فما وافق نفسه وميله إلى الدنيا والمادة الفانية فعله، ولو أغضب الله، فهو يرجو متاع الدنيا الفاني، وعرضها الزائل، وهؤلاء يؤتيهم الله شيئا من الدنيا حسب ما قدره لهم أزلا، ولم يكن لإغراقهم في حب الدنيا مدخل فيما يعطيه الله لهم، وليس لهم في الآخرة نصيب أبدا إذا كان همهم الدنيا وعبادتها مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً!! وَمَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَسَعى لَها سَعْيَها وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً. كُلًّا نُمِدُّ هؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ [الإسراء 18- 20]   (1) - على سبيل الاستعارة حيث شبه ثمرة العمل بالغلال الحاصلة من البذور، وهذا يتضمن تشبيه الأعمال بالبذور. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 366 وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها. فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها. قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها [الشمس 7- 10] وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «من أصبح وهمّه الدّنيا شتّت الله- تعالى- عليه همّه وجعل فقره بين عينيه، ولم يؤته من الدّنيا إلّا ما كتب له، ومن أصبح وهمّه الآخرة جمع الله همّه وجعل غناه في قلبه وأتته الدّنيا وهي راغمة عن أنفها» . وهذا هو أساس الدعاء وأصل الضلالة والشقاء يكشف عنه القرآن. حيث يقول: بل ألهم شركاء شرعوا لهم من الدين شيئا لم يأذن به الله، ولا شرعه ولا سنه، ولم يأت نبي أبدا يوصى به، وشركاؤهم أصنامهم وأوثانهم وشياطينهم الذين زينوا لهم الشرك وإنكار البعث والوقوع في المعاصي، ولما كانت الشركاء سببا في ذلك جعلت كأنها شارعة لضلالتهم وآمرة بها. ولولا كلمة الفصل والقضاء العدل الذي حكم الله به على نفسه حيث قال: وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ [سورة الأنفال آية 33] لولا هذا لقضى عليهم بالفناء كما فعل مع غيرهم، وقيل: المراد الفصل بين المؤمن والكافر. وإن الظالمين لأنفسهم بالشرك والمعاصي لهم عذاب أليم في الآخرة. ولو ترى- يا من تتأتى منه الرؤية- إذ الظالمون يوم القيامة مشفقون مما كسبوا من أعمال في الدنيا حيث يرون ما أعد لهم من عذاب شديد. وهو واقع بهم لا محالة، وهذا الإشفاق لا يغنى عنهم شيئا. والذين آمنوا وعملوا الصالحات في روضات الجنة، أى: مستقرون في أطيب بقاعها وأعلى منازلها لهم فيها ما يشاءون، وما يتمنون عند ربهم، ذلك هو الفضل الكبير، وأى فضل يدانيه؟ إنه فضل لا يعرف قدره ولا يقف على كنهه إلا خالقه. ذلك الفضل الكبير هو الذي يبشر الله به عباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات ويعدهم به، ومن أصدق من الله حديثا؟ والناس لتوغلهم في المادة وتعلقهم بالدنيا، ولأنهم لا يعملون إلا لغرض يظنون الظن السيّئ بمن يقوم بعمل الخير. ويدعو إلى العمل الصالح، هؤلاء الناس دائما ينسبون أعمال الناس إلى غايات ومنافع دنيوية، وقديما وصفوا دعوة النبي بهذا، فيرد الله عليهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 367 بقوله: قل لهم: لا أسألكم على هذا التبليغ وتلك الدعوة أجرا إن أجرى إلا على الله، عليه توكلت، وعليه فليتوكل المؤمنون، والأنبياء جميعا برءوا أنفسهم من هذا الغرض الدنيوي قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ. أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ. قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى بمعنى لا أسألكم أجرا إلا مودتكم لقرابتي منكم أخرج أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عباس أنه سئل عن قوله تعالى: إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى فكتب أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كان أوسط الناس في قريش فلا بطن من بطونهم إلا وقد ولده فقال الله له: لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى أى: إلا أن تودوني في قرابتي منكم؟ فالقربى هاهنا قرابة الرحم، كأنه قال: اتبعونى ولا تؤذوني لقرابتي منكم إن لم تتبعوني للنبوة. فهذا قول، وهناك قول آخر بمعنى أنى لا أسألكم أجرا إلا أن تودوا قرابتي وأهل بيتي، قيل: ومن هم؟ قيل: هم على وفاطمة وأبناؤهم، فالقربى على ذلك هي القرابة، وهناك قول ثالث ولعله هو الأرجح أن المعنى لا أسألكم عليه أجرا إلا أن توادوا وتتقربوا إلى الله بالطاعات. وروى هذا المعنى عن رسول الله، وهو المبين عن الله- عز وجل- فهذه أقوال ثلاثة في الآية. ومن يقترف حسنة ويكتسبها نزد له فيها حسنا ونضاعفها له إلى عشر أو تزيد إن الله غفور للسيئات شكور للحسنات. محور الكلام الذي تدور عليه الآيات بل السورة في مجموعها هو القرآن الموحى به إلى محمد صلّى الله عليه وسلّم ولذا قال هنا ما معناه: بل أيقولون: افترى على الله كذبا وزورا هذا القران؟!. لا، إنهم كاذبون في هذا، ولقد أثبت قبل ذلك أن ما هم عليه شرع الشركاء، وليس من عند الله، وهذا إثم وشرك، وأكثر منه فظاعة وجرما جعلهم القرآن افتراء واختلاقا مع وضوح الأدلة والآيات على أنه من عند الله، إى وربي إنهم ادعوا أنه افتراء على الله، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا، فإن يشأ الله يجعلك في عداد المختوم على قلوبهم حتى تفترى على الله الكذب فإنه لا يجترئ على ذلك إلا من كان مختوما على قلبه، وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة، وهذا أسلوب مؤداه استبعاد الافتراء على الله من مثل سيد المرسلين صلّى الله عليه وسلّم وتعريض بأنهم المفترون على الله الكذب حين شرعوا شرعا ما أنزل الله به من سلطان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 368 وكيف يكون هذا القرآن افتراء على الله؟ ومن عادة الحق- تبارك وتعالى- أنه يمحو الباطل ويزيله، ويحق الحق بكلماته ويؤيده إنه عليم بذات الصدور، ولا تيأس أيها الإنسان من عمل عملته، واعلم أن الله- جل شأنه- قد كتب على نفسه الرحمة، وأنه يقبل التوبة متجاوزا عن معصية عباده الذين يتوبون إليه، ويرجعون عن عملهم عازمين على عدم العودة نادمين على أفعالهم رادين حقوق العباد لأصحابها، وهو الذي يعفو عن السيئات، ويتجاوز عن الخطيئات لمن يشاء من عباده، ولا غرابة فهو يعلم ما تفعلون. ويستجيب الله لدعاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات إذا دعوه منيبين إليه، ويزيدهم من فضله الواسع ورزقه العميم، والاستجابة تكون في الدنيا أو الآخرة، وأما الكافرون الذين كفروا بالله وبنعمه فلهم عذاب شديد ما داموا متمسكين بباطلهم، وهذا وعد للتائبين ووعيد للكافرين المصرين. من مظاهر حكمته وقدرته [سورة الشورى (42) : الآيات 27 الى 36] وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَهُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29) وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35) فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 369 المفردات: بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ: وسع، وأصل البسط: النشر لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ البغي: تجاوز الحدود بِقَدَرٍ: بتقدير الْغَيْثَ: المطر النافع قَنَطُوا: يئسوا بَثَّ: فرق ونشر مِنْ دابَّةٍ: كل ما دب وتحرك فهو دابة الْجَوارِ: جمع جارية وهي السفينة تجرى في الماء إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ كَالْأَعْلامِ جمع علم وهو الجبل، أو هو كل شيء مرتفع رَواكِدَ: سواكن على ظهره لا تتحرك يُوبِقْهُنَّ: يهلكهن ويغرقهن مَحِيصٍ: مهرب وملجأ. لقد مضى قول الله: وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ فكأن سائلا سأل: ما بال بعض المؤمنين قد يكون في شدة وفقر يدعو ويظل حاله كما هو؟ فأجاب الله بهذه الآيات. المعنى: ولو بسط الله الرزق ووسعه لعباده جميعا لبغوا في الأرض وتجاوزوا الحدود المرسومة، فإن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى، والظلم من شيم النفوس، فإن رأيت أحدا لا يظلم مع القدرة فلعله لسبب، والغنى كما يقولون مبطرة مأشرة- أى: داع إلى البطر والأشر- وكفى بحال قارون وفرعون وما نراه الآن شاهدا على ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 370 ولكن الحق- تبارك وتعالى- ينزل بتقدير الخبير البصير ما يشاء من الرزق لمن يشاء من الخلق تبعا للحكمة والمصلحة التي تخفى على كثيرين، إنه بعباده خبير بصير، فهو يستجيب لدعاء المؤمنين إن عاجلا أو آجلا، وقد يكون في المرض أو الفقر مصلحة والبغي كما يكون وليد الغنى يكون تابعا للفقر، فكلما دخل الفقر بلدا دخل الكفر. والخروج عن المألوف معه، ولكن من المسلم به أن البغي مع الغنى أكثر، والذي عليه نظام العالم من وجود الغنى والفقر هو علاج المجتمع وهو النظام المحكم الدقيق. وقال القرطبي- رحمه الله- قال علماؤنا: أفعال الرب- سبحانه وتعالى- لا تخلو عن مصالح وإن لم يجب عليه فعل الصلاح، فقد يعلم من حال عبده أنه لو بسط عليه الرزق قاده ذلك إلى الفساد فيزوى عنه الدنيا مصلحة له، فليس ضيق الرزق هوانا ولا سعة الرزق فضيلة، وقد أعطى أقواما مع علمه أنهم يستعملونه في الفساد، ولو فعل بهم خلاف ما فعل لكانوا أقرب إلى الصلاح، والأمر على الجملة مفوض إلى مشيئته. وروى عن أنس من حديث طويل «وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلّا الغنى ولو أفقرته لأفسده الفقر. وإنّ من عبادي المؤمنين من لا يصلحه إلّا الفقر ولو أغنيته لأفسده الغنى. وإنّنى لأدبّر عبادي لعلمي بقولهم فإنّى عليم خبير» . وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما يئسوا من رحمته، وهو الذي ينشر رحمته إذ هو واسع الفضل كثير الخير، وهو الولي الحميد إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً [سورة الشرح الآيتان 5 و 6] ولن يغلب عسر واحد يسرين. ومن آياته الدالة على كمال القدرة وتمام العلم والحكمة وأن هذا العالم يسير بحكمة الحكيم الخبير، من آياته خلق السموات والأرض وما فيهما من عوالم لا يعلمها إلا الله خالقها، ومن آياته ما بث فيهما من دابة لا يعلمها إلا الله، يظهر أن قول العلماء الطبيعيين: إن في الكواكب حياة، كلام له نصيب من الصحة، فالآية تثبت أن في السماء والأرض قد بث الله فيهما دابة تدب وتتحرك أما حقيقتها في السماء فلا يعملها إلا خالقها- سبحانه وتعالى- وإن كان من المقطوع به أنها ليست إنسانا، وهو على جميع خلقه يوم يشاء جمعهم للحساب قدير. وما أصابكم أيها الناس في الدنيا من مصيبة فبما كسبته أيديكم، واقترفته جوارحكم حتى بعض الأمراض والآفات الزراعية، ويظهر والله أعلم أن الذنوب نوعان، نوع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 371 يعذب الله صاحبه في الدنيا لأنه هين بسيط فيصيبه بسببه مرض أو ألم، ونوع عذابه شديد فهو في الآخرة فقط، وإذا أحب الله عبدا عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا كرهه لسوء عمله تركه يقترف من السيئات ما شاء، ثم يأخذه أخذ عزيز مقتدر لحساب عسير وعذاب شديد. وقد ينال الإنسان منا بعض الألم تكفيرا له عن ذنوب أو زيادة له في ثواب. والله يعفو عن كثير من الذنوب عفوا مع القدرة الكاملة، وما أنتم بمعجزين الله في الأرض هربا منه، وما لكم من دون الله من ولى يلي أموركم ولا نصير ينصركم إن أراد بكم سوءا وهو على كل شيء قدير.. وهذه آيات أخر تشهد لله بالقدرة وأنه بخلقه رحمن رحيم، فها هي ذي السفن التي تمخر عباب البحر، وتقطع المسافات، وتحمل الأثقال، وهي على ثقلها وضخامتها، وارتفاعها كالأعلام، تجرى على سطح الماء، ولأمر ما لم تغرق في القاع، والله- سبحانه وتعالى- هو الذي خلق الجاذبية وقوة الدفع وقوة الضغط في الماء والهواء، إن يشأ- سبحانه- يسكن الريح التي تدفع السفينة على الماء فتظل راكدة لا تتحرك إلا بقوة دافعة من بخار أو غيره. إن في ذلك كله لآيات لكل صبار على البلاء شكور على النعماء، نعم العبد الصبور الشكور إن أعطى شكر وإن ابتلى صبر، وهذا هو المؤمن الكامل الذي يتذكر ويتعظ بآيات الله وينظر إليها نظرة المعتبر الفاحص. وإن يشأ يجعل الرياح عواصف تعصف بالسفن فيوبقهن ويهلكهن، أى: يهلك ركابها، ويعف عن كثير من أهليها فلا يغرقهم معها، كل ذلك لتظهر قدرته على كل شيء، وليعلم الذين يجادلون في آياتنا جدال تكذيب وإنكار إذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان. واصطلحت على سفينتهم حتى أيقنوا بالهلاك عند ذلك يعلمون أن لا ملجأ لهم سوى الله، ولا منجى لهم من عذابه، ولكنهم بعد ذلك يشركون به ما لا ينفع ولا يضر!! ولا تغرنكم الدنيا وما أوتيتم فيها أيها الكفار فما أوتيتم من شيء من الغنى والجاه والسعة فيها فمتاع الحياة الدنيا الزائل، وما عند الله من ثواب وجزاء فهو خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 372 من صفات المؤمنين وجزائهم وأحوال الكافرين وعاقبتهم [سورة الشورى (42) : الآيات 37 الى 46] وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 373 المفردات: كَبائِرَ الْإِثْمِ: ما رتب عليه وعيد شديد وَالْفَواحِشَ: ما فحش وعظم قبحه كالزنا مثلا شُورى: ذو شورى، أى: أن أمورهم يتشاورون فيها الْبَغْيُ: الاعتداء الظالم سَيِّئَةٍ: هي الفعلة التي تسيء من تنزل به عَزْمِ الْأُمُورِ: معزومات الأمور التي أمر بها الله. مَرَدَّ: رجوع إلى الدنيا سَبِيلٍ: طريق خاشِعِينَ: ذليلين طَرْفٍ الطرف: العين، والطرف مصدر طرف بصره يطرف طرفا إذا أطبق أحد جفنيه على الآخر والمرة منه طرفة، يقال: أسرع من طرفة العين مُقِيمٍ: دائم إلى ما شاء الله. ما مضى كان في بيان صفات المؤمنين التي تؤهلهم إلى التمتع بنعيم الجنان الذي هو خير وأبقى وما هنا بيان الكفار وحالهم ليظهر الفرق جليا واضحا. المعنى: ما أعده الله يوم القيامة خير وأبقى من متاع الدنيا الفاني الذي قد يكون سببا في عدم قبول الحق، ما أعده الله للذين آمنوا بالله ورسوله. والذين هم من المتوكلين على الله المفوضين الأمر إليه. لا الذين هم من المتكلين على أعمالهم خير وأبقى. والذين يجتنبون كبائر الإثم التي توعد الله عليها وعيدا شديدا، واجتنبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وإذا ما غضبوا هم يغفرون ويعفون، تراهم كفوا نفوسهم عن الشر، وقوتهم الشهوانية عن الفاحشة، وقوتهم العصبية عن الاسترسال في الشر، والذين استجابوا لربهم وانقادوا له وأذعنوا لكل ما يريده منهم راضين محتسبين ذلك عنده من صميم قلوبهم وهم مع ذلك يقيمون الصلاة، وأمرهم يتشاورون فيه فلا يقدم رئيسهم على عمل إلا بعد الاستشارة وأخذ الرأى، يا سبحان الله! تلك هي صفات المؤمنين في كتاب الله لم يلفت نظرنا إلى ترك الكبائر والفواحش وإقامة الصلاة والزكاة فقط، وإنما يبين لنا أن الشورى من مبادئ الإسلام وصفات المؤمنين التي يستحقون بها الفلاح في الدنيا والآخرة حتى تقضى على الدكتاتورية الغاشمة، فلتهنأ الديمقراطية العربية ففي الإسلام متسع لكل خير وفضل، وبعد عن كل ضرر وخطر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 374 ومن صفاتهم أيضا الإنفاق مما رزقهم الله، تلك الاشتراكية المنظمة السليمة من الآفات والعيوب. وهكذا الإسلام يبين لنا أن من صفات المؤمنين العزة والكرامة، والاعتزاز بقوة الله والوثوق في نصره، وعلى ذلك فإذا أصابنا بغى وظلم بغير حق وجب علينا أن ننتصر وندافع عن حقوقنا، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يغضب جدا إذا انتهكت حرمة من محارم الله، ويغفر ويعفو لمن ينال من شخصه في بعض الأحيان، والشخص المعتدى عليه ينطبق- إذا كان اعتداؤه بغير قصد، ولم يكن مصرّا عليه، وكان في العفو عنه تسكين لفتنة- عليه قوله تعالى: وَإِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ «1» وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «2» . وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ «3» وغير ذلك من آيات العفو. فإن كان في ترك الانتصار جرأة السفهاء، ومذلة المؤمنين، وانتهاك حرمة الدين فالانتصار واجب إذ هم يكرهون أن يذلوا أنفسهم حتى يجترئ عليهم السفلة من الناس بل ينتصرون على من بغى عليهم واعتدى والله معهم. وعلى ذلك فلا تعارض في الآية. ولكن رد الاعتداء والانتصار للحق يكون على أى شكل؟ لقد رد الله على هذا بقوله: وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فإن النقصان حيف، والزيادة ظلم، وبدء الاعتداء سيئة وشر، ورده كذلك يسيء من ينزل به، لقد صدق الحكيم العربي حيث قال: «الشر بالشر والبادي أظلم» . فمن عفا عمن ظلمه وأصلح ما بينه وبينه حتى لا يعود إلى الاعتداء فأجره على الله وذلك خير بلا شك، إذ قد شرطنا في القصاص ورد الاعتداء المساواة، وتحقيقها واقعيا بعيد، ففي الغالب يكون معه ظلم وزيادة والله لا يحب الظالمين، ومن هنا نعلم أن الشرع يميل إلى العفو، وأنه أقرب إلى التقوى، وهذا كما قلنا بشروط موكول أمرها للمسلم. وهل المنتصر لنفسه معتد أم لا؟ لا. ولمن انتصر بعد ظلمه والاعتداء عليه أولئك ما عليهم من سبيل، ولا عقوبة عليهم، إنما الإثم والعقوبة والسبيل على الذين يظلمون الناس بغير حق ويبدءون بالعدوان على الآمنين الهادئين أولئك لهم عذاب أليم.   (1) - سورة الشورى آية 37. (2) - سورة البقرة آية 237. (3) - سورة آل عمران آية 134. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 375 ولمن صبر «1» ولم يقتص حينما اعتدى عليه، وغفر فإن ذلك لمن عزائم الأمور وعظائمها التي لا يفعلها إلا أصحاب العزائم القوية، فقد قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «ليس الشّديد بالصّرعة إنّما الشّديد الّذى يملك نفسه عند الغضب» . المعنى: ومن يضلله الله لأن نفسه ميالة إلى الشر والبعد عن الحق بمحض اختيارها، ومن كان كذلك فما له من ولى بعد الله يهديه إلى الحق وإلى الصواب، وهؤلاء هم الذين أعرضوا عن دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الإيمان بالله والمودة في القربى، وهم الظالمون. وتراهم لما رأوا العذاب يوم القيامة، وأنه حق لا شك فيه، ندموا على ذلك وقالوا: هل من رجوع إلى الدنيا فنعمل عملا صالحا؟ لما رأوا العذاب آمنوا وتمنوا الرجوع إلى الدنيا، ولكن هيهات، وأنى لهم ذلك! وتراهم يعرضون على النار وهم في قبورهم صباح مساء، يعرضون عليها حالة كونهم خاشعين من الذل، ينظرون إليها بعيون ضعيفة لأنهم ناكسو الرءوس ذليلون، فهم ينظرون مسارقة فلا يستطيعون أن يمكنوا عيونهم منها، وقال الذين آمنوا يوم القيامة: حقا إن الخاسرين هم الذين خسروا أنفسهم حيث حرموا من الجنة، ودخلوا النار يصلونها نارا مسعرة، وخسروا أهليهم وأحبابهم لأنهم إن كانوا في الجنة فقد حيل بينهم وإن كانوا في النار فلا فائدة فيهم، ألا ذلك هو الخسران المبين! وأى خسارة فوق هذا؟ ألا إن الظالمين لأنفسهم في عذاب مقيم دائم إلى ما شاء الله، وما كان لهم في هذه الحالة من أولياء ينصرونهم متجاوزين الله كما كانوا يفهمون هذا خطأ، ولا غرابة في ذلك فمن يضلله الله فلا هادي له، وما له من سبيل إلى الخير يسلكه!   (1) - هذه اللام أفضل فيها أن تكون لام ابتداء لا قسم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 376 الأمر كله لله [سورة الشورى (42) : الآيات 47 الى 50] اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) المفردات: اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ: أجيبوه مَلْجَإٍ: منجى ينجيكم عَقِيماً يقال: عقمت المرأة تعقم عقما: لم تلد، وأصل العقم: القطع، ومنه: ريح عقيم أى: لا تلقح سحابا ولا شجرا ... وهذا كالنتيجة لما تقدم حيث بين الوعد والوعيد ورتب عليه الأمر بالاستجابة مع تهديد المخالفين وبيان أن الأمر كله لله. المعنى: استجيبوا إلى ربكم إذا دعاكم لما يحييكم، واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه، فأجيبوه إلى شرعه بسرعة وبلا تأجيل من قبل أن يأتى يوم لا راد له، هو يوم القيامة، اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم وما لكم فيه من منجى ينجيكم من عذاب الله، ولا تقدرون على الإنكار يومئذ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 377 فإن أعرضوا يا رسول الله فدعهم، فما أرسلناك عليهم حفيظا تحفظهم من الوقوع في الأخطار، وتقيهم أعمال السوء إنما أنت نذير، وهاد إلى سواء السبيل، ما عليك إلا البلاغ فقط، وعلينا الحساب فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ. [الغاشية 21- 26] ثم إن الله- تعالى- بين أن السبب في كفر هؤلاء وعنادهم يرجع إلى انغماسهم في المادة، وغرورهم الباطل بها، وتكبرهم عن الحق لأنهم أولو قوة وبأس، ومال وأولاد فقال: ولو أذقنا الإنسان منا رحمة فرح بها واغتر وتكبر، وإن تصبه سيئة بما قدمته يداه فإنك تراه كفورا جحودا نعم ربه، وتراه نسى ما كان عنده من نعمة وفضل، والكافر الذي لا يؤمن بالله وبصفاته القدسية هو كذلك، أما المؤمن بالله حقا فإن أعطى شكر الله وازداد خضوعا وإيمانا، وإن حرم شيئا صبر وآمن بقضاء الله وقدره، وأن لله ملك السموات والأرض يتصرف فيهما كيف شاء. لله وحده ملك السموات والأرض، وهو صاحب التصريف في هذا الكون يخلق ما يشاء، ويعطى ويمنع من يشاء، ويهب لمن يشاء أولادا إناثا، ويهب لمن يشاء أولادا ذكورا، ويعطى لمن يشاء ذكورا وإناثا فيزاوج بينهما، ويجعل من يشاء عقيما فلا يعطيه ولدا بالمرة، إنه عليم بخلقه قدير على كل شيء. وليست هناك قوة في الأرض تستطيع فعل غير هذا. وإذا كان الله هو المعطى والمانع أيليق بك أيها الإنسان أن تدعى ادعاء كاذبا أنك أعطيت هذا على علم من عندك؟ أيليق بك أن تجعل الكفر بدل الشكر والغرور والكبر والغطرسة بدل الخضوع والعبادة والتقديس لله واجب الوجود المبدئ والمعيد؟! كيفية اتصال الله برسله [سورة الشورى (42) : الآيات 51 الى 53] وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 378 المفردات: وَحْياً الوحى: إلقاء شيء في القلوب سواء كان في اليقظة أم في المنام رُوحاً: المراد قرآن كالروح. بدأ الله السورة بالكلام على الوحى وخاصة القرآن، وكذلك ختمها بالكلام على الوحى العام للأنبياء كلهم وخاصة الوحى الذي نزل على خاتمهم وإمامهم صلّى الله عليه وسلّم وإنه لختام رائع. روى في سبب نزول هذه الآيات: أن اليهود قالوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى نبينا ونظر إليه، فإننا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك؟ فقال النبي: «لم ينظر موسى إلى الله» ونزلت هذه الآيات. المعنى: الله- جل جلاله وتقدست أسماؤه- له ذات ليست كالذوات، وله صفات ليست كالصفات، وهو يخالف جميع خلقه لأن خالق هذا الكون وما فيه من أعاجيب يستحيل عليه أن يشبه شيئا من خلقه، فهو الواحد في ذاته وصفاته وأفعاله تلك حقائق آمن بها الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة. ولهذا ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا بإحدى ثلاث، إما أن يوحى إليه وحيا بأن ينفث في قلبه، ويلقى في روعه سواء كان هذا في اليقظة أم في النوم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 379 وإما أن يكلمه الله من وراء حجاب فيسمع الكلام ولا يعرف مصدره كما حدث لموسى- عليه الصلاة والسلام-، وإما أن يكلم الرسول من البشر بأن يرسل إليه ملكا من الملائكة كجبريل- عليه السلام- فيوحى ذلك الرسول إلى المرسل إليه من البشر يوحى إليه بإذنه، أى: بأمره- سبحانه وتعالى- وتيسيره، فيوحى إليه ما يشاء. وكان لهذه الآية وأمثالها وضع خاص، وكانت مثار نزاع بين المسلمين كفرقة المعتزلة وفرقة أهل السنة، ففهم المعتزلة من حصر كلام الله- سبحانه- لخلقه في الأحوال الثلاثة أن رؤية الله غير جائزة، وأثبت الرؤية أهل السنة استنادا إلى آيات من القرآن، على أن الخلاف في رؤية الله يوم القيامة، والحق مع أهل السنة في هذا. إن ربك عليم بخلقه، يعلم أن أحدا من خلقه لا يستطيع- مهما كان- أن يقوى على المشافهة أو الوقوف في الحضرة القدسية أو الانغماس في الأنوار الإلهية. ولذا ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب إنه علىّ حكيم يضع الأمور في نصابها فلا اعتراض ولا نقاش. ومثل ذلك الإيحاء البديع، الإيحاء الإلهى أوحينا إليك يا محمد روحا من أمرنا.. إى وربي إنه روح من أمر الله، وسر من أسراره، وأمر لا يدرى كنهه إلا هو، وهل القرآن روح؟! نعم إنه للدنيا روح، وأى روح؟ إنه أحيا العالم، ونقله من حضيض الجهل إلى ذروة العلم والعرفان. هل يستوي الأعمى والبصير، أم هل تستوي الظلمات والنور؟ وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ «1» والواقع عند المنصفين أن القرآن حينما نزل كان نزوله حدّا فاصلا بين عهدين، وكان مبدأ للحضارة والعلم، وحياة للناس قضت على ظلمات الجهل. وهذا هو الدليل على صدق محمد في دعواه الرسالة وأن هذا القرآن من عند الله ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ [سورة الشورى آية 52] . نعم فالنبي أمى لم يقرأ ولم يكتب وما جلس إلى معلم أو مرشد، فحقّا وما كان يدرى قبل القرآن الكامل ما الكتاب «2» والإيمان؟ نعم هذا النبي الأمى العربي يستحيل   (1) - سورة فاطر الآية 22. (2) - ما اسم استفهام مبتدأ والكتاب خبره والجملة سدت مسد مفعول تدرى، وجملة ما كنت تدرى كلها حال من الكاف في إليك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 380 عليه أن يأتى بهذا القرآن الكامل في كل نواحيه، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه رغم كثرة أعدائه وحساده قديما وحديثا، فحقا إنه تنزيل من رب العالمين. كيف ينشأ من تلك البيئة رجل يقول مثل هذا الكلام، ويتحدى به العرب بل كل الناس فيعجز الكل عن الإتيان بمثله؟! فحقا إن النبي ما كان يدرى ما الكتاب؟ حتى يتصور أن يكون ذلك الكتاب الذي لا ريب فيه من وضعه. وما كان يدرى ما الإيمان؟ والإيمان بأصوله وفروعه وتشريعاته وقوانينه، هل من المعقول أن يحيط بها فرد نشأ في بيئة أمية كبيئة العرب الجاهلين؟ ولكن أرسل الله رسوله بالهدى ودين الحق بشيرا ونذيرا فأعرض أكثر الناس عنه، أرسله الله وأنزل معه القرآن نورا للناس يهتدى به من استرشد بعقله، ونظر نظرا بريئا خاليا من التعصب الأعمى، وإنك يا محمد لتهدى بدينك إلى صراط مستقيم إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ «1» يهدى إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له كل ما في السموات والأرض ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا، وهو العالم به، ألا إلى الله وحده تصير الأمور. هذا هو القرآن روحا من عند الله، ونورا يهدى به الناس في ظلمات الحياة، وهذا هو الرسول يدعو إلى الخير وينادى بنصرة الحق ويهدى إلى صراط مستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم. ولم يكونوا من المغضوب عليهم ولا الضالين.. اللهم اجعلنا من هؤلاء.   (1) - سورة الإسراء آية 9. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 381 سورة الزخرف وهي مكية بالإجماع. وعدد آياتها تسع وثمانون آية. وهي تدور حول الكلام على القرآن ونقاش المشركين، والاستدلال على وجود الله وصفاته بآثاره ونعمه على الناس. وتمتاز هذه السورة بتعداد أباطيلهم ومعتقداتهم الفاسدة والرد عليهم بما يفحمهم ثم الاستشهاد ببعض الرسل السابقين كموسى وعيسى. مع التعرض لأحوال يوم القيامة بالنسبة للمؤمنين والكافرين إلى غير ذلك من الآيات والحكم القرآنية. القرآن الحكيم وقريش [سورة الزخرف (43) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَمَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 382 المفردات: أُمِّ الْكِتابِ المراد: اللوح المحفوظ فإنه أم الكتب السماوية، أى: أصلها أَفَنَضْرِبُ: أفننحي عنكم القرآن ونمسكه مُسْرِفِينَ: منهمكين في الإسراف وتجاوز الحد بَطْشاً: قوة وشدة وَمَضى: سبق مَثَلُ الْأَوَّلِينَ: صفتهم العجيبة التي تشبه المثل في الغرابة صَفْحاً أى: إعراضا، يقال: صفحت عن فلان إذا أعرضت عن ذنبه، والأصل فيه أن يقال: أعرضت عنه إذا أوليته صفحة عنقي. المعنى: حم. أقسم ربك بالكتاب المبين إنا جعلنا ما أنزل عليك وصيرناه قرآنا عربيا غير ذي عوج في لفظه أو معناه كي تعقلوا وتفكروا فيه تفكيرا سديدا لتعلموا أنه من عند الله لا من عند محمد. أقسم الله بالكتاب لفتا لنظر الناس إليه وبيانا لعظمته المقتضية لأن يقسم الله به، ووصفه بالإبانة لأنه أبان الحق من الباطل، والهدى من الضلال، وكان المقسم عليه كونه قرآنا عربيا لإثبات أنه وارد على أساليب العرب فلا يعسر عليهم فهمه وإدراك أسراره وإعجازه ولذا ختم الآية بقوله: لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ. ويقول الآلوسي في تفسيره: والقسم بالقرآن على ذلك من الأيمان الحسنة البديعة لما فيه من رعاية المناسبة والتنبيه على أنه لا شيء أعلى منه فيقسم به: ولا أهم من وصفه فيقسم عليه: وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ [سورة الواقعة آية 76] . إن هذا القرآن في أم الكتاب لدى الحق- تبارك وتعالى- لعلى ورفيع الشأن وكبير المقام بالنسبة لغيره وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ [سورة المائدة آية 48] ، وإنه لعلىّ حكيم ذو حكمة بالغة. هذا كلام مع مشركي مكة أولا ومع الناس جميعا بعدهم، فالخطاب لهم وإن كانت العبرة بعموم اللفظ، هؤلاء المشركون كانوا مسرفين في الإنكار والتكذيب، وكلما زادهم الرسول دعاء ازدادوا نفورا واستكبارا، فقال الحق لهم: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 383 أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً «1» أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ؟ على معنى أنهملكم فننحى «2» عنكم الذكر، أى: القرآن ونبعده؟! لا. لن يترككم الله أبدا بل سيظل ينزل عليكم القرآن ويهديكم إلى سبيل الرشاد فربما جاء منكم قوم يؤمنون بالله ورسوله، وقد كان فهدى الله بعضهم، ودخل الناس في دين الله أفواجا، وأتم الله النعمة وأكمل الدين ورضيه للناس دينا أساسيا هو دين الحق. ولا تعجب يا محمد من حالهم فتلك سنة الله في الخلق جميعا من يوم أن خلق الله الخلق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكثيرا من الرسل أرسلناهم في الأمم السابقة، وما أتاهم من رسول أو نبي إلا كانت أمته تكذبه وتستهزئ به، فنملى لهم نوعا ما حتى إذا استيأس الرسل أهلكناهم، ف أهلكنا من الأمم أقواما أشد من أمتك بطشا وقوة فلم يغن عنهم شيئا، وسبق في القرآن كثيرا ذكر أخبارهم التي أضحت كالمثل في الغرابة، فانظروا يا آل مكة كيف يكون موقفكم؟ واحذروا بطش العزيز الجبار إن بطش ربك لشديد!! من نعم الله علينا [سورة الزخرف (43) : الآيات 9 الى 14] وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)   (1) - صفحا مفعول مطلق لنضرب من غير لفظه كقولك: قعدت جلوسا فإن تنحيته الذكر إعراض. (2) - يقول علماء البلاغة: في هذه الآية استعارة تمثيلية. شبه حال الذكر وقد نحى عنهم بحال غرائب الإبل. وقد نحيت عن الحوض إذا دخلت مع غيرها للشرب ثم استعمل اللفظ الدال على المشبه به في المشبه، وقيل: إنها استعارة تبعية في نضرب بمعنى ننحى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 384 المفردات: مَهْداً: ممهدة كالبسط المفروشة سُبُلًا: طرقا بِقَدَرٍ: بتقدير فَأَنْشَرْنا: فأحيينا الْأَزْواجَ: الأصناف والأنواع مُقْرِنِينَ: مطيقين أو مماثلين في القوة، من قولهم: فلان قرن فلانا: إذا ماثله لَمُنْقَلِبُونَ انقلب: انصرف. المعنى: أفنضرب عن المشركين الذكر صفحا لأنهم قوم مسرفون؟ ولئن سألنهم من خلق السموات والأرض؟ ومن خلق هذا الكون البديع: سماءه وأرضه؟ ليقولن مجيبين على ذلك: خلقه العزيز العليم، والظاهر أن هذه هي الإجابة المتعينة لا غيرها وليس معقولا أن يقولوا ذلك ويصفون الله بالعزة والعلم، وكأن القرآن يتعجب من حالهم: يؤمنون بأنه خالق ثم يشركون معه في العبادة غيره. الله- جل جلاله- الذي خلق السموات والأرض هو الذي جعل لكم الأرض ممهدة معدة للإقامة عليها مع تكورها وسرعة دورانها، وسلك لكم فيها سبلا وطرقا مائية وزراعية لعلكم بهذا تهتدون إلى وجود الصانع الحكيم، أو تهتدون إلى مقاصدكم ومصالحكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 385 والذي نزل من السماء ماء بتقدير محكم تبعا للمشيئة الإلهية فأنشرنا به بلدة ميتة فأحييناها بالنبات الأخضر والثمر اليانع، وإن هذا لمشاهد وكثير. مثل ذلك الإخراج- أى: إخراج النبات الأخضر من الأرض الجدبة القاحلة- تبعثون من قبوركم أحياء للحساب. وهو الذي خلق الأزواج كلها وأصناف المخلوقات جميعا، ما نعلمه ومالا نعلمه، وجعل لكم من الفلك والأنعام- أى: الخيل والبغال والحمير- ما تركبون، ولعل السفن نوع من أنواع ما يركب، ورمز للباقي كالطائرة والسيارة وغيرهما مما اخترعه الإنسان لكي تستووا على ظهور ما تركبون، وتستقروا عليه ثم تذكرون نعمة ربكم الذي أنعم عليكم بهذا تذكرون بلسانكم معترفين مستعظمين بقلوبكم تلك النعم. وتقولوا: سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا لذلك مطيقين، بمعنى أنه ليس لنا من القوة ما نضبط به الدابة والفلك، وإنما الله هو الذي سخر لنا هذا كله، وإنا إلى ربنا راجعون وصائرون. روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم ما معناه أنه كان إذا وضع رجله في ركاب الدابة قال: «باسم الله- فإذا استوى قال- الحمد لله على كلّ حال سبحان الّذى سخّر لنا هذا وما كنّا له مقرنين، وإنّا إلى ربّنا لمنقلبون. وإذا نزل قال: اللهمّ أنزلنا منزلا مباركا وأنت خير المنزلين» . ألوان من مفترياتهم وأباطيلهم والرد عليهم [سورة الزخرف (43) : الآيات 15 الى 25] وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَأَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَيُسْئَلُونَ (19) وَقالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 386 المفردات: جُزْءاً المراد: ولدا لأنه جزء من أبيه أَصْفاكُمْ: اختاركم وخصكم بالبنين مَثَلًا المراد: شبها. ظَلَّ وَجْهُهُ: صار كَظِيمٌ: مملوء غيظا يُنَشَّؤُا: يربى وينشأ ومنه النشء. والنشوء: التربية، وعليه قولهم: نشأت في بنى فلان الْحِلْيَةِ أى: الزينة فِي الْخِصامِ: في الجدال والنقاش يَخْرُصُونَ: يحدسون ويكذبون أُمَّةٍ الأمة لها معان والمراد منها هنا: الطريقة والمذهب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 387 المعنى: ألم تر إلى أولئك المشركين حين يسألون: من الذي خلق السموات والأرض؟ يقولون: خلقهن العزيز العليم، يقولون هذا والحال أنهم جعلوا له جزءا من عباده! عجبا وأى عجب؟ جعلوا لله من عباده جزءا- أى: ولدا- ولعل تسمية الولد بالجزء لأنه قطعة من أبيه كما قال العربي «وإنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشى على الأرض» . وإثبات الولد لله محال فإنه يستحيل على خالق السموات والأرض أن يكون له ولد إذ ليس له حاجة به فهو الغنى المتعالي عن الصاحبة والولد، على أن الولد جزء من الوالد، وما كان له جزء كان مركبا، فالله إذن مركب، والمركب بلا شك حادث إذ هو يقبل الاتصال والانفصال والاجتماع والافتراق، وتلك كلها أمارة الحوادث فكيف يكون الإله القديم الأزلى الواحد في كل شيء له ولد؟! قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ. اللَّهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ إن الإنسان الذي يقول بهذا السخف الخالي من الحجة لكفور بين الكفر. والفخر الرازي- رحمه الله- يرى أن الأولى في الآية أن يكون معناها: وجعلوا له من عباده جزءا والباقي للشركاء وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهذا لِشُرَكائِنا [سورة الأنعام آية 136] . فهم قد زعموا أن كل العباد ليس لله، بل بعضها لله وبعضها للشركاء، والذي ساعده على هذا أن الآية التي بعدها لإنكار الولد وهذه لإنكار الشريك فتكون الآيات جامعة. عجبا لهؤلاء يثبتون لله ولدا ثم بعد ذلك يقولون: إنه أنثى، فلو فرض أن له ولدا فإنه يمتنع أن يكون أنثى لأن الابن أفضل من البنت فكيف يتخذ البنات ويعطى لعباده البنين أَفَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى أى: جائرة، كيف يجعلون لله البنات وهم إذا بشر أحدهم بالأنثى صار وجهه مسودّا من الحزن والغم، وهو كظيم، ويتوارى من القوم من سوء ما بشر به، ولا يدرى ماذا يفعل في بنته أيمسكها على هون وذل أم يدسها في التراب ألا ساء ما يحكمون.. عجبا لهم إذا كان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 388 ولا بد لله من ولد فليكن ذكرا لا أنثى. أعموا وجعلوا لله- سبحانه وتعالى- ما من شأنه أن يتربى في الحلية والزينة، وأن يكون قعيدا في البيت، وهو في الخصام والجدال غير مبين؟ وتلك أوصاف النساء، انظر إليهم وقد جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن، وهم العباد المكرمون، الذين يعبدون الله ليلا ونهارا، ولا يعصونه ما أمرهم، جعلوا هؤلاء إناثا، وحكموا بأنهم كذلك. هذا أيضا مما يستدعى العجب لأنه إثبات بلا دليل، وقول بلا برهان، إذ لا دليل عقلي ولا نقلي على ذلك فلم يبق إلا المشاهدة، وهم لم يشاهدوا خلقهم أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ستكتب تلك الشهادة عليهم، ويسألون عنها يوم القيامة. وانظر إليهم، وهم يتعلقون بما هو أوهى من بيت العنكبوت، وهي حجة أملاها عليهم شيطانهم إذ قالوا: لو شاء الرحمن ما عبدنا الملائكة، وهم يقصدون أن الله شاء عبادتنا لهم بدليل وقوعها إذ لو لم يشأ منا ذلك لما وقع منا شرك، وإذا كانت مشيئته حاصلة فكيف يأمرنا بترك العبادة؟ وهو استدلال باطل بلا شك لأن المشيئة لا تستلزم الأمر إذ هي عبارة عن ترجيح بعض الممكنات على بعض وفقا لعلمه سواء كانت تلك الممكنات حسنة أم قبيحة، والله- سبحانه- يأمر بالخير ويحث عليه، وقد يشاء لنا غير ما أمرنا به: ونحن لا نعلم حقيقة مشيئته وإرادته حتى يتخلصوا من ذنوبهم وآثامهم! لا. ليس عندهم علم قبل وقوع الفعل أبدا إن هم إلا يظنون ويخرصون. بل آتيناهم كتابا يدرسون فيه ما شئناه فهم به مستمسكون! لا. لا، فهؤلاء ليست لهم حجة عقلية ولا حجة نقلية تبرر لهم أفعالهم، وإنما السبب الحقيقي أنهم يقلدون آباءهم تقليد الأعمى مع التعصب الشديد ولو كانوا على باطل، بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ طريقة ومذهب وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ. ولا تذهب نفسك عليهم حسرات فتلك عادة قديمة في الأمم قبلهم، ومثل ذلك الذي تراه من تشبث المشركين بالتقليد الأعمى وترك الحجة والبرهان تراه كذلك مع الأمم السابقة إذ ما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي في قرية من القرى إلا قال مترفوها وأغنياؤها المنغمسون في المادة المتشبثون بالدنيا المغرورون بها فحقّا «حب الدنيا رأس كل خطيئة» إلا قالوا للرسول: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ. ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ [سورة فصلت آية 43] . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 389 قال الرسول لأمته: أتقتدون بآبائكم ولو جئناكم بدين هو أهدى وأفضل مما وجدتم عليه آباءكم من الضلالة والبهتان؟! ويظهر أن كل رسول كان يقول هذا، ولذا حكى الله عن الأمم جميعا قولهم قالوا: إنا بما أرسلتم به أيها الرسل لكافرون. وماذا كان جزاؤهم؟ كان الانتقام الشديد والعذاب الأليم، فانظر كيف كان عاقبة المكذبين، وانظروا يا أهل مكة كيف أنتم من هؤلاء؟ إنكارهم النبوة والرد عليهم مع بيان حقارة الدنيا [سورة الزخرف (43) : الآيات 26 الى 39] وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30) وَقالُوا لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَرَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَسُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 390 المفردات: بَراءٌ: برىء فَطَرَنِي: خلقني عَقِبِهِ: ذريته الْقَرْيَتَيْنِ: هما الطائف ومكة، والرجلان هما الوليد بن المغيرة في مكة، وعروة بن مسعود الثقفي في الطائف سُخْرِيًّا أى: مسخرا لقضاء المصالح سُقُفاً: جمع سقف وَمَعارِجَ: جمع معرج وهو درج السلم يَظْهَرُونَ: يرتقون ويعلون على السطح وَزُخْرُفاً: المراد به الزينة حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَازَّيَّنَتْ قيل: هو الذهب خاصة يَعْشُ يقال عشا يعشو: إذا تعامى وتغافل، وفي القاموس: العشا سوء البصر نُقَيِّضْ: نسبب له شيطانا الْمَشْرِقَيْنِ المراد: مشرق الشمس شرقا ومشرق القمر غربا الْقَرِينُ: الصاحب، والصديق. المعنى: لقد تقرر في الآيات السابقة أن حب التقليد داء عضال مرض به كثير من الأمم السابقة، وينشأ من تغلغل المادة في نفوس الناس، وجاء الإسلام ينعى على مشركي مكة تقليدهم لآبائهم تقليد الأعمى، وانغماسهم في المادة حتى جعلوها كل شيء، وهنا يحكى القرآن الكريم مقالة لإبراهيم الخليل أبى العرب الأول، حين تبرأ من دين آبائه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 391 وأجداده مؤثرا الدليل والنظر السليم، على تقليد الآباء في الباطل: وإن حالكم أيها العرب لعجيب!! فإذا كنتم مصرين على التقليد مغرمين به فها هو ذا أبوكم إبراهيم أشرف العرب قاطبة أحق بالتقليد من غيره، فقلدوه في هجر الأصنام، وترك عبادة الأوثان واحتقار ما عليه الآباء والأجداد إذا كان منافيا للعقل والمنطق السليم. واذكر إذ قال إبراهيم لأبيه وقومه: إننى برىء منكم، وبرىء مما تعبدون من دون الله حيث إنها أصنام لا تنفع ولا تضر، لكن الله خلقني فسوانى، وفطرني وأتمنى على أكمل صورة فإنه سيهدينى مستقبلا، ويهديني حالا، إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ تقوم مقام قولك: (لا إله) وقوله: إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي تقوم مقام (إلا الله) فكأنه قال: لا إله إلا الله، ومعلوم أن هذه- لا إله إلا الله- كلمة التوحيد، وإبراهيم الخليل جعلها باقية في ذريته وَوَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ: يا بَنِيَّ، إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ «1» جعلها كلمة باقية في عقبه، ووصى بها بنيه لعلهم يرجعون إلى التوحيد الخالص البريء من الشرك في كل صوره وقد كان ذلك كذلك، فلا يزال في عقب إبراهيم وذريته من يعبد الله حقا إلى يوم القيامة ولكنهم قلة فلم يرجع أكثرهم عن الشرك، وما عاجلهم ربك بالعقاب الذي يستحقونه بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَآباءَهُمْ على معنى: بل أعطيتهم نعما أخرى غير الكلمة الباقية ليشكروا صاحبها ويوحدوه، ولكنهم لم يفعلوا بل زاد طغيانهم لغرورهم بالدنيا وتمسكهم بحبها، فالله- سبحانه وتعالى- لم يكتف بأن جعل كلمة التوحيد باقية في ذرية إبراهيم بل متعهم بالنعم التي لا تحصى، وأرسل لهم رسلا حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ أى: جاءهم الحق على لسان رسول بين المعجزة ظاهر الصدق، فانظر إلى هؤلاء المشركين: زادهم الله من نعمه وأمدهم بفضله، فلم يزدهم ذلك إلا كفرا وضلالا، فلما جاءهم الحق من عند الله قالوا: هذا سحر، وإنا به كافرون. هذه المواقف العجيبة منهم وتلك الأباطيل رأسها وأساسها حب الدنيا وتمتعهم بنعيمها الباطل، واعتقادهم أنها كل شيء، ولذلك قالوا منكرين كون محمد اليتيم الفقير رسولا من عند الله. قالوا: لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم! أنكروا أساس النبوة فلم يفلحوا فلجأوا إلى طريق آخر فقالوا: النبوة والرسالة درجة رفيعة   (1) - سورة البقرة آية 132. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 392 لا يستحقها إلا رجل شريف، والشرف عندهم وليد المال، لذلك أنكروا على محمد بن عبد الله الرسالة، ولكن الله يرد عليهم فيفحمهم بقوله: أهم «1» يقسمون رحمة ربك؟! أنكر عليهم أنهم يقسمون رحمة الله وفضله على الناس، وأنى لهم ذلك؟ وهم أجهل الناس بأنفسهم فكيف يعرفون غيرهم ويعطونه حقه من الفضل؟! نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا. وأعطينا هذا مالا وذاك أولادا، وهذا مالا ورجالا، وذلك فقير من المال والرجال. وكذلك في الصحة والنعم الأخرى، وكان العطاء والمنع لحكم الله يعلمها، لا لشيء آخر. ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات في الفضل والجاه وغيره فكانت النتيجة أنهم اتخذ بعضهم بعضا سخرياّ! كل يخدم نفسه، وإن كان في الظاهر يخدم غيره، ورحمة ربك الشاملة للنبوة وغيرها خير مما يجمعون من حطام الدنيا الفاني. هذه الدنيا وما فيها من أموال لا تزن عند الله جناح بعوضة، ولو كانت تزن لما أعطى الكافر منها جرعة ماء، وهي سجن المؤمن ومتاع غيره، والآخرة خير وأبقى، ولولا أن يكون الناس أمة واحدة على ديدن الكفر لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم «2» سقفا من فضة، ومعارج من فضة كذلك عليها يعرجون ويصعدون، ويجعلون لبيوتهم أبوابا ولهم سرر عليها يتكئون وتكون من فضة خالصة، ويجعل لهم زينة في أثاثهم ومتاعهم وقصورهم ومراكبهم تتناسب مع كل زمان ومكان. لولا أن يكون الناس كفارا لميلهم إلى الدنيا وزخارفها بطبعهم لجعل الله لهم ذلك هوانا للدنيا، وتحقيرا لشأنها، وأنها متاع فان لا قيمة له، ولذا قال ما معناه: وإن كل ذلك «3» إلا متاع الحياة الدنيا، والآخرة خير وأبقى، والجنة ونعيمها الدائم قد أعدت عند ربك للمتقين. ولا عجب في ذلك فإن من يعش عن ذكر الرحمن، ويتعام عن النظر في القرآن ويصم أذنيه عن سماع الحق يقيض الله له شيطانا، ويهيئ له ذلك لأنه آثر العمى على   (1) - الاستفهام هنا للإنكار والتعجب. (2) - لبيوتهم بدل من لمن يكفر بالرحمن. (3) - هذا الحل المعنوي يشير إلى أن لما بمعنى إلا، وإن بمعنى ما النافية، وفي قراءة: لما بالتخفيف، وعليه فما زائدة أو موصولة وصدر الصلة محذوف، وأن هي المخففة من الثقيلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 393 الهدى، فهو له قرين لا يفارقه، ودائما يدعوه إلى كل ضلال، ويزين له كل شر، لأنه تعامى أولا عن النظر في القرآن، وإنهم ليصدونهم عن السبيل، ويحسبون أن الشياطين مهتدون أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً. [سورة فاطر آية 8] . حتى إذا جاءنا الذي عشى عن الحق ورأى أنه كان على ضلال في كل عمله قال مخاطبا الشيطان الذي كان يعتقد أنه على حق في كل ما أمر به: يا ليت بيني وبينك بعدا لاحد له بعد ما بين المشرق والمغرب، فبئس القرين أنت. ولن ينفعكم اليوم إذ تبين لكم أنكم ظلمتم، لن ينفعكم أنكم في العذاب مشتركون. تقوية العزيمة [سورة الزخرف (43) : الآيات 40 الى 45] أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْئَلُونَ (44) وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَجَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) المفردات: الصُّمَّ: جمع أصم، وهو من بأذنه صمم نَذْهَبَنَّ بِكَ المراد: قبضناك إلينا فَاسْتَمْسِكْ: تمسك لَذِكْرٌ لَكَ: شرف عظيم به تذكر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 394 المعنى: لقد وصف الله الكفار بأن في أعينهم ضعفا في البصر، والمراد أنهم يتعامون عن الحق، وهنا وصفهم بالصمم والعمى فكان ترتيبا طبيعيا، وتصويرا رائعا لما عليه الإنسان عند أول اشتغاله بالدنيا وتعلقه بها، يكون كمن في عينه رمد بسيط ثم إذا أوغل فيها وتمكنت منه كان كالأعمى والأصم. والمراد إنكار وتعجيب من أن يسمع النبي صلّى الله عليه وسلّم مهما كان من في أذنه صمم وفي عينه عمى كان مستقرّا في الضلال المبين لا يفارقه ولو إلى حين، على أن المقصود بالعمى والصمم هو عمى القلب وصممه فهو عمى معنوي لا حسى، ومن كان كذلك فقد ختم الله على قلبه، وجعل على عينه حجابا كثيفا فلن يبصر شيئا ولن يسمع خيرا أبدا، وهؤلاء لا تقدر أنت يا محمد على هدايتهم فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وتظن أنك قصرت في دعوتهم أبدا، فإما نذهبن بك ونتوفينك إلينا قبل أن ترى عقابهم في الدنيا، فثق أنا منهم منتقمون أشد انتقام لموقفهم هذا، وإما نرينك في حياتك الذي وعدناهم من الذل والهوان ونصرة الحق، ودخول الناس في دين الله أفواجا فإنّا عليهم مقتدرون، والله بكل شيء محيط. وعلى كل شيء قدير. فكن قرير العين مطمئن القلب إلى نصر الله، والله ينصر من يشاء. وإذا كان الأمر كذلك فاستمسك بالذي أوحى إليك من القرآن، وتمسك بأهدابه واحرص عليه، واعمل به، وادع الناس إليه مهما كلفك هذا. لماذا؟ لأنك ما دمت متمسكا به فأنت على الصراط المستقيم. وعلى أنه ذكر لك ولقومك، وشرف عظيم وأى شرف يدانيه لك ولقومك؟ فالعرب- كما يقص علينا التاريخ- كانوا قبل البعثة المحمدية محصورين في شبه الجزيرة العربية لا يحس بهم أحد من جيرانهم، وكانوا في شظف من العيش، وتحلل في الخلق، وتقاتل وتنازع لأتفه الأسباب، وكانوا في جاهلية جهلاء وضلالة عمياء فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ [قريش 3، 4] . فلما أراد الله أن يبرز من هؤلاء الرعاة الجفاة الغلاظ الأكباد المتقاطعين المتباذلين أمة ذات حضارة ومدنية وعلوم ومعارف، ونهضة وحكومة، وجيش وقيادة، أمة لها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 395 سلطان ونظام مالي ورجال، لما أراد ذلك من عليهم بأن أرسل من أنفسهم رسولا يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين وظلت الأمة العربية وستظل إن شاء الله أمة ترنو لها الأبصار، وتحط عندها الرحال، ولها الأثر الكبير في توجيه السياسة العامة للعالم كله. فحقا إنه لذكر لك ولقومك! وسوف تسألون عن هذا كله يوم القيامة. وكان من أهم أسباب نفرة المشركين عن الإسلام أنه دين يدعو إلى التوحيد وذم الأصنام وترك عبادة الأوثان، فجاء القرآن بشتى الصور يبين أن أمر التوحيد ليس بدعا عند الإسلام بل هو أساس كل دين. وقال: واسأل من أرسلنا قبلك من رسلنا.. الآية. واسأل من أرسلنا من الرسل قبلك، أجعلنا «1» من دون الرحمن آلهة يعبدون فالمسئولون هم الرسل ولذلك فالآية مكية، وقيل: المسئول أمم الرسل، وعلى ذلك فالآية مدنية، ونص القرآن يحتمل هذا وذاك، وليس المقصود على الرأيين نفس السؤال بل المراد انظر في أديانهم وابحث عن مللهم وادرس كتبهم التي لم تحرف لترى جواب هذا السؤال، وأن الأديان كلها متفقة على التوحيد الخالص البريء، وعلى نفى عبادة غير الله. فأقروا بذلك يا أهل مكة واعملوا على هذا الأساس، وآمنوا بالله ورسوله حقا يؤتكم كفلين- جزأين- من رحمته ويدخلكم الجنة عرفها لكم.   (1) - الاستفهام للإنكار. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 396 العبرة من قصة موسى وفرعون [سورة الزخرف (43) : الآيات 46 الى 56] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47) وَما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَأَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50) وَنادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 397 المفردات: يَنْكُثُونَ: ينقضون العهد الذي جعلوه على أنفسهم مَهِينٌ: ضعيف فقير فهو يمهن نفسه في قضاء حاجاته يُبِينُ يقال: أبان عن رأيه بمعنى يفصح عنه أَسْوِرَةٌ: جمع سوار، وهو حلية تلبس في اليد آسَفُونا: أسخطونا وأغضبونا سَلَفاً: قدوة لغيرهم من الكفار وَمَثَلًا: عظة وعبرة لمن يأتى بعدهم. ولقد طعن الكفار في نبوة سيدنا محمد بن عبد الله، وقالوا: لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم، ولقد رد الله عليهم مقالتهم وألقمهم حجرا، ثم بعد هذا ساق قصة موسى مع فرعون هنا عبرة وعظة وسلوى، وليعلم الناس أن ذلك سلاح قديم، وتلك مقالة- لولا نزل هذا القرآن.. الآية- سبقهم إليها فرعون وقومه فكانت عاقبة أمرهم خسرا، ونجى الله المؤمنين بفضله. المعنى: وتالله لقد أرسلنا موسى، ومعه الآيات التسع- التي تقدم ذكرها في سورة الإسراء وغيرها- أرسلناه إلى فرعون وملئه ليخرج بنى إسرائيل من كيد المصريين وظلمهم حتى إذا خرجوا من مصر ونزلت عليهم التوراة وفيها هدى ونور وكانت لهم شريعة، وكان منهم المؤمنون، وكثير منهم فاسقون- كما عرفت ذلك فيما مضى- فلما أرسل موسى لفرعون وملئه قال لهم: إنى رسول رب العالمين إليكم، فطلبوا منه الآيات فلما جاءهم بها- كالعصا واليد- إذا هم منها يضحكون بسرعة وخفة، وبدون نظر ولا بحث، أى: لما جاءتهم الآيات فاجأوا المجيء بها بالضحك عليها سخرية من غير توقف ولا تأمل، وهذا المعنى الذي هو السرعة والمفاجأة بالضحك استفيد من قوله تعالى: إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ [سورة الزخرف آية 47] . ما نريهم من آية إلا هي أكبر من أختها، بمعنى أن كل آية تعد كأنها أكبر من أختها وزميلتها، إذ كل واحدة لكمالها في نفسها ووفائها بالغرض المقصود منها كأنها أكبر من زميلتها، كما قالت أعرابية وقد سئلت عن بنيها: أيهم أفضل؟ فقالت: «هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها» وكما قال الشاعر: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 398 من تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ... مثل النجوم التي يسرى بها السارى فلما لم يؤمنوا أخذهم ربك بالسنين، وأصابهم بنقص الزرع وقلة الضرع وسلط عليهم القمل والضفادع والدم.. إلخ، لعلهم يرجعون ويثوبون إلى رشدهم. وقالوا لما رأوا الآيات تترى عليهم، وسخط ربك حالا بهم: يا أيها الساحر، قيل: هو خطاب تعظيم عندهم- ادع لنا ربك بما عهد عندك من النبوة لئن كشفت عنا العذاب الذي نزل بنا لنؤمنن لك ولنرسلن معك بنى إسرائيل، وإننا لمهتدون إلى الصواب وإلى الحق الذي تدعو إليه، فلما كشفنا عنهم العذاب فاجأوا الكشف عنهم بأنهم ينكثون العهود وينقضون المواثيق. هذا ما كان من أمر القوم وخاصة الملأ منهم، أما فرعون ملك مصر فها هي ذي أعماله: ونادى فرعون في قومه بأن جمعهم في مكان واحد كالسوق مثلا، أو جمع أشرافهم وهم بلغوا عنه فكأنه نادى فيهم جميعا، فماذا قال؟ قال: يا قومي أليس لي ملك مصر «1» ؟ وهذه الأنهار- فروع نهر النيل- تجرى من تحتي، وتسير بأمرى، وأنا صاحب التصرف في كل ما ينتج عن جريها من مزروعات وغيرها. وعلى أنها كانت تجرى من تحت قصره، أفلا تبصرون تلك الحقائق؟ بل تبصرون أنى أنا خير من هذا الذي هو فقير وضعيف مهين يمتهن نفسه في قضاء مصالحه بنفسه ولا يكاد يبين ويفصح عن حجته بقوة وذلاقة لسان، وحسن تصرف يا سبحان الله!! هذه حجة فرعون الطاغية، وهي مشابهة تماما لحجة مشركي مكة، والعاقبة والنهاية واحدة. فهلا ألقى عليه أسورة من ذهب تجيء له من قبل ربه الذي يدعى أنه رب السموات والأرض!! أو تجيء مع موسى الملائكة كما يدعى متعاونين مجتمعين ليؤيدوه ويدفعوا عنه!! هكذا لا يؤمن بعقله بل يؤمن إذا رأى ببصره!! فاستخف قومه فأطاعوه بمعنى أنه طالبهم بالخفة والسرعة في الإجابة لما يطلب فأطاعوه لخفة عقولهم وسوء تفكيرهم، ولا غرابة في ذلك إنهم كانوا قوما فاسقين. فلما آسفونا وأغضبونا وأسخطونا بأعمالهم السيئة التي لم يرتدعوا عنها رغم كثرة التنبيه وتوالى النذر، فلما آسفونا انتقمنا منهم بعذاب بئيس فأغرقناهم أجمعين، ونجى   (1) استفهام المراد منه التقرير، أى: قروا بما تعرفونه من أنى ملك مصر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 399 الله موسى ومن معه من المؤمنين، فجعلهم ربك سلفا وقدوة لمن يأتى بعدهم من الكفار وجعلهم مثلا وعبرة وعظة للآخرين من الأمم. فانظروا يا آل مكة أين أنتم من هؤلاء! وكيف عاقبة الكفار الظالمين؟ فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ [يونس 92] وأما أنتم أيها المؤمنون فثقوا بنصر الله لكم، فالله ينصر من ينصره، ويدافع عن الذين آمنوا، ألم تروا إلى فرعون وملئه مع قوة بطشه ونفاذ حكمه في جنده، وهذا موسى الضعيف المسكين مع بنى إسرائيل وقد نصرهم الله على عدوهم؟! بعض مفترياتهم والرد عليها [سورة الزخرف (43) : الآيات 57 الى 66] وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَاتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (66) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 400 المفردات: يَصِدُّونَ: صدّ يصدّ بمعنى: يضج ويضحك جَدَلًا أى: لأجل الجدل والمراء خَصِمُونَ: شديد والخصومة لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ أى نزوله علامة للساعة. فَلا تَمْتَرُنَّ بِها: لا تشكّنّ فيها. بِالْحِكْمَةِ أى: أصول الدين عامة. بَغْتَةً أى: تبغتهم بغتة وتأتيهم فجأة. لقد عدد القرآن الكريم في هذه السورة مفترياتهم ورد عليهم ردودا أفحمتهم، وتتخلص هذه الأباطيل في: (1) أنهم جعلوا لله من عباده جزءا (2) جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا (3) قولهم: لو شاء الرحمن ما عبدنا الأصنام (4) قولهم: لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم (5) هذه الآية التي نحن الآن معها تفيد أنه لما ضرب ابن مريم مثلا أخذ القوم يضجون ويصوتون فرحا واستبشارا، تلك هي المفتريات الخمس التي ذكرت في هذه السورة ودار الكلام فيها حول هذه الموضوعات. روى أن عبد الله بن الزبعرى قال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: أنت قلت: إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم، قال النبي: نعم، قال ابن الزبعرى: أليست اليهود تعبد عزيرا، والنصارى تعبد عيسى، وبنو مليح يعبدون الملائكة؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «بل هم يعبدون الشّيطان» ونزل قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ [سورة الأنبياء آية 101] ونزل قوله تعالى: وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. المعنى: ولما ضرب ابن الزبعرى عيسى ابن مريم مثلا، وحاجك بعبادة النصارى له حيث قال: أليست النصارى تعبد المسيح وأنت يا محمد تقول: إنه كان نبيا وعبدا من عباد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 401 الله صالحا فإن كان في النار فقد رضينا أن نكون وآلهتنا مع عيسى ابن مريم، وقد فرحت قريش بهذه المحاجة وضحكوا وارتفعت أصواتهم، وهذا المعنى قوله تعالى: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ. وقالوا تمويها بالباطل الذي يغتر به ضعاف العقول: أآلهتنا خير أم عيسى؟ أى أآلهتنا عندك خير أم عيسى الذي هو خير كما تزعم في النار فلا بأس أن تكون آلهتنا معه. ما ضربوا لك هذا المثل إلا مجادلين بالباطل ليدحضوا به الحق، وأنى لهم ذلك؟ بل هم قوم خصمون شديد والخصومة والجدال، يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون. وكيف يدخل عيسى في عداد ما هو حصب جهنم كما تدعون وتضربون به الأمثال؟ ما عيسى إلا عبد من عباد الله أنعمنا عليه بالنبوة فهو مرفوع القدر والمكانة، ولكنه لا يستحق العبادة والتقديس لأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه وقد جعلناه مثلا، أى: أمرا غريبا حقيقا بأن يسير مسيرة الأمثال لأنه خلق من غير أب إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ جعلناه مثلا وأرسلناه لبنى إسرائيل، وكانت معجزاته إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص، ومع هذا كله فهو لا يستحق العبادة. وإنما يستحق العبادة القادر الموجد المحيي المميت الذي خلق عيسى وغيره، ولو يشاء لجعل بدلكم ملائكة في الأرض يخلفونكم في عمارتها فهو على كل شيء قدير، ولو يشاء لجعل منكم يا رجال مكة ملائكة مع أنها ليست من جنسكم كما خلق عيسى بلا أب، ملائكة تخلفكم في عمارة الأرض كما تخلفكم أولادكم لتعلموا أن الله هو القادر، ولتعلموا أن الملائكة خلق من خلق الله فكيف يعبدون؟ وبأى شكل تقولون إنهن بنات الله؟ وإن عيسى سينزل آخر الزمان كما نطق بذلك صريح الأحاديث في الكتب الصحاح، وإن نزوله لعلم للساعة إذ هو من أشراطها أى علاماتها، أو أن خلقه بلا أب أو إحياءه الموتى في معجزاته دليل على إمكان الساعة وصحة البعث. فلا تشكن فيها واتبعونى يا أمة محمد، وقيل: إنها من كلام عيسى لأمته، هذا صراط مستقيم، ولا يصدنكم الشيطان إنه لكم عدو ظاهر العداوة. ولما جاء عيسى بالآيات التي تدل على صدقه، وأنه رسول الله إلى بنى إسرائيل قال لهم: قد جئتكم بالحكمة وأصول الدين العامة كتوحيد الله، وإثبات اليوم الآخر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 402 والتصديق بكتب الله ورسله، وجئت لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه من أحكام التوراة التي نزلت على موسى فيحل حلالها، ويحرم حرامها، ويقضى بالعدل بين بنى إسرائيل، فاتقوا الله وأطيعونى ولا تخالفوني، إن الله هو ربي وربكم فاعبدوه وحده ولا تشركوا به شيئا، هذا هو الصراط المستقيم الذي نزل به عيسى فكيف يكون إلها فكيف يكون حالكم يا كفار مكة وهذا عيسى ابن مريم دعا إلى عبادة الله وحده وعدم الإشراك به، وهذا موجود في الإنجيل على تحريفه وتبديله، انظر إليه في إنجيل يوحنا «وهذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» فاختلف الأحزاب والجماعات من بعد موت عيسى وانقضاء أجله في الدنيا اختلفوا في أمره اختلافا بينا كله خطر وكفر صريح فقال البعض: إنه إله، وقال آخرون: إنه ابن الإله، وقد عرفتم الحق في عيسى: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ [سورة النساء آية 171] . فويل للذين كفروا منهم، وظلموا أنفسهم وغيرهم، من عذاب يوم القيامة! هل ينظر كفار مكة وينظرون إلى الساعة أن تأتيهم فجأة، وتبغتهم بغتة، وهم في الدنيا ونعيمها الزائل ساهون ولا هون فلا يشعرون: ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ. فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ [يس 49، 50] . بعض أحوال يوم القيامة [سورة الزخرف (43) : الآيات 67 الى 80] الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَكانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوابٍ وَفِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْواهُمْ بَلى وَرُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 403 المفردات: الْأَخِلَّاءُ: جمع خليل، وهو الصاحب والصديق تُحْبَرُونَ في الأساس يقال: حبره الله: سره، والكلمة تدل على ظهور أثر السرور على الوجه بِصِحافٍ أى: بقصاع، والصحفة: إناء يوضع فيه الأكل يكفى خمسة، وفي الأساس الصحفة: القصعة المسطحة وَأَكْوابٍ: جمع كوب وهو إناء أشبه ما يكون بالكوبة التي نستعملها الآن وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ يقال: لذ الشيء يلذ لذاذة ولذذت بالشيء ألذ به لذاذة: وجدته لذيذا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ: لا يخفف عنهم بجعل العذاب على فترات مُبْلِسُونَ: ساكتون سكوت يأس ماكِثُونَ: مقيمون أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً: بل هم أحكموا أمرا ضد النبي والإبرام: الفتل الثاني، والأول يسمى سحيلا وهذا بيان لبعض أحوال يوم القيامة التي تصادف المؤمن والكافر، وهذا بلا شك نظام محكم دقيق إذ بعد بيان ما اجترحه الكفار وأنهم في انتظار الساعة التي تأتيهم بغتة يبين لهم بعض أهوالها وأحوالها التي ستصادف مؤمنهم وكافرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 404 المعنى: يبين الله- سبحانه وتعالى- أن في طبع الإنسان وغريزته استشارة غيره وخاصة في مهمات الأمور، وقد كان الناس يتشاورون في شأن الدعوة الإسلامية فمنهم من كان صديقه وخليله يدعوه إلى الخير ويحثه على سلوك الطريق المستقيم، ومنهم من كان صديقه وخليله يدعوه إلى الشر ويحثه عليه، فإذا رأى يوم القيامة أن عمله كان خطأ، وأن مشورة خليله كانت وبالا عليه أنحى باللائمة على صديقه، بل يصير عدوا من ألد أعدائه، وينسب إليه كل أفعاله طالبا من الله عقابه أشد العقاب، وقد قص القرآن علينا صورا كثيرة مما سيحصل بين التابعين والمتبوعين والقادة والعامة. الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين، فإنهم يظلون على صداقتهم التي أنتجت لهم الخير، وهدتهم إلى الحق، فهم على سرر متقابلون، وعلى الأرائك ينظرون. وقد نزع الله ما في صدورهم من غل، ويقال لهم تطمينا وتثبيتا: يا عبادي لا خوف عليكم فيما مضى ولا أنتم تحزنون في المستقبل، ويقال لهم تكريما: ادخلوا الجنة أنتم وأزواجكم حالة كونهم مسرورين، ويطاف عليهم بصحاف من ذهب، وأكواب من فضة، فيها من الشراب والطعام ما لا عين رأته. روى الترمذي عن سليمان بن بريدة عن أبيه أن رجلا سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم هل في الجنة من إبل؟ فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «إن يدخلك الله الجنّة يكن لك فيها ما اشتهت نفسك ولذّت عينك» نعم في الجنة ما تشتهيه الأنفس، وتلذه الأعين من كل شيء لا يقع تحت الوصف، ولا يدركه العقل، فإن ذكر طرف منه فتقريب للخيال، وتصوير لبعض ما هنالك «فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» وأنتم أيها المؤمنون مع هذا فيها خالدون، ويقال لكم: تلك الجنة التي استحققتم متاعها كما يستحق الوارث ميراثه بسبب ما كنتم تعملون، لكم فيها فاكهة، ولكم فيها ما تدعون. هذا هو الوعد الذي وعده الله للمتقين، وأما وعيد الكافرين فها هو ذا: إن المجرمين في عذاب جهنم خالدون إلى ما شاء الله، عذاب دائم مقيم، لا يخفف عنهم فيها بل هم فيها ماكثون، وهم من رحمة الله آيسون وساكتون، وما ظلمهم ربك، ولكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم بالشرك والمعاصي. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 405 هؤلاء المجرمون تمر عليهم فترات طوال، ففي فترة يسكتون ولا يتكلمون، ولا يؤذن لهم فيعتذرون، وفي حالة أخرى ينادون: يا مالك ادع لنا ربك حتى يقضى علينا بالموت والهلاك، فنخرج من ذلك الموقف الشديد وهذا العذاب الأليم، فيسكت مالك ولا يجيب زمنا الله أعلم به، ثم يقول لهم: إنكم ماكثون. وقد روى أن أهل النار استغاثوا بالخزنة وسألوهم أن يخفف عنهم ربهم يوما واحدا من العذاب فردت الخزنة عليهم أسوأ رد وَقالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ قالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ «1» فلما يئس الكفار مما عند الخزنة نادوا مالكا ليسأل لهم ربهم الموت فسكت عنهم لا يجيبهم ثمانين سنة ثم بعدها قال لهم: إنكم ماكثون. وذلك لأنا جئناكم في الدنيا بالحق الذي لا شك فيه، وفيه الخير لكم فلم تقبلوه وكان أكثركم- أى: رؤساؤكم- للحق كارهين. بل أبرم مشركو مكة أمرا، وكادوا كيدا للنبي صلّى الله عليه وسلّم فإنا مبرمون كيدنا حقيقة أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ «2» فالآية تشير إلى ما كان منهم من تدبير قتله- عليه الصلاة والسلام- في دار الندوة بمكة، وإلى ما كان من إحباط تلك المؤامرة ورد كيدهم في نحورهم وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «3» . بل أهم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم؟ وكيف لا يسمع سرهم ونجواهم علام الغيوب الذي يعلم السر وأخفى وهو العليم بذات الصدور، بل يسمعها ويطلع عليها رسله التي جعلها معقبات من بين أيديهم ومن خلفهم يكتبون كل ما صدر عنهم من الأفعال سرا أو جهرا ليلا أو نهارا. فيا خير من تكتب له الحسنات، ويا ويل من تكتب له السيئات.   (1) - سورة غافر الآيتان 49 و 50. (2) - سورة الطور آية 42. (3) - سورة المائدة آية 67. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 406 استحالة الولد والشريك لله [سورة الزخرف (43) : الآيات 81 الى 89] قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) المفردات: فَذَرْهُمْ: اتركهم يَخُوضُوا يقال: خاض الماء يخوضه: اقتحمه، وخاض في الحديث ويخوض مع الخائضين، أى: يبطل مع المبطلين تَبارَكَ: تعالى وتعاظم وزادت بركاته وخيراته يُؤْفَكُونَ أفك يأفك بمعنى الكذب، أى: فكيف يكذبون فَاصْفَحْ: أعرض عنهم قِيلِهِ: القيل والقال والمقالة واحد. من أهم الأغراض مناقشتهم في قولهم: إن لله ولدا، وإشراكهم به غيره، ولذا ختم الله السورة بالكلام عليه مع ذكر الأدلة الدامغة التي تهدم قولهم هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 407 المعنى: قل يا محمد لهؤلاء المشركين- أيا كانوا- للذين يثبتون لله ولدا، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا!! قل لهم: إن كان للرحمن ولد، وصح هذا في شرعة الإنصاف وثبت بالدليل القاطع أن له ولدا، إن صح هذا فأنا أول العابدين لذلك الولد المقدسين له لأنه ابن الإله، وابنه جزء منه وله منزلته، سبحانه وتعالى عما يصفونه به من كونه له ولد، سبحان رب السموات والأرض رب العرش والكرسي، سبحان الله واجب الوجود الحي الذي لا يموت، صاحب هذا الملك والملكوت ورب السماء والأرض وما فيها، سبحانه أنى يكون له ولد؟ فإن ربوبيته لهذا الكون سمائه وأرضه تدل على أنه ليس شيء فيهما جزءا منه سبحانه، وإلا لما كان واجب الوجود لذاته، وكان مركبا من أجزاء انفصل منها جزء كوّن ولدا، وكان له حتما صاحبة، والله- جل جلاله- منزه من كل ذلك، وإلا لكان حادثا غير مخالف للحوادث. وإذا كان الأمر كذلك فذرهم يا محمد واتركهم يخوضون في أباطيلهم التي هي كالبحر أو أشد، ويلعبون في دنياهم حتى يلاقوا يومهم الموعود بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ «1» والمقصود بذلك تهديدهم، يعنى قد ذكرت الحجة القاطعة على فساد من يقول بالولد لله، وهم لم يلتفتوا إليها لأنهم غارقون في دنياهم طالبون للمال والجاه والسلطان، فاتركهم لهذا في باطلهم يعمهون. والله- سبحانه- ليس له ولد كما ثبت، وليس له مكان بل هو في كل مكان، ويستحيل عليه المكان لأنه يكون محدودا محصورا له أبعاد ونهاية وتلك كلها من صفات الحوادث والله منزه عنها، وهو معبود في السماء ومعبود في الأرض، وهو الواحد في كل شيء لا يحده زمان ولا مكان، وهو الحكيم في كل أعماله العليم بكل أحوال خلقه، ولا تنس أن هاتين الصفتين تتنافيان مع إثبات الولد، فالنصارى يقولون: عيسى ابن الله مع أنهم يثبتون له الجهل وعدم الحكمة في بعض التصرفات، ألا ترى أنه كان يبكى عند ما سمع بقتل برىء ويطلب من أتباعه أن يدلوه على قبره كما ورد في الإنجيل. فهل   (1) - سورة القمر آية 46. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 408 يعقل أن يكون إلها؟! وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما، وعنده علم الساعة، وإليه ترجعون، وهذه صفات كلها تتنافى مع إثبات ولد لله كعيسى، فإنه كان محتاجا لغيره وكان يأكل الطعام، وكان يجهل بعض ما حوله، وما كان يعرف من علم الغد شيئا، وكان يخاف من اليهود، ومن العجيب أن النصارى تقول بألوهيته أو أنه ابن الإله ومع ذلك تقول بأنه صلب وقتل، وابن الإله الذي خلق هذا الكون له ملكه وتصريفه وهو العليم بكل شيء لا بد أن يكون كأبيه في هذا، وعيسى بإقراره لم يكن كذلك. وكيف يثبتون له شركاء؟ ولا يملك الذين يدعونه من الأصنام وغيرها الشفاعة لأحد أبدا إلا الذين شهدوا بالحق وهم يعلمون كعيسى وعزير والملائكة فإنهم يشفعون بإذنه لمن يشاء ويرضى. ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض؟ ليقولن: إنه خلقهم فكيف يصرفون عن عبادته وحده إلى الإشراك به؟! واذكر وقت قيله: يا رب، إن هؤلاء قوم لا يؤمنون. وإذا كان الأمر كذلك فاصفح عنهم وأعرض، وقل أمرى معكم سلام ومتاركة إلى حين. وأما هم فسوف يعلمون عاقبة هذا الكفر، وتلك المفتريات التي تقدم ذكرها، سيعلمون غدا نتيجة ذلك كله في الدنيا والآخرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 409 سورة الدخان مكية باتفاق، وهي سبع وخمسون آية. وتشمل على بيان عظمة القرآن، وتهديد المشركين. وضرب الأمثال لهم بفرعون وقومه ونهايته، ثم إثبات البعث ومناقشتهم فيه، وبيان بعض أحواله الخاصة بالكفار والمؤمنين. ثم ختمت كما بدئت بالكلام على القرآن. ذلك هو القرآن الكريم [سورة الدخان (44) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) وَالْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 410 المفردات: الْمُبِينِ: صاحب البيان الواضح لكل ما يحتاج إليه الإنسان في أمور دينه ودنياه مُنْذِرِينَ أى: مخوفين به يُفْرَقُ: يفصل ويبين حَكِيمٍ: محكم لا لبس فيه مُوقِنِينَ أى: تريدون اليقين من الأمور يَلْعَبُونَ اللعب: الشغل بما لا يجدي. فَارْتَقِبْ: انتظر. بِدُخانٍ: دخان النار معروف. يَغْشَى النَّاسَ: يحيط بهم من كل جانب مُعَلَّمٌ أى: يعلمه غيره نَبْطِشُ البطش: الأخذ بقوة وشدة. المعنى: حم. أقسم ربك بالقرآن الكريم الذي هو الكتاب المبين على أنه أنزل القرآن في ليلة مباركة كثيرة الخيرات. وهذا النسق من الكلام يدل على أن الله يعظم القرآن غاية التعظيم حيث أقسم به على أنه أنزل في ليلة مباركة. وهذا شبيه بقولك لصديق لك: أقسم بحقك عليك. والله- سبحانه- يقول في سورة البقرة: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ويقول: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ويقول هنا: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ ومن هذه النصوص الصريحة يتبين لنا أن القرآن نزل في ليلة مباركة هي ليلة القدر. وهذه الليلة إحدى ليالي شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن حتى تتوافق جميع النصوص القرآنية، ولعل إبهامها ليترقبها الناس في ثلاثين ليلة، والكتاب المبين إنا أنزلنا هذا القرآن في ليلة مباركة- هي ليلة القدر لا ليلة نصف شعبان كما ذهب إلى ذلك بعض العلماء- إنا كنا منذرين الناس بهذا القرآن. والقرآن الكريم نزل منجما تبعا للحوادث في ثلاث وعشرين سنة بين مكة والمدينة المنورة. والمعروف أن بدء نزوله كان في ليلة القدر التي هي الليلة المباركة، وقيل: إن معنى نزوله فيه أنه نزل إلى السماء الدنيا في تلك الليلة والله أعلم بذلك. وهذه الليلة المباركة وصفت هنا بصفات مشابهة لصفاتها في سورة القدر، فقال جل شأنه: فيها يفرق كل أمر حكيم، أى: يفصل ويبين كل أمر محكم ذو حكمة يدل على حكمة بالغة لله تعالى. وهذه الأمور المحكمة يزداد شرفها بأنها أمر من عند الحق- الجزء: 3 ¦ الصفحة: 411 تبارك وتعالى- وكما اقتضاه علمه وتدبيره، ثم قال: إنما فعلنا ذلك لأجل أننا كنا مرسلى الرسل لإنفاذ العلم بكل فعل، فهي رحمة حقيقية لأنها صادرة من إله سميع عليم، وهو رب السموات ورب الأرض، ورب ما بينهما من كل شيء بعد. وإذا كان المنزل للقرآن موصوفا بالجلالة والعظمة والكبرياء والربوبية كان القرآن الذي أنزله في غاية الشرف والرفعة. إن كنتم تريدون اليقين وتطلبون الوصول إلى الحقائق فاعلموا ذلك، واعرفوا أن الأمر كما ذكر القرآن. كانوا يقرون بأن الله خالق السموات والأرض، فقيل لهم: إن إرسال الرسل وإنزال الكتب معهم رحمة من الله السميع العليم الذي هو رب السموات والأرض إن كان إقراركم بأنه خالق السماء والأرض عن علم ويقين فآمنوا بذلك، ثم رد الله- سبحانه- أن يكونوا موقنين فقال: بل هم في شك يلعبون. وإن إقرارهم غير صادر عن علم ويقين، وإذا كان الأمر كذلك فارتقب يوم تأتى السماء بدخان بين ظاهر، أمروا بأن ينتظروا اليوم الذي يثار فيه عليهم الغبار الذي يغشى الناس ويحيط بهم وهذا عذاب أليم بلا شك. وهل هذا اليوم لقريش في الدنيا؟ والمراد بالغبار جوع وفقر؟ أو غبار الحرب في يوم بدر أم المراد بذلك اليوم يوم القيامة وعذابها الذي يحيط بكل كافر وهم أولهم؟ الله أعلم. ويقولون: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، فلما كشفنا عنهم العذاب إذا هم يرجعون إلى ما كانوا عليه، ولم يذكروا هذا العذاب، وأنى لهم الذكرى؟ ويقولون: ربنا اكشف عنا العذاب إنا مؤمنون، فلما كشفنا عنهم أعرضوا عن النبي وآياته الظاهرة، وقالوا: إنما يعلمه بشر، وقد أعانه على هذا القرآن قوم آخرون، ومنهم من كان يقول: إنه مجنون، وهذا يؤيد من يقول: إن الآيات نزلت في قريش. إنا كاشفو العذاب قليلا: إنكم عائدون إلى الكفر، فهم قوم لا يوفون بالعهد، بل هم في حال الشدة يتضرعون إلى الله فإذا نجاهم وزال الخوف عنهم عادوا إلى الكفر وتقليد الآباء في الشرك. واذكر يوم نبطش البطشة الكبرى يوم القيامة يوم يأخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر بلا هوادة ولا رحمة، إن بطش ربك لشديد، وإن انتقامه لقوى بالغ، وهذا تهديد لهم وأى تهديد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 412 ولقد رأيت أن الله عظم القرآن في هذه الآية بأمور منها: 1- أقسم به، والله لا يقسم إلا بالعظيم من خلقه. 2- أنه أقسم به على أنه أنزل في ليلة مباركة. 3- وصفه بكونه مبينا. 4- الغاية منه إنذار البشر ليخرجوا من الظلمات إلى النور. 5- كان إنزاله رحمة من الله، وتبعا لحاجة المحتاجين، إذ هو السميع العليم رب السماء والأرضين. ما لهم لا يعتبرون بفرعون وقومه؟ [سورة الدخان (44) : الآيات 17 الى 33] وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 413 المفردات: فَتَنَّا: بلوناهم واختبرناهم كَرِيمٌ المراد: جامع لخصال المحامد والمنافع أَدُّوا: أطلقوا بنى إسرائيل وَأَنْ لا تَعْلُوا: وأن لا تستكبروا مستهينين بوحيه عُذْتُ: التجأت تَرْجُمُونِ: ترموني بالحجارة، أو المراد تؤذوني فَاعْتَزِلُونِ: كونوا بمعزل عنى. فَأَسْرِ: سر ليلا بعبادي. رَهْواً: ساكنا كما هو، أو ذا فرجة واسعة وَنَعْمَةٍ النعمة: التنعيم، والنعمة اليد والضيعة وما أنعم به عليك، وقيل: لا فرق بين النعمة والنعمة، والأولى تفسيرها بالشيء المنعم به لأنه أنسب لقوله: كم تركوا فاكِهِينَ أى: أصحاب فاكهة، وقرئ فكهين، بمعنى: أشرين بطرين ومستخفين مستهزئين مُنْظَرِينَ: ممهلين. المعنى: وبالله لقد فتنا قبل مشركي قريش قوم فرعون: وبلوناهم بالسيئات والحسنات، وفعلنا «1» معهم فعل المختبر الذي يريد أن يعرف حقيقة الشيء، وكانت فتنتهم بزيادة الرزق والتمكين في الأرض وإرسال الرسل، وكان من جملة ما امتحنوا به أن جاءهم رسول كريم هو موسى الكليم- عليه السلام- فما لكم يا كفار مكة لا تتعظون بما حل بغيركم؟ ما لكم لا تثوبون لرشدكم وتعلمون أن سنة الله مع الأمم كلها لا تختلف؟! ولقد جاء آل فرعون نبي الله موسى، وهو رسول كريم على الله: كريم في نفسه لأنه جمع خصال المحامد والمنافع، جاءهم فقال: أدوا إلى بنى إسرائيل، وأطلقوهم وفكوا سراحهم فهم عباد الله لا عبادكم، فاستعبادكم لهم ظلم كبير، وقيل المراد: أدوا   (1) وعلى ذلك فيكون في قوله: تعالى (فتنا) استعارة تبعية حيث شبه الابتلاء والاختبار بالفتنة.. إلخ إجراء الاستعارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 414 إلى حقوق الله بالإيمان الصادق يا عباد الله وهو شامل للقبط ولبنى إسرائيل فإنى لكم رسول من الله أمين، وأطالبكم بألا تعلوا على الله ولا تتكبروا على طاعته لأنى آتيكم بحجة قوية وسلطان مبين وبرهان قاطع على صدقى فاسمعوا إلى وآمنوا بي. وقبل أن يخبره الله بأنه حافظه ومانعه من الناس فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ «1» قال موسى: وإنى عذت بربي وربكم والتجأت إليه حتى يحفظني من أن ترجمونى بالكذب أو بالحجارة أو تؤذوني بأى نوع كان، وقد حفظه الله منهم ونجاه من كيدهم كما سيأتى. وإن لم تؤمنوا بالله لأجل برهاني وتعاليمى التي أثبتها لكم فاعتزلوني واتركوني حرا أدعو الناس إلى الله، ولهذا جاءت الرسل كلها لتوجد الحرية في الناس فيكونوا أحرارا من أنفسهم وشهواتهم ودنياهم وأحرارا في عبادتهم لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ «2» . وبعد أن أصروا على تكذيبه دعا ربه فقال: إن هؤلاء الناس قوم مجرمون تناهى أمرهم في الكفر والبهتان، وأنت أعلم بهم، فافعل معهم ما يستحقون بإجرامهم فقال الله له: أسر بعبادي- بنى إسرائيل ومن آمن من القبط- ليلا لا نهارا إنكم قوم متبعون ومطاردون من فرعون وجنده إذا علموا بخروجكم فسيتبعونكم للإيقاع بكم. فلما ساروا وعبروا البحر من جهة السويس أمر موسى بأن يترك البحر كما هو ساكنا لوجود الطريق وسطه، أو ذا فرجة واسعة بسبب الطريق فيه، أى: اترك يا موسى البحر كما هو، ولا تضربه بعصاك حتى يرجع كما كان، فإن الله يريد أن يسيروا وراءكم في طريق البحر حتى إذا توسطوا فيه أغرقهم إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ يا حسرتا على القوم الكافرين! يا ويلهم كم تركوا بمصر من جنات وعيون وزروع ومقام كريم، وقصور ومجالس للسمر والمتعة، وكم تركوا من نعمة كانوا فيها أصحاب فاكهة، وكانوا فيها أشرين بطرين مستخفين مستهزئين لا يقومون بالشكر لصاحب تلك النعمة. الأمر كذلك، أو مثل ذلك الذي فعلناه بفرعون وقومه نفعل مع كل جبار عنيد لا يؤمن بالله ولا باليوم الآخر ولا يؤمن برسوله الذي أرسل إليه، نفعل هذا معهم ولو كانوا أمة بل أمما.   (1) - سورة القصص آية 35. (2) - سورة البقرة آية 256. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 415 وأورثنا أرضهم وديارهم قوما آخرين غيرهم وهل هم بنو إسرائيل أو غيرهم؟ الله أعلم، وإن كان التاريخ لا يثبت أن الإسرائيليين حكموا مصر، ولما هلك فرعون وآله وأشراف قومه وجنده فما بكت عليهم أهل السماء ولا أهل الأرض «1» هوانا بهم ولعدم الاكتراث لهم، وما كانوا منظرين في هذا بل حقت عليهم- لما أساءوا- كلمة ربك بالعذاب الشديد. ولقد نجينا بنى إسرائيل من ظلم المصريين من العذاب المهين من فرعون وعمله فإنه كان يسومهم سوء العذاب يذبح أبناءهم ويستحيى نساءهم إنه كان عاليا متكبرا من المسرفين المتجاوزين الحدود في الشر والفساد. ولقد اخترناهم واصطفيناهم وشرفناهم بإرسال الأنبياء منهم وجعل الملوك فيهم على علم منا باستحقاقهم ذلك ما داموا ينعمون بنعم الدين ويتمتعون بالعمل كما يأمر الله ويرضى، اخترناهم على علم منا وبصر على العالمين، أى: عالمي زمانهم لا كل العالم إذ أمة محمد خير أمة أخرجت للناس. وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء لهم واختبار «وبلوناهم بالحسنات والسيئات» فانظروا يا آل مكة كيف فعل الله بفرعون وآله وهم أشد منكم قوة وأكثر مالا وأولادا، وعلما وحضارة؟! وانظروا كيف نجى موسى من فرعون ذي البطش والجند والسلطان؟! نعم العاقبة للمتقين والنصر في النهاية للمؤمنين الصابرين. إنكار البعث والرد عليهم [سورة الدخان (44) : الآيات 34 الى 50] إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)   (1) والظاهر أن هذا كناية عن أنهم لم يكونوا يعلمون عملا صالحا ينقطع بموتهم فتبكى الأرض أى أهلها، ولم يكن يصعد إلى السماء شيء من عملهم حتى إذا انقطع بموتهم بكت السماء أى أهلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 416 المفردات: بِمُنْشَرِينَ: بمبعوثين، يقال: نشر الله الموتى وأنشرهم: إذا بعثهم تُبَّعٍ يقول القرطبي نقلا عن السبيلى: تبع اسم لكل ملك من ملوك اليمن والشحر وحضر موت- والظاهر أن الله- سبحانه- يتكلم عن واحد منهم كان معروفا عند العرب- يَوْمَ الْفَصْلِ: هو يوم القيامة، وسمى بذلك لأنه يفصل فيه بين الناس مؤمنهم وكافرهم وبرهم وفاجرهم مَوْلًى المولى: يطلق على السيد وعلى العبد، وعلى ابن العم وعلى الناصر والقريب والصديق الزَّقُّومِ: شجرة الزقوم هي الشجرة الملعونة التي أنبتها الله في قعر جهنم الْأَثِيمِ: صاحب الإثم كَالْمُهْلِ المهل: هو عكر الزيت والقطران ومذاب النحاس أو غيره من المعادن الْحَمِيمِ: الماء الساخن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 417 فَاعْتِلُوهُ: جرّوه وسوقوه بشدة وعنف. سَواءِ الْجَحِيمِ: وسط الجحيم تَمْتَرُونَ: تشكون. الكلام من أول السورة مع مشركي مكة وقد تخلله ذكر قصة فرعون وقد ظهر فيها إصرارهم على الكفر والعناد، وكيف كانت عاقبتهم؟ ليبين لكفار مكة أنهم يشبهون قوم فرعون في إصرارهم على الكفر وأن عاقبتهم ستكون مثلهم. وبعد ذلك عاد إلى الكلام الأول الذي يدور حول نقاش المشركين في معتقداتهم بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ. المعنى: إن هؤلاء- والإشارة للتحقير- أى: كفار مكة ليقولون: إن هي إلا موتتنا الأولى، وما نحن بمبعوثين، كان يقال لهم: إنكم ستموتون موتة يعقبها حياة كما تقدمتكم موتة أعقبها حياتكم هذه رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فقالوا ردا على هذا: نسلم لكم أن لنا موتة تعقبها حياة لكن المراد بها الأولى فقط وهي حياتنا هذه بعد موتنا في ظهور آبائنا، أما الموتة التي بعد انقضاء الأجل فليس بعدها حياة. وما نحن بعدها بمبعوثين في حياة أخرى فكأنهم قالوا: إن هي إلا حياتنا الدنيا. ثم إنهم احتجوا على عدم البعث ونفى الحشر والنشر فقالوا: إن كان هذا حقا فأحيوا لنا من مات من آبائنا لنسأله عن دعواكم هذه، تلك شبهة واهية لم يعن القرآن بردها، وإنما أشار إشارة خفية إلى أن هؤلاء الناس قوم مغرورون بدنياهم وما هم فيه فضرب لهم الأمثال بقوم تبع ومن هم أشد منهم قوة وأكثر جمعا ومن هم أشد في إثارة الأرض وعمارتهم، لأن هذا الغرور يمنعهم من التفكير السليم فيما وراء الحياة الدنيا. أهم خير وأشد قوة ومنعة أم قوم تبع في اليمن؟ بلاد الزرع والضرع والقوة والمنعة، هؤلاء أهلكناهم لما طغوا وبغوا وكفروا برسلهم، ومثلهم قوم عاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد، وقوم فرعون ذي الأوتاد أين هؤلاء منهم؟ فاحذروا يا آل مكة عاقبة كعاقبة هؤلاء أو أشد!! وكيف ينكرون البعث والآيات كلها شاهدة بذلك، وهذه السماء والأرض وهذا الكون كله شاهد عدل على وجود إله حكيم عليم قوى خبير عادل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 418 في حكمه ما خلق هذا الخلق عبثا، ويستحيل أن يتركه هملا بل لا بد من يوم يحاسب فيه كل إنسان على ما قدم، ويثاب عن عمله، وخالق هذا الكون يستحيل عليه أن يسوى بين الظالم والمظلوم، والمؤمن والكافر والطائع والعاصي، بل لا بد من يوم الفصل، وليس الأمر بالهزل، وهذه الدنيا المحفوفة بالمكاره، القصيرة الأجل، الكثيرة الألم هي دار عمل، وليست دار جزاء وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا «1» ما خلقناهم إلا متلبسين بالحق، وما خلقناهم إلا لإظهار الحق وإثابة كل عاص وطائع لأن هذا من أقوى دعائم الحق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وهذا هو الكلام على يوم الفصل وما فيه، وبدأ بالكلام على الأهوال التي يصادفها العصاة والكفار لعلهم يرتدعون. إن يوم الفصل ميقات الناس جميعا، وإن يوم الفصل والقضاء بالعدل بين المسيء والمحسن والطائع والعاصي حتى يكون فريق في الجنة وفريق في السعير لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ «2» . وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ «3» فهذا هو يوم الفصل، يوم لا يغنى مولى عن مولى شيئا. يوم لا ينفع فيه ابن والده ولا يجزى والد عن ولده، يوم لا ينفع مال ولا بنون، ولا صديق حميم وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَلا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ «4» إلا من رحمة الله تعالى بالعفو عنه وقبول الشفاعة فيه لا يمنع من العذاب إلا من رحمه الله إنه هو العزيز الرحيم لمن أراد رحمته. إن الشجرة الملعونة في القرآن هي شجرة الزقوم وهي طعام الآثمين العصاة وهي شجرة تنبت في قعر جهنم، فإذا جاع أهل جهنم التجأوا إليها فأكلوا منها، فيغلي الأكل في بطونهم كما يغلى الماء الحار، وهذا الأكل كالمهل، وهو يغلى في البطون كغلي الحميم، ثم يقال لزبانية جهنم: خذوه فجروه جرّا بعنف وشدة، خذوه فجروه إلى وسط جهنم ثم صبروا فوق رأسه عذابا وهو الحميم، ويقال للكافر حينئذ: ذق هذا إنك أنت العزيز الكريم، يقال له هذا تقريعا وتوبيخا على ما كان يزعمه وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً «5» ثم يقال لهم: إن هذا العذاب وما أنتم فيه الآن هو ما كنتم فيه تمترون وتشكون!!   (1) - سورة ص آية 27. (2) - سورة الممتحنة آية 3. (3) - سورة الروم آية 14. (4) - سورة البقرة آية 123. (5) - سورة الكهف آية 36. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 419 هؤلاء هم المتقون يوم القيامة [سورة الدخان (44) : الآيات 51 الى 59] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَوَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59) المفردات: مَقامٍ: مكان، والمقام: المكان سُندُسٍ السندس: ما رق من الديباج وَإِسْتَبْرَقٍ: ما غلظ منه بِحُورٍ الحور: هو البياض، والحور: جمع حوراء وهي المرأة البيضاء التي يرى ساقها من وراء ثيابها، وقيل: الحور: شدة بياض العين في شدة سوادها عِينٍ: جمع عيناء، وهي الواسعة العظيمة العينين يَسَّرْناهُ: سهلناه بلغتك فَارْتَقِبْ: انتظر. لما ذكر مستقر الكافرين ونهايتهم ذكر نزل المؤمنين وما أعد لهم، ثم ختم السورة بالكلام على القرآن كما بدأها به ليعلم الكل أن الخير في اتباعه مع سهولة ويسر، وأن الشر في اجتنابه والبعد عنه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 420 المعنى: إن المتقين في مقام أمين، يأمنون فيه على أنفسهم من كل شر فهم آمنون لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وكفاهم سلامة وأمنا في جوار العزيز الرحمن، وهم مع إخوانهم متقابلون متسامرون، قد نزع الله ما في قلوبهم من غل وحسد فهم دائما متقابلون. الأمر كذلك، أو كما أدخلناهم الجنة وفعلنا بهم ما تقدم ذكره كذلك أكرمناهم بأن زوجناهم حورا عينا، كأنهن الياقوت والمرجان، حور مقصورات في الخيام، لم يطمثهن قبلهم إنس ولا جان، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟! يدعون الخدم في الجنة ويطلبون منهم كل فاكهة آمنين من كل أذى أو مكروه، وهم في الجنة خالدون، لا يذوقون فيها الموت أبدا، لكن الموتة الأولى قد ذاقوها في الدنيا، وأعطاهم ربك ما عرفت ووقاهم عذاب الجحيم الذي يصلى به كل فاجر أثيم، فعل ذلك بهم ربك تفضلا منه وإحسانا عليهم، ذلك الجزاء هو الفوز العظيم لا غير، وذلك فضل الله وتوفيقه يؤتيه من يشاء، وهذا الكتاب المبين الذي أنزل في ليلة مباركة شأنه شأن الكتب التي تأتى مع الرسل رحمة بالعباد، فيا محمد ذكر بالكتاب المبين قومك فإنا سهلنا عليك تلاوته وتبليغه إليهم إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ «1» . وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «2» . ذكرهم به واقرأه عليهم لعلهم يتذكرون ويتعظون، فإن لم يتعظوا ولم يؤمنوا فارتقب هلاكهم وارتقب نصرك الذي وعدناك إنهم مرتقبون، وتوكل على العزيز الرحيم، فالله معك وناصرك وعاصمك من الناس، وهو على كل قدير.   (1) - سورة القيامة الآيات 17- 19. (2) - سورة القمر آية 33 وآية 40. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 421 سورة الجاثية مكية على الصحيح. وهي سبع وثلاثون آية. وهي كأخواتها من السور المكية، في الكلام على التوحيد وإثبات البعث والنبوة وغير ذلك مما يفتح القلوب الغلف، وتمتاز هذه السورة بأنها اتجهت نحو بيان آيات الله الكونية كدليل على قدرة الله ووحدانيته وإمكان البعث، وتصديق أن القرآن كلام الله. تلك بعض آياته الدالة عليه [سورة الجاثية (45) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ وَما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَتَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) المفردات: وَما يَبُثُّ: ينشر ويفرق رِزْقٍ: مطر هو سبب في الرزق تَصْرِيفِ الرِّياحِ: تقليبها وتحويلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 422 المعنى: حم. تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم لا من عند غيره إذ لو كان من عند غيره ثم نسبه إليه جل شأنه لخسف به وبداره الأرض لأنه هو العزيز الغالب الذي لا يعجزه شيء في السموات ولا في الأرض وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ [سورة الحاقة الآيات 44- 47] . وكيف يكون من غيره؟ وهو في منتهى الحكمة والضبط ونهاية الإعجاز وبلوغ القصد في كل نواحيه، فهو حقا من حكيم عليم، ولا يمكن أن يكون من إنسان أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً [سورة النساء آية 82] تلك دلائل دالة على أن هذا القرآن تنزيله من الله العزيز الحكيم. إن في عالم السماء وعالم الأرض لآيات دالة على وجود الله وأنه متصف بكل كمال ومنزه عن كل نقص، وأنه سبحانه هو الواحد القهار، وتلك آيات ينتفع بها المؤمنون وإن كانت لكل الناس أجمعين هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ. [البقرة 185] وإن في خلقكم أيها الناس من تراب ثم من نطفة قذرة فعلقة فمضغة إلى أن صار الواحد إنسانا حيا كاملا، وفي خلق ما يبثه الله في الأرض وينشره من دابة تدب على الأرض لآيات وشواهد صدق على وجود الله ووحدانيته، ولكن لقوم يوقنون. وإن في اختلاف الليل والنهار بالطول والقصر، وتعدد مشارق الشمس ومنازلها واختلاف الفصول بسبب خطوط العرض والطول، وفي اختلاف الليل والنهار بحلول كل مكان الآخر، وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها بالنبات الأخضر اليانع، والثمر المختلف الأنواع والألوان والأشكال، وتصريف للرياح وتقليبها من حارة إلى باردة، من شمالية إلى جنوبية، أليس كل ذلك آيات ناطقة على وجود الله وقدرته ووحدانيته؟! ولكن لقوم يعقلون. ولعل سائلا يسأل ويقول: ما بال القرآن الكريم قال أولا: آيات لقوم يؤمنون، ثم لقوم يوقنون، ثم لقوم يعقلون؟ وهل لهذا حكمة أم لا؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 423 بلا شك هذا الاختلاف لحكم إلهية، لحكم عالية تدل على الكثير، ولقد تعرض لهذا كثير من فطاحل العلماء، ولعل المناسب أن نقول كما في حاشية زادة على تفسير البيضاوي بتصرف: دلالة السموات والأرض على وجود الصانع والإيمان به ظاهرة واضحة. وأدق منها وأعلى مرتبة خلق الإنسان وتحوله من حال إلى حال، وخلق الحيوان الذي لا يعلم جنسه وعدده إلا خالقه، والنظر في هذا يحتاج إلى عمق في التفكير ودقة في البحث وشمول في الملاحظة، عند ذلك يحصل الناظر على مرتبة أعلى وهي مرتبة اليقين آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ وأدق من هاتين النظر في الليل والنهار وحلول أحدهما مكان الآخر بانتظام واختلافهما بالطول والقصر، والنظر في المطر الذي ينزل من السحاب كيف يتكون؟ وكيف ينزل؟ وما يترتب على نزوله من حياة الإنسان والحيوان، وحياتهما حياة للأرض الميتة، وهذه الرياح المتقلبة التي تأتى تارة بالحرارة وتارة بالبرودة، ومرة شمالية وأخرى جنوبية أو غربية، من الذي صرف هذا كله؟ ومن الذي سخر هذا كله وكيف ذلك؟ لا شك أن النظر إلى هذا، والوقوف على سره العجيب لا يتأتى إلا لمن كان له قلب يعقل، وعين تبصر، وأولئك هم الذين يعقلون ولذا قال: آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ. تلك آيات الله الكونية، وآياته القرآنية نتلوها عليك يا رسول الله بالحق لا شك فيها ولا لبس ولا تغير، بل هي آيات بينات وحجج واضحات، وما يعقلها إلا العالمون، وأما أنتم يا أهل مكة فبأى حديث بعد هذا الحديث الذي أنزل الله وبأية آية بعد هذه الآيات تؤمنون؟!! الويل لكل أفاك أثيم [سورة الجاثية (45) : الآيات 7 الى 11] وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَلا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10) هذا هُدىً وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 424 المفردات: أَفَّاكٍ الأفاك: الكذاب، من الإفك. وهو الكذب مُسْتَكْبِراً: متعاظما مُهِينٌ: من الإهانة، أى: عذاب مخز مذل رِجْزٍ الرجز: أشد أنواع العذاب، وقيل: هو القذر كالرجس. وهذا هو الوعيد الشديد لمن ظهرت له الآيات ظهورا تاما ومع هذا كفر وكذب على الله. المعنى: الويل والثبور، والهلاك الشديد- وقيل: الويل واد في جهنم- لكل أفاك أثيم، أى: كذاب كثير الآثام مبالغ في اقترافها مع الإصرار عليها، وهذا الأفاك الأثيم له حالتان الأولى: أنه يسمع آيات الله الدالة على وحدانيته وقدرته دلالة واضحة أظهر من الشمس في رابعة النهار، هذه الآيات تتلى عليه ثم يصر «1» مستكبرا كأنه لم يسمعها. يا عجبا لهذا!! يسمع آيات الله ثم يصر على التعاظم عليها والكفر بها كأنه لم يسمعها، ومن كان كذلك فبشره بعذاب مؤلم غاية الألم. روى أنها نزلت في النظر بن الحارث: كان يشترى أحاديث الأعاجم ويؤجر القيان ويدعو الناس إلى الاستماع والتمتع ليصرفهم عن استماع القرآن ، وفي الواقع الآية تشمل كل كافر بالله والقرآن.   (1) الإصرار على الشيء: ملازمته وعدم الانفكاك عنه، وثم هنا للترتيب الرتبى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 425 الحالة الثانية: أن ينتقل من مقام الإصرار على التكذيب والاستكبار إلى مقام الاستهزاء بالآيات فقد روى أن أبا جهل حين سمع قوله تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ [سورة الدخان الآيتان 43، 44] قال: الزقوم زبد وتمر، وحين سمع أن جهنم عليهم تسعة عشر قال: إنى ألقاهم وحدي. وإذا علم من آياتنا شيئا، وعلم أنه منها بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلها، ولم يقتصر على الاستهزاء بما بلغه. أولئك- والإشارة إلى كل أفاك أثيم مصر على الكفر مستهزىء بآيات الله- لهم عذاب ذو إهانة تتكافأ مع استكبارهم واستهزائهم، فالجزاء من جنس العمل، ومن ورائهم «1» جهنم، ولا يغنى عنهم ما كسبوا شيئا من الأموال والأولاد فتلك مواقف لا ينفع فيها مال ولا بنون، بل يفر المرء فيها من أمه وأبيه وصاحبته وبنيه، لكل امرئ منهم يومئذ شأن يغنيه. ولا يغنى عنهم ما اتخذوهم أولياء من دون الله كالأصنام وسائر المعبودات الباطلة، ولهم في جهنم عذاب عظيم لا يعرف قدره أحد من الخلق. يا قوم هو القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، هذا هو القرآن يهدى للطريقة التي هي أقوم، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات، وأما الذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب مؤلم للغاية، عذاب من أشد أنواع العذاب وأقساها. فيا ويلكم أيها الكفار! ويلكم أيها الأفاكون والآثمون، وسلام على عباده الذين اصطفى والحمد لله رب العالمين. من فضل الله علينا [سورة الجاثية (45) : الآيات 12 الى 15] اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)   (1) الوراء: اسم للجهة التي توارى بها الشخص من خلف أو قدام، وهنا المراد من قدامهم لأنهم متوجهون إليها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 426 المعنى: الله- سبحانه وتعالى- صاحب الفضل على الخلائق. ورب النعم على العباد، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها، فهو الذي سخر لكم البحر وذلله بأن جعل فيه الاستعداد لأن تجرى الفلك فيه بأمره، فهو الذي خلق فيه قوة الضغط وجعله سائلا تجرى على صفحته السفن، وأرسل الرياح تدفعها إلى حيث يريد الإنسان، كل هذا لتبتغوا من فضل الله بالتجارة والانتقال من مكان إلى آخر، ولعلكم مع هذا تشكرون ربكم الذي أنعم عليكم ولا تكفرون. وهو الذي سخر لكم ما في السموات وما في الأرض جميعا منه، وها هو ذا الإنسان بما أودع فيه من قوة العقل والتفكير استخدم الطبيعة في أغراضه وسخرها لمنافعه وأصبح يشارك السمك في الماء والطير في الهواء والأصداف في قاع البحار، إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون، وينظرون. قل يا محمد للذين آمنوا بربهم، واهتدوا بنوره السماوي، قل لهم: يغفروا للذين لا يرجون لقاء الله يوم القيامة، فمن عفا وأصلح فأجره على الله، يغفر لهم سيئاتهم ليجزيهم الله على ذلك أحسن الجزاء، وليجزي قوما أساءوا غيرهم بلا ذنب ولا جريرة إلا أنهم يقولون ربنا الله ليجزيهم بما كانوا يكسبون، وعلى هذا فالذين أساءوا هم الكفار، وسيجزيهم ربك يوم القيامة، فالكل خاضع لقانون عام هو: من عمل صالحا فلنفسه بغى الخير وسيجازى على معروفه، ومن أساء وارتكب الآثام فعلى نفسه وحدها وقع الجزاء، ثم بعد ذلك إلى ربكم ترجعون فتجزون الجزاء الأوفى، إن خيرا فخير وإن شرا فشر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 427 تحذيرهم من أن يكونوا كبني إسرائيل وأمرهم باتباع شريعة القرآن [سورة الجاثية (45) : الآيات 16 الى 22] وَلَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَفَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَآتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَلا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 428 المفردات: وَالْحُكْمَ: الفهم والقضاء شَرِيعَةٍ الشريعة: ما يرده الناس من المياه والأنهار «1» بَصائِرُ: جمع بصيرة، والمراد الدلالة الواضحة والحجة القائمة. وهذه نعم خاصة بعد النعم العامة تتعلق ببني إسرائيل، ومع ذلك لم يشكروا بل اختلفوا في أمر الدين بعد ما جاء العلم بحقيقة الحال على سبيل البغي والحسد، فكذلك كفار قريش جاءتهم أدلة واضحة قوية ثم أصروا على الكفر وأعرضوا عداوة وحسدا وبعد ذلك أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم باتباع الشريعة الغراء ومخالفة من يتبعون أهواءهم. المعنى: لقد آتينا بنى إسرائيل الكتاب الشامل للتوراة والإنجيل والزبور، وآتيناهم الحكمة والفهم السليم، والحكم بين الناس بما أنزل الله، وآتيناهم النبوة فقد كانت النبوة فيهم إلى أن ظهر النبي صلّى الله عليه وسلّم من نسل إسماعيل. وتلك نعم تتعلق بالدين، وهاك ما يتعلق بالدنيا من النعم: رزقهم ربك رزقا طيبا حلالا لا إثم فيه فأورثهم أموال فرعون وديارهم، ثم أنزل عليهم المن والسلوى، وجعل منهم الملوك والحكام، وفضلهم بهذا على عالمي زمانهم فكانوا أكبر درجة وأرفع منقبة ممن عاصرهم. أتاهم ربك ببينات في أمور دينهم ودنياهم، فكانوا على بصر وبصيرة، وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم الذي كان المفروض أن يكون سبب هداية لا سبب اختلاف، وما كان اختلافهم إلا بغيا وحسدا لا لتقصير في الحجة وضعف في البرهان. فبنو إسرائيل كانوا على بينة من أمر شريعتهم وأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم فالبشارة به وصفاته كانوا على ذكر منها، وما اختلفوا معه وكفروا به إلا من بعد ما جاءتهم حقائق النبوة الصادقة على يد محمد صلّى الله عليه وسلّم وَكانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ «2» إن ربك يقضى بينهم يوم القيامة   (1) - ثم استعير ذلك للدين لأن العباد يردون فيه ما تحيا به نفوسهم. (2) - سورة البقرة آية 89. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 429 فيما كانوا فيه يختلفون مع النبي وصحبه، وعلى هذا فصاحب النعم يجب ألا يغير بما عنده من نعم مهما كانت، بل دائما يراقب الله، ويعلم أن ما أوتى من خير فعليه شكره لا كفره. ولما بين الله- تعالى- إعراض بنى إسرائيل عن الحق لأجل البغي والحسد أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يعدل عن تلك الطريقة، وأن يتمسك بالحق فقط فقال: ثم جعلناك يا محمد أنت وأمتك على شريعة من الأمر، أى: على طريق واضح، ومنهل عذب ومورد كريم، به تحيا النفوس كما تحيا الأجساد بالماء، فاتبعها فإنها شريعة الحق والعدل والخير في الدنيا والآخرة، إنها شريعة ثابتة مؤيدة بالحجة والبرهان القوى، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون، فإنهم لا حجة معهم ولكنها جهالات وأهواء ليست على أساس. إنهم لن يغنوا عنك من عذاب الله شيئا، ولن يدفعوا عنك ألما، وإن الظالمين بعضهم أولياء بعض، أما المسلمون فالله وليهم وهو هاديهم يخرجهم من الظلمات إلى النور، وإذا كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يهدده ربه بأنه لن ينفعه أحد لو انحرف عن الشريعة فما بالنا نحن؟! هذا القرآن بصائر للناس، ففيه دلائل واضحة تبين لهم المعالم وتهديهم إلى الخير بمنزلة البصائر في القلوب التي تنير الطريق لصاحبها، وهو هدى ورحمة ولكن لقوم يوقنون. بل أحسب الذين اكتسبوا الآثام واقترفوا الذنوب أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات، لا ينبغي أن يكون ذلك ولا يصح أن نسوى بينهم في شيء، أحسبوا أن نجعلهم مثل الذين آمنوا وعملوا الصالحات مستويا حياتهم ومماتهم، ألا ساء ما يحكمون! وهذا تهديد عام لكل من خرج على الدين، ولم يمتثل أمره، بأنه ليس من العدل أن يسوى بينه وبين من سار على الصراط المستقيم، والله جل شأنه خلق السموات والأرض بالحق، ولو لم يوجد دارا أخرى للثواب والعقاب لما كان خلقه السموات والأرض بالحق، فإن العالم فيها بين غنى وفقير، ومريض وصحيح، وفرح ومحزون، فلا بد إذن من حياة يثاب فيها المؤمن على إيمانه في الدنيا، فربما كان فيها فقيرا مريضا ممتحنا بالبلاء ولقد صدق الله حيث يقول: خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ، وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ، وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ «1» فلو ترك الظالم الذي ظلم غيره في الدنيا، ولم   (1) - سورة الجاثية آية 22. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 430 يقتص من الظالم في الحياة الأخرى لما كان خلقه السموات والأرض بالحق، وعلى ذلك فمعنى الآية: خلق الله السموات والأرض لإظهار الحق ولتجزى كل نفس بما كسبت، وهم لا يظلمون، فالمقصود من خلق السموات والأرض وما فيهما إظهار العدل والرحمة وذلك لا يتم إلا إذا حصل البعث، وكان يوم القيامة الذي يفصل فيه بين المحق والمبطل. بعض سيئاتهم وجزاؤهم عليها يوم القيامة [سورة الجاثية (45) : الآيات 23 الى 35] أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (23) وَقالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا وَما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31) وَإِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْواكُمُ النَّارُ وَما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 431 المفردات: هَواهُ: ما تهواه نفسه وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ: وضع عليه الخاتم غِشاوَةً: غطاء حتى لا يبصر الدَّهْرُ: اسم لمدة وجود العالم من يوم مبدئه إلى انقضائه، ويطلق على كل مدة كثيرة، والزمان يقع على المدة القليلة والكثيرة جاثِيَةً: مستوفزة، والمستوفز: الذي لا تصيب الأرض منه إلا ركبتاه وأطراف أنامله يَنْطِقُ: يشهد ويبين نَسْتَنْسِخُ: نجعلها تنسخ وتكتب وَبَدا: ظهر وَحاقَ: أحاط بهم وحل هُزُواً: مهزوءا بها يُسْتَعْتَبُونَ: يطلب منهم العتبى. المعنى: انظر أفرأيت من اتخذ إلهه هواه، وأضله على علم منه، وختم على سمعه وقلبه حتى لا تصل إليه موعظة، وجعل على بصره غشاوة تمنعه من الإبصار أفرأيت من هذه حاله أيهتدى «1» ؟!!   (1) في قوله: (أفرأيت من اتخذ إلهه هواه) مجاز مرسل حيث أطلق الرؤية وأراد الإخبار، فهو من إطلاق السبب وإرادة المسبب، وجعل الاستفهام بمعنى الأمر مجاز أيضا، والجامع مطلق الطلب في كل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 432 والمعنى: أخبرنى عن حال من اتخذ إلهه هواه، أى: ترك متابعة الهدى وطاوع النفس والهوى حتى كأنه يعبده!! فهذه حال تدعو إلى العجب، وكان الحارث بن قيس لا يهوى شيئا إلا ركبه، والعبرة من الآية بعموم لفظها. والنفس الإنسانية دائما تدعو إلى الشر، وتهدف إلى الضار، والإنسان يهوى ما فيه حتفه، ولهذا ذم القرآن دائما اتباع الهوى في غير موضع وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ [سورة الأعراف آية 176] . بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ [سورة الروم آية 29] . وعن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «لا يؤمن أحدكم حتّى يكون هواه تبعا لما جئت به» . أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وطار وراء ما تهواه نفسه، وقد خلقه الله ضالا عالما أنه من أهلها، ولا يصلح لغيرها، وختم على سمعه وقلبه فلم يعد يدخلهما نور من الوعظ والإرشاد، وجعل ربك على بصره غشاوة مانعة من الاعتبار ورؤية الآيات.. أفرأيت هذا الموصوف بتلك الصفات الأربع! فمن يهديه من بعد إضلال الله له؟ لا أحد يقدر على ذلك. أعميتم فلا تتعظون بهذا؟ وتعلمون الخير في الابتعاد عن الهوى والرجوع إلى طريق الهدى، وهذا يقتضى من الله التوفيق والهداية، وفتح السمع والقلب وتنوير البصائر حتى يمتلئ القلب بنور الحق، والله هو الهادي إلى سواء السبيل، وهو نعم المولى ونعم النصير. وانظر إلى بعض معتقداتهم الفاسدة حيث قالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا فقط ولا حياة بعدها، ونحن نحيا فيها ونموت، ويحييا بغضنا ويموت البعض الآخر، وليس موتنا من طريق الخالق يتوفى أرواحنا بسبب ملك الموت، بل ما يهلكنا إلا الدهر فقط، فإذا طال عمرنا، وضعفت قوانا ماتت أجسادنا وحدها وصرنا إلى فناء ليس بعده حياة، وما لهم بذلك من علم يقيني، إن هم إلا يظنون ظنا لا أساس له من حجة ولا سند له من دليل، وكان المشركون أصنافا منهم من يشك في البعث، ومنهم من يجزم بعدم وجوده، وانظر إليهم، إذا تتلى عليهم آياتنا الناطقة بالحق والصادرة من رب الخلق، حالة كونها بينات واضحات تدل دلالة واضحة على قدرة الله على البعث وإحياء الموتى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 433 كما خلقهم، ما كان لهم من شبهة- وقد سماها حجة لتمسكهم بها- هي في الواقع أوهى من بيت العنكبوت، إلا أن قالوا: ائتوا بآبائنا الذين ماتوا حتى نسألهم عما تقولون، ائتو بهم إن كنتم يا أتباع محمد صادقين. وقد رد الله عليهم بقوله: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ ووجه الرد أنهم مقرون بأن الله أحياهم أولا ثم يميتهم ثانيا كما دلل على ذلك بالحجج والبراهين في غير هذا الموضع، ومن قدر على جمعهم يوم القيامة وخاصة بعد ما ثبت أن مبدأ الثواب والعقاب أمر ضروري توجيه الحكمة والعدالة الإلهية، وهذا اليوم لا ريب فيه في الواقع، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. وكيف يستبعدون البعث أو يشكون فيه؟ ولله ملك السموات والأرض وحده لا شريك له يحيى ويميت، ويبدئ ويعيد. ذو العرش المجيد، فعال لما يريد، ويوم تقوم الساعة يومئذ يخسر المبطلون منازلهم في جنات النعيم ليتمتع بها أصحابها المستحقون لها من المؤمنين. وترى يا من يتأتى منه الرؤية كل أمة باركة على الركب مستوفزة على هيئة المذنب الخائف المنتظر جزاءه، كل أمة تدعى إلى صحيفة أعمالها التي كتبتها الحفظة الكرام البررة، والتي أحصوا بها الأعمال، والمراد أن لكل فرد من أمة صحيفة. اليوم تجزون جزاء ما كنتم تعملون، ويقال لهم: هذا كتابنا ينطق عليكم نطقا بالحق الذي لا زيادة فيه ولا نقصان، ونطق الكتاب معناه شهادته عليهم بما عملوا لأنا كنا نأمر الملائكة ونطلب إليهم أن تنسخ الكتب وتكتب بالحق محصية أعمالكم بلا زيادة ولا نقصان. فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم جنات المأوى يدخلهم فيها ربهم، ذلك هو الفوز المبين الذي لا فوز وراءه. وأما الذين كفروا فيقال لهم تأنيبا وتوبيخا: ألم تكن تأتيكم رسلكم؟ أفلم تكن آيات ربكم تتلى عليكم؟ فاستكبرتم عن الإيمان بها وكنتم قوما مجرمين فالآن ادخلوا جهنم جزاء لكم ومصيرا، وإذا قيل لهم: إن وعد الله حق، وإن الساعة آتية لا ريب فيها، قلتم: نحن ما ندري ما الساعة؟ لا نظن إلا ظنا، وما نحن بمستيقنين إمكان الجزء: 3 ¦ الصفحة: 434 الساعة، وحين يجمعون ليوم الفصل تظهر لهم قبائح أعمالهم، ويبدو لهم خطأ رأيهم، وأنهم كانوا على ضلال مبين، ويومها يحيق بهم جزاء ما كانوا به يستهزئون من آيات الله. وقيل لهم: اليوم ننساكم كما نسيتم أنفسكم ولم تعملوا في الدنيا لإسعادها الآن، كما أنكم نسيتم لقاء يومكم هذا، ومأواكم النار، وما لكم من ناصرين. ذلكم العذاب الشديد بسبب أنكم اتخذتم آيات الله هزوا، وغرتكم الحياة الدنيا فحسبتم أنه لا حياة غيرها. فاليوم تجزون عذاب الهون. وأنتم لا تخرجون من النار ولا يطلب منكم أن تزيلوا عتب ربكم، وترضوه لأنكم في وقت الجزاء لا في وقت العمل. ختام السورة [سورة الجاثية (45) : الآيات 36 الى 37] فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37) هذه السورة الكريمة قد احتوت على آيات الله وآلائه، ونعمه وأفضاله، واشتملت على تعداد الآيات الكونية والبراهين الآفاقية، وأثبتت مبدأ الثواب والعقاب إلخ ما فيها من آيات بينات فلله الحمد والثناء الجميل والوصف الكريم الذي يستحقه من عباده لأنه رب السموات ورب الأرض، ورب العالمين، وله وحده جل شأنه الكبرياء والعظمة، وله كمال الذات وكمال الوجود، والتنزه عن كل نقص، والاتصاف بكل كمال، وله وحده الكبرياء التي تظهر آثارها في السموات والأرض، وهو العزيز الذي لا يغلب، القادر الذي لا يعجز، الحكيم في كل ما قضى وقدر، وأنزل ودبر. فله الحمد فاحمدوه وحده واعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وله الكبرياء فكبروه وعظموه- تبارك اسمه- وهو العزيز الحكيم فأطيعوه في كل ما أمر. ألست معى في أنه ختام للسورة رائع، وإنه لكتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 435 سورة الأحقاف وهي سورة مكية على الصحيح، وعدد آياتها أربع وثلاثون آية وتشتمل كغيرها من السور المكية على إثبات التوحيد ونفى الشركاء، وإثبات النبوة وصدق محمد صلّى الله عليه وسلّم فيما ادعاه عن ربه، ورد شبهاتهم في القرآن والنبوة، ثم تسلية النبي ببيان موقف الأولاد من آبائهم. وضرب الأمثال للمشركين بقوم هود وغيرهم، ثم بيان انقياد الجن له حتى يطمئن النبي صلّى الله عليه وسلّم، ثم بعد ذلك أثبت المعاد والبعث، وختم السورة بالنصيحة الغالية للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولكل من يقوم بالدعوة إلى الله. إثبات الوحدانية لله ونفى الشركاء [سورة الأحقاف (46) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 437 المفردات: وَأَجَلٍ مُسَمًّى المراد به: يوم القيامة. شِرْكٌ: شركة. أَوْ أَثارَةٍ أى: بقية من علم يؤثر ويروى، وفي كتب اللغة: أثر الحديث: ذكره عن غيره، ومنه حديث مأثور، وقولهم: جاء في الأثر. يَدْعُوا الدعاء: العبادة. المعنى: حم. تنزيل الكتاب- الكامل في كل شيء وهو القرآن- من الله العزيز الذي لا يغلب، الحكيم الذي يضع كل أمر في موضعه، وإذا كان الأمر كذلك فآمنوا بالقرآن على أنه من عند الله، وصدقوا بكل ما فيه، وآمنوا بأن محمدا نبي من عند الله وصادق في كل ما يدعيه من توحيد خالص، وإثبات للبعث والجزاء، ودعوة إلى الخلق الكامل والمثل العليا. ما خلقنا السموات والأرض وما بينهما من أصناف الخلق التي لا يعلمها إلا خالقها ما خلقنا هما في حال من الأحوال إلا في حال ملتبسة بالحق والحكمة والغرض الصحيح فلم تخلق هذه الدنيا العريضة عبثا، وليس من المعقول أبدا أن يترك هذا الخلق بلا حياة ثانية يجازى فيها المحسن على إحسانه، ويعاقب فيها المسيء على إساءته، إذ ليست الدنيا دار جزاء بل هي دار عمل، والله خلق السموات والأرض بالحق والحكمة، ومن الحق والعدل ومن مقتضيات الحكمة أن تكون هناك دار للجزاء وَخَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [الجاثية 22] . وما خلقهما ربك إلا بالحق وبتقدير أجل مسمى عنده وهو يوم القيامة، والحال أن الذين كفروا عما أنذروا به من هول ذلك اليوم وشدائده، الذي لا بد من الانتهاء إليه، والذين كفروا عما أنذروا به معرضون لا يؤمنون به ولا يهتمون ولا يعملون لأجله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 438 قل لهم يا محمد: أرأيتم ما تدعونهم من دون الله من الأصنام والأوثان والآلهة الكاذبة أرونى ما الذي خلقوه من أى نوع من الأنواع في الأرض «1» ؟!!. بل ألهم شركاء في السموات مع الله؟! لم يكن لهم شركاء في السماء، ولم يخلقوا شيئا مما في الأرض على اتساعها فكيف تعبدونهم من دون الله؟! أمعكم دليل عقلي واحد على خلقهم لشيء أو لشركتهم مع الله في شيء؟ الجواب: لا وإذا لم يكن دليل عقلي، فهاتوا دليلا نقليا أو ائتوني بكتاب أنزل من قبل هذا القرآن الذي يدعو إلى التوحيد الخالص من كل شوائب الشرك، ائتوني بكتاب من قبل القرآن نزل مؤيدا لما تدعون من وجود الشركاء لله أو ائتوني ببقية من علم أثر وروى لكم، يؤيد ما تذهبون إليه، إن كنتم صادقين! وهذا تحد سافر لهم مبطل لدعواهم الشركة مع الله. وهل هناك أحد أكثر ضلالا ممن يدعو من دون الله مالا يسمع ولا يبصر ولا يستجيب لدعواه؟ لا أحد أضل منكم يا من تدعون وتعبدون حجرا لا يسمع ولا يبصر ولا يستجيب لكم إلى يوم القيامة وهم- أى: الآلهة- عن دعاء الكفرة غافلون فلا يسمعون ولا يجيبون، لأنهم إن كانوا حجارة فهم لا يسمعون، وإن كانوا عقلاء كعيسى مثلا فهم مشغولون عنهم لا يلتفتون إلى باطلهم. لا أحد أكثر ضلالا من عبدة الأصنام حيث يتركون السميع البصير المجيب القادر على تحصيل كل بغية وطلب، ويدعون من دونه الجماد الذي لا يستجيب، ولا قدرة له على الاستجابة، ما دامت الدنيا وإلى أن تقوم القيامة، وإذا قامت القيامة وحشر الناس وبدا الصبح لذي عينين، وتفرد الواحد الأحد وقال: لمن الملك اليوم؟ فأجيب: لله الواحد القاهر! إذا حشر الناس كان الأصنام ومن عبد من دون الله أعداء للمشركين، وكانوا بعبادتهم كافرين وجاحدين، وتبرأوا منهم، ولكل منهم يومئذ شأن يغنيه، وتبارك اسم ربك ذو الجلال والإكرام.   (1) قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أرونى ماذا خلقوا من الأرض، في قوله: أرأيتم مجازان حيث أطلق الرؤيا وأراد الإخبار والعلاقة السبية، وفي استعمال همزة الاستفهام في الأمر كذلك مجاز إذ كل من الاستفهام والأمر يدل على الطلب، وأرونى توكيد لأرأيتم، وماذا خلقوا يجوز فيها أن تكون (ماذا) استفهاما كلها وهي مفعول مقدم لخلقوا وجملة خلقوا مفعول ثان لقوله: أرأيتم، أو ما استفهام مبتدأ وذا موصولة خبر و (خلقوا) صلة، وجملة (ماذا خلقوا) مفعول ثان لقوله: أرأيتم، والمفعول الأول ما تدعون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 439 شبهاتهم في نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم وصدق القرآن [سورة الأحقاف (46) : الآيات 7 الى 14] وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَرَحْمَةً وَهذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 440 المفردات: بَيِّناتٍ: واضحات كالشمس. لِلْحَقِّ أى: لأجل الحق. أَمْ المراد: بل أيقولون. افْتَراهُ: اختلقه من عنده. تُفِيضُونَ: تأخذون فيه وتندفعون إليه كاندفاع السيل. بِدْعاً البدع: الأول وقرئ بدعا جمع بدعة، وشيء بدع أى: مبتدع ليس له مثال. إِفْكٌ قَدِيمٌ أى: كذب قديم. إِماماً: يقتدى به. بعد أن عاب عليهم اتخاذ شركاء لله وعبادة الأوثان، أراد أن يبين شبههم الواهية في أن القرآن من عند محمد وليس من عند الله، وفي صدق محمد فيما يدعيه. المعنى: وإذا تتلى على المشركين آياتنا البينات، ومعجزاتنا الواضحات التي هي أوضح من الشمس وأقوى من فعل السحر قالوا لأجل الآيات التي هي الحق من عند الله: هذا سحر بين ظاهر فإنها تعمل عمل السحر، وتفرق بين المرء وما يحبه ويهواه، وتخلق من المسلم رجلا آخر، لما يروا هذا يقولون: إن محمدا ساحر، وما يأتيه سحر مبين. أم يقولون افترى القرآن؟ «1» أى: بل أيقولون افتراه واختلقه من عند نفسه ونسبه إلى الله؟ وهذه شبهة ثانية، كأنه قيل: دع هذا واسمع قولهم الذي ينكره كل عاقل، قولهم العجيب الذي يدعو إلى العجب العجاب فإن افتراء محمد للقرآن، مع تحديه لكم أن تأتوا بمثله مجتمعين، ثم أنتم تعجزون عن ذلك، إن قدرة محمد على اختلاق القرآن وحده فرضا مع عجزكم عنه لدليل على أن هذه القدرة من عند الله، ومعجزة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وتصديق من الله له، والعزيز الحكيم لا يصدق الكاذب! قل لهم يا محمد: إن افتريته على سبيل الفرض عاجلني الله بالعقوبة على الكذب وأنتم لا تقدرون على كفه، ومنعى من وقوع العذاب على فكيف أفتريه وأتعرض لعقاب لا يملك أحد شيئا يمنعني به من عذاب الله؟!   (1) (أم) هنا بمعنى (بل) الإضرابية- إضرابا انتقاليا من معنى لآخر- والهمزة الاستفهامية وهي تفيد هنا الإنكار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 441 ربكم أعلم بما تفيضون فيه وتندفعون إليه من القدح في وحى الله والطعن في آياته وتسميتها تارة سحرا وطورا افتراء وكذبا، كفى به شهيدا يشهد بيني وبينكم حيث يشهد لي بالصدق والبلاغ، وعليكم بالتكذيب والجحود، وهو الغفور الرحيم لمن تاب وأناب ورجع إلى الله. وما لكم تكذبونني في دعوى الرسالة عن الله، وتكفرون بما جئت به من التوحيد وإثبات البعث؟ هل أنا وحدي في ذلك؟ هل أنا أول رسول أرسل للبشر؟ لا. ما كنت بدعا من الرسل، ولم أكن أولهم بل سبقني إبراهيم وموسى وعيسى- عليهم جميعا الصلاة والسلام-. ولست أدرى ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا فالأمر مفوض إليه، وإن كان وعد المؤمنين بالنصر والخير وأوعد الكافرين بالخذلان والشر. ومن أصدق من الله حديثا؟! أما في الآخرة فالله قد أكد بأن أولياءه لا خوف عليهم فيها ولا هم يحزنون ... وكانوا يطلبون من النبي آيات للتعجيز، فيقول الله لهم على لسان رسوله: إن أتبع إلا ما يوحى إلىّ، وما أنا إلا نذير. إن علىّ إلا البلاغ وعلى الله وحده الحساب. قل لهم: أرأيتم- أخبرونى- إن كان هذا القرآن من عند الله وليس معجزا ولا مختلقا كما تزعمون والحال أنكم كفرتم به، وشهد شاهد من بنى إسرائيل، أى: رجل منصف بعيد عن الشبهة عارف بالتوراة ملم بها فليس المراد به شخصا بعينه كعبد الله بن سلام أو موسى- عليه السلام- كما قال بعضهم، وشهد رجل من بنى إسرائيل على مثل الذي في القرآن من الدعوة إلى التوحيد وإثبات البعث والحث على الخير فآمن هذا الرجل واستكبرتم أنتم عن الإيمان وكفرتم بالقرآن. أخبرونى ماذا أنتم فاعلون! أرأيتم حالكم إن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ... إلخ فقد ظلمتم أنفسكم «1» ألستم ظالمين؟ والله لا يهدى القوم الظالمين. وهناك حكاية أخرى لبعض مفترياتهم: وقال الذين كفروا لأجل الذين آمنوا وفي شأنهم: لو كان هذا الدين حقّا والقرآن خيرا ما سبقنا إليه الضعفاء والفقراء والعبيد   (1) هذا هو جواب الشرط (إن) والمفعول الثاني لقوله (أرأيتم) مقدر، تقديره: ألستم ظالمين، وقوله: (إن الله لا يهدى القوم الظالمين) استئناف بيانى تعليلا لاستكبارهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 442 ورعاة الشاء من أمثال صهيب وبلال، وبعض قبائل جهينة ومزينة وغفار. وما علموا أن الله يهدى من يشاء ويضل من يشاء ممن يستحق ذلك، وإذا لم يهتدوا بعد هذا بالقرآن ظهر عنادهم، فليس لهم حجة في عدم الاهتداء، فسيقولون: هذا إفك قديم. وكيف ذلك؟ ومن قبله كتاب موسى وهو التوراة حالة كونه إماما يقتدى به في دعوة الناس إلى التوحيد والحكم بكتاب الله والحث على الفضائل، وحالة كونه أنزل رحمة للناس، وهذا القرآن مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه، وهو يهدى للتي هي أقوم حالة كونه لسانا عربيا مبينا نزل بلسان قريش ليفهموه ويتدبروه وإنما يتذكر أولو الألباب. أنزله ربك لينذر به الذين ظلموا أنفسهم وغيرهم بالشرك، وهو هدى وبشرى للمحسنين فكيف يقولون بعد هذا: إن هذا القرآن إفك قديم؟ إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا على الطريقة المثلى وساروا عليها مخلصين مؤمنين فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، أولئك هم أصحاب الجنة خالدين فيها وذلك الجزاء بما كانوا يعملون، والله ذو الفضل العظيم.. الإنسان بين خالقه ووالديه [سورة الأحقاف (46) : الآيات 15 الى 20] وَوَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلى والِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَالَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَتَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 443 المفردات: وَوَصَّيْنَا التوصية: الأمر المقترن بالوعظ والإشعار بأن المأمور به محل اعتناء. كُرْهاً الكره: المشقة. فِصالُهُ: فطامه، وهو الرضاع المنتهى بالفطام ولذا عبر بالفصال عن الرضاع. بَلَغَ أَشُدَّهُ: كمل عقله ورأيه واشتد ساعده. أَوْزِعْنِي: رغبني ووفقني إليه حتى أكون راغبا فيه. أُفٍّ: هو صوت يظهر عند الضجر. أُخْرَجَ المراد: أبعث من القبر خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي: مضت القرون. يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يطلبان الغوث من الله. وَيْلَكَ الويل: دعاء بالثبور والهلاك، أو هو واد في جهنم. أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ جمع أسطورة، والمراد أباطيلهم التي سطورها في الكتب. دَرَجاتٌ المراد: منازل، فإن كانت في العلو فهي درجات، وإن كانت في الانخفاض فهي دركات. هذه الآيات الكريمة سيقت لبيان جانب من جوانب نعم الله على الإنسان وفضله عليه حيث تعهده في الصغر، ووضع في قلب والديه- وخاصة الأم- غريزة حبه والعطف عليه حتى يكتمل، وبعد بلوغ عقله وكماله كان منه من وفق إلى الخير واهتدى ورد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 444 بعض الجميل إلى أهله، ومنه من ضل وبغى ولم يرع لحق حرمة بل كفر وأنكر رغم إلحاح والديه عليه وإرشاد هما له، ولكل درجات فانظر- وفقك الله تعالى إلى الخير- مكانك في الناحيتين. على أن وضع الوصية بالوالدين هنا دليل على أنها من أصول الإسلام. المعنى: ووصينا الإنسان بوالديه أن يحسن لهما إحسانا، وألزمناه إحسانا إليهما فهما أحق الناس به، والأمر بالإحسان إليهما محل اعتناء من الله، فكان وصية لا أمرا إذ هما قد توليا إيجاده ظاهرا، والله تولى خلقه خفية وباطنا، والأم أحق بذلك من الأب فهي حملته على كره وتعب، ووضعته بمشقة وألم، ومدة حمله وفطامه ثلاثون شهرا، وقد مضى أن مدة الرضاع لمن أراد إتمامه سنتان وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ بقيت مدة الحمل وهي ستة أشهر ولحظتان، وهذه أقل مدة يمكن نسبة الولد فيها إلى أبيه، إن أقل الحمل ذلك، وأما أكثره فلم ينص عليه القرآن، والفقهاء قالوا: أقصاه سنتان، وقيل: أربع، والغالب أن مدة الحمل حول تسعة أشهر. ومدة الحمل والرضاع ثلاثون شهرا والولد فيها حمل على أمه، فبطنها وعاء له، وثديها سقاء له، وهي فوق ذلك تسهر وتتعب، وتشقى ليسعد، فمن باب الذوق ورد الجميل الإحسان إلى الوالدين وخاصة الأم. فإذا عاش الرضيع ودرج كما يدرج الصبيان، وأيفع مع الشبان، حتى إذا بلغ أشده واستحكم عقله واستوت قوته، وبلغ أربعين سنة. قال: رب أوزعنى ووفقني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علىّ وعلى والدي حيث وضعت في قلوبهما العطف علىّ، وخلقتني بسببهما على أتم صورة ورعيتنى في الصغر وربيتني وحفظتني وأنعمت علىّ نعما لا تحصى، ويظهر- والله أعلم- أن قول الإنسان هذا عند بلوغ الأشد واكتمال العقل وبلوغ الأربعين، قوله هذا من حيث هو إنسان فقط بقطع النظر عن الإرشادات والتعاليم التي تأتى على ألسنة الزمان. وتجعل الطفل عند البلوغ أو الاحتلام مكلفا بكل فروع الشريعة إذ طلب الإنسان من ربه أن يوفقه إلى العمل وأن يهديه إلى الشكر ورد الجميل ليس موقوفا على بلوغ الأربعين وكمال الرشد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 445 رب اهدني إلى شكرك حيث أنعمت على وعلى والدي نعما لا تحصى، واهدني إلى صالح الأعمال، واجعل الصلاح والتقوى ساريا في ذريتي راسخا في أبنائى لأنى تبت إليك وأنبت، وإنى من المسلمين القانتين فاغفر لي ووفقني يا أكرم الأكرمين. أولئك- والإشارة للتعظيم- الذين نتقبل عنهم أحسن أعمالهم، وكلها بسبب كمال الإخلاص من أحسن الأعمال، ونتجاوز عما فرط من سيئاتهم، وعدهم ربك بذلك وعدا هو الصدق بعينه، الذي كانوا يوعدون به على ألسنة الرسل، أما الصنف الثاني الذي لم يرع في الله حقا، ولم يرع لوالديه حرمة، ورد الجميل بالقبيح، وجازى الحسنة بالسيئة فهذا والداه وهما كما عرفت تعبا وسهرا لراحته وصنعاه حتى اكتمل، وأشارا عليه بما فيه خيره وسعادته ومع هذا ما زاده ذلك كله إلا استكبارا وعنادا وكفرا وجحودا.. انظر إليه وهو يقول: والذي قال لوالديه حينما أشارا عليه بالإسلام والإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر قال لهما: أف لكما أتعداننى بالبعث وأنى سأخرج من القبر للحساب، والحال أنه قد خلت القرون من قبلي ومضت آلاف السنين ولم نر أحدا بعث، يريد بهذا إنكار البعث. وهما يستغيثان بالله من أفعاله، ويلجئان إلى الله أن يرشده ويهديه، ويقولون له: ويلك وهلاكك آمن مع المؤمنين، وليس مرادهم الدعاء بالويل والثبور، بل هما يحثانه على الإيمان والدخول فيه بسرعة، لأن وعد الله حق، وقد وعد المؤمنين بالثواب، والكافرين بالعقاب. فيقول بعد هذا: ما هذا الذي تقولانه إلا أساطير الأولين وأباطيلهم! انظر يا رعاك الله: الوالدان يحبان أولادهما حبا غريزيا، وهما ينصحانهم بما هو خير لهم، وقد نصحوا بالإيمان الكامل، ولكن إذا كان الابن غير موفق لم يرع لهما حرمة، ولم يقدس لهما رأيا، ولهذا لا تأس يا محمد على كفر من كفر من قومك. أولئك- والإشارة للتحقير- الذين حقت عليهم كلمة ربك بالعذاب وهي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ حالة كونهم في عداد أمم قد مضت من قبلهم من الجن والإنس، لأنهم كانوا خاسرين. ولكل من الفريقين: فريق المؤمنين، وفريق الكافرين، درجات معلومة بسبب أعمالهم التي عملوها، فريق في الجنة له درجات عليا، وفريق في السعير له دركات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 446 سفلى، وقد فعل ربك ذلك ليوفيهم جزاء أعمالهم التي عملوها في الدنيا، وهم لا يظلمون شيئا بنقص ثواب وزيادة عقاب. واذكر يوم يعرض الذين كفروا على النار، ويعذبون بها غدوّا وعشيّا، ويقال لهم تأنيبا وتوبيخا: أنتم أذهبتم طيباتكم وملذاتكم في الحياة الدنيا، واستنفدتم حقكم فيها وَمَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ فاليوم تجزون عذاب الهون والهوان، العذاب الذي جعل للمستكبرين المتغطرسين ليذل تلك الأنوف التي طالما شمخت بغير حق، ويخضع تلك الرءوس التي طالما تعالت في سبيل الشيطان، كل ذلك بسبب ما كنتم تستكبرون في الأرض بغير الحق، وانظر إلى قوله: تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ نعم وهل يكون التكبر والتعالي إلا في الأرض وبالمادة الحقيرة! وبسبب ما كنتم تفسقون كان جزاؤكم ... وإذا نظرنا إلى قوله تعالى: أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِها وقد وضعت للنعى على الكفار الذين يعذبون بالنار مع قوله: «واستمتعتم بها» أمكننا أن نفهم أن هناك فرقا بين هذه الآية وبين قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ [سورة المائدة آية 78] . قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ [الأعراف 32] . إذ الآية التي نحن بصددها تشير إلى أن الكفار تمتعوا بطيباتهم وملذاتهم واتبعوا شهواتهم وأفنوا شبابهم في الإثم والفسوق والعصيان والاعتداء وتجاوز الحدود، أما الآيات الأخرى فهي تبيح للمسلم أن يتمتع بطيبات الرزق مع عدم الاعتداء وتجاوز الحد في أى ناحية سواء كانت اقتصادية أم خلقية أم دينية، أقول هذا لأنى رأيت كثيرا من المفسرين ذكروا قصصا تفيد أن الإسلام يحارب التمتع بالرزق الحلال مستندين إلى ظاهر هذه الآية والله أعلم بكتابه. قصة نبي الله هود مع قومه عاد [سورة الأحقاف (46) : الآيات 21 الى 28] وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25) وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصاراً وَأَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَحاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 447 المفردات: أَخا عادٍ عاد: قبيلة، وأخوهم هود من أشرافهم. بِالْأَحْقافِ: ما استطال من الرمل العظيم واعوج ولم يبلغ أن يكون جبلا، وهي رمال باليمن كانت تسكنها قبائل عاد. خَلَتِ: مضت. لِتَأْفِكَنا: لتصرفنا عن عبادة الآلهة، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 448 يقال: أفك يأفك أفكا بمعنى صرف وقلب عن الشيء، والإفك: الكذب. عارِضاً العارض: السحاب الذي يعترض في الأفق. تُدَمِّرُ: تهلك، والتدمير: الهلاك كالدمار. وَصَرَّفْنَا الْآياتِ: بيناها لهم. فَلَوْلا نَصَرَهُمُ: هلا نصرهم. قُرْباناً القربان: كل ما يتقرب به إلى الله من طاعة. إِفْكُهُمْ أى: كذبهم، وقرئ أفكهم أى: صرفهم. هذه القصة تذكر أهل مكة بقوم هود، وما حل بهم، وقد كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعا فلما كفروا أرسل الله عليهم جنده فأبادهم، فهل من مدكر؟!! المعنى: واذكر يا محمد لأهل مكة هودا أخا عاد إذ أنذر قومه، وقد كانوا يسكنون الأحقاف فقال لهم: لا تعبدوا إلا الله الذي خلقكم ورزقكم لأنى أخاف عليكم عذاب يوم عظيم هوله، وأعلمهم أن الرسل الذين بعثوا قبله، والذين سيبعثون بعده كلهم ينذرون قومهم بهذا الإنذار وهو ألا يعبدوا إلا الله. فماذا كان قولهم إزاء هذا؟ «1» قالوا: أجئتنا يا هود لتأفكنا عن آلهتنا وتصرفنا عن عبادتها، وقد عبدها آباؤنا ومن هم خير منك؟! وإذا أصررت على دعوتك وما تقوله لنا من إنذار فائتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين. قال لهم: إنما العلم عند الله، فهو وحده الذي يعلم متى يأتى العذاب، وإنما أنا رسول فقط لا علم لي بشيء، وظيفتي البلاغ، أبلغكم ما أرسلت به إليكم، ولكني أراكم قوما تجهلون الحقائق العامة. ظلوا على هذا الحال، ودام عنادهم حتى حقت عليهم الكلمة وحل بهم ما استعجلوه وأنكروه، فلما رأوه حالة كونه معترضا بين السماء والأرض يملأ الأفق يتهادى   (1) - هذه إشارة إلى أن (قالوا) وقعت جوابا عن سؤال فهو استئناف بيانى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 449 كالسحاب المملوء، ماء، وهو في الواقع عذاب شديد، لما رأوه عارضا يستقبل أوديتهم، قالوا فرحين: هذا عارض ممطرنا، بل- إضراب انتقالي- هو ما استعجلتم به وما هو؟ قيل: ريح فيها عذاب مؤلم للغاية، هذه الريح تدمر كل شيء أتت عليه وتهلكه، تدمره بإذن ربها وأمره، وهو على كل شيء قدير. جاءتهم الريح وأرسلها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما لا خير فيها- فترى القوم بعدها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية، فهل ترى لهم من باقية؟ فأصبحوا بعد هذا لا يرى من آثارهم إلا مساكنهم فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [سورة النمل آية 52] مثل ذلك الجزاء الصارم نجزى القوم المجرمين فاحذروا يا آل مكة ما يحل بكم. وكانت عاد قد أمدها الله بأنعام وبنين، وجنات وعيون، وكانوا يبنون بكل ريع «1» آية يعبثون، ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون، ولقد مكناهم في الذي ما مكناكم فيه، وأمدهم ربك بما ترى، وجعل لهم سمعا وأبصارا وقلوبا، ولكنهم لم يستعملوها فيما خلقت من أجله، ولم يغن عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم من شيء لأنهم كانوا بآيات الله ومظاهر الكون التي تدل على وجود الله واتصافه بكل كمال، كانوا بها يكفرون، وحاق بهم حينئذ ما كانوا به يستهزئون. يا آل مكة لقد أهلكنا ما حولكم من القرى- كحجر ثمود وقرى قوم لوط وغيرها- وكانت أخبارهم ظاهرة عندهم، وآثارهم يمرون عليها بالليل وبالنهار أفلا تعقلون؟! لقد أهلكنا ما حولكم من القرى بعد أن صرفنا لهم الآيات وبيناها لعلهم يرجعون، فهل تتذكرون بذلك وتتعظون؟! فهلا نصرهم عند نزول العذاب بهم الذين اتخذوهم من دون الله آلهة. بل في الشدائد ضلت عنهم الآلهة، وغابت فلم تعرفهم لأنها أصنام لا تحس، وذلك كذبهم الذي كانوا به يتشدقون، وهذا جزاء ما كانوا به يفترون على الله.   (1) - أى: مرتفع من الأرض، وقيل: هو الطريق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 450 إيمان الجن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة الأحقاف (46) : الآيات 29 الى 32] وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32) المفردات: صَرَفْنا: أملناهم ووجهناهم. نَفَراً النفر: الجماعة دون العشرة، وأصل النفر يطلق على الجماعة التي تنفر إلى العدو أَنْصِتُوا: اسمعوا بأدب له. قُضِيَ: انتهى. وَلَّوْا: رجعوا. هذا تأنيب للمشركين الذين لا يسمعون لهذا القرآن، وهم أعلم الخلق به لأنه بلغتهم، وعلى لسان رجل منهم يعرفون عنه كل شيء، تأنيب لهم حيث آمن بالقرآن الجن وهم على غير لغته ومن غير جنس صاحبه، في حين كفر به المشركون: وبهذا تشتد عزيمة النبي، وتقوى روحه، وماذا يبغى النبي بعد ذلك والجن يؤمنون به حين ينكر بعض الإنس رسالته؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 451 المعنى: من الحقائق الثابتة في كتب التاريخ والسيرة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بعد موت خديجة وموت أبى طالب الذي كان درعه الواقي، وبعد أن أسرفت قريش في إيذائه، خرج إلى الطائف موطن قبائل ثقيف لعله يجد فيهم الناصر والذائد عنه، ولكنهم ردوه ردّا غير جميل، وأغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويصيحون به حتى اجتمع الناس وألجئوه إلى بستان لعتبة وشيبة ابني ربيعة، فرجع عنه من سفهاء ثقيف من كان يتبعه، بعد أن أدموا رجليه واختضبت نعلاه بالدم. وهكذا الأنبياء والمرسلون والمصلحون دائما يلقون العنت والمشقة من بنى وطنهم ولما عاد صلّى الله عليه وسلّم من الطائف بعد أن لقى من ثقيف وغلمانها ما لقى، واتجه إلى الله في تضرع وخشوع قائلا: «اللهم إنى أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، لمن تكلني؟! إلى عبد يتجهمني- يلقاني بالغلظة والشدة- أو إلى عدو ملكته أمرى! إن لم يكن بك غضب علىّ فلا أبالى. ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك أو يحل على سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك» . وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم نازلا في موضع يسمى (نخلة) من ضواحي مكة، وبينا هو يصلى في جوف الليل يقرأ القرآن، ويناجى صاحب الملك والجبروت إذ صرف الله إليه سبعة من أشراف الجن، فاستمعوا إليه، وهو يقرأ، ولم يشعر بهم ساعة نزولهم عليه وانصرافهم إلى قومهم، ونزل قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ (الآية) نزلت تطييبا لخاطره، وشدّا لعزيمته وتقوية لروحه، وبرهانا دامغا لأولئك المشركين الضالين، وبعد ذلك ازداد يقينه بالإسراء والمعراج إلى الملأ الأعلى، ولا شك أن فيها ترفيها روحيا وسموا نفسيا واتصالا ولقاء وتسلية وعزاء. واذكر يا محمد لقومك وقت أن صرفنا إليك نفرا من الجن يستمعون القرآن فلما حضروا القرآن وأنت تتلوه، قالوا لبعضهم: أنصتوا أدبا لهذا الحديث الذي ما سمعنا مثله أبدا، فلما قضى وانتهى النبي منه، رجعوا إلى قومهم منذرين يقولون: إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدى إلى الرشد فآمنا به، ولن نشرك بربنا أحدا، وأنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، وأنه كان يقول سفيهنا على الله شططا، يا قومنا: إنا سمعنا كتابا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 452 أنزل من بعد موسى حالة كونه مصدقا لما بين يديه، فالتوراة والإنجيل والقرآن والزبور وكل كتاب من السماء يدعو إلى التوحيد ويقرر مبدأ النبوة والبعث، وهذا الكتاب الذي سمعنا جزءا منه يهدى إلى الحق، وإلى الصراط المستقيم يا قومنا: أجيبوا داعي الله، أى: هذا النبي المبعوث خاتم الأنبياء، وآمنوا به، إن تؤمنوا به يغفر لكم بعض ذنوبكم، ويجركم من عذاب أليم. ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجزه في أرضه وتحت سمائه، ولن يفلت منه بحال وليس له من دون الله أولياء تلى أموره، وتدفع عنه السوء، أولئك الذين لم يجيبوا في ضلال مبين، وأى ضلال أضل من هذا؟! من دلائل البعث [سورة الأحقاف (46) : الآيات 33 الى 34] أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَرَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) المفردات: يَعْيَ يقال: عيى يعيى بأمره: إذا لم يهتد لوجهه، والمراد يعجز ويضعف. بَلى: نعم هو قادر على إحياء الموتى، والفرق بين (بلى) ونعم أن (بلى) جواب للنفي بإبطاله وتقرير نقيضه كما هنا، أما (نعم) فهي لتقرير ما قبلها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 453 المعنى: ألم يتفكروا ولم يعلموا أن الله الذي خلق السموات والأرض بالحق، والحال أنه لم يعي بخلقهن، ولم يتعب لذلك أصلا، ولم يتحير فيه أبدا. ألم يعلموا أن الله قادر «1» على أن يحيى الموتى؟! نعم هو قادر على ذلك، بل هو أهون عليه، إذ هو على كل شيء قدير. ويقال للذين كفروا يوم يعرضون على النار ويعذبون بها، يقال لهم توبيخا وتهكما: أليس هذا العذاب الذي ترونه وتلمسونه حقّا لا شك فيه؟ قالوا: بلى وربنا إنه لحق وعدل. قال الله لهم مشافهة أو على لسان الملائكة: إذا كان الأمر كذلك فذوقوا العذاب بسبب ما كنتم تكفرون. ختام السورة [سورة الأحقاف (46) : آية 35] فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35) المفردات: أُولُوا الْعَزْمِ: أصحاب الثبات والصبر على الشدائد. لما تقررت المبادئ الهامة في الدين الإسلامى، وهي التوحيد وإثبات النبوة والبعث يوم القيامة، ورد القرآن الشبهات، وضرب الأمثال بما يقوى العزائم، ويوهن حجج   (1) - قادر خبر أن، والباء زائدة، والذي حسن زيادتها كون ما قبلها في حيز النفي فإن الاستفهام إنكارى. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 454 المعاندين ويبين مآلهم يوم القيامة أردف ذلك بأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالصبر والثبات واحتمال الأذى. المعنى: إذا كان الأمر كما علمت فاصبر يا محمد كما صبر إخوانك من المرسلين، اصبر على أذى المشركين، إنا كفيناك المستهزئين، وعصمناك من كيد الظالمين، فاصبر على أذاهم الذي لا يتجاوز الماديات، وقو عزيمتك حتى يتكسر عليها باطلهم الضعيف وعنادهم الأعرج، وتذكر قول الله: وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ [سورة البقرة آية 214] . اصبر على البأساء فهكذا إخوانك المرسلون يبتليهم الله ويختبرهم لتقوى نفوسهم وتصفو أرواحهم حتى تتحمل الرسالة، ولا تستعجل لقومك عذابهم، فإنه آت لا محالة وكل آت قريب، كأنهم يوم يرون ما يوعدون من العذاب يوم القيامة لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعة يسيرة من النهار، كأنهم حين يشاهدون العذاب الشديد وطول مدته يرون أنهم لم يلبثوا إلا مدة من الزمن يسيرة. هذا الذي وعظتم به أيها الناس كفاية في الموعظة وبلاغ كامل للناس فهل يهلك بعد ذلك إلا القوم الفاسقون، القوم الخارجون عن الاتعاظ والطاعة؟!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 455 سورة محمد صلّى الله عليه وسلّم وتسمى سورة القتال، وهي سورة مدنية، وقيل: كلها مدني إلا آية وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ وعدد آياتها تسع وثلاثون آية، وهذه السورة تشتمل على بيان أحوال الكفار والمؤمنين في الدنيا والآخرة، وعنيت بالتقابل بينهم، وذكر فيها كثير من أحكام القتال. أحوال الكافرين والمؤمنين [سورة محمد (47) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَآمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3) المفردات: صَدُّوا: أعرضوا ومنعوا غيرهم. أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ: أحبطها وأبطلها. بالَهُمْ البال: الحال. قال الراغب: البال: الحال التي يكترث بها، ولذلك يقال: ما باليت بكذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 456 المعنى: هكذا خلق الله الخلق، وجعلهم فريقين، فريق في الجنة وفريق في السعير، فريق اتبع الباطل من نفسه وهواه، وآخر اتبع الحق من ربه ومولاه، فالذين كفروا بالله ورسوله، وأعرضوا عن النور الذي أنزله على رسوله، وصدوا غيرهم عن سبيل الله الذي هو سبيل العدل والكرامة، هؤلاء أضل الله أعمالهم وأبطلها، وجعلها ضائعة لا أثر لها ولا خير فيها. والمراد بالذين كفروا المطمعون يوم بدر، وهم أبو جهل والحارث بن هشام، وعتبة ابن ربيعة وأخوه شيبة، وأبى بن خلف وأخوه أمية وغيرهم من صناديد المشركين، وكانت لهم أعمال في الخير أضلها الله وأبطلها كسقى الحجاج، وإطعام الطعام وحماية الجار ... إلخ. والذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات من الأعمال، وآمنوا بما أنزل على محمد خاصة وهو القرآن الكريم، وخص بالذكر لما له من مكانة عليا، والحق مقصور عليه لا يتعداه إلى غيره فهو الحق من ربهم، والذين آمنوا وعملوا الصالحات كفر الله عنهم سيئاتهم، وسترها بستار الإيمان وعمل الصالح من الأعمال، وأصلح حالهم في الدين والدنيا بالتوفيق والتأييد حتى جعلهم لا يبالون بشيء بعد إيمانهم بالله. والإضلال الخاص بالكافرين، والإصلاح الخاص بالمؤمنين، كل ذلك بسبب أن الذين كفروا اتبعوا الباطل الذي لا حق فيه ولا خير، وأن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم. مثل ذلك الضرب البديع والتبيان الرائع يبين الله لأجل الناس أحوال الفريقين ونهايتهم، هذه الأحوال والصفات التي تجرى في الغرابة مجرى الأمثال السائرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 457 القرآن والقتال [سورة محمد (47) : الآيات 4 الى 9] فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَلَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9) المفردات: لَقِيتُمُ المراد: لقيتموهم في الحرب. فَضَرْبَ الرِّقابِ أى: فاضربوا الرقاب ضربا، وضرب الرقاب مجاز عن القتل. أَثْخَنْتُمُوهُمْ: أكثرتم القتل فيهم. فَشُدُّوا الْوَثاقَ الوثاق: هو الحبل الذي يوثق به الأسير كالرباط، وشده إحكام ربطه حتى لا يفلت. فَإِمَّا مَنًّا فإما تمنون منا، أى: تطلقونهم من غير فدية. وَإِمَّا فِداءً وإما تفادونهم فداء، أى: تطلقونهم في نظير فداء بعض أسراكم عند المشركين. أَوْزارَها: جمع وزر، وهو الحمل، والمراد: أثقالها وأحمالها، وهذا كناية عن انتهائها. فَتَعْساً لَهُمْ أى: هلاكا لهم وخيبة. جاء الإسلام ينشد العدالة ويدعم أسس الحق، وينشر لواء الحرية، وينادى بأن الناس أحرار في كل ما يفعلون أو يعتقدون في حدود الحرية المكفولة لهم، ولهذا كانت الجزء: 3 ¦ الصفحة: 458 دعوته الناس إلى الإسلام بلا إكراه ولا قتال: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ [سورة البقرة آية 256] ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ [سورة النحل آية 125] وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ [سورة ق آية 45] . وجاءت آيات في القرآن تدعو إلى القتال وتحث عليه، فعلى أى وجه نفهمها؟ نعم وردت آيات القتال لتنظيم تلك الغريزة الفطرية المطبوع عليها الخلق منذ بدء الخليقة ووضع حدود ثابتة لها، وتوجيهها الوجهة الصالحة، لتكون أداة تعمير لا تخريب. فرسالة الإسلام إذا لم تحمل الناس على ظبا السيوف، ولم يعتنقها بعضهم تحت ظلال الحراب، وإنما كان طريق الإسلام دائما دعوة رقيقة وموعظة حسنة، مع دعم الرأى بالحجة والبرهان الناصع، فمن قبل الدعوة الإسلامية كان من المسلمين له ما لهم، وعليه ما عليهم، لا فضل لعربي على أعجمى إلا بالتقوى، والناس سواء، كلكم لآدم وآدم من تراب، ومن أبى الدخول في الإسلام فرضت عليه الجزية دليلا على إذعانه، وبرهانا على حسن نيته للمسلمين وتمهيدا لهدايته فعسى أن يشرح الله صدره للحق والخير ويدخل في الإسلام هو أو ابنه من بعده، ومساهمة منه في جيش الدولة التي تحميه، ومن لم يقبل الدعوة ورفض أن يدفع الجزية وجب قتاله، وليس ذلك اعتداء بل ردا لخطر لا شك في وقوعه، وتأمينا للدعوة. فالإسلام لا يطالبنا بأن نقاتل أهل الكتاب أو الوثنيين أو المجوس مثلا من غير سبب، وإنما يطالبنا بأن ندعوهم إلى الإسلام فإن تركونا أحرارا في بث الدعوة وإقامة البراهين عليها فلا نقاتلهم، وإن قاوموا الدعوة أو اعتدوا على الدعاة قاتلناهم تقريرا لمبدأ الحرية الدينية وحماية للدعوة وكفا لأذاهم، وقد طبق الإسلام هذا المبدأ مع المخالفين جميعا كتابيين ووثنيين، فكان يعرض عليهم أولا الدخول في الإسلام فإن قبلوا ذلك كانوا كالمسلمين، وإن رفضوا هذا العرض وتمسكوا بمعتقداتهم مع ترك الدعاة أحرارا وجب على المسلمين ألا يقاتلوهم أو يعترضوهم في شيء فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا [سورة النساء آية 90] . فإن لم يقبلوا الإسلام واعترضوا دعوته وآذوا دعاته ونقضوا عهودهم كان ذلك إعلانا منهم بالمناوأة، وهؤلاء نطالبهم بالجزية دليلا على الخضوع وكف الأذى، فإن دفعوها أصبحوا رعية للدولة الإسلامية عليها حمايتهم ورعايتهم وتأمينهم على أموالهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 459 وأنفسهم، وكانت الجزية مقدار ما يتحملون من تكاليف الجيش الإسلامى المدافع عنهم وإن رفضوا دفع الجزية قاتلناهم حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صاغِرُونَ [سورة التوبة آية 29] أى: عن قوة والحال أنهم خاضعون للحكم الإسلامى. أما مشركو العرب: فقد فرق الإسلام بينهم وبين غيرهم من المشركين فكان لا يقبل منهم إلا الإسلام أو الحرب بينما كان يخير غيرهم في الإسلام أو الجزية أو الحرب، ولعل السبب في ذلك أنهم وقفوا من المسلمين موقفا شاذّا وعاملوهم معاملة قاسية، وعملوا جاهدين على إطفاء نور الإسلام وحاربوه حرب إبادة لا هوادة فيها وَلا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا [البقرة 217] ولا تتحمل الجزيرة العربية دينا يعبد الله ودينا يعبد الأصنام. فكان القتال معهم منحصرة أسبابه في رد العدوان، وقطع الفتنة، وتأمين الدعوة وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [سورة البقرة آية 193] . ومن هنا نفهم معنى قول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أمرت أن أقاتل النّاس حتّى يقولوا لا إله إلّا الله» فالمراد بالناس هم مشركو العرب خاصة. ونفهم إذا سر التشديد في قتال المشركين، وأنهم هم المقصودون بالذين كفروا في هذه الآية، ويكون معناها ما يأتى: إذا كان الأمر كذلك فإذا لقيتم المشركين في الحروب فاضربوا الرقاب ضربا شديدا وكثيرا، ولعل إيثار هذه العبارة على قوله: فاقتلوهم للإشارة إلى أن القتل يجب أن يكون بإطاحة الرءوس وإزاحتها عن البدن، وبقائه ملقى على صورة منكرة، وفي هذا تشجيع للمسلمين وأى تشجيع!. إذا لقيتموهم في المعركة فالواجب بذل الجهد في قتل الأعداء دون أخذهم أسرى حرب لأن ذلك يجعلنا أعزة وهم أذلة حتى إذا أثخناهم في المعركة جرحا وقتلا، وتم لنا الرجحان عليهم فعلا رجحنا الأسر المعبر عنه في هذه الآية بشد الوثاق لأنه يكون حينئذ من الرحمة الاختيارية، وتكون الحرب ضرورة تقدر بقدرها، وليس المراد بها سفك الدماء وحب الانتقام، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة التي أثخنتموهم قتلا وجرحا فيها مخيرون في أمرهم إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أسراهم بلا مقابل، وإن شئتم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 460 فاديتموهم بمال تأخذونه منهم أو برجال أسرى عندهم، وهو ما يعبر عنه الآن بتبادل الأسرى، والظاهر- والله أعلم- أن هذه الآية نزلت بعد غزوة بدر التي عاتب الله النبي فيها على الاستكثار من الأسارى يومئذ ليأخذ منهم الفداء ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [سورة الأنفال آية 67] . وعلماء الأحناف يرون أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ [التوبة 5] وعند الأكثرين أنها ليست بمنسوخة والإمام مخير بين المن على الأسير ومفاداته فقط، ولا يجوز له قتله بعد المعركة وانتهائها فالإمام عقب المعركة مخير بين الأسر أو القتل، فإذا أسر له أن يمن أو يفادى، وليس له القتل. وعلماء الشافعية يقولون: إن الإمام مخير بين أربعة خصال، يختار الأحسن منها للإسلام والمسلمين، فله أن يقتل الأسير إن لم يسلم، أو يمن عليه بلا مقابل، أو يفاديه بمال أو بفك أسير عندهم منا، أو استرقاقه، وقد استدلوا على ذلك بأن النبي من على أبى عزة الجمحي، وعلى ثمامة بن أتاك، وفدى رجلا برجلين من المشركين، وأمر بقتل بعضهم، كالنضر بن الحارث، وعقبة بن أبى معيط، وذلك كله ثابت في كتب التاريخ والسير والسنة. وهذه الأحكام كلها جارية معهم حتى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم وعودة البشرية إلى حالة الهدوء والطمأنينة والحرية الكاملة، وهذا ما ينشده الأئمة والمصلحون، أما تحققه فهو موكول إلى الله، وهذا معنى قوله: حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها «1» الأمر ذلك فاعرفوه، ولو شاء الله لانتصر لكم بإهلاكهم بعذاب من عنده لا جهاد لكم فيه، ولكن مضت سنته وشاءت قدرته أن يجعل سعادة الدنيا والآخرة للناس بأعمالهم وجهادهم، وذلك ليمحص الله الذين اتقوا ويعلم علم ظهور المنافقين من غيرهم. والذين قتلوا في سبيل الله، واستشهدوا في سبيل الدفاع عن الحق ونصرته فلن يضل أعمالهم، بل سيجازيهم عليها أحسن الجزاء: سيهديهم ويصلح حالهم «2» ، ويدخلهم   (1) - في هذه العبارة مجاز في الإسناد، والمراد حتى تضع أهل الحرب، ومجاز في الحرب أطلق وضع آلة القتال وأراد تركه. (2) - الجملة واقعة موقع البيان مما قبلها ولذا فصلت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 461 الجنة التي عرفها لهم، ووصف لهم نوع نعيمها الدائم المقيم، ثم إنه تعالى لما بين ثواب القتال، وجزاء الاستشهاد، وعدهم بالنصر في الدنيا زيادة في الحث على القتال فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ «1» على أعدائكم مهما كانوا فالله يدافع عن الذين آمنوا والله يثبت أقدامكم في الحرب، ويقوى روحكم المعنوية تقوية بها تخوضون غمار الحرب فائزين منتصرين، وقد حصل ذلك مع النبي وصحبه، والذين كفروا فتعسوا تعسا وهلكوا هلاكا وأضل الله أعمالهم، وأبطل كيدهم، ورده في نحورهم، ذلك كله بسبب أنهم كرهوا ما أنزل الله من القرآن والتوحيد والدعوة إلى مكارم الأخلاق، فكان جزاؤهم أن أحبط الله أعمالهم، ووجه كراهتهم للدين الجديد أنه جاء بتكاليف وهم قوم ألفوا الإهمال وإطلاق العنان للنفس والهوى، فلما جاء القرآن بالتكليف وترك الملذات كرهوه. المؤمنون والكافرون في الدنيا والآخرة [سورة محمد (47) : الآيات 10 الى 14] أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14)   (1) - سورة محمد آية 7. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 462 المفردات: دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يقال: دمره الله: أهلكه، ودمر الله عليه: أهلك ما يختص به من المال والنفس، والعبارة الثانية أبلغ. مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا: ناصرهم ومتولى أمورهم. مَثْوىً لَهُمْ: محل إقامة، يقال: ثوى بالمكان: أقام به. وَكَأَيِّنْ: بمعنى كم من قرية، والمراد كثير من القرى. بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ: على حجة وبرهان، والمراد أنه يسير على هدى القرآن. المعنى: أقعدوا فلم يسيروا في الأرض فينظروا نظر اعتبار بقلوبهم كيف كان عاقبة الذين من قبلهم من الأمم التي كذبت رسلها كقوم عاد وثمود وأصحاب القرية وقوم لوط فإن آثار ديارهم تنبئ عن أخبارهم! وكأن سائلا سأل وقال: كيف كان عاقبتهم؟ فأجاب الحق- تبارك وتعالى-: دمر الله عليهم، وأهلك كل ما يختص بهم من النفس والمال والأهل والولد، ولم يبق إلا آثارهم الشاهدة عليهم. وللكافرين المشركين من قريش أمثال عقوبتهم، وقد قتلوا وأسروا يوم بدر بأيدى من كانوا يسومونهم سوء العذاب، هؤلاء هم الكفار، وهذا عذابهم في الدنيا، ولا غرابة في ذلك، فالله مولى الذين آمنوا ينصرهم ويهديهم ويرشدهم إلى ما فيه خيرهم، والكافرون لا مولى لهم ينصرهم من آلهتهم وشركائهم الذين عبدوهم من دون الله. وأما حالهم في الآخرة: فاعلم أن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجرى من تحتها الأنهار لهم فيها نعيم مقيم، والذين كفروا في الدنيا يتمتعون بمتاعها الفاني أياما قليلة، ويأكلون أكلا كأكل الأنعام أكلا مجردا عن التفكير والنظر إلى عواقب الأمور، فهم يأكلون غافلين عن الآخرة والحال أن النار مثوى لهم. فانظر إلى من عرفوا الدنيا على أنها خيال باطل ونعيم زائل، فتركوا الشهوات وتفرغوا لعمل الصالحات، فكانت عاقبتهم النعيم المقيم في مقام كريم، وهؤلاء الكفار الجزء: 3 ¦ الصفحة: 463 غفلوا عن الآخرة، وغرتهم الدنيا بمفاخرها الكاذبة، فتمتعوا بشهواتهم، وكانت عاقبة أمرهم خسرا، وكانت النار مثوى لهم. وكم من أهل قرية هم أشد قوة من أهل قريتك الذين أخرجوك أهلكناهم «1» بعذاب بئيس، ولم يستطيعوا الخلاص منه بأنفسهم، ولم يكن لهم ناصر ينصرهم من أوليائهم وأصنامهم «فلا ناصر لهم» وعلى ذلك فاصبر كما صبرت الرسل من قبلك: وهذا تقرير لتباين حال الفريقين المؤمنين والكافرين، وبيان لسبب الحكم على كل منهما أَفَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ «2» والمعنى: أيستوى الفريقان؟ فمن كان ثابتا على حجة ظاهرة، وبرهان واضح من ربه الذي تولى تربيته، وهذا البرهان وتلك الحجة هي القرآن الكريم، وسائر المعجزات والحجج العقلية الأخرى كمن يزين له الشيطان عمله السيئ من الشرك وسائر المعاصي، واتبع هواه الداعي إلى الشر من غير أن يكون له شبهة أو حجة؟! أيعقل أن يستوي هذا وذاك؟!. مثل النعيم والعذاب الأليم يوم القيامة [سورة محمد (47) : آية 15] مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)   (1) - كأين بمعنى كم الخبرية وهي مبتدأ ومن قرية تمييز لها وقوله أهلكناهم خبر. (2) - الاستفهام في قوله: أفمن استفهام إنكارى، والفاء عاطفة على محذوف تقديره أيستوى الفريقان فمن كان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 464 المفردات: غَيْرِ آسِنٍ: غير متغير الرائحة لطول مكثه، وهو من أسن الماء يأسن إذا تغيرت رائحته. لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ أى: لذيذة لهم ليس فيها ما يسوؤهم. مُصَفًّى أى: خال من الشمع والقذى. حَمِيماً: ماء حارا شديد الغليان. أَمْعاءَهُمْ: جمع معى وهي ما ينتقل إليه الطعام بعد المعدة، وينتهى به إلى الشرج- فتحة الدبر- المعنى: وهذا بيان الحال فريقى المؤمنين والكافرين في الآخرة مع توضيح الجنة وما بها، والنار وما فيها، بعد بيان حالهما في الاهتداء والضلال صفة الجنة التي وعد المتقون بها، صفاتها الغريبة التي تشبه المثل ما تسمعون: فيها أنهار من ماء غير آسن، أى: غير متغير الطعم والريح واللون لطول المكث بل ماؤها عذب فرات، من شربه لا يظمأ أبدا، وفيها أنهار من لبن صابح لم يتغير طعمه بحموضة كلبن الدنيا، وفيها أنهار من خمر لذيذة لكل من يشربها لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ خمر الجنة ليس فيها حموضة ولا غضاضة، ولا مرارة، وليس في شربها ذهاب للعقل، ولا ضياع للمال، ولا صداع في الرأس بل هي خمر ليس فيها إلا اللذة للشاربين، وأنهار من عسل مصفى، عسل خال من الشوائب والقذى حتى الشمع الذي يكون معه. وانظر إلى تعبير القرآن عن بعض الأصناف التي في الجنة وعن كثرتها بأنها أنهار، وصدق الله: ولكم فيها ما تدعون. وللمتقين في الجنة المعدة لهم من كل الثمرات أشهاها وأحسنها، ولهم فيها مغفرة من ربهم ورضوان منه أكبر من كل ذلك، وذلك هو الفوز العظيم. أفمن كان على بينة من ربه كمن زين له سوء عمله فرآه حسنا؟! أم من هو في هذا النعيم وتلك الجنة وما فيها كمن هو خالد في النار وسقوا ماء حميما فقطع أمعاءهم؟! لا يستويان بحال!! يا ويل من هو في النار؟ ويلاقي عذاب الجبار، ويسقى ماء حميما شديد الغليان إلى درجة أنه يقطع الأمعاء حتى تنزل مع الطعام، انظر إلى هذا الماء الذي يعطى لهم بدل الأنهار من الماء الزلال، واللبن الصابح والخمر اللذيذة والعسل المصفى أين هذا من ذاك؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 465 المنافقون والمهتدون [سورة محمد (47) : الآيات 16 الى 19] وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ماذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْواكُمْ (19) المفردات: آنِفاً المراد به: الساعة التي قبل الساعة التي أنت فيها، أى: ماذا قال قبيل وقتنا أو هو من استأنف الشيء إذا ابتدأه أى: ماذا قال آنفا، أى: في أول وقت يقرب منا «1» . وَآتاهُمْ تَقْواهُمْ: ألهمهم ما يتقون به ربهم. بَغْتَةً: فجأة. أَشْراطُها: جمع شرط وهو العلامة. ذِكْراهُمْ: تذكرهم. مُتَقَلَّبَكُمْ: تصرفكم واشتغالكم. مَثْواكُمْ: سكونكم. وهذا بيان حال المنافقين، ومقابلتهم بالمؤمنين المهتدين، بعد بيان الكفار وتقابلهم بالمؤمنين في الدنيا والآخرة.   (1) - وعلى ذلك فهو اسم فاعل لائتنف أو استأنف بعد حذف زوائده لأن مجرده لم يستعمل، والذي يقول: إنه الساعة فهو يقصد إلى بيان المعنى لا بيان اللفظ، وعليه فهو إما حال أو ظرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 466 المعنى: ومن الناس الذين حقت عليهم كلمة ربك، وصاروا من أصحاب النار قوم يستمعون إليك بآذانهم، حتى إذا خرجوا من عندك، وانتهى مجلسهم معك، قالوا للذين أوتوا العلم والفهم الصحيح: ماذا قال آنفا؟ ماذا قال في تلك الساعة القريبة؟ لم يقل شيئا يعتد به، وما قال إلا أخلاطا وأحاديث لا خير فيها. أولئك هم الذين طبع الله على قلوبهم حتى لا يفقهوا شيئا مما قلت، وختم عليها حتى لا يدخلها نورك الوضاح، فهؤلاء تركوا اتباع الحق فأمات الله قلوبهم فلم تفهم ولم تعقل فعند ذلك اتبعوا أهواءهم. ويقابل هؤلاء- والإشارة للتحقير والتوغل في الضلال- الذين اهتدوا إلى طريق الحق، وزادهم الله- عز وجل- هدى بالتوفيق والإلهام والعمل الصالح، وآتاهم تقواهم بأن خلق فيهم قدرة على التقوى وفعل الطاعة جازاهم على ذلك. فهؤلاء الذين طبع الله على قلوبهم فلم يسمعوا الخير ولم يهتدوا به، هل ينظرون إلا أن تأتيهم الساعة فجأة، على معنى: هؤلاء لم يتذكروا بأحوال الأمم الخالية، ولم يتعظوا بما ينزل عليهم من أنباء الساعة وأهوالها. فهم ما ينتظرون إلا إتيان الساعة نفسها بغتة. فقد جاء أشراطها وعلاماتها، وإذا كان الأمر كذلك فكيف لهم التذكر إذا جاءتهم الساعة؟ ومن أين لهم التذكر والاتعاظ والتوبة إذا جاءتهم الساعة بغتة؟! إذا علمت ذلك فاثبت على ما أنت عليه، ودم على العلم بوحدانية الله والإيمان بالبعث، واعلم أنه لا إله إلا الله، فإن ذلك هو النافع المنجى يوم لا ينفع مال ولا بنون. واستغفر لذنبك، واستغفر للمؤمنين والمؤمنات، والله يعلم تقلبكم في الدنيا وتصرفكم فيها، ويعلم مكان استقراركم في الآخرة، وسيثيبكم على ذلك كله فإنه لا تخفى عليه خافية. أما أمر النبي بالاستغفار فقيل: لتستن به أمته وتقتدى به فإذا كان هو مأمورا بالاستغفار وهو المعصوم فكيف بنا نحن؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 467 وقد روى مسلم عن الأغر المزني قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنّه ليغان على قلبي- الغين: التغطية والستر، أى: يلبس على قلبي ويغطى- حتّى أستغفر الله في اليوم مائة مرّة» . وروى البخاري عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «إنى لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرّة» . ولقد عللوا ذلك بأن النبي كان يشتغل فترات من الزمن بأحوال المسلمين فيرى أنه شغل عن الحق- تبارك وتعالى- فيستغفر الله لذلك، فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقد يكون استغفار النبي شكرا لا عن ذنب «أفلا أكون عبدا شكورا» وفي أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالاستغفار للمؤمنين والمؤمنات إكرام لهم وتشريف وتوجيه للاستغفار، فإنه وصف لازم للمؤمن والمؤمنة. المؤمنون الصادقون والمنافقون الكاذبون [سورة محمد (47) : الآيات 20 الى 32] وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 468 المفردات: مُحْكَمَةٌ: لا شبهة فيها ولا غموض ولا تشابه. مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ مَرَضٌ: شك ونفاق. نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ: نظرا كنظر المحتضر الذي لا يطرف بصره. فَأَوْلى لَهُمْ: تلك عبارة تهديد ووعيد، والمراد قاربهم ما يهلكهم، على أنها مشتقة من الولي وهو القرب، أو هي مشتقة من الويل بمعنى الهلاك. عَزَمَ الْأَمْرُ: جد ووجب، والمراد بالأمر القتال. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 469 عَسَيْتُمْ: عسى للتوقع، وهي هنا من الله فتفيد التحقق. أَقْفالُها: جمع قفل. سَوَّلَ: زين لهم خطاياهم. وَأَمْلى لَهُمْ: مد لهم في الأمل ووعدهم بطول الأجل. إِسْرارَهُمْ أى: سرهم، وفي قراءة: أسرارهم على أنه جمع سر. وَأَدْبارَهُمْ المراد: ظهورهم. مَرَضٌ المرض: فتور في الجسم، ولا شك أن النفاق فتور في الإيمان، وعلى ذلك فسمى الله شكهم ونفاقهم مرضا. أَضْغانَهُمْ: أحقادهم الدفينة. بِسِيماهُمْ: بعلامتهم. فِي لَحْنِ الْقَوْلِ أى: بسببه، ولحن القول: صرف الكلام عن التصريح إلى التلويح والتعريض. وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ: نعاملكم معاملة المختبر بالتكليف بالجهاد. وَشَاقُّوا الرَّسُولَ: خالفوه حتى كأنهم في شق وجانب، وهو في شق وجانب. وَسَيُحْبِطُ: سيبطل. المعنى: المؤمنون الصادقون حريصون على الجهاد، تواقون لبذل النفس والنفيس في سبيل إعلاء كلمة الله، ولذلك يقولون حرصا منهم على الجهاد وثوابه: هلا أنزلت سورة يؤمر فيها بالجهاد! هؤلاء هم المؤمنون يتمنون أن تنزل سورة وفيها الأمر بالجهاد، أما المنافقون فإذا أنزلت سورة محكمة، لا شبهة فيها ولا خفاء، وذكر فيها القتال على أنه فرض واجب على المسلمين رأيت، ويا هول ما رأيت! رأيت الذين في قلوبهم مرض الشك، ينظرون إليك نظرا كنظر المحتضر الذي لا يطرف بصره، تراهم تشخص أبصارهم إليك جبنا وهلعا، أو من شدة العداوة لك، أو من خوف الفضيحة الفاضحة لهم، وما أروع تصوير القرآن لهم حيث قال: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فأولى لهم. ثم أولى لهم «1» ! وهذا تهديد لهم ووعيد بقرب هلاكهم، وحصول الويل لهم.   (1) - أولى لهم مبتدأ وخبر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 470 طاعة وقول معروف خير لهم وأولى بهم «1» وقيل المعنى: أولى بهم من النظر إليك نظر المغشى عليه من الموت طاعة وقول معروف «2» . فإذا عزم الأمر وجد الجد، فلو صدقوا الله في نيتهم وأخلصوا العمل لكان «3» خيرا لهم وأفضل من نفاقهم وكذبهم، فإن وبال ذلك عليهم وحدهم. فهل يتوقع منكم إن توليتم عن الحق، وأعرضتم عن القرآن أن تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، وتقطعوا الأرحام؟ وهذا التوقع والاستفهام إنما يكون مع غير الله من كل إنسان يقف على أمور المنافقين، ويعرف إسرارهم على حقيقته، والتوقع من الله إنما هو إخبار عن شيء حاصل قطعا وعلى ذلك فمعنى الآية: هؤلاء المنافقون ضعاف في الدين شديد والحرص على الدنيا بشكل ظاهر، فهم جديرون بأن يتوقع منهم الإفساد لا الإصلاح وتقطيع الأرحام لا صلتها، كل إنسان عرف حالهم ويقول لهم: فهل عسيتم ... ؟ والمراد بإفسادهم وتقطيع الأرحام أنهم يعودون إلى الجاهلية الجهلاء والضلالة العمياء التي كانوا فيها، يعودون إليها بعد أن رأوا نور الهدى على يد خير الخلق، وبين سطور القرآن الكريم، فهل يفهم المسلمون الآن أنهم تولوا عن القرآن وأعرضوا عن الدين فأفسدوا في الأرض الفساد، وقطعوا وشائج الأرحام فصب عليهم ربك سوط عذاب حتى وصلوا إلى ما وصلوا، ولا حول ولا قوة إلا بالله!!! أولئك الذين لعنهم الله وأبعدهم عن رحمته، فأصمهم عن الحق فلم يسمعوه وأعمى أبصارهم عن النور فلم يروه. أفلا يتدبرون القرآن، وما فيه من مواعظ وزواجر؟ حتى لا يقعوا فيما وقعوا فيه من الموبقات؟! بل أعلى قلوب أقفالها؟ حتى لا يمكن التدبر والاتعاظ بها، وهم كذلك.   (1) - وعلى ذلك فطاعة مبتدأ وخبره محذوف تقديره خير لهم. (2) - وعلى ذلك فأولى مبتدأ ولهم متعلق به على أن اللام بمعنى الباء وطاعة خبر. (3) - جواب الشرط (إذا) قوله: فلو صدقوا الله، ولا يضر اقترانه بالفاء، وجواب (لو) قوله: لكان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 471 إن الذين ارتدوا على أدبارهم، وكفروا بعد إيمانهم، كل ذلك من بعد ما تبين لهم الهدى، وظهر لهم الحق جليا، إن الذين وصفوا بهذا: الشيطان سول لهم وزين خطاياهم «وأملى لهم، أى: مد لهم في الأمل» ، ووعدهم بطول العمر ومد الأجل، هذا الكلام قيل: إنه في أهل الكتاب، والظاهر أنه في المنافقين، والكلام موصول فيهم لا مقطوع بدليل قوله: ذلك الارتداد والكفر بعد الإيمان بسبب أنهم قالوا: أى المنافقون الذين كرهوا ما أنزل الله، وهم بنو قريظة والنضير من يهود المدينة قالوا لهم: سنطيعكم في بعض الأمر أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ: لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ، وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً، وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ [سورة الحشر آية 11] والله يعلم إسرارهم وإخفاءهم. فكيف حالهم؟ إذا توفتهم الملائكة ظالمي أنفسهم «1» حالة كون الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم، وضرب الوجه والظهر في حالة الحرب مما يتقيه الكريم، فهم تجنبوا ذلك في الدنيا فضربوا عليها في الآخرة، وذلك كله بسبب أنهم اتبعوا ما أسخط الله من الكفر والمعاصي وكرهوا رضوانه وطاعاته، فأحبط أعمالهم، وأبطل كيدهم، بل أحسب الذين في قلوبهم مرض النفاق أن لن يخرج الله أضغانهم، ويظهر حقدهم وحسدهم المدفون؟ لا تظنوا هذا فالله عالم يعلم الغيب والشهادة، وهو العليم بذات الصدور. ولو يشاء ربك يا محمد أن تراهم وتعرفهم لعرفك إياهم، فلتعرفنهم «2» بعلامتهم الدالة عليهم، ولتعرفنهم بسبب لحن القول وفحواه. والمعنى: إنك يا محمد لتعرفن المنافقين فيما يعرضونه عليك من القول ولحنه، فكان بعد هذا لا يتكلم منافق عند النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا عرفه بقوله، واستدل بفحوى كلامه على فساد باطنه، وضعف إيمانه ونفاقه، ولا غرابة فالله يعلم أعمالكم الظاهرة والخافية.   (1) - الفاء فاء التفريع لترتب ما بعدها على ما قبلها، وكيف خبر لمبتدأ محذوف وتقديره حالهم. (2) - الفاء هنا فاء تفريع لمعرفته صلّى الله عليه وسلّم على تعريف الله عز وجل واللام بعدها كاللام في لأريناكهم واقعة في جواب لو، واللام في «ولتعرفنهم» جواب قسم محذوف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 472 وبالله لنبلونكم ونعاملنكم معاملة المختبر بأمركم بالجهاد في سبيل الله وغيره حتى نعلم علم ظهور وانكشاف، ويعلم الكل حقيقة حالكم. إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله بالقول أو الفعل أو إذاعة السوء وتحريف الأخبار، وتحريف الكلم من بعد مواضعه، إن الذين فعلوا ذلك وشاقوا الرسول وخالفوه من بعد ما تبين لهم الهدى: فوصف النبي صلّى الله عليه وسلّم عندهم ظاهر في كتبهم قبل تحريفها، وكانوا يستفتحون النبي على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به، والمنافقون قوم آمنوا ثم كفروا، وخالفوا بعد ما اهتدوا، هؤلاء لن يضروا الله شيئا، وسيحبط أعمالهم، ويبطل مكرهم، ولا يثيبهم الله يوم القيامة على أعمالهم التي يظنونها خيرا. ختام السورة [سورة محمد (47) : الآيات 33 الى 38] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35) إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 473 المفردات: فَلا تَهِنُوا أى: فلا تضعفوا. السَّلْمِ: هو السلام والمصالحة. يَتِرَكُمْ قال الزمخشري في تفسيره- على أنه من أئمة اللغة-: وحقيقته: أفردته من قريبه أو ماله من الوتر وهو الفرد، فشبه إضاعة عمل العامل وتعطيل ثوابه بوتر الواتر وهو من فصيح الكلام، وقال أبو عبيدة والمبرد: هذا اللفظ مأخوذ من: وترت الرجل: إذا قتلت له قتيلا من ولد أو أخذ حميم، أو سلبته ماله وذهبت به، والمراد باللفظ في الآية: لن يظلمكم، أو لن ينقصكم، أو لن يضيع عليكم شيئا من أعمالكم. لَعِبٌ وَلَهْوٌ المراد: باطل وغرور وليس فيه خير. فَيُحْفِكُمْ الإحفاء: المبالغة في الطلب. أَضْغانَكُمْ: أحقادكم. بعد بيان أحوال الكفار والمنافقين، في الدنيا والآخرة أمر المؤمنين بطاعة الله ورسوله، وحثهم على الجهاد والبذل، وكره إليهم الدنيا، وهددهم إن لم يؤمنوا أن يستبدل قوما غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم. المعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله: أطيعوا الله وأطيعوا رسوله في كل أمر ونهى فها أنتم أولاء قد رأيتم من يشاقق الرسول وعاقبته، وإياكم أن تبطلوا أعمالكم الصالحة بالمن والأذى، ولا تحبطوها بالكفر والعصيان، أو بالسمعة والرياء، أو بالشك والنفاق، أو بالعجب والتكبر فإن ذلك كله يبطل صالح الأعمال: واعلموا أن الذين كفروا بالله ورسوله، وصدوا عن سبيل الله أنفسهم وغيرهم، ثم ماتوا وهم كفار، فلن يغفر الله لهم. قيل نزلت هذه الآية في أهل القليب، وهم المشركون الذين ماتوا في غزوة بدر، وحكمها عام في من مات على الكفر. إذا علمتم وجوب الجهاد وتأكده، وأن الله مع المؤمنين بالنصر والتأييد، وأن الله أوعد الكافرين بالخذلان والهلاك. إذا علمتم ذلك فلا تهنوا في ابتغاء القوم، ولا تضعفوا، إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وأكثر. والوهن: حب الدنيا وكراهية الموت، فإياكم والوهن والخضوع للكفار وطلب الصلح إذا لقيتموهم، والحال الجزء: 3 ¦ الصفحة: 474 أنكم الأعلون، فجهادكم في سبيل الله ستثابون عليه ثوابا جزيلا، وحربهم في سبيل الشيطان سيلقون به عذابا شديدا، وأنتم الأعلون فمقصدكم إعلاء كلمة الله وإحباط كيد الشيطان، والله معكم بالنصر والتأييد، والمعونة والمثوبة، ومن كان معه الله فلا يضره شيء بعد هذا، وكفاكم شرفا وفخرا وتأييدا أن الله معكم، ولن ينقصكم من ثواب أعمالكم شيئا، ولا تنسوا أن قتلاكم شهداء في الجنة، وقتلاهم في سعير جهنم. واعلموا أن الدنيا لعب ولهو، وزينة وتفاخر وتكاثر في الأموال والأولاد، وهذا كله باطل إلا ما كان منها في عبادة الله- عز وجل- وطاعته، وإذا كان الأمر كذلك فيجب ألا تشغلكم الدنيا عن الآخرة والفوز بلذائذها الفاخرة، فالآخرة خير وبقي وإن تؤمنوا وتتقوا أيها الناس يؤتكم أجوركم، ولا يسألكم أموالكم كلها: إنما يسألكم قليلا من المال هو في الواقع تحصين لكم ولمالكم، وإنما أنتم في الواقع خلفاء لله في ماله، فأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه، إن يسألكموها فيحفكم ويبالغ في طلبها كلها تبخلوا ولا تقرضوه قرضا حسنا تثابون عليه، ويخرج هذا أضغانكم وحبكم للمال، إذ كراهيتكم للإنفاق كراهية طبيعة. ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله، فمنكم من يبخل، ومن يبخل فإنما بخله وعاقبته على نفسه وحده، والله الغنى عن إنفاقكم، وإنما سبحانه قد ربط أسباب النجاح والفلاح بالإنفاق والجهاد في سبيل الله والله الغنى وأنتم الفقراء إليه. وإن تتولوا وتعرضوا يستبدل قوما غيركم، ثم لا يكونوا أمثالكم، بل يكونوا طائعين مؤمنين عاملين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 475 سورة الفتح وهي مدنية بالإجماع. وعدد آياتها تسع وعشرون آية. ونزلت ليلا بين مكة والمدينة في شأن صلح الحديبية. خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من المدينة في ذي القعدة من السنة السادسة معتمرا (زائرا للبيت) لا يريد حربا، وإنما هو مشتاق إلى رؤية بلده الحبيب، خرج ومعه حوالى 1500 من المهاجرين والأنصار ومن دخل في الإسلام من الأعراب وساق معه الهدى- ما يهدى إلى الحرم من النعم- وأحرم بالعمرة من (ذي الحليفة) وخرج معه من نسائه أم سلمة- رضى الله عنها- ولم يكن مع رسول الله وصحبه إلا سلاح المسافر: السيوف في القرب، فلما أصبح على مرحلتين من مكة لقيه بشر بن سفيان الكعبي قائلا: يا رسول الله هذه قريش علمت بمسيرك فخرجوا ومعهم العوذ المطافيل (النوق ذات اللبن والأولاد) أى: خرجوا عازمين على طول الإقامة، وقد نزلوا بذي طوى يحلفون بالله لا تدخلها عليهم أبدا. وأخذت الرسل من قبل قريش تفاوض رسول الله وقد أرسل رسول الله في هذه الأثناء إلى قريش عثمان بن عفان يبلغهم قصد رسول الله وأنه لا يريد إلا العمرة، وفي غيبة عثمان في مكة مفاوضا أشيع أنه قتل، فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المسلمين إلى البيعة فكانت بيعة الرضوان تحت شجرة الرضوان، روى سلمة بن الأكوع- رضى الله عنه- قائلا: بايعناه وبايعه الناس على عدم الفرار، وأنه إما الفتح وإما الشهادة. علمت قريش بهذا فأرسلت سهيل بن عمرو لعقد الصلح، وقد تم ذلك وسمى صلح الحديبية، وخلاصة شروطه: أن يكف الفريقان عن الحرب عشر سنين يأمن فيها الناس فلا قتال ولا اعتداء، على أنه من أتى محمدا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشا ممن مع محمد لم يرده عليه، وأن بين القوم عيبة مكفوفة، وأن من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده من القبائل دخل فيه. ومن أراد أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وقد سارعت خزاعة فدخلت في عقد محمد وحالفته، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عهد قريش وعقدهم هذا على أن المسلمين يرجعون عن مكة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 476 هذا العام فلا يدخلونها، وإذا كان العام القابل خرجت قريش من مكة ودخلها المسلمون ثلاثة أيام، معهم سلاح الراكب: السيوف في القرب. رجع المسلمون عن مكة بعد الصلح، وقد كان هذا الصلح مثار اعتراض بعض كبار المسلمين إلا أبا بكر فحينما اعترض عمر بن الخطاب على الصلح قال له: الزم غرزه (أى ركابه وسر مع النبي) يا ابن الخطاب، وقد أثبتت الأيام أنه كان فتحا جديدا ونصرا مبينا للمسلمين، ونزلت في شأنه: هذه السورة الكريمة. صلح الحديبية [سورة الفتح (48) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَكانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَالْمُنافِقاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَساءَتْ مَصِيراً (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 477 المفردات: فَتَحْنا الفتح: الظفر بالبلد عنوة أو صلحا بحرب أو بغيره لأنه منغلق ما لم يظفر به، فإذا ظفر به وحصل في اليد فقد فتح، مأخوذ هذا المعنى من فتح باب الدار وهذا على أن المراد فتح مكة، وقيل: هو صلح الحديبية، والمراد: أوجدنا لك سبب الفتح «1» . عَزِيزاً: ذا عز لا ذل معه، أو عزيزا أى: فريدا لا شبيه له. السَّكِينَةَ: الطمأنينة. السَّوْءِ ساءه يسوءه سوءا ومساءة: نقيض سرّه، والاسم: السوء، والمراد: الهزيمة والشر. دائِرَةُ وهي في الأصل: عبارة عن الخط المحيط بالمركز ثم استعملت في الحادثة المحيطة بالإنسان كإحاطة الدائرة بالمركز إلا أن أكثر استعمالها في الشر والمكروه والمراد: دائرة هي السوء. المعنى: يخبر الله تعالى عن نفسه بنون العظمة أنه فتح للنبي صلّى الله عليه وسلّم فتحا عظيما بعقد صلح الحديبية بينه وبين المشركين بمكة، فقد كانت هذه أول مرة اعترفت فيها قريش بمحمد لا على أنه ثائر خارج، أو طريد لا يعبأ به، بل اعتبرت محمدا وصحبه قوة يحسب لها حساب، ويجب أن يعقد معها صلح، ثم إن تسليمها بحق الزيارة للمسلمين في العام القابل اعتراف صريح بأن الإسلام دين مقرر معترف به، وهذه الهدنة قد جعلت المسلمين يأمنون شر عداوة المشركين ألد أعدائهم الخطرين، ويوجهون عنايتهم لنشر دعوتهم الإسلامية في أرجاء الجزيرة العربية، ولذا نرى الرسول بعث البعوث وأوفد الرسل لكسرى والمقوقس وهرقل وأمراء الغساسنة وعمال كسرى في اليمن، وإلى نجاشى الحبشة، وفيها صفى حسابه مع اليهود وقد انتشر الإسلام بعد هذا الصلح انتشارا واسعا بسبب تلك الهدنة التي اندفع الدعاة للدين الجديد يشرحون للناس الإسلام حتى دخلوا في دين الله أفواجا، وها هو ذا محمد صلّى الله عليه وسلّم يدخل مكة بعدها بعامين اثنين في عشرة آلاف مقاتل.   (1) - وعلى ذلك فهو مجاز مرسل من إطلاق السبب على المسبب، أو هو استعارة تبعية في فتحنا حيث إنه أطلق الفتح وأراد الصلح لعلاقة المشابهة في الظهور والغلبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 478 وقد كان أشد شيء على نفوس المسلمين وخاصة أمثال عمر- رضى الله عنه- شرطا قبله النبي صلّى الله عليه وسلّم وخلاصته أن من ارتد من المسلمين قبله المشركون، ومن جاء من المشركين إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم رده النبي ولم يقبله، وحجة النبي في ذلك أن من ارتد عن الإسلام فلا حاجة لنا به، ومن جاء مسلما منهم وحاول اللحاق بالمسلمين فليصبر وسيجعل الله له مخرجا. وقد أثبتت الحوادث أن هذا العهد كله- خاصة هذا الشرط الذي ظنه المسلمون مجحفا بهم- حكمة سياسية، وبعد نظر كان له أكبر الأثر في الدعوة الإسلامية. فهذا أبو بصير وقد إلى النبي مسلما ينطبق العهد عليه برده إلى قريش لأنه خرج بغير رأى مولاه، فقال له النبي حينما طلب إليه الرجوع: يا أبا بصير إنا قد أعطينا لهؤلاء عهدا ولا يصح لنا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا فانطلق إلى قومك، قال أبو بصير: أتردنى إلى المشركين يفتنونى في ديني؟! وأخيرا بعد حوار مع مرافقيه نزل في مكان على ساحل البحر الأحمر في طريق قريش إلى الشام، واجتمع معه جمع من المسلمين الفارين بدينهم، وأخذوا يقطعون على قريش سبيل تجارتهم حتى ضجوا وطلبوا من النبي بإلحاح أن يجيرهم من هؤلاء، وأن يبقيهم معه في المدينة، وسقط بذلك الشرط الذي أقلق عمر وغيره. أليس هذا فتحا مبينا فتح الله به على المسلمين، وكان فتحا مبينا، وفوزا عظيما؟! نعمه هو أعظم الفتوح فقد رضى المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح- الراحة- ويسألوكم القضية، ويرغبوا إليكم في الأمان، ويعاملوكم معاملة الأنداد وقيل: هو فتح مكة، ولتحقق وقوعه عبر عنه الله بقوله: فتحنا. وهل الفتح علة لمغفرة الله لنبيه ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ وقد أجاب العلامة الزمخشري عن ذلك بقوله: لم يجعل علة للمغفرة فحسب، ولكن لاجتماع ما عدد من الأمور الأربعة، وهي المغفرة، وإتمام النعمة، وهداية الصراط المستقيم، والنصر العزيز، كأنه قيل: يسرنا لك فتح مكة- هو يرى أن الفتح لمكة- ونصرناك على عدوك لنجمع لك بين عز الدارين والجزاء العاجل والآجل، ويجوز أن يكون الفتح من حيث هو جهاد للعدو سببا للغفران والثواب والهداية للصراط المستقيم، والنصر العظيم وما تقدم من الذنب وما تأخر المراد به: ما فرط من النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو المعصوم عن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 479 معصية ربه- من خلاف الأولى بالنسبة لمقامه فهو من قبيل حسنات الأبرار سيئات المقربين، وقيل: المراد ما هو ذنب في نظره العالي، وإن لم يكن في الواقع كذلك، ولعل الإضافة في قوله: (ذنبك) تشير إلى هذا المعنى، وبعض العلماء يفسر المغفرة للذنب بالستر بينه وبين صاحبه فلا يقع منه، أو بالستر بين الذنب وبين عقابه، والمعنى الأول يعامل به المعصومون من الأنبياء، والثاني يعامل به بقية البشر، ويتم نعمته عليك بإعلاء الدين وانتشاره ودخول الناس فيه أفواجا، وما أفاضه عليك ربك من نعم الدنيا والآخرة. ويريك صراطا مستقيما في تبليغ الرسالة، وينصرك الله نصرا عزيزا ذا عز، لا ذل معه، أو هو عزيز المنال فريد المثال، والنصر لا يكون إلا من عند الله، ولذا أظهر لفظ الجلالة معه. وهذا فضل الله على نبيه، أما فضل الله على المؤمنين من أصحابه فقال الله فيه: هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين، ووضع فيها الطمأنينة والثبات بعد التزعزع والاضطراب الذي جعل عمر يقول: ألسنا مسلمين؟ ألسنا على الحق؟ فعلام نعطى الدنية في ديننا؟!، ولكن الله بعد هذا أنزل الطمأنينة في قلوبهم وأثلج صدورهم ببرد اليقين، وشرحها لما رآه النبي، وصدقت الأيام رأيه كما مر، أنزل في قلوبهم السكينة ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم، ويقينا على يقينهم، ولا غرابة في ذلك فلله جنود السموات والأرض، وما يعلم جنود ربك إلا هو، وكان الله عليما كامل العلم بجميع الأمور حكيما كامل الحكمة فلا يضع الشيء إلا في موضعه. دبر سبحانه ما دبر من تسليط المؤمنين على الكافرين ليعرفوا نعمة الله- تعالى- في ذلك ويشكروها فيدخلهم الجنة «1» ، ويكفر عنهم سيئاتهم، وكان ذلك عند الله فوزا عظيما وفعل ذلك أيضا ليعذب المنافقين والمنافقات لغيظهم من تمام النعمة على المسلمين، ولا شك أن ازدياد الإيمان بالعمل مما يغيظ المنافقين والمشركين، ولعل تقديم المنافقين والمنافقات على المشركين والمشركات لأنهم أكثر ضررا على المسلمين، أعنى بهم   (1) - العلة في الحقيقة معرفة النعمة والشكر عليها لكنها لما كانت سببا في دخول الجنة أقيم المسبب- دخول الجنة- مقام السبب. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 480 الظانين بالله ظن السوء، أى: ظن الأمر الفاسد المذموم، وهو أن الله- عز وجل- لا ينصر رسوله والمؤمنين. على هؤلاء وحدهم دائرة السوء، وما يتربصونه بالمؤمنين فهو حائق بهم، ودائر عليهم، وغضب الله عليهم وطردهم من رحمته شر طردة، وأعد لهم جهنم، وساءت مصيرا، ولا عجب في ذلك فهم وإن كثروا عدة وعددا فلله جنود السموات والأرض، وكان الله عزيزا لا يغالب، حكيما في كل أفعاله، انظر إلى تذييل الآية السابقة بقوله: وكان الله عليما حكيما، وهنا: عزيزا حكيما لأن المقصود أولا التدبير التام لأمر الخلق فيناسب العلم والإحاطة، وهنا المراد تهديد المنافقين والمشركين فيناسبه العزة والغلبة. المتعاهدون مع الله ورسوله [سورة الفتح (48) : الآيات 8 الى 10] إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10) المفردات: شاهِداً: تشهد على أمتك بالبلاغ. وَتُعَزِّرُوهُ: تعظموه وتفخموه، والتعزير والتعظيم والتوقير: المنع، ومنه التعزير في الحد. وَتُوَقِّرُوهُ: من التوقير وهو التعظيم، وقيل: المراد تسودوه. يُبايِعُونَكَ المبايعة: مبادلة المال بالمال، وهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 481 عاهدوا النبي على الثبات في محاربة الكفار، وعاهدهم النبي على ضمان الجنة لهم، فأطلق المبايعة على المعاهدة «1» التي عقدها النبي صلّى الله عليه وسلّم مع المسلمين، وهي بيعة الرضوان، وكانت تحت شجرة بالحديبية- قرية بينها وبين مكة حوالى مرحلة، وهي في حدود الحرم. نَكَثَ: نقض البيعة. أَوْفى بِما عاهَدَ يقال: أوفى ووفى بالعهد: إذا أتمه. المعنى: إنا أرسلناك يا محمد شاهد صدق تبلغ الدعوة الإلهية لإنقاذ البشرية، وتبشر من اهتدى إلى الصراط المستقيم بجنة عرضها السموات والأرض، وتنذر من حاد وتردى في الهوى وسلك سبيل الغي والضلال لتنذره بجهنم ونارها التي أعدت للكافرين وإنما فعل ذلك ربكم لتؤمنوا بالله ورسوله، وتعزروه وتنصروا رسوله، وتوقروه وتعظموه، وتسبحوه وتنزهوه وتصلوا له- سبحانه- بكرة وأصيلا في الغداة والعشى، وهما طرفا النهار، وما بينهما تبع لهما، ولا شك أن نصرة رسول الله نصرة لله، والتفانى في تبليغ دعوة الله من أكبر الدواعي لرضا الله ورضا رسوله، وهذا كله يتطلب من المسلمين عقد العهود، وتأكيد المبايعة مع النبي على نصرة دينه مهما كلفهم ذلك، وقد كان ذلك، وتعاهد المسلمون وعقدوا معه بيعة الرضوان. ولما بين الله أنه أرسل رسوله بالهدى ودين الحق، بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا لينقذ البشرية من جهالتها، ويرفعها من وهدتها، ومن كانت هذه منزلته عند الله يكون من بايعه في الظاهر فقد بايع الله حقيقة وفي الواقع، ومن بايع رسول الله على ألا يفر في القتال حتى ينصر الله دينه أو يستشهد في سبيل ذلك إنما كان يقصد بذلك رضا الله ورسوله وثواب جنته إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ فالرسول سفير محض بين الله وبين أوليائه من المؤمنين يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ وهذا استئناف مؤكد لما تضمنه الكلام السابق من أن مبايعة الرسول مبايعة لله.   (1) - هذا الإطلاق على سبيل الاستعارة التصريحية التبعية، ووجه الشبه: اشتمال كل على المبادلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 482 والسلف- رضوان الله عليهم- يفهمون في مثل هذه الآيات المعنى العام والغرض من السياق، مع تنزيه المولى- جل شأنه- عن مشابهة الحوادث وصفات الأجسام وإثبات الجوارح له، ويكلون أمر ذلك لله قائلين: إن معرفة حقيقة «اليد» التي وردت هنا فرع عن معرفة حقيقة الذات، وأنى لمخلوق ذلك؟ وهيهات ثم هيهات له ذلك! فالأولى التفويض لعلام الغيوب مع الإيمان الكامل بكل ما جاء في القرآن والسنة الصحيحة. وأما الخلف فيؤولون ذلك بأن في الآية استعارة «1» أو المراد باليد القوة لا الجارحة والمعنى: قوة الله ونصرته فوق قوتهم ونصرتهم فثق بالله وحده فالنصر من عنده لا من عند غيره، أو المعنى: نعمة الله عليهم بالهداية، وتوفيقهم لمبايعتك فوق مبايعتهم ونصرتهم لك وهذا على أن اليد تطلق أيضا على النعمة لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ [سورة الحجرات آية 17] . وإذا كان الأمر كذلك فمن نكث العهد ونقضه فإنما وبال إثمه وعاقبة فعله على نفسه فقط لا على غيره، ومن أتم عهده وأدى واجبه كاملا فله جزاء الحسنى، وسيؤتيه ربك أجرا عظيما، حتى يرضى. روى الشيخان عن يزيد بن عبيد قال: قلت لسلمة بن الأكوع: «على أى شيء بايعتم رسول الله؟ قال: على الموت» ... وروى مسلم عن معقل بن يسار قال: «لقد رأيتنى يوم الشجرة- التي كانت تحتها بيعة الرضوان بالحديبية- والنبي صلّى الله عليه وسلّم يبايع الناس وأنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه، ونحن أربع عشرة مائة، قال: لم نبايعه على الموت، ولكن بايعناه على ألا نفر» قال العلماء: لا منافاة بين الحديثين. فجماعة كانت مع سلمة وجماعة مع معقل.   (1) - بالكناية في لفظ الجلالة حيث شبه بالمبايع وذكر اليد قرينة وإسنادها له تخييل، وفي ذكر اليد مع أيدى الناس مشاكلة، ويقول علماء البلاغة: إن في الآيات محسنات بلاغية كثيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 483 المتخلفون عن الحديبية [سورة الفتح (48) : الآيات 11 الى 17] سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَأَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَزُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَكانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 484 المفردات: الْمُخَلَّفُونَ: هم المتخلفون الذين خلفهم الله عن السير إلى مكة مع النبي صلّى الله عليه وسلّم. الْأَعْرابِ المشهور: أنهم سكان البوادي من العرب. ضَرًّا: هو الضد للنفع من هزيمة أو هزال أو سوء حال. يَنْقَلِبَ: يرجع. بُوراً أى: هلكى وفاسدين لا تصلحون لخير. ذَرُونا: اتركونا نسير معكم. لا يَفْقَهُونَ: لا يفهمون ولا يعلمون من أمر دينهم إلا قليلا. أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ: أصحاب قوة وشدة. حَرَجٌ: إثم وذنب. الْأَعْرَجِ: من في رجله آفة. المعنى: خرج رسول الله عام الحديبية إلى مكة معتمرا لا يريد حربا ولا اعتداء، واستنفر القبائل العربية الضاربة حول المدينة أن يخرجوا معه إلى مكة، ليشهد أكبر عدد ممكن على أنه لا يريد حربا، فإن اعتدت عليه قريش أو منعته ظهر أمرهم للعرب كافة، وليكون في أكبر عدد ممكن من أنصاره حتى لا تتعرض لهم قريش بسوء. وكان ممن طلبهم للخروج معه قبائل غفار، ومزينة، وجهينة، وأسلم. وأشجع، والديل، فتخلف من هؤلاء أكثرهم حذرا من قريش مع أن النبي أحرم بالعمرة، وساق الهدى معه ليعلم الناس أنه لا يريد حربا. ومع هذا تخلفت الأعراب، وتثاقلوا عنه، واعتلوا بالشغل، وقالوا: شغلتنا أموالنا التي جمعناها، وأهلونا، وليس لنا من يقوم بها فاستغفر لنا ربك يا محمد وادعه ليقبل العذر، قالوا هذا بألسنتهم، والله يعلم أنهم كاذبون ففضحهم، وأنزل في شأنهم قرآنا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 485 يخبر بخبرهم قبل أن يقولوه، وقال الله تعالى: يقولون هذا الكلام السابق بألسنتهم فقط ولم يكن لهم عذر، ولم يطلبوا المغفرة حقّا. بعد ذلك أمر صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً من يستطيع لكم إمساك شيء من قدرة الله- تعالى- إن أراد بكم ضرّا أو أراد بكم نفعا؟ لا أحد يقدر على ذلك. وإذا كان الأمر كذلك، فليس الشغل بالأهل والمال عذرا، لأنه لا يدفع ضرّا، ولا لقاء العدو يمنع نفعا أراده الله. بل الأمر أخطر من هذا، والله بما تعملون أيها المخلفون خبير وبصير وسيجازيكم عليه بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول والمؤمنون إلى أهليهم أبدا، وذلك ظنكم الذي ظننتم بربكم! والمعنى: السبب الحقيقي في تخلفكم ليس هو كما تقولون، وإنما هو ظنكم أن محمدا وأصحابه قلة فكيف يحاربون قريشا ومن حولها وكانوا بالأمس يحاربونهم على أبواب المدينة- في غزوة الخندق- وزين ذلك في قلوبكم أيها المتخلفون، والذي زينه هو الشيطان وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ [النمل 24] أو هو الله وزَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ [النمل 4] وظننتم ظنا سيئا، وكنتم قوما هلكى، لا خير فيكم أبدا. ومن لم يؤمن بالله ورسوله، فإنا أعتدنا له وهيأنا له نارا وسعيرا لأنه في عددا الكفار ولا عجب فلله ملك السموات والأرض يدبر أمره بحكمة تامة وعلم كامل فيعذب من يشاء ممن يستحق العذاب، ويغفر لمن يشاء ممن يستحق المغفرة، وهو أعلم بخلقه، وكان الله غفورا رحيما. سيقول الذين خلفهم الله عن الخروج معكم، وأقعدهم عن السير مع رسول الله وصحبه، سيقولون وقت انطلاقكم إلى مغانم- هي مغانم خيبر-: ذرونا نتبعكم ونسير معكم في الغزو، قالوا هذا لأنهم ظنوا أن المسلمين سيغنمون، هؤلاء المتخلفون يريدون بطلبهم هذا أن يبدلوا كلام الله، إذ هو قد وعد من حضر صلح الحديبية وبيعة الرضوان بالمغانم خاصة فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ على من حضر بيعة الرضوان وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها [سورة الفتح الآيتان 18، 19] . قل يا محمد لهم: لن تتبعونا في غزو بعد هذا فإنا عرفناكم، مثل ذلك القول الصادر منى أى من النبي صلّى الله عليه وسلّم وهو لن تتبعونا- قال الله وحكم به، وهو خير الحاكمين، فهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 486 قد حكم بأنكم لا تتبعون النبي، وأن غنائم خيبر لمن شهد الحديبية فقط ولما كان هؤلاء المنافقون لا يعتقدون شيئا من هذا، بل يظنون أن هذه حيل يحتال بها المسلمون حتى يفوتوا عليهم غنائم خيبر، وما دفعهم إلى ذلك إلا الحسد والبغضاء قالوا- أى: المنافقون المتخلفون-: بل «1» تحسدوننا فليس الأمر كما تدعون بل إنما قلتم هذا حسدا وبغيا علينا، هذا ما كان منهم، وقد رد الله عليهم مضربا عن كلامهم مبينا أنهم قوم لا يفقهون من أمر دينهم إلا قليلا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا ولذا تراهم يخادعون الله ورسوله، وما يخادعون إلا أنفسهم، وما يشعرون قل يا محمد لهؤلاء المتخلفين: ستدعون إلى محاربة قوم أولى بأس شديد، والظاهر- والله أعلم- أنهم المرتدون بعد موت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهم بنو حنيفة قوم مسيلمة الكذاب، وقد دعا أبو بكر خليفة رسول الله المسلمين- ومنهم هؤلاء المتخلفون- إلى قتالهم حتى يسلموا، والمشركون من العرب والمرتدون هم الذين يقاتلون حتى يسلموا، ولا يقبل منهم إلا الإسلام أو السيف بخلاف غيرهم من المشركين والوثنيين والمجوس وأهل الكتاب فإنه يقبل منهم الإسلام أو الجزية أو القتال، وهذا رأى أبى حنيفة بخلاف الشافعى، والحق مع أبى حنيفة. أيها المتخلفون: إن تطيعوا الله وأمر إمامكم يؤتكم أجرا حسنا، ويقبل منكم التوبة، وإن تتولوا وتعرضوا كما أعرضتم سابقا يعذبكم الله عذابا أليما فهذه فرصة لكم فاهتبلوها بتوبة خالصة صادقة. وهذه رحمة الإسلام لا يحاسب إلا القادر، ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها، ولذا يقول: ليس على الأعمى حرج، وليس عليه ذنب أو إثم في تخلفه عن رسول الله، وليس على الأعرج حرج كذلك، ولا على المريض حرج أيضا في ترك الجهاد حيث لا قدرة له عليه، تلك أعذار مقبولة، والله- سبحانه- هو العليم بذات الصدور، وصدق رسول الله «إنّما الأعمال بالنّيّات وإنّما لكلّ امرئ مّا نوى» . وهناك القانون العام الذي يجمع الخلائق كلها حتى لا يكون عذر لمعتذر: من يطع الله ويطع رسول الله في كل أمر ونهى يدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار، جنات عرضها السموات والأرض، ومن يتول معرضا عن أمر الله ورسوله مؤثرا نفسه وهواه يعذبه عذابا أليما، ويدخله جهنم، وساءت مصيرا..   (1) - بل هنا للإضراب في الموضعين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 487 بيعة الرضوان وما فيها من خير [سورة الفتح (48) : الآيات 18 الى 26] لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَمَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَكانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَأُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَكانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (21) وَلَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24) هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها وَكانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (26) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 488 المفردات: الشَّجَرَةِ: المعهودة التي كان تحتها بيعة الرضوان. وَأَثابَهُمْ: كافأهم على عملهم. آيَةً: علامة على أن الله يدافع عن المؤمنين. قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها أى: فهي محصورة لا تفوتكم. بِبَطْنِ مَكَّةَ المراد: بالحديبية. وَصَدُّوكُمْ: منعوكم. الْهَدْيَ: هو ما يهدى للحرم ويذبح فيه. مَحِلَّهُ أى: محل ذبحه وهو منى. مَعْكُوفاً أى: محبوسا. أَنْ تَطَؤُهُمْ المراد: الإيقاع بهم بالقتل أو غيره. مَعَرَّةٌ: وهي العيب. تَزَيَّلُوا: تفرقوا. الْحَمِيَّةَ: هي الأنفة، يقال: حميت عن كذا حمية إذا أنفت منه وداخلك عار وأنفة أن تفعله. سَكِينَتَهُ المراد: الطمأنينة والوقار. كَلِمَةَ التَّقْوى: هي كلمة: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. بيعة الرضوان بيعة مشهورة كان لها أثر كبير في سياسة المسلمين العامة، وقد كتب عنها كثير من المؤرخين وكتاب السيرة وعلماء التفسير، وقد ذكرنا طرفا من أخبارها في أول السورة، والذي عجل بعقدها أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان أرسل عثمان بن عفان رسولا له إلى قريش يبلغهم قصده، وأنه لا يريد إلا العمرة بدليل أنه ساق الهدى وليس معه إلا السيوف في القرب وقد أشيع وقتذاك أن عثمان قتل، وقد كانت قريش احتبسته أياما، وكان وقع هذا الخبر شديدا على النبي صلّى الله عليه وسلّم وصحبه، فدعا إلى عقد بيعة، وفي صحيح مسلم عن أبى الزبير عن جابر قال: كنا يوم الحديبية ألفا وأربعمائة فبايعناه وعمر آخذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 489 بيده تحت الشجرة- شجرة الطلح- فبايعناه، غير جد بن قيس الأنصارى اختبأ تحت بطن بعيره، بايعناه على ألا نفر ولم نبايعه على الموت، وفي رواية: بايعناه على الموت، فلما علمت قريش بأمر المبايعة خافوا وأرسلوا سهيل بن عمرو لعقد الصلح الذي سمى (صلح الحديبية) ، وكتب علىّ- رضى الله عنه-: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال سهيل بن عمرو: فما ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم، ولكن اكتب ما نعرف: باسمك اللهم، فكتب، وكتب بعدها: هذا ما كاتب عليه محمد رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال سهيل: لو نعلم أنك رسول الله لا تبعناك ولما قاتلناك. ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «امحه» فما استطاع أن يمحوه، فطلب النبي من علىّ أن يريه هذا. فمحاه النبي بنفسه ، وهكذا نرى اندفاع قريش نحو جاهليتهم وحميتهم في حين أن النبي كانت تنزل عليه من ربه السكينة والطمأنينة وقد ألزمه كلمة التقوى، وكان النبي وصحبه أحق بها وأهلها، وكان هذا الصلح الذي لم يرض عنه بعض الصحابة فتحا مبينا، ونصرا عظيما للدعوة الإسلامية، وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم. المعنى: لقد رضى الله عن المؤمنين الراسخين في الإيمان الكاملين في الإخلاص، حيث فعل معهم فعل الراضي عنهم، بما جعل لهم من الفتح المبين والتوفيق السديد، وما قدر لهم من الثواب الجزيل، لقد رضى الله عن المؤمنين جميعا الذين بايعوك إلا جد بن قيس الأنصارى فقد كان منافقا ولم يبايع، وفهم من ذلك أنه لم يرض عن الكفار حيث خذلهم في الدنيا، وأعد لهم سوء المصير في الآخرة، ولأجل هذا الرضا سميت تلك البيعة بيعة الرضوان. لقد رضى الله عن المؤمنين إذ بايعوك تحت الشجرة، شأن الواثق بنفسه المطمئن لنصرة الله له، فعلم الله ما استقر في قلوبهم من الإيمان والإخلاص والصدق في مبايعتهم، فأنزل السكينة عليهم، وأثابهم فتحا قريبا هو فتح خيبر، وقد كان نزول هذه الآيات عند منصرف النبي صلّى الله عليه وسلّم هو وصحبه من الحديبية، أى: قبل فتح خيبر، فيكون هذا وعدا من الله وقد تحقق، وأثابهم مغانم كثيرة يأخذونها فقد كانت قرية خيبر غنية بالزروع والثمار، وكان سكانها من اليهود على جانب من الثراء، وانظر إلى ختام الآية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 490 بقوله: وكان الله عزيزا لا يغلبه غالب، حكيما فيما صنع لأوليائه، ولا شك أن هذا تذبيل مناسب جدّا. وعدكم الله مغانم كثيرة في حروبكم- أيها المسلمون- ما دمتم صادقي النية تجاهدون في سبيل الله ولإعلاء كلمته، وهذه المغانم ممتدة إلى يوم القيامة بهذا الشرط، فجعل لكم هذه- أى: غنيمة خيبر- جزاء لكم على امتثالكم أمر الله وأمر رسوله، وكف أيدى الناس عنكم، والظاهر أن المراد بالناس هنا أهل خيبر وحلفاؤها من أسد وغطفان حين جاءوا لنصرة حلفائهم فقذف الله في قلوبهم الرعب، وقيل المراد بالناس: أهل مكة حينما كان المسلمون بالحديبية، والرأى الأول أصح لأن الكف وهم في الحديبية سيأتى خبره، كف أيدى الناس عنكم لتشكروه على ذلك، ولتكون هذه آية للمؤمنين، وأن الله يدافع عن المؤمنين ما داموا مؤمنين، والله بهذا يهديكم إلى صراط مستقيم هو طريق التوكل على الله وتفويض الأمر إليه، فإنه نعم المولى ونعم النصير. فعجل لكم مغانم خيبر هذه، وعجل لكم أخرى هي غنائم هوازن يوم حنين لم تقدروا عليها في أول الأمر حيث ر كنتم إلى قوتكم، ولم تتوكلوا على الله، ولكن الله أحاط بها واستولى عليها فهي في قبضته وتحت تصرفه يظهر من يشاء عليها، وقد أظهركم عليها حينما لجأتم إليه وتوجهتم له، وكان الله على كل شيء قديرا وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ. ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (الآيتان: 25، 26 من سورة التوبة) ، فهل لنا أن نعتبر ونفوض الأمر إلى الله إنه بصير بالعباد؟!! ولو قاتلكم الذين كفروا من أهل مكة ولم يصالحوكم لولوا الأدبار وانهزموا هزيمة شنيعة، ثم لا يجدون لهم من دون الله وليا ولا نصيرا، وتلك سنة الله مع رسله وأوليائه التي قد مضت من قبل، ولن تجد لسنة الله تبديلا. وهو الذي كف أيدى كفار مكة عنكم، وكف أيديكم عنهم، وأنتم ببطن مكة، فإن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في حرم مكة، كف أيديكم عنهم من بعد أن أظفركم عليهم فقد روى عن ثابت عن أنس أن ثمانين رجلا من أهل مكة هبطوا على النبي صلّى الله عليه وسلّم من جبل التنعيم متسلحين يريدون أخذ النبي وصحبه على غرة فأخذناهم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 491 سلما- باستسلام منهم وإذعان- فهم قد أخذوا قهرا واستسلموا عجزا، واستحييناهم فأنزل الله وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وكان الله بما تعملون بصيرا وسيجازيكم على ذلك بالجزاء الأوفى. ولم يكن كفهم عنكم لخير فيهم فإنهم كفروا بالله ورسوله، وأخرجوا رسول الله من مكة، وصدوكم عن المسجد الحرام. وصدوا الهدى- ما يهدى إلى البيت من النعم حالة كون الهدى معكوف ومحبوسا من أن يبلغ محله، وكل ذلك يقتضى قتالهم، فلا يعقل أن يقال: إن الفريقين اتفقوا على عدم القتال، واصطلحوا ولم يبق بينهم نزاع بل النزاع مستمر لأنهم كفروا وصدوا عن المسجد الحرام ومنعوا الهدى من أن يبلغ محله. وإنما كان الكف والمنع لحكم إلهية الله يعلمها، منها أن هناك رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات لم تعلموا أشخاصهم، والله يعلمهم، فإذا كان القتال ولم يكن الكف لقتلتم هؤلاء، وأنتم لا تعلمونهم فتصيبكم منهم معرة وعيب ومكروه ومشقة حيث تجب الكفارة ويحصل الأسف لقتلهم، وخلاصة المعنى: ولولا كراهة أن تهلكوا في الحرب رجالا مؤمنين ونساء مؤمنات بين ظهراني الكفار، وأنتم لا تعلمونهم فيصيبكم بإهلاكهم مكروه لما كف أيديكم عنهم، والله يكره أن يصيبكم مكروه ومعرة، ولكن الله- سبحانه- كفكم عنهم، وكفهم عنكم ليدخل الله بذلك الكف من يشاء في رحمته، أى: في توفيقه لزيادة الخير في الإسلام ومنع إيذاء من لا يستحق من المؤمنين الذين يعيشون في مكة. لو تميز المؤمنون عن الكفار في مكة، وافترق بعضهم عن بعض، لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما في الدنيا بالقتل والأسر غير عذاب الآخرة «1» . اذكر إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية الأولى حيث أنفوا من كتابه بسم الله الرحمن الرحيم، ومن وصف النبي بأنه رسول الله، ومن تمسكهم بشروط هي في ظنهم مجحفة بالمسلمين، فأنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين   (1) - وهذه الجملة مستأنفة مقررة لما قبلها، وجوز بعضهم أن يكون (لو تزيلوا) كالتكرار لقوله تعالى: لولا رجال مؤمنون، وقوله: (لعذبنا) هو جواب لولا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 492 حيث قبلوا كل ما عرض عليهم في سبيل ترك الحرب المهلكة، وقد كان هذا فتحا ونصرا مبينا، فانظر إلى توفيق الله ورعايته للمسلمين. وإذا العناية لاحظتك عيونها ... نم فالمخاوف كلهن أمان تحقيق رؤيا الرسول [سورة الفتح (48) : الآيات 27 الى 28] لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) المفردات: لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ أصل الإظهار: جعل الشيء على الظهر، ثم كنى به عن الإعلاء. رأى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في المنام قبل خروجه إلى الحديبية، أنه هو وأصحابه دخلوا مكة آمنين، وقد حلقوا شعور رءوسهم وقصروا، فقص رؤياه على المسلمين ففرحوا واستبشروا، وحسبوا أنهم داخلوها في عامهم، وقالوا: إن رؤيا رسول الله حق، فلما تأخر ذلك، وردهم المشركون عن مكة عام الحديبية تكلم بعض المنافقين في ذلك قائلين: والله ما حلقنا ولا قصرنا، ولا رأينا المسجد الحرام فنزلت هذه الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 493 المعنى: لقد صدق الله رسوله الرؤيا، ولم يجعلها أضغاث أحلام، وإن كان تفسيرها عمليا لم يقع إلا بعد عام، والصدق يكون بالقول أو بالفعل، وما في الآية صدق بالفعل فالله- سبحانه وتعالى- صدقه في رؤياه صدقا ملتبسا بالحق، أى: بالحكمة البالغة، والقصد الصحيح الذي يظهر به الإيمان الكامل والنفاق الصريح، ولهذا أخر تفسير الرؤيا ووقوعها إلى العام القابل. والله لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله، ولعل سائلا يسأل ويقول: الله خالق الأشياء كلها وعالم بها قبل وقوعها فكيف وقع التعليق بالمشيئة في فعله؟ الجواب: أنه تعليم للعباد، وإيذان بأن منهم من يدخل ومنهم من يتخلف لموت أو مرض، ولعل هذا التعليق- إن شاء الله- حكاية لما قاله ملك الرؤيا، أو حكاية كلام النبي لأصحابه، وإيذان بأن دخولهم مكة بأمر الله ومشيئته لا بشيء آخر. لتدخلن المسجد الحرام حالة كونكم آمنين من العدو، محلقين شعور رءوسكم ومقصرين له، لا تخافون بعد الدخول «1» فعلم ما لم تعلموا من الأمور «2» ، فجعل من دون ذلك، أى: من قبل تحقيق الرؤيا عمليا فتحا قريبا، وهو فتح خيبر، جعله كالدليل على صدق الرؤيا وتحقيقها. وكيف تشكون في تحقيق رؤيا النبي صلّى الله عليه وسلّم؟ وقد أرسله ربه بالهدى ودين الحق، فلا يصح أن يريه في المنام خلاف الواقع، فيكون ذلك داعيا لتكذيبه وزعزعة الناس فيه وفي أخباره، هو الذي أرسل رسوله هاديا للناس، ومصاحبا للهدى وملتبسا به ومؤيدا بالحجة والبرهان، والنور والقرآن، أرسله بالهدى ودين هو الحق لا شك فيه، ليعليه على الأديان كلها فيقر الحق منها، ويبطل الباطل ويغير من أحكامها ما لا يصلح في هذا الزمان، وكفى بالله شهيدا على ذلك، وأنك رسوله وخاتم أنبيائه. أليس في هذا تسلية؟ وأى تسلية أقوى من ذلك؟ على رد سهيل بن عمرو لرسالة الرسول صلّى الله عليه وسلّم.   (1) - وقيل: هي جملة مستأنفة واقعة جواب سؤال: كيف الحال بعد الدخول؟ فقيل: لا تخافون. (2) - والفاء عاطفة لعلم على صدق، والترتيب باعتبار التعليق الفعلى بالمعلوم لا بنفس المعلوم، وإلا فهو متقدم على تصديق الرؤيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 494 محمد وصحبه الأبرار [سورة الفتح (48) : آية 29] مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (29) المفردات: أَشِدَّاءُ: جمع شديد، وهو الغليظ القاسي. رُحَماءُ: جمع رحيم، وهو من في قلبه رحمة. سِيماهُمْ السيما: العلامة. مَثَلُهُمْ: صفتهم. شَطْأَهُ الشطء: فراخ النخل والزرع، أو هو ورقه والمراد بالفراخ فروع الشجر التي تنبت حول الأصل. فَآزَرَهُ: أعانه. فَاسْتَغْلَظَ: صار نظيفا وشديدا. فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ أى: استقام وقوى على أصوله التي هي قضبانه. وتلك خاتمة سورة الفتح، وبيان أسباب النصر، ودعائم الفوز. المعنى: ذلك الرسول الذي أرسل بالهدى ودين الحق، هو محمد رسول الله وخاتم أنبيائه وإمامهم، الذي قال الله فيه: وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ. هذا هو محمد الرسول الأمين الصادق الصدوق، الذي يصلى عليه الله في علاه، وملائكته الأبرار وصالحو المؤمنين- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته إلى يوم الدين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 495 هو محمد رسول الله وهؤلاء هم أصحابه الذين معه، أشداء على الكفار رحماء بينهم، هؤلاء هم أصحابه أعلام الهدى وأئمة الدين، الذين يقول فيهم النبي ما معناه: «أصحابى كالنّجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه» أى: نصفه، ويقول الله فيهم: هم أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين. فالمؤمن حقا الذي لا يلين مع الكفار الذين حاربوا دينه، فهو شديد عليهم رحيم بالمؤمنين، غضوب عبوس في وجه الكافرين، بشوش في وجه أخيه المؤمن. وإنما المؤمنون إخوة، ويقول النبي: «مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسّهر والحمّى» هؤلاء هم المؤمنون الذين قامت على رءوسهم دعوة الإسلام، وفتحت بسواعدهم الحصون والقلاع، كانوا أشداء على الكفار رحماء بينهم، وما ضل المسلمون، ولا كسرت شوكتهم إلا يوم أن تفرقوا، وأصبحوا أذلة مع غيرهم أعزة على بعضهم، وكانت بينهم الفتن والمحن والإحن التي تهد كيان الإسلام، وتقيم صروح الكفر، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!!! أيها الناس! نحن في عصر يكاد يتخطفنا فيه أعداء الإسلام من كل جانب، وهم قوم برعوا في السياسة والدعاية، والدعوة إلى الإلحاد بكل طريق، وبكل أسلوب، وسلاحهم في ذلك الاقتصاد والعلم المادي، وهذه الفرقة البادية، والخلاف الظاهر في صفوف المسلمين، لا ينتج إلا كل شر، وللأسف لا يتحمل تبعة هذا إلا الإسلام الذي قل ناصره، وضعف ساعده، حتى أصبح يستهزأ بسوره، ويتندر بأحكامه أيها الناس! ماذا نقول؟!!! اللهم لطفا من عندك، ونصرا لدينك وحماية لقرآنك إنك يا رب نعم السميع المجيب. هؤلاء المسلمون تراهم ركعا سجدا فهم كثير والعمل والصلاة، ولا يقصدون بذلك إلا وجه الله، ولا يبتغون إلا فضل الله وإحسانه، ولا يرجون إلا رضا الله ورضوانه وَرِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ «1» هؤلاء سيماهم في وجوههم من أثر السجود   (1) - سورة التوبة آية 72. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 496 وما هي علامتهم؟ أهو الأثر الذي يظهر من أثر السجود في جبهة المصلى؟؟ ربما يكون صاحبها أقسى قلبا من فرعون، والظاهر- والله أعلم- أنها نور في الوجه، وهدوء في النفس، ولين في الجانب، وخشوع وخضوع، فإن من أصلح سريرته أصلح الله- تعالى- علانيته، وعلامة الإيمان الصحيح أن تكون قرآنا يتحرك، وصورة صحيحة للإسلام وعنوانا كاملا لتهذيبه فلا تفسق ولا ترفث، ولا تكذب ولا تغش، ولا تخادع ولا تضلل، ولا تقسو ولا تفجر، فشر الناس من خافه الناس اتقاء شره، تلك بعض علامات الإيمان تبدو في وجه المسلم الكامل. ذلك مثل المؤمنين في التوراة ومثلهم في الإنجيل، وهذا تكريم لهم من الله كبير ولقد ضرب الله لهم مع النبي مثلا من أروع الأمثلة، فقد بدأ النبي صلّى الله عليه وسلّم الدعوة وحده ثم آمن به قليل من الناس، هذا القليل كثر وزاد حتى أصبح الكل قوة لا يستهان بها كما تقوى الطاقة الأولى من الزرع بالفروع التي تنبت حول الأصل حتى تعجب الزراع، فعل الله معهم ذلك ليغيظ بهم الكفار، وقد غاظ بهم الكفار فعلا، وانهدم عزهم ودالت دولة الروم وفارس، وعلت راية الإسلام حتى امتلأ قلب الكفر وأهله غيظا منه، وحقدا عليهم إلى اليوم، فهذه آثار التبشير وحملات أعداء الإسلام تترى، والمدهش أنهم يجدون في شباب الإسلام المثقف ثقافة غير دينية مرعى خصبا ويستغلون قلة ثقافتهم الدينية فينفثون سمومهم، أيها المسلمون: وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منكم مغفرة كبيرة، وأجرا عظيما، والله صادق الوعد، وهو لكل من يعمل صالحا في كل زمان ومكان. نسأل الله التوفيق والخير للإسلام والمسلمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 497 سورة الحجرات وهي مدنية بإجماع العلماء، وعدد آياتها ثماني عشرة آية.. هذه السورة جمعت مكارم الأخلاق، وأرشدت المسلمين إليها، وبينت لهم موقفهم مع الله، ومع رسول الله، وكيف يقابلون أخبار الفساق؟ وبماذا يعاملون إخوانهم المؤمنين، سواء أكانوا حاضرين معهم أم غائبين، وبينت حقيقة الإيمان والمؤمنين إلى غير ذلك من فضائل الأعمال، وكريم الخلال.. موقف المسلمين من أحكام الله [سورة الحجرات (49) : آية 1] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) المفردات: لا تُقَدِّمُوا: بمعنى لا تقدموه، أى: لا تسبقوه بالقول والحكم وهذا معنى لازم للتقدم، أو هو بمعنى لا تتقدموا، أى: لا يحصل منكم تقديم بقطع النظر عن المقدم. بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ المراد: أمامهما. المعنى: يا أيها الذين اتصفوا بالإيمان الصحيح، وهم أحق الناس بامتثال أمر الله: لا تسبقوا الله ورسوله بالقول أو الحكم في أمر من الأمور، وكونوا كالملائكة الذين شهد الله بأنهم لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، وهذا نهى صريح عن الإقدام على أمر من الأمور دون التقيد بكتاب الله- تعالى- وسنة رسوله وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 498 نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لا تقدموا بين يدي الله ورسوله «1» ، ولعل ذكر الرسول لأنه مبلغ عن الله وحافظ لشريعته. واتقوا الله، أى: خذوا الوقاية من سخطه وعذابه باتباع أمره واجتناب نهيه والوقوف عند الحدود المرسومة التي بينها لكم، إن الله سميع بكل المسموعات، ويجازى بها أتم الجزاء، وهو عليم بكل المعلومات، وسيجازيكم عليها إن خيرا فخير وإن شرا فشر، وهذه الآية تقرر أصلا من أصول الدين المهمة، وهو أن الحكم لله وحده لا معقب لحكمه وهو أحكم الحاكمين فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً وإذا كنا نهينا عن أن نتقدم الله ورسوله في حكم من الأحكام، فيا ويل المسلمين ويا هلاكهم! حين يتركون اليوم أمر الله ورسوله، ويتحاكمون إلى طواغيت الغرب وقوانينه. من أدب الحديث مع الرسول [سورة الحجرات (49) : الآيات 2 الى 5] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)   (1) - في هذه العبارة مجاز مرسل في لفظ اليدين حيث أطلقهما وأراد الجهتين المقابلتين لهما القريبتين منهما لعلاقة المجاورة، وفي العبارة كلها استعارة تمثيلية حيث استعيرت الجملة- التقدم بين اليدين- للقطع بالحكم بلا اقتداء ومتابعة لمن تلزمه متابعته تصويرا لشناعة هذا الفعل بصورة المحسوس، كتقدم الخادم لسيده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 499 المفردات: تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ الجهر: ظهور الشيء بإفراط لحاسة السمع أو حاسة البصر. أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ حبط عمله: بطل ثوابه لطغيان السيئات عليه. يَغُضُّونَ الغض: النقصان من النظر أو الصوت. امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ أصل الامتحان: إذابة الذهب ليخلص إبريزه من الخبث، وقد يطلق ويراد منه الاختبار والتجربة، ويلزم من هذا المعرفة وهي المرادة هنا. الْحُجُراتِ: جمع حجرة، وهي قطعة من الفضاء تحجر أى: يمنع من الدخول فيها بحائط أو نحوه. وَراءِ الْحُجُراتِ: خارجها. كانت الآية السابقة لبيان أدب المسلمين مع الله ورسوله ومكانتهما، وهذه الآيات لبيان الأدب مع النبي صلّى الله عليه وسلّم في حديثه ومعاملته. المعنى: يا أيها الذين آمنوا: لا تجعلوا أصواتكم عند الحديث مع الرسول الأكرم فوق صوته، بل كلموه بصوت منخفض، بلا جلبة ولا ضوضاء، وكونوا معه كما يكون الابن مع أبيه، وإياكم والجهر له في القول إذا كلمتموه وهو صامت، فلا تظهروا أصواتكم معه كما تجهرون مع بعضكم. أدبهم الله الأدب العالي في حديث النبي، ولم يكن النبي جبارا متعاليا، وإنما كان مثلا أعلى في التواضع والحياء تكلمه الأمة في الطريق فلا يتركها حتى تتركه، ولكنه كان كثير الشغل، كثير التفكير، والتأمل في شأن الأمة الإسلامية، والعرب قوم جفاة غلاظ لا يعرفون اللين وأدب الخطاب، فنهاهم الله عن رفع صوتهم على صوت النبي، وعن الجهر بالقول عند مخاطبته وهو ساكت. مخافة بطلان أعمالهم الصالحة التي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 500 عملوها، وذهابها سدى من غير مثوبة من حيث لا يشعرون بذلك فإن العادة إذا استحكمت مع شخص فعلها بدون فكر، ولا نظر، وربما كانت سيئة فأكلت حسناته وهو لا يشعر!! وهذا ترغيب في لين القول وأدب الحديث فيقول الله: إن الذين يغضون أصواتهم ولا يرفعونها عند رسول الله، أولئك قوم أخلص الله قلوبهم وصفاها وأعدها للتقوى، أو عرفها الله مستعدة للتقوى بعد الاختبار، هؤلاء لهم مغفرة وأجر عظيم على ما كسبوه من صالح الأعمال. روى عن زيد بن الأرقم أنه: جاء أناس من العرب إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال بعضهم لبعض: انطلقوا بنا إلى هذا الرجل فإن يكن نبيا فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملكا عشنا في جناحه، ثم جاءوا إلى حجرة النبي صلّى الله عليه وسلّم ينادونه: يا محمد، فأنزل الله إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ... وقد تأذى من ندائهم على هذه الصفة. وقد حكم الله على أكثرهم بعدم العقل لأن بعضهم لم يكن موافقا، أو هو أسلوب عربي معروف ينسب للأكثر ما هو للكل، ولا شك أن هؤلاء يستحقون هذا الوصف لجهلهم بقانون الأدب العام، وما ينبغي أن يكون عليه الزائر من أدب الحديث واختيار الزمان والمكان المناسبين، ولو أن هؤلاء صبروا حتى يخرج إليهم النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد كان في قيلولة مستريحا لكان خيرا لهم وأتم. وما كان النبي يحتجب عن أصحابه إلا في أوقات خاصة قليلة ليستريح بعض الوقت ليلا أو في الظهر. وهكذا القرآن الكريم لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها بالإجمال أو التفصيل حتى أدب الحديث وأدب الاستئذان نراه يرسم لنا طريقهما.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 501 التثبت في تلقى الأخبار [سورة الحجرات (49) : الآيات 6 الى 8] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8) المفردات: فاسِقٌ الفسق: الخروج عن حدود الشرع. بِنَبَإٍ النبأ: هو الخبر المهم. فَتَبَيَّنُوا أى: فتثبتوا، وبه قرئ، وهذا اللفظ مأخوذ من البيان الذي هو الكشف عن الشيء. نادِمِينَ: من الندم الذي هو التحسر من خطأ في أمر فات، والمادة تفيد الملازمة ومنه المنادمة والنديم. لَعَنِتُّمْ العنت: الجهد والمشقة والهلاك. وَزَيَّنَهُ: حسنه. وَالْعِصْيانَ: الخروج عن الطاعة، ومفارقة الجماعة، وأصله أن يمتنع الرجل بعصاه. الرَّاشِدُونَ الرشد: ضد الغي وهو العمل لصالح الدين والدنيا. روى في سبب النزول أنه: بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم الوليد بن عقبة في جمع صدقات بنى المصطلق، فلما سمعوا بمقدمه أعدوا أنفسهم للقاء رسول الله فحدثه الشيطان بأنهم قاتلوه. فرجع، وقال للنبي صلّى الله عليه وسلّم: إن بنى المصطلق منعوا صدقاتهم، فغضب لذلك رسول الله، وهم بغزوهم، أما هم فلما بلغهم رجوع ابن عقبة أتوا رسول الله يشرحون له حقيقة الحال، وقالوا: نعوذ بالله من سخط الله ورسوله! بعث إلينا رجلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 502 يجمع الصدقة فسررنا لذلك وجمعنا أنفسنا لاستقباله ثم رجع من بعض الطريق فخشينا أن يكون ذلك لغضب من الله ورسوله ... ثم نزلت الآية. ولقد سمى الوليد بن عقبة فاسقا تنفيرا وزجرا عن المبادرة والاستعجال إلى الأمر من غير تثبيت كما فعل هذا الصحابي الجليل، لكنه مؤول ومجتهد فليس فاسقا حقيقة. المعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله إن جاءكم فاسق كاذب بخبر فتثبتوا أولا لتعرفوا الحق من الباطل، وتقفوا على حقائق الأمور قبل الوقوع في الأخطار فكم فرق الكذب بين الأصدقاء؟ وكم سفك من دماء؟ وكم كان التسرع في الحكم مدعاة لشن حروب وغارات، وإثارة إحن وثارات، ولذلك يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم ذمّا في الكذب ومدحا في الصدق: «إنّ الصّدق يهدى إلى البرّ، وإنّ البرّ يهدى إلى الجنّة، وإنّ الكذب يهدى إلى الفجور، وإنّ الفجور يهدى إلى النّار» وكان النبي يقول: «التّأنّى من الله والعجلة من الشّيطان» . تبينوا كراهة أن تصيبوا قوما بجهالة وخطأ فتصبحوا على ما فعلتم نادمين، فلو أن النبي صلّى الله عليه وسلّم عمل بقول ابن عقبة لغزا قوما مؤمنين يحبون الله ورسوله، وسفك منهم دماء، وأخذ أموالا بغير حق، فإذا ما تبين الواقع ندم على كل ذلك. فالله يرشد عباده وأولياءه إلى هذا الأدب الكامل، ويحذرهم من العمل بالخبر قبل الكشف عنه والتثبت منه لئلا يصيبوا قوما بسبب الجهل والكذب فيصبحوا نادمين آسفين على ذلك. والروايات تثبت أن النبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة كانوا يشكون في كلام وفد بنى المصطلق، فمن الصحابة من أشار بغزوهم، ومنهم من تريث، ولقد بعث النبي صلّى الله عليه وسلّم خالدا يستطلع الحقيقة، وأمره بعدم العجلة في حربهم. واعلموا أيها الصحابة أن فيكم رسول الله، وليس المراد هذا الخبر فإنه مشاهد معروف، ولكن المراد لازمه، وهو أن فيكم الرسول الأمين المبلغ عن الوحى المعصوم من الخطأ، الذي يجب ألا يكذبه أحد من أصحابه، فإن الكذب عليه قد يوقعه في أمر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 503 يؤلمه، على أن طاعته هي الواجبة، وأن الخير في طاعته، والرسول معنا في كل عصر إن لم يكن بجسده الشريف فهو مع المسلمين بأحاديثه وتعاليمه، وخير الهدى هدى محمد صلّى الله عليه وسلّم فيجب الرجوع إلى ما أرشد به والاقتداء بهديه الشريف، ولو انعكس الأمر وأطاعكم الرسول- في مثل هذا- لأصابكم العنت، ونالتكم المشقة، وربما انعكس الحال وتبدل إلى ما تكرهون. ولكن ذلك لا يكون لأن رسول الله لا يتبع إلا الموحى به، والمؤمنون لا يرضون عن مخالفة الرسول لأن الله حبب إليهم الإيمان وطاعة الرسول وزينه في قلوبهم، وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان. أولئك المؤمنون الموصوفون بذلك هم الراشدون في الدنيا والآخرة، وقد فعل الله معهم ذلك تفضلا منه ورحمة ونعمة عليهم، والله عليم بخلقه حكيم في فعله. كيف نقضي على النزاع الداخلى [سورة الحجرات (49) : الآيات 9 الى 10] وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10) المفردات: طائِفَتانِ الطائفة: الجماعة من الناس. بَغَتْ البغي: الظلم وتجاوز الحد. تَفِيءَ: ترجع إلى حالة محمودة. بِالْعَدْلِ: بالسوية بلا ظلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 504 وَأَقْسِطُوا: يقال: قسط الرجل إذا أخذ قسط أخيه، وأقسط: إذا عدل فأعطى قسط غيره. هذه الآيات نزلت كما روى عن ابن عباس في رجلين أو في قبيلتين من أهل الإسلام يقتتلان. المعنى: وإن اقتتلت طائفتان من المؤمنين فالواجب على المسلمين أن يصلحوا بينهما، ويقضوا بالحق الذي شرعه الله في كتابه: إما القصاص والقود، وإما العقل والدية، هذا الواجب العام على المسلمين يقوم به الإمام، أى: الحاكم فيدعو المتنازعين إلى الصلح، وإلى تحكيم كتاب الله والرضا بما فيه من التسامح والتساهل. فإن تعدت إحداهما ولم تقبل نصحا بل ركبت رءوسها وقاتلت الطائفة الأخرى بغير حق، فالواجب على المسلمين والإمام الذي ينفذ ما دام موجودا وإلا فعلى عامة المسلمين وجمهورهم، الواجب قتال الفئة الباغية، وردعها عن ظلمها حتى ترجع إلى كتاب الله وتحكيمه، فإن رجعت بعد القتال، وفاءت إلى الهدوء والسكينة وترك الشرور والحروب فالواجب الصلح بينهما بالعدل صلحا على السواء والإنصاف بلا تحيز، لا صلح القوى مع الضعيف والمنتصر مع المهزوم كما يحصل اليوم، والواجب الإصلاح بالعدل لتسل الضغائن وتزول الأحقاد، ويعود الصفاء ويحل محل الخصام، وبذلك يأمن الناس الرجوع إلى الحرب، والله- تعالى- يحب المقسطين العدول وهذه الحروب الداخلية لها أحكام خاصة في كتب الفقه الإسلامى، منها أنه لا يجهز على جريحها، ولا يقتل أسيرها، ولا يطلب هاربها، ولا تؤخذ أموالها، والذي يتلف في غير القتال فمضمون، وأما في القتال فلا ضمان. وإن كانت الفئتان باغيتين وكل يدعى لنفسه الحق فعلى المسلمين جميعا الإصلاح بما يحفظ على الناس دماءهم وأموالهم، ويمنع من وقوع الحرب والدمار. إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ في هذه الآية تقرير لما أمر الله به من الإصلاح في الآية السابقة وبيان للعلة، إذ لحمة الإيمان وقرابته أقوى من لحمة النسب وقرابته، والأخوة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 505 بين المؤمنين في الإسلام قوية الأواصر متينة الصلة، والناس حينما يرون أخوين في النسب اقتتلا أسرعوا في فض النزاع. ويبين الله هنا أن صلة الإيمان أقوى من صلة النسب «المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يعيبه» . واعلموا أن تقوى الله هي العلاج العام الذي يمنع النزاع، ويفك الخصام وهي سبيل الرحمة وطريق النجاة. إرشادات إلهية في المعاشرة والاجتماع [سورة الحجرات (49) : الآيات 11 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَلا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13) المفردات: لا يَسْخَرْ السخرية: الاستهزاء والنظر إلى المسخور منه بعين النقص الجزء: 3 ¦ الصفحة: 506 والاحتقار. قَوْمٌ: هم الرجال خاصة لأنهم القوامون على النساء. وَلا تَلْمِزُوا اللمز: الطعن والضرب باللسان والتنبيه على المعايب. تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ المراد: لا يدع بعضكم بعضا بلقب قبيح. الِاسْمُ أى: الذكر، مأخوذ من قولهم: طار اسمه في الآفاق، أى: ذكره وشهرته. اجْتَنِبُوا: كونوا على جانب والظن على آخر، والمراد التباعد. الظَّنِّ: حد وسط بين العلم والوهم، وهم اسم لما يحصل في النفس عن أمارة قوية أو ضعيفة. الإثم: الفعل المعوق عن الثواب. وَلا تَجَسَّسُوا الجس: جس العرق باليد وتعرف نبضه للحكم عليه، وهو أخص من الحس، أى: التحسس فإنه يدرك بإحدى الحواس. وَلا يَغْتَبْ الغيبة: ذكرك أخاك بما يكره. شُعُوباً الشعب: الجماعة من الناس التي لها وطن خاص وهو أعم من القبيلة. إنه لترتيب إلهى عال حيث رتب مسألة النزاع والقتال بين الطوائف والأشخاص على أنباء الفاسقين، ووقيعة الدساسين، ولذا نبهنا فيما سبق إلى التبين والتثبت في تلقى الأخبار، وإنه لنسق فريد أن يسوق تلك الإرشادات الإلهية في هذه الآيات التي تتضمن سل السخائم وإماتة الأحقاد حتى تصبح الأمة الإسلامية كالجسد الواحد بعد ذلك. المعنى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ نادانا الله بوصف الإيمان لينهانا عن السخرية وغيرها ليشعرنا بأن ما يدعونا إليه من إرشاد هو مقتضى الإيمان الصحيح. يا أيها المؤمنون لا يسخر رجل أو جماعة من رجل آخر أو جماعة أخرى، والسخرية بالناس رذيلة تغضب الرحمن، وترضى الشيطان، وتثير كوامن الفتن، وبواعث الشر، وهي صفة المجردين من الخير المنغمسين في حمأة الرذيلة، فالسخرية دليل خبث الطوية، وسوء السريرة ودناءة النفس ولا يصح أن يسخر نساء من نساء عسى أن يكنّ خيرا منهن، فالمستهزأ به غالبا يكون خيرا عند الله وأفضل من المستهزئ. وَلا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وتلك مرتبة ثانية، وأن المؤمنين كالجسد الواحد كأن من لمز غيره وعابه كأنه لمز نفسه، ولعل المعنى أنك تلمز نفسك بسبب لمزك لغيرك كما ورد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 507 في الحديث «من الكبائر أن يشتم الرّجل والديه» وفسر بأنك إذا شتمت غيرك فشتمك فكأنك شتمت نفسك. وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ وكأن اللقب السيئ حجر تنبزه في وجه أخيك فينبزك هو بمثله، ولله در النبي صلّى الله عليه وسلّم حيث يوصى بأن تدعو أخاك بأحب الأسماء إليه، وقد بدأ الله بالأهم حيث نهانا عن السخرية التي هي داء له دواع كثيرة منها حب التظرف، والرغبة في جلب السرور على الحاضرين، ومنها الحسد الكامن والداء الباطن، ثم ثنى باللمز لما فيه من الخفاء والإشارة، وصاحبه قد يستخف به، ثم ختم هذه الإرشادات بالتنابز بالألقاب لأنه أخفها فقد يكون اللقب المكروه مما يتسامح فيه صاحبه إذا شاع وذاع. يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ ... (الآية) . وهذه إرشادات لما ينبغي مراعاته في حق المسلم إذا غاب، بعد بيان ما يجب مراعاته في حق المسلم وهو حاضر من ترك السخرية به واللمز عليه والتنابز معه بالألقاب. وهذا القسم مشتمل على ثلاثة أمراض: (أ) الظن السيّئ. (ب) تتبع عورات أخيك. (ج) إشاعة عوراته بين الناس بالغيبة، وتلك صفات لعمري تتنافى مع الإيمان الصحيح ولا يصح أن تكون في المؤمنين. ولذا صدر الكلام بالنداء بوصف الإيمان، ولقد أخذ هذا القسم بالتدرج الطبعي، فإن أول بوادر الشر أن يخطر ببالك ظن سىء وتأويل غير مقبول لفعل أخيك، فتأخذ في تأكيد هذا الخاطر وتثبيته وبتتبع حركاته واستقصاء أعماله، لتبنى من ذلك كله عقائد يعلم الله أنها على أسس من الوهم والظن السيئ، وربما فعلها أخوك من غير قصد، ولو كان قلبك سليما من سوء الظن لما فهمت هذا، ثم يأتى بعد هذا التجسس دور الغيبة وإذاعة السوء محبة أن تشيع الفاحشة بين المؤمنين، وهو دور التقاطع والتدابر، والتباغض، وربما تفاقم الشر حتى يصل إلى أعلاه، وقد كان السبب أوهاما وخيالات لا أساس لها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 508 يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن، وهذا أعلى أسلوب وأدقه حيث قال: اجتنبوا كثيرا من الظن، فإن من الظن ما هو مطلوب كالاحتياط في دفع الأذى عن النفس والمال، والظن في استنباط الأحكام الشرعية، والظن في وجوه الكسب والعمل كالذي يحصل من أصحاب العمل والتجارة، أما الظن السيئ الذي نهانا عنه هو ما يحيك في نفوس بعض الناس بالنسبة لإخوانهم، إذا رأى أحدهم عملا يحتمل في تأويله الخير والشر، فيؤوله هو ويحمله على جانب الشر، والذي دفعه إلى ذلك منافسة ومناظرة بينه وبين أخيه، ويؤيده في ذلك اعتقاد خاطئ أن الناس كلهم شر وفساد فيتبرم بهم ويتنكر لهم ويظن بهم الظنون، وهو داء استشرى بين الناس، فنحن في حاجة ماسة إلى التمييز بين الظن الحسن بأنواعه والظن السيئ الكثير الوقوع، وما أدق قول الله بعد ذلك: إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ نعم هو موقع في الإثم والحرج، وإذا كان بعض هذا الظن يوقع في هذا الإثم المبهم، أليس من الحكمة والعقل البعد عن الكثير من هذا النوع؟ حتى نسلم من آثامه، والنبي يقول في حديثه: «الحلال بيّن والحرام بيّن وبينهما مشتبهات لا يعلمها كثير من النّاس، فمن اتّقى الشّبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشّبهات كراع يرعى حول الحمى يوشك أن يواقعه» والحديث وإن كان في أعمال الجوارح فخطرات القلوب وأعمالها أشد وأدهى. والظن المنهي عنه هو ما يترتب عليه الإضرار بالناس، أما ما ينشأ عنه من الاحتراس المأمور به والتحفظ الذي لا يضر الغير فهذا مطلوب، وهو من الحزم «الحزم سوء الظّنّ» وقيل: حسن الظن ورطة وسوء الظن عصمة. وَلا تَجَسَّسُوا هذا هو الدور الثاني للظن السيئ فإن الإنسان يظن بأفعال أخيه الظنون ثم ينظر فيها فلا يجد لها أسبابا قوية فيأخذ في البحث وتتبع العورات لعله يجد ما يؤيد ظنه، وهو في ذلك إن رأى حسنة أعرض عنها، وإن رأى سيئة شنع بها، ذلك من ضعف الإيمان، وسوء الاعتقاد، ولقد صدق رسول الله حيث قال خطيبا: «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه: لا تتّبعوا عورات المسلمين فإنّ من تتبّع عورات المسلمين فضحه الله في قعر بيته» نعم فإنه لا يعمل هذا إلا ضعيف الإيمان حقّا، وليس المربى والراعي داخلين في ذلك حيث يتتبعان العورات للإصلاح لا لإشاعة السوء والتشنيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 509 وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً ولقد روى أنه صلّى الله عليه وسلّم قال: «أتدرون ما الغيبة؟» قالوا. الله ورسوله أعلم، قال: «هي ذكرك أخاك بما يكره» قيل: أفرأيت لو كان في أخى ما أقول؟ قال: «إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه» . والغيبة تباح عند رفع الظلم، والشهادة في الخصومات، والاستشارات العامة، وكالتشنيع على المتجاهر بالمعصية، وما أروع هذا التمثيل حيث يقول الله: أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً وحقا من ولغ في العرض فكأنه أكل اللحم من أخيه وهو ميت لا يقدر على رده، وكذلك المغتاب في غيبة أخيه ينهش من عرضه وهو لا يستطيع رده، فهذا أسلوب غاية في التنفير من الغيبة، ثم أتبع ذلك بقوله: فَكَرِهْتُمُوهُ فقد صور المغتاب بصورة من يحب شيئا، حقه أن يكون في غاية الكراهية وهو أكل لحم الأخ، وزاده أن صوره بصورة الميت، وحقه أن يكون منه أنفر، وخلاصة المعنى: إن يفعل ذلك أحد فقد كرهتموه واتقوا الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم، وهو بالمؤمنين رءوف رحيم. «وبعد» : فالغيبة عادة مرذولة، وصفة مستهجنة، كثيرا ما أودت بالصلات، وأثارت الأحقاد، وشتتت من جمع، وفرقت من شمل، وهي مع هذا عذابها شديد وعقابها أليم، وهي بالفساق أولى فاتقوا الله واجتنبوها «وهل يكبّ النّاس على مناخرهم إلّا حصائد ألسنتهم» صدق رسول الله. ما مضى كانت إرشادات إسلامية يوجهها الله إلى المؤمنين ليبين لهم أن مقتضى الإيمان ألا يحصل هذا منكم كما عرفنا سابقا. وهنا قال: «يا أيها الناس» لأن هذا الداء الذي هو التفاخر والتباهي بالأنساب والأحساب داء قديم عام في جميع الأمم، فهو يعرض للناس من حيث كونهم ناسا فهو في طبيعة الإنسان، ولقد عالج الله هذا الداء علاجا حاسما حكيما، فإنك تفضل هذا على ذاك إذا كان من معدن وهو من آخر، أو هذا من صنع فلان، وذاك من صنع فلان، فإذا كانت المادة واحدة والصانع واحدا ففيم إذن الاختلاف والتفاضل؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 510 يا أيها الناس: الله خلقكم من تراب وماء وكنتم من ذكر وأنثى، فالأصل واحد والخالق واحد ففيم تتفاضلون؟ وبأى شيء تفتخرون؟ وهذه هي الديمقراطية الصحيحة، وهكذا تحطيم الفروق والطبقات، أما الديمقراطية الكاذبة التي ما زالت تفرق بين الأجناس والألوان كما نرى في أمريكا الآن وجنوب أفريقيا فشيء لا يقره الدين الإسلامى الذي أصبح- وللأسف- مضغة في أفواه جنود أمريكا وأعوانها من مبشرين وملاحدة. الله خلقكم من آدم وحواء ليس غير، وجعلكم شعوبا وقبائل، وميزكم أشكالا وأجناسا ليكون ذلك أدعى إلى التعارف، ففي التنويع تقريب للضبط وعون على المعرفة، فكيف انقلب هذا وأصبح مدعاة للمفاخرة الكاذبة، ووسيلة للتدابر والتناكر والتقاطع؟ وإذا كان لا بد من أن يفضل بعضكم بعضا فاعلموا أن التسابق يجب أن يكون بالأعمال الشخصية، وليس هناك أفضل من تقوى الله عملا، فبذلك فليفرح المؤمنون، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. إن أكرمكم عند الله أتقاكم، ولا فضل لعربي على أعجمى إلا بالتقوى، والتقوى أمر عام جماعها الخوف من الله والعمل على ما يرضيه، وهذا باب واسع يشمل خيرى الدنيا والآخرة، فليست التقوى محصورة في أضيق حدودها، بل هي جماع كل خير، وأساس كل فضل، والله- سبحانه- هو العليم بها، والخبير بعباده، وسيجازى كلا على عمله الظاهر والباطن، وهو بكل شيء عليم. الإيمان الصحيح [سورة الحجرات (49) : الآيات 14 الى 18] قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 511 المفردات: آمَنَّا الأمن: طمأنينة النفس وزوال الخوف، وقد أخذ منه الإيمان وهو التصديق والإذعان بالحق مع الأمن، والإسلام والاستسلام والانقياد الظاهري وترك التمرد والعناد، وقد يكون معه إخلاص وقد لا يكون، وفي عرف الشرع استعملهما مترادفين تارة، أى: بمعنى واحد ومختلفين مرة أخرى كما في هذه الآية، وكما في حديث جبريل حين سأل النبي عن الإيمان فقال: «أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالبعث بعد الموت وبالحساب وبالقدر خيره وشرّه» ولما سأله عن الإسلام قال: «أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتقيم الصّلاة وتؤدّى الزّكاة وتصوم رمضان» . لا يَلِتْكُمْ لاته يليته عن كذا: صرفه عنه، ونقصه حقه، ولا يلتكم من أعمالكم أى ينقصكم من أعمالكم شيئا. يَرْتابُوا رابه: أوقعه في الشك والتهمة، وارتاب: وقع في الشك، ومنه قيل: ريب المنون للشك فيه من جهة وقته. يَمُنُّونَ المن: تعداد النعم اعتدادا بها وإظهارا لفضل صاحبها، وأصله من المن: وهو القطع، كأن المان قطع نظره عن الجزاء أو قطع حاجة المنعم عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 512 روى أن هذه الآية نزلت في بنى أسد بن خزيمة كانوا يقيمون في جوار المدينة فأصابهم سنة مجدبة فقدموا إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وأظهروا الإسلام، وصاروا يقولون للنبي صلّى الله عليه وسلم: جئناك بالأثقال والعيال ولم نقاتلك كما تقاتلك بنو فلان ويقولون: آمنا فاستحققنا الكرامة، وهم يريدون بذلك أعراض الدنيا، وكانوا يمنون على النبي بإسلامهم ويستجدون به ، وعلى ذلك فليس المراد كل الأعراب بل هم قوم مخصوصون منهم. المعنى: قالت الأعراب- وهم بنو أسد وإن كان اللفظ يتناول كل من أراد بدينه وإسلامه وتقواه عرضا من أعراض الدنيا- قالت الأعراب: آمنا بالله ورسوله، وهم في الواقع لم يؤمنوا إيمانا كاملا خالصا لوجه الله، ولذا يقول الله: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وهذا تكذيب لهم في دعواهم الإيمان، فإن الإيمان تصديق وإذعان، وامتلاء القلب بنور اليقين، وأولئك قوم ألجأتهم ظروفهم إلى ادعاء ذلك، ولذا يقول الله ما معناه: ما كان يصح أن تقولوا: آمنا. ولكن قولوا: أسلمنا وانقدنا ظاهريا فقط للنجو من القتل والأسر وننعم بالفيء عند المسلمين، فلا تكذبوا على علام الغيوب فإنه يعلم السر وأخفى. ثم عاد القرآن فجبر خاطرهم ونفى عنهم الإيمان مع ترقب حصوله لهم فقال: ولما يدخل الإيمان قلوبكم، أى: إلى الآن لم يدخل، ولكنه سيدخل فيها إن شاء الله وهذا تشجيع لهم على العمل والدخول حقّا في صفوف المؤمنين فقال: وإن تطيعوا الله ورسوله لا ينقصكم من أعمالكم شيئا بل يوفيكم جزاءها كاملا غير منقوص فهيا اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون، إن الله غفور للمؤمنين رحيم بهم. وبعد هذا ألسنا في حاجة إلى بيان الإيمان حقا، وإلى تعرف المؤمنين وصفاتهم حتى نكون على بينة من أمرهم؟ نعم يقول الله شارحا الإيمان ومبينا صفات المؤمنين: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَجاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ... (الآية) . وقد ذكر الله صفات لهم عدة في هذه الآية وفي غيرها.. 1- المؤمنون هم الذين آمنوا بالله على أنه واهب الوجود، والقادر على كل موجود، والعالم بالسر وأخفى، والمحيط بخفايا النفوس والعليم بذات الصدور، وهو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 513 صاحب الفضل، وصاحب الطول، ولا حول لأحد عنده ولا قوة، إليه يرجع الأمر كله وكل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم وإليه ترجعون. 2- وآمنوا برسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم على أنه خاتم الرسل وإمامهم، وأنه المبلغ عن ربه كل شيء، وأنه عبد الله ورسوله إلى الناس جميعا، وأنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحى يوحى علمه شديد القوى. 3- ثم لم يرتابوا في شيء بل كان إيمانهم عن عقيدة ثابتة، ويقين كامل لا تزعزعه العواصف، ولا تدفعه الرياح، آمنوا بالله ورسوله لأنه حق وواجب بقطع النظر عن أى شيء آخر لم يكن إيمانهم لغرض، فإن أعطوا منه رضوا، وإن لم يعطوا منه إذا هم يسخطون، ومن هنا كان نفى الريب والشك درجة عليا تناسب ذكر (ثم) معه. 4- الجهاد في سبيل الله بالأموال والأنفس محك الإيمان ودليله، وعنوانه وأساسه، فليس الإيمان دعوى تردد باللسان، ولا خداع بالكلام، وإنما هو جهاد للنفس وللعدو ولأعداء الإسلام، ودعوته جهاد في سبيل الله فقط ولإعلاء كلمة الله فقط لا لدنيا يصيبها أو لغرض يحققه، ولقد سئل صلّى الله عليه وسلّم عن الرجل يقاتل شجاعة. ويقاتل حمية، ويقاتل رياء: أى ذلك في سبيل الله؟ فقال: «من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله» ومعنى كون كلمة الله هي العليا أن يكون الناس أحرارا في أن يدينوا بدين الله وأن يدعوا إلى سبيل الله، لا يمنعهم من ذلك مانع. أولئك الموصوفون بما ذكرهم الصادقون في إيمانهم ودعواهم لا هؤلاء الأعراب من بنى أسد. روى أنه لما نزلت تلك الآية التي تقضى بتكذيبهم جاءوا وحلفوا أنهم مؤمنون وصادقون فنزلت هذه الآية أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ لتكذيبهم وتسفيه عقولهم إذ هم يخاطبون الرسول الذي يستقى علمه من علام الغيوب العليم بذات الصدور فكيف تنطلى الأكاذيب عليه، وهو يعلم كل ما في السموات، وما في الأرض، وهو بكل شيء عليم. يمنون عليك أيها الرسول أن أسلموا، سمى الله ما أظهروه إسلاما، ونفى أن يكون إيمانا كما زعموا، قل لهم يا محمد: لا تمنوا على إسلامكم، وفي إضافة الإسلام لهم معنى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 514 دقيق، أى: الذي تظهرونه ينبغي ألا يسمى إسلاما إلا عندكم فقط إذ هو استسلام منشؤه الرهبة والخوف لا التصديق الخالص، بل الله يمن عليكم أن دلكم على الإيمان الصحيح وأرشدكم إليه، وإن كنتم لم تنتفعوا بالإرشاد، ولم تصلوا إلى المراد، فالهداية هنا بمعنى الدلالة فقط وصلت أم لم تصل، إن كنتم صادقين فاعترفوا بذلك كله فالرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل. تلك أحكام اللطيف الخبير، وإرشادات العليم البصير الذي يعلم غيب السموات والأرض وهو بصير بما تعملون، وسيجازيكم عليه، وهذا ختام للسورة رائع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 515 سورة ق وهي مكية كلها عند الكثير، وفي رواية لمسلم عن أم هشام بنت حارثة قالت: لقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقرأ هذه السورة كل يوم جمعة على المنبر إذا خطب الناس ، وفي رواية أخرى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقرأ في صلاة الأضحى والفطر ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ واقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ. وهي كغيرها من السور المكية تعرضت للبعث ومنكريه، وضربت الأمثال بالأنبياء وأممهم وكيف كانت عاقبتهم، ثم تعرضت لخلق الإنسان ونهايته، ولأحوال يوم القيامة وما فيها من جنة ونار، ونعيم وجحيم، ويتخلل ذلك ذكر بعض آيات الله الشاهدة على إمكان البعث وأنه في قدرته، فمحور الكلام في هذه السورة يدور حول إمكان البعث وإثباته. إنكارهم للبعث والدليل عليه [سورة ق (50) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَزَيَّنَّاها وَما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْناها وَأَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 516 المفردات: ق تقرأ هكذا. قاف بإسكان الفاء، وهي قراءة حفص المشهورة. عَجِيبٌ العجيب: الأمر الذي يتعجب منه، وكذلك العجاب والأعجوبة. رَجْعٌ أى: رجوع. تَنْقُصُ: تأكل. مَرِيجٍ: مضطرب. فُرُوجٍ: شقوق تعيبها. زَوْجٍ: صنف من النبات. بَهِيجٍ: يحصل به السرور. مُنِيبٍ: راجع إلى الله وتواب. جَنَّاتٍ: جمع جنة وهي البستان. الْحَصِيدِ: ما يحصد كالشعير والقمح وغيرهما. باسِقاتٍ: طويلات. نَضِيدٌ: متراكب بعضه فوق بعض. المعنى: لقد افتتح الله هذه السورة الكريمة بحرف من حروف المعجم، ثم بالكلام على القرآن الكريم، وهذا هو الشأن العام في السور المكية المفتتحة بالحروف التي لا تزال سرّا بين الله والنبي فالله ورسوله أعلم بها.. ولقد أقسم الحق- تبارك وتعالى- بالقرآن المجيد على أنك يا محمد جئت منذرا بالبعث، فشكوا في صدقك، ويا ليتهم ظلوا في شكهم يتحيرون بل جزموا بخلاف ذلك وأنكروا البعث مطلقا حتى جعلوا إثبات البعث من الأمور العجيبة بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 517 وفي وصف القرآن بالمجيد بيان لاشتماله على المكارم الدينية والدنيوية التي تكفل السعادة لمن اتبعها في الدارين، ولعل وصف القرآن بذلك لأنه كلام الإله المجيد الرحمن الرحيم ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ. بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقاقٍ ... هؤلاء الكفار عجبوا لأن جاءهم رسول منهم ينذرهم بالبعث، فأنكر الله عليهم تعجبهم مما ليس بعجب «1» ، وهو أن ينذرهم رجل منهم قد عرفوا فيه العدالة والصدق والأمانة حتى لقبوه بالأمين، ومن كان كذلك لم يكن إلا ناصحا لقومه عطوفا عليهم رائدا لهم غير كاذب عليهم- كما أقروا له بذلك قبل البعثة- ومثل هذا الرجل إذا رأى خطرا عليهم أنذرهم به، والنبي صلّى الله عليه وسلّم أنذرهم بما هو غاية في المخاوف، ونهاية في المتاعب لو ظلوا على شركهم، والله- سبحانه وتعالى- ينكر عليهم تعجبهم مما أنذرهم به من البعث مع علمهم بقدرة الله- تعالى- على خلق السموات والأرض وما بينهما، وإقرارهم له بأنه خلق العالم أولا، والعقل شاهد عدل بإمكان البعث بل لا بد منه ليجزي الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالحسنى، وليجزي الذين أساءوا بالسوء. فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ وتلك حكاية لتعجبهم «2» والإشارة لكونه صلّى الله عليه وسلّم منذرا بالقرآن، والكلام عن هؤلاء الكفار أولا بالإضمار في قوله: بَلْ عَجِبُوا ثم بالإظهار في قوله: فَقالَ الْكافِرُونَ للإشارة إلى تعيينهم بما أسند إليهم أولا، والتسجيل عليهم بالكفر ثانية. ثم أكدوا تعجبهم من الإيمان بالبعث فقالوا: أإذا متنا وكنا ترابا نبعث؟!! أى: حين نموت ونصير ترابا نرجع؟ إن ذلك رجوع بعيد جدّا عن الأوهام والعقول والواقع. ترى أن أساس إنكارهم للبعث وتعجبهم منه أنهم يظنون أن إعادة الجسم بعد التفرق والانحلال والصيرورة إلى تراب أمر بعيد جدّا بل هو محال، ومن الذي يجمع الجزئيات بعد تفرقها في التراب أو ذهابها في بطون السباع والوحوش والأسماك؟ ومن الذي يحصى   (1) - لأن قوله تعالى: بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ بل للإضراب الإبطالى مع تقدير استفهام إنكارى لعجبهم هذا. (2) - والفاء للتفصيل مثلها في قوله تعالى: وَنادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 518 كل هذا حتى لا يفلت منه جزئى؟ إن ذلك لرجع بعيد جدا!! فيرد الله عليهم بأبلغ رد وآكده: ببيان علمه الشامل، وقدرته الكاملة، وضرب الشواهد المادية والأمثال على ذلك قد علم ربكم الذي خلقكم ورزقكم، وخلق ما أظلكم وما حملكم قد علم علما أكيدا ما تأكل الأرض من لحومكم وعظامكم، وما يتفرق منها في كل ناحية وهو العليم بكل شيء المحيط بكل ما في السموات وما في الأرض. وعنده كتاب حافظ لتفصيل كل شيء، ولعل المراد بالكتاب تمثيل علمه تعالى بالكليات والجزئيات والأشكال والألوان وبكل شيء أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ [سورة الملك آية 14] . بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ وهذا إضراب- أفاده لفظ بل- بل جاء بعد الإضراب الأول للدلالة على أنهم جاءوا بأفظع وأشنع من تعجبهم السابق بالإنذار، والمعنى أن هؤلاء كذبوا بالحق الذي هو القرآن أو النبوة مع قيام الشواهد المحسوسة والمعقولة على ذلك، التي لا تقبل شكا، كذبوا به بمجرد مجيئه من غير تفكير ولا روية وهذا تكذيب أفظع وأشد من الأول، فهم في أمر مضطرب حيث أنكروا النبوة على الإطلاق مرة، ومرة قالوا: إنه لا يستحقها إلا رجل غنى، ومرة قالوا: إن النبي ساحر وتارة كاذب، وأخرى كاهن، وهذا شأن المتردد الذي يبنى حكمه على غير أساس. وهذه مظاهر قدرته تعالى شاهدة عليهم: أغفلوا فلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بناها الله بقدرة قادرة وسواء قلنا: إنها جرم- وهو الأصح- أو قلنا بغير ذلك فهي بلا شك قد بنيت بإحكام، ورفعت بدقة كاملة وقدرة واسعة. وكيف زينها بنجوم للناظرين، وليس لها فروج، وليس فيها شقوق، ولا عيوب. أفلم ينظروا أيضا إلى الأرض كيف بسطها وكورها، وألقى فيها رواسى شامخات وأنبت فيها نباتا حسنا من كل صنف يأخذ الألباب، ويستهوى القلوب، ويسر الناظرين فعل ذلك كله تبصرة وذكرى لكل عبد تواب منيب وأنزل من السماء ماء مباركا كثير الخير والبركة، كثير النفع والخيرات، فأنبت منه جنات وعيونا، وزروعا وكروما، وأنبت به حب الزرع الذي يحصد كالبر والشعير والأرز وغيره، وانظر إلى النخل الباسقات الفارعات، لها طلع قد صف بعضه فوق بعض بنظام دقيق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 519 كل ذلك جعله رزقا لعباده، فهل يليق منهم الكفر والتكذيب؟! وانظر إلى الماء وقد أحيا به بلدة ميتة لا نبات بها، أحياها بالخضرة والنبات بين عشية أو ضحاها، إن الذي قدر على ذلك كله ليس عليه بعزيز أن يعيد خلقكم للبعث والثواب، ومثل ذلك المتقدم الخروج من القبور للبعث والحساب، وما ذلك على الله بعزيز..! العبرة من سير الأولين [سورة ق (50) : الآيات 12 الى 15] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) المفردات: الرَّسِّ: البئر التي لم تطو. الْأَيْكَةِ: وهي الغيضة سموا بها تُبَّعٍ هو تبع الحميرى وكان مؤمنا وقومه كفار. أَفَعَيِينا العي: العجز، تقول: عييت بالأمر: إذا لم تعرف وجهه. المعنى: هكذا الرسل جميعا جاءوا بالتوحيد وإثبات البعث، وكذبتهم، أممهم أى: أكثرهم، فاستحقوا العقاب الشديد من الله، فانظروا يا آل مكة موقفكم من رسولكم الذي أرسل إليكم. كما كذب المشركون من العرب بالبعث كذبت قبلهم قوم نوح وأصحاب البئر المعروفة، قيل: هم قوم شعيب، وكذبت قوم ثمود، وقوم عاد، وفرعون وقومه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 520 وقوم لوط الذين كانوا إخوانه، وقوم تبع الحميرى، وقد مضى قبل ذلك قصص هؤلاء في غير موضع، كل كذب الرسل فيما أرسلوا من أجله، وخاصة أمر البعث، فوجب عليهم وعيد ربك، وحقت عليهم كلمة العذاب. أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ؟ وهذا استئناف مقرر لصحة البعث الذي حكيت أحوال المنكرين له، والمعنى: أقصدنا الخلق الأول- أى بدء الخلق- فعجزنا عنه حتى يتوهم عجزنا عن الإعادة؟! إنهم معترفون بذلك، وأن الله هو الذي خلق الخلق أولا، فلا وجه لإنكارهم البعث، بل هم في خلط وشبهة من هذا الخلق الثاني، أى: البعث.. تقوى الله والخوف من عذابه يوم القيامة [سورة ق (50) : الآيات 16 الى 35] وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَنَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22) وَقالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَلكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27) قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَجاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَلَدَيْنا مَزِيدٌ (35) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 521 المفردات: ما تُوَسْوِسُ الوسوسة: الصوت الخفى، ومنه وسواس الحلي، أى: صوت الحلية، والمراد هنا حديث النفس. حَبْلِ الْوَرِيدِ: هو عرق في صفحة العنق. يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ: يأخذ ويثبت الملكان الموكلان بالإنسان. قَعِيدٌ: جالس. رَقِيبٌ عَتِيدٌ الرقيب: الحافظ للأعمال المراقب لها، والعتيد: الحاضر الذي لا يغيب. سَكْرَةُ الْمَوْتِ: شدته التي تذهب بالعقل. تَحِيدُ: تنفر وتهرب. سائِقٌ وَشَهِيدٌ أى: ملكان أحدهما يسوقه إلى المحشر والآخر يشهد عليه. حَدِيدٌ أى: حاد قوى. عَتِيدٌ أى: مهيأ لجهنم. عَنِيدٍ: معاند ومجانب للحق. مُعْتَدٍ: ظالم متخط للحق. مُرِيبٍ: شاك في الله وفي أخباره. ما أَطْغَيْتُهُ: ما أوقعته في الطغيان. وَأُزْلِفَتِ: قربت. أَوَّابٍ: كثير الرجوع إلى الله. حَفِيظٍ: كثير الحفظ لحدود الله. مُنِيبٍ: مقبل على الطاعة. مَزِيدٌ: زيادة. المعنى: يقول الله- جل جلاله-: ولقد خلقنا الإنسان وأبدعنا صورته، وأكملنا خلقته، ونحن نعلم السر وأخفى، ونعلم ما توسوس به نفسه، وما يستكن في ضميره، إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فالله يعلم ما يخفيه الإنسان ويكنه في نفسه، من الخواطر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 522 وحديث النفس، ولا غرابة في ذلك، فهو أقرب إلينا من حبل الوريد، وهذا تمثيل لكمال القرب، مع أن الله منزه عن الحلول في مكان وزمان، فهو قرب علم به وإحاطة بأحواله كلها فكأن ذاته قريبة منه «1» . ومع كمال العلم بالإنسان، وتمام الإحاطة بأحواله، ونفاذ قدرته عليه، وكل به ملكين يكتبان ويحصيان عليه عمله، إلزاما للحجة، وقطعا للمعذرة. فالله أقرب إليه من حبل الوريد حين يتلقى المتلقيان اللذان يأخذان عنه ويحصيان عليه، أحدهما عن يمينه يكتب الحسنات، والآخر عن شماله يكتب السيئات، ما يلفظ الإنسان من قول، ولا يعمل من عمل إلا لديه ملكان موصوفان بأنهما رقيبان وعتيدان، فكل منهما رقيب، أى: حافظ للأعمال متتبع لأمور الإنسان، يحصيها ويسجلها، وكل منهما عتيد، أى: حاضر مهيأ معد لذلك. وقال بعض العلماء: في هذه الآية رهبة وهيبة وخوف وفزع لقوم، وسكون وأنس وطمأنينة لقوم آخرين، فهنيئا للعاملين المؤمنين، وبؤسا وهلاكا للكافرين والفاسقين!! ويا حسرة على العصاة والمذنبين! حيث ينزل بهم الموت وفزعه، فتراهم سكارى من هول ما يلاقونه وَجاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ نعم كل إنسان يلاقيه الموت وشدته وتغمره غمرته التي تغلب عقله، وتلهيه عمن حوله، ويشغله عن ماله وولده، وعند ذلك يظهر له الحق، ويتضح له الأمر، ويدرك مكانه، ويرى عمله وأن ما جاءت به الرسل من الإخبار بالبعث والثواب والعقاب حق لا شك فيه ولا مراء، تلك مواقف شديدة على غير المؤمنين، أما المؤمنون فعند سكرات الموت يبشون ويفرحون لما يرون من مقدمات الخير الذي ينتظرهم. ذلك هو الموت وما فيه، الذي كنت أيها الكافر منه تحيد وعنه تميل. ونفخ في الصور النفخة الثانية ليقوم الناس لرب العالمين، ذلك الوقت الذي أوعد الله به الكفار والعصاة، وانظر- رعاك الله- إلى قوله: وجاءت كل نفس معها سائق   (1) - فيه إشارة إلى أنه تجوز عن قرب العلم بقرب الذات. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 523 وشهيد، أى: سائق يسوقها إلى نتيجة عملها، وشاهد يشهد لها بعملها ويقال لها: تالله لقد كنت أيها الإنسان في غفلة من هذا الذي نزل بك- وكل إنسان وله اشتغال ما عن الآخرة- فكشفنا عنك غطاءك، وأزلنا عنك غفلتك التي كانت عندك في الدنيا، بانهماكك في المحسوسات، واشتغالك بالماديات، وقصر نظرك عليها، فبصرك اليوم حاد وقوى تدرك به ما غفلت عنه أو أنكرته في الدنيا. وقال قرينه- وهو شيطانه الذي قيض له في الدنيا-: هذا- والإشارة إلى نفس الشخص الكافر- الذي عندي وفي ملكي عتيد لجهنم، أى: قد هيأته لها بإغوائى وإضلالى «1» ، فيقال للموكل به من الملائكة: ألقيا في جهنم كل كفار معاند للحق مجانب له، مناع للخير، معتقد ظالم، شاك في دينه مرتاب في ربه، الذي جعل مع الله إلها آخر فألقياه- والأمر للسائق والشهيد كما مضى- في العذاب الشديد. وحينما يلقى الكافر في جهنم يقول: يا رب أطغانى الشيطان وأضلنى!! فيقول الشيطان «2» : ربنا ما أطغيته ولا أضللته ولكن كان هو في ضلال بعيد الغور، فأنا وسوست له وزينت له السوء فقط، وهو الذي ارتكب الإثم بنفسه بعد اختياره له وقصده، وبعد ما جاء التحذير له من السماء مرارا، فيا رب: ما أطغيته ولكن كان في ضلال بعيد يستحق معه هذا العقاب، فيقول الله: لا تختصموا لدى، والحال أنى قدمت لكم بالوعيد، وهو القرآن، وأنذرتكم على ألسنة الرسل، وحذرتكم من سوء العاقبة مرارا، ودعوتكم إلى الخير جهارا. ما يبدل القول لدى، ولا معقب لحكمي، وقد حكمت بتخليد الكافر في النار وتعذيب العاصي بها على حسب عمله، ولن يغير هذا الحكم، وما ربك بذي ظلم للعباد.   (1) - وإعراب هذه الآية «هذا ما لدى عتيد» يجوز في (ما) أن تكون موصوفة و (عتيد) صفتها و (لدى) متعلق به و (ما) هذه خبر اسم الإشارة، ويجوز أن تكون (ما) موصولة مبتدأ و (لدى) صلتها و (عتيد) خبرها والجملة خبر اسم الإشارة. (2) - فصلت هذه الجملة لأنها واقعة جواب سؤال مقدر تقديره: ماذا قال الشيطان ردّا على اتهام الكافر له؟ وعطف قوله: وَقالَ قَرِينُهُ على ما قبله لأن إرادة الجمع بينها وبين ما قبلها وهي وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها ... مطلوبة، ولا مانع من العطف لاتحادهما خبرا وإنشاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 524 واذكر يوم نقول لجهنم: هل امتلأت جوانبك الفسيحة بمن دخلك من المذنبين؟ فتقول جوابا على هذا السؤال: هل من زيادة. أى: لا أسع أكثر من ذلك فإنى قد امتلأت «1» . ثم لما فرغ من بيان حال الكفار شرع في بيان حال المؤمنين يوم القيامة فقال ما معناه: وأزلفت الجنة وقربت للمتقين تقريبا غير بعيد فهم يشاهدونها ويرون فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويقال لهم: هذا ما توعدون أيها المتقون فهو لكم ولكل أواب كثير التوبة والرجوع إلى الله محافظ على حدوده ومحارمه لا يقربها، وهو من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب، ويقال للمتقين: ادخلوها بسلام، أى: سالمين من كل خوف، ذلك يوم الخلود، لهم فيها ما يشاءون، وما يدعون، ولدي ربك الكريم مزيد من الفضل والإكرام. «وبعد» : أليس في ذكر أحوال يوم القيامة، وما يلاقيه الإنسان فيها، جزاء على أعماله التي تحصيها الملائكة الكرام الكاتبون، بعد تصدير الآية بما يثبت لله القدرة القادرة والعلم التام بكل شيء أليس هذا كله مما يثبت عقيدة البعث، ويقوى الإيمان به؟ ويدعو إلى اقتفاء أثر المؤمنين به الذين ينعمون في الجنة التي أعدت لهم، وعند ربك فوق هذا كله مزيد من الفضل والإحسان لمن يؤمن بالله واليوم الآخر. تهديد لمنكري البعث وختام السورة [سورة ق (50) : الآيات 36 الى 45] وَكَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ (40) وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)   (1) - الاستفهام الأول للتقرير، فالله يقررها بأنها امتلأت، أى: يجعلها تقر بذلك، والاستفهام الثاني بمعنى النفي، وهو جواب الاستفهام الأول. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 525 المفردات: قَرْنٍ القرن: الأمة والجماعة المتقدمة، سميت بذلك لأنها تتقدم غيرها كالقرن يتقدم الحيوان. فَنَقَّبُوا التنقيب: التنقير عن الأمر والبحث والطلب، وقرئ فنقبوا، أى: خرقوا في البلاد ودوخوا فيها غيرهم، والمراد طافوا في البلاد من أقصاها إلى أقصاها طلبا للتجارة أو هربا من الموت. مَحِيصٍ: مهرب. لُغُوبٍ أى: تعب وإعياء. وَأَدْبارَ السُّجُودِ يقال: أدبر الشيء إدبارا: إذا ولى، وقرئ: وإدبار جمع دبر، والمراد بعد السجود، أى: الصلاة. الصَّيْحَةَ أى: صيحة البعث. تَشَقَّقُ أصله: تتشقق، والمراد: تتفتح، ويخرجون من قبورهم. يَسِيرٌ: سهل. بِجَبَّارٍ: تجبرهم على الإيمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 526 المعنى: كثيرا من الأمم السابقة «1» ، والقرون الماضية قبلكم أهلكناهم بعذاب شديد عاجل لما كذبوا الرسل، وكفروا بالبعث، وقد كانت تلك الأمم أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا، وأصحاب تجارات ومصانع، هؤلاء اشتد بطشهم فنقبوا البلاد، وأكثروا فيها الفساد، وقيل: أكثروا في السفر والترداد والبحث والطلب عن المال والتجارة، فانظر هل من محيص أو محيد عن الله ولقائه؟ لا مناص منه ولا ملجأ إلا إليه، فاعتبروا أيها المنكرون وآمنوا أيها المشركون. إن في ذلك لذكرى وعبرة لمن كان له قلب يعقل به فيرى الحسن حسنا والقبيح قبيحا، لأن من لا يتعظ بالمواعظ كأنه لا قلب له لمن كان له قلب يعقل أو أصغى بسمعه إصغاء من يريد أن يعرف الحق من غير تعصب، وهو شهيد، أى: حاضر بروحه وعقله لا بجسمه فقط، وكثيرا ما نعى الله على الكفار عدم استفادتهم لأن على قلوبهم الأقفال، وأنهم يحضرون بأجسادهم فقط أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها؟ ولقد خلقنا السموات والأرض وما بينهما من عجائب في ستة أيام، وهو القادر على خلقها في لحظة، وما مسنا بعد ذلك إعياء ولا تعب، قيل: نزلت ردّا على اليهود الذين يقولون: إن الله استراح يوم السبت واستلقى على العرش بعد أن خلق الدنيا طلبا للراحة، وإذا كان هذا خلقه فكيف نستبعد عليه البعث؟!! ولقد ختم الله السورة بعلاج من حكيم خبير، علاجا لمن يدعو إلى الخير ويصاب بالأذى من قومه. ويجازى على الحسنة بالسيئة، ليس لهذا علاج إلا الصبر وأن يحتسب أجره عند الله، ويفوض أمره إليه، والله بصير بالعباد، وهو مع المؤمنين بالنصر والتأييد إن كانوا مؤمنين حقا. اصبر يا محمد على ما يقولون، واستعن على ذلك بالتسبيح والصلاة، وتقوية الروح باللقاء المعهود مع خالق هذا الوجود، في الصلاة والمناجاة والتسبيح والتكبير، وسبح   (1) - «كم» خبرية منصوبة بأهلكنا، و «من قرن» تمييز لها، وجملة «هم أشد» صفة لقرن، والفاء في قوله: «فنقبوا» عاطفة على المعنى مع إفادة السببية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 527 حامدا ربك شاكرا له فضله ونعمه، مهما أصابك من سوء، سبحه قبل طلوع الشمس في وقت السحر. وقبل الغروب ومن الليل فسبحه، وأدبار كل صلاة، وخصت هذه الأوقات بالذكر لأنها أوقات تظهر فيها عظمة الله، وجلاله، وقدرته على إحياء هذا الوجود بعد سكونه، وعلى إماتته في الغروب بعد هذه الحركة والضجيج والحرارة والنور، وفي صحيح الحديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يقول دبر كل صلاة مكتوبة: «لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيى ويميت، وهو على كلّ شيء قدير، اللهمّ لا مانع لما أعطيت ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ» . واستمع- أيها الإنسان- لما أخبرك به من حال يوم القيامة، وفي ذلك تهويل وتعظيم لشأن المخبر به، والمحدث عنه: يوم ينادى المنادى يخرجون من القبور، يوم يسمعون الصيحة بالحق، ذلك هو يوم الخروج. إنا نحن نحيى ونميت في الدنيا، لا يشاركنا في ذلك أحد، وإلينا وحدنا المصير، اذكر يوم تتشقق عنهم الأرض مسرعين إلى مكان الحشر، ذلك حشر ونشر علينا يسير وسهل. أيها الرسول: نحن أعلم بما يقولون، وسنجازيهم على ذلك كله، فلا يهمنك أمرهم وما أنت عليهم بجبار تجبرهم على الإيمان، ولست عليهم بمسيطر، إن أنت إلا رسول عليك البلاغ فقط فذكر إنما أنت مذكر، ذكر بالقرآن، فإنه لا ينتفع به إلا من يخاف الوعيد، ويؤمن بالغيب، وفيه استعداد للخير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 528 سورة الذاريات وهي سورة مكية عند الجميع، وعدد آياتها ستون آية. وعلى الجملة فالسورة تدور حول إثبات البعث بالقسم عليه، وذكر بعض أحواله مع المؤمنين والكافرين، ثم قصت قصص بعض الأنبياء، وخلصت من ذلك كله إلى الأمر بالتوحيد وعدم الشرك، مع بيان طبائع الناس. إثبات البعث [سورة الذاريات (51) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14) المفردات: وَالذَّارِياتِ: هي الريح التي تذرو التراب وغيره، أى: تفرقه وتبدد ما رفعته عن مكانه. وِقْراً الوقر: ثقل الحمل على ظهر أو في بطن. يقال: هذه امرأة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 529 موقرة: إذا حملت حملا ثقيلا، وأما الوقر: فهو ثقل السمع، وهل المراد بالحاملات السحائب يحملن الماء؟ أوهن السفن الموقرة بالناس وأمتعتهم. فَالْجارِياتِ يُسْراً أى: جريا سهلا إلى حيث تسير. فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً: هي الملائكة تقسم أمور العباد، وقيل: هي الرياح تقسم المطر عليهم. الدِّينَ: هو الجزاء، ومنه قولهم: دنته بما صنع، أى: جزيته، وعليه قولهم: «كما تدين تدان» ومنه «يوم الدين» . الْحُبُكِ أى: الطرائق، أى: والسماء ذات الطرق، أو ذات الخلق القوى المستوي، أو ذات الزينة. يُؤْفَكُ: يصرف عنه من صرف. الْخَرَّاصُونَ الخرص: التخمين والحزر، وهو سبب الكذب، فالمراد: لعن الكذابون. غَمْرَةٍ الغمرة: ما ستر الشيء وغطاه. ساهُونَ أى: لا هون وغافلون. يُفْتَنُونَ: يحرقون، وهو من قولهم: فتنت الذهب: أحرقته. المعنى: لقد قال الله- تعالى- في السورة السابقة: ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ وقال: وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ وفي هذا إشارة إلى إنكارهم البعث وإصرارهم على الكفر به بعد إقامة البرهان وتلاوة القرآن فلم يبق بعد ذلك إلا القسم باليمين المؤكدة إن ما توعدون لصادق، وإن الدين لواقع. ولكن أليس من الأفضل أن ندرك بعض السر في قسم الله بهذه الأشياء، بعد ما نهانا النبي صلّى الله عليه وسلّم عن الحلف بغير الله؟ ولعل السر في ذلك أن العرب كانت تعتقد أن النبي رجل قوى الحجة، غالب في المجادلة وإقامة الدليل، فأقسم لهم القرآن على لسان النبي بكل شريف ليعلموا صدقه إذ هم كانوا يعتقدون أن الأيمان الكاذبة تدع الديار بلاقع (خرائب) وأنها تضر صاحبها، وقد كان إكثار النبي من الحلف مع أنه لم يصب بسوء بل ارتفع شأنه كان هذا كله دليلا على صدقه على أن الأيمان التي أقسم الله بها دلائل على كامل قدرته على البعث وقد ساقها الله في صورة اليمين لفتا لأنظارهم وإيذانا بخطر ما يتحدث عنه، وأنه حرى بالبحث التام، فالإله الذي خلق هذه الأشياء وصرفها حيث شاء قادر بلا شك على البعث وإعادة الخلق يوم الجزاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 530 وهنا بحث آخر: في جميع السور التي بدئت بالقسم بغير الحروف كالسورة التي معنا نجد أن المقسم عليه واحد من ثلاثة: التوحيد ... الرسالة ... البعث، تلك أصول الدين العامة، ويلاحظ أن سورة الصافات وحدها هي التي أقسم فيها على التوحيد فقال الله إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ وفي سورة النجم. والضحى، أقسم على صدق الرسول حيث قال: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى وقال: وَالضُّحى وَاللَّيْلِ إِذا سَجى ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى وبقية السور كان المقسم عليه فيها هو البعث والجزاء وما يتعلق به لأنهم أنكروا البعث وبالغوا في إنكاره، وصدق الله حيث يقول: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ. أقسم الله بالرياح التي تذرو التراب ذروا، وتبدده في كل مكان، فالرياح التي تحمل السحب الموقرة بالماء المحملة بالمطر، فالرياح التي تجرى جريا سهلا فتحمل السحب، وتدفع السفن، فالتي تقسم المطر على الأماكن التي يريدها الله، فيصيب به من يشاء ويصرفه عمن يشاء وهو على كل شيء قدير وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه سئل عن الذاريات فقال: هي الرياح، وسئل عن الحاملات فقال: هي السحاب، وسئل عن الجاريات يسرا فقال: هي السفن، وسئل عن المقسمات أمرا فقال: هي الملائكة، ويقول عمر- رضى الله عنه- في ذلك كله: لولا أنى سمعت رسول الله يقول بهذا ما قلته . والله أعلم بكتابه، أقسم الله بهذا على أن ما توعدون به لصادق ومتحقق الوقوع، وأن الدين والجزاء لواقع وفي تخصيص المذكورات بالقسم رمز إلى شهادتها بتحقيق المقسم عليه وهو البعث من حيث إن من قدر على ذلك فهو قادر على تحقيق الوعد بالبعث، إذ الرياح تذرو ذرات المياه، وتحملها إلى طبقات الجو العالية، فتتجمع سحبا بعد تفرقها، ثم تجرى بيسر وسهولة إلى حيث شاء فتنزل مطرا أليس القادر على ذلك بقادر على أن يعيد الخلق بعد تفرق أجزائه وانحلاله في التراب أو الجو أو البحار؟! وأقسم الله كذلك بالسماء ذات الحبك، أى: الطرق المحسوسة التي تسير فيها الكواكب أو هي ذات الخلق البديع القوى، وذات الزينة بالنجوم، على أنكم- يا كفار مكة- في قول مختلف متباين، فتارة تقولون على النبي: إنه شاعر، وطورا إنه ساحر، ومرة: إنما يعلمه بشر، وأخرى: إنه مجنون وهذا دليل على التخبط وسوء الرأى ليس الأمر كذلك وإنما يصرف عن الرأى الحق والإيمان الكامل من صرف الجزء: 3 ¦ الصفحة: 531 بحسب طبعه وميله النفسي عنه قتل «1» الخراصون الذين ينكرون البعث عن ظن وحدس لا عن رأى وعقيدة وهؤلاء هم الكذابون الذين هم في جهل يغمرهم كالماء الكثير وهم ساهون ولا هون عن الخير الذي ينفعهم. يسألون سؤال استهزاء قائلين: أيان يحصل يوم الجزاء؟ والجواب: يقع يوم الدين يوم هم على النار يحرقون، أى: يوم الجزاء هو يوم تعذيب الكفار، ويقال لهم عند ذلك: ذوقوا فتنتكم، أى: عذابكم المعد لكم جزاء على كفركم ويقال لهم كذلك: هذا العذاب هو الذي كنتم به تستعجلون وتسألون عنه استهزاء وكفرا به. من هم المتقون وما جزاؤهم؟ [سورة الذاريات (51) : الآيات 15 الى 23] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23) المفردات: يَهْجَعُونَ الهجوع: النوم، وقيده بعضهم بالنوم ليلا، وقال آخرون: إنه النوم القليل. وَبِالْأَسْحارِ: جمع سحر، وهو الجزء الأخير من الليل، أى: قبيل   (1) - حقيقة القتل معروفة، والمراد هنا بالقتل: الدعاء عليهم باللعن لأن الملعون يشبه المقتول في الهلاك، وعلى ذلك ففي (قتل) استعارة تبعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 532 الفجر. وَالْمَحْرُومِ: هو الذي حرم المال، والظاهر أنه هنا المتعفف الذي لا يسأل الناس ... وهؤلاء هم المتقون المؤمنون، وهذا جزاؤهم بعد الكلام على الكفار والمجرمين، مع ذكر حقائق أخرى تتعلق بالاستدلال على قدرة الله ووحدانيته، وبالمن على الناس بأن رزقهم من الله ويأتى من السماء. المعنى: إن المتقين الموصوفين بالصفات الآتية في جنات وبساتين يتمتعون بكل ما فيها ولهم فيها عيون فوارة بالماء الزلال تجرى خلال الجنة، فلا يرون فيها عطشا، كما أنهم لا يرون فيها شمسا ولا زمهريرا، إنهم في جنات وعيون حالة كونهم آخذين ما آتاهم ربهم من نعيم وقابلين لكل ما أعطاهم بقبول حسن، وقد كانوا في الدنيا يتقبلون أوامر الله التي تأتيهم على ألسنة الرسل بصدور رحبة، ونفوس مطمئنة، وكأن سائلا سأل وقال: هل فعلوا ما يستحقون عليه هذا الجزاء؟ فأجيب: إنهم كانوا قبل ذلك في الدنيا محسنين لأعمالهم، آتين بها على ما ينبغي، عابدين الله عبادة خالصة لوجهه كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ «1» أى: كانوا يهجعون زمانا قليلا من الليل، ولا شك أن هذا وصف للمتقين بأنهم عاملون مخلصون، فالليل وإن كان وقت راحة ونوم، فهم لا يهجعون فيه إلا قليلا، ويكابدون العبادة في أوقات الراحة والبعد عن الناس، وعند سكون النفس وعدم اشتغالها بالدنيا وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً «2» وهم مع ذلك كله يستغفرون الله في الأسحار، كأنهم أجرموا في الليل أو عصوا الله في النهار، أليس هذا هو وصف المؤمن التقى دائما يخشى الله ويعمل له، ويحاسب نفسه ثم يستغفر الله بالأسحار بعد ذلك؟ وهم دائما في خشية من عذاب الله، ومع ذلك ففي أموالهم حق ثابت معلوم، للسائل والمحروم، الذي يتعفف عن السؤال، ويحسبه الجاهل غنيّا، وهو في أشد حالات الفقر. عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «ليس المسكين الّذى تردّه التّمرة والتّمرتان   (1) - هذه الجملة بيان للجملة التي قبلها ولذلك فصلت. (2) - سورة الإسراء آية 78. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 533 والأكلة والأكلتان، قيل: فمن هو المسكين؟ قال: الّذى ليس له ما يغنيه ولا يعلم مكانه فيتصدّق عليه فذلك المحروم» . وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ. وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ وهذا دليل على قدرة الله في الأرض وفي الناس سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ «1» وَمِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ «2» نعم في الأرض وما أقلت من سهول وجبال، وأنهار ووديان، وما عليها من زروع وثمار، وحدائق ونبات وما في جوفها من ماء عذب فرات، وماء كالملح الأجاج، وما فيها من زيوت ومعادن، وغازات وأبخرة، في الأرض وحركاتها، ودوراتها ورياحها، وحرها وبردها، آيات ودلائل ولكن للمتقين. وفي أنفسكم آيات كذلك للمتقين، أليس في نفسك وما فيها من علوم ومعارف وغرائز وميول واتجاهات للخير تارة وللشر أخرى آيات للمتقين؟ أليس في نفسك التي بين جنبيك وما فيها من حواس السمع والبصر والإحساس واللمس والذوق وما فيها من دورة الدم، وأجهزة التنفس والبول والهضم والإفراز كل ذلك آيات لمن يعقلها، ولا يعقلها حقيقة ويدرك سرها الخفى ودلالتها على الإله القوى القادر الحكيم الخبير إلا المؤمنون المتقون الله، أما غيرهم فقد يدرك حقائقها المادية فقط!!، وفي أنفسكم أفلا تبصرون ذلك بقلوبكم لا بأبصاركم! وتفقهون أن هذا كله لخالق قادر على البعث وإعادة الحياة. واعلموا أن في السماء تقدير رزقكم، وتحديده وأسبابه، فليس الرزق موقوفا على شيء يتعلق بالكون الأرضى فقط، بل الأمر كله لله، والله يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر، أى: في السماء رزقكم وما توعدون من خير أو شر، فعلى المسلم إذا طلب أمرا من مخلوق فليطلبه بعزة مع العمل فإن الأمور تجرى بالمقادير وبعضهم فسر السماء في الآية بالمطر، فورب السماء والأرض إن تقدير الرزق وتحديده في السماء لحق لا شك فيه، ويجوز أن يراد هذا وغيره من كل وعد سابق في هذه السورة، إنه لحق مثل «3» نطقكم فكما أنكم لا تشكون في نطقكم فكذلك هذا.   (1) - سورة فصلت آية 53. (2) - سورة فصلت آية 39. (3) - مثل حال من الضمير المستكن في قوله: الحق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 534 وروى عن بعض الأعراب حينما سمع هذه الآية قال: يا سبحان الله من الذي أغضب الجليل حتى حلف؟! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين؟! إكرام الله لأوليائه وإهانته لأعدائه [سورة الذاريات (51) : الآيات 24 الى 46] هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37) وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 535 المفردات: ضَيْفِ أى: ضيوف. مُنْكَرُونَ: غير معروفين. فَراغَ المراد: ذهب إلى أهله على خفية من ضيفه، وأصل الروغ: الميل على سبيل الاحتيال، ومنه روغان الثعلب. سَمِينٍ: ممتلئ الجسم بالشحم واللحم. فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً: أضمر في نفسه منهم خوفا. فِي صَرَّةٍ: في صوت وجلبة. فَصَكَّتْ وَجْهَها: ضربت وجهها بأطراف أصابعها عجبا. عَقِيمٌ: عاقر فكيف ألد؟ وأصل العقم: اليبس. فَما خَطْبُكُمْ: ما شأنكم الخطير. مُسَوَّمَةً: معلمة. لِلْمُسْرِفِينَ: المتجاوزين الحدود. آيَةً: علامة دالة على ما أصابهم. بِرُكْنِهِ أى: بجانبه وهذا كناية عن الإعراض التام، وقيل: الركن القوة والسلطان، أو القوم. نَبَذْناهُمْ : طرحناهم بلا مبالاة. لِيمٌ أى: أتى بما يلام عليه. الْعَقِيمَ: التي لا تلقح شجرا ولا تأتى بخير بل تهلك الحرث والنسل. ما تَذَرُ: ما تمر على شيء وتتركه. كَالرَّمِيمِ: كالشىء البالي من عظم أو نبات أو غيره. فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ: استكبروا عن امتثال أمره. الصَّاعِقَةُ أى: المهلكة التي صعقتهم. المعنى: ألم يأتك يا رسول الله حديث ضيف إبراهيم المكرمين «1» ، وهذا الأسلوب فيه تفخيم   (1) في هذا إشارة إلى أنه استفهام تقريرى، وقيل: إن هل بمعنى قد، كقوله تعالى: هل أتى على الإنسان حين من الدهر أى: قد أتى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 536 لشأن القصة، ورفع لمكانة الحديث، ولفت لأنظار الناس إليه وتنبيه على أن مثل هذا الحديث مما لا يعلمه رسول الله إلا عن طريق الوحى لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى «1» وقد سبقت هذه القصة في سورتي هود والحجر، ولا شك أن ضيوف إبراهيم مكرمون عند الله، لأنهم من الملائكة. بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ «2» وإبراهيم أكرمهم غاية الإكرام فهم مكرمون من الله ومن المضيف، هل أتاك حديثهم الواقع في وقت دخولهم عليه «3» فقالوا: نسلم عليك سلاما، فأجابهم إبراهيم بأحسن مما حيوا حيث قال: عليكم سلام من الله ورحمته، وعلماء البلاغة يقولون: (الجملة الاسمية كما في قولك: السلام عليك، أبلغ من قولك: أسلم عليك، لأن الأولى تفيد الدوام والثبوت، والثانية تفيد التجدد والحدوث) . ثم قال إبراهيم في نفسه أو قال مظهرا لهم: أنتم قوم منكرون غير معروفين وهيئتكم العامة غير معهودة لنا، وعقب هذا ذهب إلى أهله في خفية منهم وطلب إليهم إعداد طعام للضيفان، فجاء بعجل سمين مشوى، فقربه إليهم، قال لهم: ألا تأكلون؟ ولكنهم أعرضوا عن الأكل، فلما أعرضوا أوجس منهم خيفة، وأضمر في نفسه خوفا منهم على عادة الناس يظنون أن الامتناع عن الطعام لشر مبيت، وأكل الضيف يزيل هذا الظن، وماذا قالت الملائكة عندئذ؟ قالوا: يا إبراهيم لا تخف إنا رسل ربك، وبشروه بغلام عليم عند استوائه وبلوغه الرشد، وهو إسحاق على الصحيح. فلما سمعت امرأته تلك البشارة، وكانت يائسة من الحمل أقبلت على أهل بيتها في صوت وجلبة، فضربت جبهتها بأطراف أصابعها كما تفعل النساء عند ظهور أمر عجيب وقالت: أألد وأنا عجوز عقيم؟!! ماذا قالت الملائكة لها؟ قالوا: لا تعجبي من أمر الله، مثل ذلك القول الكريم الذي أخبرناك به قال ربك ذلك، وإنما نحن مبلغون فقط، ونحن رسل الله إليك، إنه هو الحكيم الذي يضع الأمور في نصابها وهو العليم بكل خلقه، فلا تعجبي من أمر الله، وذلك تذييل موافق لما قبله.   (1) - سورة يوسف آية 111. (2) - سورة الأنبياء آية 26. (3) - في هذا إشارة إلى أن (إذ دخلوا عليه) ظرف للحديث أو معمول ل (اذكر) محذوفة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 537 قال إبراهيم لما علم أنهم رسل الله حقا: ما شأنكم الخطير وما خبركم؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم لوط، وهم قوم مجرمون كذبوا لوطا وعصوا أمر ربهم فحقت عليهم الكلمة، إنا أرسلنا إلى هؤلاء لنقلب قراهم رأسا على عقب، ونجعل عاليها سافلها، ونرسل عليهم حجارة من طين، معلمة من عند الله، ومعدة من عنده لهؤلاء القوم المسرفين المتجاوزين الحدود. ثم قاموا من عند إبراهيم، وجاءوا لوطا، فضاق بهم ذرعا لأنه أنكرهم أول الأمر، وقال: هذا يوم عصيب، قالت الملائكة: يا لوط إنا رسل ربك جئنا لإنقاذك من هؤلاء الظالمين فأسر بأهلك في ظلام الليل، ولا يلتفت منكم أحد إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم، وإن موعدهم الصبح، وليس الصبح ببعيد، فباشرت الملائكة ما أمروا به. وأخرجوا من كان في القرى من المؤمنين، فما وجدوا فيها غير بيت من المسلمين، وهو بيت لوط، وجاء الصبح، وقد جعلوا عاليها سافلها، وأمطروا عليهم حجارة من سجيل، مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين أمثالهم ببعيد، فانظروا يا آل مكة أين أنتم من قوم لوط؟ واعتبروا بما حل بهم، وما ربك بظلام العبيد. وهذه أمثال يضربها الحق تبارك وتعالى للطغاة المتكبرين، والكفار الظالمين، لعلهم يثوبون لرشدهم، ويكفون عن تكذيبهم وكفرهم بما يجب الإيمان به وخاصة يوم البعث. المعنى: وجعلنا في قصة موسى عبرة وعظة، إذ أرسلناه «1» إلى فرعون بمعجزات ظاهرة، وآيات بينة كالعصا وغيرها فتولى بركنه، أعرض عن الإيمان مصاحبا قومه معتزا بهم، وقال: إن موسى ساحر أو هو مجنون، فأخذه ربك أخذ عزيز مقتدر، أخذه هو وجنوده فنبذه في اليم نبذ النواة بلا مبالاة ولا اعتداد به، والحال أنه أتى من أفعال الكفر والطغيان ما يلام عليه، فهو مليم بهذا المعنى. وفي قصة عاد آية كذلك إذ أرسل ربك إليهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الإيمان   (1) الظرف بدل من موسى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 538 فكذبوا وكفروا، فأرسل عليهم ريحا صرصرا عاتية، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما، فترى القوم فيها صرعى، كأنهم أعجاز نخل خاوية، أرسل عليهم الريح العقيم التي لا تنبت كلأ، ولا تنزل غيثا. ولا تلقح شجرا «1» فهي لا تدع شيئا تمر عليه وقدر الله إهلاكه إلا جعلته كالشىء البالي الذي لا خير فيه. وفي قصة ثمود آية كذلك إذ أرسل إليهم ربك أخاهم صالحا فكفروا ولم يؤمنوا فقيل لهم: تمتعوا في داركم ثلاثة أيام، ذلك وعد غير مكذوب، فعتوا عن أمر ربهم واستكبروا عن امتثاله، فأخذتهم الصاعقة، وأهلكتهم نار من السماء أتت على الأخضر واليابس، وهم ينظرون إلى أنفسهم، وقيل: وهم ينتظرون العذاب، ما أصبرهم على ذلك؟ وما كانوا منتصرين بغيرهم إذ لا ناصر لهم، وأهلكنا قوم نوح من قبل لما استحقوا ذلك، إنهم كانوا قوما فاسقين. وهكذا حكم الله مع الأمم قديما وحديثا، وتلك سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا فهل من معتبر؟!. أليس إهلاك الكافرين مع كثرتهم وشدة قوتهم، ونصرة المؤمنين على ضعفهم وقلة عددهم آية على قدرة الله؟! وأى آية أقوى من هذه؟! من آيات الله الكونية [سورة الذاريات (51) : الآيات 47 الى 60] وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51) كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)   (1) في هذا إشارة إلى أنه شبه عدم تضمن النفع والإهلاك بالعقم، واشتق منه عقيم بمعنى فاعل أو مفعول فهي استعارة تصريحية تبعية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 539 المفردات: بِأَيْدٍ: بقوة وقدرة. لَمُوسِعُونَ: لقادرون ومطيقون. فَرَشْناها: بسطناها كالفراش. الْماهِدُونَ يقال: مهدت الفراش مهدا: بسطته ووطأته، وتمهيد الأمور: تسويتها وإصلاحها. زَوْجَيْنِ: صنفين ونوعين. أَتَواصَوْا: أوصى أولهم آخرهم. فَتَوَلَّ عَنْهُمْ: أعرض. ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ: الشديد القوى. ذَنُوباً: أصل الذنوب يطلق في اللغة على الدلو العظيمة المملوءة ماء، وكانوا يستقون الماء به فيقسمون به على الأنصباء، ثم قيل للذنوب: نصيبا، من هذا قال الشاعر: لنا ذنوب ولكم ذنوب ... فإن أبيتم فلنا القليب «1» تلك آيات الله الكونية الظاهرة للعيان، التي يراها كل إنسان، في كل زمان ومكان بعد الآيات التي مضت في طيات الزمن مع عاد وثمود وقوم نوح وإخوان لوط.   (1) أى: البئر. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 540 المعنى: وبنينا السماء بقوة قوية. بنيناها بأيد، وإنا لقادرون، وما مسنا في ذلك من تعب ولا مشقة، وفرشنا الأرض وبسطناها لتستقروا عليها، وتعيشوا فوقها، ولا ينافي ذلك كروية الأرض، وانظر إلى السماء وبنائها، والشيء المبنى ثابت لا يتغير، وإلى الأرض وفرشها، والفراش يبدل وينقل، وهكذا الأرض وما عليها، وتبارك من مهدها وبسطها، ووطأها وسواها وأصلحها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ. ومن كل شيء خلق ربك صنفين ونوعين ذكرا وأنثى، في النبات والحيوان، وفي الطبيعة ليل ونهار، ونور وظلام، وحر وبرد، وبحر وبر، وسهل وجبل، وجن وإنس، وخير وشر وهكذا وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. وإذا كان الأمر كذلك، وقد أهلك ربك من كفر وكذب ونجى من آمن وصدق وهذه آياته الشاهدة بقدرته على البعث والثواب والعقاب والجزاء، إذا كان الأمر كذلك ففروا إلى الله، فروا من معاصيه إلى طاعاته، فروا إليه بالتوبة الصادقة والإيمان السليم واقصدوه وحده، ولا تشركوا به شيئا، ولا تجعلوا معه إلها آخر، إنى أنا رسول الله إليكم، ونذير مبين لكم بين يدي عذاب شديد. الأمر كذلك «1» أى: الأمر الحق مثل الذي يذكر لك ويأتيك خبره بالوحي، وهو: ما أتى الذين من قبلهم من رسول إتيانا مثل إتيانهم إلا قالوا في حقه: هو ساحر، أو قالوا: هو مجنون. أأوصى بهذا القول أولهم آخرهم؟ إن هذا لعجيب «2» . بل هم قوم طاغون، فهم مشتركون في الطغيان والظلم الذي حملهم على ذلك وإذا كان الأمر كذلك وأن مصدر تكذيبهم وعصيانهم هو ما تأصل عندهم من غرائز الطغيان والظلم فأعرض عنهم، ولا تشتغلن بهم، فما أنت بملوم على تكذيبهم بل أنت لم تأل جهدا في دعوتهم، وأنت رسول، وإنما عليك البلاغ، وعلى الله الحساب.   (1) كذلك خبر لمبتدأ تقديره: الأمر، والجملة تقرير وتوكيد لما مضى وتسلية للرسول صلّى الله عليه وسلّم واسم الإشارة يعود على ما سيأتى وهو ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ ... الآية. (2) الاستفهام للتعجب والإنكار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 541 ولكن ذكّر وعظ، ولا تدع ذلك، فإن الذكرى تنفع المؤمنين الذين قدر الله لهم الإيمان والاتعاظ. وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ وهذا كلام جديد مستأنف لتقرير وتأكيد الأمر بالتذكر، فإن خلقهم للعبادة، مما يدعو النبي صلّى الله عليه وسلم ومن دعا بدعوته إلى تذكير الناس دائما حيث خلقهم الله للعبادة، وما المراد بالعبادة؟ هل هي التسخير الثابت لجميع الخلق والدلالة التامة الكاملة على وجود الخالق، الذي عبر عنه بالسجود في قوله تعالى: وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ «1» ؟ أم هي العبادة الاختيارية التي يوصف بها المؤمنون؟ والظاهر هو المعنى الثاني وعلى ذلك فما معنى كون الجن والإنس ما خلقت إلا للعبادة؟ مع قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ «2» أى: خلقنا لجهنم خلقا كثيرا يفعل ما به يدخلها، وهذا يدل على إرادة المعاصي لكثير، ويتنافى مع إرادة العبادة من الجن والإنس، ولعل المخلص من ذلك أن الله خلق الخلق صالحين للعبادة مستعدين لها، فيهم العقول والحواس التي تدعوهم إلى عبادة الله، ولما خلقهم على ذلك الوضع جعل خلقهم مغيا بغاية هي العبادة، والذي يؤيد ذلك أن أفعاله تعالى تنساق إلى الغايات الكاملة، وكون بعض الناس أو كثير من الناس لا يصل إلى تلك الغاية لا يمنع كون الغاية غاية ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ما أريد من الخلق رزقا، وما أريد أن يطعموني، وقيل: المعنى ما يريد منهم أن يرزقوا أحدا من خلقه، ولا يريد أن يطعموا أحدا، فالله حين يكلفهم بشيء لم يكلفهم لغرض يعود عليه، ولكن لنفع عائد على المكلفين الممتثلين أمر الله. إن الله هو الرزاق الذي يرزق من يشاء، ذو القوة والبطش، القوى المتين. إذا ثبت أن الله تعالى ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه، وأنه سبحانه ما يريد منهم من رزق ولا يريد منهم أن يطعموه بل هو الرزاق ذو القوة المتين. إذا كان الأمر كذلك فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة، وإشراكهم بالله، وتكذيبهم لرسول الله، فإن لهؤلاء نصيبا من العذاب كبيرا، نصيبا مثل نصيب نظرائهم من الأمم السالفة، وهو واصل لهم بلا شك فلا يستعجلون ولا يطلبون من الله التعجيل فويل ثم ويل للذين كفروا وكذبوا بالبعث من يومهم الذي يوعدونه على لسان الرسل الكرام، وهذا ختام سورة بديع.   (1) - سورة الرحمن آية 6. (2) - سورة الأعراف آية 179. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 542 سورة الطور وهي مكية كلها في قول الجميع، وعدد آياتها ثمان وأربعون آية. وتشتمل هذه السورة على الكلام على البعث، وما فيه، واستتبع ذلك وصف الكفار والمؤمنين يوم القيامة، وأطالت هذه السورة في الكلام على الجنة وما فيها من نعيم مقيم للمتقين، ثم أخذت في خطاب المشركين ونقاشهم في معتقداتهم الفاسدة، ثم كان ختام السورة بذكر نصائح للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين بدعوته. يوم القيامة والكفار فيه [سورة الطور (52) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ (1) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 543 المفردات: وَالطُّورِ الطور: هو الجبل، وقيل: هو الجبل الذي فيه نبات، أو هو الذي ناجى عليه موسى ربه، وهو بطور سيناء. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ: وكتاب مكتوب على وجه الانتظام. رَقٍّ مَنْشُورٍ الرق: جلد رقيق يكتب فيه. والمنشور: المبسوط. الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ: هو البيت الآهل بالزوار، والمراد به هنا الكعبة. الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ: هو البحر المملوء ماء، أو هو الفارغ، وقيل: هو المملوء نارا. تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً أى: تتحرك وتجيء وتذهب وتضطرب. خَوْضٍ وأصل الخوض: المشي في الماء ثم تجوز فيه عن الشروع في كل شيء، وغلب في الخوض في الباطل. يُدَعُّونَ: يدفعون إلى النار دفعا عنيفا شديدا. اصْلَوْها: ادخلوها وقاسوا شدائدها. المعنى: أقسم الحق- تبارك وتعالى- بالطور، وكتاب مسطور في رق منشور، والبيت المعمور والسقف المرفوع، والبحر المسجور إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع. وهل الطور هو الجبل مطلقا أو هو الذي وقف عليه موسى يناجى ربه؟! يحتمل هذا وذاك، وما المراد بالكتاب المسطور؟ قيل: هو الكتاب الذي تكتب فيه الأعمال، ويعطى إلى العبد في يمينه أو شماله يوم القيامة وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً وقيل: هي التوراة أو القرآن، أو اللوح المحفوظ، وينبغي ألا يحمل شيء من هذه الأقوال على التعيين والكتاب المسطور، أى: المكتوب على وجه النظام والترتيب في جلد منشور ومبسوط ليقرأه الكل. وأقسم بالبيت المعمور، وهو بيت الله الحرام الذي يعمر بالحجاج كل عام، بل هو دائما عامر بمن يطوف حوله مع أنه مكان جدب لا زرع فيه ولا ماء، ومع ذلك تهوى إليه نفوس كثيرة من المسلمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 544 وأقسم بالسقف المرفوع وهو السماء التي رفعت بلا عمد ترونها، وأقسم بالبحر المملوء نارا أو هو المملوء ماء، أقسم بهذا كله على أن عذاب ربك لواقع حتما وليس له من دافع يدفعه. وقد يسأل سائل: ما وجه ذكر هذه الأشياء المختلفة في القسم؟ والجواب أن كل هذه الأشياء من دلائل القدرة مع الإشارة إلى يوم الحساب، وما يستتبعه من ثواب أو عقاب، والطور على أنه محل مناجاة موسى، والكتاب فيه ذكر ثوابهم وعقابهم، والبيت الحرام محل تقديس وإجلال، وطواف الملائكة والرسل به، وفيه اجتماع كاجتماع الحشر، والسماء والبحار كلها مظهر من مظاهر العظمة، ودليل على إمكان البعث، والله سبحانه أعلم بأسرار كلامه. إن عذاب ربك لواقع، ما له من دافع، يوم تضطرب السماء اضطرابا، وتزلزل الأرض زلزالا، فتسير الجبال سيرا، فتكون هباء منثورا، وذلك يكون يوم القيامة، فويل يومئذ يحصل ذلك للمكذبين بالرسل واليوم الآخر، الذين هم في اندفاع عجيب في الأباطيل والأكاذيب يلهون، يوم يساقون إلى جهنم سوقا، ويقال لهم: هذه هي النار التي كنتم بها تكذبون! أفسحر هذا «1» كما كنتم تقولون للنبي صلّى الله عليه وسلّم؟ أم أنتم لا تبصرون هذه الحقائق. ويقال لهم: اصلوا جهنم وادخلوها وقاسوا حرها فاصبروا على ذلك أو لا تصبروا، الأمران سواء عليكم لا ينفعكم شيء من صبر أو غيره، إنما تجزون ما كنتم تعملون جزاء واقعا لا شك. المتقون وجزاؤهم يوم القيامة [سورة الطور (52) : الآيات 17 الى 28] إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَوَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)   (1) - الاستفهام للتوبيخ والتقريع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 545 المفردات: فاكِهِينَ أى: أصحاب فاكهة كثيرة، وقرئ: فكهين والمراد أنهم طيبو النفس يقال: فكه الرجل فهو فكه: إذا كان طيب النفس مزاجا، ومن معاني الفكه: الأشر والبطر وعليه قوله تعالى في سورة الدخان وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ أى: أشرين بطرين. هَنِيئاً الأكل والشرب الهنيء: هو ما لا تنغيص فيه ولا نكد ولا كدر. مَصْفُوفَةٍ أى: موصولة بعضها إلى بعض حتى تصير صفا واحدا. بِحُورٍ عِينٍ حور: جمع حوراء، وهي المرأة البيضاء، وعين: جمع عيناء، وهي المرأة العظيمة العين الواسعة. أَلَتْناهُمْ: أنقصناهم. رَهِينٌ أى: مرتهن يؤاخذ بالشر ويجازى بالخير. وَأَمْدَدْناهُمْ أى: وزدناهم على ما عندهم وقتا فوقتا. يَتَنازَعُونَ: يتجاذب بعضهم الكأس من بعض. كَأْساً الكأس: إناء الخمر ما دام مليئا فإذا كان فارغا لم يسم كأسا. لا لَغْوٌ فِيها وَلا تَأْثِيمٌ اللغو: ما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 546 لا خير فيه، والتأثيم: من الإثم: كل ما يغضب الله. مَكْنُونٌ أى: مصون في أصدافه. مُشْفِقِينَ: خائفين من عذاب الله. السَّمُومِ: اسم من أسماء النار، والسموم: الريح الحارة، وقد تستعمل في لفح البرد وهي في لفح الشمس أكثر. وهذا شروع في ذكر حال المؤمنين وجزائهم يوم القيامة بعد ذكر البعث وأنه واقع لا محالة، وما يلاقيه المنكرون له بالإجمال، وتلك عادة القرآن الكريم في الترهيب والترغيب. المعنى: إن المتقين الذين آمنوا بالله وبملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر إيمانا صحيحا كاملا مقرونا بالعمل في جنات عظيمة، ونعيم مقيم، وفضل كبير، ورضوان من الله أكبر، هم في جنات الخلد حالة كونهم فاكهين ومتلذذين بما آتاهم ربهم من الإحسان والفضل العميم، وقد وقاهم ربهم عذاب الجحيم، ويقال لهم تكريما: كلوا واشربوا، أكلا وشرابا هنيئا، بسبب ما كنتم تعملون في الدنيا من صالح الأعمال. إن المتقين في جنات حالة كونهم متكئين «1» على نمارق موضوعة على سرر مصفوفة وقرناهم بحور عين، وكأنهم البيض المكنون، والذين آمنوا، وأتبعتهم ذريتهم بإيمان أى كانوا مؤمنين، وإن لم يكونوا في درجة آبائهم، هؤلاء ألحقنا بهم ذريتهم في الدرجة وما أنقصناهم من عملهم شيئا، ولكنه فضل من الله ونعمة عليهم. روى عن ابن عباس قال: إن الله ليرفع ذرية المؤمن معه في درجته في الجنة، وإن كانوا دونه في العمل لتقر بهم عينه، ثم قرأ هذه الآية. كل نفس بعملها مرهونة عند الله، إن خيرا فخير وإن شرّا فشر، كأن العمل بمنزلة الدين ونفس العبد بمنزلة الرهن، فإن كان العمل مقبولا عند الله فكأن صاحبه أدى دينه   (1) هو حال من الضمير المستكن في الخبر، ويجوز أن يكون حالا من ضمير كلوا أو آتاهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 547 وفك رهنه، وإن لم يكن كذلك فهو مرهون كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ «1» ولعل وجه وضع هذه الآية هنا للإشارة إلى أن المؤمنين فكوا رقابهم، وغيرهم لا زال أسيرا بعمله السيئ، على أنه مناسب لعدم نقصان الآباء شيئا من عملهم. وأمددنا المتقين بفاكهة ولحم مما يشتهون، أى: وزدناهم على ما كان لهم من أصل التنعيم شيئا فشيئا ووقتا فوقتا حالة كونهم يتنازعون الكأس، ويتجاذبونها، هم وجلساؤهم في الجنة كما يفعل الندامى على خمر الدنيا، ولكن لا لغو في شرب هذه الخمر ولا تأثيم فيها لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ «2» ويطوف عليهم بالكأس غلمان لهم ممتعون بالنعيم كخدم الملوك كأنهم لؤلؤ مكنون من البياض والصفاء، وهم في الجنة يتساءلون ويتجاذبون أطراف الحديث عن ماضيهم ولقد قالوا: إنا كنا قبل ذلك في أهلنا مشفقين أرقاء القلوب خائفين من عذاب الله، ومن هول ذلك اليوم، فمن الله علينا، وهدانا ووفقنا إلى العمل الصالح، ووقانا بفضله عذاب السموم، والسبب أنا كنا من قبل ندعوه وحده، ونعبده لا شريك له، إنه هو البر الرحيم، المحسن الكريم ذو الفضل العميم سبحانه وتعالى. نقاش الكفار في معتقداتهم وختام السورة [سورة الطور (52) : الآيات 29 الى 49] فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43) وَإِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)   (1) - سورة المدثر الآيتان 38 و 39. (2) - سورة الصافات آية 47. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 548 المفردات: بِكاهِنٍ: هو المخبر عن الأمور الماضية الخفية بلا وحى، والعراف: هو المخبر عن الأمور المستقبلة، وكانوا يستمدون ذلك من الجن. نَتَرَبَّصُ: ننتظر. رَيْبَ الْمَنُونِ الريب: هو الشك وأطلق على الحوادث، والمنون: هو الدهر لأنه يقطع الأجل. أَحْلامُهُمْ: جمع حلم وهو الأناة والعقل. طاغُونَ: ظالمون مجاوزون الحدود بعنادهم. تَقَوَّلَهُ: اختلقه وافتراه من عند نفسه. الْمُصَيْطِرُونَ الأرباب الغالبون. سُلَّمٌ السلم: هو ما يتوصل به إلى الأماكن العالية. بِسُلْطانٍ: بحجة قوية. مَغْرَمٍ: غرامة وهي التزام الإنسان ما ليس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 549 عليه ولم يكن لخيانة منه. كِسْفاً جمع كسفة وهي القطعة من الشيء. مَرْكُومٌ أى: بعضه فوق بعض. بِأَعْيُنِنا: بعناية منا وفي حفظنا وحراستنا «1» . وَإِدْبارَ النُّجُومِ المراد: وقت إدبارها من آخر الليل، أى: غيبتها بظهور نور الصبح. المعنى: من الناس من هم في أهلهم مشفقون، ومن عذاب الله خائفون، وهؤلاء ينفع معهم التذكر، والنبي مأمور بأن يذكر بالقرآن من يخاف وعيده. وإذا كان الأمر كذلك فذكر إنما أنت مذكر، ونبي مرسل، فما أنت بكاهن تبتدع القول وتخبر به من غير وحى، ولست مجنونا لا تعى ما تقول، وهذا رد لقولهم في النبي وبطلان لاعتقادهم فيه أنه كاهن أو مجنون، كما كان يقول عنه عقبة بن أبى معيط، وشيبة بن ربيعة، والمعنى: انتفى عنك الكهانة والجنون بسبب نعمة الله عليك، فأنت بحمد الله ونعمته صادق النبوة راجح العقل سليم المنطق أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ؟ «2» أيقولون: هو شاعر؟ ننتظر به ريب المنون وحوادث الدهر، فإنهم كانوا يجتمعون ويتشاورون في دعوة محمد وأثرها وخطرها، وتكثر آراؤهم ثم ينتهى المجلس في أغلب الأوقات، على أن محمدا شاعر، من الخير أن ننتظر عليه ونصبر وسيهلك كما هلك زهير والنابغة وغيرهما قل لهم: تربصوا فإنى معكم من المتربصين أتربص هلاككم ونجاح دعوتي عجبا لهؤلاء! أتأمرهم أحلامهم بهذا التناقض في قولهم حتى قالوا مرة إنه كاهن، وأخرى إنه مجنون، وثالثة إنه شاعر! ما هذا؟ أيجتمع في رجل واحد الشعر والكهانة والجنون؟!! بل هم قوم طاغون؟ نعم هم قوم أعمت بصيرتهم الضلالة، وأضلهم العناد وسوء التقليد حتى ختم على قلوبهم، وجعل على أبصارهم وأسماعهم غشاوة، فمن يهديهم بعد هذا؟   (1) - فالعين مجاز عن الحفظ. (2) - أم التي ذكرت هنا في خمسة عشر موضعا هي بمعنى بل والهمزة، أما بل فللإضراب الانتقالى والهمزة للإنكار والتقريع والتوبيخ بمعنى ما كان ينبغي أن يحصل، أو بمعنى ما حصل هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 550 بل أيقولون تقوله وافتراه من عنده؟ بل هم قوم لا يؤمنون بحال من الأحوال، وكيف هذا؟ أليس محمد واحدا منكم ونشأ في بيئتكم، وتربى في مجتمعكم فهل يعقل أن يأتى بهذا القرآن المعجز؟ إذا كان صحيحا ما تقولون فهاتوا حديثا مثل حديثه، أى: قرآنا مثل قرآنه إن كنتم صادقين. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ كيف تكذبون محمدا رسول الله في التوحيد والرسالة والبعث، وهذا الكون شاهد عدل على ذلك.. أما خلقتم؟ بل أخلقتم من غير شيء أم أنتم الخالقون؟! فأنتم خلقتم أنفسكم فلذلك لا تعبدون الخالق، ولا تصدقون رسوله، وتستبعدون خلقه لكم ثانيا في البعث. بل أخلقوا السموات والأرض؟!! بل لا يوقنون!! وكيف ينكرون الرسالة لأنها جاءت لمحمد رسول الله من عند ربه الذي خلقه، وهو أعلم بخلقه، وهو المتصرف في هذا الكون لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، بل أعندهم خزائن رزقه ورحمته حتى يرزقوا من يشاءون، ويقولون: لولا أنزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم!! بل أهم المسيطرون والأرباب الغالبون؟ لا هذا ولا ذاك، فالله وحده هو الغنى، وعنده مفاتح السموات والأرض، وهو الغالب القادر على كل شيء دون سواه، وهو أعلم حيث يجعل رسالته. ومن الذي أعلمهم بأسرار الكون ونظامه؟ بل ألهم سلّم يرقون به فيستمعون إلى هذه الأخبار؟ وإذا كان هذا صحيحا فليأت مستمعهم بحجة واضحة ودليل قوى على ما يقول. عجبا لكم تجعلون لله البنات ولكم البنين! بل أله البنات حيث تقولون: إن الملائكة بنات الله، وتجعلون لكم البنين مع أنه إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودّا وهو كظيم، فإذا كان لا يرضى بشيء لنفسه فكيف يرضاه الله؟ عجبا لهؤلاء كيف يكذبون رسالتك ولا يتبعون شرعك مع قيام الشواهد على صدقك، بل أتسألهم أجرا على هذا؟ فهم مثقلون بتلك الغرامة، منكرون لها، بل أعندهم علم الغيب فهم يكتبون منه ويخبرون به الناس؟ فإن العقل لا يرى أى دليل على صدق دعواهم الباطلة. بل أيريدون كيدا بك وبشرعك؟ فالذين كفروا هم المكيدون الذين يحيق بهم المكر السيئ، ويعود عليهم وباله، وقد حصل هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 551 بل ألهم إله غير الله يعينهم ويحرسهم ويملى عليهم تلك الأباطيل؟! سبحان الله وتعالى عما يشركون!! هؤلاء الناس قد ناقشهم القرآن نقاشا معقولا، وأقام عليهم الحجة، وألزمهم البرهان ومع هذا فهم لا يؤمنون، وإن يروا قطعة عظيمة من السماء ساقطة ليعذبهم يقولوا من فرط عنادهم وطغيانهم: هذا سحاب تراكم بعضه على بعض، جاء يمطرنا بالخير والبركات ولم يصدقوا أنه سحاب ساقط عليهم من السماء لعذابهم. وهكذا الإنسان المغرور. وإذا كان الأمر كذلك، وقد لزمتهم الحجة وظهروا بمظهر المعاند المجادل بالباطل فذرهم غير مكترث بهم، ولا يهمنك أمرهم حتى يلاقوا يومهم المشهود، اليوم الذي لا ينفع فيه مال ولا بنون، يوم الصواعق والشدائد، اليوم الذي لا يغنى عنهم كيدهم ولا مكرهم شيئا من الإغناء. وإن للذين ظلموا أنفسهم وغيرهم هؤلاء عذابا دون ذلك يأخذونه في الدنيا، وليس لهم ما يخفف عنهم أو يسليهم أو يريح ضمائرهم أو يقوى عزائمهم كالمؤمنين المصابين في الدنيا، إذا لنا العزاء والتسلية والصبر وحسن الأجر، ورضا الرب الجليل كل ذلك يخفف عنا ما يصيبنا، ولكن أكثرهم لا يعلمون ذلك. ما مضى كان في شأن الكفار المعاندين الذين وقفوا من النبي موقف العناد والطغيان لم يسمعوا لحجة، ولم يلتفتوا لبرهان، بل ظلوا سادرين في غلوائهم مغرورين بقوتهم وبدنياهم أما أنت أيها الرسول الكريم فاسمع لنصيحة ربك وأنت خير من يعمل بها واصبر لحكم ربك، فكل ما يحكم به ويقدر فهو خير ورحمة، وإن كان فيه ألم وتعب فإنك أيها الرسول في كلاءة ربك وحفظه وعنايته، والله عاصمك من الناس ومؤيدك ومبلغك ما تصبو إليه نفسك الشريفة، وما عليك إلا الرضا بالقضاء وأن تسبح ربك حين تقوم لأى عمل من الأعمال، فسبحه في جوف الليل حيث يسكن الناس وينامون ويبقى الحي القيوم الذي لا تأخذه سنة ولا نوم، وسبحه في إدبار النجوم، أى: قبيل الفجر عند مغيبها حيث تصحو النفس نشيطة صافية من الأكدار. اللهم وفق كل من يعمل لنشر دينك واستقرار دعوتك إلى العمل الصالح باتباع نصائح القرآن، وتتبع سيرة إمام الأنبياء وخاتم المرسلين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 552 سورة النجم مكية على القول الصحيح، وعدد آياتها ثنتان وستون آية، وهي أول سورة أعلنها رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بمكة. وتشتمل هذه السورة على إثبات الرسالة وصدق الرسول في أن القرآن من عند الله، ثم الكلام على الأصناف وبيان أنها أسماء لا مسميات لها، ثم الكلام على الذات الأقدس ببيان آثاره في الوجود، وذكر حقائق إسلامية وجد بعضها في الكتب السابقة. تحقيق أمر الوحى [سورة النجم (53) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10) ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 553 المفردات: وَالنَّجْمِ: هو النجم المعروف، والمراد كل ما طلع من النجوم، وقيل: بل المراد به معين هو الثريا أو زهرة، وقيل: هو المقدار من القرآن النازل على النبي صلّى الله عليه وسلّم والله أعلم به. إِذا هَوى أى: سقط، والمراد: غرب أو طلع أو انقض على الشيطان. ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ: ما عدل عن طريق الحق إلى طريق الباطل والإثم، والمراد بالصاحب النبي صلّى الله عليه وسلّم. وَما غَوى الغي: هو الجهل مع الاعتقاد الفاسد، أى: هو الجهل المركب. شَدِيدُ الْقُوى أى: صاحب القوى الشديد، وهو جبريل- عليه السلام-. ذُو مِرَّةٍ: ذو حصافة في العقل، واستحكام في المنطق، وأصل المعنى مأخوذ من قولهم: أمررت الحبل: إذا أحكمت فتله، فالمرة تدل على المرة بعد المرة، ولا شك أنها تدل على زيادة القوى. فَاسْتَوى: استقام على صورته الحقيقية التي خلق عليها، فالاستواء بمعنى اعتدال الشيء في ذاته الذي هو ضد الاعوجاج، وعليه: استوى الثمر إذا نضج. بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أى: الجهة العليا من السماء المقابلة للناظر. دَنا: قرب. فَتَدَلَّى: فتعلق في الهواء. قابَ قَوْسَيْنِ: قد جاء التقدير بالقوس كالذراع والشبر والرمح، والقاب: المقدار أيضا، والمراد به هنا مقدار ما بين مقبض القوس وسيتها- ما عطف من طرفيها- وعلى ذلك فلكل قوس قابان لأن له طرفين، وعلى ذلك ففي الكلام قلب، والمراد: قابى قوس، وبعضهم نقل أنه يجوز أن تقول: قاب قوسين. وقابى قوس، وبعضهم فسر القاب: أنه المقدار الذي بين المقبض والوتر، والعرب كانت عند الاتفاق تأتى بقوسين وتجعلهما في وضع واحد ثم ترمى بهما دفعة واحدة إشارة إلى تمام الاتفاق ونهاية القرب والالتصاق، وعلى ذلك فيكون قاب واحد لقوسين، وعن ابن عباس: القوس: ذراع يقاس به، أى: مقدار ذراع، وعلى الجملة فالمعنى اللفظي: فكان مقدار مسافة قربه منه مثل مقدار مسافة قاب قوسين. أَوْ أَدْنى: أو أقرب من ذلك. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى أتكذبونه فتجادلونه على ما يراه معاينة، وهذا مأخوذ من المراء، الذي هو مشتق من مرى الناقة إذا مسح ضرعها وظهرها ليخرج لبنها، شبه به الجدال لأن كلا من المتجادلين يحاول الجزء: 3 ¦ الصفحة: 554 إبراز ما عند صاحبه ليلزمه الحجة. نَزْلَةً: مرة أخرى. عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى: مكان في السماء الله أعلم به. جَنَّةُ الْمَأْوى: الجنة التي تأوى إليها أرواح المؤمنين. يَغْشَى: من الغشيان بمعنى التغطية والستر. ما زاغَ الْبَصَرُ: ما مال البصر. ما طَغى: ما تجاوز حده المرسوم له. يقول العلامة الفخر في تفسيره- أجزل الله مثوبته- (باختصار) : السور التي تقدمت وافتتحها الله بالقسم بالأسماء دون الحروف هي: والصافات، والذاريات، والطور، وهذه السورة، والأولى أقسم فيها لإثبات الوحدانية له، وفي الثانية لإثبات الحشر ووقوعه والثالثة لإثبات دوام العقاب والعذاب يوم الساعة كما قال: إن عذاب ربك لواقع، وفي هذه السورة أقسم لإثبات النبوة لمحمد صلّى الله عليه وسلّم وبذلك تكمل أصول الدين الثلاثة، ويلاحظ أن القسم على إثبات التوحيد وإثبات رسالة محمد قليل وقوعه في القرآن، والقسم على إثبات البعث كثير، ألا ترى إلى سورة الذاريات والطور، والليل إذا يغشى، والشمس وضحاها، والسماء ذات البروج إلى غير ذلك مما سيأتى، ولعل هذا لأن دلائل التوحيد وإثبات الرسالة ظاهرة وآياتها في الكون وفي معجزات الرسول واضحة، أما البعث فإمكانه بالعقل، ووقوعه بالفعل لا يمكن ثبوته إلا بالدلائل السمعية، أى: القرآن والحديث، لذا أكثر الله في القرآن من القسم عليه ليؤمن به الناس. المعنى: أقسم الحق- تبارك وتعالى- بجنس النجم الصادق بالثريا وغيرها إذا هوى «1» أى: غرب أو طلع أو انقض على الشياطين المسترقة للسمع، وقيل: إنه أقسم به على أنه جزء من القرآن نازل على النبي صلّى الله عليه وسلّم وفي القسم بالنجم الذي شأنه أن يهتدى به السارى إشارة إلى أنه صلّى الله عليه وسلّم علم الاهتداء، ومنارة الوصول إلى خير الدنيا والآخرة والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم عن طريق الحق ولا عدل عن الصراط المستقيم الذي هو مسلك الآخرة، وما غوى في اعتقاد فاسد أبدا، وهو صاحبكم، وأنتم أدرى الناس به، وما ينطق النبي صلّى الله عليه وسلّم وما يصدر عنه من قول أو فعل أتاكم به من جهته- سبحانه وتعالى-   (1) ظرف لأقسم المقدر، وقد تجردت إذا من الزمان المستقبل، وأريد بها مطلق زمان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 555 كالقرآن مثلا، أى: ما صدر عنه ذلك عن هوى نفسه ورأيه، إن هو- أى: القرآن- إلا وحى من الله- عز وجل- يوحى به إليه «1» . علم النّبىّ جبريل- عليه السلام- الذي هو شديد القوى، علمه القرآن، ولا عجب في ذلك فقد قلع قرى قوم لوط، وصاح بقوم صالح فأصبحوا جاثمين، وكان هبوطه على الأنبياء في لمح البصر، وهو القادر بأمر الله على التشكل بأشكال مختلفة، وهو ذو مرة، أى: صاحب حكمة وحصافة في العقل، وبعد في النظر، فالله قد وصفه بقوة الجسم وقوة العقل والرأى. فهل رآه النبي على صورته الحقيقية؟ فقيل في الجواب: نعم رآه فاستوى واستقام على صورته الحقيقية التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح كل جناح منها يسد الأفق على ما روى، رآه والحال أن جبريل بالأفق الأعلى، وفي المروي أن ذلك في أول البعثة، ثم قرب جبريل من النبي صلّى الله عليه وسلّم فتدلى، أى: كان معلقا في الهواء، فكان قريبا من النبي صلّى الله عليه وسلّم بمقدار قابى قوسين أو أقرب من ذلك، وأو للشك من جهة العباد لا من الله سبحانه، أى: من يراه يظن أنه كذلك أو أقرب. فأوحى جبريل إلى عبد الله «2» ورسوله صلّى الله عليه وسلّم من القرآن ما أوحى، وفي الصورة الحقيقية أو غيرها ما كذب فؤاد النبي صلّى الله عليه وسلّم ما رآه ببصره، أى: لم يقل بقلبه لما رآه ببصره: لم أعرفك فيكون كذبه. ويقول العلامة الآلوسي نقلا عن الكشف: إن هذه الآيات سيقت لتحقيق أمر الوحى، ونفى الشبهة والشك فيه ليتأكد الكل أن هذا الوحى ليس من الشعر ولا من الكهانة، فليس للشيطان ولا للجن أى قدرة على تصورهم للنبي في صورة جبريل الحقيقة أو غيرها لأن النبي صلّى الله عليه وسلّم عرفه بقلبه وبصره، ورآه في حالاته المتعددة، ومن ثم لم يكن من المعقول أن يشتبه عليه، انظر إلى قوله: فاستوى، ثم إلى قوله: ثم دنا فتدلى، فأوحى، ما كذب الفؤاد ما رأى، ومن هنا كان ترتيب قوله تعالى: أفتمارونه   (1) هذه الجملة واقعة في جواب سؤال مقدر نشأ بعد قوله تعالى: وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى، لذلك فصلت وجملة يوحى وصف لوحى لدفع المجاز وتأكيد الإيحاء. (2) نعم هو عبد الله فقط، وما كان عبدا لأى كائن في الدنيا! وكيف يكون غير ذلك!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 556 على ما مضى ترتيبا إلهيا، وكفى!! أى: أبعد ذلك تكذبونه في دعواه فتجادلونه على ما يرى ويعتقد ويحدثكم به. وتالله لقد رأى جبريل مرة أخرى في السماء عند سدرة المنتهى عندها جنة المأوى إذ يغشى السدرة ما يغشى، ما زاغ البصر وما طغى، نعم لقد رأى النبي جبريل على حقيقته مرة أخرى في هذا المكان من السماء عند جنة المأوى وقت أن يغشاها ما يغشى، وما زاغ بصره أبدا وما تجاوز حده المرسوم، وقد كان ذلك في المعراج، لقد رأى النبي صلّى الله عليه وسلّم في ذلك الوقت وهذا المكان الآيات الكبرى من آيات ربه، وآيات الله الكبرى ليلة المعراج لا تحصى، ولذا قيل: إن المعنى: لقد رأى بعض آيات ربه الكبرى ساعتها، سرنا في التفسير على أن الرؤية من النبي لجبريل، وبعضهم يراها أنها من النبي إلى الله والله وحده هو العالم بالحقيقة، وإن كان ظاهر النظم الجليل من الدنو والتدلي، وقوله: وهو بالأفق الأعلى، أن ذلك كله كان بين جبريل والنبي صلّى الله عليه وسلّم. تلك هي آلهتهم التي لا تغنى عنهم شيئا [سورة النجم (53) : الآيات 19 الى 31] أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23) أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَيَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 557 المفردات: اللَّاتَ: اسم صنم كان لثقيف بالطائف، وقيل: كان لرجل يلت السويق للحاج على حجر فلما مات عبدوا ذلك الحجر إجلالا له وسموه بذلك. وَالْعُزَّى: كانت لغطفان وهي على المشهور شجرة ببطن نخلة، وهي تأنيث الأعز، وقيل: كانت ثلاث شجرات. وَمَناةَ: صخرة كانت لهذيل وخزاعة، وقيل: كانت بالكعبة واستظهر بعضهم أن هذه الأصنام الثلاثة كانت بالكعبة. ضِيزى أى: جائرة لا عدل فيها. مِنْ سُلْطانٍ: من برهان وحجة قوية. الظَّنَّ المراد به هنا: التوهم. لما ذكر الله- سبحانه وتعالى- الوحى وصاحبه. بعد القسم بالنجم، وهذا كله من آثار قدرة الله تعالى، ومعالم وحدانيته، عرج على آلهتهم التي لا تسمن ولا تغنى من جوع لعلهم يلتفتون إلى الحق فيتبعوه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 558 المعنى: لما قص الله الأقاصيص العجيبة التي تمثل صدق الوحى وثبوته قال للمشركين موبخا لهم: أفرأيتم ما تعبدون من دون الله؟ أى: أخبرونى عن الآلهة التي تعبدونها من دون الله. هل لها قدرة توصف بها؟ هل أوحت لكم بشيء كما أوحى الله إلى محمد؟ أم هي جمادات لا تعقل ولا تنفع، وقد ذكر من هذه الأصنام ثلاثة مشهورة، وكانت معظمة عندهم جميعا، والظاهر- والله أعلم- أنها كانت في أماكن متعددة، أى: بالطائف ومكة وغيرهما، أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى التي هي غاية في الذم والحقارة؟ ألكم الذكر وله الأنثى؟ وكيف تجعلون لله ما تكرهون من الإناث وتجعلون لأنفسكم ما تحبون من الذكور، وذلك قولهم: الملائكة بنات الله، تلك إذا قسمة ضيزى قسمة جائرة غير عادلة، وهذا، أى: قوله أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثى توبيخ آخر لهم. ما الأوثان والأصنام التي تدعونها آلهة إلا أسماء محضة ليس فيها شيء من معنى الألوهية لأنها لا تسمع ولا تبصر، ولا تغنى ولا تنفع، فما هي إلا أسماء لا مسميات لها ولا حقائق، تلك أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم من قبل، ما أنزل الله بها من سلطان، ولا حجة ولا برهان، وما حجتهم في ذلك؟ ما يتبعون فيما ذكر من التسمية واتخاذهم الأصنام آلهة إلا العمل بالظن الذي لا يغنى من الحق شيئا، ولا يتبعون إلا ما تهواه نفوسهم وتشتهيه، ولقد جاءهم من ربهم الهدى والبيان الرائع، جاءهم: أن اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، وأن هذه الأصنام لا تغنى ولا تنفع، وجاءهم كل هذا في القرآن الحكيم الذي يدعوهم إلى التوحيد بالدليل والبرهان القوى الذي لا يقبل الشك ... أم للإنسان ما تمنى؟ «1» نعم ليس للإنسان شيء مملوك له مما يتمناه، يتصرف فيه حسب ما يريد، ومن باب أولى هؤلاء الكفار وأمانيهم الباطلة، ترى أن الله أضرب عن اتباعهم الظن الذي هو مجرد التوهم وعن اتباعهم هوى النفس الأمارة بالسوء، وانتقل إلى إنكار أن يتحقق لهم ما يتمنون كأن تنفعهم الأصنام أو تشفع لهم، ثم علل ذلك بقوله. فلله أمور الآخرة والدنيا فما شاءه كان، وما لم يشأ لم يكن، ثم أكد ذلك   (1) هي أم المنقطعة بمعنى بل الإضرابية وهمزة الاستفهام التي للإنكار. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 559 وزاد في بطلان شفاعة الأصنام لهم يوم القيامة فقال: وكثير من الملائكة، في السموات لا تغنى شفاعتهم ولا تنفع إلا بعد إذن الله لمن يشاء، والله لا يأذن إلا للمقربين من خلقه، فكيف تشفع الأصنام إن هؤلاء الناس الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ليسمون الملائكة تسمية الأنثى بقولهم: إن الملائكة بنات الله فجعلوهم إناثا، وسموهم بنات ومن أين لهم هذا؟ أعندهم علم بذلك؟ أم لهم كتاب يدرسون فيه هذا، بل هم لا علم لهم أبدا، وما يتبعون إلا الظن الذي لا يبنى على أساس بل على مجرد الوهم، ولا شك أن هذا الظن في مثل هذه المسائل لا يغنى من الحق شيئا من الإغناء، وإذا كان الأمر كذلك فأعرض عمن أعرض عن ذكرنا، ولم يستمع لكلامنا، أعرض عن هؤلاء، ولا تأبه بهم، ولا تجادلهم، فهؤلاء قصروا نظرهم على الدنيا، ولم يفكروا فيما بعد الموت، فشغلتهم الدنيا عن الآخرة، ذلك» - والإشارة إلى التولي عن الآخرة وقصر النظر على الدنيا- مبلغهم من العلم، فأعرض عن هؤلاء لأن الله أعلم بمن ضل عن سبيله، وركب رأسه وهو أعلم بمن اهتدى، وسيجازى كلا على عمله وها هي ذي آثار قدرته الكاملة وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ له كل ذلك ملكا وخلقا وعبيدا وتصريفا، وسيجازى الذين أساءوا بعملهم، والذين أحسنوا بالمثوبة الحسنى، وتلك عاقبة أمر الخلق الذين فيهم المحسن والمسيء. من هم المحسنون [سورة النجم (53) : آية 32] الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)   (1) - والجملة مسوقة لتقرير جهلهم واتباعهم الظن فهي مستأنفة، وقيل: معترضة بين العلة والمعلل، أى: بين الأمر بالأعراض وعلته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 560 المفردات: كَبائِرَ الْإِثْمِ: جمع كبيرة، وهي كل ذنب توعد الله صاحبه بالعذاب الشديد، أو ذم فاعله ذما كثيرا، وقيل غير ذلك. وَالْفَواحِشَ: جمع فاحشة، وهي الذنب الذي جعل الله في عقوبته الحد كالزنا مثلا، وقيل غير ذلك مما هو قريب منه. إِلَّا اللَّمَمَ وأصل اللمم: ما قل وصغر، وعليه ألم بالمكان: قل لبثه فيه، والمراد باللمم هنا: صغائر الذنوب التي تفعل بلا مداومة عليها. أَجِنَّةٌ: جمع جنين وهو الولد ما دام في بطن أمه سمى بذلك لاجتنانه، أى: استتاره. المعنى: المحسنون الذين لهم المثوبة الحسنى هم الذين يجتنبون كبائر الإثم، ويجتنبون الفواحش والمنكرات التي ينكرها العقل ويأباها الدين، من الموبقات والمهلكات التي ورد من الشرع تحذير شديد على اجتنابها، أو توعد صاحبها بالحد أو بالعقاب الشديد، وقد اختلف العلماء في عد المنكرات والفواحش، وذكرت في السنة بطرق مختلفة، وعلى العموم فالشرك بالله، والقتل إلا بحق الإسلام، والزنى والربا وعقوق الوالدين، وشهادة الزور، والافتراء على الله من الكبائر، وهكذا كل معصية ذنبها كبير وجرمها خطير. الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم، وهو صغائر الذنوب التي تعمل بلا قصد ولا مداومة، أما إذا داومت على الذنب الصغير أصبح كبيرا فقد قيل: لا صغيرة مع الإصرار، ولا كبيرة مع الندم والاستغفار. وهذا اللمم ذنب بلا شك، خففه الندم وعدم معاودته، عند ذلك تدخل المغفرة والرحمة، وربك واسع المغفرة كثير الرحمة، وهو أعلم بنا- نحن بنى الإنسان- وقد خلقنا ضعافا أمام الدنيا ومغرياتها، وقد خلقنا فهو أعلم بنا، وقد أنشأنا من الأرض، وهو أعلم بنا إذ نحن أجنة في بطون الأمهات، بل وذرات في أصلاب الآباء، وفي عالم الذر، وإذا كان الأمر كذلك فلا تزكوا أنفسكم أبدا، هو أعلم بمن اتقى، فرب من يظن نفسه قد عمل صالحا يكون عمله مشوبا بالرياء أو السمعة أو الغرض الدنيوي فيبوء بالفشل والندامة، والله أعلم بمن اتقى حقا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 561 حقائق إسلامية [سورة النجم (53) : الآيات 33 الى 62] أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطى قَلِيلاً وَأَكْدى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَأَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَأَحْيا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَأَقْنى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 562 المفردات: تَوَلَّى: أعرض. وَأَكْدى يقال لمن حفر بئرا ثم بلغ حجرا لا يتهيأ له فيه حفر: قد أكدى، ثم استعملته العرب لمن أعطى ولم يتمم، ولمن طلب شيئا ولم يبلغ آخره. صُحُفِ مُوسى: هي التوراة. وازِرَةٌ: نفس حاملة. وِزْرَ: حمل. الْمُنْتَهى: النهاية. نُطْفَةٍ النطفة: الماء القليل، مشتق من نطف الماء إذا قطر. تُمْنى يقال: منى الرجل أو أمنى: إذا أنزل المنى، والمراد بقوله (تمنى) أى: تصب في الرحم. النَّشْأَةَ الْأُخْرى المراد: إعادة الأرواح في الأشباح. أَغْنى وَأَقْنى أغنى: أعطى المال، وأقنى: أعطى القنية التي تقتنى كالعقار مثلا. رَبُّ الشِّعْرى: الكوكب المضيء وهو ما يسمى بالعبور. وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى المراد: قرى قوم لوط قد قلبها وخسف بها بعد رفعها إلى السماء. أَزِفَتِ الْآزِفَةُ: قربت القيامة. كاشِفَةٌ أى: كشف وانكشاف، أو نفس كاشفة. سامِدُونَ: لاهون وغافلون ومعرضون. لما بين جهل المشركين في عقائدهم الباطلة، وأنه لا وجه لهم في شيء ذكر واحدا منهم بسوء فعله وكبير جرمه، وإن قصته لتثبت أن كفر هؤلاء لم يكن عن عقيدة، وإنما هو عناد وعصبية جاهلية، وحماقة ما بعدها حماقة. روى أن الوليد بن المغيرة كان قد اتبع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على دينه فعيره بعض المشركين وقال له: أتركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار؟! قال الوليد: إنى خشيت عذاب الله. فقال من عيره: أنا أضمن لك الجنة إن رجعت إلى الشرك وأعطيتنى شيئا من المال، فقال الوليد ذلك، وأعطى بعض ما كان ضمنه له ثم بخل ومنعه فنزلت هذه الآيات تذمه لرجوعه عن الحق وخلفه الوعد. المعنى: أخبرنى عن الذي تولى وأعرض عن الحق، وأعطى قليلا من المال، وبعد ذلك امتنع، إذ أصابته صخرة شح النفس، فوقع عليها شحيحا بخيلا «1» أعنده علم بالأمور   (1) «أفرأيت» معناها المراد: أخبرنى- على ما سبق تفصيله، ومفعولها الأول الذي، والثاني جملة الاستفهام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 563 الغيبية، فهو بسبب ذلك يرى أن صاحبه يتحمل عنه شيئا من وزره؟! أو نزل عليه قرآن من عالم الغيب فهو يرى أن ما صنعه حق. بل ألم ينبأ بما في صحف موسى، وصحف إبراهيم الذي وفي ما عليه، وابتلى بشدائد كثيرة فخرج منها وافى الإيمان سليم العقيدة، مستحقا هذا اللقب: «خليل الرحمن» ألم يعلم بأن صحف موسى وإبراهيم فيها أنه لا تزر وازرة وزر أخرى، بمعنى لا تحمل نفس مستعدة للحمل ذنب نفس أخرى، وفيها أنه ليس للإنسان إلا ما سعى، وأن سعيه سوف يرى يوم القيامة، ثم يجزاه الجزاء الأوفى، وأن «1» إلى ربك نهاية الخلق ومنتهاهم، وأنه هو أضحك بعض عباده وأبكى، أضحكهم لأنه وعدهم السعادة في الدنيا والآخرة، وأبكى في الحقيقة من حرمهم السعادتين، وأنه هو أمات وأحيا، أى: خلق الموت والحياة، وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى من الإنسان والحيوان، خلقهما من نطفة إذا تمنى، وهذه النطفة لا يفرق فيها بين الذكر والأنثى، فليس هناك شك في أنه وحده هو الخالق للذكر والأنثى، وأن عليه النشأة الأخرى، أى: الإحياء بعد الإماتة وأنه هو وحده الذي أغنى وأقنى، أغنى بالمال والمنقولات وأقنى بالعقارات الثابتة، وأنه هو رب الشعرى، وغيرها من الكواكب، وأنه أهلك عادا الأولى الذين أرسل لهم هود، وأهلك ثمود الذين أرسل لهم صالح، فما أبقى منهما شيئا، وأهلك قوم نوح من قبل هؤلاء، إنهم كانوا هم أظلم وأطغى من غيرهم، وأهلك قرى قوم لوط، وهم المؤتفكة التي رفعها الله إلى السماء ثم قلبها إلى الأرض فغشيها من الهم والحزن ما غشيها. فبأى آلاء ربك أيها الإنسان تتمارى، وتتشكك؟ هذا القرآن الذي أنزل على محمد هو نذير من جنس النذر الأولى التي كانت تنزل على الأمم السابقة، فما بالكم لا تؤمنون، ولا تتعظون بما حل بغيركم؟! أزفت الآزفة، وقربت القيامة، ليس لها من دون الله نفس كاشفة تكشفها وتزيلها، بل الأمر كله لله سبحانه وتعالى.   (1) إن هذه تحتمل الفتح والكسر، ويحتمل مدخولها وما بعده أنه مما في الصحف أو هو خاص بالقرآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 564 أفمن هذا الحديث- القرآن- تعجبون إنكارا، وتضحكون استهزاء، ولا تبكون خوفا من عذاب الله، وأنتم لاهون بالحديث متشاغلون بأى شيء، ومن هنا يستحب البكاء أو التباكي عند سماع القرآن، وقد ورد عن أبى هريرة قال: لما نزلت هذه الآية «أفمن هذا الحديث..؟» بكى أصحاب الصفة حتى جرت دموعهم على خدودهم فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم حنينهم بكى معهم فبكينا لبكائه فقال- عليه السلام- «لا يلج النار من بكى من خشية الله تعالى» . وإذا كان الأمر كذلك من إنكار مقابلة القرآن بالتعجب والضحك، وعدم البكاء مع اللهو وقت استماعه، إذا كان الأمر كذلك فاسجدوا لله تعالى الذي أنزله على عبده، ولم يجعل له عوجا، قيما، واعبدوه- جل جلاله-، وهذه آية سجدة عند الكثير، وقد سجد النبي صلّى الله عليه وسلّم عندها، والله تعالى أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 565 سورة القمر وهي مكية كلها في قول الجمهور، وهو الصحيح، وعدد آياتها خمس وخمسون آية وتشمل على كثير من الوعد والوعيد، وذكر أخبار الأمم الماضية للعبرة والعظة ثم تهديد الكفار بذكر ما يحل بهم يوم القيامة، وما يلاقيه المتقون من جزاء في جنات صدق. الكافرون وموقفهم من دعوة الحق [سورة القمر (54) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8) المفردات: مُسْتَمِرٌّ أى: محكم قوى على أنه مأخوذ من المرة وهي القوة، أو هو مأخوذ من إمرار الحبل وهو شدة فتله، وقيل: المراد سحر ذاهب، مأخوذ من قولهم: مر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 566 الشيء واستمر إذا ذهب. مُسْتَقِرٌّ أى: منته إلى غاية «1» . مُزْدَجَرٌ: ما يزجرهم ويكفهم يقال: زجره فانزجر وازدجر، أى: كفه فانكف. بالِغَةٌ: واصلة غاية الإحكام لا خلل فيها نُكُرٍ: فظيع شديد تنكره النفوس. الْأَجْداثِ: جمع جدث وهو القبر. جَرادٌ مُنْتَشِرٌ الجراد: حيوان يأكل النبات فيجرد الأرض منه، والمنتشر: الكثير التموج. مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ: مسرعين إليه. عَسِرٌ: صعب شديد. روى قتادة عن أنس- رضى الله عنهم- قال: خطب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد كادت الشمس تغيب فقال: «ما بقي من دنياكم فيما مضى إلا مثل ما بقي من هذا اليوم فيما مضى» قال الراوي: وما نرى من الشمس إلا يسيرا وثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث ابن مسعود، وابن عمر وأنس وغيرهم أنه قال: سأل أهل مكة النبي صلّى الله عليه وسلّم آية فانشق القمر ، ورواية البخاري: انشق القمر فرقتين، وقد كذبه أهل مكة، وقالوا: سحرنا ابن أبى كبشة فنزلت الآية: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ.. وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ. المعنى: إن الساعة آتية لا شك فيها، وكل آت قريب، ومتحقق الوقوع، وعلى ذلك اقتربت الساعة، أو صارت باعتبار نسبة ما بقي من الزمن بعد قيام النبوة المحمدية إلى ما مضى من الدنيا قريبة جدا، ولقد صدق رسول الله حيث يقول: «بعثت أنا والساعة هكذا» وأشار النبي بإصبعه السبابة والوسطى، وأنت تعرف قرب ما بينهما. اقتربت الساعة وانشق القمر، فانشقاق القمر آية ظاهرة على هذا القرب وعلى إمكانه في العقول والأذهان، وقيل: إنه آية على قرب الوقوع ومعجزة للنبي صلّى الله عليه وسلّم كما مضى، وعلى ذلك فانشقاق القمر من معجزاته صلّى الله عليه وسلّم ويؤيده الحديث السابق أول الكلام، وظاهر الآيات هنا، فإن قوله تعالى: وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ يقتضى أن الانشقاق آية رأوها وأعرضوا عنها وكذبوا بها.   (1) وفي قراءة مستقر، أى: ذو استقرار، أو له زمان استقرار، أو مكان، فهو إما مصدر أو ظرف زمان أو مكان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 567 ويرى بعضهم أن انشقاق القمر عبارة عن انشقاق الظلمة وقت طلوعه، لا انفلاقه فلقتين كما روى في البخاري، وبعضهم يرى أنه كناية عن وضوح الأمر وظهوره، ولست أرى داعيا إلى إنكار انشقاق القمر على أنه معجزة فالمعجزة أمر خارق للعادة، وعدم تواتره لا يقدح، فإنها آية ليلية، وقد ذكرت في القرآن، والصحيح أن منكرها لا يكفر بها لعدم تواترها في السنة، وليست الآية نصّا فيها. وإن يروا- هؤلاء الكفار كما هو شأنهم- أى آية يعرضوا عنها، ويقولوا: هذا سحر مستمر، أى: مطرد دائم عرفناه من محمد، أو هو سحر مستمر، أى: محكم قوى عرفناه من هذا الساحر القوى، أو هو سحر سيذهب عن قريب ويضيع كما ضاع غيره، وتلك أمانيهم الباطلة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون، وهكذا كذبوا بآياتنا الظاهرة واتبعوا في هذا التكذيب والإعراض أهواءهم التي زينها لهم شياطينهم فقط، ولم يتبعوا حجة أو منطقا سليما، وما علموا أن كل أمر مستقر وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ «1» نعم كل أمر لا بد منته إلى غاية يتبين عندها حقه من باطله. وتالله لقد جاءهم في القرآن من أخبار القرون الماضية ما فيه ازدجار لهم «2» ومنع عما هم فيه من القبائح لو كانوا يعقلون، هذه حكمة بالغة قد بلغت الغاية ووصلت إلى النهاية في الإحكام والدقة فكان من المعقول أن ينتفعوا بوعيد هذه الأنباء ووعدها، فما انتفعوا، وما أغنتهم هذه النذر «3» . وإذا كان الأمر كذلك فتول عنهم، وأعرض، ولا يهمنك أمرهم، واذكر يوم يدعو الداعي، وهو إسرافيل- عليه السلام- يدعوهم ليخرجوا من الأجداث فيرون شيئا منكرا فظيعا تنكره النفوس لعدم عهدها بمثله، وهو هول يوم القيامة، يخرجون من القبور أذلة أبصارهم من شدة الهول كأنهم جراد منتشر في الكثرة والتموج والانتشار في الأقطار، وقد جاء تشبيههم- مرة أخرى- يوم يخرجون من القبور كالفراش المبثوث،   (1) وهذا استئناف مسوق للرد على الكفار في تكذيبهم ببيان أنه لا فائدة لهم في ذلك حيث إن كل أمر لا محالة ينتهى إلى غاية، ومن جملة ذلك أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم سينتهي إلى غاية يظهر فيها أنه على حق، وأنهم على باطل. (2) (من الأنبياء ما فيه مزدجر) الجار والمجرور متعلق بمحذوف حال مقدم من (ما) الواقعة فاعلا لجاءهم. (3) وعلى هذا فما نافية ويصح أن تكون استفهامية للاستنكار، والفاء لترتيب عدم الإغناء على مجيء الحكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 568 ولا تعارض إذ إن كلا من التشبيهين في وقت، فهم عند الخروج يكونون هائمين ليس لهم مقصد كالفراش، وعند نداء الداعي والتوجه إلى المحشر يكونون كالجراد المنتشر حالة كونهم مهطعين إلى الداعي ومسرعين نحوه لا يلوون على شيء! يا ويلهم في هذا الظرف! يقول الكافر: هذا يوم عسر شديد لما يشاهد من الأهوال، وما يرتقب من سوء المصير!!! عاقبة المكذبين من قوم نوح وعاد وثمود وآل فرعون وقوم لوط [سورة القمر (54) : الآيات 9 الى 42] كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَقالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40) وَلَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 569 المفردات: وَازْدُجِرَ أى: زجر عن دعوة النبوة، وأصل ازدجر: ازتجر، ثم قلبت التاء دالا لتناسب الزاى، وهذا أصل معروف في اللغة العربية. بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أى: كثير متدفق. وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً أصله: وجعلنا الأرض عيونا متفجرة. قَدْ قُدِرَ: على مقدار مقدر لم يزد أحدهما عن الآخر. ذاتِ أَلْواحٍ أى: على سفينة ذات ألواح. وَدُسُرٍ: هي المسامير التي تشد بها السفينة. مُدَّكِرٍ: متعظ، وأصله: مذتكر، ثم قلبت التاء دالا ثم قلبت الذال دالا وأدغمت في مثلها كل ذلك للتخفيف اللفظي. صَرْصَراً: شديد البرد أو الصوت. يَوْمِ نَحْسٍ: يوم شؤم كله. أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ الأعجاز: جمع عجز، وهو مؤخر الشيء، والمنقعر: المنقطع من أصله. وَسُعُرٍ أى: جنون، وعليه ناقة مسعورة كأنها من شدة نشاطها مجنونة. أَشِرٌ الأشر: هو المرح والتجبر والنشاط مع التعاظم. شِرْبٍ الشرب: الحظ من الماء. مُحْتَضَرٌ أى: يحضره من هوله. فَتَعاطى أى: تناول عقرها فعقرها. كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ المحتظر: الذي يعمل الحظيرة لغنمه بالشوك والشجر فما سقط من ذلك وداسته الغنم فهو الهشيم، والهشيم: هو العصف، أى: التبن، وقرئ: المحتظر، أى: الاحتظار، أى: هو الشجر المتخذ منه الحظيرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 570 حاصِباً أى: ريحا ترميهم بالحصباء. بِسَحَرٍ السحر: هو ما بين آخر الليل وطلوع الفجر. راوَدُوهُ: أرادوا تمكينهم ممن كان أتاهم ضيفا. فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ أى: صارت أعينهم مطموسة لا شق لها كما تطمس الريح الأعلام بما تسفى عليها من التراب. وهذه قصص خمسة، فيها أنباء بعض الأمم الذين جاءتهم رسلهم بالبينات فكذبوهم وآذوهم، ثم كانت عاقبة أمرهم خسرا، ولم يكن كفار مكة بأقوى منهم أو أشد، فكان من الخير أن يعتبر المشركون بقصصهم ويزدجروا، ولكنهم ما اعتبروا وما أغنتهم النذر وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ، وهذا بيان وتفصيل لتلك الأنباء وتقرير لفحوى قوله: فما تغنى النذر. ولقد بدأ القرآن بقصة نوح، ثم عاد، ثم ثمود، ثم ذكر قوم لوط، وختم بقصة فرعون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 571 المعنى: كذبت قبل مشركي مكة قوم نوح فكذبوا «1» عبدنا نوحا، ويا ليتهم اقتصروا على ذلك بل قالوا له: هو مجنون، وكذبوه، ورموه بالجنون، وزجروه عن تبليغ الدعوة بالإيذاء والتخويف. ولما اشتد عليه الإيذاء دعا ربه بأنى مغلوب على أمرى فانتصر لي، وانتقم من هؤلاء رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً [سورة نوح آية 26] . فاستجاب الله دعاء نوح، وحقت عليهم الكلمة، وفتح عليهم أبواب السماء بماء متدفق كثير «2» ، وفجر الله عيون الأرض، وفتحها لينساب الماء منها بتدفق غزير، فالتقى الماء النازل من السماء والماء النابع من الأرض حالة كونه على قدر قدره الله لم يتجاوز واحد منهما قدره. وكان نوح قد أمر بصنع السفينة، وصنعها بين استهزاء قومه وسخريتهم، فلما ازداد الماء ركب نوح ومن معه السفينة ونجا من الغرق، فانظر إليه وقد حمله ربك على السفينة وصارت تجرى بعناية الله وتحت رعايته! حتى نجا وغرق من كفر به، فعل ذلك ربك إكراما لنوح- عليه السلام- وجزاء لمن كفر به وبرسالته من قومه، ولقد تركناها آية وعبرة لمن يأتى بعدها، فهل من معتبر؟! فانظر كيف كان عذاب ربك للعصاة الكافرين، وكيف كان إنذارهم؟! وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ؟ وهذه جملة ذكرت عقيب كل قصة تقريرا لمضمون ما سبق من قوله تعالى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ولعلها كررت لبيان أن كل قصة كافية في الاعتبار والاتعاظ.   (1) الفاء فاء تفصيل وتفريع، وقيل: إنها للسببية، على معنى: كذبوا بالأنباء جميعا فتسبب عن ذلك تكذيب نوح. (2) في الكلام استعارة تمثيلية حيث شية تدفق المطر من السحاب بانصباب أنهار انفتحت بها أبواب السماء، وبعضهم يرى أن الكلام على حقيقته وأن السماء تحت أبوابها بالماء بدون سحاب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 572 المعنى: وبالله لقد يسرنا القرآن وسهلناه بأن أنزلناه بلسان عربي مبين، وملأناه بالحكم والمواعظ والقصص التي تفيد العبرة، فعلنا ذلك للذكر والاتعاظ فهل من مدكر؟!! وقيل المعنى: سهلنا القرآن للحفظ فهل من طالب للحفظ فيعان عليه؟ والمعنى الأول هو الأنسب بالمقام. وهذه قصة عاد: لقد كذبت رسولها هودا فانظر كيف كان عذابي وإنذارى بهم؟! إنا أرسلنا «1» عليهم ريحا صرصرا عاتية، سخرها عليهم سبع ليال وثمانية أيام حسوما لا خير فيها أبدا، وكان هلاكهم في يوم نحس وشؤم عليهم، يوم مستمر حتى أهلكهم، ولا شك أنه يوم مرّ كريه، وهذه الريح كانت تنزع الواحد منهم وتقلعه إذا دخل حفرة أو كهفا في جبل كأنهم والحالة هذه أعجاز نخل منقطع عن مغارسه ساقط على الأرض. فانظر كيف كان عذابي للكفار المكذبين وإنذارى؟! ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر! وتلك قصة ثمود: لقد كذبت بالرسل جميعا إذ تكذيب صالح- وهو واحد منهم- تكذيب للكل، كذبت ثمود بالنذر، فقالوا منكرين رسالة نبيهم صالح: أبشرا منا واحدا منفردا لا تابع معه. وليس من الأشراف نتبعه؟! إن اتبعناه لنكونن في ضلال وجنون. عجبا لهذا الرجل! أألقي عليه الذكر، وأنزل عليه الوحى من بيننا؟ وفينا من هو أحق منه لغناه وعلو شرفه وكثرة أتباعه! ليس الأمر كما يدعى صالح. بل هو كذاب شديد البطر كثير الفرح والمرح يتعاظم علينا بهذه الدعوة، والله سبحانه يرد عليهم بقوله لصالح: سيعلمون غدا- وإن غدا لناظره قريب- من هو الكذاب الأشر. وكانوا قد طلبوا من صالح آية لهم، وأراد الله إبرازها فتنة لهم، فأخرج الناقة من الهضبة إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ إنا مخرجوها لهم فتنة وابتلاء وآية فانتظر يا صالح واصبر على أذى قومك، فقد قرب اليوم الموعود ونبئهم أن الماء قسمة بينهم، أى:   (1) جملة استئنافية لبيان ما أجمل أولا في قوله: كيف كان عذابي ونذر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 573 بين آل ثمود، وبين الناقة، لها يوم ولهم يوم لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ روى ابن عباس: كان يوم شربهم لا تشرب الناقة شيئا من الماء، وتسقيهم لبنا. وإذا كان يوم الناقة شربت الماء كله فلم تبق لهم شيئا، ونبئهم يا صالح: أن الماء مقسوم بينهم: لها يوم، ولهم يوم، كل شرب ونصيب محتضر، أى: يحضره صاحبه في نوبته لا يتعداه كما روى عن ابن عباس. ولكن ثمود ملوا هذه القسمة، وطغوا وبغوا، وعزموا على عقر الناقة فنادوا صاحبهم الجريء في الباطل، قيل: اسمه قدار بن سالف، فتعاطى هذا الفعل الشنيع واجترأ على قتل الناقة فعقرها، فاستحقوا غضب العزيز الجبار، فانظر كيف كان عذابهم وإنذارهم؟ إن ربك أرسل عليهم صيحة واحدة من جبريل، فصاروا بسببها كالشجر الجاف الذي يجمعه صاحب الغنم ليعمل حظيرة تمنع عن غنمه عوائد البرد والسباع. ولقد يسرنا القرآن للذكرى والموعظة، فهل من متذكر أو متعظ بما حل بغيره؟ وأما قوم لوط فقد كذبوا بالنذر وعصوا أخاهم لوطا، وارتكبوا من الفواحش أحقرها- كما عرفنا سابقا عنهم- ولذا أرسل الله عليهم ريحا حاصبا أهلكتهم وأبادتهم جميعا إلا آل لوط الذين آمنوا به فقد نجاهم ربك بسحر، فعل بهم ذلك إنعاما من عند الغنى الحكيم، مثل ذلك يجزى ربك من شكر، ويعذب من كفر، ولا غرابة في ذلك فلقد أنذرهم لوط بطشتنا وشدتنا، فجادلوه وكذبوا بالنذر، ولقد راودوه عن ضيوفه، وما علموا أنهم من الملائكة وأنهم جاءوا لتنفيذ الوعيد بهم فطمس الله عيونهم، وقال لهم على لسان الملائكة: ذوقوا عذابي ونذر، ولقد نزل بهم العذاب في الصباح الباكر، فذاقوا عذاب البطش الشديد ونذره، ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر؟! ولقد جاء آل فرعون النذر الكثيرة والآيات المادية التسع، ولكنهم كذبوا بالآيات كلها، فأخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر حيث أغرق فرعون وجنده، ونجى موسى ومن آمن معه، وكذلك ينجى ربك المؤمنين، ويعذب الكفار المكذبين فهل من مدكر؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 574 تهديد المشركين مع بيان عاقبة المتقين [سورة القمر (54) : الآيات 43 الى 55] أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ (46) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55) المفردات: بَراءَةٌ المراد: سلامة من العذاب مكتوبة. فِي الزُّبُرِ: في الكتب. أَدْهى مأخوذ من الداهية، وهي الأمر الفظيع الذي لا يهتدى للخلاص منه. وَأَمَرُّ: أشد مرارة، والمراد أكثر صعوبة على النفس، وقيل المراد: أقوى. وَسُعُرٍ المراد هنا: النيران المستعرة. مَسَّ سَقَرَ والمراد: ألمها وعذابها «1» . بِقَدَرٍ: بمقدار معين مكتوب. أَشْياعَكُمْ والمراد: أشباههم في الكفر من الأمم السابقة. مُسْتَطَرٌ أى: مسطور ومكتوب. مُقْتَدِرٍ أى: قادر عظيم.   (1) فالمس مجاز مرسل من الألم وعلاقته السببية، فإن مسها سبب للألم، وتعلق الذوق بمثل ذلك شائع في اللغة العربية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 575 المعنى: لقد كذب الكفار بالنبوة، وكانوا كلما رأوا آية يعرضون ويقولون: سحر مستمر، فخوفهم الله بذكر أخبار الذين كذبوا بالآيات وأعرضوا عنها من الأمم الماضية، وطالبهم بالعبرة والموعظة مرارا، ثم أنحى عليهم باللائمة قائلا ما معناه: لم لا تخافون أن يحل بكم ما حل بغيركم؟ أأنتم أقل كفرا وعنادا من قوم عاد وثمود وقوم فرعون وإخوان لوط؟! حتى يصح لكم أن تأمنوا مكر الله بكم؟! بل أأعطاكم الله- عز وجل- براءة من عذابه مكتوبة حتى تكون حجة في أيديكم؟ بل أيقولون واثقين بشوكتهم: نحن جماعة أمرنا مجتمع لا يرام، ونحن جماعة جمعنا منصور لا يضام «1» . ولقد رد الله عليهم هذا الزعم الفاسد بقوله: سيهزم الجمع ويولون الدبر وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه ما كان يعرف معنى هذه الآية وهو في مكة حتى وقعت غزوة بدر وسمعت النبي يقرأ هذه الآية، فعرفت تأويلها، وقد كانت من دلائل النبوة، فهزمت جموعهم، وولوا الأدبار، وليس هذا تمام عقوبتهم، بل الساعة موعد عذابهم، والساعة أدهى من ذلك العذاب الدنيوي وأمر. ولا عجب أن يعذب الله الكفار في الدنيا والآخرة، فإن لله قانونا حكم به عباده لن يتخلف وهو: إن المجرمين المكذبين في ضلال عن الحق ونيران حامية مسعرة وهم يعذبون يوم يسحبون في النار على وجوههم إهانة لهم حالة كونهم يقال لهم تبكيتا وإيلاما: ذوقوا مس سقر. إنا خلقنا كل شيء خلقناه بقدر، أى: بتقدير منا وإحكام وعلم فكل فعل أو أى شيء يصدر في هذا الكون خيرا كان أو شرا إنما هو بقدر الله، وواقع بعلمه، وسيجازى عليه جزاء وافيا، ويدخل في ذلك أفعال العباد كلهم. وليس هذا بكثير على قدرة الله وعلمه وإرادته، فما أمره- سبحانه وتعالى- إلا فعلة واحدة، وعلى نهج لا يختلف، وهو الإيجاد لجميع الأشياء بلا معالجة ولا تعب   (1) الاستفهام في الآية إنكارى وجميع خبر نحن، ومنتصر خبر لمحذوف تقديره: أمرنا أو جمعنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 576 ولا مشقة بل بقوله للشيء: كن، فيكون كلمح البصر في السرعة والتنفيذ، وفي الحقيقة هذا تقريب للعقول في سرعة تعلق القدرة بالمقدور على وفق الإرادة الأزلية، ولقد أهلكنا أشياعكم وأشباهكم من الأمم السابقة فهل من مدكر؟ وكل شيء فعلوه في الدنيا مسجل عليهم في الزبر وصحائف الأعمال، وكل صغير وكبير من الأعمال مسطور ومكتوب في اللوح وعند الحفظة من الملائكة وَوُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا مالِ هذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها وَوَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً!! «1» . وهذه حال المتقين بعد حال الكافرين المذنبين ليظهر الفرق جليا بين الفريقين، وبهذا يتم الترهيب والترغيب. إن الذين اتقوا الله فابتعدوا عن الكفر والمعاصي في جنات عظيمة الشأن، وأنهار تجرى في وسطها وهم في مقعد صدق، أى: مكان مرضى، روى أن جعفر الصادق- رضى الله تعالى عنه- قال في هذه الآية: مدح الله المكان بالصدق، فلا يقعد عليه إلا أهل الصدق، وهو المقعد الذي يصدق الله فيه مواعيد أوليائه، ويتمتعون فيه بالنظر إلى وجهه الكريم، يقعدون فيه عند مليك مقتدر قادر عظيم القدرة، وما أروع هذا التعبير حيث أفهم العندية والقرب، وذكر مليكا مقتدرا للإشارة إلى أن ملكه تعالى وقدرته لا تدركها الأفهام، ولا تحيط بها العقول والأبصار.   (1) - سورة الكهف آية 49. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 577 سورة الرحمن وهي مكية كلها على الصحيح، وعدد آياتها ثمانية وسبعون آية، ولقد صح أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قام يصلى الصبح بنخلة، فقرأ سورة «الرحمن» ومر النفر من الجن فآمنوا به، وفي الترمذي عن جابر قال: خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقرأ عليهم سورة «الرحمن» من أولها إلى آخرها فسكتوا فقال النبي: «لقد قرأتها على الجن ليلة الجن فكانوا أحسن ردا منكم كنت كلما أتيت على قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ؟ قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد» . وروى عن على- رضى الله عنه- أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «لكل شيء عروس، وعروس القرآن سورة الرحمن» . وتشتمل هذه السورة على ذكر النعم مبتدئة بذكر القرآن الذي هو أكبر نعمة على الإنسان، ثم بذكر النعم الكونية في السماء والأرض، ثم خلق الإنسان والجان، ثم صفة يوم القيامة، ثم صفة أهل النار، ثم ختم السورة ببيان الجنة وما فيها من نعيم أعد للسابقين وأصحاب اليمين. أمهات النعم [سورة الرحمن (55) : الآيات 1 الى 13] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 578 المفردات: الْبَيانَ: المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير. بِحُسْبانٍ: بحساب دقيق. وَالنَّجْمُ: النبات الذي ينجم، أى: يظهر ويطلع من الأرض ولا ساق له. يَسْجُدانِ المراد ينقادان. الْمِيزانَ المراد: شرع العدل وأمر به. بِالْقِسْطِ: بالعدل. وَلا تُخْسِرُوا أى: تنقصوا. لِلْأَنامِ أى للخلق جميعا، أى: الإنس والجن. الْأَكْمامِ: جمع كم، والمادة تدل على الستر، والكمة والكمامة: وعاء الطلع وغطاء النّور، والجمع كمام وأكمة وأكمام، ومنه: كم القميص لستره الذراع، والكمة: القلنسوة لتغطيتها الرأس، وأكمام النخل: أوعية التمر، أعنى الطلع أو كل ما يغطى من ليف وسعف وطلع. ذُو الْعَصْفِ: ورق الزرع الجاف. وَالرَّيْحانُ: هو كل مشموم طيب الرائحة من النبات، وقيل: المراد به الرزق الخاص بالإنسان. آلاءِ: جمع إلى وهو النعمة. المعنى: ربنا الرحمن، المتصفة ذاته بالرحمة، وهذه نعمه ظاهرة، وآثار رحمته بادية، ولقد أخذ القرآن الكريم في تعدادها، وقدم مصدر الدين، وأساس الهداية ومنبع النور ألا وهو القرآن، ثم أتبعه بذكر الإنسان وخلقه ليعلم أنه إنما خلقه للعبادة والدين ثم ذكر ما يتميز به عن سائر الخلق، وهو البيان الصريح والمنطق الفصيح المعرب عما في الضمير، المبين لآثار القرآن الموضح لأغراضه وأسراره ثم بعد ذلك ذكر بعض نعمه في الأكوان العلوية، ثم في الأكوان السفلية، وهكذا. الرحمن على القرآن «1» أى: علم الإنسان القرآن، نعم: القرآن وتعليمه مصدر   (1) في هذا إشارة إلى أن الرحمن مبتدأ وما بعده خبر، ويجوز أن يكون الرحمن خبر مبتدأ محذوف كما شرحنا أولا. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 579 السعادة الدينية والدنيوية، وهو مصدق للكتب السماوية، وحارسها وراعيها والمهيمن عليها، وفيه الخبر الصدق، والتشريع المحكم، والقضاء العدل، والقصص المملوءة عبرة وعظة، والإرشادات إلى الخلق الكامل والمثل العليا، والدعوة الصريحة لتنظيف القلوب من أدران الدنيا وأكدار النفس، والدعوة إلى خلق المسلم الصحيح والإنسان الكامل السعيد في الدنيا والآخرة، ومع هذا فأكثر الناس لا يعقلون. وإذا نظرنا إلى هذا النور الذي نبه العالم في القرن الحديث، وأيقظه من غفوته لم نجد له مصدرا إلا القرآن والرسالة المحمدية، حقيقة لم تبلغ الحضارة الحديثة الدرجة العليا والغرض السامي لأنها لم تنهل من تعاليم القرآن، ولم تجر على نظامه المحكم، فكانت المذاهب والنظريات في السياسة والاقتصاد والاجتماع فيها الإفراط أو التفريط، ولو شاء ربك لهدى الناس جميعا إلى نوره، ولكن حكمته اقتضت ذلك، إذا لا غرابة أن يبدأ تعداد نعمه بذكر تعاليم القرآن أولا، ألست معى في أن أول نعمة هي القرآن؟! وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ. وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً قَيِّماً. [النحل 89- الإسراء 82- الكهف 1 و 2] الرحمن علم القرآن. خلق الإنسان، أى: أنشأه على ما هو عليه من القوى الظاهرة والباطنة، والغرائز الموجهة، ولقد كان خلق الإنسان بهذا الشكل الدقيق، وما أودع فيه من غرائز وميول، واتجاهات وأفكار، وقوى عاقلة مدركة، وهذا فضلا عن تركيبه المادي الدقيق، كان خلقه على هذا الوضع من أجل النعم وأرقاها عَلَّمَهُ الْبَيانَ نعم قد علمنا الله البيان، وأودع فينا قوة الإفصاح عما في الضمير، ولذا نرى أن علماء التفسير وضحوا لفظ البيان في الآية بأنه الحلال والحرام، أو سبيل الهدى والضلال أو هو علم الدنيا والآخرة، أو أسماء الأشياء كلها، وبعضهم ذهب إلى أن المراد بالإنسان هو النبي صلّى الله عليه وسلّم والبيان خصوص بيان القرآن، وفي الواقع: البيان اسم جامع لكل هذا، وهو أغلى ما يمتاز به الإنسان على سائر الحيوان. الشمس والقمر، وكذلك سائر الكواكب والأفلاك يجريان بحساب دقيق، ونظام رتيب، فلا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون، والشمس والقمر آيتان من آيات الله الكبرى، وهما من نعم الله علينا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 580 فالشمس مصدر الحرارة والحياة، والقمر أساس معرفة الزمن والنجم الذي يطلع من الأرض ولا ساق له، والشجر الذي يطلع وله ساق وفروع وهما يسجدان لله وينقادان له «1» والسماء خلقها مرفوعة العماد بلا عمد، ووضع الميزان، أى: شرع العدل وأمر به حتى انتظم أمر العالم واستقام كما قال صلّى الله عليه وسلّم «بالعدل قامت السموات والأرض» فعل ذلك لئلا تطغوا في الميزان بأن تعتدوا وتتجاوزوا الحدود، ولا تنقصوا الميزان، بل كونوا عادلين فلا زيادة ولا نقصان، والأرض وضعها وهيأها للأنام، يعيشون فيها ويسكنون عليها، ويتمتعون بكل ما فيها، فيها فاكهة «2» يتفكه بها، وفيها النخل ذات الأكمام وفيها الحب ذو العصف والريحان، أى: الرزق المأكول لأنه يرتاح له، فكأن الآية تقول: خلق الأرض لكم فيها الفواكه وخاصة النخل ذات الأكمام، وفيها الحبوب من قمح وشعير ذات العصف، أى: التبن لعلف الماشية، وذات اللب الذي هو رزقكم وأكلكم. فبأى آلاء ربكما أيها الثقلان من الإنس والجن تكذبان؟! «3» بأى نعمة من نعم مربيكما ومالك أمركما أيها الثقلان تكذبان؟ وتكذيب النعمة يكون بإنكار كونها من الله سبحانه مع عدم الاعتراف بكونها نعمة كتعليم القرآن، أو بإنكار كونها من الله مع الاعتراف بكونها نعمة كالنعم الدنيوية، والتعبير عن كفرهم المذكور بالتكذيب لأن دلالة النعم على الله ظاهرة، وكأنها شاهدة بذلك فكفرهم بها تكذيب لها، ولعل سائلا يسأل ويقول: لم هذا التكرار في قوله: فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ والجواب: إنه إنما حسن التكرار للإقرار بالنعم المختلفة، إذ كلما ذكر الله نعمة وبخ وأنكر على من كذب بها، وهذا أسلوب معروف في الشعر والنثر العربي «4» .   (1) - في لفظ يسجدان استعارة تصريحية تبعية حيث شبه جريهما على مقتضى الطبيعة بانقياد الساجد لخالقه وتعظيمه له واستعمل المشبه به في المشبه ... إلخ. (2) - استئناف مسوق لتقرير ما أفادته الجملة السابقة. (3) - الفاء لترتيب الإنكار والتوبيخ على ما فصل من أنواع النعم، والاستفهام للإنكار. (4) - هذه الآيات التي مرت من أول السورة إلى ما وقفنا نجد فيها فصلا بين جملة علم القرآن خلق الإنسان علمه البيان مع أن موجب الوصل موجود وهو اتحادها في الخبرية، وقصد التشريك حاصل، ولكنه فصل للإشارة إلى أن كل جملة تضمنت نعمة مستقلة تقتضي الشكر وحدها، وتوجب الإنكار على كفرها مع عدم التقابل بين الجمل وعطف قوله: والنجم والشجر على قوله: والقمر رعاية لتناسبها من حيث التقابل ولأن الشمس والقمر علويان، والنجم والشجر سفليان، والكل منقاد له وخاضع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 581 بعض نعمه أيضا [سورة الرحمن (55) : الآيات 14 الى 28] خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23) وَلَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25) كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) المفردات: صَلْصالٍ الصلصال: الطين اليابس الذي له صلصلة، أى: صوت. كَالْفَخَّارِ: وهو الخزف، أى: ما أحرق من الطين حتى تحجر. مارِجٍ: لهب خالص لا دخان فيه. مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ: أرسلهما وأجراهما. بَرْزَخٌ: حاجز. اللُّؤْلُؤُ: صغار الدر. وَالْمَرْجانُ: كبار الدر، وقيل: هو خرز أحمر. الْجَوارِ: جمع جارية وهي هنا السفينة. الْمُنْشَآتُ: الرافعات الشرع، أو المخلوقات للجري في البحر. كَالْأَعْلامِ: كالجبال، والعلم: الجبل الطويل. فانٍ هالك. ذُو الْجَلالِ الجلال: العظمة والكبرياء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 582 المعنى: إن من أجل نعم الله على الإنسان أن يبين له نشأته الأولى، ومادته التي خلق منها ليفهم الإنسان نفسه، ويعاملها على أساس سليم، وإذا عرف الداء فلن يعز عليه الدواء. الله يقول: إنه خلقكم من تراب كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ وقال إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ وقال هنا: خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ ومن هذا كله نفهم أنه أخذ تراب الأرض فعجنه بالماء حتى صار طينا لازبا ثم انتقل فصار كالحمإ المسنون، ثم انتقل فصار صلصالا كالفخار ثم نفخ فيه من روحه جل جلاله فكان الإنسان، ومن هنا نعرف أننا معشر بنى آدم من مادة طينية سوداء كالحمإ المسنون الذي جف حتى صار كالفخار في الصوت والضعف، نعم وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً أمام الدنيا ومغرياتها وأمام المرأة ومفاتنها وأمام عرض الحياة وزخارفها، فاعرفوا أنفسكم، وقووا ضعفكم وانصروا دواعي الخير والفضيلة فيكم التي هي من دواعي الروح، واحذروا إبليس فإنه من الجان، وقد خلق من مارج من نار، أليس لهب النار أحمق متعاليا مغرورا مدفوعا إلى الإيذاء؟ فاحذروا وسوسته واستعيذوا بالله منه، ألست معى أن ذلك البيان من أجل نعم الله علينا؟! فبأى آلاء ربكما تكذبان؟! هو رب المشارق والمغارب- إذ الشمس لها عدة مشارق ومغارب-، وهو رب المشرقين ورب المغربين- أى: مشرق الصيف والشتاء ومغربهما- والشمس حين تشرق من مدار السرطان يكون الصيف في نصف الكرة الشمالي، وحين تشرق من مدار الجدى يكون الصيف في الجنوب والشتاء في الشمال، ولا شك أن مشارق الشمس ومغاربها وانتقالها من مدار إلى مدار من أجل النعم علينا إذ لو بقيت كما هي في شروق واحد وغروب واحد لتعطلت نواميس الحياة، وتعطلت زراعة الصيف أو الشتاء، ولقل العمران، ألا ترى إلى سكان خط الاستواء وسكان المناطق الشمالية والجنوبية «1» التي يظهر عندهما المشارق والمغارب، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ هو الذي مرج البحرين العذب والملح يلتقيان في مصاب الأنهار بينهما حاجز من اليابس لا يبغيان على بعضهما ولو شاء لاختلطا فضاعت فوائد الملح وعذوبة الماء العذب، فبأى آلاء   (1) - المراد: المناطق التي هي حول مدار السرطان ومدار الجدى لا المناطق القطبية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 583 ربكما تكذبان؟ يخرج من مجموع البحرين اللؤلؤ والمرجان، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ ولله جل جلاله في البحر عذبه وملحه السفن متى تجرى على سطح الماء وتتهادى كالعروس، هذه السفن المرفوعات الشراع في البحر كالجبال تغدو وتروح حاملة الخير والبركات، ولو شاء لجعل البحر ساكنا ولما استطاعت السفن أن تطفو على الماء، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ هو الذي خلق الموت والحياة، والحياة نعمة بلا شك، ولكن هل الموت نعمة؟ نعم الموت نعمة للمتقين فسينقلون من حياة التعب والنصب إلى حياة الهدوء والاستقرار والثواب الجزيل والعطاء الكثير، وهو للمرضى والمتعبين نعمة، وعلى العموم فالدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر، والموت من أجل النعم على الخلق ولذا حكم الحي القيوم الباقي بعد فناء خلقه بأن كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون، كل شيء هالك إلا ذاته القدسية فإنها باقية، ويبقى ذات ربك ذي الجلال، والتعظيم والإكبار من خلقه، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟!. من نعم الله يوم القيامة [سورة الرحمن (55) : الآيات 29 الى 45] يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30) سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَنُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36) فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَالْأَقْدامِ (41) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 584 المفردات: سَنَفْرُغُ المراد: سنقصد لمجازاتكم أو محاسبتكم الثَّقَلانِ: الجن والإنس، سميا بذلك لعظم شأنهما بسبب التكليف شُواظٌ: هو اللهب الذي لا دخان له وَنُحاسٌ: هو الدخان الذي لا لهب فيه فَلا تَنْتَصِرانِ: فلا تمتنعان انْشَقَّتِ السَّماءُ: انصدعت كَالدِّهانِ: جميع دهن بِسِيماهُمْ: علامتهم بِالنَّواصِي: جمع ناصية وهي مقدم الرأس حَمِيمٍ: ماء حار آنٍ قيل: إنه واد في جهنم. المعنى: إن الله- جل جلاله- مصدر الوجود ومنشئه، وخالقه ومبدئه، فالكل منه وإليه، يسأله من في السموات والأرض بلسان الحال أو بلسان المقال سؤالا مستمرّا وهو الذي يجيب المضطر إذا دعاه بحيث لو تركهم لحظة واحدة لاختل النظام وانهدم الوجود، والله جل جلاله- كل يوم- والمراد كل وقت ولحظة- هو في شأن من شئون خلقه، فهو يعطى من سأل إذا شاء ويمنع من يسأل إذا شاء، وهو ينشئ خلقا، ويفنى آخرين، ويرفع قوما، ويخفض غيرهم، وروى أن من شأنه أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما ويضع آخرين على أن شئون الإله لا يحيط بها وصف ولا يدركها حد، فهي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 585 شئون صاحب الملك والملكوت الذي بيده الأمر، وإليه يرجع الأمر تبارك الله رب العالمين ، وإذا كان الأمر كذلك فبأى آلاء ربكما ونعمه تكذبان مما يجيب به سؤالكما أيها الثقلان؟ الله سبحانه لا يشغله شأن عن شأن، ولكن شئون العالم كله من حياة وموت ورزق وغيره ستنتهى يوم القيامة ويفرغ الحق- تبارك وتعالى- إلى جزاء المكلفين فقط سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ أى: سنحاسبكم لا يشغلنا شيء عن شيء، ولأتفرغن لكم يوم القيامة «1» فبأى آلاء ربكما تكذبان التي من جملتها التنبيه على ما سيلقاه الناس يوم القيامة تحذيرا عما يؤدى إلى سوء الحساب. يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض، وتخرجوا من جوانبها هاربين من الله تعالى فاخرجوا منها، وخلصوا أنفسكم من عقابه عز وجل، لا تقدرون على النفوذ إلا بسلطان، أى: بقوة وقهر منكم وأنتم لا تقدرون على ذلك إذ أقطار السموات والأرض فوق ما يتصور الإنسان، ومن حاول الصعود إلى القمر أو صعد إليه أو إلى غيره، فإنه أشبه بذبابة تطير وسط الحجرة فقط!! فبأى آلاء ربكما تكذبان؟!. وما الداعي إلى طلبهم الفرار ومحاولتهم له! ثم لا يقدرون! والجواب أنه يرسل عليكم أيها العصاة شواظ من نار، ولهب خالص، بلا دخان، يشبه النحاس في اللون فلا تقدرون على الامتناع مما يرسل عليكم، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ ولا شك أن التهديد بالعقاب، والتمييز بين المطيع والعاصي بالجزاء الكامل من عداد النعم الجليلة. فإذا انشقت السماء وانصدعت يوم القيامة فكانت كالوردة في الحمرة، تذوب مع الانشقاق حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ فيوم إذ تنشق السماء لا يسأل عن ذنبه إنس ولا جان لأنهم يعرفون بسيماهم، وهذا عند الخروج من القبر وما يدل على السؤال كقوله: فوربك لنسألنهم أجمعين: في موقف آخر وهو موقف الحساب.   (1) - في العبارة الكريمة استعارة حيث شبه حال هؤلاء وأخذه تعالى في جزائهم فقط بمن فرغ لهذا من جميع المهام التي عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 586 فبأى آلاء ربكما تكذبان؟! ولم لا يسألون؟ والجواب أنهم يعرفون بسيماهم، فيؤخذون بالنواصي والأقدام، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟! ويقال لهم: هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون، وينكرونها، ويطوفون بين نارها وبين ماء حار متناه في الحرارة والنعمة فيما وصف من هول القيامة وعقاب المجرمين، هو ما في ذلك الزجر عن المعاصي والترغيب في الطاعات، وروى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه أتى على شاب في الليل يقرأ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ فوقف الشاب وخنقته العبرة وجعل يقول: ونحيى من يوم تنشق فيه السماء ونحيى! فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ويحك يا فتى مثلها، فو الذي نفسي بيده لقد بكت ملائكة السماء لبكائك» فبأى آلاء ربكما تكذبان.؟! من نعم الله على المتقين يوم القيامة [سورة الرحمن (55) : الآيات 46 الى 60] وَلِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55) فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 587 المفردات: خافَ الخوف: توقع مكروه، وهو ضد الأمن، والمراد به هنا: الكف عن المعاصي وتحرى الطاعات. ذَواتا أَفْنانٍ أى: صاحبتا أفنان، جمع فنن، وهو ما دق ولان من الأغصان. زَوْجانِ: صنفان وفرعان. فُرُشٍ: جمع فراش وهو معروف. إِسْتَبْرَقٍ: ما غلظ من الديباج. وَجَنَى الجنى: هو المجنى، أى: المجتنى من الشجر. دانٍ: قريب. قاصِراتُ الطَّرْفِ المراد: قصرن أعينهن على أزواجهن. لَمْ يَطْمِثْهُنَّ: لم يفض بكارتهن قبل أزواجهن أحد. الْياقُوتُ وَالْمَرْجانُ: جواهر كريمة تضرب مثلا في الصفاء والبياض. وتلك بعض نعم الله التي أنعم بها على عباده المؤمنين في الجنة ذكرت بعد ما بين الله طرفا من عذاب جهنم. المعنى: الخوف من الله، واعتقاد المؤمن أن ربه مهيمن عليه مراقب له، حافظ لأحواله يدعوه إلى العمل الصالح، وإلى الإحسان فيه، ولمن خاف قيام ربه عليه جنتان يتمتع فيهما، وينتقل بينهما، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ وهاتان الجنتان ذواتا أفنان، أى: ذواتا أنواع من الشجر والثمار، ففيهما ثمر وظلال، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ فيهما عينان تجريان بالماء الزلال، روى أن إحداهما تسمى بالتسنيم والأخرى بالسلسبيل فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ فيهما من كل فاكهة صنفان صنف معروف مألوف، وآخر غير معروف ولكنه في منتهى الحلاوة واللذة. فبأى آلاء ربكما تكذبان؟! ولمن خاف مقام ربه جنتان حالة كونهم متكئين على فراش بطانته من ديباج غليظ، والاتكاء من صفات التنعم الدالة على فراغ البال وهدوء النفس، وإذا كانت البطانة من ديباج فما بال الظاهر من الفراش؟! على أن جنى الجنتين دان وقريب فهو على طرف الثمار يدركه القائم والنائم والجالس والماشي فليس عاليا كالنخل، ولا يحوطه شوك كالوردة، وإنما هو من نوع عال لكنه قريب المنال، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟ في تلك الجنان نساء قاصرات الطرف، قد قصرن عيونهن على أزواجهن فلا ينظرن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 588 إلى غيرهم، وهن أبكار لم يفض بكارتهن قبل أزواجهن إنس ولا جان، وهن كالياقوت صفاء والمرجان بياضا، وقيل: كالمرجان حمرة، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟. هل جزاء الإحسان إلا الإحسان «1» أى: ما جزاء الإحسان في العمل إلا الإحسان في الثواب والجزاء. من نعمه على المؤمنين يوم القيامة [سورة الرحمن (55) : الآيات 61 الى 78] فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61) وَمِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71) حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ (78) المفردات: مُدْهامَّتانِ المراد: شديدة الخضرة من كثرة الري، والدهمة في اللغة: السواد. ضَّاخَتانِ فوارتان بالماء، والنضخ بالخاء أكثر من النضح. خَيْراتٌ حِسانٌ   (1) - الاستفهام بمعنى النفي، والجملة استئناف مقرر لمضمون ما قبله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 589 : جمع خيرة على معنى ذوات خير. حُورٌ: نساء بيض، والحور: شدة بياض بياض العين مع شدة سواد سوادها. مَقْصُوراتٌ: محبوسات ومستورات. رَفْرَفٍ: هو ثوب يطرح على ظهر الفراش للنوم عليه، وقيل: هو فضول الفرش والبسط واشتقاقه من: رف يرف إذا ارتفع. وَعَبْقَرِيٍّ: هي ثياب أو بسط منقوشة، وقيل العبقري: هو كل ما يعجب من حذقه وجودته وصنعته وقوته. وهذا وصف آخر لجنان خصصت لأصحاب اليمين، وما قبل هذا كان وصفا لجنان السابقين المقربين. والذي نفهمه أن هذه الصفات كلها تقريبية، وردت ليقف الخلق على بعض ما في الجنة، وفي الواقع هي كما قال الله: وَلَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ... [سورة فصلت آية 31] . المعنى: ومن دون هاتين الجنتين التي مضى وصفهما جنتان أخريان، والكل أعد للخائفين الوجلين المسارعين في الخيرات، السابقين، وأصحاب اليمين، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟! هاتان الجنتان مدهامتان، وقد وسط القرآن قوله: فبأى آلاء ربكما تكذبان بين الجنة وصفتها للإشارة إلى أن تكذيبهم بوجود الجنة فضلا عن تكذيبهم بصفتها حقيق بالإنكار والتوبيخ. هاتان الجنتان اشتدت خضرتهما لكثرة مائهما، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟! فيهما عينان فوارتان بالماء الكثير، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟! فيهما فاكهة يتفكه بها، وخاصة النخل والرمان، ولعل تخصيصهما بالذكر لكثرة وجودهما في الجزيرة العربية، فبأى آلاء ربكما تكذبان؟!. فيهن نساء خيرات حسان في الخلق والخلق، وإذا وصفهن بالحسن ربك فكيف تقف من مخلوق على بيان كنهه والوقوف على مداه؟ فبأى آلاء ربكما أيها الثقلان تكذبان؟. هؤلاء النساء حور شديدات البياض، وفي عيونهن حور، وهن مقصورات في الخيام، محبوسات محجبات، لا يتبذلن في شارع أو سوق، ولا يخرجن لبيع أو شراء، والحجاب الذي يقصده الشارع ويصف به الحور العين هو البعد عن التبذل والولوج إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 590 المجتمعات والنوادي، وأنهن مقصورات على أزواجهن لا ينظرن إلى رجال غيرهم، وكلنا بينه وبين نفسه لا يحب إلا المرأة المقصورة عليه، أما التي تتركه وتصادق غيره، وتراقصه وتستضيفه الأيام والليالى، ففي الواقع ليست هذه امرأته وحده، تلك طبيعة الرجال، أما الذين طغت على عقولهم المدنية الكاذبة، حتى فقدوا رجولتهم، وتركوا نساءهم للأصدقاء والخلان تحت اسم الحرية والمدنية فهؤلاء قوم لم يعد للعقل وللمنطق معهم سبيل!! ونساء الجنة حور مقصورات في الخيام أبكار لم يمسسهن قبل أزواجهن إنس ولا جان، فبأى آلاء ربكما تكذبان!. أصحاب هذه الجنان يتمتعون متكئين على رفرف خضر، وثياب تشبه الرياض عبقرية عجيبة غريبة، بلغت منتهى الحسن والجمال، فبأى آلاء ربك تكذبان!. تبارك الرحمن الذي أنعم بتلك النعم، وتعالى اسمه، وتقدست ذاته، وتنزهت عن كل نقص، سبحانه وتعالى صاحب الفضل، وواهب الخير، ومصدر النعم، تبارك اسم ربك ذي الجلال والكمال، وصاحب العطاء والإكرام، سبحانه وتعالى عما يصفون، سبحانه جل جلاله هو الرحمن الرحيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 591 سورة الواقعة وهي مكية على الصحيح، وعدد آياتها سبع وتسعون آية وقد ورد في فضلها آثار كثيرة، منها حديث ابن مسعود قال: سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول: «من قرأ سورة الواقعة كل ليلة لم تصبه فاقة أبدا» وروى عن أنس عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال: «سورة الواقعة سورة الغنى فاقرأوها وعلموها أولادكم» ويمكن أن نفهم أنها سورة تحبب في العمل للآخرة، والعزوف عن الدنيا فتولد بها القناعة والرضاء وهما الغنى والسعادة. وتشتمل على الكلام على القيامة وأحوالها، ثم بيان ما أعد للمؤمنين السابقين وأصحاب اليمين في الجنة، ثم ما أعد لأصحاب الشمال في النار، ثم ذكرت خلق الإنسان، والنبات والماء، والنار، ثم ذكرت النجوم والميزان إلى غير ذلك من دلائل القدرة، وآيات البعث والقوة. قيام القيامة [سورة الواقعة (56) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6) المفردات: الْواقِعَةُ: علم بالغلبة على القيامة، وسميت بذلك لتحقق وقوعها لا محالة كاذِبَةٌ والمراد: نفس كاذبة رُجَّتِ: زلزلت وحركت تحريكا شديدا وَبُسَّتِ الْجِبالُ: فتتت حتى صارت كالسويق الملتوت هَباءً: غبارا مُنْبَثًّا: متفرقا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 592 المعنى: إذا كانت القيامة، ووقعت الواقعة التي تحقق وقوعها بلا شك فكأنها واقعة في نفسها مع قطع النظر عن الإخبار بوقوعها، إذا وقعت الواقعة كان الجزاء والثواب والعقاب «1» حالة كونها ليس لوقعتها «2» نفس كاذبة، والواقعة هي السقطة القوية، وشاعت في وقوع الأمر العظيم- بمعنى أنه لا يكون حين وقوعها نفس تكذب على الله تعالى- كما في هذه الدنيا- وتكذب في تكذيبه سبحانه في خبره بها، أليس منكر الساعة الآن مكذبا له تعالى في أنها واقعة؟ وهو كاذب في تكذيبه لأنه- أى: المنكر- قد أخبر بخبر على خلاف الواقع، فلا يبقى هناك كاذب بل الكل صادق مصدق. هي خافضة لأقوام كانوا أعزة بالباطل، رافعة لأقوام كانت عزتهم بالله ورسوله وإن كانوا في الدنيا فقراء المال والجاه، هي خافضة رافعة، إذا رجت الأرض رجا ينهدم ما فوقها من بناء ومساكن، وبست الجبال بسّا فصارت غبارا متفرقا، وذرات متناثرة، وكنتم أيها الناس ساعتها أصنافا ثلاثة: أصحاب اليمين، وأصحاب الشمال، والسابقون المقربون. هؤلاء هم السابقون، وذلك جزاؤهم [سورة الواقعة (56) : الآيات 7 الى 26] وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)   (1) - هذا إشارة إلى أن (إذا) ظرف لما يستقبل خافض لشرطه منصوب بجوابه المحذوف الذي قدر مكان الجزاء إلخ، وقيل: إنها ظرف وليس شرطا، وهو معمول ل (اذكر) مقدره. (2) - اللام هنا للتوقيت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 593 المفردات: أَزْواجاً: أصنافا ثلاثة. الْمَيْمَنَةِ: وأصحابها هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة. الْمَشْئَمَةِ: هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار. وَالسَّابِقُونَ والمراد بهم: السابقون إلى الإيمان والعمل الصالح. ثُلَّةٌ: جماعة. مَوْضُونَةٍ أى: منسوجة بإحكام، وفي كتب اللغة أن الوضن: النسج المضاعف. وِلْدانٌ: كصبيان في الوزن و المعنى. مُخَلَّدُونَ: باقون على حالتهم لا يهرمون كأولاد الدنيا. بِأَكْوابٍ: جمع كوب، وهي الآنية التي ليس لها مقبض ولا خرطوم، والأباريق: أوان لها مقابض وخراطيم، وأقرب الأشباه بهما ما نستعملهما الآن في مصر ونطلق عليهما لفظ- كوب وإبريق. وَكَأْسٍ: لفظ الكأس يطلق على الإناء الذي فيه الخمر أو على نفس الخمر، فإذا خلا الإناء من الخمر فهو قدح. مَعِينٍ المعين حقيقة: هو النهر الجاري على وجه الأرض الظاهر للعيون، أو الخارج من العيون «1» . يُنْزِفُونَ من نزف الشارب أو من أنزف الشارب: إذا سكر. لا يُصَدَّعُونَ عَنْها أى: لا تنصدع رءوسهم من شربها فلا يصابون بصداع. عِينٌ: كبار الأعين حسانها. الْمَكْنُونِ: المستور لا يصل إليه غبار. لَغْواً: فاحشا من القول. تَأْثِيماً: ما يؤثم. وهذا تفصيل للأزواج الثلاثة، وبدأ بذكر السابقين.   (1) - وهو مأخوذ من عان المرء يعينه إذا نظر إليه بعينه فيكون اسم مفعول، ويجوز أن يكون من معن الماء إذا نبع فهو اسم فاعل كشريف من شرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 594 المعنى: وكنتم- والخطاب لأمة النبي صلّى الله عليه وسلّم والأمم السابقة من باب التغليب- أصنافا ثلاثة: أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة، والسابقون، فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة «1» نعم هم في غاية حسن الحال، كما أن أصحاب المشأمة في نهاية سوء الحال، والسابقون السابقون أولئك- والإشارة لبعد مركزهم وعلو مكانتهم- المقربون «2» في جنات النعيم بمعنى السابقون هم الذين سبقوا في الإيمان غيرهم وسارعوا إلى عمل الصالحات، وكأن سائلا سأل وقال: وما جزاء هؤلاء؟؟ فأجيب: أولئك المقربون من الحضرة القدسية المتمتعون بالرضا السامي في جنات النعيم. هم جماعة كثيرة من الأمم السابقة وقليل من أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم ممن جاءوا أخيرا، فالقلة والكثرة راجعة إلى العدد، هم جميعا في الجنة حالة كونهم على سرر منسوجة بالذهب نسجا محكما، حالة كونهم متكئين عليها، متقابلين فوجوههم متقابلة، وهكذا الأدب العالي، وقلوبهم صافية نقية، ولذا تراهم متقابلين يطوف عليهم في الجنة ولدان مخلدون لا يعتريهم هرم ولا ضعف بل هم دائما في طراوة الشباب ورقته ونشاطه، يطوفون عليهم بأكواب من فضة وأباريق من ذهب، ويطوفون بخمر جارية من العيون فلا تنقطع، ظاهرة للعيون، فليست كخمر الدنيا التي تعصر وتحجز، ولا يصيبهم بسببها صداع ولا ألم، ولا يتفرقون عنها بسبب من الأسباب، ولا هم عنها ينزفون، أى: لا تذهب عقولهم، ولا تبيد أموالهم، ولا تهدم صحتهم، ولا تضيع كرامتهم، خمر الجنة، وكفى أنها من صنع الخلاق الحكيم! ويطوفون عليهم بفاكهة كثيرة يأخذون منها ما يختارون، وبلحم من جميع الأشكال والأنواع يأكلون منه ما يشتهون، ولعلك معى في أن تقديم الفاكهة على اللحم مما يدعو إليه الطب.   (1) - أصحاب الميمنة مبتدأ، والاستفهام للتعجب مبتدأ ثان، وأصحاب الميمنة خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول. (2) - أحسن الأعاريب أن (السابقون) مبتدأ و (السابقون) الثانية خبر- من باب شعري شعري- وفي هذا تفخيم لشأنهم، وجملة (أولئك المقربون) مبتدأ وخبر، واقعة استئنافا بيانيا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 595 ولهم في الجنة حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون!! إن هذا كان لهم جزاء بسبب ما كانوا يعملون، على أنهم في الجنة يتمتعون- كما عرفت نوعا من نعيمهم- ولكن هل هو نعيم مصحوب بألم كنعيم الدنيا؟ لا: إنهم لا يسمعون فيها ما يكدرهم، ولا يسمعون فيها لغوا، ولا تأنيبا، ولا يقال لهم: أثمتم، لكنهم يسمعون فيها قولا سالما من كل عيب بأن يقول بعضهم لبعض: سلاما، وتقول لهم الملائكة: سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار. هؤلاء هم أصحاب اليمين وهذا جزاؤهم [سورة الواقعة (56) : الآيات 27 الى 40] وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40) المفردات: سِدْرٍ مَخْضُودٍ السدر: نوع من الشجر يمتاز بكثرة أوراقه وأغصانه إلا أن له شوكا فقيل: سدر مخضود أى: مقطوع الشوك. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ الطلح: شجر الموز ومنضود: متراكب الثمر، أى: نضد أوله وآخره بالحمل فليست له سوق ظاهرة بل ثمره مرصوص بعضه فوق بعض بنظام. مَمْدُودٍ أى: دائم باق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 596 لا يزول. ماءٍ مَسْكُوبٍ: جار لا ينقطع، وأصل السكب: الصب. وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ المراد: نساء مرتفعات الأقدار. أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً: خلقناهن خلقا وأبدعناهن إبداعا. عُرُباً: جمع عروب، وهن النساء المتحببات إلى أزواجهن بإظهار المحبة لهم. وهذا هو الصنف الثاني، المتوسط في المرتبة، وهو يشمل عصاة المؤمنين بعد أخذهم جزاء المعصية أو العفو عنهم. المعنى: وأصحاب اليمين، ما أصحاب اليمين؟! وهذا أسلوب يدل على التفخيم لشأنهم، والتعجب من حالهم «1» هم في سدر مخضود، وطلح منضود، وظل ممدود، أى: منبسط دائم، لا يزول بشمس، فهو كظل ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس وماء مسكوب منساب لا ينقطع، يجرى بين أيديهم، وفاكهة كثيرة، ليست مقطوعة ولا ممنوعة في أى وقت، وما أروع هذا البيان! وما أرقه حيث وصف السابقين بأقصى ما يتصور لأهل المدن من كونهم على سرر مصفوفة، تطوف عليهم خدامهم بأنواع الملاذ، ووصف هنا جزاء أصحاب اليمين بأقصى ما يتصور لأهل البوادي، وبأغلى شيء عندهم، من نزولهم في أماكن مخصبة، بين الماء المنسكب المتدفق الذي لا ينقطع، والشجر الكثيف، والظلال الوارفة والثمار الكثيرة فإن وصفها بالنظام يشير إلى الكثرة والجودة، والفرق بين الصنفين كالفرق بين عيشة البوادي والحواضر. لهم هذا كله، وهم في فراش مرفوع على الأسرة، وقيل: إن هذا كناية عن النساء المرتفعات الأقدار والمنازل، إنا أنشأناهن، أى: النساء إنشاء وأبدعناهن إبداعا على أتم صورة، وأكمل وضع، فجعلناهن أبكارا لا ثيبات، وكن عربا متحببات إلى أزواجهن، أترابا، أى: مستويات في سن واحدة فليست الواحدة منهن عجوزا شمطاء، ولا طفلة بلهاء بل هن المستويات الكاملات في باب النساء أنشأهن ربك   (1) - وجملة الاستفهام خبر عن أصحاب اليمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 597 لأصحاب اليمين، الذين هم جماعة من الأولين أو السابقين في الوجود، وجماعة من الآخرين، أى: المتأخرين في الزمن كأمة النبي صلّى الله عليه وسلّم وقيل: هذا الصنف من أمة محمد والتأخر والتقدم في زمن الرسالة المحمدية، ولم يقل الحق- تبارك وتعالى-: جزاء بما كانوا يعملون كما قال في بيان السابقين المتقدم، إشارة إلى أن هذا الصنف المتوسط قد غمر بالفضل من الله لقصر عمله عن السابقين. هؤلاء هم أصحاب الشمال، وهذا هو جزاؤهم [سورة الواقعة (56) : الآيات 41 الى 56] وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) المفردات: سَمُومٍ السموم: الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن، أو التي تؤثر تأثير السم. وَحَمِيمٍ: ماء حار شديد الحرارة. يَحْمُومٍ اليحموم: دخان أسود الجزء: 3 ¦ الصفحة: 598 شديد السواد من نار جهنم. مُتْرَفِينَ الترف: التنعم، والمراد، متنعمين بالحرام. الْحِنْثِ: الذنب العظيم، وعليه الحديث: كان يتحنث في حراء، أى: يفعل ما يزيل الذنب العظيم، وقيل الحنث: عدم البر بالقسم، وكانوا يقسمون على أنه لا بعث، وأن لله شريكا. مِنْ زَقُّومٍ: هو شجر كريه الطعم والشكل. شُرْبَ الْهِيمِ: جمع أهيم وهيماء، والمراد بالهيم الإبل العطاش التي لا تروى لداء أصابها. وهذا هو جزاء أصحاب الشمال، الذين حقت عليهم كلمة العذاب بعد ذكر السابقين وأصحاب اليمين ليظهر الفرق جليا بين عاقبة الطاعة ونهاية المعصية. المعنى: وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال؟! هم في ريح حارة تفعل فعل السموم، وتدخل إلى البدن من مسام الجسم، هم في سموم وحميم، أى: ماء شديد الحرارة وظل من دخان أسود من نار جهنم، وتسميته ظلا من باب التهكم، هذا الظل ليس باردا بل حارّا، ولا كريما، أى: ليس كريم المنظر، ولا كريم المخبر لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [سورة الزمر آية 16] . وما سبب هذا؟ إنهم كانوا قبل ذلك في الدنيا مترفين، أتبعوا أنفسهم هواها، ولم يكن لهم رادع يردعهم بل ظلوا يتنعمون بالحرام، ويتكبرون عن الحق والحلال، وكانوا يصرون على فعل الذنب العظيم، وهو الشرك، وكل منكر قبيح، وكانوا كذلك يقسمون بالأيمان على أنه لا بعث ولا ثواب، وعلى أنه لله شركاء وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ «1» وكانوا يقولون منكرين ومتعجبين: أإذا متنا وكنا ترابا وعظاما أإنا لمبعوثون «2» ؟!! والمعنى: أنبعث إذا متنا وكنا ترابا؟! وتقييد الإنكار والاستبعاد للبعث بوقت كونه ترابا ليس للتخصيص، فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن يظل كما هو، أنبعث نحن وآباؤنا الأولون؟ مع أنهم أقدم منا فبعثهم أبعد وأشد إنكارا. وقد ذكر الله هنا سبب عقابهم في قوله: إِنَّهُمْ كانُوا ... الآية، ولم يذكر   (1) - سورة النحل آية 38. [ ..... ] (2) - الهمزة للإنكار والتعجب وتكريرها في أإذا وأ إنا لتأكيد الإنكار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 599 سبب إحسانه لأصحاب اليمين للإشارة إلى أن العقاب عدل يبين وجهه، أما الثواب فبمحض الفضل في الحقيقة فلا يحسن ذكر السبب. قل لهم يا محمد ردّا على افتراءاتهم وإنكارهم للبعث: إن الأولين والآخرين من الأمم كلها، ومن جملتهم أنتم وآباؤكم لمجموعون بعد البعث من القبور إلى ميقات يوم معلوم وهو يوم القيامة، ويوم الجزاء والحساب، ثم إنكم أيها الضالون عن الحق، المكذبون بالبعث والوحدانية وإرسال الرسل لآكلون يوم القيامة أكلا مبتدأ من شجر هو زقوم، شجرة تنبت في قعر جهنم جعلت فتنة للظالمين، وهي كريهة المنظر والمخبر، فيملأ الكفار منها بطونهم من شدة الجوع، فإنه هو الذي اضطرهم إلى الأكل منها، وعقب الأكل يشربون عليها من ماء حار لشدة العطش، فشاربون منه شرابا كثيرا كشرب الإبل الهيم التي تشرب حتى تموت أو تسقم، ولا ترتوى، عجبا لهم يأكلون من الزقوم ثم يشربون من الحميم، ثم هم لا يرتوون!! هذا- الذي ذكر من ألوان العذاب- نزلهم الذي أعد لهم يوم الدين، وهو أشبه بما يقدم للضيف ساعة قدومه، فما بالك بما أعد لهم من بعد ذلك!! بعض الأدلة على إثبات قدرة الله الكاملة على البعث وغيره [سورة الواقعة (56) : الآيات 57 الى 74] نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 600 المفردات: ما تُمْنُونَ: ما تصبونه من المنى في الأرحام. قَدَّرْنا: قضينا به وأوجبناه عليكم. تَحْرُثُونَ الحرث: تهيئة الأرض للزراعة وإلقاء البذور فيها. تَزْرَعُونَهُ الزرع: يطلق على نفس الإنبات. حُطاماً: هو الهشيم الهالك المتكسر الذي لا ينتفع به. تَفَكَّهُونَ أصل التفكه: أكل الفاكهة ثم استعمل مجازا في التلذذ بالحديث، وتفكه قد يستعمل مرادا به إلقاء الفكاهة عن النفس، ولا تلقى الفكاهة إلا من الحزن وعلى هذا فيكون تفكه مثل تحرج وتأثم: إذا أزال الحرج والإثم عنه وقد يطلق التفكه ويراد به التعجب لأن عدم التفكه حيث تطلب الفاكهة يدعو إلى العجب، وفي كتاب الأساس للزمخشري: فظلتم تفكهون: وارد على سبيل التهكم، أى: تجعلون فاكهتكم وما تتلذون به قولكم: إنا لمغرمون. الْمُزْنِ: هو السحاب. أُجاجاً: ملحا ولا يمكن شربه. تُورُونَ: تخرجونها نارا. لِلْمُقْوِينَ أى: المسافرين، مأخوذ من قولهم: أقوى القوم إذا نزلوا بالقوى أى: الأرض الخالية القفراء البعيدة عن العمران، وقيل المراد بالمقوين: المقيمين والمسافرين جميعا، ويقال: الفقر مقو لخلوه من المال، وللغنى مقو لقوته على ما يريد، ولا شك أن النار يحتاج إليها الكل. وتلك حجج وبراهين على إمكان البعث وإثبات أنه في مقدور الله بضرب الأمثلة والنظائر المشاهدة المحسوسة التي لا يمكن إنكارها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 601 المعنى: نحن خلقناكم أول مرة وحدنا فهلا تصدقون بذلك تصديقا مقرونا بالطاعة والأعمال الصالحة! فإنهم أقروا ظاهرا بأن الله خلقهم، ولكنه إقرار لم يتبع بالطاعة الصحيحة فنزل منزلة العدم، ولذا حضهم الله على الإقرار بالخلق فقال: فلولا تصدقون!، وقيل المعنى: نحن خلقناكم أول مرة فهلا تصدقون بأنا قادرون على الخلق ثانيا يوم القيامة! ثم أخذ يسوق الأدلة والحجج التي تثبت ذلك فقال: أفرأيتم ما تصبون في رحم النساء من المنى! أأنتم تخلقونه وتصورونه بشرا تام الخلقة؟ أم نحن الخالقون له وحدنا «1» ؟ لم يخلق بالطبيعة، ولم يخلق وحده، ولم تخلقوه أنتم، وهذا المنى تحول من حال إلى حال، ومن صفة إلى صفة فكيف تستبعدون الخلق يوم البعث؟ وإحياءكم بعد أن كنتم ترابا أنتم وآباؤكم؟! نحن قدرنا بينكم الموت، ووقتنا موت كل واحد بزمن لا يتقدم ولا يتأخر، وما نحن بمغلوبين في ذلك أبدا، وما نحن بمغلوبين أيضا على أن نذهبكم، ونأتى مكانكم بأمثالكم من الخلق، وننشئكم فيما لا تعلمون من الخلق والأطوار، فنحن قادرون على كل ذلك، ولقد علمتم النشأة الأولى لكم حيث خلقتم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ... إلخ ما هو معروف، وقيل المعنى: لقد علمتم النشأة الأولى لخلق أبيكم آدم من تراب، وبين التراب والحياة البشرية بون شاسع، فهلا تذكرون ذلك؟ وتعلمون أن من قدر على ذلك كله قادر على إحياء الموتى؟!. أفرأيتم ما تحرثون؟ أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون؟ نعم الله هو الذي يحيى الأرض بالنبات بعد موتها، وهو القادر على إخراج النبات الأخضر المثمر من البذور والطين مع أن الحب في الطين قابل للعفونة، ولكن الله بقدرته يخرج منه نباتا أصفر طريا غضا أفلا يدل هذا على القدرة؟   (1) - الاستفهام في قوله أرأيتم المراد به الطلب، أى: أخبرونى عن المنى، وقوله: أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون: في موضع المفعول الثاني على أن الرؤية علمية، وعلى أنها بصرية تكون مستأنفة لا محل لها، وقوله: أم نحن الخالقون إنها متصلة، وقيل: إنها منقطعة لأن ما بعدها جملة الاستفهام المقدر للتقرير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 602 لو يشاء ربك بعد خلقه لجعله هشيما متكسرا لا غلة ولا خير، كما يحصل الآن ونراه بأعيننا في حقلين متجاورين متفقين في كل شيء أو نفس الحقل الواحد، ونرى أن هذا النبات يثمر، وذاك في ليلة واحدة يصبح هشيما لا خير فيه، وتبارك الله أحسن الخالقين! لو نشاء لجعلناه حطاما فظلتم تفكهون، وتتعجبون من سوء الحال والمصير، أو فظللتم تتلاومون على سوء أفعالكم، وكل ذلك تفسير باللازم، والأقرب فظللتم تزيلون التفكه والفكاهة عنكم، والرجل لا يطرح الفكاهة والمسرة عن نفسه إلا عند الألم والحزن، أو المراد تتفكهون قائلين: إنا لمغرمون- وهذا من باب التهكم- بل نحن محرومون من عطاء الله. أفرأيتم الماء الذي تشربونه؟ أأنتم أنزلتموه من السحاب أم نحن المنزلون؟ نعم هو الله وحده القادر على إنزال المطر، وإخراج الماء من البحار على هيئة البخار حالة كونه نقيّا صافيا من كل شيء ثم جمعه في السحاب، ثم إنزاله مطرا يصيب به من يشاء من عباده. ولو شاء ربك أنزل «1» المطر من السماء ملحا أجاجا لا يصلح للرى، ولكنه اللطيف الخبير فهلا تشكرون ربكم على ذلك ولا تكفرون! أفرأيتم النار التي تورونها، وتستخرجونها من الزند أو ثقاب الكبريت، أو على أى صورة أأنتم أنشأتم شجرها؟ أأنتم خلقتم مادتها؟ أم نحن الخالقون؟ نعم هو ربك وحده الذي خلق فقدر كل ذلك، ولكن أكثر الناس لا يعلمون. نحن جعلنا النار تذكرة لجهنم، وعبرة لمن يعتبر، وجعلناها متاعا يتمتع بها الخلق جميعا المقيم والمسافر، والغنى والفقير، والحاضر والبادي، ولا غرابة فالنار أحد العناصر المهمة كالماء والتراب والهواء. إذ كان الأمر كذلك فسبح باسم ربك العظيم، ونزهه عن كل نقص. وإذا كان الأمر بتقديس الاسم فما بال المسمى جل شأنه؟!   (1) - جواب لو هنا مجرد من اللام، وفيما قبله مقرون باللام، والنحويون يجيزون ذلك، أما لماذا كان هذا الوضع هنا؟ ففي الحقيقة الله أعلم بأسرار كتابه، وإن كان الكشاف والآلوسي وغيرهما عللوا عللا عللا ليست قوية في نظري. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 603 وانظر- وفقك الله- إلى الاستدلال بخلق الإنسان وأطواره، ثم بالإنبات ثم بالأمطار، ثم بالنار. وهل هناك إنسان في أية بقعة لا يرى أمامه خلق الإنسان والنبات، والمطر، والنار؟ إن هذا لهو حق اليقين [سورة الواقعة (56) : الآيات 75 الى 96] فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78) لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80) أَفَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْلا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87) فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 604 المفردات: بِمَواقِعِ النُّجُومِ: بمساقطها للغروب. مَكْنُونٍ: محفوظ ومصون. مُدْهِنُونَ الإدهان: جعل الأديم- الجلد- مدهونا بمادة زيتية ليلين ليونة حسية، ثم استعمل الإدهان في الليونة المعنوية، ولذا سميت المداراة والملاينة مداهنة على سبيل المجاز، وهو لشهرته صار حقيقة عرفية، ورشح هذا أن المتهاون في الأمر لا يتصلب فيه ولا يتشدد. رِزْقَكُمْ أى: شكركم. الْحُلْقُومَ: مجرى الطعام. مَدِينِينَ من دان بمعنى حاسب وجازى، أى: محاسبين ومجزيين، وعليه قولهم: كما تدين تدان، وقيل المراد مربوبين. فَرَوْحٌ أى: استراحة. وَرَيْحانٌ: رزق حسن. وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ: احتراق بها. تلك حقائق ختمت بها السورة الكريمة تتعلق بالقرآن الكريم، وبمناقشة المنكرين وما يكون عند خروج الروح، وما يلاقيه السابقون وأصحاب اليمين، والمكذبون الضالون، تلك حقائق من رب العالمين. لله أن يقسم بما يشاء من خلقه، فهو تعظيم له بالدليل، ولفت لأنظار المخلوقين حتى يروا ما في هذه الأشياء المقسم بها من عظمة تدل على القدرة الكاملة لله- سبحانه وتعالى- وأما نحن فليس لنا أن نقسم بغير الله وصفاته القديمة. المعنى: فلأنا أقسم بمواقع النجوم، أى: مساقطها عند الغروب «1» - وإن هذا القسم عظيم لو تعلمونه لعظمتموه إنه لقرآن كريم ... الآية. أما القسم بالنجوم عند غروبها، وذهاب أثرها، فلأنها والحالة هذه تكون أكثر دلالة على وجود خالقها والمؤثر فيها، وأن هذا النجم الذي بزغ بعد غروب الشمس لا يصح   (1) - في هذا إشارة إلى أن لا في قوله لا أقسم أصلها لام التوكيد الداخلة على مبتدأ وخبر ثم حذف المبتدأ وأشبعت الفتحة فتولد منها الألف فليست هي لا النافية، وقيل هي لا النافية، ولكنها زائدة للتوكيد وتقوية الكلام، وقيل غير زائدة والمنفي قول المشركين، وأقسم كلام جديد، ويضعف هذا الرأى أن وجود الواو في مثل هذا واجب كقولك: لا، وشفاك الله، وأيضا يصح المعنى على أصالة النفي كما ذكرنا ذلك في الشرح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 605 أن يعبد بل يجب أن يكون هو دليلا على وجود الله، ولذا قال الله: وإنه لقسم- لو تعلمون- عظيم، وقيل، إن المعنى: لا أقسم بمواقع النجوم على أن القرآن كريم، إن الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم ما فضلا عن هذا القسم العظيم، والله أعلم بأسرار كتابه. إنه لقرآن كريم، البحر مثله، من أى النواحي أتيته تجد هدى ونورا وعلما وخيرا وبركة قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «1» . إنه لقرآن كريم كائن في كتاب مصون من غير المقربين من الملائكة «هذا الكتاب المصون هو اللوح المحفوظ، فلا يطلع عليه سواهم، ولا يمسه إلا الطاهرون المطهرون من كدر الطبيعة البشرية ودنس الغرائز النفسية ومطهرون من دنس الأجسام وقذارة الأحداث» ، ومن غير الملائكة الأطهار يوصف بهذا؟ والطهارة على ذلك معنوية. هذا كتاب لا ينبغي أن يمسه إلا المطهرون من كل حدث ولذا فهم بعض الأئمة أن القرآن ينبغي ألا يمسه إلا طاهر من الحدث الأصغر والأكبر، وبعضهم رأى أن سند هذا الحكم هو الحديث عن رسول الله «لا يمسّ القرآن إلّا طاهر» هو تنزيل من رب العالمين، لا يأتيه باطل، ولا يقرب منه شك، وهو هدى للعالمين. أفهذا الحديث الذي ذكرت نعوته هنا أنتم أيها الكفار مدهنون، ومتهاونون؟! لا يصح هذا ولا يليق، وأنتم تجعلون شكر رزقكم وما أنعم الله به عليكم أنكم تكذبون؟ تكذبون بما يجب عليكم تصديقه، وبما أنزل في هذا القرآن. فلولا إذا بلغت الروح الحلقوم عند الحشرجة وأنتم حينئذ بلغت هذا الحد تنظرون ونحن أقرب إلى هذا الشخص منكم قرب علم وقدرة، ولكن لا تبصرون، فهلا إن كنتم غير مؤمنين بالبعث يمكنكم أن ترجعوا روحه، وتمنعوا موته كما تظنون أن لا بعث ولا عقاب!! والمعنى باختصار: إن صدقتم نفى البعث فردوا روح المحتضر إلى جسده لينتفى عنه الموت فينتفى البعث أى إن تحقق الشرطان وهما: إن كنتم غير مدينين إن كنتم   (1) - سورة المائدة آية 16. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 606 صادقين فهلا أرجعتم نفس الميت وأنتم حاضرون ساعة خروجها من جسده «1» . ولكن البعث أمر محقق نطق به الحق- تبارك وتعالى- ومن أصدق من الله حديثا! والناس فيه ثلاثة أنواع فأما إن كان من السابقين المقربين فله روح وريحان وجنة نعيم، وأما إن كان من أصحاب اليمين فله السلامة من العذاب لأنه من أصحاب اليمين، أو فعليه سلام من إخوانه أصحاب اليمين، وأما إن كان من المكذبين الضالين فله نزل من حميم يشربه بعد أكل الزقوم- وهذا تهكم به- وله تصلية جحيم واحتراق بها. إن هذا الذي ذكر في هذه السورة وخاصة في أواخرها لهو اليقين الحق والخبر الصدق الذي لا شك فيه ولا ريب، وإذا كان الأمر كذلك فسبح مستعينا باسم ربك العظيم، وقدسه ونزهه عن كل نقص وعيب فتعالى الله عما يشركون!   (1) - فلولا بمعنى هلا، ولولا الثانية تأكيد له، وإذا في قوله «فلولا إذا» إذا ظرفية فقط، وجواب الشرطين هو هلا ترجعونها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 607 سورة الحديد حكى القرطبي أنها مدنية بالإجماع، وبعضهم نقل في سبب إسلام عمر بن الخطاب: أنه سمع آيات من أول سورة الحديد عند أخته فأسلم، وعلى هذا تكون هذه الآيات مكية، والظاهر أنها مدنية كلها كما حكى القرطبي، وعدد آياتها تسع وعشرون آية وتشمل هذه السور الحث على التسبيح لله، ثم طلب الإيمان والإنفاق، ثم التعرض لجزاء الإيمان والإنفاق يوم القيامة، ووعظ المؤمنين بالعظات البالغات، ثم بيان الدنيا وحقيقتها، وبيان دعائم الحكم، وضرب الأمثال بالأنبياء وأممهم، وعلى العموم فالسورة تدور حول الحث على الإنفاق والبذل في سبيل الله. التسبيح لله وحده [سورة الحديد (57) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَما يَخْرُجُ مِنْها وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَما يَعْرُجُ فِيها وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 608 المفردات: سَبَّحَ لِلَّهِ التسبيح: التنزيه والتقديس لله ووصفه بكل كمال وتنزيهه عن كل نقص. أَيَّامٍ: جمع يوم وهو الوقت المحدد بطلوع الشمس إلى غروبها. اسْتَوى: تطلق في اللغة على معان كثيرة: بمعنى استقر. ومنه استوى على الكرسي، وعلى ظهر الدابة، واستوى بمعنى: قصد، وبمعنى: استولى وظهر، ومنه: «استوى بشر على العراق» والمراد: استولى وتصرف بما يريد. الْعَرْشِ: هو سرير الملك، وعليه قوله تعالى نَكِّرُوا لَها عَرْشَها وقد يطلق على سقف البيت، وعلى هودج المرأة، وعلى الملك والسلطان، وعليه قولهم: ثل عرشه وسقط: إذا ذهب ملكه. يَلِجُ: يدخل. يَعْرُجُ فِيها: يصعد. يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ: يدخل أحدهما في زمن الآخر. بِذاتِ الصُّدُورِ: صاحبات الصدور، والمراد الأسرار العميقة التي لا تفارق الصدر أبدا. المعنى: التسبيح: تنزيه الله- تعالى- في القول والاعتقاد والعمل، عما لا يليق به، ووصفه بكل كمال، والسمو به عن كل نقص، والله- جل جلاله- يسبح له كل ما في السموات وما في الأرض بلسان المقال أو بلسان الحال وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «1» فتسبيح العقلاء تنزيه وتقديس وعبادة. وتسبيح غيرهم دلالة على الصانع وأنه صاحب كل كمال ومنزه عن كل نقص، أو هو الانقياد والخضوع لأمر الله وتصريفه، ولا شك أن الكل بهذا المعنى يسبح له «2» ، سبح لله ما في السموات والأرض، وهو العزيز الذي لا يغلب- سبحانه وتعالى- الحكيم في كل ما يفعل- جل شأنه- لله «3» ملك السموات والأرض، وله التصرف المطلق فيهما وكأن سائلا سأل وقال: ما مظاهر ملكه؟ فأجيب بأنه يحيى من يشاء ويميت من يشاء وهو على كل شيء قدير.   (1) سورة الإسراء آية 44. (2) وقد عبر القرآن عن التسبيح تارة بالمصدر كما في أول سورة الإسراء، وبالماضي كما هنا وفي سورة الحشر والصف، وعبر في سورة الجمعة والتغابن بالمضارع، وفي سورة الأعلى بالأمر عبر بذلك استيفاء لأنواع الكلمة وليسبح كل إنسان في جميع الأوقات والأحوال الله سبحانه وتعالى. (3) هذه الجملة مستأنفة بمنزلة التوكيد المعنوي لما قبلها، ولذلك فصل بينهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 609 هو الأول فليس قبله شيء، إذ هو السابق على جميع الموجودات لأنه مصدرها، وهو الآخر لأنه الباقي بعد فناء خلقه، وهو الظاهر وجوده لكثرة الدلائل المادية والمعنوية عليه، وهو الباطن فلا تعرف العقول ذاته على حقيقتها، ولا تدركها الأوهام وهو بكل شيء عليم، روى في صحيح مسلم من حديث أبى هريرة: «اللهمّ أنت الأوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظّاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنّا الدّين وأغننا من الفقر!» . هو الذي خلق السموات والأرض «1» في ستة أيام، الله أعلم بمقدارها، وهو القادر على خلقها في لحظة إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «2» لكنه ذكر هذه المدة ليعلم العباد التأنى والتثبت في الأمور، وليعلمهم أن خلق السموات والأرض أكبر من خلقهم، وليس هو بالهين لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ «3» . ثم استوى على عرشه، واستقام أمره، واستقر على حسب ما يريده مما لا يعلم ذلك إلا هو، وهذا هو رأى السلف، وأما الخلف فيؤولون قائلين: استوى على عرشه بعد تكوين خلقه بمعنى أنه يدبر الأمر ويفصل الآيات، يعلم ما يلج في الأرض ويدخل فيها من نبات وبذور، وإنسان ومعادن وكنوز، وما يخرج منها من زروع وثمار، ومياه وجثث وغيرها، وهو يعلم ما ينزل من السماء من مطر أو شهب أو ملك أو آيات، وما يعرج فيها ويصعد إليها من عمل أو ملك أو غيره، وهو معكم بعلمه وقدرته أينما كنتم، والله بما تعملون بصير. له ملك السموات والأرض، لا راد لقضائه ولا معقب لحكمه، وإلى الله وحده ترجع الأمور، يولج الليل في النهار، ويولج النهار في الليل، بمعنى أنه يدخل هذا في زمن ذاك، وبالعكس، ونحن في مصر نرى الليل في الشتاء طويلا بينما يكون النهار في الصيف قصيرا، وفي الصيف يكون العكس، وفي الربيعين يتساوى الليل والنهار، سبحانه من قادر حكيم! وهو العليم بذات الصدور ومكنوناتها التي لا تفارقها يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ «4» سبحانه وتعالى عما يشركون؟   (1) - الظاهر والله أعلم أن هذه الجمل بيان وتفسير لتمام ملكه ولذا فصلت عن سابقتها. (2) - سورة يس آية 82. (3) - سورة غافر آية 19. (4) - سورة غافر آية 57. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 610 الحث على الإيمان والإنفاق [سورة الحديد (57) : الآيات 7 الى 12] آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) المفردات: مُسْتَخْلَفِينَ: خلفاء عن الله فيه، أو خلفاء عمن سبقكم ليأخذه من بعدكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 611 مِيثاقَكُمْ: عهدكم الذي أخذه عليكم في عالم الذر. الْفَتْحِ أى: فتح مكة. الْحُسْنى أى: الجنة. يُقْرِضُ المراد: ينفق في سبيل الله. وهذه الآيات تدعو إلى الإيمان بالله ورسوله وإلى الإنفاق في سبيل الله بعد ما مضى من وصفه جل شأنه. المعنى: البذل والتضحية أول الدعائم في حياة الأمم، وأساس نجاح الدعوات والإنفاق في سبيل الله للقيام بأعباء الأمة وما تتطلبه حياتها فريضة فرضها الإسلام الذي هو النظام الإلهى والدستور السماوي وهو حين يعالج مشكلة، يوقظ أولا الضمير، ويحيى الروح الديني، ويربط علاجه بالإيمان ورضا الله ورسوله وكان الإسلام في مستهل حياته- ولا زال كذلك- في أشد الحاجة إلى البذل والتضحية والإنفاق ليسد حاجة المحتاج، ويلم شعث الدولة ويدعم أركان الجيش. آمنوا أيها الناس بالله ورسوله، فإن كنتم كفارا فكونوا مؤمنين، وإن كنتم مؤمنين فآمنوا بالله إيمانا كاملا، وداوموا عليه، وأنفقوا في سبيل الله، وسبيل الله كل خير يعود عليكم وعلى وطنكم ودينكم، أنفقوا مما تحت أيديكم من الأموال وأنتم خلفاء الله عليها، فالمال مال الله والخير خيره، فأنفقوا منه ولا تبخلوا، وثقوا أنكم ورثتم غيركم فيه وخلفتموه عليه وهو بلا شك سينتقل إلى غيركم، ولن ينفعكم منه إلا ما قدمتموه لله، والحديث: «ليس لك من مالك إلّا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدّقت فأبقيت» . وإذا كان الأمر كذلك فالذين آمنوا منكم، وأنفقوا جزءا من مالهم، لهم أجر عند ربهم كبير. وما لكم لا تؤمنون بالله والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم؟ أى شيء استقر لكم وثبت عندكم حالة كونكم غير مؤمنين «1» والحال أن الرسول يدعوكم والقرآن في يمينه   (1) - في هذا إشارة إلى أن (ما) مبتدأ وهي اسم استفهام للإنكار، و (لكم) خبر، و (لا تؤمنون) حال، و (الرسول يدعوكم) حال أخرى [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 612 والسنة في يساره لتؤمنوا بربكم من أول الأمر أو لتداوموا على الإيمان وتقووه وقد أخذ الله ميثاقكم بما نصب من الأدلة المادية في الكون، وما خلق فينا من قوى وغرائز كلها توصل إلى الإيمان، لو نظرنا بها مجردين عن الهوى والتقليد الأعمى، وقيل: إن الميثاق هو ما أخذه ربك على الناس في عالم الذر، حين أشهدهم على أنفسهم قائلا: ألست بربكم؟ قالوا: بلى وما لكم لا تؤمنون والرسول يدعوكم للإيمان، وقد أخذ ربكم عليكم الميثاق، لا عذر لكم، إن كنتم تريدون الإيمان فبادروا إليه. هو الذي ينزل على عبده محمد آيات بينات هي القرآن الكريم، وينزل معجزات واضحات، كل ذلك ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وينقذكم من الكفر إلى الإيمان ويهديكم الصراط السوى، وإن الله بكم لرءوف رحيم. وأى شيء ثبت لكم غير منفقين في سبيل الله بعد هذا؟! ولله ميراث السموات والأرض وما فيهن، فستخرجون من الدنيا، والله هو الذي يرث الأموال ويعطيها لمن يشاء، ويبقيها عند من يشاء ولن تستفيد إلا ما قدمته من خير، وأما الوارث فأمره عند ربه، وله رزقه وحظه في الدنيا، وكم رأينا من جمع المال الكثير من طريق الحلال أو الحرام ثم تركه لوارثه، فلم يبقه الوارث أكثر من شهور، وأما من جمع فالويل له إن لم يكن قد أدى الزكاة وأنفق في سبيل الله، وتوخى الحق في جمع المال، وكم رأينا أناسا جمعت القليل أو لم تجمع أصلا، وكانت في حياتها مثلا أعلى للمسلم في المعاملة فلم يغش ولم يخادع ولم يكن في جمع المال كحاطب ليل، ثم ترك أولاده ولهم الله فلم يمض غير القليل حتى من الله عليهم بالمال والجاه والغنى والسعادة وَكانَ أَبُوهُما صالِحاً. [الكهف 82] يا أخى ثق أنك لن تغني ابنك، والمورث هو الله وحده فأد حقوق الله واحذر الدنيا والمال!! وليس معنى هذا أن تنفق كل مالك، لا: بل اعمل كما أشار النبي صلّى الله عليه وسلّم على سائله في هذا قائلا معناه: أنفق الثلث والثلث كثير لأن تذر أولادك أغنياء خير من أن تتركهم عالة على الناس يتكففون السؤال. وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ [سورة الإسراء آية 29] . لا يستوي منكم من أنفق من قبل فتح مكة وقاتل وقتئذ مع من أنفق وقاتل بعده أولئك السابقون أعظم درجة عند الله من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلهم خير بلا شك، وقد وعدهم الله الجنة، مثوى لهم، والله بما تعملون خبير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 613 من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا؟ «1» بمعنى: من ذا الذي ينفق ماله في سبيل الله مخلصا متحريا أكرم ماله رجاء أن يعوضه سبحانه بدله كمن يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه الله ويعطيه أجره على الإنفاق مضاعفا أضعافا كثيرة، وله أجر كريم، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون. لهذا المنفق المقرض هذا الأجر الكريم يوم ترى المؤمنين والمؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم، وعن أيمانهم وفي كل جهاتهم، ويقال لهم: بشراكم اليوم دخول جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها، وذلك هو الفوز العظيم، وهل هناك أرفع درجة من هذا؟! المنافقون يوم القيامة [سورة الحديد (57) : الآيات 13 الى 15] يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)   (1) - هذا ندب للإنفاق على صورة بديعة، يؤكد الأمر السابق، ويوبخ من يترك الإنفاق، والاستفهام ليس على حقيقته بل للحث والطلب، والعبارة فيها استعارة في الفعل (يقرض) تبعية أو استعارة في الجملة كلها استعارة تمثيلية، وسنشير في الشرح إلى ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 614 المفردات: انْظُرُونا أى: انتظرونا، وفي قراءة: أنظرونا، أى: أمهلونا، أو انتظرونا. نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ: نستضيء بنوركم. بِسُورٍ: هو حائط بين الجنة والنار. بَلى: نعم. فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ: امتحنتموها بالنفاق واستعملتموها في الفتنة. الْأَمانِيُّ: طول الأمل وامتداد الأجل. فِدْيَةٌ: ما يفتدى به. مَوْلاكُمْ أى: أولى بكم. المعنى: اذكر يوم يقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا، والحال أن نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم يقولون لهم: انظرونا لعلنا نقتبس من نوركم، ونستضيء به، وذلك أنه روى أنه يعطى المؤمنون النور يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط المستقيم، ويستضيء المنافقون بنورهم ولا يعطون النور، فبينما هم يمشون على نورهم- كما كانوا يسيرون ظاهرا معهم في الدنيا- إذ يبعث الله فيهم ريحا وظلمة فيطفئ بذلك نور المنافقين ، ويقول المؤمنون: رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا «1» خوف أن يسلبوا النور كما سلب من المنافقين، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواقع أقدامهم قالوا للمؤمنين: انتظرونا نقتبس من نوركم. قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً والقائل هم الملائكة أو المؤمنون، فلما رجعوا وانصرفوا يطلبون النور ضرب بينهم وبين المؤمنين بسور ضخم باطنه فيه الرحمة لأنه جهة الجنة التي فيها المؤمنون، وظاهره أى: جانبه مما يلي المنافقين من قبله العذاب. ينادى المنافقون المؤمنين قائلين: ألم نكن معكم نصلى ونصوم ونحارب معكم؟ قالوا: بلى! ولكنكم فتنتم أنفسكم وامتحنتموها بالنفاق واستعملتموها في الفتنة وغركم بالله الغرور. فحقّا السعيد من لا يغتر بالطمع ولا يركن إلى الخداع، ومن ذكر المنية وهولها نسى الأمنية وما حولها، ومن أطال الأمل، قصر في العمل، بل غفل عن الأجل وجاء الغرور بالباطل، وقانا الله شره.   (1) - سورة التحريم آية 8. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 615 فاليوم لا يؤخذ منكم فداء، ولا ينفعكم مال ولا بنون، ولا يؤخذ من الذين كفروا كذلك، مأواكم أيها المنافقون النار، هي مولاكم وأولى بكم «1» ، وبئس المصير. وعظ وإرشاد [سورة الحديد (57) : الآيات 16 الى 19] أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19) المفردات: يَأْنِ المراد: ألم يأت وقته، مأخوذ من أن يأنى، وفي قراءة: يئن مأخوذ من آن يئين يقال: آن لك أن تفعل كذا، أى: حان وقرب وقت الفعل. تَخْشَعَ: تذل وتلين، والمراد تمتثل جميع أحكام القرآن. الْأَمَدُ: الزمن. فَقَسَتْ:   (1) - مولاكم هل هي مصدر؟ أى: ولايتكم بمعنى ذات ولايتكم، أو هي ظرف مكاني بمعنى أنه مكانكم الذي يقال فيه «إنه أولى بكم» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 616 صارت قاسية لا تلين. الشُّهَداءُ: جمع شهيد، والمراد به من قتل في سبيل الله، والملائكة تشهد له بالجنة. المعنى: أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم، أى: تلين عند الذكر وسماع القرآن فتفهمه وتنقاد له وتطيعه! أما آن لطائفة من المؤمنين- وهم الذين فترت قلوبهم نوعا ما عن الخشوع- أن تخشع قلوبهم، وتقبل على امتثال أمر الله بأرواح مطمئنة، ونفوس راضية مرضية، لأجل تذكيرهم بالله، ولأجل استماعهم لوعظ القرآن!! روى عن ابن عباس أنه قال: إن الله تعالى استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال سبحانه: أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا ... الآية. وَلا يَكُونُوا «1» كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ نهى الله المؤمنين أن يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبلهم كاليهود والنصارى، فطال عليهم الزمن. وجرفتهم حوادث الأيام فطغت عليهم حتى قست قلوبهم وصارت كالحجارة أو أشد قسوة، وبعدوا بذلك عن الدين الحق فكتبوا كتبا نسبوها لله، والواقع أنها لهم، هذه الكتب فيها شيء من الحق، وكثير من الباطل، فكان منهم لهذا قليل من المؤمنين لم يغيروا ولم يحرفوا، وكثير منهم فاسقون. فيا أيها المسلمون: لا تكونوا كهؤلاء، وقد كان المسلمون كذلك- حافظوا على القرآن، ولم يغيروا فيه، ولم يبدلوا، ولقد صدق الله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ، والحمد لله كان للأزهر نصيب كبير في المحافظة على عقائد المسلمين ألا ترى إلى عقائد كثير من المسلمين في إيران والعراق وغيرهما، وإن كان الأزهر الآن، يجحد فضله الكثير من المصريين، ولا يعرف فضله حقيقة إلا في غير مصر. أيها المسلمون: لقد عاتب الله المؤمنين في العصر الأول بهذه الآية، ونحن نعرف للرعيل الأول كله على العموم فضله وسبقه وحسن إيمانه، وكمال إسلامه فما بالنا نحن   (1) - لا الناهية والواو عاطفة للفعل المنفي بلا على تخشع، ولذا نصب، ويصح أن تكون لا ناهية والفعل مجزوم بها وصحح هذا قراءة: ولا تكونوا بالتاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 617 الآن!! ألم يأن لنا أن نعود إلى القرآن!، ألم يأن للمسلمين جميعا في مشارق الأرض ومغاربها أن يهتدوا إلى الحق، وإلى الصراط المستقيم! ألم يأن لهم أن يثوبوا إلى رشدهم، ويعودوا إلى صوابهم مرة ثانية؟؟ ولا غرابة في ذلك، ولا عجب فالله يحيى الأرض الجدبة بعد موتها بالنبات والزرع، وهو القادر على أن يحيى القلوب الميتة بالصدق والإخلاص وحسن الخشوع، وقوة الإيمان، قد بين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون. إن الذين تصدقوا من الرجال والنساء، وأقرضوا الله قرضا حسنا، حيث بذلوا أموالهم خالصة لوجه الله، لا يريدون جزاء ولا شكورا، هؤلاء يضاعف لهم أجرهم أضعافا، ويعطون في مقابلة الحسنة عشر أمثالها، وقد يزاد على ذلك إلى سبعمائة ضعف، ولهم أجر كريم، وثواب جزيل، والذين آمنوا بالله ورسوله إيمانا صادقا كاملا أولئك- والإشارة إلى بعد مرتبتهم وكمال جزائهم- هم الصديقون والشهداء عند ربهم أى: أولئك عند ربهم وفي حكمه بمنزلة الصديقين والشهداء المشهورين بعلو الرتبة ورفعة المحل، والصديقون هم الذين سبقوا إلى الإيمان ورسخوا فيه، والشهداء هم الذين استشهدوا في سبيل الله، وسموا بذلك لأن الله والملائكة شهدوا لهم بالجنة، وقيل: لأنهم أحياء فهم شهود، لهم أجرهم الكامل ونورهم الذي يسعى بين أيديهم وبأيمانهم. والذين كفروا بالله ورسوله، وكذبوا بآياته القرآنية، والكونية، أولئك- والإشارة لبعد منزلتهم في النار- أصحاب النار الخالدون فيها الملازمون لها، وهي لهم وبئس القرار قرارهم. حقيقة الدنيا والآخرة [سورة الحديد (57) : الآيات 20 الى 21] اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 618 المفردات: لَعِبٌ وَلَهْوٌ: هما شيء واحد، وقيل: اللعب: ما رغب في الدنيا، واللهو: ما شغل عن الآخرة. وَزِينَةٌ الزينة: ما يتزين به من اللباس والحلي ونحوها. وَتَفاخُرٌ: التباهي بالأموال والأولاد. غَيْثٍ: مطر. الْكُفَّارَ أى: الزراع. وسمى الزارع كافرا لأنه يستر البذر في الأرض وقيل: هم غير المسلمين. يَهِيجُ: يتحرك إلى أقصى ما يتأتى له. حُطاماً أى: هشيما متكسرا من اليبس. المعنى: الدنيا الغرور هي سبب البعد عن الدين، الدنيا الفانية هي التي يؤثرها ضعفاء العقول والنفوس على الآخرة الباقية، وهي سبب الإعراض عن الله، والبعد عن الخشوع، وحبها رأس كل خطيئة، وهي مركب الشيطان بها يعد الإنسان بالفقر ويأمره بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلا، فالدنيا هي سبب قسوة القلب، وتغيير الذمم، وتحريف أهل الكتاب الكلم من بعد مواضعه، وهي التي تدعو إلى الشح وعدم البذل، هذه الدنيا ما هي!! أليس من الخير أن نعرفها على حقيقتها. اعلموا أيها الناس أن الدنيا عرض زائل، ومتاع حائل كل ما فيها لعب يتعب صاحبه، ولا خير فيه كلعب الصبيان، وكل ما فيها لهو يشغل الإنسان عما ينفعه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 619 ويفيده، وهي لعب ولهو، ومتاعها زينة يتزيا به الجهلاء والكفار، مع أن زينة العقلاء السعداء هي إيمان راسخ، ويقين ثابت وذكر صاحب النعم وإيمان بوجوده وجودا ذاتيا كاملا وإيمانه بكتبه ورسله واليوم الآخر ذلك هو الإيمان وتلك زينة المؤمنين بالله ورسله وهي كذلك تفاخر بالأحساب والأنساب وتكاثر في جمع الأموال والأولاد هذه هي مشاغل الدنيا الفانية الزائلة فكل ما يشغل عن الآخرة فهو الدنيا أما الدنيا عند المؤمن الصحيح فهي قنطرة الآخرة وممر لها يعمل فيها وينتفع ببعض مباهجها وزينتها ولكنه دائما يذكر الله ولا ينساه، ويستعين بالدنيا على تحصيل الثواب والأجر الذي ينفعه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم. هذه الدنيا الفارغة سريعة الزوال والانصرام. فهي كمثل غيث نزل بأرض فأنتج زرعا أعجب الكفار نباته أما المسلمون حقا فهم لا يعجبون به ولا يغترون بل إذا رأوه قالوا: ما شاء الله ولا قوة إلا بالله! وذكرهم هذا بربهم الواحد الأحد. عيون من لجين شاخصات ... على أطرافها ذهب سبيك على قضب الزبرجد شاهدات ... بأن الله ليس له شريك والكافر لا يتخطى نظره الماديات وقيل: المراد بالكفار: هم الزراع مطلقا، هذا النبات الذي أعجب الزراع لا يلبث أن تراه قد هاج ووصل إلى أقصى ما يتأتى له، فتراه عقيب ذلك مصفرّا ينذر بالنهاية، ثم يكون حطاما متكسرا يابسا بعد خضرة يانعة، كل ذلك في وقت وجيز. هكذا الدنيا تقبل سريعة ثم تزداد وتقوى زمنا يسيرا ثم تراها وقد انفضت من حولك أو خرجت منها، كما يخرج الإنسان من الدنيا صفر اليدين إلا من العمل الصالح. وفي الآخرة عذاب شديد للعصاة والمذنبين، وفيها مغفرة ورضوان من الله كبير وما الحياة الدنيا إلا متاع يغتر به من يطمئن له. سابقوا أيها العقلاء إلى ما يكون سببا للمغفرة «1» والرضوان من ربكم، وسارعوا مسارعة السابقين إلى جنة عرضها كعرض السماء والأرض، أعدت للذين آمنوا بالله   (1) - مجاز مرسل علاقته السببية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 620 ورسوله وعملوا الخير كالإنفاق في السراء والضراء وكظم الغيظ والعفو عن الناس. وعمل الطيبات. ذلك فضل من الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. الأمر كله لله [سورة الحديد (57) : الآيات 22 الى 24] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24) المفردات: مُصِيبَةٍ هي لغة: كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر، وخصها العرف بالشر. نَبْرَأَها: نخلقها. تَأْسَوْا: تحزنوا. مُخْتالٍ فَخُورٍ: المتكبر، والفخور: المباهي بماله أو جاهه. المعنى: يعالج القرآن الكريم مرضا في النفوس قد يحول دون الجهاد والبذل في سبيل الله، فإن الإنسان قد يترك هذا خوفا من الفقر أو القتل، ولكنه إذا علم أن للقدر سهاما لا ترد، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 621 وأن ما قدر لا بد أن يكون.. قاتل بقلب المؤمن الواثق في الله، وأنفق عن سعة واثقا أن في السماء الرزق، وأن الجود لا يفقر، وأن الإقدام لا يقتل إذ الأمر كله لله أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ «1» ما أصابتكم مصيبة في الأرض أيا كان نوعها من جدب أو هلاك حرث أو نسل أو إصابة في أنفسكم كمرض أو قتل أو فقر، ما أصابت الخلق إصابة إلا كانت في كتاب من قبل أن نخلقها، وتظهر للعيان، فالدنيا رواية تظهر على الخيالة، ولكنها أعدت من قبل أن يخلق الخلق، إن ذلك كله على الله يسير. أخبركم الحق- تبارك وتعالى- لكيلا تحزنوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، فإن من علم أن ما قدر أزلا لا بد من حصوله حتما لم يفرح لشيء لم يكن ليخطئه، ولا يحزن على شيء لم يكن ليدركه، فالمؤمن عند المصيبة يصبر، ومع الغنيمة يشكر، والفرح والحزن المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى ما لا يجوز، والله لا يحب كل متكبر مغتر بنفسه، فخور بماله أو جاهه على الناس فإن النعمة من الله لا من نفسه. والمختال الفخور غالبا يكون بخيلا لأنه لا يرى لغيره حقا عليه، على أنه شحيح النفس قصير العقل ويأمر الناس بالبخل، وينهاهم عن البذل، ومن يعرض عن تلك الأدوية الإلهية، فإن الله هو الغنى عنه، المحمود في السماء والأرض فليس في حاجة إليه. أسس الحكم في الإسلام [سورة الحديد (57) : آية 25] لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)   (1) - سورة النساء آية 78. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 622 المعنى: تالله لقد أرسلنا رسلنا كلهم بالحجج والمعجزات، مؤيدين بالبرهان والآيات وأنزلنا معهم الكتاب، أى: جنسه الشامل لكل كتاب كالتوراة والزبور والإنجيل والقرآن وأنزل معهم الميزان، أى: العدل في الأحكام، أى: أمر الرسل بذلك وهم أولو الأمر ومن يأتى بعدهم خلفا لهم كذلك، إذ هم الحراس على تنفيذ الأحكام. أنزل الكتب من السماء، وأمر بالعدل في كل شيء ليقوم الناس بالقسط في معاشهم ومعادهم، وفي كل أمورهم الدينية والدنيوية. وأنزل الحديد- خلقه وأنشأه- فيه بأس شديد، وقوة صارمة. الله سبحانه قرن إنزال الكتب، والأمر بالعدل بإنزال الحديد، وفي هذه إشارة إلى أن الكتاب يمثل القوة التشريعية، والعدل يمثل القوة القضائية، وإنزال الحديد يمثل القوة التنفيذية، فإن تشريع السماء لا بد له من قاض يحكم به بالعدل، ولا بد لها من قوة تنفذ حكمها، فإن الحق وحده لا يسير إلا بالقوة، وكل ذلك ليقوم الناس بالقسط فإن الظلم من شيم النفوس وطبائعها. وفي الحديد بأس شديد، وفيه منافع للناس. أليس هذا الكلام من أربعة عشر قرنا، في الوقت الذي لم يعرف العالم للحديد فيه كل منافعه، أليس هذا دليلا صادقا على أن محمدا ما قال هذا الكلام من عنده، وإنما هو الوحى الصادق من عند الله العالم بكل شيء، وأما منفعة الناس بالحديد فأمر ظاهر معروف لكل من عاش في هذا العصر، خلق الله كل ذلك لينتفع الناس، وليعلم الله من ينصره، وينصر رسله بالغيب، يا سبحان الله! كأن الله شرع الأحكام، وأمرنا بالعدل فيها ثم أرشدنا إلى السلاح والحديد لنعلم أنه لن تقوم قيامة هذا الدين إلا بالجهاد والاستعداد التام للحرب، والاستعداد للحرب يمنع الحرب كما يقولون، ولقد أضمر الله لفظ «لينتفع الناس» «1» وأظهر قوله: وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ للإشارة إلى أن هذا هو المقصود وأن نفع الناس نفعا ماديا مقدمة له، إن الله لقوى عزيز، وهذا تذييل محكم في   (1) - هي المعطوف عليه، وهي مقدرة قطعا لوجود العاطف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 623 نهاية الآية للإشارة إلى أن تكليفهم الجهاد وتعريضهم للجهاد وتعريضهم للقتال ليس عن حاجة له سبحانه، ولكن لينتفعوا هم بالجرأة على الجهاد. الغرض من إرسال الرسل [سورة الحديد (57) : الآيات 26 الى 29] وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 624 المفردات: قَفَّيْنا قفى أثره: اتبعه، وقفى على أثره بفلان: أتبعه إياه، وعليه قوله: قفينا على آثارهم برسلنا، والمراد جعلناهم تابعين متأخرين عنهم في الزمان. رَأْفَةً وَرَحْمَةً وهما: شيء واحد، قال بعضهم: إذا اجتمعا كانت الرأفة درء الشر ورأب الصدع، وكانت الرحمة جلب الخير والمودة. وَرَهْبانِيَّةً الرهبنة والرهبانية: هي المبالغة في العبادة والرياضة الروحية، والانقطاع عن الناس مع حمل النفس على المشقة والامتناع عن لذيذ المطعم والمشرب والنكاح. كِفْلَيْنِ الكفل: الحظ والنصيب: وهو في الأصل كساء يكتفل به الراكب فيحفظه من السقوط، وعلى ذلك فالمراد: يؤتكم نصيبين يحفظانكم من هلاك المعاصي. المعنى: وتالله لقد أرسلنا نوحا، وهو الأب الثاني للبشر، وأرسلنا إبراهيم وهو أب العرب، وجعلنا في ذريتهما النبوة والكتاب، فكل الأنبياء من نسلهما، فكان من الذين أرسل إليهم رسل مهديون، وكان كثير منهم فاسقون، وتلك سنة الله مع الأنبياء جميعا، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ثم أتبعناهم بعيسى بن مريم، فجاء متأخرا عنهم في الزمان، وآتيناه الإنجيل الصحيح الذي لم يحرف بعد، لا الإنجيل الذي هو موجود عند المسيحيين اليوم، فإن فيه التثليث والصلب، والله هو الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، والله قد نجى الأنبياء أولى العزم من أعدائهم وعصمهم من الكفار بهم فنجى نوحا من الغرق، ونجى إبراهيم من النار، ونجى موسى من فرعون، ونجى عيسى من اليهود، ونجى محمدا من كيد المشركين، وكفاهم جميعا شر المستهزئين، على أن نظرية الصلب التي في الإنجيل الموجود نظرية دليل بطلانها معها، ولا يقبلها عقل، ولا تقرها شريعة، ولكن أكثر الناس لا يعلمون وجعل ربك في قلوب حوارى المسيح وأصحابه السابقين رأفة ورحمة «رحماء فيما بينهم» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 625 وجعل في قلوبهم رهبانية مبتدعة لهم، فهم ابتدعوا رهبانية من عند أنفسهم، ما فرضناها عليهم رأسا، ولكن ابتدعوها وألزموا بها أنفسهم ابتغاء رضوان الله «1» فما رعوها حق رعايتها وما حافظوا عليها إذ أصبحت كالنذر عندنا، والنذر يذم صاحبه إذا ترك الوفاء به، والذين لم يرعوها هم المتأخرون، والذين ابتدعوها هم السابقون. فآتينا الذين آمنوا منهم إيمانا صحيحا سليما- سواء مات قبل النبي صلّى الله عليه وسلّم أو عاش حتى أسلم به- أجرهم، وكثير منهم فاسقون لأنهم لم يؤمنوا بالإنجيل الصحيح فلم يؤمنوا بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. يا أيها الذين آمنوا بالله ورسله وداوموا على تقوى الله وعلى الإيمان بالرسول صلّى الله عليه وسلّم إن تفعلوا ذلك يؤتكم بسبب ذلك نصيبين عظيمين يكفلان لكم الخلوص من هلاك المعاصي، ويجعل لكم نورا تمشون به، ويغفر لكم، والله غفور رحيم، وقيل المعنى: يا أيها الذين آمنوا بعيسى اتقوا الله وآمنوا بمحمد يؤتكم كفلين من رحمته كفل على الإيمان بعيسى وكفل على الإيمان بمحمد صلّى الله عليه وسلّم. أعلمناكم بذلك ليعلم أهل الكتاب القائلون من آمن بكتابكم منا فله أجران ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم ليعلم هؤلاء أنهم لا ينالون شيئا من فضل الله، أى: من الأجرين أو غيرهما، ولن يصيبهم خير ما لم يؤمنوا بالنبي صلّى الله عليه وسلّم فإيمانهم بالنبي عيسى لا ينفعهم بعد بعثة خاتم الأنبياء والمرسلين، فقولهم للمسلمين: من لم يؤمن بكتابكم منا فله أجر: باطل باطل. واعلموا أن الفضل بيد الله وحده يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.   (1) - على هذا المعنى تكون جملة (ما كتبناها عليهم) صفة رهبانية، و (إلا ابتغاء) استثناء منقطع، ويصح أن يكون متصلا على معنى: ما قضيناها عليهم وجعلناهم يبتدعونها لشيء من الأشياء إلا ليبتغوا رضوان الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 626 سورة المجادلة مدنية على الصحيح، وعدد آياتها اثنتان وعشرون آية. وهي كيفية السور المدنية تعالج أمراض المجتمع ببيان التشريع السليم للمشكلات وبيان الآداب الإسلامية في المجتمعات، مع لفت أنظار المسلمين إلى أعدائهم في الدين وتحديد علاقتهم بهم. الظهار وحكمه وكفارته [سورة المجادلة (58) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَزُوراً وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 627 المفردات: تُجادِلُكَ: تراجعك. يَظْهَرُونَ أى: يقولون لنسائهم: أنت على كظهر أمى، أى: في الحرمة. مُنْكَراً أى: قولا منكرا ينكره الشرع، ويأباه الطبع السليم. وَزُوراً: كذبا وبهتانا. فَتَحْرِيرُ أى: فعتق إنسان مؤمن كامل. أَنْ يَتَمَاسَّا أى: بالنكاح أو المتعة. تُوعَظُونَ أى: تزجرون به حتى لا تعودوا لمثله أبدا. كانت خولة بنت خويلد «1» الخزرجية تحت أوس بن الصامت أخى عبادة بن الصامت، وكانت حسنة الجسم فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها، فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها- قال الراوي: وكان أوس شخصا به شيء من جنون- فأصابه بعض حالاته فقال لها: أنت على كظهر أمى! وكان الإيلاء- وهو حلف الرجل على امرأته ألا يطأها مدة- والظهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت خولة- وقد سمعت زوجها يظاهرها- النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ذلك فقال لها: «حرمت عليه» فقالت: والله ما ذكر طلاقا، ثم قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمى، وقد نفضت له بطني، فقال النبي: «حرمت عليه» فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزلت عليه هذه الآية. المعنى: قد سمع الله قول المرأة التي تجادلك في شأن زوجها- وهي خولة بنت ثعلبة- والحال أنها تشتكي إلى الله ضعفها وقلة حيلتها، وفراقها لزوجها ووحشتها، والله هو السميع بذاته لكل مسموع، البصير بذاته لكل مبصر، تقول عائشة- رضى الله عنها-: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إنى لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى على بعضه، وأنا وهي في حجرة واحدة، سمعتها وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله قائلة: يا رسول الله أكل شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سنى وانقطع ولدي ظاهر   (1) - وفي رواية هي خولة بنت ثعلبة، ولا حرج إذ قد تنسب المرأة إلى أبيها أو جدها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 628 منى، اللهم إنى أشكو إليك! فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية. فحقّا: إن الله سميع بصير بخلقه. هذه الفعلة التي هي عملية الظهار- قول الرجل لزوجه: أنت علىّ كظهر أمى- فتصبح محرمة عليه، ولا تعود إلا إذا كفّر كما سيأتى- هذه الفعلة ما حكمها؟. الواقع أن الظهار ممقوت شرعا، وهو قول منكر وزور، إذا أمك هي التي ولدتك وزوجك هي زوجك فلا يصح أن تجعل زوجك محرمة عليك كأمك أبدا. أبعد أن يقول الله: إن الظهار منكر من القول وزور وبهتان، وإنه لعفو غفور عما فرط؟ هل يشك عاقل في أن الظهار أمر محرم شرعا ولا يصح فعله؟ وَالَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ ... وهذا تفصيل لحكم الظهار، وبيان لحكمه الخاص بعد بيان حكمه العام الذي يفيد أنه منكر وزور. والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لقولهم، أى: فيه، فعليهم كفارة شديدة والعود في الظهار لأنه مطلق في الآية اختلف فيه أئمة الفقه الإسلامى فالعود عند الشافعى يحصل بإمساك الزوجة المظاهر منها زمانا بعد الظهار يمكنه مفارقتها فيه ولم يفعل، فيعتبر عائدا في ظهاره، أى: أنه ظاهر ولم يتبعه بطلاق فيكون عائدا، وعند الأحناف يحصل باستباحته الاستمتاع بها مطلقا، وعند مالك يحصل بالعزم على الجماع وعند بعضهم بالجماع نفسه، والآية تحتمل كل هذا، ولم تخصص السنة الصحيحة شيئا. هذه الكفارة الواجبة على الزوج المظاهر العائد في ظهاره هي: عتق رقبة مؤمنة سليمة من كل عيب، هذا العتق يكون قبل أن يتماس الزوجان بالوطء، فلا يقرب المظاهر من امرأته ولا يباشرها ولا يتلذذ بها بشيء حتى يكفر، خلافا لمن يقول: المحرم الوطء فقط، فإن وطئها قبل التكفير استغفر الله وأمسك حتى يكفر كفارة واحدة فقط وإن وطئها مرارا، ذلك- والإشارة إلى هذه الكفارة المشددة- تؤمرون به، وتزجرون عن ارتكاب مثل هذا المنكر، فليس هذا الحكم المشدد لتكتسبوا ثوابا، بل هو للردع والزجر عن ارتكاب ما يسببه الظهار فمن لم يجد الرقبة ليعتقها فعليه صيام شهرين متتابعين فإن أفطر فيهما لعذر قيل: لا ينقطع التتابع، وقيل: ينقطع، أما إفطاره الجزء: 3 ¦ الصفحة: 629 لغير عذر شرعي فإنه يقطع التتابع ويعيد من الأول، وهذا الصيام من قبل أن يتماسا كما في الكفارة، فمن لم يستطع فعليه إطعام ستين مسكينا من قبل أن يتماسا، لكل مسكين مد، وقيل: بل أكثر من المد «1» ، والمراد إشباع ستين مسكينا يوما بغالب قوت البلد. ذلك الذي وصفناه من التغليظ في الكفارة لتكونوا مطيعين لله تعالى، واقفين عند حدود الشرع لا تتعدوها، لئلا تعودوا للظهار الذي هو منكر شرعا وزور وبهتان، إذ فيه انفصام عرى الزوجية، والشرع حريص كل الحرص عليها، وسمى التكفير إيمانا لأنه طاعة، وتلك حدود الله التي تبين معصيته من طاعته، فالظهار معصية بلا شك والكفارة له طاعة، وللكافرين بأحكام الشرع عذاب أليم في جهنم. الله بكل شيء محيط [سورة المجادلة (58) : الآيات 5 الى 7] إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَلِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَلا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)   (1) - المد: نصف قدح بالكيل المصرى، وعلى هذا فالملوة أربعة أمداد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 630 المفردات: يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ: يعادونهما ويشاقونهما لأن كلا من المتعادين يكون في حد وجهة. كُبِتُوا: أهينوا وذلوا. نَجْوى المراد: التناجي، أى: المسارة، مأخوذ من النجوة: وهي ما ارتفع من الأرض لأن المتسارين يخلوان بنجوة من الأرض. المعنى: أن الذين يحادون الله ورسوله، ويعادونهما بمخالفتهما، واتخاذ حدود غير حدودهما، وأحكام غير أحكامهما، هؤلاء كبتوا وأذلوا، وسيجزيهم الله خزيا مؤكدا، كما أذل من قبلهم من الكفار وأخزاهم، والحال أنا قد أنزلنا آيات بينات واضحات في من حاد الله ورسوله من الأمم قبلهم، وفيما فعلنا بهم، وللكافرين بتلك الآيات- ويدخل معها آيات القرآن من باب أولى- عذاب مهين يذهب بعزهم وكبرهم يوم يبعثهم الله جميعا بحيث لا يبقى منهم أحد، فينبئهم بما عملوا من القبائح. كيف ينبئهم بأعمالهم كلها؟ الجواب: أحصاه الله تعالى عددا، ولم يفته- سبحانه- منه شيء، والحال أنهم قد نسوه، والله على كل شيء شهيد، لا يغيب عنه أمر من الأمور. هذا استشهاد آخر على شمول علمه، ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم، بمعنى ما يقع من تناجى ثلاثة أو مسارة بينهم إلا كان الله رابعهم فيعلم نجواهم كما لو كان رابعهم في التناجي، ولا تكون النجوى بين خمسة إلا هو سادسهم، ولا أدنى من ذلك عددا، ولا أكثر إلا هو معهم بذاته علما وإحاطة أينما كانوا، ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة، ويجازيهم عليه، إن الله بكل شيء عليم، وهذا تذييل محكم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 631 آداب المناجاة في الإسلام [سورة المجادلة (58) : الآيات 8 الى 10] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَيَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَناجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10) المفردات: بِالْإِثْمِ: هو ما حاك في صدرك وخفت أن يطلع عليه غيرك. الْعُدْوانِ المراد: عداوة الرسول والمسلمين. حَيَّوْكَ المراد: خاطبوك بالتحية، وفي المصباح: حياة تحية دعا له بالحياة، ومنه التحيات لله، أى: البقاء، ثم كثر استعمالها في مطلق الدعاء، ثم استعملت شرعا في دعاء مخصوص وهو: السلام عليكم. حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ: كافيهم عذابها. بِالْبِرِّ وَالتَّقْوى أى: بالطاعة والبعد عما نهى الله. سبب النزول: قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فيقول المؤمنون: لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل أو مصيبة أو هزيمة أو يسوؤهم ذلك فشكوا إلى رسول الله فنهاهم- أى: اليهود والمنافقين- عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت الآية: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 632 وروى البخاري أن اليهود أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فقالوا: السام عليك- أى: الموت عليك- قالت عائشة: ففهمتها. فقلت: عليكم السام ولعنكم الله، وغضب عليكم، فقال- عليه الصلاة والسلام-: مهلا يا عائشة، عليك بالرفق، وإياك والعنف والفحش، قالت: أو لم تسمع ما قالوا؟ قال: أو لم تسمعي ما قلت ورددت عليهم؟ فيستجاب لي فيهم، ولا يستجاب لهم وفي رواية أخرى: فأنزل الله تعالى: وَإِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ. المعنى: إن أمر هؤلاء الذين يؤمرون بترك شيء، وينهون عنه ثم يعودون إليه- إن أمر هؤلاء- لعجيب. ألم تر إلى الذين نهوا عن النجوى من المنافقين واليهود؟! حينما شكاهم المسلمون للنبي صلّى الله عليه وسلّم فنهاهم عن ذلك، فعادوا لمثل فعلهم أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ؟! «1» ، ومع ذلك فهم يتناجون بما هو إثم عند أنفسهم، ووبال عليهم لأن ضرره عائد لهم، وبما هو عدوان على المؤمنين، وبما هو تواص بمخالفة الرسول صلّى الله عليه وسلّم انظر إلى هؤلاء أيها المسلم، واحذر أن تكون ممن يتناجى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول التي هي رمز لانتهاك القانون العام. ولقد جر ذكر بعض صفاتهم إلى ذكر صفة أخرى، تدل على سوء القصد، وخبث النية، فهؤلاء المنافقون واليهود كان يأتى بعضهم إلى النبي، ويحييه بتحية لم يشرعها الله، ولم يأذن بها، وهي قولهم: السام عليك، يريدون الدعاء عليه بالموت والهلاك، فكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يرد عليهم قائلا: وعليكم. ويا ليتهم وقفوا عند هذا الحد، بل يقولون في أنفسهم: هلا يعذبنا الله بما نقول! والمراد لو كان محمد نبيا لعذبنا الله بسبب قولنا هذا. والله يرد عليهم بقوله الفصل: حسبهم جهنم وكفى! يدخلونها، ويصطلون بنارها، فبئس المصير مصيرهم.   (1) - الاستفهام في الآية للإنكار والتعجب، والتعبير بالمضارع في (يعودون) للدلالة على تكرار عودتهم وتجددها واستحضار صورتها العجيبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 633 يا أيها الذين آمنوا: إن مقتضى هذا الإيمان أن تمتثلوا أمر الله، وتبتعدوا عن كل ما يتنافى مع الإيمان الصحيح وخاصة التناجي بالإثم والعدوان، فلا تتناجوا كما يتناجى المنافقون واليهود، ولكن تناجيكم المشروع بالبر والتقوى، وبالخير الصالح، واتقوا الله في السر والعلن فإنه مطلع عليكم، ثم إليه تحشرون. روى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون الآخر حتّى تختلطوا بالنّاس من أجل أن يحزنه» أى: من أجل أن يقع في نفسه ما يحزن لأجله إذ كثيرا ما يفهم أن الحديث عنه بما يكره. إنما التناجي سرّا أى: مع وجود من يظن شرّا من تزيين الشيطان ليحزن الذين آمنوا إذ قد فهموا من تناجى اليهود والمنافقين أن إخوانهم أصيبوا بشر، وليس التناجي بضارهم في شيء إلا بإذن الله، وعلى الله وحده فليتوكل المؤمنون، انظر إلى أدب القرآن في المناجاة، وكيف يوجهها إلى البر والتقوى، ويمنعها عن الإثم والعدوان؟! من أدب الإسلام في المجالسة [سورة المجادلة (58) : آية 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11) المفردات: تَفَسَّحُوا: توسعوا، يقال: فسح فلان لأخيه في مجلسه يفسح فسحا، أى: وسع له. انْشُزُوا يقال: نشز ينشز: إذا انتحى من موضعه، أى: ارتفع منه، وامرأة ناشز، أى: منتحية عن زوجها، وأصل النشز: ما ارتفع من الأرض وتنحى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 634 المعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله، وتحلوا بالخلق القرآنى: إذا قيل لكم: توسعوا في المجالس لإخوانكم فوسعوا يوسع الله لكم، فمن أفسح لأخيه في مجلسه، وأكرمه وسع الله عليه وأكرمه إذ الجزاء من جنس العمل. روى أن هذه الآية نزلت يوم الجمعة، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يومئذ في الصفة وفي المكان ضيق، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار فجاء أناس من أهل بدر فيهم ثابت بن قيس بن شماس، وقد سبقوا في المجلس، فقاموا حيال النبي صلّى الله عليه وسلّم على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم، فلم يفسحوا لهم، فشق ذلك على النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال لمن حوله من غير أهل بدر: قم يا فلان وأنت يا فلان» بعدد القائمين من أهل بدر، فشق ذلك على من أقيم، وعرف النبي صلّى الله عليه وسلّم الكراهية في وجوههم، فغمز المنافقون وتكلموا بأن قالوا: ما أنصف هؤلاء وقد أحبوا القرب من نبيهم فسبقوا إلى المكان، فأنزل الله- عز وجل- هذه الآية. فمن الآداب الإسلامية أن المكان لمن سبق، وأن الرجل لا يقام من مجلسه ليجلس فيه آخر، ولكن من الأدب أن تفسح لأخيك في المجلس، توسع له من غير أن تضار. وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للقادم: فمنهم من أجازه محتجاّ بحديث «قوموا إلى سيّدكم» وقيل: هذا في الحاكم ورئيس القوم بشرط ألا يتخذ عادة وشعارا كما نفعل الآن، ومنهم من منع ذلك محتجاّ بحديث «من أحبّ أن يتمثّل له الرّجال قياما فليتبوّأ مقعده من النّار» . وكان النبي صلّى الله عليه وسلّم يجلس حيث ينتهى به المجلس. وإذا قيل لكم: انشزوا، وانهضوا للخير فانشزوا وارتفعوا يرفع الله الذين آمنوا منكم- وخاصة العلماء- يرفعهم درجات في الدنيا والآخرة، والله بما تعملون خبير. نجوى الرسول [سورة المجادلة (58) : الآيات 12 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 635 المفردات: أَأَشْفَقْتُمْ: أخفتم الفقر من تقديم صدقة بين يدي نجواكم؟ كان النبي صلّى الله عليه وسلّم سمحا كريم الخلق لين الجانب لهذا كثرت مناجاة الناس له في غير حاجة، وما دفع أكثرهم إلا حب الناس التظاهر فنزلت هذه الآية. المعنى: يا أيها الذين آمنوا إذا أردتم مناجاة الرسول والتحدث إليه سرّا في أمر من الأمور، فقدموا بين يدي «1» نجواكم صدقة، أى: فتصدقوا قبلها، ولعل السر في ذلك تعظيم الرسول، ونفع الفقراء، وتمييز المخلص من المنافق، ومنع تكاثر الناس عليه بدون حاجة، وذلك التقديم خير لكم وأطهر، فإن لم تجدوا شيئا فإن الله غفور رحيم، وهل الأمر في ذلك للندب، أو هو للوجوب ثم نسخ بالآية الآتية؟ قولان: على أن الصدقة هنا لم تحدد لتشمل القليل والكثير، والمشهور أنه لم يعمل بهذه الآية غير علىّ، فقد روى عن علىّ- رضى الله عنه- أنه قال: إنه في كتاب الله تعالى آية ما عمل بها أحد قبلي، ولا يعمل بها أحد بعدي هي آية النجوى يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ.   (1) - في الكلام استعارة بالكناية حيث شبه النجوى بالإنسان وحذفه ورمز إليه بشيء من لوازمه، وهو اليد، ويصح أن يكون في التركيب استعارة تمثيلية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 636 فلما نزل قوله تعالى: أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ قال صلّى الله عليه وسلّم: «خفّف الله عن هذه الأمّة» . وهكذا الإنسان شحيح بطبعه، محب للمال بغريزته، فإن لم تفعلوا ما ندبتم إليه أو ما أمرتم به هنا، وقد تاب عليكم، ورخص لكم المناجاة بدون صدقة، مع أنها خير لكم وأطهر إن لم تفعلوا فأقيموا الصلاة لتقوم نفوسكم، وأدوا الزكاة لتطهر أموالكم، وتحصنها، وأطيعوا الله ورسوله، والله خبير بما تعملون. ومن هنا يجب أن نعلم أنه يستحسن أن تقدم خيرا عند طلبك من الله شيئا وقبل دعائك له! موالاة غير المؤمنين [سورة المجادلة (58) : الآيات 14 الى 22] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَلا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 637 المفردات: اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ: غلب على عقولهم. حِزْبُ الشَّيْطانِ: أتباعه وأنصاره. يُوادُّونَ: يصادقون. أَوْ عَشِيرَتَهُمْ العشيرة: هي الأهل والأقارب. بِرُوحٍ مِنْهُ: بقوة وطمأنينة من عنده. المعنى: انظر يا من يتأتى منه النظر- متعجبا- إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم، وهم اليهود، وقد تولاهم المنافقون يسرون إليهم بالمودة، ويحلفون لهم إنهم لمعكم، ويعلم الله أن المنافقين لكاذبون، كيف يتولون قوما غضب الله عليهم؟ حالة كونهم ما هم منكم، ولا منهم، أى: هؤلاء الذين تولوا اليهود ليسوا من المؤمنين الخلص، ولا من الكافرين الخلص بل هم مذبذبون بين ذلك، لا إلى هؤلاء، ولا إلى هؤلاء «1» .   (1) في هذا إشارة إلى أن «ما هم منكم ولا منهم» جملة حالية من فاعل (تولوا) ويصح أن تكون استئنافية، والمعنى واحد، ويصح أن تكون صفة لقوم، والمعنى: قوما هم اليهود ليسوا منكم أيها المسلمون ولا من المنافقين، ومع هذا تولوهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 638 روى أن هذه الآية نزلت في عبد الله بن نبتل، المنافق- وكان أزرق أسمر قصيرا خفيف اللحية- وكان صلّى الله عليه وسلّم يجالسه، ثم يرفع حديثه إلى اليهود، فبينا نحن جلوس مع النبي في إحدى حجراته إذ قال: «يدخل عليكم الآن رجل قلبه جبّار وينظر بعيني شيطان» فدخل عبد الله بن نبتل، فقال النبي له: علام تشتمني أنت وأصحابك؟ فحلف بالله ما فعل، فقال له النبي: «فعلت» فانطلق فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما سبوه، فنزلت الآية . وهذا معنى قوله تعالى: وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ «1» نعم حلفوا بالله أيمانا فاجرة، وهم يعلمون أنهم كاذبون، وتلك هي اليمين الغموس. هؤلاء أعد الله لهم عذابا شديدا، وهو الدرك الأسفل من جهنم، إنهم بئس العمل عملهم؟ هؤلاء اتخذوا أيمانهم الفاجرة الكاذبة جنة ووقاية لهم حتى أمنوا القتل، وفي قراءة «إيمانهم» أى: الظاهري كان وقاية لهم من القتل، فصدوا المؤمنين عن سبيل الله، وهو جهادهم بقتلهم وأخذ أموالهم، وقيل: صدهم عن سبيل الله بإلقاء الأراجيف وتثبيط المسلمين عن الجهاد وتخويفهم من القتل، وقد كان المنافقون كذلك، ويترتب عليه أن لهم عذابا ذا إهانة في الدنيا والآخرة، لن تنفعهم أموالهم التي جمعوها، ولا أولادهم الذين يعتزون بهم، ولن يغنوا عنهم من عذاب الله شيئا من الإغناء، وكيف تنفعهم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون؟ أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون. اذكر يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له أنهم مؤمنون، وما علموا أن ذلك لا ينفعهم أبدا ولا يليق بعاقل أبدا، يحلفون لله كما يحلفون لكم، ويحسبون أنهم على شيء من منفعة بسبب يمينهم، ألا إنهم هم الكاذبون المبالغون في الكذب، حيث كذبوا بين يدي علام الغيوب يوم القيامة في الحال التي يؤمن فيها الفاجر، فلا عجب إذ يحلفون لكم الآن، ولسائل أن يسأل عن السبب في هذا، والجواب: أنه استحوذ عليهم الشيطان فملك عنانهم، وغلب على عقولهم حتى اتبعوه بلا عقل ولا روية، وهذا هو سبب كذبهم وضلالهم السابق، استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله، حتى نسوا أنفسهم   (1) - جملة استئنافية مسوقة لتعليل خسرانهم. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 639 فتركوها ترتكب الآثام والأباطيل، أولئك- والإشارة لبعدهم في الغواية والبهتان- حزب الشيطان وجماعته المتجمعون على الإثم والعدوان، ألا إن حزب الشيطان هم الخاسرون، وأى خسارة بعد هذا؟ إن الذين يحادون الله ورسوله «1» بمخالفة أمره، واتباع الشيطان أولئك في عداد الأذلين، لأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين. وما سبب ذلك! الجواب: كتب الله لأغلبن أنا ورسلي، أى: قدر وأراد إرادة مؤكدة كأنه أقسم عليها، ولذا جاء الجواب باللام المؤكدة في قوله: لأغلبن أنا ورسلي وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ. وَإِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «2» ولا غرابة إن ربك لقوى قادر عزيز غالب. لا تجد قوما يؤمنون بالله ورسوله حقا إيمانا كاملا، يوادون من حاد الله ورسوله بقلوبهم مخلصين، والغرض من هذا الأسلوب بيان أنه لا ينبغي أن يجتمع في قلب واحد إيمان كامل مع موادة الكفار. وحقه أن يمتنع، ولا يوجد بحال وهذه مبالغة في النهى عنه والزجر عن سلوك طريقه والمنهي عنه الإخلاص القلبي للكافر، ولو كان أبا أو ابنا أو أخا أو من العشيرة، وقد كان الصحابة لا يفضلون على حب الله ورسوله شيئا، بل بعضهم قتل وصفع وأهان بعض أقاربه في سبيل الله أولئك الممتثلون أمر الله الذين يرون حلاوة الإيمان في حب الله ورسوله. وهم بالطبع لا يوادون أعداء الله وأعداء الإسلام والقرآن أولئك كتب الله في قلوبهم الإيمان وثبته، وأيدهم بروح من عنده وأنار قلوبهم للحق فاعتنقوه، وسيدخلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا، رضى الله عنهم، ورضوا عنه أولئك حزب الرحمن المختصون بالقرآن ألا إن حزب الله هم المفلحون وحدهم وأى فلاح بعد ذلك؟!!   (1) - جملة استئنافية مسوقة لتعليل خسرانهم (2) - سورة الصافات الآيتان 171 و 172. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 640 سورة الحشر وتسمى سورة بنى النضير، وهي مدنية بالإجماع، وعدد آياتها أربع وعشرون آية، وتشتمل السورة على قصة إجلاء بنى النضير، وحكم الفيء في الإسلام، وموقف المنافقين من بنى النضير، ثم وعظ المسلمين بالتقوى وموجباتها. إجلاء بنى النضير [سورة الحشر (59) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4) ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 641 المفردات: سَبَّحَ لِلَّهِ أى: نزهه وقدسه. لِأَوَّلِ الْحَشْرِ: في وقت أوله، أى: عند الحشر الأول، والثاني إخراجهم من خيبر إلى الشام. حُصُونُهُمْ، جمع حصن وهو: ما يمنع صاحبه من العدو. يَحْتَسِبُوا أى: لم يخطر لهم على بال. وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ أى: ألقى فيها الخوف إلقاء كإلقاء الحجارة في البئر. الْجَلاءَ: الخروج الجماعى. شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ: عادوه حتى كأنهم في شق وهو في شق. لِينَةٍ هي: النخلة مطلقا، وقيل: هي الكريمة فقط، وقد تطلق على أغصان الشجر. إجلاء بنى النضير يحتاج فهمه إلى مقدمة تاريخية بسيطة، تتلخص في أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حينما هاجر إلى المدينة وادع اليهود، وعقد معهم العهود على أن لا يقاتلهم، ولا يقاتلوه. وظل الحال كذلك حتى وقع ما جعل المسلمين يحاصرون بنى قينقاع ويجلونهم عن المدينة، عقب غزوة بدر، ثم كانت غزوة أحد التي هزم فيها جيش المسلمين، وكان لهذا أثر عميق في نفوس المنافقين واليهود، وقبائل العرب مما كان سببا في حوادث تتابعت كيوم الرجيع- وفيه قتلت هذيل ثلاثة من خيار الصحابة وأسرت ثلاثة قتلت منهم واحدا في الطريق، وباعت اثنين لقريش قتلوهما، وهما زيد بن الدثنة وخبيب- ويوم بئر معونة، وفيه قتل من المسلمين أربعون غيلة. ووجد المنافقون واليهود فيما أصاب المسلمين في بئر معونة والرجيع، وغزوة أحد ما شجعهم على الانتقاص من محمد وصحبه، ووجدوا ما أضعف في نفوسهم هيبته، وفكر النبي صلّى الله عليه وسلّم كثيرا في هذا الأمر، وعمل على تقوية الجبهة الداخلية حتى لا يكون هناك خلاف في وجهة النظر في المدينة وما حواليها، ورأى النبي من الحكمة السياسة أن يستطلع نوايا اليهود فذهب يوما إلى بنى النضير يسألهم المعونة في دية قتيلين قتلهما أحد المسلمين خطأ وهما من بنى عامر حلفائهم، ذهب إليهم في عشرة من أصحابه. فلما ذكر لهم ما جاء من أجله أظهروا الغبطة والسرور، إلا أنهم بدت فيهم حركة مريبة وأنهم يدبرون قتله على يد عمر بن جحش بن كعب اليهودي بواسطة حجر يلقيه على النبي من فوق السطح وهو جالس بجوار الجدار، فلما أطلعه الله على ذلك خرج الرسول وحده وقصد المدينة، وظن من معه من الصحابة أنه قام لبعض شأنه فلما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 642 استبطئوا النبي طلبوه فعلموا أنه قصد المدينة ودخل المسجد، فلما ذكر ما رابه من أمر اليهود، ومن اعتزامهم الغدر به، قرر المسلمون إجلاءهم من المدينة حتى يهدأ الجو، ويصفو، فأرسل النبي لهم محمد بن مسلمة وقال لهم على لسان الرسول: «اخرجوا من بلادي لقد نقضتم العهد الذي جعلت لكم بما هممتم به من الغدر بي ولقد أجلتكم عشرا فمن رئي بعد ذلك ضربت عنقه» ضاقت الدنيا في وجه بنى النضير وتشاوروا في أمرهم وبينا هم كذلك إذ جاءهم رسول عبد الله بن أبى المنافق يشير عليهم بالبقاء والتحصن، ويعرض عليهم ألفين من قومه وغيرهم، فانتهى الأمر فيما بينهم إلى التحصن بالحصون، وظنوا أنها تمنعهم من النبي صلّى الله عليه وسلّم. أما المسلمون فساروا إليهم وحاصروهم عشرين ليلة، وأمر النبي المسلمين أن يقطعوا نخلهم ويحرقوه حتى لا تبقى اليهود متعلقة بأموالها متحمسة لديارها، وجزع اليهود، ونادوا يا محمد: قد كنت تنهى عن الفساد وتعيب من يصنعه، فما بال قطع النخل وتحريقها!! وفي ذلك نزل قوله: ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها الآية. المعنى: يخبر الحق- تبارك وتعالى- بأن جميع ما في السموات وما في الأرض يسبحه ويقدسه ويصلى له ويوحده، وينقاد له ويسجد تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ «1» وكيف لا يكون ذلك كذلك! وهو العزيز الجناب الحكيم الفعال، ومن مظاهر هذا إجلاء بنى النضير الذي ذكر في قوله تعالى بما معناه: هو الحق سبحانه الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب- وهم بنو النضير- من ديارهم وأموالهم بعد ما نقضوا العهود، وعادوا الرسول والمؤمنين، أخرجهم في وقت الحشر الأول من ديارهم. سبحانه أخرج بنى النضير من ديارهم رغم كثرة عددهم، ووفرة عددهم، وقرب بنى قريظة وأهل خيبر منهم، وعرض المنافقين مساعدتهم عليهم، لهذا كله ما ظن المسلمون أنهم يخرجون، وقد ظنوا أن حصونهم تمنعهم من بأس الله إذا جاءهم، فما أغنى عنهم من ذلك شيء أبدا، وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم، وقد قذف الله في قلوبهم الرعب، وكيف لا ... ! والنبي نصر بالرعب من مسيرة شهر، فكان ما أراد   (1) - سورة الإسراء آية 44. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 643 المسلمون وصالحوهم على أن يخرجوا من ديارهم، ولكل ثلاثة منهم بعير، يحملون عليه ما شاءوا من مال أو طعام أو شراب ليس لهم غيره، فكانوا يخربون بيوتهم بأيديهم ليأخذوا ما غلا ثمنه وخف حمله يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ وتفكروا في عاقبة من خاف الله ورسوله، ومن لم يخف الله ورسوله!! ولولا أن كتب الله عليهم هذا الجلاء لكان لهم عذاب في الدنيا أشد، وهو القتل والأسر، ولهم في الآخرة على كفرهم عذاب النار. ذلك كله بسبب أنهم شاقوا الله ورسوله وعادوه، وأرادوا قتله، وأطلقوا عليه ألسنتهم وأيديهم بالسوء، ومن يشاقق الله ورسوله، فإن الله شديد العقاب، وانظر إلى القرآن حيث جعل عداوة الرسول عداوة لله، كما أن طاعته كذلك. وقد كان المسلمون أثناء الحصار يقطعون نخيلهم ويحرقونه، فقيل: إن هذا سعى في الأرض بالفساد والله حرمه، فأجاب العزيز الحكيم بقوله: ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها كما هي بلا قطع فذلك كله بإذن الله وأمره، وفي هذا خير بلا شك، والله أمر بهذا ليعز المؤمنين، وليذل ويخزى الفاسقين. الفيء وحكمه [سورة الحشر (59) : الآيات 6 الى 10] وَما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ وَلكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَرِضْواناً وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَلِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 644 المفردات: وَما أَفاءَ المراد: ما رده الله على رسوله، والفيء في اصطلاح علماء الإسلام ما أخذ من الكفار بلا حرب ولا إيجاف خيل، بخلاف الغنيمة، فإنها ما أخذت بحرب، ولكل تقسيم يخالف الآخر. فَما أَوْجَفْتُمْ وجف الفرس والبعير وجيفا: عدا، وأوجفه: جعله يعدو أى: يسرع في الجري. مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكابٍ: الخيل معروفة، والركاب: هي الإبل خاصة. دُولَةً يقال: تداول القوم الكرة: كانت في يد هذا ثم في يد هذا، والاسم الدّولة- بضم الدال وفتحها- وقال بعضهم: الدولة في الملك، والدولة في الملك. تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ: اتخذوها مباءة ومنزلا مع الإيمان. وَيُؤْثِرُونَ والإيثار: هو تقديم الغير على النفس في أعراض الجزء: 3 ¦ الصفحة: 645 الدنيا. خَصاصَةٌ: حاجة. شُحَّ نَفْسِهِ الشح: لؤم الطبع ويلزمه البخل مع الحرص. غِلًّا: حقدا وحسدا. وهذا شروع في بيان حكم الأموال التي أخذت منهم بعد بيان ما حل بهم في الدنيا، وما أعد لهم في الآخرة، ثم استطرد فذكر أصناف المؤمنين الذين يستحقون الفيء. المعنى: وما أعاده الله على رسوله من أموال بنى النضير فما ركبتم لأجلها خيلا ولا إبلا ولا تجشمتم في تحصيلها مشقة، ولا لقيتم بها حربا، ولذا كانت هذه الأموال لرسول الله بعد تقسيم خمسها على مستحقيه كما في الآية. ولكن الله يسلط رسله على من يشاء من أعدائه، وفي هذا بيان أن الأموال للرسول وليست لأصحابه لأنهم لم يوجفوا لها خيلا، ولم يركبوا لها إبلا، ولم يقاسوا فيها شدة من شدائد الحرب، والله على كل شيء قدير يسلط من يشاء على من يشاء. وكأن الله خلق المال والمتاع ليتقرب به العبد إلى ربه، فإذا صرف في غير محله، واستولى عليه الكفار ليصرفوه في غير وجهه فقد خرج عن وضعه الأصلى، ثم إذا عاد إلى المسلم الذي ينفقه في وجوه الخير فقد عاد إلى الوضع الأول، ولذا عبر الله بقوله: ما أفاء الله على رسوله. وكأن سائلا سأل وقال: قد علمنا حكم ما أفاء الله على رسوله من أموال بنى النضير، فما حكم الفيء إذا كان من غيرهم؟ والجواب هو: ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول، ولذي القربى، واليتامى، والمساكين، وابن السبيل. والفيء يقسم خمسة أقسام: خمس منها يقسم خمسة أخماس: سهم لله وللرسول، كان له في حياته ثم يصرف على مصالح المسلمين بعد وفاته، وسهم لذوي القربى من أقارب الرسول وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب، وسهم لليتامى، وسهم للمساكين، وسهم لابن السبيل، وأما الأربعة أخماس الباقية فهي للنبي صلّى الله عليه وسلّم خاصة، وقد وزعها في حياته على المهاجرين ولم يعط من الأنصار إلا رجلين أظهرا الفقر، وبعد وفاته تصرف للمرتزقة من الجند، أى: للجيش ما لم يوجد لهم تبرع أو مرتب خاص، أما الغنيمة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 646 فتقسم خمسة، خمس لهؤلاء الخمسة كما في سورة الأنفال، والأربعة الأخماس الباقية للمقاتلين الذين حضروا المعركة على ما مر بيانه في سورة الأنفال، وإنما كان تقسيم الفيء على هذا النظام كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم يتداولونه بينهم، ويحرم الفقير منه، فإذا يفهم من هذا التعليل أن هذا المال يصرف للفقراء المحتاجين كما أنفقه النبي على المهاجرين دون الأنصار. أيها المسلمون: ما آتاكم الرسول فخذوه، وما نهاكم عنه فانتهوا، واتقوا الله، وهذا هو دستور الإسلام الحق الجامع لكل أمر ونهى، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ في سبيل الله فكأن الله قال: أعنى بأولئك الأربعة- لذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل «1» هؤلاء الفقراء المهاجرين والأنصار والتابعين وقال بعضهم: اعجبوا لهؤلاء الفقراء حيث تركوا الأوطان والأموال وتحملوا الضيق والتغرب في حب النبي صلّى الله عليه وسلّم وهل الفقر شرط في إعطائهم أو لا؟ قولان. للفقراء المهاجرين الذي أخرجوا من ديارهم وأموالهم بغير حق إلا أن يقولوا: ربنا الله حالة كونهم يبتغون فضلا من الله ورضوانا ناوين نصرة الرسول ودينه، أولئك الموصوفون بما ذكر من الصفات الجليلة هم الصادقون في دعوى الإيمان حيث نالهم ما نالهم من أجله. وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَالْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ هم الأنصار- رضى الله عنهم- نزلوا المدينة واتخذوها مباءة ومنزلا للإسلام، وموئلا له، وألفوا الإيمان وأخلصوا له من قبل هجرة المهاجرين إليهم، يحبون من هاجر إليهم من المهاجرين، ولا يجدون في صدورهم حسدا ولا غيظا مما أوتوا- أى: مما أعطى المهاجرون من الفيء وغيره- مع حرمانهم منه، فنفوسهم لم تتبع ما أعطى المهاجرون ولم تطمح إلى شيء منه تحتاج إليه، على أنهم يؤثرون على أنفسهم غيرهم، ويقدمون المهاجرين على أنفسهم في كل شيء من الطيبات مع الحاجة إليه، حتى إن من كان عنده امرأتان نزل لأخيه المهاجر عن واحدة   (1) - هذا إشارة إلى أن قوله (للفقراء المهاجرين) بدل من قوله (لذي القربى) وما عطف عليه، وبعضهم يرى أنه متعلق بقول مقدر هو: اعجبوا للفقراء المهاجرين- وهذا خطاب لكل من يتأتى منه التعجب من حال المهاجرين حيث تركوا أمر أموالهم وأوطانهم، ويرشحه قوله بعد: ألم تر إلى الذين نافقوا!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 647 وخيره فيهما، وهذا هو مظهر الإخاء الذي فعله النبي صلّى الله عليه وسلّم عند ما استقر بالمدينة، وهذا بلا شك يدل على صفاء النفس من أكدار المادة والدنيا ويدل على قوة الروح ومبلغ العزوف عنها، ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون لا غير، فالشح داء عضال لا يصدر عنه خير، وهو سبب الكثير من الجرائم. والذين جاءوا من بعدهم إلى الدين الجديد حيث تأخر زمانهم، أو جاءوا بعد المهاجرين وآمنوا بعد الفتح واستتباب الدولة الإسلامية حالة كونهم يقولون: ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فهي أخوة في الدين، ولا شك أنها أعز من أخوة النسب، اللهم لا تجعل في قلوبنا غلا ولا حقدا للذين آمنوا مطلقا، ربنا إنك رءوف بنا رحيم بخلقك، ومن هذا يظهر موقف الصحابة ومكانتهم، وأن الواجب أن ندعو لهم بخير وأن نفهم فيهم الصدق والإخلاص الكامل، وفي الحديث: «أصحابى كالنّجوم بأيّهم اقتديتم اهتديتم» . هكذا المنافقون واليهود [سورة الحشر (59) : الآيات 11 الى 17] أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 648 المفردات: لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ: ليفرن من الميدان. رَهْبَةً: خوفا. جُدُرٍ: سور. بَأْسُهُمْ: حربهم. جَمِيعاً: مجتمعين. شَتَّى: متفرقة. وَبالَ أَمْرِهِمْ: عاقبة كفرهم. وهذه هي صفات المنافقين واليهود وخلالهم التي تدعو إلى العجب بعد ذكر صفات المؤمنين على اختلاف طبقاتهم. المعنى: انظر- يا من يتأتى منه النظر- متعجبا إلى الذين نافقوا في إيمانهم وبعثوا إلى بنى النضير- كما سبقت إشارتنا إليه، وهو ما فعله عبد الله بن أبى بن سلول- يقول هؤلاء المنافقون لإخوانهم الذين كفروا من اليهود، وهم بنو النضير، وكانوا إخوانهم في الدين والكفر والصداقة يقولون: والله لئن أخرجتم من دياركم كما يطلب محمد وصحبه منكم لنخرجن معكم، ولا نطيع في شأنكم أحدا يمنعنا من الخروج وإن طال الزمن، وو الله لئن قوتلتم لننصرنكم، ولنعاوننكم على عدوكم، ولو كانوا هم المسلمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 649 والله يشهد إن المنافقين لكاذبون في مواعيدهم وعهودهم المؤكدة بالأيمان، والله لئن أخرج اليهود لا يخرجون معهم لأنهم منافقون، وو الله لئن قوتل اليهود، أى: بنو النضير لا ينصرهم المنافقون أبدا، وهذا وعد وإخبار بالغيب وقد تحقق ذلك كله، ولئن نصروهم- فرضا وتقديرا- ليولن الأدبار ويمنعون في الفرار، ولا يلوون على شيء فإنهم المنافقون وكفى! لأنتم- أيها المسلمون- أشد رهبة في صدورهم من الله- عز وجل- فهم يرهبونكم في السر رهبة أشد مما يظهرونه لكم من رهبة الله- عز وجل- ذلك بسبب أنهم قوم لا يفقهون ولا يعرفون عظمة الله فيخشونه حق خشيته. لا يقاتلونكم- أى: اليهود والمنافقون- جميعا إلا في قرى محصنة بالتحصينات التي عرفوها والتي ستعرف في المستقبل، أو من وراء جدار، نعم رأيناهم في حروب فلسطين لا يقاتلون الناس إلا كذلك، فإن أفئدتهم هواء، وقلوبهم مليئة بالجبن والخور والضعف وحب الدنيا وكراهية الموت والخوف الموروث من المسلمين، وهم إن أبدوا شجاعة ظاهرية لا تلبث أن تذهب، ولقد صدق الله في وصفهم هذا الوصف الدقيق: بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ فهم كما يقول الشاعر: وإذا ما خلا الجبان بأرض ... طلب الطعن وحده والنزالا وما أروع قول الله: بَيْنَهُمْ أما إذا كان البأس والحرب بينهم وبين غيرهم كانوا أجبن من الجبن، تحسبهم جميعا مجتمعين، والواقع أن قلوبهم واتجاهاتهم شتى، الله يقول ذلك عن اليهود، وهو أصدق القائلين، بقي من يقاتلهم هل هو مثلهم أو أشد، أم أصبح المسلمون تتوزعهم الفرقة والخلافات والإحن والتارات وأصبحوا يجرون وراء أمريكا وانجلترا، وتركوا دينهم وقرآنهم وراءهم ظهريّا!! ولا حول ولا قوة بالله!! أيها المسلمون: تشجعوا واتحدوا، ولا يهمنكم أمر تلك الشرذمة من العصابات اليهودية مهما ساعدتها أمريكا وإنجلترا وروسيا فإنه يقول: تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون. مثل اليهود من بنى النضير كمثل الذين من قبلهم حيث ذاقوا وبال أمرهم، وعاقبة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 650 كفرهم قريبا، فلم تتأخر عقوبتهم إلى يوم القيامة، ولهم عذاب النار، وقد كان ذلك مع المشركين يوم بدر، ومع بنى قريظة قبل بنى النضير. ومثل المنافقين الذين وعدوا بنى النضير بالمساعدة ثم خانوهم كمثل الشيطان إذ قال للإنسان: اكفر، وأغراه على الكفر، فلما كفر بالله وعصى رسله، ووقع في عاقبة كفره تبرأ الشيطان منه ولم يقف معه وقال كذبا ورياء: إنى برىء منك إنى أخاف الله رب العالمين، فكان عاقبتهما- لمن وسوس بالكفر ومن كفر- أنهما في النار خالدين فيها، وذلك جزاء الظالمين مطلقا. التقوى وموجباتها [سورة الحشر (59) : الآيات 18 الى 24] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19) لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 651 المفردات: لِغَدٍ المراد به: يوم القيامة، أطلق عليه لقربه وتحقق وقوعه كالغد «1» . الْمَلِكُ: المالك المتصرف في خلقه وملكه تصرفا تاما. الْقُدُّوسُ: البليغ في البعد عن النقص، أو الكامل في ذاته وصفاته وأفعاله. السَّلامُ: ذو السلامة من كل نقص وعيب. الْمُؤْمِنُ: المصدق لنفسه ورسله فيما بلغوه عنه بالقول أو خلق المعجزات على أيديهم، أو واهب الأمن لعباده. الْمُهَيْمِنُ: الرقيب الحافظ لكل شيء، مأخوذ من قولهم: أمن الراعي الذئب على غنمه: إذا حفظهم حفظا كاملا من كل سوء. الْعَزِيزُ: الغالب، من عز إذا غلب، أو هو الذي لا مثل له، من قولهم: هذا شيء عزيز أو نادر المثال. الْجَبَّارُ: الذي جبر خلقه على ما أراد. الْمُتَكَبِّرُ: البليغ الكبرياء والعظمة. الْخالِقُ: المقدر لخلقه على حسب ما تقتضيه حكمته. الْبارِئُ: الموجد لخلقه بريئا من التفاوت المخل به. الْمُصَوِّرُ: الموجد لصور الأشياء وكيفياتها. الْأَسْماءُ الْحُسْنى: الأسماء الدالة على محاسن المعاني. ما مضى كان في الكلام على اليهود والمنافقين، وبيان نهايتهم في الدنيا والآخرة، ولما أتم هذا شرع في وعظ المسلمين وتنبيههم إلى يوم القيامة وما فيه، وأنه لا يستوي العاصي والمطيع، ولفت نظرهم إلى القرآن الكريم وما فيه، ثم ذكر بعض صفات الحق- تبارك وتعالى- التي تغرس في النفوس الإيمان الصحيح، والعقيدة الراسخة وكان هذا ختاما للسورة ما أجمله!!   (1) - في لفظ (الغد) استعارة تصريحية وتنكيره للتعظيم والإبهام، وتنكير نفس للتقليل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 652 المعنى: يا أيها الذين آمنوا: اتقوا الله حيثما كنتم، وفي أى عمل عملتم، ولتنظر كل نفس إلى أى شيء قدمته من الأعمال ليوم القيامة، ولتحاسب نفسها عما عملت، قبل أن تحاسب هي عليه، وفي هذا حث عظيم على النظر فيما ينفع لغد، وبيان أن النظر فيه قليل، واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون، وسيجازيكم عليه إن خيرا فخير، وإن شرّا فشر. وإياكم أن تكونوا كالذين نسوا حقوق الله وما قدروا الله حق قدره، ولم يراعوا الواجب عليهم نحو الذات الأقدس- جل شأنه- لا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم الله بسبب ذلك أنفسهم فلم يعملوا لخيرها، ولم يحصلوا ما يخلصها يوم القيامة، أولئك الذين نسوا الله هم الفاسقون الكاملون في الفسق والفجور، فإياكم أن تكونوا مثلهم، واعلموا أنه لا يستوي أصحاب النار الذين عملوا لها حيث خالفوا أمر الله في كل شيء وأصحاب الجنة الذين اتقوا الله فاستحقوا الخلود في الجنة، أصحاب الجنة هم الفائزون وحدهم، وفي هذا تنبيه للناس وأى تنبيه؟ وإيذان لهم بأنهم لفرط غفلتهم وقلة تفكيرهم في الآخرة وأحوالها، كأنهم لا يعرفون أن هناك فرقا بين أصحاب الجنة وأصحاب النار، وهذا كما تقول لمن يسيء إلى أخيه: هذا أخوك. يا أيها الذين آمنوا: ألم تعلموا أن معكم حبل الله المتين، وكلامه الكريم، وقرآنه المجيد، فكيف لا تتعظون به؟ وكيف لا تملأ قلوبكم خشية عند سماع كلامه؟ مع العلم أنه لو أنزل هذا القرآن على جبل، وكان له عقل يميز- مع أن الجبل علم في القساوة- لرأيته خاشعا متشققا من خشية الله، وهذا تمثيل وتخييل لعلو شأن القرآن وقوة تأثير ما فيه من المواعظ والزواجر. وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون. واعلم أن الذي أنزل القرآن وأمر بالتقوى هو الله- جل جلاله- واجب الوجود أزلا وأبدا، الحاضر الذي لا يزول، المعبود فلا أحد يستحق العبادة غيره ولا معبود بحق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 653 سواه، هو الرحمن الرحيم بخلقه في الدنيا والآخرة وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ «1» هو الله الذي لا إله إلا هو، صاحب الملك والملكوت بيده الأمر أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ «2» يعز من يشاء ويذل من يشاء وهو على كل شيء قدير، هو الملك القدوس المتنزه عن كل نقص وعيب، الكامل في كل شيء، ذو السلامة من كل ما يشينه ذاتا وصفات وأفعالا، وهو المؤمن المصدق لنفسه ولرسله بما أنزل من كتاب وما خلق من معجزات، سبحانه وتعالى وهب الأمن لعباده في الدنيا والآخرة، وهو المهيمن والرقيب على خلقه وملكه، أو هو الذي أمن على خلقه وملكه من كل شيء لإحاطة علمه وكمال قدرته، وهو العزيز الجبار الذي جبر خلقه على ما أراد، لا راد لأمره، ولا معقب لحكمه، وهو المتكبر الذي تكبر بربوبيته فلا شيء مثله، والكبرياء في صفات الله مدح، وفي صفات المخلوقات ذم، وفي الصحيح عن أبى هريرة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال فيما يرويه عن ربه- تبارك وتعالى- أنه قال: «الكبرياء ردائي والعظمة إزارى فمن نازعنى في واحدة منهما قصمته قذفته في النّار» . سبحانه وتعالى عما يشركون!! هو الله الخالق المقدر لكل شيء، البارئ لهذا الكون والموجد له خاليا من تفاوت يخل به، وهو الذي أوجد صوره على حسب حكمته وإرادته. لله سبحانه الأسماء الحسنى الدالة على محاسن المعاني وفضائلها وأشرافها. يسبح له لأجل هذا كل ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم الجامع للكمال كله. روى عن ابن عباس: اسم الله الأعظم في ست آيات من آخر سورة الحشر، وفي رواية عن البراء عن علىّ- رضى الله عنهما- أنه قال: يا براء إذا أردت أن تدعو الله باسمه الأعظم فاقرأ من أول سورة الحديد عشر آيات. وآخر الحشر ثم قل: يا من هو كذلك، وليس شيء هكذا غيره، أسألك أن تفعل لي كذا وكذا . والعبرة في هذا كله بالإخلاص وصفاء الروح، والقرآن كله- وخاصة أمثال هذه الآيات- مما يصفى الروح، وينقيها ويجعل دعاءها مقبولا ... نفعنا الله بالقرآن آمين.   (1) - سورة الأعراف آية 156. (2) - سورة الأعراف آية 54. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 654 سورة الممتحنة وهي مدنية في قول الجميع، وعدد آياتها ثلاث عشرة آية. وهذه السورة تحدد موقف المسلمين من المشركين تحديدا تامّا من ناحية الصلة والمودة، ومن ناحية القتال والمسالمة، ومن ناحية العلاقة الزوجية القائمة بين المسلم وغيره، وكيف بايع النبي صلّى الله عليه وسلّم النساء، وفي الختام- كما في البدء- النهى عن موالاة الكفار. موالاة الكفار وعلاقتنا بهم [سورة الممتحنة (60) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَما أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3) قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَبَدا بَيْنَنا وَبَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَالْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَإِلَيْكَ أَنَبْنا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6) عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 655 المفردات: أَوْلِياءَ جمع ولى، والمراد به الصديق الذي توليه بالسر. بِالْمَوَدَّةِ المراد: النصيحة. مَرْضاتِي: رضائى. يَثْقَفُوكُمْ: يظفروا بكم. أَرْحامُكُمْ: قرابتكم. أُسْوَةٌ: قدوة حسنة. بُرَآؤُا: جمع برىء، أى: لا نعتد بكم ولا بشأن آلهتكم. وَبَدا: ظهر. الْعَداوَةُ: ضد الجزء: 3 ¦ الصفحة: 656 الصداقة والمحبة، والبغضاء: وهي شدة البغض، ضد المحبة. فِتْنَةً أى: مفتونين للذين كفروا، أى: معذبين بسببهم أو بسبب غيرهم. مَوَدَّةً: صلة وقربى. وَتُقْسِطُوا أى: تحكموا بينهم بالعدل. الْمُقْسِطِينَ: العادلين. وَظاهَرُوا أى: وعاونوا الغير وتعاونوا على إخراجكم. روى الأئمة- واللفظ لمسلم- عن على- رضى الله عنه- قال: «بعثنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أنا والزبير والمقداد فقال: ائتوا روضة خاخ- موضع بين مكة والمدينة- فإن بها ظعينة، أى: امرأة في هودج، معها كتاب فخذوه منها» قال علىّ: فانطلقنا مسرعين حتى أدركنا المرأة، وطلبنا منها الكتاب فأبت أول الأمر، فلما رأت منا الجد والإصرار والتهديد أخرجت الكتاب من عقاصها- شعرها- فأتينا به رسول الله، فإذا هو من حاطب بن أبى بلتعة إلى مشركي مكة يخبرهم ببعض أمر الرسول. فقال رسول الله: يا حاطب ما هذا؟ قال: لا تعجل علىّ يا رسول الله، إنى كنت امرأ ملصقا في قريش فأحببت أن أتخذ فيهم يدا يحمون بها قرابتي، ولم أفعله كفرا ولا ارتدادا عن ديني ولا رضا بالكفر بعد الإسلام، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم «صدق» وهم عمر يضربه بالسيف، فأجيب بأنه من أهل بدر، وأنزل الله- عز وجل- هذه الآية ، وفي معناه نزلت آيات عدة: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصارى أَوْلِياءَ [المائدة 51] لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران 28] ... إلخ. المعنى: يا أيها الذين اتصفتم بالإيمان: لا يليق بكم- لأجل هذا الوصف- أن تتخذوا عدو الله وعدوكم «1» أولياء وأصدقاء، ولو في الظاهر، فالله ينهانا عن موالاتهم والإسرار إليهم بأخبارنا، ولو كان هذا في الظاهر، لا عن عقيدة وإيمان: لا تتخذوا عدوى وعدوكم أولياء حالة كونكم تلقون إليهم بالمودة، وتسرون إليهم بها كما فعل أخوكم حاطب بن أبى بلتعة عن حسن نية، لا تتخذوهم أولياء والحال أنهم كفروا بما جاءكم من الحق والقرآن، فأنتم مؤمنون به مصدقون له، وهم كافرون فبينكم عداوة شديدة في العقيدة فكيف تلتقون؟ هم كفروا بالله ورسوله، والحال أنهم يخرجون الرسول وإياكم من   (1) عدو على زنة فعول مصدر، لهذا صح أن يقع على الواحد والجمع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 657 دياركم وأموالكم وأوطانكم لا لشيء أبدا إلا لأنكم تؤمنون بالله ربكم، عجبا كيف تجعلونهم أولياء وتسرون إليهم بالمودة؟!! إن كنتم خرجتم للجهاد في سبيل الله وابتغاء مرضاته فلا تتخذوهم أولياء، أى: لا تتولوا أعدائى إن كنتم أوليائى. كيف تلقون إليهم بالمودة؟ تسرون «1» إليهم بأخبار الرسول سرّا، وأنا أعلم السر وأخفى، نعم الله يعلم ما أخفيتم وما أعلنتم، ومن يفعله منكم فقد ضل سواء السبيل، وأخطأ طريق الهدى والحق. كيف هذا مع أنهم إن يظفروا بكم ويدركوكم- على أى وضع- يكونوا لكم أعداء ويعاملوكم معاملة العدو اللدود، ويسطوا إليكم أيديهم بالضرب والسبي والقتل وألسنتهم بالشتم والسب والذم، ولا عجب فإنهم يودون من صميم قلوبهم لو تكفرون. وما لكم توادون أعداء الله وأعداءكم من أجل قرابتكم وأولادكم؟ مع أنه لن تنفعكم أرحامكم ولا قراباتكم، ولن تنفعكم أولادكم وأموالكم في شيء، يوم القيامة يفصل بينكم ويقضى بحكمه فاعملوا لأجل هذا اليوم، وانظروا ماذا قدمتموه لهذا الغد، واعلموا أن الله بما تعملون بصير فسيجازيكم على كل عمل. أسوة إبراهيم في هذا: كيف تتخذون أعدائى وأعداءكم أولياء؟ ألا تقتدون بأبيكم إبراهيم؟ قد كانت لكم أسوة حسنة، وقدوة طيبة في أبيكم إبراهيم الخليل والذين معه من المؤمنين إذ قالوا «2» لقومهم: إنا برآء منكم ومما تعبدون فنحن لا نعتد بكم، ولا نحفل بآلهتكم بل أنكرنا، وبدا بيننا وبينكم العداوة لا المحبة، والبغضاء لا الصداقة في كل وقت، كل هذا حتى تؤمنوا بالله وحده، وتكفروا بشرككم. اقتدوا بأقوال إبراهيم وأفعاله إلا قوله لأبيه: لأستغفرن لك. واستثناء قول إبراهيم هذا من الأسوة- الحسنة، لأنها- واجب اتباعها وتقليد إبراهيم فيها حيث ذكر بعدها هذا الوعيد وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ   (1) هذه الجملة بدل بعض من كل في قوله تلقون. (2) (إذ قالوا) بدل اشتمال من (إبراهيم) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 658 واستغفار إبراهيم لأبيه حيث لم يعرف إصراره على الكفر وموته عليه بمعنى الدعاء له بالتوفيق جائز شرعا بدليل قوله: فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه، والحكم في الإسلام على هذا بالجواز حيث لم نعلم أن الكافر مصر على الكفر أو مات عليه، فالاستغفار بهذا المعنى جائز لا واجب، ولهذا استثنى من القدوة الواجب اتباعها، وبعضهم أجاب عن هذا بقوله: إبراهيم- عليه السلام- استغفر حيث لم يعلم إصرار أبيه، وقد كان وعده، أما أنتم فتعرفون إصرار هؤلاء وفظاعة عنادهم وشدة كراهيتهم لكم فلا ينبغي أبدا أن تجاملوهم وتدعوا لهم بالخير بعد أن وصف الله لكم نياتهم ورأيتم أفعالهم، وهذا تخريج حسن بلا شك. لأستغفرن لك ربي والحال أنى لا أملك لك من الله شيئا فاعمل بما يرضيه فلن أغنى عنك من الله شيئا يا أبت! ربنا: عليك توكلنا، وإليك وحدك أنبنا وتبنا، وإليك وحدك المصير. ربنا: لا تجعلنا فتنة للذين كفروا فتعذبنا على أيديهم أو بعذاب من عندك فيظنوا أنهم على حق ونحن على باطل فيفتنوا لذلك، وللأسف ما يحصل اليوم هو هذا. فيا رب لا تجعلنا فتنة للذين كفروا، واغفر لنا سيئاتنا، وقنا عذاب الخزي في الدنيا والآخرة، ربنا إنك أنت العزيز الحكيم. لقد كان لكم في إبراهيم ومن معه أسوة حسنة لمن «1» كان يرجو الله واليوم الآخر، ومن يتول عن ذلك، ولا يقتدى بالصالحين فليعلم أن الله هو الغنى عنه وعن عمله، المحمود في السموات والأرض، وهذا تهديد لمن لا يقتدى بالقدوة الحسنة. وأما أنتم- أيها المسلمون- فلا يشقن ذلك عليكم عسى أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتموهم في الدين من أقاربكم وأهليكم المشركين، عسى الله أن يجعل بينكم وبينهم مودة وصلة وأخوة في الإسلام، والله على كل شيء قدير، وهو الغفور لما فرط من الذنوب الرحيم بخلقه إذا تابوا وأنابوا.   (1) بدل من (لكم) بإعادة حرف الجر وهذا كثير لغة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 659 وفي هذه الآية حدد علاقتنا بالكفار: فقد نهانا عن مودتهم واصطفائهم بأخبار الحروب والأخبار التي تضر الأمة الإسلامية، ولكن هل نحن منهيون عن البر بهم ماديا والقسط إليهم والعدل معهم؟ ولقد أجاب الله عن ذلك جوابا شافيا فقال ما معناه: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في أمر الدين وشأنه، ولم يخرجوكم من دياركم، لا ينهاكم الله عن الذين لم يفعلوا هذا أن تبروهم بالخير، وتقسطوا إليهم بالعدل، وتعاملوهم بالحسنى ما داموا لم يسيئوا إليكم في الدنيا إن الله يحب المقسطين، إنما ينهاكم الله عن موالاة ومحبة من قاتلوكم في الدين، وجاهدوكم عليه بكل نفس ونفيس كما فعلت قريش مثلا حيث قاتلوكم لأجل الدين، وأخرجوكم من دياركم وأموالكم وظاهروا الغير وتعاونوا على إخراجكم، ينهاكم الله عن موالاتهم ومحبتهم ومن يتولهم ويتخذهم أنصارا وأحبابا فأولئك هم الظالمون. المهاجرات من النساء ومبايعتهن [سورة الممتحنة (60) : الآيات 10 الى 13] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 660 المفردات: أُجُورَهُنَّ: مهورهن. بِعِصَمِ: جمع عصمة، والمراد هنا عقد النكاح. فَعاقَبْتُمْ: من العقبة، وهي النبوة، والمراد: أصبتموهم في القتال حتى غنمتم. وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ المراد بذلك: الوأد. بِبُهْتانٍ المراد بذلك الولد. يَفْتَرِينَهُ: يختلقن نسبته إلى الزوج. لما أمر الله المسلمين بترك موالاة المشركين اقتضى ذلك مهاجرة المسلمين من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام خوفا من موالاة المشركين، وكان التناكح من أقوى أسباب الموالاة، فبين الله حكم المهاجرات بهذه الآية. وكان من أسباب النزول ما روى عن ابن عباس أنه قال: جرى الصلح بين المسلمين ومشركي قريش عام الحديبية، وكان من شروطه: أنه من أتى من أهل مكة رد إليهم ومن أتى من المسلمين لم يرد إليهم، فجاءت سبيعة بنت الحارث الأسلمية بعد الفراغ من كتابة الصلح مباشرة إلى النبي، وأقبل زوجها المشرك يطلبها- صيفي بن الراهب- فقال: يا محمد. اردد على امرأتى فإنك شرطت ذلك! وهذه طينة الكتاب لم تجف بعد، فأنزل الله تعالى هذه الآية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 661 المعنى: يا أيها الذين آمنوا: إذا جاءكم المؤمنات مهاجرات من دار الشرك إلى دار الإسلام، فامتحنوهن بما يغلب على ظنكم أنهن صادقات في إيمانهن، ولم يأتين حبا في الانتقال من دار إلى دار أو بغضا في زوج، بل كان الدافع لهن هو حب الله ورسوله، واعلموا أن الله أعلم بإيمانهن حقيقة، فلا سبيل لكم إلى ما تطمئن به قلوبكم، من الإحاطة بحقيقة إيمانهن، ولكن هذا ما يمكن فعله فإن علمتم فيهن صدق الإيمان فلا ترجعوهن إلى الكفار- وهذا تقييد للشرط المطلق في عقد الصلح- بل أبقوهن معكم، وقد فرق الشارع الحكيم هنا بين الرجل والمرأة فإن الرجل قوى يمكنه أن يستقل ويترك دار الكفر والمرأة لا تقوى على الإغراء فيخشى معها الفتنة ... لا هن «1» حل لهم حالا، ولا أزواجهم الكفار يحلون لهن في المستقبل بأى شكل ما داموا مشركين، وهن مؤمنات ويلزم على هذا أن تؤتوا الأزواج ما أنفقوا، محل ذلك في الأزواج الذين بيننا وبينهم عهد أما الحربيون فلا يلزمنا شيء لهم، على أن هذا الأمر للندب، وبشرط أن يطلبه الزوج وإلا فلا يجب شيء. وهؤلاء المهاجرون لا جناح عليكم أن تنكحوهن إذا آتيتموهن مهورهن، وما حكم المرأة التي يتركها زوجها في دار الشرك مشركة وهو مسلم؟ الحكم أنه إذا أسلم الزوج وكان إسلامه حقيقيّا فيجب فسخ عقد النكاح السابق بينه وبين المشركة الوثنية أما الكتابية فلا فسخ لأنه يجوز العقد عليها ابتداء، ومحل قطع العلاقة الزوجية بين المسلم والمشركة مشروط بألا يجمعهما الإسلام في العدة. وَسْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا قال المفسرون: كان من ذهب من المسلمات مرتدات إلى الكفار من أهل العهد يقال للكفار: هاتوا مهرها، ويقال للمسلمين إذا جاءت إحدى الكافرات مسلمة مهاجرة: ردوا إلى الكفار مهرها، وكان ذلك نصفة وعدلا بين الناس، ثم نسخ هذا الحكم، وذلك حكم الله يحكم بينكم بالعدل، والله عليم حكيم.   (1) هذه الجملة بمنزل التعليل للجملة السابقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 662 وإن فاتكم شيء من أزواجكم وذهبن إلى الكفار ثم لم يعطوكم شيئا من المهر فعاقبتم، وأتت العاقبة لكم فغنمتم شيئا منهم، فآتوا الذين ذهبت أزواجهم، ولم يأخذوا مهورهن مثل ما أنفقوا لفواته عليهم من جهة الكفار، واتقوا الله في كل شيء، اتقوا فأنتم به مؤمنون، ومن الواجب على المؤمنين تقوى الله في السر والعلانية وقد فعل المؤمنون ما أمروا به من الإيتاء للكفار والمؤمنين، وقد رفع هذا الحكم العام، وأصبح الحكم شخصيّا على الإمام والمسلمين عامة. يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على عدم الإشراك بالله شيئا وعدم السرقة، والزنا، وقتل الأولاد خوف الفقر أو العار كما كان يفعل في الجاهلية من وأد البنات أحياء ويبايعنك على ألا يأتين بولد يختلقن نسبته للزوج مقدرا وجوده بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف عرف حسنه شرعا وعقلا من طاعة الله ورسوله والإحسان للناس وكل ما أمر به الشرع الشريف. إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على هذا الأساس فبايعهن، واستغفر لهن الله عما فرط منهن، وقد كانت مبايعته الرجال على الإسلام والجهاد، ومبايعة النساء على ما ذكر في الآية، وقيل: هما سواء في كل ذلك، ولعل السر في مبايعة النساء بهذا أن النساء كثيرا ما يرتكبن مثل هذه الأعمال. والثابت أن هذه الآية نزلت في مبايعة النبي صلّى الله عليه وسلّم في فتح مكة، وكانت فيهن هند بنت عتبة، ولها قصة مذكورة في كتب السيرة. بدئت هذه السورة بالنهى عن موالاة الكفار وخاصة اليهود، وختمت بمثل ذلك تأكيدا لعدم موالاتهم وتنفيرا للمسلمين عنها. يا أيها الذين آمنوا: لا تتولوا قوما قد غضب الله عليهم، ولعنهم- وهم اليهود- قد يئسوا من الآخرة وثوابها مع أنهم يوقنون بها، وذلك لعنادهم مع النبي مع علمهم بصدقه، هؤلاء يئسوا كما يئس الكفار حالة كونهم من أصحاب القبور الذين ماتوا، يئسوا من الرجوع إليهم والالتقاء بهم في أى وقت. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 663 سورة الصف هذه السورة مدنية كلها على الصحيح، وآياتها أربع عشرة آية، ونزلت بعد التغابن. وتشتمل على تنبيه المؤمنين لبعض الواجب عليهم، وتحذيرهم من أن يكونوا كقوم موسى وعيسى، مع بيان أن الإسلام هو دين الله، وأنه غالب على الأديان، ثم رسمت طريق الهدى الموصل إلى النجاة من العذاب. توجيهات دينية [سورة الصف (61) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4) وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5) وَإِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 664 المفردات لِمَ أى: لأى شيء؟ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ المقت: أشد أنواع البغض من أجل ذنب أو معصية أو دناءة يصنعها الممقوت. صَفًّا أى: صافين أنفسهم. مَرْصُوصٌ والبناء المرصوص: المتلائم الأجزاء المتضام بنظام وحكمة. زاغُوا أى: مالوا عن الحق وانصرفوا عنه. لِما بَيْنَ يَدَيَّ: لما تقدمني من الكتب كالتوراة والزبور. أَحْمَدُ أى: محمد- عليه الصلاة والسلام- ولعله خصه بالذكر للإشارة إلى أنه أحمد الناس لربه. روى عن ابن عباس- رضى الله عنه- أنه قال: قال عبد الله بن رواحة: لو علمنا أحب الأعمال إلى الله لعملناه، فلما نزل الجهاد كرهوه، وفي رواية أخرى أن هذه الآية نزلت تعيّر المسلمين بترك الوفاء، وتلومهم على الفرار يوم أحد. المعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله وبرسوله: لأى شيء تقولون ما لا تفعلونه من الخير والمعروف؟! ومدار التوبيخ والإنكار في الحقيقة عدم فعلهم، وإنما وجه إلى قولهم أولا للدلالة على أنهم مؤاخذون على شيئين: الوعد، وترك العمل «آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 665 كبر المقت عند الله وفي حسبانه أن تقولوا ما لا تفعلون «1» !! نعم إن قولهم: سنفعل الخير ثم لا يفعلون مقت خالص لا شوب فيه، ومبغوض عند الله أشد البغض، ومن هنا كان الخلف في الوعد، والكذب، مذمومين شرعا، ولا يرضى عنهما الله، أما الذي يرضى عنه الله فها هو ذا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ نعم إن الله يحبهم ويرضى عنهم لأنهم يقاتلون في سبيله وابتغاء مرضاته، يقاتلون بنظام ودقة وحكمة صافين أنفسهم مستعدين للقتال على حسب زمانهم، حالة كونهم كالبنيان المرصوص الذي يحمى بعضه بعضا، البنيان المحكم الدقيق الذي لا فرجة فيه ولا خلل، وهذه إشارة إلى إحكام الأمر في القتال والاستعداد له استعدادا مناسبا مع الوحدة والاجتماع التام على الكلمة، ومقابلة العدو بقلوب ثابتة راسخة رسوخ البنيان الشامخ المحكم. وَإِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي؟ وهذا كلام مستأنف مقرر لما قبله من شناعة ترك القتال، ومخالفة أمر الرسول، واذكر وقت قول موسى لقومه- والمراد ذكر ما حصل في الوقت-: يا قوم لأى شيء تؤذونني بمخالفة أمرى، وتخلفكم عن القتال حين ندبتم لقتال الجبارين، وقولكم: إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ «2» فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «3» . يا قوم: لم تؤذوننى؟ والحال أنكم تعلمون علما أكيدا أنى رسول الله إليكم، فلما أصروا على الزيغ والانحراف عن الجادة أزاغ الله قلوبهم وصرفها عن الخير لاختيارهم العمى وتركهم الهدى مطلقا، ولا عجب فهم مالوا عن الحق أولا باختيارهم، وهذا بلا شك يؤثر فيهم، فإذا استمروا على ذلك طمس الله على قلوبهم فأمالها عن الحق دائما، وكيف يهديهم ربهم إلى الصواب؟ والله لا يهدى القوم الفاسقين، فاحذروا يا أمة محمد أن تكونوا كهؤلاء، واذكر إذ قال عيسى بن مريم: يا بنى إسرائيل: إنى رسول الله إليكم حالة كوني مبشرا برسول يأتى من بعدي اسمه أحمد فشريعتى تؤيد   (1) (كبر) فعل يفيد التعجب كبئس، وفاعله ضمير، و (مقتا) تمييز و (أن تقولوا) هو المخصوص بالذم، ومعنى التعجب: تعظيم الأمر في قلوب السامعين. (2) سورة المائدة آية 22. [ ..... ] (3) سورة المائدة آية 24. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 666 الرسل السابقين واللاحقين، وهذا الاسم الجليل- أحمد- من أسماء النبي صلّى الله عليه وسلّم ويقول حسان بن ثابت: صلى الإله ومن يحف بعرشه ... والطيبون على المبارك أحمد وبشارته- عليه السلام- بالنبي محمد صلّى الله عليه وسلّم مما نطق به القرآن، وهو الصادق في خبره الذي لا يقبل الشك، فهو الكتاب الوحيد الذي نقل بالتواتر عن صاحبه وقيد كتابة وحفظا قبل لحوق النبي بالرفيق الأعلى، وأما إنكار النصارى لتلك البشارة فأمر لا يعبأ به، كشأنهم في بقية عقائدهم، على أن الإنجيل الذي وصل إلينا فيه البشارة وشأنها أن تكون كناية لا صريحة، ففي إنجيل يوحنا طبع (نيويورك بإمريكا) الإصحاح السادس عشر آية (7) : لكن أقول لكم الحق إنه لكم أن أنطلق لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزى ولكن إن ذهبت أرسله إليكم. (8) ومتى جاء ذاك يبكت العالم على خطيئة وعلى بر وعلى دينونة. (9) أما على الخطيئة فلأنهم لا يؤمنون بي. (10) وأما على بر فلأنى ذاهب إلى أبى ولا تروني أيضا. (11) وأما على دينونة فلأن رئيس هذا العالم قد دين (12) إن لي أمورا كثيرة أيضا لأقول لكم ولكن لا تستطيعون أن تحتملوا الآن (13) وأما متى جاء ذلك ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق لأنه لا يتكلم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلم به ويخبركم بأمور آتية. (14) ذاك يمجدني لأنه يأخذ مما لي ويخبركم. هذه بشارة بالنبي المرسل الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحى يوحى، يجيء والعالم يكفر بعيسى إذ يعتقد فيه الألوهية أو أنه ابن الله مع أنه ابن مريم، يجيء ليرشد الخلق إلى جميع الحق، فمن غير محمد صلّى الله عليه وسلّم جاء بهذا؟ على أننا لا ننسى أن هذا ما سلم من التحريف والتغيير والتبديل، والنصارى يؤولون في مثل هذا تأويلا غير مستساغ، ولفظ (البارقليط) ورد كثيرا في كتبهم، قال يسوع المسيح: «إن البارقليط روح الحق الذي يرسله أبى- إلهى- يعلمكم كل شيء» والبارقليط لفظ يفيد معناه الحمد، ولفظ (المعزى) السابق كناية عن خاتم الأنبياء، ولذا جاءت البشارة في إنجيل برنابا صريحة بلفظ (محمد) والظاهر أنها مترجمة عن البارقليط والمعزى. فلما جاء عيسى- عليه السلام- بالمعجزات الظاهرة قالوا: هذا سحر مبين، فانظر إلى الناس جميعا وقد كذبوا برسلهم مع ظهور الآيات والمعجزات الدالة على صدق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 667 الرسل، وتلك سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلا، وكانت عاقبة أمرهم خسرا فاحذروا يا أمة محمد مثل هذه العاقبة! ثم تطرق الكلام إلى المكذبين بمحمد- عليه الصلاة والسلام- فقال الله ما معناه: أى الناس أشد ظلما ممن يدعى إلى الإسلام الذي هو دين الحق والعدل والكرامة الموصل إلى سعادة الدنيا والآخرة؟ فتكون إجابته على تلك الدعوة الافتراء على الله كذبا وزورا بتكذيب رسوله وتسمية آياته سحرا، نعم لا أحد أظلم من هذا، والله لا يهدى القوم الظالمين، يريدون بهذا التكذيب أن يطفئوا نور الله «1» ، بأفواههم وأنى لهم ذلك؟ والله متم نوره ولو كره الكافرون. هو الله الذي أرسل رسوله محمدا صلّى الله عليه وسلّم بمصدر الهداية والنور: بالقرآن الذي يدعو إلى الهدى والفلاح، أرسله بدين الحق والعزة والكرامة، بالشريعة السهلة الصالحة لكل زمان ومكان، ليظهره على الدين كله وليعليه على جميع الأديان، ولو كره المشركون ذلك، لأنه هو الدين الوحيد الذي يدعو إلى التوحيد الخالص البريء من شوائب الشرك، وقد أنجز الله وعده وأظهر دينه بالحجة والبرهان على جميع الأديان ... إلخ. التجارة الرابحة [سورة الصف (61) : الآيات 10 الى 14] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَمَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَكَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)   (1) - هذا تمثيل لحالهم وقد اجتهدوا في إبطال الحق بحالة من ينفخ الشمس بفيه ليطفئها وهل يستطيع ذلك؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 668 المفردات: تِجارَةٍ التجارة: تداول البيع والشراء لأجل المكسب. طَيِّبَةً: جيدة حسنة. أَنْصارَ اللَّهِ المراد: أنصار دينه ورسوله. لِلْحَوارِيِّينَ: وهم أصحاب عيسى- عليه السلام- وأصفياؤه. طائِفَةٌ: جماعة. ظاهِرِينَ: غالبين. سبب نزول هذه الآية قول المؤمنين لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم: لو نعلم أى الأعمال أحب إلى الله لعملنا به! وقول عثمان بن مظعون: وددت يا نبي الله أن أعلم أى التجارات أحب إلى الله فأتجر فيها. فنزلت الآية. المعنى: يا أيها الذين آمنوا: هل أدلكم على تجارة عظيمة الشأن كثيرة الربح؟ ربحها عشرة أمثال، وقد تزيد إلى سبعمائة مثل، والله يضاعف بعد ذلك لمن يشاء وتلك تجارة رابحة، وأى ربح أكثر من هذا؟ إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ.. [سورة التوبة آية 111] . وكأنه قيل: ما هذه التجارة؟ دلنا عليها، فقيل: تؤمنون بالله ورسوله، وتجاهدون في سبيل الله وابتغاء مرضاته بأموالكم وأنفسكم «1» والمعنى أن المؤمنين يداومون على ذلك من باب قوله تعالى: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ [سورة هود آية 112] .   (1) و (تؤمنون) فعل مضارع بمعنى الأمر، أى: آمنوا أو جاهدوا يغفر لكم، والتعبير به للإيذان بأنهم امتثلوا والله أخبر عنهم، وقيل: إن المضارع على حقيقته وهناك شرط مقدر، جوابه قوله: «يغفر لكم» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 669 ذلكم الإيمان والجهاد خير لكم من كل شيء إن كنتم تعلمون أنه خير فهو خير، إن تؤمنوا وتجاهدوا يغفر لكم ذنوبكم، ويسترها أو يباعد بينكم وبينها، ويدخلكم جنات عالية، تجرى من تحتها الأنهار، ويدخلكم مساكن طيبة جيدة حسنة لا عيب فيها، ولا خوف عليكم فيها ولا أنتم تحزنون، وهي في جنات عدن لا زوال فيها، ذلك هو الفوز العظيم، نعم هو الفوز العظيم، والربح الكثير، والفضل العميم. ولكم إلى جانب ما ذكر نعمة أخرى جليلة أنتم تحبونها هي نصر من الله على الأعداء وفتح قريب للأقطار والأمصار، وانظر- وفقك الله- إلى عاقبة الإيمان الصحيح والجهاد في سبيل الله. يا أيها الذين آمنوا- والخطاب للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولأمته-: آمنوا وجاهدوا يكن لكم الثواب الجزيل، وبشرهم يا محمد بذلك، فأنت الصادق المصدق. يا أيها الذين آمنوا كونوا أنصار الله وأعوانا لرسول الله، كما كان الحواريون أنصارا لعيسى حين طلب منهم ذلك، وقال لهم: من أنصارى متوجها إلى الله؟ قال الحواريون نحن أنصار نبي الله. ولما لحق عيسى بالرفيق الأعلى آمنت طائفة من بنى إسرائيل، آمنت بالله الواحد الأحد وبعيسى ابن مريم رسوله إليهم، وكفرت طائفة أخرى حيث ادعت أنه الإله أو ابنه أو هو ثالث ثلاثة، وغلب أهل الباطل على أهل الحق، فلما جاء محمد صلّى الله عليه وسلّم أيدنا به الذين آمنوا على عدوهم الكافرين، فأصبحوا ظاهرين عليهم بالحجة والبرهان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 670 سورة الجمعة مدنية بالإجماع، وعدد آياتها إحدى عشرة آية. وقد تكلمت السورة على فضل الله بإرسال النبي صلّى الله عليه وسلّم من العرب وتناولت اليهود حيث لم يحافظوا على شريعتهم، ثم بعد ذلك أتت بحكم تتعلق بالجمعة. منّ الله على العرب والناس جميعا [سورة الجمعة (62) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4) المفردات: الْأُمِّيِّينَ المراد بهم العرب لأن أكثرهم لا يقرأ ولا يكتب إذ الأمى منسوب إلى الأم، فهو على جبلته لا يقرأ ولا يكتب. يُزَكِّيهِمْ: يطهرهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 671 المعنى: يسبح لله كل ما في السموات، وما في الأرض تسبيحا متجددا مستمرا، لأنه صاحب الملك، وبيده الأمر والخلق، وهو القدوس المنزه عن كل نقص المتصف بكل كمال، العزيز الذي لا يغلبه غالب، الحكيم في كل شيء. وأول مظهر من مظاهر فضله ونعمه على خلقه إرسال الرسل وخاصة النبي محمدا صلّى الله عليه وسلّم خاتما للرسل كلهم، ولا شك أن هذا من مظاهر عزته وحكمته، هو الحق- تبارك وتعالى- الذي بعث في العرب رسولا من جنسهم أميا مثلهم، لا يقرأ ولا يكتب، ومع ذلك فهو يتلو عليهم الآيات، ويحملهم على طهارة النفس ويخلق فيهم الضمير الحي، وهو الذي يعلمهم القرآن، والحكمة النافعة المأخوذة من حديثه وقوله وفعله، فهو المثل الأعلى الذي قاد أمته إلى الحياة الصحيحة، في التشريع والقضاء والسياسة والاقتصاد، وإن كانوا من قبل لفي «1» جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، وأى ضلالة أكبر من ضلالة العرب قبل الإسلام؟ يعلم العرب الكتاب والحكمة، ويزكيهم من دنس الرجس والشرك وسوء الفعل، ويعلم آخرين منهم لم يلحقوا بهم وسيلحقون بهم، هؤلاء هم الذين دخلوا في الإسلام من العرب ومن غيرهم أخيرا بعد الصحابة، وما أروع كلمة «منهم» أى: من الأمة الإسلامية، إذ الإسلام لا يقر اختلاف الأجناس والألوان بل كل مسلم من أى جنس ولون فهو عضو في أسرة الإسلام، وإن بعدت الدار، وشط المزار. ذلك الفضل العظيم فضل الله ونعمته يؤتيه من يشاء من عباده، والله ذو الفضل العظيم، لا حرج على فضل الله حيث فضل الرسول وقومه وجعلهم متبوعين بعد أن كانوا أوزاعا لا وزن لهم ولا قيمة عند غيرهم من الأمم، وظل الحال كذلك. فالعرب لعبوا ويلعبون دورا مهما في العالم إلى الآن.   (1) هذه هي إن المخففة من الثقيلة بدليل اللام. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 672 هؤلاء هم اليهود [سورة الجمعة (62) : الآيات 5 الى 8] مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) المفردات: حُمِّلُوا التَّوْراةَ المراد: كلفوا العمل بها، وليس هو من الحمل على الظهر بل هو من الحمالة، أى: الكفالة. أَسْفاراً: كتبا كبارا، وسميت أسفارا لأنها تسفر عن معناها إذا قرئت. أَوْلِياءُ لِلَّهِ: أحباؤه. تَفِرُّونَ مِنْهُ: تخافون منه. وهذا مثل ضربه الله لليهود حيث أعطاهم التوراة، ولم يعملوا بها فكانوا كالحمار الذي يحمل الكتب الكبار، وفي ذكر هذا المثل هنا تحذير لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم من أن يكونوا كاليهود يدعون ولا يعملون ويحملون ولا ينتفعون. المعنى: شبه الله- سبحانه وتعالى- اليهود حيث حملوا التوراة وكلفوا بها وعلموا بما فيها وحفظوها ثم لم يعملوا بها ولم ينتفعوا بما فيها- بالحمار يحمل كتبا كبارا، من كتب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 673 العلم، فهو يمشى بها ولا يعلم عنها شيئا، وخص الحمار بالذكر لأنه علم في الجهالة والبلادة، وهذا مثل ينطبق على من لم يعمل بالقرآن وأحكامه، ويعرض عنه. بئس المثل مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله، والله لا يهدى القوم الظالمين. وكان اليهود يزعمون أنهم أبناء الله وأحباؤه، وأن الآخرة لهم دون سواهم، فنزل في ذلك قل لهم يا محمد: يا أيها الذين هادوا واتبعوا موسى والتوراة إن زعمتم صادقين أنكم أولياء الله، وأحباؤه من دون الناس، إن كنتم صادقين في هذا الزعم فتمنوا الموت الذي ينقلكم إلى دار الكرامة فتحظوا بالسعادة التي أعدها لكم ربكم، ولا يتمنونه أبدا بسبب ما قدمته أيديهم من الكفر والمعاصي وتكذيب الرسول صلّى الله عليه وسلّم مع علمهم بصدقه ووصفه في التوراة، وفي حديث أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال لما نزلت هذه الآية «والّذى نفس محمّد بيده لو تمنّوا الموت ما بقي على ظهرها يهودىّ إلّا مات» وفي هذا إخبار عن الغيب ومعجزة للنبي الكريم. قل لهم: إن الموت الذي تفرون منه وتخافونه فإنه ملاقيكم حتما «1» إذ كل شيء هالك إلا وجهه، ثم تردون أيها اليهود إلى عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه منكم خافية، فينبئكم بما كنتم تعملون ويجازيكم عليه. بعض أحكام تتعلق بصلاة الجمعة [سورة الجمعة (62) : الآيات 9 الى 11] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)   (1) - والفاء التي في خبر إن لتضمن الاسم معنى الشرط باعتبار وصفه بالموصول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 674 المفردات: نُودِيَ لِلصَّلاةِ: أذن لها. يَوْمِ الْجُمُعَةِ: هو اليوم المعروف من أيام الأسبوع، وتصلى فيه صلاة الجمعة. فَاسْعَوْا: فامضوا إلى ذكر الله بقصد حسن. وَذَرُوا الْبَيْعَ: اتركوه. قُضِيَتِ الصَّلاةُ: أديت وفرغ منها. انْفَضُّوا إِلَيْها: أسرعوا لها. المعنى: خاطب الله- سبحانه وتعالى- المؤمنين خاصة بهذا النداء تشريفا لهم وتكريما، وليعلموا أن إيمانهم يقتضى الإسراع في إجابة هذا الطلب وتحقيق هذا الأمر، يا أيها المؤمنون: إذا أذن لصلاة الجمعة في يوم الجمعة فالواجب عليكم أن تسعوا إلى ذكر الله سعيا يتحقق به شهود الصلاة وحضورها والحصول على الثواب كاملا، والمطلوب هو السعى بالأقدام والعمل مع الإخلاص بقلوب ذاكرة، ونفوس راغبة في الحضور والمشاهدة بين يدي الله جل جلاله. اسعوا إلى ذكر الله، وذروا البيع والشراء وما شابههما. ومن الذي تجب عليه الجمعة ويجب عليه السعى لها؟ هم الرجال المقيمون الأحرار الذين لا عذر لهم، وما المراد بهذا النداء؟ هل هذا الأذان الأول أو هو الأذان بين يدي الخطيب؟ الذي كان أيام النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه كان يؤذن المؤذن بين يديه ثم يقيم الصلاة، والأذان الأول حصل أيام عثمان، وعلى ذلك فالمراد هو الأذان الثاني لا الأول، ولكن في الواقع أن الاستعداد المعقول في هذه الأيام يقتضى أن نترك البيع ونسعى للصلاة عند سماع الأذان الأول حتى يكمل الاستعداد بهدوء وطمأنينة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 675 وقد ورد حديث عن النبي- عليه السلام-: «من ترك الجمعة ثلاث مرّات تهاونا بها طبع الله على قلبه» والجمعة كأى صلاة يلزمها الوضوء والطهارة، ويسن لها الغسل. فإذا قضيت الصلاة، وفرغتم منها فانتشروا في الأرض للتجارة والتصرف في حوائجكم، وابتغوا من فضل الله، واذكروا الله كثيرا رجاء أن تكونوا من الفالحين وروى عن بعضهم أنه كان يقول عقب صلاة الجمعة: اللهم إنى أجبت دعوتك وصليت فريضتك، وانتشرت كما أمرتنى، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين. روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يخطب قائما يوم الجمعة فجاءت عير من الشام فانفتل الناس إليها حتى لم يبق إلا اثنا عشر رجلا، فأنزلت هذه الآية: وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً. قل لهم: ما عند الله من الثواب الجزيل والفضل العميم والرزق الواسع، والبركة التي يعطيها بعض عباده خير من اللهو ومن التجارة التي تسرعون إليها قصدا، والله وحده خير الرازقين. فاطلبوا منه الرزق، واستعينوا بطاعته على نيل ما عنده من خيرى الدنيا والآخرة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 676 سورة المنافقون مدنية في قول الجميع، وهي إحدى عشرة آية، وقد تعرضت لذكر المنافقين وأعمالهم وصفاتهم ثم ختمت السورة بإرشادات هامة للمؤمنين. المنافقون [سورة المنافقون (63) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 677 المفردات: جاءَكَ الْمُنافِقُونَ. حضروا مجلسك. نَشْهَدُ: نحلف، ولا شك أن الحلف والشهادة كل منهما إثبات لأمر معين. جُنَّةً: سترة ووقاية. فَطُبِعَ: ختم عليهم بالخاتم. خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ أى: خشب ممالة إلى الجدار قاتَلَهُمُ اللَّهُ أى: لعنهم وطردهم من رحمته «1» أَنَّى يُؤْفَكُونَ «2» ؟ أى: يصرفون عن الحق إلى الباطل والكفر الذي هم فيه. لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ: عطفوها وأمالوها إلى غير جهة الأعادى، فلا تغتر بهم قاتلهم الله، أى: لعنهم وطردهم من رحمته. والكلام   (1) فالقتل مستعمل في اللعن والطرد استعارة تبعية لعلاقة المشابهة، والجامع أن كلا نهاية الشدائد ومنتهى العذاب، وذكر بعضهم أن «قاتله الله» كلمة ذم وتوبيخ وتستعملها العرب في التعجب من غير قصد إلى طلب اللعن، والمشهور تعقيبهم بما يدل على التعجب. (2) فأنى ظرف متضمن للاستفهام معمول لما بعده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 678 دعاء وطلب من ذاته- تعالى- أن يلعنهم هو ويطردهم، أو هو تعليم للمؤمنين أن يدعوا على المنافقين بذلك. وإذا قيل لهم: تعالوا إلى رسول الله يستغفر لكم عما فرط منكم، أشاحوا برءوسهم وعطفوها كبرا وإعراضا عن هذا الطلب واستهزاء به.. ورأيتهم يصدون جاهدين عن سبيل الله غيرهم، وهم مستكبرون. سواء عليهم استغفارك لهم وعدمه «1» فإنهم لن ينتفعوا به، ولن يؤمنوا لأن الله لن يغفر لهم، إن الله لا يهدى القوم الفاسقين، ولا غرابة في وصفهم بالفسق والخروج عن حدود الدين والعرف فهم يقولون لأصحابهم من الأنصار: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينقضوا. يَنْفَضُّوا: يتفرقوا. الْعِزَّةُ: الغلبة لا تُلْهِكُمْ: لا تشغلكم. أَجَلُها الأجل: آخر العمر. المعنى: إذا جاءك المنافقون وحضروا مجلسك قالوا بألسنتهم: نشهد إنك لرسول الله «2» والله يعلم إنك لرسوله حقا «3» والله يشهد إن المنافقين لكاذبون، فالتكذيب من الله لهم ليس لقولهم: إنك لرسول الله، ولكنه راجع إلى ادعائهم الصدق والموافقة في الشهادة بين اللسان والقلب، ولا شك أنهم كاذبون في قولهم هذا، لأنهم لا يؤمنون به بناء على أن الكذب ما خالف الاعتقاد.   (1) الهمزة في (أستغفرت) للاستفهام في الأصل واستعملت للتسوية مجازا. (2) إذا ظرف لقالوا، والتأكيد بأن واللام واسمية الجملة لتأكيد علمهم بهذا الخبر وشهادتهم، شهادة يطابق فيها اللسان القلب. (3) جملة اعتراضية بين قولهم وتكذيب الله لهم فائدتها دفع وهم أن التكذيب لقولهم في حد ذاته والتأكيد فيه لمزيد الاعتناء حقيقة بشأن الخبر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 679 اتخذوا أيمانهم التي تعودوا الحلف بها كذبا، اتخذوها جنة لهم ووقاية، فهم كلما ظهر منهم شيء يوجب المؤاخذة حلفوا عليه كاذبين عصمة لأموالهم ودمائهم- كما روى البخاري في سبب النزول- واتخاذ الأيمان جنة عبارة عن إعدادهم وتهيئتهم لها إلى وقت الحاجة ليحلفوا بها ويتخلصوا من المؤاخذة، فهم صدوا عن سبيل الله من أراد الدخول في الإسلام، واستمروا على ذلك، وقرئ (إيمانهم) والمراد ما كانوا يظهرونه من إسلام ليكون وقاية لهم من القتل أو الأسر، إنهم ساء ما كانوا يعملون من النفاق وما يتبعه. ذلك- والإشارة إلى أنهم أسوأ الناس عملا أو إلى ما حكى من نفاقهم وكذبهم وأيمانهم- بسبب أنهم آمنوا نفاقا وكذبا، ثم كفروا، أى: ظهر من أقوالهم وأفعالهم، فطبع على قلوبهم وختم عليها بالخاتم حتى لا يدخلها نور الحق، فهم لا يفقهون الحق والطريق السوى. وإذا رأيتهم تعجبك أجسامهم لقوتها وتناسب أعضائها، وإن يقولوا تسمع لقولهم لفصاحتهم وذلاقة ألسنتهم وحسن كلامهم في الدنيا، والخطاب في الآية لكل من يصلح للخطاب أو لسيد المخاطبين صلّى الله عليه وسلّم وكانوا يحضرون مجلس الرسول كأنهم خشب مسندة، شبهوا وهم جالسون مستندون إلى الحائط بالخشب المسندة، إذ لا روح فيهم يعقل، ولا بصيرة تبصر الخير، فهم كما نقول: أصنام أو كراسي. وهم لفرط هلعهم، وشدة خوفهم من أن ينزل فيهم قرآن يفضحهم، ويظهر طويتهم يحسبون كل صيحة واقعة عليهم، هم العدو الكاملون في العداوة، إذ لا أخطر من العدو المنافق الذي يضحك لك، وقلبه يتميز غيظا منك، فاحذرهم. روى البخاري عن زيد بن أرقم قال: كنت مع عمى فسمعت عبد الله بن أبى بن سلول يقول: «لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا» وقال: «لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل» فذكرت ذلك لعمى فذكر عمى لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم إلى عبد الله بن أبى وأصحابه فحلفوا ما قالوا وصدقهم رسول الله، وكذبني، فأصابنى هم لم يصبني مثله فجلست في بيتي فأنزل الله- عز وجل-: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ إلى قوله: هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إلى قوله: لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ فأرسل إلىّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ثم قال: «إن الله صدقك» . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 680 لا تنفقوا على من عند رسول الله من المهاجرين حتى ينفضوا ويتفرقوا عنه. عجبا لهؤلاء، أما علموا أن في السماء الرزق، وأن لله خزائن السموات والأرض، وأنه هو الرزاق ذو القوة المتين، ولكن المنافقين لا يفقهون ذلك. يقولون: لئن رجعنا إلى المدينة من غزوة بنى المصطلق ليخرجن الأعز منها- أرادوا أنفسهم- الأذل من المهاجرين وأصحاب رسول الله، بئسما قالوا والحال أن العزة والقهر والغلبة لله على أعدائه، ولرسوله العزة بنصرة دينه وإظهاره على الأديان كلها، وللمؤمنين العزة بنصرتهم على أعدائهم، وخاصة من يقول هذا الكلام السابق، ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك. أرأيت إلى المنافقين وإيمانهم الكاذب، وأيمانهم، وشهادتهم؟ - والله يعلم إنهم لكاذبون- انظر إليهم وقد اتخذوا أيمانهم جنة لهم، وقد صدوا عن سبيل الله وساء عملهم، وهم في المجالس كالخشب المسندة، ويظنون أن كل صيحة واقعة عليهم، وهم الذين يدعون غيرهم إلى الإمساك والشح لقصر عقولهم، ويتعاهدون على إخراج المؤمنين معتزين بالباطل والغرور، ولكن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ [سورة النساء آية 145] . يا أيها الذين آمنوا: لا تكونوا كالمنافقين الذين يغترون بالأموال والأولاد، ويشتغلون بتدبيرها ورعايتها عن ذكر الله، ولا شك أن من أهم الأسباب التي تدفع الإنسان إلى النفاق أو التحلل من الدين هو الانشغال بالدنيا وعوارضها، والانهماك الشديد في تحصيلهما ورعايتهما، فذلك مما يشغل الإنسان عن ذكر الله وعن عبادته، ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون لأنهم باعوا الباقية بالفانية، واشتروا الضلالة بالهدى، وليس معنى هذا أننا نترك الدنيا بما فيها من الأموال والأولاد، لا. ولكن المنهي عنه هو الانشغال بهما عن ذكر الله، أما إعطاء الدنيا حقها مع العبادة وذكر الله فهذا هو مطلوب الشرع الشريف، وفي هذه الدائرة يتنافس المتنافسون، وأنفقوا بعض ما رزقناكم، أنفقوا بعض ما جعلكم الله خلفاء فيه، وأنفقوا بعضا يكن لكم حصنا ووقاية من عذاب الله، أنفقوا بعض المال يكن حصنا لكم ولمالكم حتى لا يذهب في الدنيا، ولا تعاقبوا في الآخرة، أنفقوا قليلا من المال من قبل أن يأتى أحدكم مقدمات الموت وأماراته فيقول حين يرى ما أعد للمتخلفين عن أوامر الله، فيقول: رب لولا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 681 أخرتنى، أى: هلا أمهلتنى إلى أجل قريب وأعطيتنى أمدا قصيرا في الدنيا فأتصدق ببعض مالي ليكون وقاية لي من هذا العذاب وأكن «1» من العباد الصالحين. ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها، ولن يمهلها طرفة عين فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ. [سورة الأعراف آية 34] . وهكذا كل مفرط في دينه، وعابث في دنياه عند الاحتضار يكون نادما على ما فرط سائلا الرب- سبحانه وتعالى- طول الأجل ولو مدة يسيرة ليستعتب وليستدرك ما فاته، ولكن هيهات ثم هيهات! قد كان ما كان. وهو آت آت، والله خبير بما تعملون.   (1) قرئ وأكون عطفا على (فأصدق) ، وقرئ وأكن بالجزم بالعطف على موضع (فأصدق) كأنه قيل: إن أخرتنى أصدق وأكن، وعند سيبويه أنه جزم على توهم الشرط الذي يدل عليه التمني. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 682 سورة التغابن مدنية عند الأكثرين، وقال بعضهم: مكية إلا قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ إلى آخر السورة. وعدد آياتها ثماني عشرة آية، وهي في بيان قدرة الله وعلمه. من مظاهر قدرته وعلمه [سورة التغابن (64) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَما تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4) المفردات: صَوَّرَكُمْ التصوير: تخطيط وتشكيل، وهو الذي يكون به صورة الشيء وهيئته التي يعرف بها ويتميز عن غيره بسمتها. بِذاتِ الصُّدُورِ أى: صاحبة الصدور التي لا تبارحها، المراد بذلك حديث النفس والسر الذي لم يبح لأحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 683 المعنى: يسبح لله ما في السموات، وما في الأرض، وينزهه عن كل نقص، تنزيها مستمرّا كل ما فيهما، وذلك بدلالته على اتصافه بكل كمال، وسموه عن كل نقص، له الملك وحده دون غيره إذ هو المبدئ المعيد الخالق المصور- سبحانه وتعالى- وله وحده الحمد إذ هو المولى لكل النعم الرحمن الرحيم، وأما ملك غيره لبعض الأشياء فاسترعاء منه- جل شأنه- وتمليك منه له، وما حمد غيره- تبارك وتعالى- فلجريان بعض النعم على يديه فهو له في الحقيقة والواقع. وهو على كل شيء قدير. وها هي ذي بعض آثار القدرة: هو الذي خلقكم وأوجدكم من العدم، خلقكم من تراب وسواكم، ثم نفخ فيكم من روحه فكان الإنسان مكونا من مادة وروح، وفيه نوازع الخير ونوازع الشر، فمنكم أيها الناس كافر، ومنكم مؤمن، والله- جل جلاله- هو الذي أراد هذا وقدره، وكفر الكافر من تغلب مادته على روحه، وهكذا العاصي، والمؤمن بالعكس، وسيجازى ربك على الكفر والمعصية، أو على الإيمان والحسنة لأن صاحبها اختار ذلك، والله بما تعملون بصير، وهو بخلقه خبير. الذي خلقكم، وكان منكم الكافر والمؤمن خلق السموات والأرض، وهذا الكون كله الذي عرف بعضه، وجهل أكثره لم يخلق عبثا بل خلق خلقا ملتبسا بالحق والحكمة البالغة ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزى الذين أحسنوا بالحسنى، وهو الذي صوركم فأحسن صوركم لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «1» نعم خلقنا فصورنا على أتم صورة، وأكمل نظام، وأدق ترتيب، خلق فينا العقل والفكر، والنظر والبيان لنعرف مآلنا ونهاية أمرنا إن كنا من المفكرين! صورنا في أحسن صورة وإليه وحده المرجع والمصير، فالواجب أن نتقي الله وننظر ما قدمناه لغد، ونعلم أن الله يعلم ما في السموات والأرض، وهو يعلم الغيب والشهادة، ويعلم السر وأخفى، وهو العليم بذات الصدور جل شأنه وتبارك اسمه سبحانه وتعالى!   (1) - سورة التين آية 4. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 684 إثبات البعث وتهديد الكفار [سورة التغابن (64) : الآيات 5 الى 10] أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6) زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10) المفردات: نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا: خبرهم المهم. وَبالَ أَمْرِهِمْ: عاقبته «1» .   (1) أصل الوبال الثقل والشدة المترتبة على أمر، ومنه الوبيل: الطعام يثقل على المعدة، والوابل للمطر الثقيل، ثم أطلق على الضرر الذي يصيب الإنسان لأنه يثقل عليه، وعبر عن كفرهم بالأمر إشارة إلى أنه أمر هائل فظيع. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 685 زَعَمَ: ظنوا، الزعم: هو ادعاء العلم بالباطل. بَلى: نعم. النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا أى: القرآن. لِيَوْمِ الْجَمْعِ: هو يوم القيامة تجمع فيه الخلائق كلها. يَوْمُ التَّغابُنِ: هو يوم القيامة الذي يغبن فيه أهل الجنة أهل النار. المعنى: ألم يأتكم- أيها الكفار- خبر من كان قبلكم من قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم، هؤلاء كفروا فذاقوا وبال أمرهم، وكان عاقبة كفرهم خسرا عليهم في الدنيا، ولهم في الآخرة عذاب أليم لا يقادر قدره. ذلك العذاب الذي ذاقوه في الدنيا، وسيذوقونه في الآخرة بسبب أنه كانت تأتيهم رسلهم بالآيات المبينات والمعجزات الظاهرات، فكانوا يكفرون عنادا وكبرا، ويقولون- أى: تقول كل أمة منهم-: أبشر يهدينا؟! منكرين أن يكون الرسول بشرا ولو ظهرت في يديه المعجزات أَبَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ؟ فكأن الكل قالوا: أَبَشَرٌ يَهْدُونَنا «1» ؟ فكفروا، وأعرضوا عن الآيات، واستغنى الله عنهم حيث أهلكهم بعذاب من عنده، ولولا غناه عنهم لهداهم إلى الإيمان ووفقهم إليه، والله هو الغنى عن خلقه فضلا عن طاعتهم وإيمانهم، المحمود في السماء والأرض بلسان الحال لا بلسان المقال. زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا. ظنوا هذا بلا دليل وحجة، وادعوا العلم على ذلك بلا برهان، ولا شك أنه زعم باطل، قل لهم يا محمد: بلى. وربي لتبعثن يوم القيامة ثم لتنبؤن بما عملتم، ولتجزون على ذلك، وذلك كله على الله يسير، فإنه على كل شيء قدير. وإذا كان الأمر كذلك فآمنوا بالله ورسوله، وآمنوا بالنور الذي أنزلنا. وهو القرآن الذي أنزل رحمة للعالمين، ونبراسا للناس أجمعين يهديهم إلى الصراط المستقيم. ويقودهم إلى سعادة الدنيا والآخرة، فهو بلا شك نور رب العالمين، والله بما تعملون خبير.   (1) البشر هنا اسم جنس فوصف بالجمع، على أنه مبتدأ ويهدوننا خبر، وقيل: هو منصوب على الاشتغال. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 686 اذكروا يوم يجمعكم الحق- تبارك وتعالى- ليوم الجمع، يوم تجمع فيه الخلائق كلها، يوم يجمع فيه الأولون والآخرون، والثقلان أجمعون، ذلك يوم التغابن، وهو يوم القيامة سمى بذلك لأنه يوم يظهر فيه غبن كل كافر ترك الإيمان، وغبن كل مؤمن بتقصيره في الإحسان. ولا شك أن ذلك هو التغابن حقيقة الجدير بهذا الاسم «1» . وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً ... وكأن هاتين الآيتين بيان لمعنى التغابن: ومن يؤمن بالله حقا ويعمل صالحا يكفر الله عنه سيئاته ويسترها عليه، ويدخله جنات تجرى من تحتها الأنهار، خالدين فيها وذلك هو الفوز العظيم، والذين كفروا بالله ورسوله، وكذبوا بآياته- وخاصة القرآن الكريم- أولئك هم أصحاب النار خالدين فيها وبئس مصيرهم، فانظر إلى عاقبة المؤمنين. ونهاية الكافرين. الحياة الدنيا في نظر المؤمنين [سورة التغابن (64) : الآيات 11 الى 18] ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)   (1) والتغابن تفاعل من الغبن، وهو أخذ الشيء من صاحبه بأقل من قيمته، وهو لا يكون إلا في عقد المعاوضة، ولا معاوضة في الآخرة فإطلاق التغابن على ما يكون يوم القيامة إنما هو بطريق الاستعارة، وذلك لأن كلا من المؤمن والكافر جعله الله قادرا على اختيار ما يؤدى إلى سعادة الآخرة فاختيار كل فريق ما يشتهيه مما كان قادرا عليه يدل ما اختاره الآخر فهذا الاختيار منهما مشبه بالمبادلة والتجارة، وشبه ما يتفرع عليه من نزول كل واحد منها منزلة الآخر بالتغابن 1 هـ من حاشية الجمل وزادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 687 المفردات: ْنَةٌ والفتنة: بلاء ومحنة. مَا اسْتَطَعْتُمْ: جهد طاقتكم. شُحَّ نَفْسِهِ الشح: البخل والحرص الشديدان. تُقْرِضُوا المراد: تتصدقوا وتنفقوا. سبب النزول: روى أن الكفار قالوا: لو كان المسلمون مسلمين حقا لصانهم الله عن المصائب في الدنيا. فنزل قوله تعالى: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ ... الآيات توضح حقيقة الدنيا، وما يصيب المسلم فيها من خير أو شر. المعنى: لقد سبق بيان نتيجة الإيمان ونهايته، ونتيجة الكفر وغايته من الفوز العظيم للمؤمنين في الآخرة والمصير السيئ للكافرين فيها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 688 أما الدنيا فأمرها سهل هين جدّا إذ هي ليست دار جزاء ولا مثوبة، ولكنها دار عمل وتعب، وقد تكون محل ابتلاء واختبار بنزول المصائب والمحن على بعض الناس. ومن يؤمن بالله، ويعتقد هذا فإن الله هاديه إلى الحق والصواب من الصبر والثبات، والرجوع إلى الله، ولذلك يبيت هادئ النفس قرير العين مستريح القلب، والله بكل شيء عليم، وغير المؤمن إذا نزل به حادث أو ألمت به مصيبة ضجر وجزع، وأصابه الغم والكرب، وقضاء الله نافذ على الجميع. وما علينا إلا أن نطيع الله ورسوله في كل أمر ونهى فهذا هو العلاج الناجع، والدواء الصادق، فإن تولى البعض وأعرض فإنما حسابه على ربه، وما على الرسول إلا البلاغ المبين، فالله وحده هو الإله المقصود في كل شيء الذي له الملك وإليه يرجع الأمر كله فعليه وحده يتوكل المؤمنون ... أما الفهم الصحيح السليم للأزواج والأولاد، وللأهل والأموال فقد تكفلت الآيات: 14، 15. إلى آخر السورة بذلك فقد روى أن عوف بن مالك الأشجعى كان ذا أهل وولد، وكان إذا أراد الغزو بكوا إليه ورققوه وقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق فيقيم فنزلت الآية.. وفي رواية أنها نزلت في رجال أسلموا بمكة، وأرادوا أن يأتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم يأتون النبي صلّى الله عليه وسلّم فلما أتوا النبي ورأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم فأنزل الله تعالى هذه الآيات. يا أيها الذين آمنوا إن بعض أزواجكم وأولادكم عدوّا لكم، حيث يفعلون معكم فعل العدو، ويكونون حجر عثرة أمامكم يمنعونكم من فعل الخيرات، وقد يدعونكم إلى ارتكاب الذنوب والآثام في سبيل راحتهم والحرص على سعادتهم، ألست معى في أن من يفعل معى فعل العدو، ويمنعني عن الخير الذي ينفعني، ويحملني على فعل المعاصي يكون عدّوا لي، ولو كان زوجا أو ابنا أو غيرهما؟ إذا كان الأمر كذلك فاحذروهم، وقوا أنفسكم من شرورهم وآثامهم إن كانت لهم. ولكنهم من أهلك وذوى قرابتك فالمطلوب منك أن تحذر ما يوقعك في الشر فقط، ثم تعفو وتصفح وتغفر، فإنك إن تعف وتصفح وتغفر يعف عنك الله، إن الله غفور رحيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 689 إنما أموالكم وأولادكم فتنة وبلاء، ومحنة واختبار قد يترتب عليهم الوقوع في الآثام والشدائد، وكثيرا ما رأينا المال والأولاد يدفعان صاحبهما إلى فعل المهلكات ويحملان بعض الناس على الغرور الكاذب، وارتكاب الآثام والفظائع كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى «1» والله عنده أجر عظيم، فانظروا إليه ودعوا المال والولد فإنه لن ينفعكم يوم الحساب. فاتقوا الله ما استطعتم، وابذلوا في تقواه جهدكم وطاقتكم، وليكن أحب شيء إلى النفس حب الله ورسوله، واسمعوا مواعظه وأوامره سماع قبول، وأطيعوا في كل ما أمر، وأنفقوا مما رزقكم يكن خيرا لكم وأفضل، ولا يكن الولد والأهل مدعاة للجبن والبخل، واعلموا أنه من يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون، إن تصرفوا «2» بعض الأموال في سبيل الله وابتغاء رضوانه يثبكم على ذلك ثوابا جزيلا ويغفر لكم، والله شكور مجاز على الطاعات، حليم في العقاب على المعصية، وهو عالم الغيب والشهادة العزيز الحكيم.   (1) سورة العلق الآيتان 6 و 7. (2) سماه الله قرضا من حيث التزام الله ثوابه فهو يشبه القرض من هذه الناحية فيكون استعارة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 690 سورة الطلاق مدنية بالإجماع، وعدد آياتها إحدى عشرة آية، أو اثنتا عشرة آية. وتشتمل على أحكام تتعلق بالعدة وأحكامها، ثم تهديد بذكر عاقبة المخالفين. أحكام تتعلق بالعدة [سورة الطلاق (65) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 691 المفردات: وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ: اضبطوها، وأصل معنى الإحصاء: العد بالحصى كما كان أولا، ثم صار حقيقة في العد مطلقا. بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ: بسبب ارتكاب ذنب ظاهر كالزنا مثلا. حُدُودُ اللَّهِ: أحكامه. بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ: قضين عدتهن، والمراد: شارفن على انقضائها. ذَوَيْ عَدْلٍ: أصحاب عدل وذمة. وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ: أدوها لوجه الله بلا تحريف. مَخْرَجاً: طريقا للخروج من المآزق والأزمات العائلية. حَسْبُهُ: كافيه. بالِغُ أَمْرِهِ المراد: يبلغ ما يريده عز وجل. مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ: من جهة لا تخطر له على بال. قَدْراً: تقديرا لا يتعداه أصلا. يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ: أصابهن اليأس من الحيض لتقدم سنهن. إِنِ ارْتَبْتُمْ: إن شككتم أو ترددتم في عدتهن. وَأُولاتُ الْأَحْمالِ: أصحاب الأحمال، جمع حمل والمراد النساء الحبليات. أَجَلُهُنَّ: انقضاء عدتهن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 692 بالوضع. مِنْ وُجْدِكُمْ أى: مما تجدونه، ويكون في وسعكم وطاقتكم. وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ: ائتمر وتآمر بمعنى واحد، والمراد: تشاوروا في إرضاع الطفل، والمعروف: المسامحة والروح الكريمة. تَعاسَرْتُمْ: أصابكم إعسار واختلاف. قُدِرَ: قتر عليه في الرزق. المعنى: يا أيها النبي: إذا أردتم طلاق النساء فالواجب أن تطلقوهن لعدتهن، نادى الله النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم خاطب الجميع بقوله: إذا طلقتم للإشارة إلى أنه إمام أمته. وسيد جماعته كما يقال: يا فلان افعلوا كذا فهو المتكلم عنهم، والآمر لهم وهم لا يصدرون إلا عن رأيه فكان هو وحده سادا مسد الجميع، ولعل اختيار لفظ النبي في هذا يؤيد هذا المعنى، وقيل: نودي أولا ثم خوطبت أمته لأن أمر الطلاق مما لا يصح توجيهه للنبي الكريم. الطلاق جعل سلاحا في يد الزوج، ولكن يجب أن يستعمل في أضيق حدوده، ولا يشرع إلا إذا كان لا بد منه. فهو كما يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: «أبغض الحلال إلى الله الطّلاق» وروى عن أبى موسى عن النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ولا تطلّقوا النّساء إلا من ريبة- أى: بسببها- فإنّ الله عزّ وجلّ لا يحبّ الذّوّاقين ولا الذّوّاقات» وعن أنس قال: قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «ما حلف بالطّلاق ولا استحلف به إلّا منافق» هذا الطلاق المبغوض عند الله يجب ألا يوقعه الزوج في حالة يزداد بها ضرر المرأة، ولذا قال الفقهاء: إن الطلاق نوعان سنى وبدعى، أما السنى فهو الذي يقع في طهر مسبوق بحيض لم تجامع فيه المرأة، والبدعى غير ذلك، والمراد في الآية أن يكون الطلاق لعدتهن أى: في الوقت الذي يشرعن فيه في العدة، وهو في أى طهر لم تجامع فيه، وهذا ما يسمى بالطلاق السنى. وأحصوا- أيها الأزواج والزوجات- العدة- فإن المرأة المدخول بها إذا طلقت طلاقا واحدا أو اثنين كان لزوجها حق مراجعتها في العدة، فإن فاتت العدة كانت خطبة من جديد إن أراد، فإن طلقها ثلاثا لم تحل له حتى تنكح زوجا غيره. واتقوا الله ربكم، نعم أمرنا بالتقوى وسط هذه الأوامر التي يطل فيها الشيطان برأسه، وتسرع فيها الفتنة إسراعا كثيرا قد يدعو إلى تغيير الذمة، لهذا أمرنا بتقوى الله الجزء: 3 ¦ الصفحة: 693 في الطلاق وهدم البيوت، وتقوى الله في إحصاء العدة، وتقوى الله في القضاء على آمال امرأة، وربما كان لها أطفال. اتقوا الله أيها الناس ولا تخرجوهن، أى: المطلقات من بيوتهن التي هي ملك للزوج، ولكنها أضيفت لهن لتأكد النهى عن إخراجها من مسكنها الذي كانت تسكن فيه قبل الطلاق، ولا يخرجن، أى: النساء من تلك البيوت إلا أن يأتين بفاحشة ظاهرة تدعو إلى الإخراج كالزنا أو السرقة أو سبها لمن في البيت من الأهل والأبوين، فلو اتفق الزوجان على الخروج جاز عند بعض الأئمة. وتلك حدود الله وأحكامه، ومن يتعد حدود الله بأن أخل بشيء منها فقد ظلم نفسه وأضر بها، إذ حدود الله لمصلحة الإنسان، وأنت لا تدرى، لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا، نعم أنت لا تدرى فربما كان بقاء المرأة في مسكنها مدة العدة يدعوك إلى أن تراجع نفسك وترجع عما فعلته فتراجعها في العدة، وهذا كثيرا ما يحصل، بخلاف ما لو خرجت من البيت وكثر القيل والقال. وتدخل الناس بالإفساد انقطع غالبا حبل الصلة، والمشرع حريص جدّا على عدم انقطاعه. فإذا شارفن على آخر العدة فإما إمساك بمعروف بأن تراجعها لا للإضرار، أو تسريح بإحسان ومفارقة بمعروف، فالنبي صلّى الله عليه وسلّم يقول: «لا ضرر ولا ضرار» . ويندب أن تشهدوا رجلين عدلين على الطلاق أو الرجعة حتى لا يحصل خلاف فإن الذاكرة قد تخون، والنفس قد تسول لك أمرا لا يحبه الله، والواجب على الشهود أن يقيموا الشهادة لله، ويؤدوها خالصة لوجهه. ذلكم- الأحكام- يوعظ بها المؤمنون بالله واليوم الآخر حقا، أما غيرهم فلا يؤمنون ولا يوعظون بها. ومن يتق الله يجعل له مخرجا من كل شدة، ومتسعا من كل ضيق، وغنى من كل فقر، وسعادة من كل بؤس فالتقوى هي الطريق الأقوى، ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يدرى، ومن يتوكل على الله فهو حسبه وكافيه، والتقوى والتوكل ليسا باللسان وإنما هما بالقلب، ولا يعرفهما إلا الخالق العالم فلا يطلع عليهما سواه، والله يقول ذلك، وهو أصدق القائلين، ولكن من ذاق عرف، ولا يعرف الشوق إلا من يكابده. قال الربيع بن خيثم: إن الله- تعالى- قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه، ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 694 له، وتصديق ذلك في كتاب الله وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن 11] وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ [الطلاق 3] إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ [التغابن 64] وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ [آل عمران 101] وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ [البقرة 186] وكيف لا تتوكل على الله، والله بالغ ما يريده، قد جعل الله لكل شيء قدرا وتقديرا لا يتعداه بحال، فلا يبقى إلا التسليم والتوكل على الله حق التوكل، وهذا تأكيد وتقرير لقبول أحكام الله. عدة الآيسة من الحيض: عرف الله الناس عدة المطلقة التي تحيض بقوله: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وبين هنا حكم الطلاق والرجعة فيه. أما عدة الآيسة التي لا تحيض لكبر سنها فعدتها ثلاثة أشهر إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن، وقيل: إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض، أو لم يجر على الطريق المألوف وعند ذلك تسمى بالمستحاضة. عدة الصغيرة التي لم تحض: واللائي لم يحضن من الصغار فعدتهن ثلاثة أشهر كذلك. عدة الحامل: وأصحاب الحمل من النساء عدتهن بوضع الحمل مطلقا سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها، وسواء كان الحمل علقة أو مضغة أو سقطا أو جنينا كاملا ولو كان الوضع بعد الوفاة بلحظة. ومن يتق الله حق تقواه يجعل له من أمره يسرا، ذلك الذي ذكره من الأحكام أمر الله أنزله إليكم، وبينه لكم، ومن يتق الله باجتناب كل نواهيه، وامتثال كل أوامره يكفر عنه سيئاته، ويعظم له أجره في الآخرة. حق السكنى: أسكنوهن- أى: المطلقات البائنات من أزواجهن واللاتي لا رجعة لهم عليهن- كالمطلقة مع الإبراء وليست حاملا وهذه المرأة لها حق السكنى دون النفقة والكسوة لأنها بائن منه لا يتوارثان ولا رجعة لها، ولذا أوجبت لها السكنى فقط، أما الحامل فلها السكنى والنفقة والكسوة حتى تضع، أما المرأة التي لم تبن من زوجها فهي امرأته ترثه ويرثها، ولا تخرج من البيت إلا بإذنه كما أمر، لأنها مطلقة طلاقا رجعيا فهي ملحقة بالزوجة لها كل ما لها، وأما المطلقة ثلاثا فمذهب مالك والشافعى أن لها السكنى دون النفقة كالبائن، وأبو حنيفة يقول: لها السكنى والنفقة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 695 أسكنوهن بعض مكان سكناكم «1» من وجدكم، أى: مما تجدونه ومما تطيقونه، ولا تضاروهن في شيء فلتجئوهن إلى الخروج. نفقة الحامل: والحامل المطلقة تجب لها النفقة والسكنى حتى تضع، وأما الحامل المتوفى عنها زوجها فقيل: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع، وقيل: ينفق عليها من نصيبها فقط. رضاع الطفل: إذا طلقت المرأة وهي ترضع طفلها، فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة الرضاع، وهل للمرأة أن تأخذ الأجرة على الرضاع مطلقا وهي في عصمة الزوج أو لا يجوز لها إلا إذا كانت مطلقة بائنة أو غير بائنة؟ أقوال للفقهاء، وعلاج القرآن في هذا هو: وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ والمراد هو التشاور بالمعروف والقول الجميل بلا شدة ولا إضرار، فهو يقوم بطلباتها: وهي تقوم بإرضاع طفلها بلا معاكسات ومحاكمات. فإنها مهما كانت أم أولاده، وهو أب أولادها فمن الخير الإبقاء على الصلة: لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً. وإن تعاسرتم في أجرة الرضاع، أو اشتطت الأم في الأجرة، أوشح الرجل في دفعها فسترضع له امرأة أخرى، على أن المرأة المطلقة ليست ملزمة بالإرضاع للطفل إلا إذا أبى ثدي غيرها. النفقة: لينفق الزوج على زوجته المطلقة وعلى ولده الصغير على قدر وسعه بالنسبة لحاله فإن كان غنيا أنفق نفقة الأغنياء، وإن كان فقيرا أنفق نفقة الفقراء وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ، وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ «2» وقد قال النبي صلّى الله عليه وسلّم لهند: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف» لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها وما في وسعها. واتقوا الله فلا تظلموا غيركم، ولا تدعوا ما ليس فيكم، اتقوا الله في ادعاء الفقر أو الغنى، واعلموا أن الله سيجعل بعد عسر يسرا، وبعد الضيق فرجا، وبعد الفقر غنى وهو على كل شيء قدير.   (1) يقولون: إن جملة (أسكنوهن) وقعت جوابا على سؤال تقديره: كيف يتقى الله فيهن؟ وقوله: (من وجدكم) بيان: أو بدل من قوله: (من حيث سكنتم) . (2) سورة البقرة آية 233. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 696 وعد ووعيد [سورة الطلاق (65) : الآيات 8 الى 12] وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَرُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَعَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَكانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً (12) المفردات: وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ: وكثير من القرى عَتَتْ: من العتو، والمراد: أعرضت. نُكْراً: شديدا منكرا. وَبالَ أَمْرِها: عاقبته. أُولِي الْأَلْبابِ: أصحاب العقول. ذِكْراً: هو القرآن. رِزْقاً: جزاء حسنا. الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ المراد: أمر الله وقضاؤه. لقد سبقت أوامر لله وأحكام تتعلق بالأسرة والبيوت والطلاق والزواج والعدة والنفقات، وكانت في أول العصر الحديث مثار نقد شديد وطعن من علماء الغرب على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 697 الإسلام، ثم انتهى الأمر إلى أن أخذوا بمبدأ الإسلام في الطلاق والزواج. سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ «1» والله- جل جلاله- يهددنا إن تركنا أحكام القرآن بأنه سيغضب علينا ويذيقنا سوء العذاب في الدنيا والآخرة جزاء إهمال أحكام الإسلام، وقد كان ذلك. المعنى: كثير «2» من القرى- والمراد أصحاب كل قرية- عتت عن أمر ربها، وأعرضت عنه، وأهملته وخرجت عن أمر رسولها، ولم تمتثل له فكان الجزاء أنها حوسبت على أعمالها حسابا شديدا على ذلك، وعذبت عذابا منكرا في الدنيا والآخرة، فهي قد ذاقت وبال أمرها وعاقبته، وكانت عاقبة أمرها خسارة هائلة. أعد الله لها عذابا شديدا بعد ذلك في الآخرة غير ما مضى، ألست معى في أن من يترك أحكام الله، ويهمل أمر الدين يكون جزاؤه العذاب في الدنيا والآخرة؟! وإذا كان الأمر كذلك فاتقوا الله يا أصحاب العقول الراجحة- أعنى بهم الذين آمنوا بالله ورسوله- وكأن سائلا سأل وقال: لم هذا؟ فكان الجواب: قد أنزل الله إليكم أيها الناس ذكرا لكم هو القرآن، وأرسل رسولا يتلو عليكم آيات الله مبينات، تبين لكم كل شيء وتهديكم إلى كل خير، وقد بينها لكم ليخرج الذين آمنوا وعملوا الصالحات من الظلمات إلى النور، والمراد بهم من أراد الله لهم هذا، وسبق في علمه أنهم من أهل الجنة. ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله ربك جنات تجرى من تحتها الأنهار، وقد أحسن الله له رزقا فيها، ووسع له في جنات النعيم. ولا غرابة في ذلك كله فهي تشريعات الحكيم الخبير بكل شيء، فاحذروا مخالفة أمره   (1) سورة فصلت آية 53. (2) في هذا إشارة إلى أن (كأين) بمعنى كم الخبرية وهي تفيد التكثير، وأعربت مبتدأ و (من قرية) تمييز، و (عتت) خبر لها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 698 فإنه من يخالفه يذقه عذابا شديدا، فهو الله الذي خلق السموات السبع. وخلق من الأرض مثلهن، أى: سبعا وإن تكن مطبقة بعضها على بعض من غير فتوق بخلاف السموات، وقيل: المثلية في خضوعها لله وأمره وإرادته، الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل أمر الله وقضاؤه وحكمه بينهن، فالكل خاضع له جل جلاله، ومن كان كذلك كان قادرا على إيقاع العذاب على العصاة والمخالفين لأمره- جل جلاله-، ولتعلموا أن الله على كل شيء قدير، وأن الله قد أحاط بكل شيء علما، فاتقوا الله يا أصحاب العقول، واحذروا عقابه الشديد، واعتبروا بمن سبقكم من الأمم، واعلموا أن علاج القرآن لمشاكلكم إنما هو علاج الخبير البصير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 699 سورة التحريم مدنية بالإجماع، وعدد آياتها اثنتا عشرة آية وتسمى سورة النبي، ولذا تعرضت إليه كزوج وإلى بعض ما حدث من زوجاته، وذكرت مع بعض توجيهات مواعظ وأمثلة. ما حدث من بعض زوجاته من خصومة [سورة التحريم (66) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَإِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً (5) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 700 المفردات: فَرَضَ: شرع وسن. تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ: تحليلها، وحل ما عقدته الأيمان بالكفارة، أو بفعل المحلوف عليه. مَوْلاكُمْ: سيدكم ومتولى أموركم. نَبَّأَتْ بِهِ: أخبرت. وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ: أطلعه عليه وجعله ظاهرا عليه. صَغَتْ: مالت وقرئ: زاغت. مَوْلاهُ: ناصره. ظَهِيرٌ أى: مظاهرون ومعاونون. قانِتاتٍ: مواظبات على الطاعات. عابِداتٍ: متعبدات أو متذللات. سائِحاتٍ المراد: صائمات. ثَيِّباتٍ: جمع ثيب، وهي التي ترجع عن الزواج بعد زوال بكارتها. وَأَبْكاراً: جمع بكر من بكر: إذا تقدم غيره، ولا شك أنها تتقدم الثيب، والمراد بها من لم تفض بكارتها. روى الشيخان عن عائشة أن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يحب الحلوى والعسل، وكان إذا صلى دار على نسائه فيدنو من كل واحدة منهن، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس عندها أكثر مما كان يحتبس. فسألت عن ذلك فقيل لي: أهدت إليها امرأة من قومها عكة «1» عسل فسقت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم منه شربة، فقلت: والله لتحتالن له فذكرت ذلك لسودة وقلت لها: إذا دخل عليك ودنا منك فقولي له: يا رسول الله: أكلت مغافير «2» وقولي له: وما هذا الريح؟ وكان صلّى الله عليه وسلّم يكره أن يوجد منه الريح الكريهة، فإنه سيقول لك: سقتني حفصة شربة عسل، فقولي له: أكلت العرفط «3» حتى صارت فيه، أى: في العسل- ذلك الريح الكريهة، وإذا دخل علىّ فسأقول له ذلك، وقولي أنت يا صفية ذلك، وقد فعلن هذا. وفي هذه الرواية أن التي شرب عندها العسل حفصة، وفي رواية أخرى أن التي شرب عندها العسل زينب بنت جحش، والذي حرمه العسل، وأن حفصة وعائشة ائتمرتا عليه، وقد حلف لحفصة عند ما كلمته أنه لن يعود وأمرها ألا تخبر أحدا. وروى الدّارقطنيّ عن ابن عباس عن عمر قال: دخل رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بأم ولده مارية في بيت حفصة فوجدته حفصة معها- وكانت حفصة غابت إلى بيت أبيها-   (1) العكة: آنية صغيرة يوضع فيها سمن أو عسل. (2) المغافير: جمع مغفور: بقلة أو صمغة متغيرة الرائحة فيها حلاوة. (3) - هو نبت له ريح كريح الخمر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 701 فقالت له: تدخلها بيتي! ما صنعت بي هذا من بين نسائك إلا من هواني عليك. فقال لها: «لا تذكري هذا لعائشة فهي علىّ حرام إن قربتها» قالت حفصة وكيف تحرم عليك وهي جاريتك؟ فحلف لها ألا يقربها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: «لا تذكريه لأحد» فذكرته لعائشة فآلى ألا يدخل على نسائه شهرا فاعتزلهن تسعا وعشرين ليلة فأنزل الله- عز وجل- يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ويقول العلامة القرطبي: هذه الرواية أمثل في السند وأقرب إلى المعنى، لكنها لم تدون في الصحيح. المعنى: يا أيها النبي المختار: لأى شيء تحرم ما أحل الله لك؟ بمعنى: لا ينبغي منك ذلك، على أن المراد بالتحريم الامتناع عن الاستمتاع بالعسل، أو بمارية على الخلاف في الروايات، وليس المراد بالتحريم اعتقاد كونه حراما بعد ما أحله الله. لم تحرم ما أحل الله لك حالة كونك تبتغى مرضاة زوجاتك؟ إذ لا ينبغي منك أن تشتغل بما يرضى الخلق بل اللائق أن زوجاتك وسائر الخلق تسعى في رضاك، وتتفرغ أنت لمهام الرسالة، والله غفور رحيم، وفي ختام الآية بهذا دليل على تعظيم شأنه، وعلو مكانه حيث جعل ترك الأولى بالنسبة لمقام الكريم يعد كالذنب، وإن لم يكن في نفسه ذنبا، ولم يكن عتاب الله لنبيه إلا لمزيد الاعتناء به. لقد فرض الله لكم تحلة أيمانكم، وشرع لكم تحليلها بالكفارة وبفعل المحلوف عليه، وكفارة اليمين ذكرت في قوله تعالى: فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ (89 من سورة المائدة) . وعلى رواية أنه حلف تكون الآية ظاهرة المعنى، وعلى أنه لم يحلف يكون سمى التحريم يمينا لأنه تجب فيه كفارة اليمين، وهل كفر النبي صلّى الله عليه وسلّم بأن أعتق رقبة أو لم يكفر؟ قولان، قد فرض الله لكم تحليل يمينكم بالكفارة لها، والله مولاكم وهو العليم فيعلم ما يصلحكم فيشرعه لكم، وهو الحكيم في كل أفعاله وأحكامه. واذكر إذ أسر النبي إلى بعض أزواجه- هي حفصة على الصحيح- حديثا هو قوله صلّى الله عليه وسلّم عند ما عاتبته حفصة: كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود إليه، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 702 وقد حلف، وطلب منها ألا تخبر أحدا، ولكنها أخبرت عائشة بما جرى، فعاتبها النبي صلّى الله عليه وسلّم. فلما نبأت به وأخبرته عائشة، وقد أطلعه الله عليه، مع أنه كان سرّا بينهما، لما حصل هذا عرف النبي حفصة بعض الحديث الذي أفشته، قيل: هو قوله لها: كنت شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود، وأعرض النبي عن بعضه الآخر تكرما لما فيه من زيادة خجلها، فلما نبأها به قالت: من أخبرك بهذا؟ أهو عائشة يا ترى أم من؟ فأجاب النبي: الذي أخبرنى هو العليم الخبير. إن تتوبا إلى الله هذا خطاب لعائشة وحفصة كما روى عن عمر- رضى الله عنه- فلتوبتكما سبب وموجب فقد مالت قلوبكما عن الواجب، فإن الواجب أن تكونا في مرضاة رسول الله تحبان ما يحب وتكرهان ما يكره. وفي قراءة: فقد زاغت قلوبكما، والمراد: أسرعوا في التوبة وإرضاء رسول الله، وإن تتظاهرا عليه وتتعاونا على ما يسيئه بسبب شدة الغيرة فلن يعدم من يظاهره فإن الله مولاه وناصره، وجبريل وصالحوا المؤمنين كأبى بكر وعمر وغيرهما من كبار الصحابة، والملائكة بعد ذلك ظهراء له ومتعاونون على إرضائه، ومن كان كذلك فليس في حاجة إلى أحد بعد. وهاك تهديدا آخر: عسى «1» ربه إن طلقكن أن يعطيه نساء بدلكن خيرا منكن لأنكن لو كنتن خيرا، ما طلقكن. يبدله أزواجا مسلمات مخلصات، مؤمنات مصدقات تائبات راجعات إلى الله في كل حين، عابدات كثيرات العبادة، سائحات صائمات ثيبات وأبكارا «2» . ألست معى في أنه لا ينبغي لأحد أن يمتنع عن تناول ما أحله الله؟ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ «3» وفي أن الكفارات تجبر الخلل الذي يحصل منا، وفي أنا عرفنا موقف النساء بعضهن من بعض وغيرتهن، أليست هذه القصة دليلا   (1) عسى في القرآن واجب تحقيق ما بعدها إلا هذه، وقيل: هو واجب ولكن الله- عز وجل- علقه بشرط وهو التطليق. (2) ذكرت صفات بلا عطف لأنها تجتمع في موصوف واحد ولشدة ارتباطها ترك العطف، وأما في قوله: (ثيبات وأبكارا) فعطف لتباين الوصفين والعطف يقتضى المغايرة. (3) سورة المائدة آية 87. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 703 على أن هذا القرآن من عند الله لا من عند محمد؟! إذ لا يعقل أن يسجل إنسان على نفسه عتابا، أو يخبر عن نزاع في بيته. توجيهات ومواعظ [سورة التحريم (66) : الآيات 6 الى 9] يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) المفردات: قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ: احفظوها. غِلاظٌ: شداد في الخلق. شِدادٌ المراد: شداد في الجسم. نَصُوحاً: خالصة، مأخوذة من قولهم: عسل ناصح، أى: خالص من الشمع، أو المراد: بالغة في النصح. لا يُخْزِي: لا يفضح ولا يستخف. وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ: اشتد عليهم. وما أقوى هذه التوجيهات بعد سرد النزاع الداخلى في بيت النبي، وما أروع هذه المواعظ بعده، وما أحكم هذه المناسبة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 704 المعنى: يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله قوا أنفسكم وأهليكم نار جهنم، فإنها نار وقودها الناس والحجارة لا وقودها العشب والحطب احفظوا أنفسكم من هذه النار بترك المعاصي، وفعل الطاعات، واجتناب المنهيات، التي تغضب الله ورسوله، واحفظوا أهليكم منها بأن تأمروهن بالمعروف وتنهوهن عن المنكر، وتعلموهن الخير وأوامر الشرع وتؤدبوهن بأدب القرآن، والأهل: هم الزوجة والأولاد والخدم ومن هم في حوزتك ومعيشتك، ولقد صدق الله: وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْها «1» ، وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «2» فالمسلم الواجب عليه أن يصلح نفسه أولا، ويقي نفسه شر النار وغضب الجبار، ثم يتجه ثانية إلى تكوين أسرته على مبادئ الدين الحنيف ويغرس في نفوسهم أدب القرآن الكريم. والفضائل الإسلامية العليا، بهذا يكون وقى أهله من النار، فلست مطالبا بنفسك فقط. لا. بل عليك نفسك ثم أهلك وأسرتك، ثم إن أردت زيادة في الخير فادع إلى الله واعمل في محيط إخوانك ومعارفك وأصدقائك على نشر أدب الإسلام وتعاليمه. قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة، عليها حرس من الملائكة غلاظ الأخلاق شداد الأجسام، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. يا أيها الذين كفروا: لا تعتذروا اليوم- أى: عند إدخالهم النار تقول لهم الملائكة ذلك- ليس اليوم يوم عذر وعتاب، وإنما هو يوم جزاء وحساب، وإنما تجزون على ما كنتم تعملون في الدنيا. يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا «3» خالصة لوجه الله ليست لغرض أبدا توبة بالغة في النصح لينصح بها صاحبها نفسه، توبة تنصح الناس وتدعوهم إلى مثلها لظهور أثرها على صاحبها. والتوبة النصوح تستدعى الإقلاع عن الذنب، والندم عليه لكونه ذنبا- لا لسبب آخر- ندما قلبيّا يدعو إلى الحزن والأسف على ما فرط، وهذا بلا شك يستلزم العزم   (1) سورة طه آية 132. [ ..... ] (2) سورة الشعراء آية 214. (3) «نصوحا» من أمثلة المبالغة، وفيها مجاز عقلي حيث أسندت للتوبة، والمراد أصحابها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 705 على عدم العودة مرة أخرى، فإذا كان الذنب في حق الله اكتفى الحال بهذا، وإن كان في حق آدمي لزمك إرجاع الحق إلى صاحبه، أو طلب عفوه ومغفرته عنه ولو بالجملة، وهل قبول التوبة لازم أم متروك لمشيئة الله حتى يظل العبد متجها إلى الله؟ الحق- والله أعلم- أنه لا يجب على الله قبول التوبة إذا وجدت بشروطها لكن الله يقبلها كرما منه وتفضلا، عسى ربكم أن يكفر عنكم بالتوبة سيئاتكم، ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار. يوم لا يخزى الله النبي صلّى الله عليه وسلّم بل يكرمه ويعزه لأنه الحبيب المصطفى، ولا يخزى من معه من الذين آمنوا حالة كون نورهم يسعى ويمتد بين أيديهم وبأيمانهم، بشراهم اليوم حالة كونهم يقولون لما رأوا غيرهم يضلون: ربنا أتمم لنا نورنا. واغفر لنا إنك على كل شيء قدير. يا أيها النبي جاهد الكفار بكل ما أوتيت من قوة، وكذا المنافقين، اغلظ عليهم واشتد في معاملتهم. واعلم أن مأواهم جهنم، وبئس المصير مصيرهم. أمثلة حية للنساء [سورة التحريم (66) : الآيات 10 الى 12] ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10) وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 706 المفردات: مَثَلًا المثل: الصفة العجيبة، والمراد: إيراد حالة غريبة ليعرف بها حالة أخرى مشاكلة لها في الغرابة. فَلَمْ يُغْنِيا: لم يدفعا عنهما شيئا من الإغناء. أَحْصَنَتْ فَرْجَها: حفظته. بِكَلِماتِ رَبِّها: شرائعه. مِنَ الْقانِتِينَ: من القوم الطائعين. قد ضرب الله هذه الأمثال ليعلم الجميع أن القربى إلى الله بالطاعات، لا بالشفاعات والوسيلة، وأن المؤمنة الصابرة على الإيذاء ينجيها الله من القوم الظالمين، وفي هذا تعريض بأمهات المؤمنين وتخويف لهن بأنه لن ينفعهن قربهن من النبي إذا أتين بذنب. وهذا ختام للسورة رائع بذكر ما يدل على مسئولية المرأة. المعنى: ضرب الله مثلا للذين كفروا والمغرورين الذين يدعون الشفاعة لهم من النبي: ضرب مثلا امرأة نوح وامرأة لوط، كانتا متزوجتين رجلين كريمين على الله: الأول نوح الأب الثاني للبشر، والثاني لوط نبي كريم على الله، ولكن هاتين المرأتين خانتا زوجيهما. والظاهر- والله أعلم- أنها خيانة في العقيدة أو في الخلق غير الزنا فإن الخيانة الزوجية بالزنا خلق ذميم يتبرأ منه الأنبياء وعائلاتهم، فمن المعقول أن تكون امرأة النبي كافرة لأنها ترى هذا، وليس من المعقول أن تكون زانية لأن الزنا مرض وراثي ينشأ من البيئة التي يعيش فيها الشخص ولا يعقل أن يمسك النبي امرأة زانية. هاتان المرأتان خانت كل منهما زوجها بالكفر أو النميمة أو الاتصال بالأعداء مثلا، فلم ينفعهما قربهما من الأنبياء، ولم يدفع نوح ولوط مع كرامتهما عند الله عن زوجتيهما الجزء: 3 ¦ الصفحة: 707 لما عصتا من عذاب الله شيئا، وهذا بيان صريح على أن العذاب يدفع بالطاعة لا بالشفاعة، وقيل لهما: ادخلا النار مع الداخلين لها ممن ليس لهم صلة بنبي أو غيره. وضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأة فرعون وكانت مؤمنة صالحة، أى: جعل حالها العجيب مثلا لحال المؤمنين في أن صلتها بالكافرين لم تضرها شيئا، ما دامت هي تقوم بالعمل الصالح، ضرب الله مثلها إذ قالت عند تعذيب فرعون لها: رب ابن لي عندك بيتا في الجنة، ونجنى من فرعون وعمله، ونجنى من القوم الطغاة الظالمين. وضرب الله مثلا للذين آمنوا مريم ابنة عمران أم عيسى- عليه السلام- التي أحصنت فرجها وحفظته، لأنها العفيفة الحصينة المبرأة من العيب، يا سبحان الله هذا هو وصف القرآن لمريم البتول الطاهرة. فنفخ الله فيه من روحه، والنافخ هو جبريل بأمر الله، نفخ في فرجها وفي جيب قميصها روحا من الله، فحملت مريم عيسى، والإضافة التي في قول الله: من روحنا للتشريع والتكريم ولأنه روح وصلت إلى مريم بلا واسطة أب. وصدقت مريم بكلمات ربها حيث قال لها جبريل: إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا «1» صدقت بشرائع الله وكتبه، وكانت مريم من سلالة القوم الطائعين القانتين.   (1) - سورة مريم آية 19. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 708 سورة الملك وتسمى الواقية والمنجية، لأنها تقى وتنجي من عذاب القبر، وهي مكية على الصحيح، وعدد آياتها ثلاثون آية، وتشتمل كأخواتها المكيات على إثبات وجود الله ببيان مظاهر قدرته وعلمه، وقد تعرضت لما يلاقيه الناس يوم القيامة، ولبيان بعض نعمه على عباده، والسورة على العموم تدور حول بيان النعم. مظاهر القدرة والعلم [سورة الملك (67) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَجَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَقُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9) وَقالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 709 المفردات: تَبارَكَ البركة: النماء والزيادة حسية كانت أو معنوية، والمراد: تعالى وتعاظم بالذات عن كل ما سواه ذاتا وصفة وفعلا، وعليه قول العربي وقد وقف على ربوة: تباركت عليكم، أى: تعاليت حسيا. الْمَوْتَ وَالْحَياةَ الموت: عدم الحياة عما هي من شأنه، والحياة: ما يصبح بها الإحساس. لِيَبْلُوَكُمْ: ليختبركم، والمراد: ليعاملكم معاملة المختبر. طِباقاً: متطابقة بعضها فوق بعض بحيث يكون كل جزء منها مطابقا للجزء من الأخرى، وأصل الطبق: جعل الشيء على مقدار الشيء مطابقا له من جميع جوانبه كالغطاء له. تَفاوُتٍ: تباين وعدم تناسب. فُطُورٍ: صدوع وشقوق. كَرَّتَيْنِ: أى: كرة بعد كرة، والمراد: ترديد النظر. يَنْقَلِبْ: يرجع. خاسِئاً: محروما ذليلا لعدم إدراك مطلوبه. حَسِيرٌ: منقطع كليل. بِمَصابِيحَ المراد: بنجوم. رُجُوماً: جمع رجم، المراد ما يرجم به. وَأَعْتَدْنا: هيأنا. السَّعِيرِ: النار الملتهبة. شَهِيقاً: هو الصوت المنكر الذي يشبه صوت الحمار. تَفُورُ: تغلى. تَمَيَّزُ أى: تنقطع. فَوْجٌ: جماعة. فَسُحْقاً: بعدا عن رحمة الله، والمراد ألزمهم الله سحقا. الْغَيْظِ: شدة الغضب. المعنى: تعالى الله وتعاظم- جل شأنه- عما سواه ذاتا وصفة وفعلا وتكاثر خيره وبره على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 710 جميع خلقه، فهو صاحب التصرف التام في الموجودات «1» على مقتضى إرادته ومشيئته بلا منازع، وهو على كل شيء قدير وهو الحكيم الخبير، ولفظ «تبارك» يدل على غاية الكمال ونهاية التعظيم والإجلال، ولذا لا يجوز استعماله في حق غيره سبحانه وتعالى ... وقد شرع القرآن في تفصيل بعض أحكام الملك وآثار القدرة، وبيان أن لهما حكما وغايات جليلة كلها تعود على الإنسان بالخير العميم. وهو الذي خلق الموت والحياة، وقدرهما على كل كائن في الوجود، وراعي ترتيبهما الوجودي فقدم الموت على الحياة. ولعل في ذكر الموت مقدما عظة وعبرة لمن يعتبر، قدرهما ليعاملكم «2» معاملة من يختبر أمركم فيعرف خيركم وشركم، ويعلم أيكم أحسن عملا! وأكثر إخلاصا، وأبعد عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله، وكان المفروض أن يكون عمل الإنسان دائرا بين الحسن والأحسن لا بين الخير والشر، وقد خلق الله الموت والحياة ليبلوكم وليختبركم، فالحياة محل الاختبار والتكاليف، والموت محل الجزاء والثواب الذي هو نهاية الاختبار، وهو العزيز الذي لا يعجزه عقاب من أساء، الغفور لمن شاء أو لمن تاب. وهو الذي خلق سبع سموات متطابقة بعضها فوق بعض، وهل السموات هي مدارات الكواكب أو مادة لا يعلمها إلا الله؟ الظاهر- والله أعلم- من مجموع النصوص الواردة في القرآن والسنة أن السماء مادة لا يعلمها إلا الله، والعلماء الطبيعيون يقولون: إنها فراغ يدور فيها الكواكب. والخطب سهل، لو تبصر الإنسان لرأى أن الله هو الذي خلق سبع سموات- والعدد على حسب ما كان معروفا عند العرب متطابقة بعضها فوق بعض أشبه ما تكون بطبقات البيضة، ليس فيها عيب ولا خلل، ولا ترى في خلقها تفاوتا في أى ناحية من النواحي، إن كنت في شك في ذلك فارجع البصر، ودقق النظر حتى يتضح لك الحال، ويتبين لك المقام، ولا تبقى   (1) - وعلى ذلك يكون قوله «بيده الملك» استعارة تمثيلية، أى: لفظ اليد مجاز وليس على حقيقته. ويرى السلف أن اليد على حقيقتها والله أعلم بها. (2) - في قوله (ليبلوكم) استعارة تمثيلية حيث شبه معاملة المولى جل شأنه لعباده بالابتلاء والاختبار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 711 لك شبهة في تناسب خلق الرحمن واستكماله لكل أسباب الحكمة. فارجع البصر هل ترى من فطور أو شقوق؟ الجواب: لا. ثم ارجع البصر، ودقق النظر مرة بعد مرة- والمراد التكثير في النظر لمعرفة الخلل- يعد إليك البصر محروما من إدراك العيب والخلل في السموات، فكأن النظر طرد عن ذلك طردا بالصغار وعاد خاسئا ذليلا، وهو كليل من طول معاودة النظر. وعلى الجملة فالسماوات السبع، وما فيهن آية من آيات الله الكبرى لو تأملت ما فيها من تناسب وتجاذب وإحكام ودقة ونظام لا يختل أبدا مع سرعة دورانها، لهالك هذا النظام العجيب، وإن شككت في ذلك فارجع البصر مرة بعد مرة فإنه سيرتد إليك خائبا خاسئا وهو كليل وضعيف أمام هذه القدرة العظيمة. فهذه السموات السبع خالية من العيوب والخلل، وهي كذلك في غاية الحسن والبهاء. ولقد زينا السماء الدنيا بزينة هي الكواكب، فهي في السماء كالمصابيح في السقوف، وإنك لترى السماء ليلا، وكأنها عروس ليلة الزفاف، وهذه النجوم والأفلاك ينفصل منها أجزاء ملتهبة أو تلتهب من الاحتكاك بالأجواء هذه الأجزاء جعلت رجوما للشياطين، وأعدت لذلك فلم يعد للشياطين طريق لاستراق السمع من السماء، ولم يعد للدجالين الكذابين طريق للكذب على الناس، حيث إن الله أخبر أن النجوم خلقت زينة للسماء، ورجوما للشياطين، وأعتدنا لأولئك الشياطين عذاب النار المسعرة المشتعلة في الآخرة. وللذين كفروا بربهم عذاب جهنم، وبئس المصير مصيرهم، إذا ألقوا فيها سمعوا لها صوتا منكرا كصوت الحمار «1» ، وهو حسيسها حالة كونها تفور بهم وتغلى غليان المرجل، ويا ويلهم حينما يرون النار، تكاد تتميز، أى: ينفصل بعضها عن بعض من شدة الغيظ «2» والغضب! وهذا وصف لجهنم دقيق. وهاك وصفا لمن فيها: كلما ألقى فيها جماعة من أصحابها سألهم خزنتها وزبانيتها قائلين لهم: ألم يأتكم نذير يتلو عليكم آيات الله، وينذركم لقاء ربكم؟ قالوا: بلى قد   (1) - وعلى ذلك ففي (شهيق) استعارة صريحة. (2) - جهنم لا يعقل أن يكون لها غيظ وغضب وإنما يجوز أن يكون في الكلام استعارة تصريحية حيث شبه اشتعال النار بهم وشدة تأثيرها فيهم باغتياظ المغتاظ على غيره المبالغ في إيصال الضرر، ويجوز أن يكون الغضب للزبانية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 712 جاءنا نذير فأنذرنا وتلا علينا آيات ربنا، فكذبناه، وقلنا له: ما أنزل الله من شيء على بشر مثلنا، ما أنتم أيها الرسل جميعا إلا في ضلال كبير، وقالوا معترفين بخطئهم ومتحسرين على ما فاتهم: لو كنا نسمع الكلام سماع قبول وإنصاف، ولو كنا نعقل ونحكم عقولنا حقيقة في كل ما يلقى إلينا ما كنا في عداد أصحاب السعير اليوم! فاعترفوا بذنبهم الذي هو كفرهم بآيات الله فبعدا لهم من رحمة الله ورضوانه، وسحقا لهم إنهم من أصحاب السعير. أما المؤمنون الذين يخشون الله حقا، ويؤمنون به، ويخافون عذابه يوم القيامة أولئك لهم مغفرة عظيمة لذنوبهم، ولهم أجر كبير لا يقادر قدره ولا يعرف كنهه. بعض مظاهر نعمه وقدرته وعلمه مع تهديد الكفار [سورة الملك (67) : الآيات 13 الى 24] وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15) أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 713 المفردات: بِذاتِ الصُّدُورِ: صاحبة الصدور، والمراد بها الخواطر التي لم تبارح الصدور. اللَّطِيفُ لطف الشيء: دق وصغر حجمه، والمراد أنه مطلع على دقائق الأمور. ذَلُولًا من الذل: وهو اللين ضد الصعوبة، وليس من الذل، وهو الهوان فضده العز. مَناكِبِها: جمع منكب، بمعنى الناحية، والمراد نواحيها وجوانبها، وقيل: جبالها وآكامها إذ المنكب يطلق على ملتقى عظم العضد بالكتف، ولا شك أنه مرتفع. النُّشُورُ: الحياة بعد الموت. يَخْسِفَ يقال: خسف الله بفلان الأرض: إذا غيبه بها. تَمُورُ: تضطرب وتتحرك بشدة. حاصِباً الحاصب: ريح شديدة تحمل الحصباء، أى: الحجارة الصغيرة. نَكِيرِ: تغيرى، والمراد عذابي. صافَّاتٍ يقال: صف الطائر جناحيه: بسطها في الجو وهو يطير. وَيَقْبِضْنَ والمراد بقبضهما: ضم جناحيه إلى جنبه. جُنْدٌ: أنصار وأعوان. مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ أى: من غيره. بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ لجوا: تمادوا واستمروا، والعتو: العناد والكبر، والنفور: البعد عن الحق. مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ يقال: كبه على وجهه: صرعه وقلبه، والمكب: هو الشخص الذي يعتريه سقوط على وجهه من حين لآخر. سَوِيًّا: منتصب القامة. صِراطٍ: طريق. ذَرَأَكُمْ: خلقكم على جهة الكثرة. كان المشركون ينالون من النبي صلّى الله عليه وسلّم فيخبره جبريل- عليه السلام- فقال بعضهم لبعض: أسروا قولكم كي لا يسمع رب محمد. فنزلت وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 714 المعنى: الله يعلم الغيب والشهادة، ويعلم السر وأخفى، فسواء عنده الإسرار في القول والجهر به، إنه عليم بصاحبة الصدور، وبما يكون من الخواطر التي تلازم القلوب فلا تبرحها، ألا يعلم الله مخلوقاته التي خلقها؟ ألا يعلم الخالق خلقه؟ والحال أنه هو اللطيف العالم بدقائق شئون البشر، المطلع على خفايا الخلق، وهو اللطيف بعباده، وإن لطفه بعباده لعجيب، فهو يوصل الخير إليهم، ويكشف الضر عنهم من أخفى الطرق وأدقها، وهو الخبير بكل شيء. هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا: سهلة مذللة ينتفع الخلق بكل ما فيها، فانقياد الأرض لبنى آدم ظاهر الوضوح، وخاصة في هذه الأيام حيث لم يدع الخلق ضربا من ضروب الانتفاع إلا سلكوه، ولا عنصرا إلا حللوه وركبوه، صهروا المعادن، وفتتوا الذرات واستنبتوا النباتات، واكتشفوا أسرار الكائنات، وغاصوا في أعماق البحار وطاروا في أجواء الفضاء، أليس الله قد لطف بعباده حيث مكنهم من كل ذلك؟ جعل الأرض ذلولا، وإذا كان كذلك فامشوا في مناكبها ونواحيها، وجوانبها وأطرافها، وآكامها وسهلها وحزنها. احذروا أيها الناس هذا التمادي في الباطل، والتكذيب للرسل، واذكروا أنه تعالى جعل لكم الأرض سهلة لينة منقادة انقياد الدابة الذلول، فدعوا إذن العناد والتكذيب، واعلموا أن إليه النشور، وإليه وحده مرجع الإنسان في الحياة الأخرى ليحاسبه ويجازيه. واعلموا أيها الناس أن الله قادر على تبديل النعم بالنقم، فاحذروا عقابه، واخشوا غضبه، أأمنتم الحق- تبارك وتعالى- أن يخسف بكم الأرض، ويغيبكم فيها، فإذا هي تتحرك بشدة حركة غير عادية؟ أأمنتم أيها القوم ذلك الإله العظيم الذي تعتقدون أنه موجود في السماء- مع أنه ثبت بالدليل العقلي أن الله ليس له مكان بل هو موجود بقدرته وعلمه وإحاطته في كل مكان- أأمنتم أن يهلككم، ويبيدكم، ويغير هذه الأرض الذلول التي تنتفعون بها في كل شيء، فإذا هي تمور وتضطرب؟! بل أأمنتم الله الذي هو في السماء- كما تعتقدون- أن يرسل ريحا شديدة تثير الحصباء وتحملها، هذه الريح ترسل عليكم فتهلككم وتستأصل شأفتكم؟! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 715 انظر إلى ترتيب الآيات ترتيبا محكما دقيقا حيث ذكرهم ربك بنعمة صلاحية الأرض للمعيشة، ثم حذرهم عاقبة التمادي في الباطل، وأن من الحكمة ألا يأمنوا زوال النعم فإن الله قادر على سلبهم إياها، فبعد أن تكون الأرض ذلولا تصبح كالفرس الجموح فترجف وتضطرب اضطراب خسف وهلاك حتى تبتلعهم، وكأن العرب استبعدوا هذا، فأضرب الحق- تبارك وتعالى- عن تهديدهم بهذا إلى تهديدهم بشيء كثير الحصول عندهم، وهو الريح الحاصب التي تنزع الناس، وتتركهم هلكى كأنهم أعجاز نخل خاوية فهل ترى لهم من باقية؟! وفيه يتبين إنذار الله لهم حقا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ؟! ثم أراد الله أن يهددهم بأسلوب آخر يكون بلفت نظرهم إلى من تقدمهم من الأمم التي كذبت رسلها، وأبيدت عن آخرها، وفي ذلك سلوى للرسول الأكرم. ولقد كذب الذين من قبلهم من الأمم السابقة التي عرفوها، وكانوا يمرون على آثارهم، فغضب الله عليهم وأذاقهم عذاب الحياة الدنيا، وخسف بهم الأرض، وأهلكهم وتلك آثارهم، فانظروا كيف كان نكيري وسخطى على الكفار؟! هؤلاء كذبوا برسلهم، واستخفوا بوعيدهم، واغتروا بمالهم، فكانت عاقبة أمرهم خسرا في الدنيا والآخرة، وكان المشركون من العرب يعتقدون أن ما يهددون به لن يحل أبدا، فذكرهم بما حل بغيرهم. وذكر لهم بعض آيات قدرته في الكون ليعلموا أن الله على كل شيء قدير. فقال ما معناه: أليس من عجائب القدرة ما يراه الإنسان في كل وقت وآن، من تحليق الطيور في أجواز الفضاء، من الذي رفعها، ومن الذي منعها من السقوط، ومن الذي أوجد فيها القدرة على الطيران، وللتحرك في السماء، من الذي ركبها تركيبا به تقوى على ذلك؟ أليس هذا من عجائب صنع الله؟ أعموا ولم يروا إلى الطير فوقهم صافات أجنحتهن تارة، ويقبضنها تارة أخرى، ما فعل هذا إلا الرحمن الذي سهل لذلك الحيوان وسائل الطير والانتقال، كان هذا أساسا لتفكير الإنسان في الطيران، إنه بكل شيء بصير.. بسط الطائر لجناحه أساس طيرانه، وقد يبقى مستمرّا عليه ساعات، وقبضه له وهو يطير قليل الحصول، عارض متجدد. ومن هنا عبر عند البسط بقوله: «صافّات» وعند القبض بقوله: «يقبضن» «1» .   (1) - هذا جواب عن سؤال حاصله: لماذا عبر القرآن بقوله: (صافات ويقبضن) مخالفا بين اللفظين ولم يأت بهما فعلين أو اسمين؟ ومحور الجواب أن اسم الفاعل يدل على الدوام والاستمرار والفعل يدل على الحدوث والتجدد، والصف أى: البسط كثير دائم عند الطيران، والقبض قليل غير متجدد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 716 أولم ينظر المشركون إلى عجيب صنع الله وإلى آثار قدرته الظاهرة في طيران الطائر في الهواء فيعرفوا مبلغ قدرة الله على إنزال العذاب بهم؟! أم أنهم تعاموا عن ذلك اعتدادا بأن لهم من دون الله قوة تحميهم ولهم آلهة من دون الله ترزقهم إن أمسك الله عنهم الرزق، فوبخهم الله وأنبهم على هذا الزعم الفاسد، وأنكر عليهم وجود جند لهم وأعوان يدفعون عنهم عذاب الله إن أراد بهم سوءا فقال: أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ «1» لا جند لهم ولا أعوان، ما الكافرون الذين يتوهمون ذلك إلا في غرور باطل، وخداع كاذب، وأنكر عليهم اعتقادهم أن الآلهة ترزقهم إن أمسك الله عنهم الرزق بقوله: أمن هذا الذي يرزقكم؟ أى: أخبرونى من هذا- والإشارة هنا للتحقير- الذي تظنون أنه يرزقكم من دون الله؟! لا أحد أبدا يرزق غيره، فإن الله هو الرزاق ذو القوة المتين، بل هؤلاء لجوا في عنادهم، واستمروا في عتوهم ونفورهم عن الحق. ولقد ضرب الله مثلا للكفار المعاندين الموصوفين بالعتو والنفور مع مقارنتهم بالمؤمنين الذين هداهم الله إلى الصراط المستقيم، ولا شك أن الكافر المغرور الذي نفخ الشيطان في أنفه فامتلأ عتوّا ونفورا فهو كالماشى المكب على وجهه الذي يتعثر في كل خطوة يخطوها، أما المؤمن فهو كالسائر على طريق لاحب، أى: ممهد مستقيم، وهو منتصب القامة معتدل في المشي فأى القبيلين أهدى طريقا، وأقرب وصولا؟ وإذا كان المشركون كذلك فهل هم معذورون أولا؟ لا، ليسوا معذورين في شيء فالله خلق الخلق، وجعل لهم السمع والأبصار والأفئدة لعلهم يتجهون إلى الخير وإلى الحق: نور الله! ولكن قليلا ما يشكرون. قل لهم: هو الذي خلقكم، وذرأكم في الأرض فكان منكم النسل الكثير، والتكاثر المفضى إلى الانتشار في بقاع الأرض، ولكن اعلموا أنكم إليه تحشرون، ولا غرابة في ختام هذه الآيات بالحشر فإن السورة مكية من أغراضها إثبات البعث.   (1) - أمن هي أم الإضرابية، ومن هي للاستفهام الإنكارى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 717 إثبات للبعث وتهديد وبيان لبعض النعم [سورة الملك (67) : الآيات 25 الى 30] وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30) المفردات: زُلْفَةً أى: اقترابا، والمراد مقتربا. سِيئَتْ: من السوء، وهو القبيح. تَدَّعُونَ: من الدعاء بمعنى الطلب والنداء، أو من الدعاء بمعنى تدعون بطلانه. غَوْراً أى: غائرا، وغار الماء: إذا نضب وذهب في الأرض. مَعِينٍ: جار على وجه الأرض تراه العيون، مأخوذة من عانه إذا نظره بالعين، أو هو من معن الماء: إذا اطرد وتسلسل. المعنى: كان المشركون يسألون النبي صلّى الله عليه وسلّم عن ميعاد البعث استهزاء به وسخرية بوعيده وإنكارا له فيقولون: متى الساعة أيها المؤمنون إن كنتم صادقين في دعواكم؟. ولكن الله رد عليهم بقوله: إنما العلم عند الله، أى: الله وحده الذي يعلم الوقت، وإنما الرسول مبلغ فقط، أما متى يكون؟ فليس من اختصاصه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 718 فلما رأوا هذا اليوم الموعود، والعذاب السيئ الذي أعد لهم. لما رأوه وقد كانوا يكذبون به استاءت وجوههم، وامتلأت غيظا وهماّ، وقيل لهم تأنيبا وإيلاما: هذا الذي كنتم تطلبونه وتسألونه، أو هذا هو الذي كنتم تدعون بطلانه وتزعمون أنه لا يأتيكم، فها أنتم أولاء ترونه قريبا منكم، لا شك فيه الآن. كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعوهم إلى الإيمان، ويلح في ذلك، وفي خلال هذا يسفه أحلامهم ويذم آلهتهم، وكانوا يكرهون ذلك ويستاءون له فكانوا يقولون لبعض: انتظروا فسيموت وتموت دعوته ويهدأ بالنا، وتطمئن نفوسنا. فرد الله عليهم آمرا النبي أن يقول لهم: أخبرونى إن استجاب الله دعاءكم، فأهلكنا بالموت أو رحمنا فأخر أجلنا قليلا. ماذا تستفيدون من ذلك، ما دمتم مقيمين على الكفر والضلال، أتحسبون أن ذلك ينجيكم من عذاب الله؟ لا ولن ينفعكم موتنا أو عدمه، وإنما الذي ينفعكم هو الإيمان فقط، والذي نجانا نحن هو الإيمان بالرحمن والتوكل عليه فقط، وأما أنتم إذا ظللتم على ما أنتم عليه فستعلمون غدا من هو في ضلال كبير؟ قل لهم مذكرا بنعمة من نعمه: أخبرونى إن أصبح ماؤكم غائرا لا تصله الأيدى ولا الدلاء فمن يأتيكم بماء معين جار على وجه الأرض نابع من العيون، أو منظور إليه بالعيون؟ لا أحد غير الله فآمنوا به واعملوا صالحا ينجيكم ربكم من عذاب أليم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 719 سورة ن وتسمى سورة القلم، وهي مكية على الصحيح، وعدد آياتها اثنتان وخمسون آية وتشمل بيان بعض صفات النبي صلّى الله عليه وسلّم وإرشاده إلى مخالفة المكذبين ثم ذكر قصة أصحاب البستان تهديدا للكفار، ثم مناقشتهم وإبطال حججهم، وبعد ذلك أمر النبي بالصبر على أذاهم، مع بيان شدة بغضهم للنبي والقرآن. محمد رسول الله أكرم الخلق على الله [سورة القلم (68) : الآيات 1 الى 16] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7) فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَبَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 720 المفردات: ن ينطق بها هكذا نون: وفيها ما في حروف الهجاء التي افتتحت بها السور المكية، وقد تقدمت مرارا، وهي بلا شك رمز (شفرة) بين الله- تبارك وتعالى- وبين رسوله المصطفى، على أن بعضهم ذكر حكمة لذكرها، هي أنها سيقت تنبيها للمشركين إلى أن القرآن الذي أعجزكم مكون من حروف هجائية ينطق بها كل إنسان منكم، ومع هذا عجزتم عن الإتيان بمثله. وَالْقَلَمِ: وهو الآلة المعروفة. وَما يَسْطُرُونَ: وما يكتبون. مَمْنُونٍ: مقطوع أو منقوص. الْمَفْتُونُ: المجنون، من فتن: إذا أصيب بفتنة أى محنة أو بلاء من ذهاب عقل أو مال أو موت ولد. تُدْهِنُ من الإدهان، وهو المداهنة والملاينة، يقال: أدهن الرجل في دينه وداهن في أمره: إذا خان وأظهر خلاف ما يضمر، وأصل اللفظ من الدهن الذي هو البل، فإنه يلين اليابس. حَلَّافٍ: كثير الحلف. مَهِينٍ: ضعيف الرأى حقيره. هَمَّازٍ: كثير الهمز، والهمز في اللغة: النخس، ومنه المهماز للدابة، والمراد به الطعن في الناس والغض منهم وذكرهم بالمكروه، وهو كاللمز. مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ: يمشى بين الناس بالنميمة والسعاية. مُعْتَدٍ: يتعدى حدود العدل والإنصاف. أَثِيمٍ: كثير الآثام. عُتُلٍّ: هو الأكول والشّراب القوى الجسم الغليظ. زَنِيمٍ: دعى، أى: يندس في القوم ويلحق بهم في النسب ولا يكون منهم. سَنَسِمُهُ الوسم: أن تضع علامة على الشيء تميزه بها عن غيره. الْخُرْطُومِ: هو في الخنزير كالأنف للإنسان. المعنى: أقسم الحق- تبارك وتعالى- هنا بقوله: ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ أما القسم بالقلم وأثره فهو للإشارة إلى عظم النعمة بهما وأنهما من النعم على الإنسان بعد المنطق والبيان، إذ على قدر انتشارهما في أمة يكون مقدار نبوغها وتقدمها بين الأمم على أن هذا الإقسام بهما لفت أنظار العالم إلى خطرهما وأثرهما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 721 وما أروع لفظ وَما يَسْطُرُونَ حيث يشمل كل فنون الكتابة والتعبير عما في الضمير بالرسم والتصوير، ويشمل كل آلة أو نظام استحدث للتوصل إلى ذلك من آلات ومعدات حدثت أو ستحدث، وهكذا القرآن، لأنه صادر من علام الغيوب الذي يعلم ما كان وما سيكون من البشر، تجده يختار العبارات التي تشمل كل المخترعات ألا ترى إلى قوله: وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ [سورة النحل آية 8] . ولعلك تدهش حين تعلم أن هذه السورة من أوائل السور نزولا، وكانت سورة اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ أول سورة نزلت، ولكن لا غرابة فهذا دين سماوي يعرف مقدار الكتابة والقراءة وأثرهما في نظام الدنيا، ثم يكون هذا كله على يد نبي أمى عربي لا يقرأ ولا يكتب؟ وأقسم الله بالقلم وما يسطرون به ما أنت يا محمد- بنعمة ربك وفضله- بمجنون، كما يصفك هؤلاء المشركون، وكأن المعنى: انتفى عنك الجنون بسبب ما أنعم الله عليك من خلق كريم، ورعاية من ربك الرحمن الرحيم، وكيف تكون مجنونا، وأنت العاقل الصادق الأمين، بإقرارهم جميعا؟! وكيف ذلك؟! وإن لك لأجرا غير مقطوع، إنه عطاء غير محدود، على ما قمت به من تبليغ الرسالة وأداء الأمانة، وما تحملت في سبيل ذلك من عنت وإرهاق، كيف يكون مجنونا من يقوم بعبء هذه الرسالة؟! والحال أنك على خلق عظيم، وإذا شهد الله هذه الشهادة فهل بعد ذلك شيء. إذا كان الأمر كذلك، وأنك في عناية الله ورعايته، وأنك خاتم رسله وإمام أنبيائه فستبصر ويبصرون حقيقة الأمر، وأن الله مع المؤمنين، وهو ناصر رسله على الكفار والمشركين، وقد كان المشركون يعتزون بعددهم وأموالهم وأولادهم ويسترسلون في إيذاء النبي صلّى الله عليه وسلّم وربما تأثر النبي بشيء من ذلك، ولكن الله يطمئنه- ووعده الحق- أن النصر في جانبه، وأن الدائرة عليهم. فستعلم ويعلمون: من منكم هو المجنون؟ «1» ، وهذا كلام مبنى على التعريض بالمشركين بأن الجنون فيهم لا يعدوهم إلى غيرهم، ووصفه تعالى لهم بالجنون مشاكلة،   (1) - هذا هو المعنى المراد من قوله «بأيكم المفتون» وللوصول إليه قلنا بأن الباء صلة، أى: زائدة، ويصح أن نقول: إن (المفتون) ليس اسم مفعول ولكنه مصدر كالمعقول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 722 وفي الواقع ليس فيهم جنون حقيقة بل وصفوا به من حيث إعراضهم عن الحق واتباعهم الهوى والباطل: ولا شك أن من كان كذلك كان جديرا بالجنون، وحيث نصر الله عبده وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده علموا وعلم الكل أنهم كانوا كالمجانين حين كذبوا وكفروا، لا عجب في ذلك الحكم فربك هو أعلم- لا يعلم غيره- بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين، إذ هو خلق الناس من تراب ثم من نطفة ثم من علقة، فهو تعالى يعلم الذين حادوا عن السبيل، أو هدوا إلى صراط العزيز الحميد. إذا كان الأمر كذلك فلا تطع المكذبين بحال من الأحوال في أى شيء يطلبونه، إنهم ودوا من صميم قلوبهم لو تداهن في أمر يطلبونه، فهم يدهنون «1» كذلك، أى: يكافئونك على ملاينتك لهم. كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في أول الدعوة يقف وحده أمام قوى الأعداء المتكاثرة ومع هذا كانوا يعرضون على النبي أن يلاينهم نوعا ما فلا يذم آلهتهم، ولا يسفه أحلامهم وهم لذلك لا يهاجمون المسلمين، وربما وقع في نفس النبي بعض الشيء من هذا الكلام فجاءت هذه الآية فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ شحنا للعزائم، وإلهابا للهمة، بعد أن ذكره ربه في فاتحة السورة بما كان يصفه به أولئك المشركون من أنه مجنون وأفاك أثيم، فكيف بعد هذا يصانعهم أو يمالئهم، كان هذا تعليما إلهيا للنبي ولأصحاب الدعوات، إذ هذا غالبا ما يؤخذ سلاحا يطعن به الأشراف والأبرياء وأصحاب الدعوات، وهذا نهى للنبي عن إطاعة الكفار المكذبين مطلقا، ثم نهاه عن إطاعة نوع خاص فيه صفات خاصة، كل واحدة كفيلة بالتحذير من الطاعة، وهذه اجتمعت في الوليد بن المغيرة على الصحيح، وقيل: في غيره. ولا تطع كل حلاف كثير الحلف باليمين، فإنه لا يكثر الحلف إلا إذا كان معتقدا أن مخاطبه لا يصدقه، ولا بد أن يكون كذابا بينه وبين نفسه وبينه وبين ربه. مَهِينٍ أى: ذليل حقير في عقله ورأيه، لا في شخصه وماله. هَمَّازٍ: كثير الهمز واللمز، والطعن في الناس والغض منهم وذكرهم بالمكروه مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ يمشى بين الناس بالسعاية والفساد وإيقاع العداوة والبغضاء. مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ يمنع   (1) - جملة (ودوا لو تدهن) تعليل للنهى قبله، فيدهنون: الفاء للسببية، ويدهنون خبر لمبتدأ محذوف، وعطف هذه الجملة على ما قبلها عطف مسبب على سبب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 723 نفسه وغيره من الخير والإصلاح. مُعْتَدٍ أَثِيمٍ كثير الاعتداء وارتكاب الآثام والمعاصي مع الناس. عُتُلٍّ جاف غليظ الطبع سىء الخلق، بغيض المعاملة، أكول شروب مادى حقير. بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ بعد هذا كله فهو دعى ليس ذا أصل معروف، وقد كان الوليد كذلك استحلقه أبوه بعد ولادته بثمان عشرة سنة. لأنه كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال: هي أساطير الأولين وأكاذيبهم، يتداولها الناس من جيل إلى جيل. هذا المخلوق ومن على شاكلته سيسمه ربك على أنفه «1» وسيلحق به ذل وعار يلزمه لزوم العلامة، وقد تحقق ذلك فسيظل اسم الوليد بن المغيرة مقرونا بالذل والحقارة إلى يوم الدين. هذا هو محمد صلّى الله عليه وسلّم أكرم الخلق على الله، وهذه بعض صفاته يسجلها ربه في هذه السورة، ومعها توجيهات إلهية له ولكل من يقوم بدعوته، ومع هذا كله صفات عشرة كلها في منتهى الذم والحقارة وصف بها عدو من أعداء الحق والدعوة المحمدية!!! قصة أصحاب الجنة ومغزاها [سورة القلم (68) : الآيات 17 الى 33] إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَلا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31) عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)   (1) - هذا كناية عن إذلاله وإخضاعه وإهلاكه ماديا وأدبيا، وقد تحقق ذلك. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 724 المفردات: بَلَوْناهُمْ: فعلنا معهم فعل المختبر. الْجَنَّةِ المراد: البستان كثير الزروع والثمار والأغصان الملتفة التي تستر ما تحتها، والعرف يخص الجنة بفراديس النعيم في الآخرة. لَيَصْرِمُنَّها الصرام: وقت جنى الثمر. مُصْبِحِينَ: داخلين في الصباح. وَلا يَسْتَثْنُونَ المراد لا يقولون: إن شاء الله. طائِفٌ أى: طرقها في الليل من أمر الله طارق وهو هلاكها. كَالصَّرِيمِ: كالبستان المصروم ثمره أى: المقطوع، وللصريم معان أشهرها أنه الليل المظلم أو الأرض السوداء. حَرْثِكُمْ: زرعكم والمراد مكان الزرع، أى: الحقل. يَتَخافَتُونَ: يتكلمون كلاما مهموسا لا يسمعه أحد. وَغَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ: ذهبوا حالة كونهم قادرين في ظنهم على حرد أى: منع للمساكين. أَوْسَطُهُمْ: أعدلهم وأحسنهم رأيا لأن الوسط من كل شيء خياره وعليه قوله تعالى: (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) . لَوْلا تُسَبِّحُونَ: هلا تنزهون الله من كل سوء. يَتَلاوَمُونَ أى: يلوم بعضهم بعضا. يا وَيْلَنا: يا هلاكنا احضر فهذا أوانك. طاغِينَ: متجاوزين الحد والعقل والشرع. راغِبُونَ أى: متوجهون ومتضرعون. المعنى: لقد منّ الله على الناس جميعا بنعم لا تعد ولا تحصى، ومن الناس: أهل مكة، حيث كانت لهم تجارات واسعة وبعض المزروعات، وكانت لهم رحلتان صيفا وشتاء، ثم الجزء: 3 ¦ الصفحة: 725 أرسل لهم رسول الله بالهدى ودين الحق ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الهدى والعلم، ومع النبي صلّى الله عليه وسلّم قرآن فيه ذكرهم وشرفهم يهدى إلى الحق وإلى طريق مستقيم، ولكنهم كفروا وكذبوا، ولم يراعوا حق الله، وكفروا بالنعم فاستحقوا العذاب والهلاك، أليس هذا بلاء وأى بلاء؟ إنا بلونا أهل مكة بالنعم، ثم بإرسال إمام الرسل، فكفروا واستحقوا من الله عظيم النقم، حيث اغتروا بالمال والأهل والولد، ولم يرعوا حق الله فيهم، كما بلونا أصحاب البستان كثير الخير والبركات عظيم الثمر، ملتف الأغصان، ولكنهم ما عرفوا حق الله وكفروا بالمساكين وحقوقهم، ثم بعد ذلك ندموا، ولات ساعة الندم. ولأصحاب البستان قصة خلاصتها: كان هناك رجل صالح يخاف الله، ويعطى حقوق المساكين، ويعلن عن يوم الجنى ليحضر كل مستحق فيأخذ من خير الله ما يستحق، ثم توفى هذا الرجل وخلفه أولاده على البستان وكانوا كثرة، ثم لما قرب جنى الثمار تذاكروا فيما بينهم ماذا يفعلون كما كان أبوهم يفعل؟ لا. إنه كان رجلا طيبا، وكان فردا واحدا منهم تبعاته قليلة، أما نحن فجماعة ولنا أولاد، وبأى شيء يستحق المسكين في البستان؟ ونحن الذين قمنا بالحرث والزرع والتسميد. لا. لا. لن نعطى أحدا، قالوا هذا إلا واحدا منهم وعظهم فلم يتعظوا، وأمرهم فلم يأتمروا، وكان واحدا وهم جماعة فنزل على إرادتهم مكرها، ولا تنس قول الله: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا [سورة البقرة آية 268] . عقدوا أمرهم عشاء على أن يذهبوا مبكرين في الصباح ليصرموا الجنة وحدهم بدون أن يعلم المساكين ولم يقولوا: إن شاء الله، وظنوا أنهم قادرون على منعهم، وبيناهم كذلك إذ طاف عليها طائف من ربك، وطرقها بلاء عظيم لم يكن للإنسان فيه أى مدخل، فأصبحت كالبستان المصروم ثمره. أصبحت كقطعة الليل ظلاما، أرأيت إلى حقل القطن بعد الجنى؟ إنه كالليل الأسود. فلما رأوها هكذا، بعد أن ساروا ليلا في السر، وكتموا أنفاسهم حتى لا يعلم مسكين قصدهم، لما رأوها قالوا: يا ويلنا إنّا لضالون حيث منعنا حقوق المساكين وغفلنا عن قدرة الله الكبير، ثم بعد ذلك ذهبوا إلى أبعد من هذا قائلين: لا تظنوا أنا حرمنا المساكين بفعلنا هذا. لا. ليسوا محرومين أبدا فإن الله موجود، ولكن نحن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 726 المحرومون من التوفيق والهداية، حيث خرجنا عن أمره. وقسونا على عباده وخلقه. قال أوسطهم عقلا، وأرجحهم رأيا: ألم أقل لكم عند ما عزمتم على منع المساكين هلا تسبحون الله؟ هلا تنزهون الله فتطيعوا أمره؟ ولا تظنوا فيه العجز على الرزق والإعطاء ومعاقبة العاصي المتكبر؟ قالوا إزاء هذا: سبحان ربنا وتنزيها له إنا كنا ظالمين. ندموا على ما فات وهل ندمهم كان صحيحا أم لا؟ الله أعلم. فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون، قالوا: يا ويلنا، إنا كنا طاغين وخارجين عن حدود العقل والشرع والسنن الإلهية، ندموا وقالوا: عسى ربنا أن يبدلنا خيرا من تلك الجنة التي أبيدت، إنا إلى الله وحده راغبون ومتجهون. أيها الناس: العذاب العاجل نرسله على الطغاة المتجبرين والكفار والمشركين مثل هذا العذاب الذي أرسل في لحظة واحدة فأهلك الحرث والنسل، فإياكم والغرور وإياكم ومخالفة أمر الله، ولعذاب الآخرة أكبر وأشد لو كان الناس يعلمون. مناقشة المكذبين وتهديدهم [سورة القلم (68) : الآيات 34 الى 47] إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 727 المفردات: تَدْرُسُونَ درس الكتاب: قرأه بعناية ليفهمه. أَيْمانٌ: عهود ومواثيق. بالِغَةٌ: مغلظة مؤكدة. زَعِيمٌ: كفيل وضامن. يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ: كناية عن اشتداد الأمر وعظيم الهول يوم القيامة. تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ: تلحقهم ذلة واستكانة. فَذَرْنِي: اتركني. الْحَدِيثِ: القرآن والوحى الذي يبلغه النبي إلى الناس. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ الاستدراج: أن تنزل بالمرء درجة درجة إلى حيث تريد، والمراد سنأخذهم على غفلة. وَأُمْلِي لَهُمْ: أمهلهم وأؤخرهم. كَيْدِي مَتِينٌ: عمل معهم الذي يشبه الكيد القوى. أَجْراً: أجره على البلاغ. مَغْرَمٍ: غرامة. مُثْقَلُونَ: محملون حملا ثقيلا. لقد كان مشركو مكة يقفون من الدعوة الإسلامية موقف العدو اللدود الذي ينفق كل نفس ونفيس في سبيل إحباطها والقضاء عليها، والله- جل جلاله- يعلم ذلك، فهو تارة يهددهم، ويكشف حالهم، ويباعد بين النبي صلّى الله عليه وسلّم وبينهم فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ وتارة يضرب لهم الأمثال بمن سبقهم من المغرورين والمكذبين الذين نالهم من الله ما نالهم كأصحاب الجنة. ثم بعد ذلك أخذ يناقشهم الحساب وينقض أوهامهم وحججهم. وقد كانوا يقولون: نحن أحسن حالا من النبي وصحبه فنحن أكثر مالا وأغنى رجالا، ولنا قوة ومنعة، وأصحاب محمد في فقر وضعف وقلة عدد وعدد. فإذا كان يوم القيامة فنحن سنكون مثلهم إن لم نكن أحسن منهم. في هذا سيقت تلك الآيات الواضحات تفند رأيهم وتهدم زعمهم الباطل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 728 المعنى: إن للمتقين الذين اتقوا الله واتخذوا لأنفسهم الوقاية من عذاب الله حيث امتثلوا أمره، واجتنبوا نهيه، هؤلاء لهم عند ربهم جنات النعيم، إن للمتقين- لا الكافرين المكذبين- جنات النعيم، وانظر إلى قوله: عند ربهم: فهل يعقل أن يكون للكفار جنة مثلهم عند ربهم؟ وقد كفروا به ولم يعرفوا له حقه. يقول الحق- تبارك وتعالى-: عجبا لكم أيها الكفار، أفنجور في الحكم- وهذا محال- فنجعل المسلمين المتقين كالمجرمين الكافرين، ثم التفت لهم لتأكيد الرد وتشديده قائلا: ما لكم؟ أى شيء حصل لكم من خلل في العقل وسوء في الرأى؟ كيف تحكمون؟ أى: على أى وضع حكمتم هذا الحكم؟ هل هو عن عقل أو عن اختلال فكر وسوء رأى؟ «1» . لا. إنه حكم مجرد عن العقل والنظر السليم. أم لكم كتاب فيه تدرسون؟ إن لكم فيه لما تخيرون؟ بل «2» ألكم كتاب مكتوب سواء كان سماويا أو غيره تدرسون فيه وتقرأون إن لكم فيه الذي تتخيرونه وترضونه بقطع النظر عن أى اعتبار! لا شيء من هذا. لم يكن لكم كتاب فيه ما تقولونه من أن لكم يوم القيامة ما تختارونه. بل ألكم أيمان، وعهود علينا، أيمان مغلظة وعهود موثقة تبلغ إلى يوم القيامة. جوابها إن لكم لما تحكمون! .. لا شيء من هذا أبدا. سلهم يا محمد متحديا: إن كان لهم كتاب فيه ما ذكر فليبرزوه، وإن كان لهم يمين من الله فليظهروه، وإن كان لهم زعيم وضامن لهم ما يقولون فمن هو؟ فليس معهم دليل نقلي من كتاب الله أو غيره، وليست لهم حجة ظنية من يمين أو غيره وليس لهم ضامن يضمن قولهم فماذا بعد هذا؟!   (1) - «ما لكم كيف تحكمون» جملتان استفهاميتان الأولى هي (ما لكم) . وهي مبتدأ وخبر، والثانية هي كيف تحكمون؟ (2) - أم لكم كتاب (أم) بمعنى بل والهمزة، بل الانتقالية من حديث إلى آخر، والهمزة للاستفهام التوبيخي، وكذا يقال في أخواتها التي هنا، وجملة (إن لكم لما تخيرون) مفعول في المعنى لتدرسون، وكان حقها فتح أن لكن اللام التي في خبرها علقت الفعل وهو تدرسون عن العمل فكسرت إن. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 729 بل ألهم شركاء من الأصنام والأوثان التي يعبدونها إن كانوا صادقين فليأتوا بشركاء يشهدون لهم، ويؤيدونهم في أن لهم نصيبا في الجنة، لا شك أن المشركين ليس لهم شركاء يشهدون لهم، إذ هي أصنام وأوثان لا تنفع ولا تضر، ولا تبصر ولا تسمع، وبذلك تكون قد بطلت حجتهم، وانقطعت معاذيرهم، وحقت الكلمة عليهم، إن كان لهم شركاء كما يدعون فليأتوا بهم يوم يكشف عن ساق: وهو يوم القيامة، يوم الفزع الأكبر، يوم يشتد الهول ويعظم الأمر. اذكروا أيها المشركون ذلك اليوم الشديد الهول الذي يجازى فيه كل على ما فرط في جنب الله، وستجازون أنتم على ذلك ويقال لكم: ها أنتم اليوم قد ظهر لكم الحق، فاسجدوا لله واعبدوا، ولكن أنى لهم ذلك؟ وقد حيل بينهم وبين ما يشتهون؟! عند ذلك تخشع أبصارهم، وترتجف قلوبهم، وترهقهم ذلة واستكانة مما قدموا من سىء الأعمال، وقد كانوا قبل ذلك يدعون إلى السجود بإلحاح، وهم في بحبوحة العيش وسلامة الجسم، وفي وقت العمل والطاعة، أما اليوم فهو للجزاء والحساب فقط. فيا ويلهم من هذا اليوم الذي يكشف فيه عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون. إذا كان الأمر كذلك فاتركنى مع من يكذب بهذا القرآن، اتركني وهؤلاء فأنا بهم بصير، وعلى جزائهم قدير، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون «1» ، أما استدراج الله لهم فهو أن الله أعطاهم مالا وأولادا، ومتعهم بصحة وعافية فشغلهم كل ذلك عن النظر الصحيح في آيات الله واتباع الرسول مع قيام الأدلة الواضحة على صدقه وصحة نبوته، وقد تمادوا في باطلهم وغفلتهم، حتى حسبوا أن تأخير العذاب عنهم وإسداء النعم لهم لأنهم يستحقون ذلك، وأنهم مكرمون عند ربهم، بل أعماهم الغرور ففهموا أنه سيكون لهم مثل ذلك يوم القيامة كالمؤمنين على الأقل، وما زال المشركون كذلك سادرين في غيهم وغرورهم حتى نزل بهم البلاء فبدد الله جمعهم، وشتت شملهم أليس هذا استدراجا لهم؟ وإملاء لهم حتى تكون القاضية. وقد سمى تأخير العذاب عنهم وتمتعهم بالنعم- مع أنه قدر عليهم الشقاء والفناء   (1) - جواب سؤال مقدر كأن سائلا سأل وقال: وماذا أنت يا رب صانع بهم؟ فالجواب: سنستدرجهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 730 والهلاك وسيلاقونه حتما- سمى الله هذا كيدا لأنه يشبه الكيد إذ الكيد الحقيقي عمل الضعيف مع القوى، والله مبرأ من هذا، فهو القوى القادر ذو البطش الشديد. بل أتسألهم أجرا كبيرا على رسالتك، فهم من التزاماته مثقلون؟ بل أعندهم صحائف الغيب فهم يكتبون ما شاءوا لهم؟ لا هذا ولا ذاك، وقد لزمتهم الحجة. ختام السورة [سورة القلم (68) : الآيات 48 الى 52] فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52) المفردات: كَصاحِبِ الْحُوتِ: هو يونس بن متى. مَكْظُومٌ: من كظم غيظه: إذا رده وحبسه. بِالْعَراءِ: بالأرض الفضاء. مَذْمُومٌ: ملوم. فَاجْتَباهُ رَبُّهُ: اختاره. لَيُزْلِقُونَكَ: ليجعلونك تزلق وتزل، يقال: زلقت قدمه: زلت، وأزلق فلانا ببصره نظر إليه نظر متسخط كاره. المعنى: إذا كان الأمر كذلك، وأن هؤلاء الكفار قد بطلت حجتهم، ولم يعد فيه فائدة من نقاشهم فاصبر لحكم ربك وقضائه، فإن لله سنة لا تتخلف أبدا مع الناس فهو يملى للمكذبين، ويؤجل عقوبتهم، ولكنه لا يهملهم أبدا، ولا بد من نزول العقوبة بهم، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 731 وليس عليك إلا الصبر، ولا تكن كيونس بن متى ذلك النبي الصالح الذي لاقى من قومه عنتا ومشقة وألما وهماّ، لا تكن مثله في الضجر والألم وعدم التحمل إذ نادى، ودعا على قومه، وهو ممتلئ غيظا وألما، ثم خرج من ديارهم كارها لهم كالآبق، فلما وصل إلى الساحل ركب السفينة، وانتهى الأمر إلى إيقاعه في اليم، فالتقطه الحوت، وهو مليم آت بما يلام عليه حيث لم يصبر على أذى قومه إلى أن يقضى الله أمرا كان مفعولا ... وفي سورة (ص) المزيد من قصة يونس. ولكن الله تداركه بلطفه، حين استقر في بطن الحوت، وأصبح في ظلمات ثلاث فنادى الله اللطيف الخبير تائبا نائبا لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «1» لما تداركه الله برحمته وقبل توبته ألقاه الحوت في العراء، والحال أنه غير مذموم إذ قبل الله توبته، فاجتباه وأرسله إلى أهل «نينوى» فآمنوا به، ومتعهم ربك إلى حين، ولا عجب فهو من الصالحين. فيا رسول الله لا تكن كيونس، وإنما اصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل، وسيقضي الله أمرا كان مفعولا، واعلم أن هؤلاء المكذبين لا يألون جهدا في عداوتك فمهما لاقيت منهم فهو قليل، ولا أدل على ذلك من قوله تعالى: وإن يكاد الذين كفروا لينظرون إليك نظر الحاقد الكاره حتى كأنه من شدة الغيظ والحنق يكاد يزلق قدمك ويرميك من طولك، فهذه النظرات المسمومة كأنها سهام محسوسة حين يسمعون منك القرآن، أرأيت وصفا أدق من هذا للحقاد الحاسد! ويقولون: إنه لمجنون كما قالوا سابقا، وما هذا القرآن إلا ذكر للعالمين، وشرف للناس أجمعين، فهل يعقل أن يكون هذا القرآن آتيا على يد مجنون!!   (1) - سورة الأنبياء آية 87. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 732 سورة الحاقة وهي مكية بالإجماع وعدد آياتها إحدى وخمسون آية، وهي تشمل الكلام على يوم القيامة، ومن كذب به من الأمم السابقة ونهايتهم، ثم وصفا عامّا لهذا اليوم وما يلاقيه المؤمن والكافر، ثم تعرضت للقرآن وأثبتت أنه من عند الله بلا شك، وأن الواجب على النبي هو الصبر والتسبيح لله. جزاء من كذب بالساعة [سورة الحاقة (69) : الآيات 1 الى 12] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعادٌ بِالْقارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12) المفردات: الْحَاقَّةُ: من حق فلان الأمر بمعنى حققه وأوجبه وأثبته، والمراد الساعة والحاقة لأمور الحساب والمثبتة له، أو هي المحققة الوقوع. بِالْقارِعَةِ: ضرب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 733 الشيء الصلب والنقر عليه بشيء مثله، والمراد الساعة التي تقرع القلوب بهولها والدنيا بدكها وانصداعها. بِالطَّاغِيَةِ أى: بالطغيان والظلم الواقع منهم. صَرْصَرٍ: شديدة الهبوب في الآذان وشديدة البرودة على الأبدان. عاتِيَةٍ: متجاوزة الحد في العصف والهبوب. حُسُوماً الحسم في اللغة: القطع بالاستئصال. صَرْعى: مطروحين على الأرض. أَعْجازُ نَخْلٍ: أصولها وجذوعها. خاوِيَةٍ: نخرة فارغة. وَالْمُؤْتَفِكاتُ: المتقلبات، يقال: ائتفكت القرية بأهلها: انقلبت، ومنه الإفك للكذب لأنه يقلب الحقائق. بِالْخاطِئَةِ: بالأفعال الخاطئة. رابِيَةً: شديدة زائدة في شدتها، من ربا: إذا زاد. طَغَى: ارتفع وتجاوز حده. الْجارِيَةِ: السفينة التي تجرى على الماء. واعِيَةٌ : حافظة. المعنى: الساعة الحاقة، التي تحقق أمور البعث، وتثبتها وهي المحققة الوقوع ما هي؟! وكأن النفس لغرابتها وهولها تتساءل عنها قائلة: ما هي تلك الحاقة «1» ؟! وما أدراك أيها الإنسان ما الحاقة؟ «2» أليس عجبا من الإنسان وخاصة المكذبين للبعث لا يدرون ما الحاقة على حقيقتها ثم يكذبون بها!! إن أمر التكذيب بيوم القيامة من قديم الزمان، فقد جاءت رسل كلها تدعو إلى التوحيد وإثبات البعث، فكذبتهم أممهم، وأنكروا البعث فكان جزاؤهم ما قصه القرآن، فاصبر يا محمد على تكذيب قريش للبعث فإن الله معك، واحذروا أيها المكذبون عاقبة عملكم، فإنها لن تكون أقل من عاقبة عاد وثمود، ومن ذكر معهم. كذبت ثمود وعاد- قد مر ذكرهما والكلام عليهما مرارا- بالقارعة التي هي يوم القيامة، فإنها تقرع القلوب بالإفزاع، وتقرع السموات والأرض بالدك والنسف والانشقاق، فهي القارعة بلا شك.   (1) - الحاقة: مبتدأ، وجملة (ما الحاقة) خبر على أن (ما) الاستفهامية خبر مقدم، و (الحاقة) مبتدأ مؤخر، والمقام للإضمار لكنه عدل للإظهار لزيادة التهويل والتفخيم. (2) - ما أدراك؟ مبتدأ وخبر، وجملة (ما الحاقة) سدت مسد المفعول الثاني لأدرى، والكاف مفعولها الأول. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 734 فأما ثمود فأخذهم ربك بالصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين حين كذبوا أخاهم صالحا وكفروا بالله ولم يصدقوا بالبعث، فأهلكوا بسبب أعمالهم الطاغية المتجاوزة الحدود في العقل والعرف والشرع، أما تفصيل السبب فقد ذكر في قصة الناقة في سورة هود وغيرها، وأما عاد فأهلكوا بريح قوية شديدة، متجاوزة الحد في البطش وقسوة الإهلاك لأنهم كفروا بالله وكذبوا رسولهم هودا ولم يؤمنوا بالبعث، وضموا إلى ذلك أعمالا أخرى فإنهم كانوا يبنون قصورهم في الطريق وعلى سفوح الجبال للعبث واللهو والمجون ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون ... إلخ ما مرّ من سورة الشعراء وغيرها. هذه الريح التي أهلكتهم سخرها عليهم ربك سبع ليال وثمانية أيام لم تدع شيئا إلا جعلته كالرميم، فقطعت كل نبت وزرع وولد وخير، وأهلكت القوم حتى كنت تراهم صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية بالية، فهل ترى لهم من باقية؟ لست ترى لهم أثرا ولا عينا. وجاء فرعون ومن قبله من الأمم، وجاء قوم لوط أصحاب القرى المؤتفكة، جاءوا بالفعلة الخاطئة والإثم الكبير، حيث كفروا وكذبوا وأنكروا البعث فأخذهم ربك أخذة رابية شديدة، أخذ عزيز مقتدر. واذكروا أيها المشركون من سلالة قوم نوح، أنه لما طغى الماء، وتجاوز حده حملناكم في السفينة ونجيناكم من الغرق وأهلكنا المكذبين الكفار، فأنتم أيها المعاصرون أبناء من نجاهم الله، فهل يليق بكم أن تكفروا به؟؟ حملنا آباءكم في الجارية لنجعلها لكم تذكرة وعبرة وموعظة، ولتعيها آذان واعية فيرويها الخلف عن السلف فيحفظها ويعتبر بها، فاحذروا يا كفار مكة أن تكونوا مثل هذه الأمم احذروا. ثم احذروا! يوم الحساب وما فيه من مواقف للأبرار والفجار [سورة الحاقة (69) : الآيات 13 الى 37] فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَلا طَعامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 735 المفردات: الصُّورِ: هو البوق. حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ: رفعتا وسيرتا. فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً: الدك والدق متقاربان في المعنى غير أن الدك أبلغ والمراد ضرب بعضهما في بعض وصارتا كتلة واحدة، أى: صارت مجموعة السهول من الأرض مع مجموعة الجبال كتلة واحدة. وَقَعَتِ الْواقِعَةُ: قامت القيامة. وَانْشَقَّتِ السَّماءُ: وهذا كناية عن انصداعها وتشققها وتبدل أحوالها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 736 واهِيَةٌ: مختلة ضعيفة لا تماسك بين أجزائها. وَالْمَلَكُ أى: الملائكة. أَرْجائِها: جنباتها، جمع رجا بمعنى الجانب. عَرْشَ رَبِّكَ: هو سرير الملك، أو كناية عن العز والملك والسلطان. خافِيَةٌ أى: حالة خافية كنتم تسترونها عن الناس. كِتابَهُ: صحيفة عمله. بِيَمِينِهِ أى: بيده اليمين، وهي كناية عن اليمن والخير والبركة. هاؤُمُ: خذوا. ظَنَنْتُ أى: تيقنت. راضِيَةٍ: ذات رضا ويرضى عنها أصحابها. قُطُوفُها دانِيَةٌ: جمع قطف وهو الثمر الذي حان وقت قطافه، والدانية: القريبة التي لا تعب في إحضارها. فَغُلُّوهُ: ضعوا فيه الغل، أى: ما يكبل به الأسير من القيود والسلاسل. صَلُّوهُ أى: اجعلوه في جهنم يصلى نارها ويحترق بها. ذَرْعُها: طولها. حَمِيمٌ: صديق حميم. غِسْلِينٍ: ما يسيل من أهل جهنم من قيح أو صديد أو دم. الْخاطِؤُنَ: الآثمون. المعنى: هذا هو وصف ليوم القيامة الموعود به، والذي عبر عنه القرآن أول السورة بقوله: الحاقة، والذي كذبت به الأمم السابقة، فأهلكها الله جزاء تكذيبها، وحذر قريشا أن تسلك مسلكها. فإذا أراد الله أن يعلم الناس بيوم القيامة، نفخ الموكل بالبوق نفخة واحدة، يصعق لها ما في السموات وما في الأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا الناس قيام ينظرون الحساب: فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة، وحملت الأرض والجبال واضطربت ورفعت من مكانها وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ فدكتا، أى: الأرض السهلة والجبال المرتفعة دكة واحدة حتى صارت مستوية كأنها كتلة واحدة، فيومئذ تتزلزل الأرض وتمور مورا، وتسير الجبال سيرا وتنسف حتى تصير كثيبا من الرمل مهيلا، يوم إذ يحصل هذا تقع الواقعة وتقوم القيامة، فالسماء وعوالمها عند ذلك يختل نظامها وتتشقق جوانبها فهي يومئذ بالية متداعية لا ترى فيها هذا النظام المحكم الدقيق، أما سكانها من الملائكة فيقفون على جوانبها حين تتصدع، كالبيت إذا انهدم منه جزء انتشر سكانه في أرجائه وجوانبه التي لم تسقط. ويحمل عرش ربك يومئذ ثمانية فوقهم، وهذا تمثيل لكمال عزته وانفراد جلالته الجزء: 3 ¦ الصفحة: 737 بالملك والسلطان، وأن الكل خاضع لجبروته سبحانه وتعالى لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ؟ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ [سورة غافر آية 16] . وهذه الأوصاف التي ورد ذكرها في هذه الآيات وغيرها مما يجب أن نؤمن به كما ورد في القرآن والسنة الصحيحة، على أن تشعر قلوبنا بالخشية والخوف من هول ذلك اليوم! يومئذ تعرضون للحساب والثواب لا تخفى منكم حالة خافية كنتم تريدون سترها وإخفاءها وكيف تخفى على علام الغيوب خافية؟ وهو العليم بذات الصدور، إذا كان الأمر كذلك، فأما المتقون الذين اتقوا الله وخافوا هذا اليوم فأولئك يؤتون كتابهم بيمينهم، ويأخذون صحائف أعمالهم باليمين، واليمين يستعملها العرب في مواضع الخير والبركة والفرح والسرور، ولذلك يقول فرحا مسرورا لإخوانه: خذوا اقرءوا كتابي إنه كتاب يسر قارئيه، ولا عجب في ذلك إنى تيقنت أنى ملاق هذا اليوم للحساب فعملت له خير عمل وتجنبت لأجله كل سوء ومعصية، ولذلك كانت النتيجة أنه أصبح في عيشة مرضية وحياة سعيدة هنية، هذه الحياة في جنة عالية البنيان شامخة الأركان، قطوفها دانية على طرف الثّمار ثم يقال له ولأمثاله: كلوا واشربوا هنيئا جزاء ما أسلفتم وقدمتم من صالح الأعمال في الأيام الخوالى. وأما من أوتى كتابه بشماله لأنه لم يعد لهذا الموقف حسابه، والشمال تستعمل في مواضع الشؤم والحزن ولذلك تراه يقول: يا ليتني لم أعط هذا الكتاب الذي جمع كل الأعمال ولم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، ويا ليتني مت فلم أدر ما حسابيه، يا ليت الموتة الأولى كانت القاضية ولم يكن هناك حياة ثانيةا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً «1» . يا قوم: أين مالي وأهلى وقوتي وسلطاني؟! ما أغنى عنى مالي وهلك بعيدا عنى سلطاني. ثم يقول الله لملائكته: خذوه وضعوا في يديه الأغلال والأصفاد ثم ألقوه في جهنم يصطلى بنارها، أدخلوه في سلسلة طولها سبعون ذراعا، أدخلوه في نار جهنم. ولا عجب، إنه كان لا يؤمن بالله العظيم، لم يؤمن بالله ولا باليوم الآخر، وما كان يحض على طعام الفقير والمسكين، وإذا كان الأمر كذلك فليس له اليوم ها هنا حميم ولا صديق كريم مع أنه في أشد الحاجة إلى الناصر والمعين، وليس له من طعام إلا من قيح وصديد، لا يأكله إلا الخاطئون المذنبون قساة القلوب وأصحاب الأعمال السيئة.   (1) - سورة النبأ آية 40. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 738 حقيقة الإنسان وما أنزل فيه [سورة الحاقة (69) : الآيات 38 الى 52] فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَلا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52) المفردات: كاهِنٍ: هو من يخبر بالغيب، ويدعى معرفة الأسرار. تَقَوَّلَ التقول: تكلف القول، ويراد به الكذب والافتراء. بِالْيَمِينِ: المراد بها اليد اليمنى: أو القوة والبطش. الْوَتِينَ: هو الوريد وهو عرق رئيسى متصل بالقلب يوزع الدم على أجزاء الجسم. حاجِزِينَ: مانعين. لَحَسْرَةٌ: لغمّ وحزن. لَحَقُّ الْيَقِينِ: حق هو اليقين الذي لا شك فيه. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ: نزه الله عما لا يليق. المعنى: فلأنا «1» أقسم بما تبصرون من المخلوقات، وما لا تبصرون منهم، إن هذا القرآن لقول رسول كريم يبلغه عن ربه بعد أن أوحاه إليه. وقيل المعنى: إذا كان الأمر   (1) - فاللام لام الابتداء دخلت على (أنا) ثم حذفت فأشبعت فتحة اللام فصارت لا، وقيل فيها ما قيل في قوله تعالى: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ من أن (لا) نافية والمنفي ما يدعونه، أو المنفي نفس القسم لظهور المقسم عليه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 739 كذلك- وقد تكلمنا عن يوم القيامة وعلى من كذب به، وما فيه من مواقف المتقين والمشركين كل ذلك ليثوب المشركون إلى رشدهم ويؤمنوا بالله ورسوله وباليوم الآخر، ولم يحصل هذا- فلا أقسم بما ترونه وما لا ترونه على أن هذا القرآن نزل على محمد صلّى الله عليه وسلّم قاله مبلغا عن ربه الذي أوحاه إليه، لا أقسم على هذا لظهوره كالشمس أو هو أوضح، وهذا الرسول الكريم ما لكم تكذبونه، وتدعون تارة أنه شاعر، وأخرى أنه كاهن، وأخرى أنه افتراه على الله، عجبا لكم! أهذا القرآن كلام شاعر؟ وأنتم أعلم الناس بقول الشعر والشعراء! ما هو بقول شاعر لاشتماله على الحقائق والقوانين والقصص العالي، وما فيه من أحكام وشرائع الشعر عندكم خلو من هذا كله، فكيف يكون محمد شاعرا؟ وبطلان هذا ظاهر، وبهتانكم فيه أكبر، فلا غرو أن يوبخكم الله بقوله: قليلا ما تؤمنون! وكيف تقولون: إن القرآن كلام كاهن وأنتم تعلمون أن الكاهن له غرض مادى وليس في نفسه السمو والكمال، ولا يدعو إلى الفضيلة والمثل العليا، وهو إن صدق مرة فيكذب مرارا (وكلام الكهان سجع مصنوع وقول موضوع) على أن الكهانة انتهت بظهور القرآن، يقول: تذكروا وادرسوا القرآن لتفرقوا بينه وبين الكهانة قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ والقرآن ليس بالشعر وليس بالكهانة، وإنما هو تنزيل من رب العالمين وفيض من الخالق الرحمن الرحيم، وسرعان وذكر كريم أنزل على لسان رجل صادق مصدق ذي شرف وخلق كما تقرون له بذلك. وكيف تدعون أنه اختلقه ونسبه إلى ربه، ولو تقول علينا بعض الأقاويل والأكاذيب لأخذناه أخذ عزيز قادر، وقطعنا منه حبل الوريد حتى لا يحيا لحظة واحدة في الوجود لأنه يكذب على الله جل جلاله، وما وجدنا أحدا يرد عنه كيدنا أو يقف منه موقف الناصر والمعين ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ!! [سورة الصافات آية 154] . وإن القرآن لتذكرة وموعظة للمتقين، أولئك الذين صفت أرواحهم وطهرت، وخلت من العصبية الممقوتة أو التقليد الأعمى، وإنه لحسرة على الكافرين فهو يزيد المؤمنين إيمانا وسرورا، ويزيد الكافرين حسرة وارتيابا وظنونا، وإنه لحق هو اليقين، الذي لا شك فيه ولا شبهة، إذا كان الأمر كما عرفت وأن القرآن الذي أنزل عليك من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 740 ربك لا شك فيه ولا ريب، وأن المكذبين لك والكافرين بالله لهم سوء العذاب في يوم بئيس، إذا كان الأمر كذلك فلم يبق إلا الصبر والمثابرة وتحمل الأذى، فاصبر واستعن على ذلك بتسبيح الله الأقدس وتنزيهه عن كل نقص، واعلم أن اسم الرب كل لفظ يدل على الذات أو على صفة من صفاته كالرحمن الرحيم، ولا شك أن تنزيه الاسم الخاص تنزيه للذات. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 741 سورة المعارج مكية بالإجماع، وعدد آياتها أربع وأربعون آية. وتشمل تهديد المشركين بعذاب واقع، مع التعرض لوصف القيامة، ثم الكلام على الإنسان وطبعه وعلاجه، ثم ختام السورة بمثل ما بدئت به. تهديد المشركين بالعذاب الواقع عليهم [سورة المعارج (70) : الآيات 1 الى 18] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَنَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعى (18) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 742 المفردات: سَأَلَ سائِلٌ: السؤال يكون تارة بمعنى طلب الشيء واستدعائه، ويعدّى حينئذ بالباء فتقول: سألت بكذا، أى: طلبته وعليه قوله: ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ أو بمعنى الاستبخار عن الشيء اعتناء به، ويعدى عند ذلك بعن أو بالباء تقول: سألت عنه وعن حاله. وسألت به وبحاله، وعليه قوله تعالى: فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً دافِعٌ: مانع وواق. الْمَعارِجِ: هي المصاعد والدرجات. تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ تصعد، والمراد تلقى الأوامر والنواهي. كَالْمُهْلِ: هو مائع كالزيت، أو مائع الفلزات- المعادن- المذابة. ولها لون خاص ضارب إلى الخضرة أو الحمرة. كَالْعِهْنِ: هو الصوف الملون، وقيل: المنقوش. حَمِيمٌ الحميم: صديق المرء وقريبه الذي يهتم به. وَصاحِبَتِهِ: زوجته. وَفَصِيلَتِهِ فصيلة الرجل: عشيرته ورهطه الأدنون. كَلَّا: كلمة ردع وزجر للمخاطب عن اعتقاد أو رأى أو عمل تغالى في التمسك به. لَظى: نار ملتهبة. نَزَّاعَةً لِلشَّوى: هي أعضاء الجسم الخارجية كاليدين والرجلين مثلا، وقيل: هي جلدة الرأس. كان المشركون حين يهددهم النبي بعذاب الله يستخفون به وبتهديده، وينكرون عليه ذلك، بل ويستعجلونه استهزاء به حتى قال زعيمهم في ذلك وهو النضر بن الحارث: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ وربما كان هذا الموقف مع النبي مما يثير نفسه، ويجعله يتمنى أن لو نزل عليهم عذاب يردع أمثالهم فيؤثر هذا في انتشار الدعوة الإسلامية، فأنزل الله هذه الآيات ليطمئن النبي صلّى الله عليه وسلّم وليهددهم بعذاب واقع عليهم لا محالة، ثم يأمره بالصبر الجميل. المعنى: سأل سائل «1» وطالب بعذاب واقع، وكان النضر بن الحارث هو الذي طلب هذا واستدعاه، أو سألك سائل عن عذاب واقع طالما حدثتهم به، ويحتمل أن يكون السائل هو النبي صلّى الله عليه وسلّم وسياق الآية لا يأباه.   (1) - والتنكير للتحقير، وإذا كان السائل هو النبي فالتنكير للتعظيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 743 لقد أجاب الله عن هذا السؤال بقوله: هو للكافرين، ليس له دافع، أى: هذا العذاب معد ومهيأ للكافرين، ليس له مانع يمنعه من الله رفيع الدرجات صاحب المعارج والمراقي إلى الكمالات وهذه المعارج إذا نسبت إلى الحق- تبارك وتعالى- كانت بمعنى علو الذات وترفعها عن النقائص ووصفها بكل الكمالات. تعرج وتصعد إليه الملائكة- وخاصة جبريل- في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة من سنى الدنيا، تعرج إلى حظيرة القدس، حيث يفاض عليها من التجليات الإلهية، والأوامر الربانية ما به يحصل النظام العام للكون، وما يتعلق بتدبير الكائنات، فليس عروجهم وصعودهم إلى مكان لأنه منزه عن الحلول بالمكان. وهل هذا اليوم الطويل هو كناية عن أيام الدنيا أو الآخرة؟ قيل بهذا وبذاك، والله أعلم بكتابه، على أن المراد بقوله: (خمسين ألف سنة) هو الكثرة المطلقة لا التحديد بهذا العدد، والعرب تفعل هذا كثيرا في كلامها. بقي أن نفهم السر في الارتباط بين سؤال السائل والعذاب الواقع، وبين عروج الملائكة وترددها بين الله- سبحانه وتعالى- وبين هذه الأكوان بما يريده منها ويقضيه فيها. الجواب: أن المعنى: هذا معد للكافرين، ليس لهم ما يمنعهم من عذاب الله أبدا، ثم نبههم بقوله: تعرج الملائكة ... الآية إلى أن هذا العذاب إنما يرونه بعيدا لطول مدة الدنيا في نظرهم، مع أنها ليست كذلك عند الله تعالى، وبالنسبة إلى الأحقاب التي تربط الأبد بالأزل، سوى يوم واحد تعرج فيه الملائكة إلى الله بالتدبير لهذه الدنيا التي ترونها خمسين ألف سنة، فما لكم تستعجلون العذاب؟ فهم يرون العذاب بعيدا جدّا لأن الدنيا في نظرهم طويلة جدّا، وأما عند الله فالدنيا يوم واحد وزمن قليل فما لكم تستبطئون الحساب؟ وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «1» ترى أن الله قدر اليوم عنده بألف سنة مرة، وأخرى بخمسين ألف سنة، والمراد الكثرة لا التحديد بزمن- والله أعلم- وقيل: المراد باليوم هو يوم القيامة وصف بأنه خمسون ألف سنة تهويلا وتخويفا للكفار، والخلاصة أن المراد وصف اليوم بالطول مطلقا.   (1) - سورة الحج آية 47. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 744 إذا كان الأمر كذلك فاصبر يا محمد صبرا جميلا لا قلق معه، فإن الموعود به حاصل لا محالة إنهم يرون العذاب الذي يتوعدهم به النبي بعيدا زمانه ونراه قريبا. يوم تكون السماء كدردي الزيت أو مائع النحاس أو الحديد المذاب في النار، والمراد تغير الوضع واختلاف الحال، وتكون الجبال كالصوف المندوف يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ [سورة القارعة الآيتان 4 و 5] . هذه حال السماء والأرض في ذلك اليوم، أما حال الخلائق فهي كما وصف الله، الناس في شغل شاغل فلا يسأل حميم حميما، ولا قريب قريبا إذ كل عنده ما يغني يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ «1» هل هم لا يسألون أحماءهم وأقاربهم لأنهم لا يرونهم؟ الجواب: إنهم يبصرونهم أى: قد جعلهم الله لا يبصر بعضهم بعضا، ولكن لكل منهم ساعتها شأن يشغله عن أى شيء آخر، ومع هذا فيود كل امرئ منهم من صميم قلبه لو يفتدى نفسه من هول ذلك اليوم بأحب الناس إليه وأعزهم عليه كأولاده وزوجته وإخوته وعشيرته التي تؤويه بل يود لو يفتدى نفسه بمن في الأرض، ثم ينجيه من هذا العذاب البئيس الذي هو فيه إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ [سورة المائدة آية 36] . وكأن المكذبين بيوم الدين السائلين عن العذاب المستعجلين له، يتعللون بالأمانى الكاذبة، وأنهم يفدون أنفسهم من هذا العذاب، فكذبهم القرآن وردعهم عن هذا بقوله: «كلا» إن جهنم التي أعدت لهم نار محرقة، لهبها شديد لا منجى منها ولا هرب، تكون نزاعة للأطراف من الأرجل والأيادى، وتنزع كذلك فروة الرأس، فما أصبرهم عليها!! هذه النار تدعو من أدبر عنها وتولى، أو من أدبر عن الحق وأعرض عنه في الدنيا، هذا الدعاء على حقيقته كما روى عن ابن عباس أو هو مجاز «2» . وتدعو من جمع المال فجعله في وعاء وحفظه وكنزه ولم يؤد حقوق الله فيه، فليس الجمع وحده معيبا، وإنما المعيب الجمع مع عدم إخراج حقوق الفقراء والمساكين فيه.   (1) - سورة عبس الآيات 34- 37. (2) - حيث شبه تهيؤ جهنم وظهورها للمكذبين وتفتح أبوابها ووقوف الخزنة عليها شبه هذا بالدعاء والطلب لهم، وهذا ما يسمى بلسان الحال، وهذا كثير الشيوع في لسان العرب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 745 طبيعة الإنسان وعلاج القرآن لها [سورة المعارج (70) : الآيات 19 الى 35] إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) المفردات: هَلُوعاً الهلع: أفحش الجزع. مع الشح وكثرة الضجر. جَزُوعاً: كثير الجزع والمراد أنه يؤوس قنوط. لِلسَّائِلِ: الفقير الذي يتكفف فيعطى. وَالْمَحْرُومِ: الذي يتعفف فيحرم. بِيَوْمِ الدِّينِ: يوم القيامة. مُشْفِقُونَ: خائفون. ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ: طلب غير هذا. العادُونَ: المتجاوزون الحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 746 هدد الله المشركين بذكر يوم القيامة، وما يحصل فيه بعد التعرض للسؤال عن العذاب الواقع، ثم ذكر هنا طبيعة الإنسان التي تدعوه إلى الكفر واستعجال العذاب والإتيان بأعمال يكون الدافع له حب العاجلة وترك الآجلة، وتلك من غرائز الناس إلا من آمن به فإنه ينجو منها. المعنى: إن الإنسان خلق من طين أسود لازب، جف حتى صار كالفخار، ثم نفخ فيه من روح الله، هذا الإنسان لا بد أن ينزع إلى الشر وإلى الخير، ونزعه إلى الشر كثير بل هو الأصل، ولا يخفف هذا إلا دواعي الخير كالإيمان السليم والقرآن الكريم، والعقل الراجح وبدون هذا فالإنسان حيوان، لكنه مفكر، فالإنسان من حيث هو إنسان مادى بطبعه يؤثر الدنيا على الآخرة، ويحب العاجلة على الباقية، ولا يمنعه من هذا إلا الإيمان بالله وحبه له ولرسوله، وامتثال أمر الشرع في أفعاله، عندئذ يتبصر فيرى الحق ويتبعه وإن خالف نفسه وهواه ويرى الشر فيتجنبه وإن دعته له الدنيا وطبيعته، فالإنسان خلق كثير الهلع، شديد الجزع، إن مسه الشر يستولى عليه يأس قاتل، وقنوط مميت، فهو لعدم إيمانه بالله يظن أن هذا الذي نزل به من فقر أو مرض أو مصيبة لا يمكن أن تتحول عنه، كأنه ليس في الكون إله يقدر على ذلك، وهو إن مسه الخير، وصادفه الحظ كان منوعا له عن الناس جميعا، لأنه يعتقد أن هذا الذي وصل إليه إنما أوتيه على علم عنده وعلى قوة وبصر منه ليس لله فضل عليه، وليس لمخلوق حاجة لديه، ولذلك تراه يمنع رفده، ويضرب عبده ويأكل وحده، تراه فظا غليظ القلب جافى الطبع سىء المعاملة. تلك بعض طبائع الإنسان الموجودة فيه. أما علاجها فهو الإيمان بالله، وحسن التوكل عليه، وحب الآخرة، والبعد عن الدنيا وزينتها، وخلاصة ذلك: طاعة الحق، والإشفاق على الخلق، والإيمان بيوم الدين، والخوف من العقوبة، وقد استثنى الله- سبحانه- من الناس الذين جبلوا على الهلع والجزع ومنع الخير- وفي هذا إشارة إلى العلاج- المؤمنين الكاملين الواثقين في الله ثقة كاملة، وهؤلاء هم المصلحون المحافظون على صلاتهم المداومون عليها، الذين يعطون الفقير حقه من أموالهم، سواء سأل أو تعفف، والذين يؤمنون بالغيب، ويصدقون بيوم البعث، والذين هم من عذاب ربهم دائما في خوف، فليس الجزء: 3 ¦ الصفحة: 747 عندهم غرور، ولا تخدعهم تلك الأمانى الكاذبة مع سوء العمل، إن عذاب ربهم غير مأمون، إن هؤلاء المؤمنين الكاملين الواثقين في الله لا يجزعون عند حلول شر بهم لأنهم واثقون أن هذا من الله. ولن يفلتوا منه أبدا مهما كان، وهم لا يمنعون خيرا عن أحد لأنهم واثقون أن الخير من الله وأن الفقراء عيال الله، وأنهم سيجازون عليه من الله، والذين هم لفروجهم حافظون. لا ينظرون إلّا لما أحله الله لهم من أزواج أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين على هذا بل مثابون عليه، فمن طلب غير ذلك وتجاوز حدود الزوجية أو ملك اليمين فأولئك هم العادون، والذين هم يراعون الأمانة، يؤدونها كاملة غير منقوصة لأربابها، وهم عند عهودهم لا يتخطونها، والذين هم يقيمون الشهادة، ويؤدونها كاملة حتى لا تضيع الحقوق، والذين هم على صلاتهم يحافظون على أوقاتها وأركانها وشروطها وسننها وآدابها، أولئك هم المصوفون بما تقدم في جنات ونعيم، وهم مكرمون في جوار الله. هؤلاء هم المكذبون وهذه نهايتهم [سورة المعارج (70) : الآيات 36 الى 44] فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَالْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44) المفردات: قِبَلَكَ: ناحيتك وجهتك. مُهْطِعِينَ: مسرعين إليك مادى أعناقهم نحوك الجزء: 3 ¦ الصفحة: 748 شاخصين بأبصارهم لك. عِزِينَ: جمع عزة، وهي العصبة والجماعة، وكأنها سميت بذلك لأنها تعزى وتنتسب إلى رأى خاص يجمع بين أفرادها، والمراد أنهم كانوا يجلسون حوله جماعات. بِمَسْبُوقِينَ: بمغلوبين. فَذَرْهُمْ: اتركهم. يَخُوضُوا: يتحدثوا في الباطل. الْأَجْداثِ: جمع جدث، وهو القبر. سِراعاً: مسرعين. نُصُبٍ جمع أنصاب، وهو كل ما نصب وأقيم للعبادة. يُوفِضُونَ: يستبقون ويسرعون. خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ: ذليلة كسيرة. وهذا ختام للسورة بديع، إذ بعد أن رد على سؤالهم عن العذاب، ووصف ما يلاقونه يوم الحساب، تعرض إلى طبيعة الإنسان، وبين علاج ذلك، يذكر صفات المؤمنين عادة إلى المكذبين ليختم السورة ببيان حالهم ونهايتهم وتهديدهم. المعنى: كان المشركون إذا سمعوا النبي يتلو القرآن أقبلوا مسرعين عليه مادى أعناقهم إليه شاخصة أبصارهم نحوه، خائفين مضطربين، حتى إذا اجتمعوا به هدأت نفوسهم قليلا فجلسوا متفرقين حوله عن اليمين وعن الشمال جماعات جماعات كأنهم يأتون أول الأمر وجلين خائفين حتى إذا هدأت قلوبهم- نوعا ما- تحلقوا حول النبي حلقا هنا وهناك يتساءلون- مع الإعراض والهزء به- ماذا قال؟ فإذا سمعوا من آيات الله وصف الجنة، وما أعد للمؤمنين فيها من نعيم مقيم، مالت رؤوسهم هازئين ساخرين قائلين: إن كان هؤلاء القوم- أتباع محمد- سيدخلون هذه الجنة، فنحن أولى بها فإنا أشراف العرب وساداتها وهم خدمنا وعبيدنا. فقال تعالى متعجبا من حالهم ومنكرا له: أيطمع كل امرئ منهم أن يدخل جنة نعيم!! عجبا لهؤلاء القوم! كلا وألف كلا! ليس الأمر كما زعموا إن الجنة أعدت للذين آمنوا بالله ورسوله وعملوا الصالحات من الأعمال، إنا خلقناهم وخلقنا غيرهم مما يعلمون: من ماء مهين، من نطفة قذرة، فالكل سواء في هذا ولا فضل لشريف على غيره. وإنما الفضل- وأعلاه دخول الجنة- يكون بالإيمان لا بغيره، وما لكم تستبعدون ذلك؟ أليس الله خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ... إلخ؟ فالقادر على ذلك قادر على البعث وإعطاء كل ذي حق حقه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 749 فلا أقسم برب المشارق والمغارب- في كل يوم تشرق الشمس من مشرق وتغيب في مغرب- إنا لقادرون، لا يقسم الله على ذلك لظهوره ووضوحه أكثر من الشمس في رابعة النهار. فربك القادر على كل شيء- وخاصة شروق الشمس ومغربها- قادر على تبديل خلق خير من هؤلاء، فيهلكهم، ويأتى بخلق جديد، وما ذلك على الله بعزيز وما هو بمسبوق في ذلك، وما هم بمعجزى الله في شيء. وإذا كان الأمر كذلك فذرهم يخوضوا في باطلهم ويذهبوا فيه كل مذهب ويلعبوا فيما لا يجدي ولا ينفع حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون؟! اذكر يوم يخرجون من القبور مسرعين كأنهم يسرعون إلى أنصابهم التي نصبوها في الدنيا للعبادة أرأيتهم وهم يسرعون نحوها؟ خاشعة أبصارهم ذليلة منكسرة ترهقهم ذلة وتغشاهم وتستولى عليهم. ذلك هو اليوم الذي كذبوا به، وسألوه متعجلين مستهزئين به، ذلك هو اليوم الذي كانوا يوعدون! ويا ليتهم آمنوا به.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 750 سورة نوح وهي مكية بالإجماع. وعدد آياتها ثمان وعشرون آية.. وهي تشتمل على بعض من قصة نوح عليه السلام مع قومه. قوم نوح وتصوير حالهم [سورة نوح (71) : الآيات 1 الى 28] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4) قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَيُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19) لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20) قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَمَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَقالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُواعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25) وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 751 المفردات: أَجَلٍ مُسَمًّى: أجل محدود بحد لا يتجاوزه. فِراراً: هربا وتفلتا منه. وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ: جعلوها أغشية وأغطية لهم تستر بدنهم كله. وَأَصَرُّوا الإصرار على الأمر: عبارة عن لزومه والانكباب عليه، وأكثر ما يستعمل في الشرور والآثام. وَاسْتَكْبَرُوا: تكبروا. جِهاراً: مجاهرة. مِدْراراً: كثير الدرور غزير الانسكاب. وَيُمْدِدْكُمْ: يعطكم على فترات ما به تنتفعون. وَقاراً: عظمة وتوقيرا. أَطْواراً: أحوالا مختلفة في الخلق من نطفة إلى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 752 علقة، وفي نفس الحياة من طفولة إلى شباب إلى كهولة وغير ذلك طِباقاً: متطابقة بعضها فوق بعض. سِراجاً: كل ما يضيء بنفسه فهو سراج. أَنْبَتَكُمْ: أنشأكم. بِساطاً أى: ممهدة كالبسط. سُبُلًا فِجاجاً: واسعة. كُبَّاراً أى: كبيرا. وَدًّا. سُواعاً. يَغُوثَ. يَعُوقَ. نَسْراً: هذه أسماء آلهة كانوا يعبدونها. وفي الأصل كانت أسماء رجال صالحين في قومهم. مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ: من خطاياهم. دَيَّاراً المراد: لا تترك على الأرض من الكافرين أحدا يدور في دار. فاجِراً: فاسقا معتديا. تَباراً: هلاكا. وهذه السورة الكريمة جاءت تقص على النبي صلّى الله عليه وسلّم قصة نوح مع قومه في بعض المواقف الخاصة التي تدور حول دعاء نوح لهم، وكيف وقفوا منه، ليتأسى النبي صلّى الله عليه وسلّم بما حصل لنوح، ولا يأسى من قومه، وليعتبر أهل مكة بما حصل لغيرهم. المعنى: إنا أرسلنا نوحا إلى قومه، أى: حملناه قولا إلهيا، ورسالة سماوية هي: أن أنذر «1» قومك، وحذرهم عاقبة كفرهم، ونهاية شركهم من قبل فوات الفرصة ومن قبل أن يأتيهم عذاب أليم شديد الألم للغاية ... وماذا قال نوح! قال يا قومي: إنى لكم رسول أمين ونذير مبين، جئت بأمر هو أن اعبدوا الله وحده، ولا تشركوا به شيئا، واتقوا عذابه وأطيعون، فإنه من أطاع الرسول فقد أطاع الله، إن تعبدوا الله حقا يغفر لكم ذنوبكم، أى: يغفر لكم أفعالكم التي هي ذنوبكم «2» ويؤخركم إلى أجل مسمى معلوم عنده إن آمنتم، أى: جعل لهم أجلا إن ظلوا كافرين، وأجلا إن آمنوا إن أجل الله إذا جاء وقته وحينه لا يؤخر مطلقا، ليتكم تعلمون ذلك فتعملوا له ولكنهم مع هذا الدعاء   (1) - هذا إشارة إلى الموقف أن «أن» تفسيرية، ويصح أن تكون مصدرية مجرورة بحرف، أى: بأن أنذر، وهكذا (أن) في أن اعبدوا الله تفسيرية كالإنذار. (2) - هذا إشارة إلى أن (من) بيانية، وقيل: ابتدائية أو تبعيضية. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 753 اللين والعرض الجميل أصروا على كفرهم فماذا كان موقف نوح؟ إنه ناجى ربه وقال آسفا: رب إنى دعوت قومي- كما تعلم- إلى الإيمان والطاعة ليلا ونهارا وسرّا وإعلانا، فلم أر منهم إلا عنادا واستكبارا عن الحق وعن الصراط المستقيم، وإنى كلما دعوتهم إلى الإيمان لتغفر لهم أصموا آذانهم عن سماع تلك الدعوة، وحجبوا عيونهم عنها، وأصروا واستكبروا استكبارا. وانظر إلى القرآن الكريم وهو يصور حالهم العجيبة حيث يعبر عن عدم سماعهم بأنهم جعلوا أصابعهم في آذانهم، والجعل يقتضى دوام الوضع، والأصابع يفهم منها المبالغة في السد فإن الذي يوضع طرف الإصبع لا الإصبع كله، وانظر إلى قوله (واستغشوا ثيابهم) فإن المعنى أنهم بالغوا في التغطى بها مبالغة كأنهم طلبوا من ثيابهم أن تغشى الجسم كله لا عيونهم فقط. ثم إلى دعوتهم جهارا، ثم إنى أعلنت لهم الحال وبينته لهم على كل وضع بحيث جمعت بين الإعلان والإسرار. تلك هي المرحلة الأولى في الدعوة، تلتها مرحلة ثانية هي مرحلة الشرح وبيان الحجة حيث قال نوح: فقلت: استغفروا ربكم، وتوبوا إليه، إنه يقبل التوبة عن عباده، ويعفو عن السيئات، إنه كان غفارا على أنكم إن آمنتم بربكم يرسل السماء عليكم بالمطر الكثير الذي يخصب الأرض ويأتى بالخير، ويمددكم ربكم عند ذلك بأموال نافعة وأبناء وذرية صالحة، ويجعل لكم جنات وبساتين. ويجعل لكم فيها الأنهار والعيون، أى: إن آمنتم أمدكم بسعادة دنيوية تكفل لكم حياة رغدة وعيشة راضية. ولكنهم مع ذلك لم يؤمنوا فناقشهم بقوله: أى شيء ثبت لكم حالة كونكم لا ترجون وقارا كائنا لله؟ والوقار العظمة، والرجاء الخوف أو الاعتقاد، فكأن المعنى أى سبب حصل لكم حال كونكم غير خائفين أو غير معتقدين لله تعالى عظمة توجب عليكم الإيمان بالله والطاعة لرسوله؟!! إن هذا لشيء عجيب، وشيء تنكره العقول السليمة. ما لكم لا تخشون الله وقدرته على كل شيء؟ وما لكم لا ترهبون سطوته فتؤمنوا به وتصدقوا برسله؟ وهو القادر على كل شيء، وهو الذي خلقكم في أطوار مختلفة وفي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 754 أحوال تكاد تكون متباينة، ألم يخلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم أخرجكم أطفالا ثم كنتم شيوخا، أليس صاحب هذا بقادر على كل شيء فما لكم لا تخافون عظمة الله؟ ولا تؤمنون بيوم القيامة! ثم لفت نظرهم إلى هذا الكون بعد أن نبههم إلى ما في أنفسهم من آيات فقال: ألم تروا السماء كيف خلقت؟ لقد خلقها الله سبع سموات طباقا، ما ترى فيها من نقص ولا تفاوت، وجعل القمر في إحداهن نورا، وجعل الشمس في أخرى سراجا وهاجا. يا سبحان الله لقد جعل الحكيم العليم للقمر نورا، وللشمس سراجا، لأن الدنيا ستصبح بنور الشمس على أنه نور قوى شديد، ونور القمر بسيط يضيء في الليل نوعا ما، وهو نور منعكس ليس من ذات القمر وهُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً «1» وقد توصل العلم إلى بعض الحقائق الثابتة في كتاب الله.. ثم لفت نظرهم إلى أنفسهم فقال: وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً نعم هو خلقنا من تراب، فعناصرنا المادية تراب مخلوط بماء، ثم كانت النطفة، والنطفة خلاصة الدم، والدم من الغذاء والغذاء من الأرض، فالله سبحانه أنبت الإنسان من الأرض نباتا كالشجر، ولكنه ميزه عنه بالحياة الحيوانية، ثم كمله بالعقل والتفكير، وشرفه بالرسالات الإلهية، فما لكم لا تؤمنون، لأى سبب تكفرون. ثم بعد هذا يعيدكم إلى الأرض أمواتا، ثم يخرجكم منها إخراجا للبعث والجزاء ... ثم لفت نظرهم إلى الأرض التي أقلتهم فقال: لقد جعلت لكم الأرض بساطا، فهي ممهدة للعيش، ميسرة سهلة للانتقال، لتسلكوا منها طرقا واسعة توصلكم إلى أغراضكم. هذا هو الدور الثالث في القصة. وقد أخذ نوح بعد هذا يشكو إلى ربه عصيان قومه مبينا سبب هذا العصيان ونهايته، وفي هذا كشف لحقيقة كان يجهلها عامة المشركين. قال نوح: رب إنهم عصوني وخالفوا أمرى واتبعوا رؤساءهم الذين حملوهم على الكفر، وأشاروا عليهم به لأنهم أصحاب مال وأولاد. فاغتروا بهم، واستكبروا واشتروا الضلالة بالهدى، وآثروا هذا الجاه الكاذب على النعيم الدائم، هؤلاء الرؤساء مكروا بعامتهم وبنوح مكرا كثيرا. فأما مكرهم بالشعب فلأنهم ضللوهم عن اتباع الحق، وحالوا بينهم وبين الإيمان بنوح- عليه السلام- وأما مكرهم بنوح فلأنهم   (1) - سورة يونس آية 5. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 755 كانوا يتظاهرون أمامه بأن الأمر متروك للناس! وما كانوا يظهرون له أعمالهم الحقيقية، مكروا مكرا كبيرا، ولكن الله مكر بهم، وهو خير الماكرين. ومن طرق المكر التي كان يسلكها أشرافهم ورؤساؤهم أنهم أشاروا عليهم بل ونهوهم عن التفريط في آلهتهم، وكانوا يظهرون لهم في ثوب الناصح الشفوق. لا تدعن آلهتكم التي عبدتموها وعبدها آباؤكم من قبل، ولا تدعن خاصة ودّا، ولا سواعا، ولا يغوث، ولا يعوق. ونسرا، إذ تلك زعماء الآلهة، وكأن الآلهة كالبشر فيها السوقة والخاصة، وفيها الأشراف والعامة، وقد انتقلت هذه الأصنام للعرب «1» . يا رب: هؤلاء الأشراف والرؤساء هم سبب البلاء والشقاء فقد أضلوا كثيرا، وما زالوا يضلون، يا رب: لا تزد الظالمين إلا ضلالا فهذه إرادتك، وهذا عملهم فلا أمل فيهم يرجى، فيا رب نفذ فيهم إرادتك بهلاكهم. من خطاياهم أغرقوا فأدخلوا نارا، بسبب خطاياهم التي أعظمها الكفر وإيذاء نوح وقد جاء خبره مفصلا في سورة هود، أغرقوا بالطوفان وماتوا فأدخلوا نارا ليأخذوا عذاب الآخرة بعد عذاب الدنيا ومع هذا كله لم يجدوا لهم من دون الله أنصارا ينصرونهم ويردون عنهم هذا العذاب، فأين آلهتهم وأصنامهم وأوثانهم؟ وأين (ود. وسواع. ويغوث. ويعوق، ونسر؟) أين هؤلاء. وقال نوح من كثرة ما لاقى منهم: رب لا تذر على الأرض من الكافرين- المعاصرين له- شخصا واحدا منهم يسكن دارا أو يدور ويتحرك، وهذه العبارة تفيد الدعاء عليهم بمحوهم بالكلية، وقد أجاب الله دعاءه إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ ثم أخذ نوح يذكر سبب هذا الدعاء- والأمر كله لله- إنك إن تتركهم بدون هذا العذاب العاجل يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا ذرية تكون فجرة كفرة بسبب إنحاء الكفر لهم وتقليدهم فيه. أما المؤمنون الذين آمنوا بالله وبرسوله فيقول نوح في شأنهم: رب اغفر لي واستر ذنبي- إن كان- واغفر لي ولوالدي، ولمن دخل بيتي- ولعله أراد شريعته أو سفينته- واغفر للمؤمنين والمؤمنات من كل أمة وفي كل زمن. ولا تزد الظالمين لأنفسهم بالكفر ولغيرهم بالإضلال إلا تبارا وهلاكا.   (1) - كان (ود) لبنى كلب بدومة الجندل، وكان على صورة رجل، و (سواع) لهمدان أو هذيل، وكان على صورة امرأة، و (يغوث) لمذحج، و (يعوق) لمراد أو لهمدان وكان على صورة فرس، و (نسر) لحمير وكان على صورة نسر. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 756 سورة الجن وهي مكية باتفاق الجميع، وعدد آياتها ثمان وعشرون آية. وهي تتضمن حقائق إسلامية نطق بها القرآن على لسان الجن، مع ذكر توجيهات إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم وحقائق تتعلق بالرسالة. الجن واستماعهم للقرآن [سورة الجن (72) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3) وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9) وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَلا رَهَقاً (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14) وَأَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 757 المفردات: أُوحِيَ الوحى: هو ما يلقى إلى الأنبياء من عند الله، وفيه معنى الخفاء والسرعة، والإيحاء: أن تلقى إلى غيرك ما يريده عن طريق الإيماء أو الإشارة أو الرسالة أو الكتابة أو الإلهام. نَفَرٌ النفر: العدد القليل، هو من الثلاثة إلى العشرة. اسْتَمَعَ: أصغى. عَجَباً المراد: يثير العجب ويدعو للغرابة والدهشة. جَدُّ رَبِّنا يقال: جد هذا في عيني، أى: عظم، فالمراد: تعالى جلال ربنا وعظمته، وقيل الجد: الملك والسلطان. يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً السفيه: من عنده خفة وطيش تنشأ عن حمق وجهل، والقول الشطط: الذي تخطى صاحبه فيه حد العدل والحق. يَعُوذُونَ: يطلبون النجاة والعون. رَهَقاً: طغيانا وإثما، أو ذلة وخوفا لا يطاق. لَمَسْنَا السَّماءَ: طلبنا بلوغها واستماع أخبارها. حَرَساً: لفظ يدل على الجمع، والمراد عليها حراس من الملائكة شداد. شُهُباً: وهي شعلة من نار ساطعة. رَصَداً: يرصده ويرقبه لينقض عليه. رَشَداً المراد: خيرا ورحمة. نُعْجِزَ اللَّهَ: لن نفوته ونفلت من قدرته. بَخْساً أى: انتقاصا من حقه في الثواب فيعطى أقل مما له. وَلا رَهَقاً: لا يخاف ظلما غير محتمل. تَحَرَّوْا رَشَداً أى: طلبوا الأحرى والأهدى من الطريقين. الْقاسِطُونَ قسط: ظلم وجار وأقسط: أزال الظلم والجور أى: عدل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 758 لقد ثبت في الصحاح أن الجن «1» استمعوا للنبي صلّى الله عليه وسلّم وهو يصلى بأصحابه، ويقرأ القرآن بصوت أمال الجن فصرفهم إليه، فلما استمعوا، وأفهموا حقائق من كلام الله انطلقوا إلى أهليهم يبشرونهم ويحملون إليهم ما عرفوه، ولقد أوحى الله إلى النبي بهذا ليطمئن خاطره، وتستمر نفسه كما هي قوية شديدة في دعوتها، فإن أعرض عنها المشركون فها هم أولاء الجن يؤمنون ويدعون غيرهم للإيمان بها، نزلت هذه الآية بالإجمال في سورة الأحقاف، الآيتان: 29، 30 ومرة بالتفصيل كما هنا، نزلت فيما نزلت تبكيتا لقريش والعرب، حيث تباطأوا عن الإيمان وكانت الجن أسرع منهم في قبول الدعوة مع أنهم من غير جنس البشر، أما القرشيون والعرب فقد كذبوا حسدا من عند أنفسهم وبغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. المعنى: قل لهم يا محمد: لقد أوحى الله إلىّ أنه استمع نفر من الجن إلى القرآن فقالوا لقومهم عند رجوعهم إليهم: إنا سمعنا قرآنا جليل الشأن بديعا يدعو إلى العجب لأنه مخالف لكلام البشر، بل ولكل الكتب السابقة، في نظامه وأسلوبه وأغراضه ومعانيه، وهو كتاب يهدى إلى الرشد وإلى الخير والحق، وإلى الصراط المستقيم، فنشأ عن ذلك أننا آمنا به وبمن أنزل عليه، وبعد ما آمنا بالقوى القادر الذي أنزله على عبده محمد، ولن نشرك بعد هذا بربنا أحدا من خلقه أيّا كان. وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا «2» أى: وصدقنا أن الحال والشأن ارتفع جلال ربنا وعظمته أى: عظمت عظمته وتعالى سلطانه، فهو صاحب الملك والسلطان، تبارك   (1) عالم آخر غير عالمنا، مستتر لا يرى، الله أعلم بحقيقته، ولا نعرف عنه الا ما أخبرنا به الحق أو رسوله في خبره الصحيح، فهو مخلوق من نار وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ وقد بعثت لهم الرسل كما نص القرآن امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ ؟ وهم كالبشر سواء بسواء، يثاب مؤمنهم، ويعاقب كافرهم، وهل أمر النبي بدعوتهم فدعاهم أو هم صرفوا إليه فدعاهم ثانيا، الله أعلم. هذا عالم غيبي فلا نقول فيه إلا ما قاله خالقه الذي يعلمه. (2) هنا بضع عشرة آية مفتتحة بأن، وقد اختلف القراء في فتح أن وكسرها وقيل: الكسر في الجميع، وقيل: اتفقوا على الفتح في (أنه استمع) . (وأن المساجد لله) ووجه الخلاف في ذلك أن قوله تعالى: قل أوحى إلى أنه استمع، وقوله: فقالوا إنا سمعنا.. فآمنا به تصلح أن تكون معطوفا عليه ثم جاءت هذه الآيات فهل تعطف بالفتح على الموحى به الذي هو أنه استمع؟ أو بالكسر على المقول أى: إنا سمعنا، وجوز بعضهم الفتح عطفا على محل الجار والمجرور في قوله: آمنا به كأنه قيل: صدقنا به، وصدقنا بأنه تعالى جد ربنا، كذلك البواقي، ولك أن تقدر له فعلا يناسب المقام كما ذكر في الشرح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 759 اسمه وتعالى سره، ما اتخذ صاحبة ولا ولدا، كأن الجن حينما سمعوا القرآن نبههم ذلك إلى خطأ كان يعتقده الكفرة من الجن حيث شبهوا الله بالحادث المحتاج إلى الصاحبة والزوجة والذي يجوز عليه الانفصال والاتصال، ويحتاج إلى الأولاد، وكيف يكون ذلك مع أنه تعالى الغنى عن كل شيء؟ آمنا بالله وصدقنا بأن ما كان يقوله سفيهنا في حقه- سبحانه وتعالى- كان شططا وخروجا عن حد المعقول لفرط بعده عن الحق إذ كان ينسب الصاحبة والولد إليه عز وجل. وها هم يعتذرون عن تقليدهم لسفيههم وقائدهم في الشر فيقولون: آمنا بالله وصدقنا بخطئنا في ظننا الذي لأجله اعتقدنا ما اعتقدنا في نسبة ما لا يليق بالله، لأننا كنا نظن أن من المستحيل أن يقول واحد من الإنس والجن على الله قولا كاذبا فيه كنسبة الصاحبة والولد له جل شأنه. كان الرجل من العرب إذا أمسى في واد مقفر، وخاف على نفسه نادى بأعلى صوته يا عزيز هذا الوادي- يريد رئيس الجن فيه- أعوذ بك من سفهاء قومك، فإذا سمع الجن ذلك استكبروا وزادهم هذا إرهاقا وتعنتا وعتوا وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً بمعنى: آمنا بالله وآمنا بأنه كان رجال من الإنس يلجئون إلى الجن يستعيذون بهم، فكان الجن يزدادون بذلك عتوّا واستكبارا وقيل إن معنى الآية: وأنه كان رجال من الإنس يستجيرون برجال منهم وهم الكهان والمنجمون والعرافون، يستجيرون بهم من أذى الجن، فيزداد الكهان والعرافون عتوّا واستكبارا، وهذا علاج جاء على لسان إخواننا الجن لرد البشر إلى الصواب في اعتقادهم في الجن. وعلى ذلك فكاذب من يقول: إن بعض الناس يستخدم الجن أو إن للجن عملا نافعا أو ضارّا في حياتنا يقول الآلوسي: ولعل تعلق الإيمان بهذا باعتبار ما يشعر به من كون ذلك ضلالا موجبا لزيادة الرهق. وآمنا بأن الإنس ظنوا خطأ كما ظننتم أن الله لن يبعث أحدا من الرسل إلى أحد من العباد، وقيل المعنى: أوحى إلى أن الجن ظنوا كما ظننتم أيها الكفرة أن الله لن يبعث أحدا من خلقه بعد موته. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 760 وبخبركم بأننا طلبنا بلوغ السماء لنسمع كلام أصحابها كما كنا فوجدناها قد ملئت حرسا قويّا من الملائكة أعد لطرد من يسترق السمع، وملئت شهبا رصدا لمن يريد السمع لتحرقه. ونخبركم كذلك بأننا كنا نقعد منها مقاعد كثيرة لاستراق السمع قبل بعثة النبي صلّى الله عليه وسلّم فمن يستمع الآن يجد له شهابا خاصا به رصد لأجله لا يخطئه، وهذه الشهب لا يمنع وجودها الآن وقبل الآن، وكونها ظاهرة طبيعية لا يمنع أنها أعدت بعد البعثة لذلك مع صفتها الأصيلة، وكثرت لهذا الغرض، ويفيد ذلك قوله: «ملئت» . وآمنا بأنا لا ندري أشر أريد بمن في الأرض بحراسة السماء أم أراد بهم ربهم رشدا وخيرا؟ وآمنا بأنا منا الصالحون، أى: في أنفسهم، الطيبون في المعاملات مع غيرهم، المائلون للخير بطبعهم، ومنا غير ذلك، وهم كثير، كنا طرائق مختلفة حيث وكلنا إلى أنفسنا. وآمنا بأنا لن نعجز الله ولن نفلت منه أبدا أينما كنا في الأرض ولن نعجزه هاربين منها إلى السماء فالكل في قبضته وتحت تصرفه. وآمنا بأنا سمعنا الهدى، أى: القرآن فآمنا به من غير تلعثم وتردد فمن يؤمن بربه وبما أنزله- عز وجل- فلا يخاف نقصا ولا يخاف ظلما إذ لا يظلم ربك مثقال ذرة. وفي الواقع أن ربك لا يظلم أحدا بل الكل يأخذ جزاءه، لكن نصت الآية على أن المؤمن لا ينقص من حسناته! ولا يبخس شيء من عمله. وبعد سماع القرآن آمنا بأنا منا المسلمون، ومنا القاسطون الجائرون على طريق الهدى، فأما المسلمون المهذبون فأولئك قوم توخوا العدل والحق وقصدوه واتبعوه وآمنوا وعملوا: وأما القاسطون الجائرون عن سنن الحق والعدل والكرامة التي هي سنن الإسلام فأولئك مأواهم جهنم بل كانوا لها حطبا ووقودا. تلك حقائق إسلامية أوردها القرآن على لسان الجن فكانت دواء لكثير من أمراضنا وتصحيحا لكثير من أفهامنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 761 توجيهات إلهية للرسول عليه السلام [سورة الجن (72) : الآيات 16 الى 28] وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17) وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22) إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ وَأَحْصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً (28) المفردات: عَلَى الطَّرِيقَةِ: على ملة الإسلام. غَدَقاً: كثيرا نافعا. لِنَفْتِنَهُمْ لنختبرهم فيه. يَسْلُكْهُ: يدخله. صَعَداً يعلو المعذب فيه، وقيل: شاقّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 762 الْمَساجِدَ: أماكن السجود، والمراد المواضع المعدة للعبادة والصلاة. لِبَداً: جمع لبدة، مأخوذة من تلبد القوم: إذا تجمعوا، وعليه قولهم: لبدة الأسد للشعر المتراكم حول عنقه. يُجِيرَنِي: ينفعني ويدفع عنى. مُلْتَحَداً أى: ملتجأ ألتجئ إليه، أو حرزا أتحصن به. أَمَداً: زمنا بعيدا. يَسْلُكُ المراد: يقيم ويثبت. رَصَداً: حراسا وحفظة. المعنى: قل أوحى إلى أنه استمع نفر من الجن، وأوحى إلى أن الحال والشأن لو استقام الإنس والجن على ملة الإسلام التي هي الطريقة المثلى، الطريقة المحكمة التي فيها خير الدنيا والآخرة، أن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء كثيرا مباركا فيه وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ [الأعراف 96] وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ [سورة المائدة آية 66] . لو استقام الخلق لأتتهم الدنيا وكثرت أرزاقهم، ثم أتت مرحلة أخرى هي مرحلة الاختبار والابتلاء ليظهر أهم من الشاكرين أم من الذين يكفرون بالنعم! وهذا معنى قوله تعالى: لنفتنهم فيه، ومن يعرض عن ذكر ربه، ولا يقبل على عبادته فإنه يدخله عذابا يعلوه ويكون هو فيه، عذاب- والعياذ بالله- شديد وبئس هذا المصير. وأوحى إلى أنه لما قام عبد الله ورسوله محمد صلّى الله عليه وسلّم يدعو الناس إلى الخير وإلى الهدى والنور، لما قام يدعوه كادوا- أى: الإنس والجن- يكونون عليه متراكمين متكتلين ليطفئوا نور الله فأبى الله إلا أن ينصره ويظهر دينه ولو كره المشركون وقد كان ذلك كذلك. قل لهم يا محمد: ما لكم! وماذا فعلت! إنما أدعو ربي وأعبده وحده ولا أشرك به شيئا فليس هذا بأمر يضركم أو يدعو إلى ما تفعلون. قل لهم: ما لكم تقفون منى هذا الموقف!! إنى لا أملك لكم ضرّا ولا نفعا، والذي يملك ذلك هو الله، فلم أكن مقصرا في حقكم في شيء! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 763 قل لهم: وماذا أعمل لو لم أدعكم إلى الخير فعاقبنى الله بالسوء!! إنى لن يجيرني من الله أحد، ولن يدفع عنى العذاب أحد، ولن أجد من دونه ملتجأ فأنا مكلف ومأمور بهذا العمل من الله، ولو تأخرت لعاقبنى فما لكم تفعلون معى هذا!! قل لهم: إنى لا أملك لكم شيئا إلا أن أبلغ بلاغا جاءني من الله لكم، هذا البلاغ هو القرآن الذي يهدى إلى التي هي أقوم، إلا بلاغا من الله ورسالاته التي هي أوامره ونواهيه الدينية فمن سمع البلاغ ووعاه، وامتثل جميع الأوامر والنواهي، وتقبل الرسالات الإلهية وتدبرها كانت له الجنة خالدا فيها أبدا. ومن يعص الله ورسوله في رسالاته وبلاغه، فيعرض عن سماعها وتدبرها والعمل بها فإن له نار جهنم خالدا فيها جزاء وفاقا لتكذيبه وإعراضه وسوء صنيعه. ولا يزال المشركون سائرين في ضلالهم مغرورين بأنفسهم وبقوتهم، ويستهزئون بك وبوعيدك وبمن معك حتى يروا العذاب، فإذا رأوه فسيعلمون من هو أضعف ناصرا، ومن هو أقل عددا، وسيعلمون أى الفريقين خير مقاما وأحسن نديا!! فاحذروا يا آل مكة هذا. وكان المشركون حينما يسمعون هذا التهديد بالعذاب يوم القيامة ينكرونه ويستهزئون به فأمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يقول لهم: ما أدرى وقت هذا العذاب، أما نفس العذاب فواقع لا محالة، غير أنى لست أدرى أقريب هو أم بعيد؟ قد جعل له ربي زمنا طويلا. هو عالم الغيب وحده، لا يطلع على غيبه أحدا، إلا من ارتضاه من رسول فإنه يطلعه على بعض غيبه مما يحتاج إليه في رسالته ويكون من الخير الاطلاع عليه، أما غير ذلك فلا يرقى إلى غيبه مخلوق من إنس أو جن أو ملك، وكيف يكون ذلك؟ وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ [سورة الأنعام آية 59] . والخلاصة: أن الله عنده علم الغيب، ولا يطلع عليه أحدا من خلقه إنسيّا كان أو جنيّا حكيما أو كاهنا أو غيرهما، إلا من ارتضى من رسله الذين هم أصحاب الشرائع السماوية، فإن الله أطلعهم على بعض غيوبه فكانت التوراة والزبور والإنجيل والقرآن وما فيهم. ذلك هو الغيب الذي أطلع الله عليه بعض خلقه بواسطة الوحى به على لسان الأمين جبريل وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ [سورة التكوير آية 24] فالمراد بالغيب القرآن، أى: ما هو بمتهم عليه حتى يتصور أنه غير أو بدل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 764 ويريد الله أن يعلمنا أن هذا الغيب وصل إلى الرسل عن طريق محكم جدّا، وبلغه الرسل بأمانة ودقة وحكمة، لم يكن معه نسيان أو إهمال أو خطأ في شيء، ألا ترى قوله: فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ فإنه يسلك من بين يدي الرسول ومن خلفه حرسا شديدا يحفظونه من الوساوس والاختلاط، والذهول والنسيان حتى لا يترك بعض ما أوحى إليه أو يقصر في تبليغه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [سورة القيامة آية 17] وهذا ما يسمى في عرف علماء التوحيد بالأمانة والعصمة. كل ذلك ليعلم ربك علم ظهور وانكشاف- أى: يتحقق هذا في الخارج ويشاهده الجميع- أن قد أبلغوا- أى: الرسل- رسالات ربهم، أو ليعلم أن قد أبلغ جبريل زعيم الملائكة رسالات ربهم، والحال أن الحق- تبارك وتعالى- أحاط بما لديهم كله إحاطة العليم الخبير، الناقد البصير، وأحصى كل شيء من هذا الكون حالة كونه معدودا مميزا عن غيره، فهل يعقل أن يتطرق إلى الرسل شك في زيادة أو نقص إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ! [سورة الحجر آية 9] . وانظر إلى ختام السورة، بإبراز الغيب الإلهى محاطا بسور لا يقربه إلا المرتضى المختار من الرسل الكرام، أما الجن والكهان ومن يدعى علم الغيب فأولئك كذبة فجرة، لا يعرفون أنفسهم.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 765 سورة المزمل وهي مكية كلها، ويرى بعضهم أنه يستثنى من ذلك آخرها، وعدد آياتها عشرون آية، وتشمل: إرشادات النبي صلّى الله عليه وسلّم لتقوية جسمه وروحه حتى يقوى على تحمل الرسالة، ثم أمره بالصبر وترك المشركين مع تهديدهم بأنواع التهديدات. إرشادات إلهية لزعيم الدعوة الإسلامية [سورة المزمل (73) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9) وَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَجَحِيماً (12) وَطَعاماً ذا غُصَّةٍ وَعَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14) إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 766 المفردات: الْمُزَّمِّلُ: المتلفف بثيابه، يقال: تزمل وتدثر، ثم قلبت التاء زايا في المزمل. ودالا في المدثر. وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ المراد: اقرأ بتثبت وتؤدة. ثَقِيلًا: شاقّا. ناشِئَةَ: ما يحدث فيه ويتجدد، مأخوذ من نشأ إذا حدث وتجدد. أَشَدُّ وَطْئاً: أصعب وقعا. وَأَقْوَمُ: أعدل. سَبْحاً طَوِيلًا: عملا كثيرا سريعا، وأصل السبح: العوم على وجه الماء، أو سرعة الجري، ثم استعمل في العمل السريع الكثير. وَتَبَتَّلْ، انقطع إليه انقطاعا. وَذَرْنِي: اتركني. النَّعْمَةِ: التنعم والترفه. أَنْكالًا: جمع نكل وهو القيد الثقيل. ذا غُصَّةٍ: ما أعده الله في تلك الدار من طعام منكر فظيع. تَرْجُفُ الْأَرْضُ: تضطرب وتتزلزل. كَثِيباً: تلّا من رمل متناثر جمعته الريح بعد تفرق. مَهِيلًا: هو ما إذا تحرك أسفله سال من أعلاه وتتابع. وَبِيلًا: ثقيلا شديدا. مُنْفَطِرٌ: متصدع ومتشقق. تَذْكِرَةٌ: عبرة وعظة. أعد الله نبيه الكريم لتحمل أضخم رسالة في الوجود، الرسالة العامة إلى جميع الخلق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولكنه بشر بينه وبين الملك تنافر في الطبيعة المادية، لذلك اضطرب وخاف عند أول لقاء وذهب إلى خديجة كأنه محموم، وقال: زملوني زملوني!! وما علم أن هذا الذي لقيه في الغار هو جبريل الذي نزل على موسى وعيسى، وكانت هذه الرسالة إلى قوم وثنيين مشركين ومتعصبين مقلدين، وكان النبي يعرف عنهم ذلك فكان كأنه يخشاهم، ويشعر بخطورة هذه الدعوة في هذا المجتمع! فناداه الله بهذا النداء وبقوله في السورة الأخرى: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ من باب الملاطفة والملاينة وتأنيسا على عادة العرب في اشتقاق اسم من صفة المخاطب التي هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 767 عليها، وكانت هاتان السورتان- المزمل والمدثر- من أوائل القرآن نزولا، ويروى أن الوحى لما نزل على النبي للمرة الثانية وجده متزملا في قطيفة فقال له: يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ. قُمِ اللَّيْلَ وجاءه مرة أخرى وكان متدثرا فقال: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ. قُمْ فَأَنْذِرْ. المعنى: يا أيها المزمل- المتلفف بكساء وقد اضطجع في ركن داره- قم الليل إلا قليلا منه وهو نصفه «1» أو انقص منه قليلا بحيث يزيد على الثلث، أو زد عليه قليلا بحيث لا يزيد على الثلثين، فالنبي- عليه السلام- أمر بأن يقوم من الليل ساعات تتراوح بين الثلث والثلثين، وهو التهجد وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً [سورة الإسراء آية 79] . يا أيها المزمل: دع ما أنت فيه وانشط لقيام الليل والصلاة فيه، وقراءة القرآن وترتيله وتدبر معناه. هذا خطاب للنبي ويدخل معه في ذلك أمته وخاصة أصحاب الدعوات والمبادئ والأفكار، والشارع الأعظم يقصد بهذه الإرشادات والتوجيهات التربية الإسلامية الكاملة، تربية الجسم وتعويده على تحمل المشاق والمكاره، وتربية النفس بسموها وبعدها عن شوائب المادة وقوتها بحيث تحكم على الجسم ونوازع الشر فيه، إذ لا شك أن قيام الليل شاق على النفس لكنه يؤدبها ويهذبها، ويعودها الصبر، وهو كذلك مما يقوى الأجسام ويساعدها على العمل والثبات في معترك الحياة. والنبي- عليه السلام- تنتظره في دعوته مشاق ومتاعب وتكاليف، ودرعه الواقي في ذلك هو تعويد جسمه على تحمل المشاق، وتقوية روحه بالعمل الصالح وتلاوة القرآن، يا ليت قومي يعلمون ذلك فيعملون على تحقيقه، ويفرحون لإرادة الله ذلك لهم.   (1) - هذه إشارة إلى أن (نصفه) بدل من (قليلا) ووصفه بالقلة إشارة إلى أن النصف الذي أحياه بمنزلة الكل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 768 يا أيها المزمل: قم الليل إلا نصفه أو قلل منه قليلا أو زد عليه قليلا، ورتل القرآن في تهجدك ترتيلا، واقرأه بتثبت وتدبر، وتؤدة وتأن فإن القرآن جلاء القلوب، وحياة النفوس. ولقد امتثل النبي أمر ربه، وتأدب بأدب القرآن، وسهر الليل وجاهد النفس واقتدى به أصحابه حتى شحبت ألوانهم وضعفت أجسامهم وتورمت أقدامهم حتى كأنهم تخطوا الحدود المرسومة فأنزل الله طه ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى. ولقد أخذ القرآن يذكر سبب هذا الأمر فقال ما معناه: يا محمد إنك تحمل أكبر رسالة، وتدعو الناس إلى أضخم دعوة: دعوة الحق والحرية والكرامة. وسيكون لك أعداء، وسيكون لمن يدعو بدعوتك أعداء، لهذا أمرناك بإعداد نفسك وجسمك إلى تحمل هذه الرسالة، إنا سنلقى عليك قولا ثقيلا وقعه شديدا وطؤه على الكفار والمشركين، ولا ينفع هذا إلا تقوية الجسم والروح، وتدبر القرآن وتفهم معناه. وكأن سائلا سأل شاكا في أن قيام الليل وتدبر القرآن مما يساعد على تحمل مشاق الدعوة، فقال: إن ما حدث في الليل من قيام وصلاة وقراءة قرآن وتدبر له هو أشد وطئا، وأصعب على النفس الإنسانية، وهذا بلا شك مما يساعدها على تحمل المشاق ويقويها فتصبر على المكروه ولا شك أن الليل حيث السكون والصفاء مما يساعد على تدبر القرآن وتفهم معناه. إن لك في النهار عملا كثيرا متواصلا سريعا فلم يبق إلا الليل، فاغتنم جزءا منه يكن لك خير كثير وفضل كبير. واذكر اسم ربك وتوكل عليه وحده، وانقطع عما سواه فلن ينفعك غيره، وهكذا المؤمن الكامل لا يتوكل إلا عليه ولا يعتمد على سواه، ولا ينقطع عن كل ذلك لأنه رب المشرق والمغرب وما بينهما، لا إله غيره، وكيف يكون غير ذلك؟! وكل ما في الكون شرقه وغربه شاهد عدل على وحدانية الله، وأنه لا إله غيره، ولا معبود سواه، إذا كان الأمر كذلك فاتخذه وكيلا، واعتمد عليه وحده في دعوتك الخلق إلى الإسلام.. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 769 وسيصادفك- وكل من يدعو بدعوتك إلى يوم الدين- ما تكره من أذى الناس والعلاج في ذلك هو الصبر- إنه سلاح المؤمن وعدة المسلم- والهجر الجميل وانظر إلى علاج القرآن حيث جعل دعامته الصبر والسلوان والهجر الجميل. أما المكذبون المغرورون أولو النعمة والترف فالله يقول فيهم: ذرني والمكذبين أولى النعمة والترف وأمهلهم قليلا فإن للكون سنة لا تختلف، إن عاقبة هؤلاء المكذبين المغرورين سيئة، والله يمهل قليلا ولا يهمل. هذا في الدنيا أما في الآخرة فالله يقول: إن لدينا أنكالا وقيودا ثقالا، وجحيما أعدت لهم وطعاما ذا غصة وهو طعام الزقوم، الطعام البشع الكريه التي تغص منه النفوس، وبعد هذا كله فهناك عذاب أليم لهم للغاية. اذكر يوم ترجف الأرض وتضطرب وتتزلزل الجبال وتتحرك حتى تكون تلّا من الرمل كثيبا مهيلا، وليس هذا الاضطراب في الأرض فقط بل فيها وفي السماء إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ «1» ، إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ «2» . ولقد أخذ القرآن يهددهم بما حل بغيرهم وكانوا أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فقال: إنا أرسلنا إلى فرعون رسولا هو موسى، فعصى فرعون وقومه رسولهم فأخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر. حيث أغرقهم ونجى موسى ومن معه. إذا كان الأمر كذلك فكيف تتقون- إن دمتم على كفركم- يوما شديد الهول: يوما يجعل الولدان من شدة أهواله شيبا، والسماء في هذا اليوم تنفطر وتتشقق بعد أن كانت آية في الإحكام والدقة ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ «3» كل ذلك كان وعده مفعولا. إن هذه الإرشادات والتوجيهات التي سيقت في تلك الآيات تذكرة وعظة، فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا هو الإيمان والتمسك بالقرآن، وتعود الصبر والسلوان ...   (1) - سورة التكوير الآيتان 1 و 2. (2) - سورة الانشقاق الآية الأولى (3) - سورة الملك آية 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 770 ذلك تخفيف من ربكم ورحمة [سورة المزمل (73) : آية 20] إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20) المفردات: أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ المراد: أقل منه. لَنْ تُحْصُوهُ: تطيقوه. فَتابَ عَلَيْكُمْ: رجع بالتيسير عليكم. المعنى: هذه الآية ترجع إلى أول السورة حيث كان الأمر فيها للنبي- وكذلك صحبه- بأن يقوم ساعات طوالا من الليل تتراوح بين الثلث والثلثين، وقد امتثل النبي لذلك بل وبولغ في هذا كما سبق، وبعد عشر سنين من هذا الأمر نزل التخفيف على الأمة وانتقل الأمر من الواجب إلى المباح، فلقد خفف الله عن الأمة الإسلامية حيث اتسع العدد وأصبح فيها المريض وذو الحاجة والمسافر والمقاتل، وهؤلاء بلا شك لا يطيقون القيام فجعله الله مندوبا، من شاء فعله فاستحق ثوابه، ومن شاء ترك هذا الفضل الكبير والله هو العالم بكل شيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 771 إن ربك يعلم أنك قمت وامتثلت أمر ربك أنت وطائفة من قومك. قمتم أدنى من ثلثى الليل، وقمتم نصفه، وثلثه، وكان معك صحبك، والمراد بالعلم أن الله سيجازيك على ذلك أحسن الجزاء. والله وحده هو الذي يقدر الليل والنهار، وهو الذي يعلم المصلحة، وقد علم أن المدة السابقة كافية للتربية الإسلامية، وقد جاء معكم ناس لا يستطيعون ذلك العمل، فالله علم أنكم كجماعة لن تطيقوا قيام الليل على سبيل الواجب، أما كأفراد فمنكم من يقدر وأكثركم لا يقدر، والأحكام الشرعية تبنى على الأعم الأغلب. فالله قد رجع عليكم بالتيسير والتخفيف منذ أن رجعتم إليه بالشكوى والدعاء، فاقرأوا ما تيسر من القرآن في قيام الليل أو في الصلاة في ساعة من ساعات الليل. علم الله أن الحال والشأن سيكون منكم مرضى ضعاف، لا يستطيعون قيام الليل، وآخرون منكم مسافرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله بالتجارة والسعى على تحصيل الرزق من طريق الحلال، وآخرون يقاتلون في سبيل الله، هؤلاء وهؤلاء لا يستطيعون قيام الليل، فالله خفف عنكم فاقرأوا ما تيسر منه، وأقيموا الصلاة كاملة الأركان مستوفاة الشروط، وآتوا الزكاة، أى: الزكاة الواجبة بناء على أن هذه الآية نزلت بالمدينة أو هي زكاة الفطر، أو مطلق إنفاق على أن السورة مكية، وأقرضوا الله قرضا حسنا فالله غنى قادر سيجازيكم على الدرهم عشرا بل ربما ضاعفه إلى سبعمائة ضعف، فأقرضوه يكن خيرا لكم وأفضل، وما تقدموا لأنفسكم من خير مطلقا تجدوا ثوابه عند الله كاملا، وتجدوه عند الله هو خيرا مطلقا من العمل مهما كان صعبا، وأعظم أجرا، واستغفروا الله على ما فرط منكم فإن من أمراض القلوب الرياء وحب السمعة، وكثيرا ما كان ذلك في الصدقة، فاستغفروا الله مما يكون قد حصل إن الله غفور رحيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 772 سورة المدثر وهي مكية كلها عند بعضهم، وقال بعضهم هي مكية إلا آية وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً ... وعدد آياتها ست وخمسون آية وهي تشمل إرشادات للنبي صلّى الله عليه وسلّم يحتاج إليها في دعوته، ثم تهديد زعيم من زعماء الشرك، وتطرق الكلام إلى وصف جهنم ومن فيها، وهذه السورة والتي قبلها متشابهتان إلى حد ما، فالأولى في إعداد النبي صلّى الله عليه وسلّم كداعية، والثانية ترشده إلى ما به ينجح في دعوته. توجيهات نافعة للمصطفى صلّى الله عليه وسلّم [سورة المدثر (74) : الآيات 1 الى 10] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10) المفردات: الْمُدَّثِّرُ: لابس الدثار، وهو ما فوق الشعار الذي يلبس فوق الجسد مباشرة. وَثِيابَكَ المراد: قلبك ونفسك. وَالرُّجْزَ: هو العذاب والمراد هنا أسبابه. نُقِرَ فِي النَّاقُورِ: نفخ في الصور. لا تَمْنُنْ المراد: لا تعط مستكثرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 773 المعنى: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم في أول اتصاله بالوحي ولقائه له يتأثر بذلك كثيرا، وكان يتزمل بعده ويتدثر، حتى انقطع عنه الوحى حينا ثم جاءه على شوق منه إليه، وربما كان هذا التخلف ليهدأ روعه وتسكن نفسه، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم كان يصيبه من أذى قومه ما يجعله يعتزل مجتمعهم مفكرا ويجلس متدثرا بدثاره في بيته، فجاءه الوحى يحضه على ترك العزلة، وعلى التشمير للدعوة. يا أيها المدثر الذي اشتمل بدثاره كمن لا يهمه أمر ولا يعنيه شأن، والمستغرق في أفكاره، والمتهيب للقاء الوحى: قم نشيطا من مضجعك، ولا تجعل لليأس سبيلا إلى قلبك، فإن العناية الإلهية أعدتك لرسالة سامية خالدة، ولنشر دين عام هو خاتم الأديان، قم فأنذر الناس بذلك الدين، وخوفهم عاقبة الكفر به، هذه الرسالة التي كلف النبي بها، والتي جاءت لتهدى الناس إلى الطريق الحق، وتجعلهم يعبدون الله الواحد الأحد بعد الأصنام والأوثان والصاحبة والولد، ليست بالأمر الهين السهل، تصور أنك تحاول أن تقنع شخصا بترك ما يعتقده وورثه عن آبائه.. لذلك أرشد الله نبيه إلى طريق النجاح في تلك الدعوة الإسلامية، وإنها لأسلحة جبارة لو استخدمت استخداما صحيحا لكسب صاحبها المعركة وهي: 1- وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ نعم مهما يكن من شيء فكبر «1» ربك وحده، ولا تشرك به غيره، وخلص عقلك من أوهام الشرك وعبادة ما لا ينفع بل يضر. 2- وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ تطهير الثياب كناية عن تطهير النفس عما تذم به من الأفعال، ولذلك قالت العرب: فلان طاهر الثوب أو طاهر الجيب، يريدون بذلك وصف نفسه بالنقاء من المعايب وسىء الأخلاق، ولا غرابة في ذلك إذ الثياب مما يلازم الإنسان في جميع أطوار حياته. وقد يطلقون الثياب ويريدون ذات النفس أو القلب، وعليه قول عنترة. فشككت بالرمح الأصم ثيابه ... ليس الكريم على القنا بمحرم   (1) وهذا إشارة إلى أن الفاء واقعة في جواب شرط مقدر، وهكذا كل فاء آتية هنا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 774 3- وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ أى: اترك كل ما يؤدى بك إلى العذاب من المعاصي والآثام، وحرر جوارحك من كل ما يغضب ربك. ألست معى في أن هذه الكلمات جمعت أمهات الفضائل؟ كتحرير العقل من ربقة الشرك وتقويم النفس بكريم الخلق. وإصلاح البدن والروح بهجر المآثم والمحارم. وهذه الأوامر من باب فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أى: دم على ما أنت عليه من العبادة الكاملة، ومن تحلى نفسك بالخلق الشريف، ومن هجرك لكل ما يغضب الله. 4- هذه صفة مهمة تستحق الإفراد بالذكر وهي: الجود وعدم البخل واستكثار العطاء فإن البخل وشح النفس مما ينفر الناس عن صاحب الدعوة، حقيقة الجود مما يدخل في قوله تعالى: وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ ولكنه خص بالذكر لأثره المهم في جذب قلوب الناس فحقّا صدق الله وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ أى: لا تعط عطاء مهما كان كثيرا وأنت تقدر في نفسك أنه كثير، بل اعتقد أنه قليل، وأعط عطاء من لا يخاف الفقر بحال. 5- وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ أى: إذا كان الأمر كذلك وقد قمت بالواجب عليك واتبعت نصائح ربك ثم وجدت من قومك إعراضا وتكذيبا وإيذاء فاصبر لأجل ربك ولتبليغ رسالاته، وتلقين وحيه، فإن الصبر هو عدة المسلم وطريق الوصول إلى ما يريد. قم يا محمد فأنذر، وبلغ رسالة ربك كلها، وإن لم تفعل هذا فما بلغت رسالته، والله عاصمك من الناس، فإذا أبوا إلا التكذيب، فاعلم أن وراءهم يوما ثقيلا، يوما عبوسا قمطريرا، فإذا نقر في الناقور ونفخ في الصور فذلك- يوم إذ يحصل هذا- يوم عسير جدّا شديد على الكافرين غير يسير. ما يلاقيه زعماء الشرك [سورة المدثر (74) : الآيات 11 الى 31] ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَبَنِينَ شُهُوداً (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30) وَما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَيَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَلا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكافِرُونَ ماذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 775 المفردات: ذَرْنِي: دعني واتركني. مَمْدُوداً: مبسوطا موسعا. شُهُوداً: حضورا لا يفارقونه. مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً بسطت له الدنيا بسطا. كَلَّا: كلمة ردع وزجر. عَنِيداً: معاندا له ومكابرا. سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً: سأكلفه وأحمله عذابا شاقا صعبا كصعوبة من يحاول صعود جبل صعب. قَدَّرَ: هيأ الأمر في نفسه ودبره. عَبَسَ وَبَسَرَ العبوس: تقلص عضلات الوجه أو الحاجبين عند ألم أو حزن، والبسور أشد من العبوس. سَقَرَ: اسم من أسماء جهنم، وهو من: سقرته الشمس: إذا لوحته وآلمته. فِتْنَةً: ابتلاء واختبارا. وَلا يَرْتابَ: ولا يشك. مَرَضٌ: شك ونفاق. مَثَلًا المثل: هو القول السائر على ألسنة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 776 الخلق، ويكون في أمر عجيب وشأن خطير، والمراد أن عدد الخزنة أمر عجيب كالمثل. جُنُودَ رَبِّكَ: أنصاره وأعوانه، والمراد هنا: صنف من الخلق. ذِكْرى لِلْبَشَرِ: موعظة وعبرة. المعنى: لقد رسم الله- سبحانه وتعالى- الخطوط لنجاح الدعوة المحمدية باستكمال العقل وتحرره من الشرك، وباستكمال النفس بالخلق الكامل والمثل العليا، وبتطهير الجوارح والروح بالبعد عن المعاصي والمحارم، ولقد ذكر صفتين لهما وضع خاص، هما الجود والصبر، وبعد ذلك بين ما يلاقيه الكفار يوم القيامة، ثم أراد أن يشجع الرسول على التبليغ فذكر أحد زعماء الشرك وتوعده بسقر التي هي لواحة للبشر، هذه هي دعائم نجاح الرسول في دعوته، وتلك سنة الله في الدعوات كلها لا يستقيم لها أمر إلا بهذا. ذرني ومن خلقته وحدي بلا شريك معى، اتركه لي وثق أنى قادر عليه لقد خلقته وحيدا لا مال له ولا ولد ولا حول له ولا قوة، حتى إذا أنعمت عليه بالمال والولد قام يكفر بي ويكذب رسلي، لقد مهدت له الدنيا ووسعتها عليه توسيعا، ثم بعد ذلك يطمع أن أزيده من نعمى، أو ثم يطمع أن أزيده فأرسله رسولا!! كلا إنه كان لآياتنا القرآنية معاندا ومكابرا، وماذا يكون جزاؤه؟ سأرهقه صعودا، أى: سأحمله من العذاب نوعا شاقاّ عليه تضعف عنه قوته كما تضعف قوة من يصعد في الجبل في طريق وعر، وكأن سائلا سأل: كيف كانت حالته في معاندة الآيات حتى استحق هذا العذاب؟ فأجيب: إنه فكر فيها وقدر، وهيأ في نفسه أمرا وأجال فيها رأيا يقوله ليرضى الباطل وأهله. فقتل كيف قدر؟ ثم قتل كيف قدر؟ وهذا كما يقولون: قاتله الله ما أشجعه! في معرض التعجب والاستعظام مدحا للشخص الذي يقولون فيه هذا الكلام، وكأنه بلغ حدا يجعل حساده يقولون له هذا، ثم شاع هذا الاستعمال حتى صار يقوله كل معجب بشخص أو كل محب له، أما العبارة في الآية فليس المقصود منها المدح، وإنما هي للتعجب المشوب بالذم، أو المدح الذي فيها للتهكم والاستهزاء، ثم بعد أن فكر وقدر نظر في جمهور النادي نظر المفكر الساهم، ثم قطب وجهه وقلص عضلات حاجبيه واشتد ذلك التقطيب متهيئا للكلام والحكم القطعي في شأن الرسول والقرآن. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 777 ولما كان قوله محض افتراء، ونهاية الإعراض عن الحق والإيمان، وكان ناشئا عن كبر وغمط للحقوق عبر عنه القرآن بقوله: ثم أدبر واستكبر، فماذا قال؟ قال: إن الكلام الذي سمعته ما هو إلا سحر يؤثر عن السحرة من البابليين والآشوريين والمصريين، ثم أكد رأيه بأنه سحر معروف وليس من كلام الله بقوله: ما هذا إلا مثل قول البشر الذين عاشوا في القرون الماضية. ما جزاء هذا؟ سأرهقه صعودا، سأصليه سقر «1» وما أدراك؟ ما سقر «2» ؟ أى شيء أعلمك ما سقر؟ وهذا استفهام يراد به التعجب من هول سقر، وأنه مهما فكر فيها المفكر لا يمكنه أن يعرف من أمرها إلا ما عرفه الوحى من أنها لا تبقى على شيء يلقى فيها إلا أهلكته، ولا تذر أحدا من الفجار يفلت منها، وهي لواحة للبشر تجعل أجسامهم قطعا سوداء متغيرة، عليها تسعة عشر، وهم خزنتها الموكلون بخدمتها وهل هم تسعة عشر ملكا أو صنفا أو صفا أو نقيبا؟ الله أعلم بذلك، وليس لنا أن نبحث في ذلك بعد قوله تعالى: وما أدراك ما سقر؟ على أن المخاطب بذلك سيد البشر. وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة، أى: ليسوا بشرا، وهذا رد على من قال: سأكفيكم هذه الآية: ثكلتكم أمهاتكم، أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد من هؤلاء!! فيرد الله عليهم: ليس هؤلاء بشرا بل هم ملائكة، فاسألوا عنهم عادا وثمود وأهل قرى قوم لوط، فإنهم يعرفون الملائكة وقوتهم. وما جعلنا عدتهم- تسعة عشر- إلا ابتلاء واختبارا للناس، وكانت فتنة وضلالا وإعراضا عن الحق، حيث كفر المشركون بهذا وضلوا، فكانت عاقبة أمرهم ضلالا وإعراضا. أما المؤمنون بالنبي صلّى الله عليه وسلّم من المسلمين وأهل الكتاب فازدادوا يقينا على يقينهم، ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون بل هم متيقنون، وكان ذلك ليقول الذين في قلوبهم شك ونفاق كالمنافقين، وليقول الكافرون بالوحي: ماذا أراد الله بهذا؟ أى: ماذا أراد الله بهذا القول- عدتهم تسعة عشر- الذي يشبه المثل في الغرابة والبداعة؟ فيخوفنا بواسطته من سقر وخزنتها التسعة عشر.   (1) تعرب هذه بدلا من الأولى بدل اشتمال. (2) ما أدراك (ما) مبتدأ و (أدراك) خبر، وجملة (ما سقر) ساد مسد المفعول الثاني لأدرى، وإعرابها خبر مقدم وسقر مبتدأ مؤخر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 778 مثل ذلك يضل الله من يشاء ويهدى من يشاء، ويهدى من أراد لهم ذلك لأنهم على استعداد للخير أو الشر، وقد ساروا بمحض اختيارهم في أحد السبيلين. وما يعلم جنود ربك إلا هو، نعم لا يعلم خلقه إلا هو، وجنود ربك التي هي وسائط في تنفيذ إرادته وأحكامه من الأمور الغيبية التي نؤمن بها فقط. وما سقر ووصفها بهذا إلا ذكرى وموعظة للبشر، فيخافون ربهم ويبتعدون عن عقابه وعذابه، أما حقيقتها فشيء لا يعلمه إلا الله. يكاد المفسرون يجمعون على أن قصة التهديد السابقة نزلت في الوليد بن المغيرة فإنه كان كثير المال والولد عظيم الجاه قوى النفوذ، وكان له عشرة أولاد يحضرون مجلسه لكبر سنهم ورجاحة عقولهم، ويقيمون معه لا يغادرون مكة لغناهم وثرائهم. ولما اشتد الأمر رأى زعماء الشرك أن دعوة النبي محمد آخذة في الانتشار، وأن محمدا سيجتمع بوفود العرب وسيكلمهم في الإسلام. اجتمعوا للتشاور فيما يقولون ليردوا به العرب عن الإسلام، فقال قائل: نقول: إنه شاعر، وقال آخر: لا، إنه كاهن، وقال ثالث: لا، إنه مجنون، وقال رابع: لا، إنه كذاب! كل هذا والوليد يسمع ولا يتكلم فقالوا له: ما لك لا تتكلم؟؟ فقال: لقد سمعت محمدا يقرأ كلاما ما هو بكلام الإنس ولا الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى عليه، وما يقول هذا بشر. فكان لهذا الكلام وقع شديد على المجتمعين، وقالوا: لقد صبأ الوليد- أى: ترك دين آبائه وأجداده- ولتصبأن معه قريش، وتفرق الجمع وكلهم حزين أسيف. ولكن أبا جهل ذهب لدار الوليد يحتال عليه وأخذ يكلمه بكلام يثير فيه الحمية الجاهلية، والنخوة الكاذبة فقال له: لقد تركنا قريشا تجمع مالا حتى تكفيك تعرضك لمحمد وماله، فقال الوليد: لقد علمت قريش أنى من أكثرها مالا، فهل أنا محتاج لكسر محمد اليتيم؟ قم بنا إلى دار الندوة، ولأقول كلاما أصحح به وضعي. اجتمع الناس فقال الوليد: إن محمدا ليس بشاعر، ولا كاهن، ولا كاذب- لقد وصف القرآن الوليد في تلك اللحظة الرهيبة وصفا دقيقا جدّا- فقال: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 779 إن الوليد فكر وقلب وجوه الرأى فيما يقوله، وقدر الرأى وقلبه على وجوهه ثم قاطعه الوحى بقوله: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ معجبا من أمره ناعيا عليه سوء فعله، ثم نظر الوليد في القوم بعد تفكيره، ثم عبس وبسر، أى: قطب حاجبيه تقطيبا شديدا، وقال لهم: إنه ساحر أما رأيتموه يفرق بين الرجل وأهله وولده ومواليه، ففرحت قريش بذلك فرحا شديدا. واغتم النبي صلّى الله عليه وسلّم وحزن ورجع إلى بيته، وتدثر بدثاره وجلس، فكانت هذه السورة، وأمره الله أن يدع الوليد ومن على شاكلته فالله يكفيكه في الدنيا، وليعذبنه عذابا شديدا في الآخرة بنار هي سقر تسود الوجوه وتشوى اللحم ... إلخ ما في الآيات. سقر ومن فيه [سورة المدثر (74) : الآيات 32 الى 56] كَلاَّ وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37) كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47) فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52) كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 780 المفردات: إِذْ أَدْبَرَ دبر وأدبر بمعنى: ولى وانصرم. إِذا أَسْفَرَ: أضاء وظهر. الْكُبَرِ: جمع كبرى، أنثى الأكبر. رَهِينَةٌ يقال: رهن الشيء رهنا ورهينة، وهو الشيء المرهون وثيقة لشيء آخر. ما سَلَكَكُمْ: ما أدخلكم. الْمُصَلِّينَ الصلاة في اللغة: الدعاء والدين، وشرعا: تطلق على الصلاة المعروفة، والمراد المعنى اللغوي لا الشرعي. نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ: نكذب مع المكذبين، وأصل الخوض الذهاب في الماء، ثم نقل إلى الذهاب في الكلام، ثم غلب على الإكثار من باطل الكلام. الْيَقِينُ: الموت. التَّذْكِرَةِ: المراد القرآن. مُسْتَنْفِرَةٌ: نافرة من نفسها. قَسْوَرَةٍ: اسد. صُحُفاً مُنَشَّرَةً الصحف: القراطيس التي تكتب وتتداولها أيدى الناس، والمنشرة: المبسوطة المفتوحة. المعنى: لقد تكلم المشركون في خزنة جهنم وعددهم، واتخذوا ذلك مادة لاستهزائهم وسخريتهم فضلوا ضلالا بعيدا، والقرآن هنا يزجرهم عن ذلك ويردعهم بكلمة زاجرة هي «كلا» ثم أقسم بالقمر، والليل إذ أدبر، والصبح إذا أسفر على أن سقر هي إحدى الكبر، أما قسمه بهذه الأشياء فكما قلنا سابقا: إنه للفت أنظار المشركين إلى تلك الآثار الباهرة التي تدل على قدرة الله القادرة، على أن هذا التقلب، والتغيير من حال إلى حال ومن نور إلى ظلام ثم منه إلى ضياء على جواز البعث والانتقال من حال الفناء إلى حال الحياة. أقسم بالقمر ونوره كيف ينشأ صغيرا ثم يكبر ثم يعود صغيرا صغيرا حتى المحاق، وهذا الليل بجحافله، وسكونه وهدوئه، وموت الطبيعة فيه، ثم يأتى الصبح بأضوائه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 781 اللامعة ووجهه المشرق وحياته الحافلة، أقسم بهذا كله على أن جهنم المعدة للمكذبين الذين يتخذون القرآن عضين هي إحدى الكبر من جهة أنها نذير «1» للبشر لمن «2» شاء منكم أيها البشر أن يتقدم للخير ولمن شاء أن يتأخر بفعل الشر، نعم هي نذير لهؤلاء الذين يخافون يوما عبوسا قمطريرا. هذا إنذار للعاملين والعصاة المذنبين، مع العلم أن كل نفس بما كسبت مرهونة، أى: أن النفس مرهونة بعملها فإن كان خيرا فك رهنها وحبسها، وإن كان شرّا فستظل حتى تستوفى عقابها، وعلى ذلك فالعصاة نفوسهم مرهونة بعملهم الشر، والمؤمنون أصحاب اليمين ليست نفوسهم مرهونة لأنهم أدوا ما عليهم. كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فإنهم في جنات مكرمون، على سرر متقابلون يتجاذبون أطراف الحديث ويتساءلون، أى: يسأل بعضهم بعضا عن المجرمين المكذبين ما حالهم؟ ولعلهم يعرفون الجواب، ولكن هذا يساق زيادة في تبكيت المجرمين وإيلامهم، وإمعانا في سرور المؤمنين، أصحاب اليمين يتساءلون عن المجرمين فيطلعون عليهم، وهم في جهنم فيقولون لهم: ما سلككم في سقر؟ ما الذي أدخلكم في جهنم؟ قالوا لهم: الذي سلكنا أننا لم نك من المصلين، ولم نك ندعو الله رب العالمين بل كنا ندعو غيره ونشرك به سواه، وأنا لم نك نطعم المسكين المحتاج بل كنا ننفق للدنيا وللرياء، وكنا نكذب مع المكذبين ونخوض مع الخائضين في هراء الكلام وفاسده، وكنا نكذب بيوم القيامة ولا نصدق به، وظللنا على هذا الحال حتى أتانا اليقين الذي لا شك فيه كالموت، وهذا العذاب الذي نقاسيه اليوم. إذا كان الأمر كذلك فما تنفع هؤلاء شفاعة الشافعين، ومن ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه؟ وهذا رد عليهم في دعواهم أن الآلهة تشفع عند الله لهم. عجبا لهؤلاء بعد هذا البيان الساطع فما لهم عن القرآن معرضين؟ أى شيء حصل لهؤلاء حتى يعرضوا عن كلام رب العاملين مالك يوم الدين.   (1) على هذا فهي مصدر وقع تمييزا، ويصح أن تكون صفة مشبهة وتعرب حالا. (2) وعلى هذا فقوله: لمن شاء بدل من بشر، ورأى آخر أنه خبر مقدم، والمبتدأ المصدر المأخوذ من (أن يتقدم أو يتأخر) أى: التقدم والتأخر لمن شاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 782 ما لهم يعرضون ويفرون؟ كأنهم حمر- المراد حمر الوحش- نافرة من نفسها وطبعها، وقد فرت من أسد، إن أمر هؤلاء لعجيب. بل- وهذا إضراب عن إعراضهم ونفورهم مما فيه سعادتهم وخيرهم كالحيوان واستمع لما هو أعجب وأغرب: بل يريد كل امرئ منهم أن تنزل عليه صحف من السماء مبسوطة تأمره باتباع محمد صلّى الله عليه وسلّم. كلا وألف كلا!! بل هم لا يخافون الآخرة، ولا يرجونها أصلا، فهذا هو السبب، وطلبهم الصحف المنشرة ضرب من العبث واللهو، فأعرض عن هذا ولا تسمع لهم في شيء.. كلا إن القرآن تذكرة وعظة لمن يريد الآخرة ويؤمن بالغيب، وفيه استعداد للخير، فمن شاء ذكره واتعظ به وآمن، وما يذكرون إلا إن شاء الله ذاك بالقهر والإلجاء، لكن الله ترك الإيمان والكفر لاختيار العبد الذي هو مناط الثواب والعقاب. وقيل المعنى: وما يذكرون في حال من الأحوال إلا حال أن شاء الله لهم ذلك إذ الأمر كله له، هو الله أهل لأن يتقى ويحذر عقابه فلماذا لا تتقون؟ وهو أهل للمغفرة فلماذا لا تصلحون أعمالكم. وتتوبون لربكم وتثوبون لرشدكم؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 783 سورة القيامة وهي مكية بالإجماع. وعدد آياتها أربعون آية. وهي في الكلام على يوم القيامة والاستدلال عليه. ووصفه وبيان أهواله، ثم تعرضت لخروج الروح. وذكر مبدأ الخلق. يوم القيامة وما فيه [سورة القيامة (75) : الآيات 1 الى 25] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 784 المفردات: اللَّوَّامَةِ: كثيرة اللوم لنفسها أو لغيرها. أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ: أيظن؟ نُسَوِّيَ بَنانَهُ البنان: أطراف الأصابع أو الأصابع كلها، وتسويتها: جمع عظامها وإعادة تركيب أعضائها. لِيَفْجُرَ أَمامَهُ الفجور: التمادي في ارتكاب الآثام والذنوب والمراد بلفظ (أمامه) بقية حياته. بَرِقَ الْبَصَرُ: زاغ وتحير من شدة الدهش. خَسَفَ الْقَمَرُ: ذهب نوره وأظلم. الْمَفَرُّ: الفرار. لا وَزَرَ الوزر: الجبل يلجأ إليه والمراد: لا ملجأ ولا معقل ولا حصن. الْمُسْتَقَرُّ : الاستقرار والسكون. بَصِيرَةٌ : حجة وشاهد. مَعاذِيرَهُ : أعذاره. وَقُرْآنَهُ قراءته. الْعاجِلَةَ: هي الدنيا وما فيها. وَتَذَرُونَ: تتركون. ناضِرَةٌ: حسنة جميلة نضر الله وجهها بالنعم. ناظِرَةٌ: رائية، أو منتظرة باسِرَةٌ: عابسة عبوسا شديدا. فاقِرَةٌ: داهية شديدة تقصم فقار الظهر. المعنى: افتتح الله هذه السورة بالقسم على إثبات البعث، إلا أن القسم هنا وفي سورة لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ قد صدر بلا النافية، وقد تحير العلماء في تخريج ذلك فبعضهم قال: إن الأصل لأنا أقسم بيوم القيامة «1» ، وقال البعض: إن لا النافية نفت معتقداتهم الفاسدة ثم بدئ بالقسم على البعث، وقيل: إن الله لا يقسم بهذا على البعث لظهوره وانكشاف أمره حتى لم يعد للمنكر وجه ينفى. وفي كتاب الآلوسي وجه آخر لعله أدق وأنسب- والله أعلم بأسرار كلامه- خلاصته: إن القسم بشيء يتضمن تعظيمه، وكأن الله يقول: لا أقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة على معنى أن يوم القيامة والنفس اللوامة لا يعظمان بالقسم   (1) ثم حذف المبتدأ الذي هو أنا، ثم أشبعت فتحة اللام فصارت لا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 785 لأنهما في أنفسهما عظيمان سواء أقسم بهما أم لا؟ وهذا الأسلوب بلا شك يفيد تعظيمهما جدّا، وبالتالى يفيد تعظيم المقسم عليه الذي هو البعث. انتهى باختصار وتصرف. أقسم الحق- تبارك وتعالى- بيوم القيامة على أن الناس لا يتركون سدى بدون حساب بل لا بد أنهم يبعثون ويجاوزن على أعمالهم، وأقسم كذلك بالنفس التي تكثر اللوم لذاتها لأنها لم تكثر من فعل الخير أو لفعلها الشر، وهذا اللوم إنما يكون يوم القيامة وقيل: النفس اللوامة التي تلوم نفسها في الدنيا على التقصير في عمل الخير أو على بعض الهفوات في الشر، وهذه ليس من المعقول أن تترك بلا جزاء على هذا العمل. لا أقسم بيوم القيامة، ولا أقسم بالنفس اللوامة لتبعثن ولتحاسبن يوم القيامة على ما قدمتم في الدنيا من خير أو شر. أيحسب الإنسان الذي من شأنه وطبعه أنه يكذب بالوحي، أيحسب «1» أنا لن نقدر على جمع عظامه بعد موته وتفريقها؟!! وهل المراد بالإنسان شخص خاص أو كل إنسان منكر؟ روى أن الآية وردت في معرض الرد على عدى بن ربيعة والأخنس بن شريق، وكانا جارين سيئين لرسول الله، فقد جلس عدى يوما إلى رسول الله وطلب منه أن يحدثه عن يوم القيامة، فأخذ النبي يحدثه عن يوم القيامة، فقال عدى: أما والله لو رأيت ذلك اليوم بعيني لم أصدقك يا محمد، ولم أؤمن بك ولا به. أيمكن أن يجمع الله العظام؟! ولذلك جاء في رد القرآن على كل من ينكر- وخاصة عديا والأخنس وأضرابهما- بما يأتى: بلى نجمعها ونعيدها كما بدأنا خلقها أولا حالة كوننا- أى: الذات الأقدس- قادرين على جمع عظامه مع تسوية بنانه حتى يتمثل بشرا سويّا كاملا كما كان، فذكر تسوية البنان إشارة إلى إعادة الإنسان كاملا في أعضائه حتى الأطراف، أو إلى إعادته كاملا في تكوين جسمه كما كان في الدنيا. والبنان وما فيه من سلاميات ومفاصل، ودقة في الوضع والتركيب، وما في أطرافه التي تختلف بصماتها في كل فرد عن الآخر دليل على كمال القدرة بل يدل على أن القادر على ذلك هو بلا شك قادر على جمع العظام وإحياء الموتى.   (1) والاستفهام هنا للإنكار والتوبيخ على ما وقع من المنكرين البعث. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 786 بَلْ «1» يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ وهذا إضراب عن توبيخ الإنسان والإنكار عليه لأنه يكذب بيوم الدين إلى توبيخه على فعل أشد وأدعى للإنكار. وهو أنه ينكر البعث لأنه يريد أن يتمادى في الشر. وينبعث في ارتكاب الإثم طول حياته، فهو يريد أن يعيش كالحيوان لا عقل يمنعه ولا دين يردعه. وهذا الإنسان المرتكب للمعاصي الفاجر المتعامى عن الحق فإذا وعظه واعظ أو ذكر بيوم القيامة سأل منكرا مستهزئا متعنتا: أيان يوم القيامة؟!! أى: متى هو؟ أقريب أم بعيد؟ ويظل هذا الوضيع سادرا في غيه لاهيا في شهواته ونزواته، فإذا برق بصره، وخسف القمر وانكسف نوره، واختل نظام الكون حتى جمعت الشمس والقمر في مكان واحد وزمان واحد، وإذا حصل هذا يقول متحيرا يومئذ: أين المفر؟ أين النجاة وأين السبيل؟! كلا «2» وألف كلا! اليوم لا وزر ولا ملجأ، ولا معين ولا ناصر، لا ملجأ منه إلا إليه، ولا حصن من عذابه إلا عفوه، إلى ربك يومئذ المستقر، وإليه وحده الالتجاء والسكون، وماذا بعد هذا؟ ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم من عمل لذلك اليوم وما أخر من أمور طلبت منه ولم يعملها، والمراد بالإخبار مجازاته على عمله كله إن خيرا فخير وإن شرّا فشر. ثم أضرب الحق- تبارك وتعالى- عن إخباره بأعماله إلى مرتبة أتم وأوضح فقال: بل الإنسان على نفسه شاهد وحجة ورقيب، وعلى ذلك فالمعنى أن الإنسان يوم القيامة ينبأ بعمله، والمراد يجازى عليه، على أنه هو شاهد على نفسه وسوء عمله وقبيح أثره في الدنيا. فليس الأمر في حاجة إلى شهيد آخر يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «3» . كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً «4» فالإنسان يشهد على عمله، ولو ألقى أعذاره، وحمله الخجل والخوف على خلق أعذار كاذبة، فإن شهادة نفسه عليه أحق بالقبول من هذه المعاذير.   (1) هذا حرف يفيد الإضراب الانتقالى من أسلوب لآخر، أو من حجة لأخرى. [ ..... ] (2) هي كلمة زجر وردع للمخاطب. (3) سورة النور آية 24. (4) سورة الإسراء آية 14. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 787 روى أنه صلّى الله عليه وسلّم كان حريصا على حفظ القرآن، وكان يصعب عليه حفظ الآيات وجبريل يلقيها إليه، فكان يحرك لسانه وشفتيه بالقرآن أثناء سماعه لجبريل حرصا على عدم ضياع شيء منه، فنهى النبي عن ذلك في سورة طه. لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ.. الآيات والمعنى: لا تحرك أيها الرسول لسانك وشفتيك بالقرآن قبل أن ينتهى جبريل من إلقاء الوحى، لا تحرك لسانك لتعجل بأخذه وحفظه ثم ذكر العلة في ذلك فقال: إن علينا جمع هذا القرآن في صدرك، وتثبيته في قلبك، وإن علينا أن نوفقك لقراءته كاملا مضبوطا حتى تحفظه ولا تنساه، فإذا قرأناه عليك بواسطة جبريل فأنصت له حتى يفرغ، وإذا فرغ جبريل فاتبع قراءته فإنك ستجد نفسك واعيا له وحافظا، ولا يهمنك معناه فإن على الله وحده بيانه وإيضاح مشكلاته وكشف أسراره لك، أليس ذلك من الأدلة القوية على أن القرآن من عند الله؟ بقيت مسألة هامة: ما السر في وضع هذه المسألة وسط الكلام على البعث ومنكريه؟ بعض العلماء ذهب في تأويله إلى أن الكلام متصل بما قبله إذ كل إنسان له كتاب يقرأ فيه عمله يوم القيامة، فإذا جاء المكذب بيوم البعث الفاجر طول حياته يقرأ كتابه، تلجلج وحرك لسانه بسرعة ليخفى بعض ما في الكتاب ظنا منه أن ذلك ينجيه فنهى عن ذلك وأمر بالإقرار والاعتراف لأن على الله بيان كل أعماله. ولكن أغلب المفسرين على الرأى الأول، وقالوا عن وضع هذه الآيات هنا: إنها اعتراض بما يؤكد التوبيخ على العجلة، ولو كانت في الخير كما في حفظ القرآن فكيف بها إذا كانت في حب الدنيا، والذي يؤيد هذا ما وراء ذلك من آيات. ويرجح الشيخ عبد القادر المغربي في تفسيره أن هذه الآية أنزلت على النبي صلّى الله عليه وسلّم حينما كان جبريل يتلو عليه سورة القيامة فكان صلّى الله عليه وسلّم يحرك لسانه متعجلا الحفظ فأوحى إليه ربه آية لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ ... ولقنه جبريل هذه الآية غضة طرية في غضون تلقينه الآيات التي حرك بها لسانه ليكون ذلك أدعى إلى الامتثال. كلا، ارتدعوا أيها البشر عما أنتم عليه من حب العجلة في شئونكم وأعمالكم وهذا داء عام شامل لجميع البشر، وإن يكن البعض يتعجل في الخير والكثير يتعجل في التكذيب والشر، أنتم أيها المكذبون بالبعث لم تكذبوا الوحى إحقاقا للحق بل أنتم قوم تحبون العاجلة وتؤثرون الدنيا الفانية، وتذرون الحياة الآخرة والعمل لها، وما علمتم أن الجزء: 3 ¦ الصفحة: 788 الناس في الآخرة فريقان: فريق في الجنة، وفريق في السعير، فريق وجوهه ناضرة بالنعيم جميلة بإكرام الله له، وهي إلى ربها ناظرة وفريق آخر وجوهه يومئذ كالحة منقبضة عابسة باسرة، تظن لسوء فعلها في الدنيا- بل تتحقق- أنه لا بد أن ينزل بها مصيبة فادحة مصيبة عظمى تقصم الظهر، وتبيد فقاره. بقي شيء، وقع فيه خلاف كبير بين العلماء قديما، هو: هل نرى ربنا يوم القيامة أو لا؟ الجمهور على إثبات الرؤية مستدلا بقوله هنا: إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ وبالأحاديث عن رسول الله: وبعض الفرق تمنع الرؤية بالنظر إذ البصر يحد الله وذاته، وهو لا تدركه الأبصار، على أنه يلزم معها الانحصار في زمن وجهة، والله محال عليه ذلك، والآية هنا تؤول بأن الوجوه تنتظر من الله النعم والفضل والرضوان، على أن الخطب سهل فأمور الآخرة أمور غيبية لا نقيسها على الحاضر عندنا بل نؤمن بها، والله أعلم بها. الإنسان عند موته وعند بدء خلقه [سورة القيامة (75) : الآيات 26 الى 40] كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 789 المفردات: التَّراقِيَ: جمع ترقوه، وهي العظمة التي تمتد من ثغرة النحر إلى العاتق وهما ترقوتان يمينا وشمالا. راقٍ : من رقى فهو راق، وهو الذي يعمل الرقية، والمراد المعالج. الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ: هذا مثل لاشتداد الحال ونهاية الشدة. يَتَمَطَّى التمطي: التبختر والتكبر في المشي. سُدىً: هملا بلا عناية. نُطْفَةً النطفة: الماء القليل. يُمْنى: يراق ويصب. عَلَقَةً: قطعة دم عالقة. فَخَلَقَ: قدرها بقدر محكم. فَسَوَّى: عدلها وأحكم أمرها. المعنى: وهذا نوع من العلاج عظيم، هو أن يلفت القرآن أنظار البشرية إلى حالهم ساعة خروج الروح، وما فيها من أهوال، ثم يتلطف معهم في الحديث فيذكرهم بالنشأة الأولى ليخلص من ذلك كله إلى إثبات البعث الذي تدور عليه السورة كلها. كلا أيها البشر: ارتدعوا عن حب العاجلة، وتذكروا الآخرة واعملوا لها بكل قواكم، اذكروا ما ينزل بكم ساعة خروج الروح، ساعة تبلغ الروح الترقوة. اذكروا إذا بلغت الروح التراقي، واجتمع الأهل والأصحاب وقالوا: هل من طبيب أو راق؟ الكل حوله لا يملكون شيئا إلا استدعاء الطبيب، ولكن الأقدار سهام إذا انطلقت لا ترد، وكل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه يرجع الأمر، وظن الإنسان بل وتيقن أنه الفراق لا محالة، واشتد الأمر، وعظم الخطب والتفت الساق بالساق، وانتهى الأمر إلى الواحد الباقي، إلى ربك وحده ساعتها المساق. أما المكذب الضال فالويل له!! فإنه لا صدق بمال ولا برأى ولا بشيء أبدا، ولا صلى لله، ولكن كذب بالحق لما جاءه. وأعرض عن رسول الله حين دعاه وغرته الدنيا بزخارفها غرورا كثيرا، ثم ذهب بعد ذلك بتبختر في مشيته، غير مكترث بما فعل. أولى لك أيها المكذب فأولى: ثم أولى لك فأولى! وهذه عبارة هدد بها النبي صلّى الله عليه وسلّم أبا جهل ففهم منها الوعيد والتهديد، وقال للنبي: أتوعدني يا محمد؟ والله ما تستطيع الجزء: 3 ¦ الصفحة: 790 أنت ولا ربك فىّ شيئا، والله لأنا أعز من مشى بين جبليها، ثم لم يلبث أن قتل ببدر شر قتلة. أيحسب الإنسان المغرور أنه يترك هملا، بلا شرع ولا حكم، وبلا حساب ولا عقاب؟ ألم يك نطفة من ماء يصب في الرحم. ثم صار علقة فمضغة ثم صوره فأحسن تصويره. وسواه فأكمل خلقه. فكان منه الذكر والأنثى لبقاء النوع الإنسانى. أليس الذي فعل هذا مع الإنسان بقادر أن يحيى الموت ويبعثهم يوم القيامة؟! فكروا واتعظوا أيها الناس، واعلموا أن الذي رعاكم ورباكم في النشأة الأولى لا يعقل أن يترككم سدى، ويخلقكم هملا لا يجازى المحسن، ولا يعاقب المسيء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 791 سورة الإنسان وهي مكية، وحكى بعضهم الإجماع على أنها مدنية، وعدد آياتها إحدى وثلاثون وتشمل الكلام على البعث، وعلى خلق الإنسان وهدايته للخير والشر، ثم بيان عاقبة كل، مع ذكر أعمال الأبرار وجزائهم. الإنسان: بعثه وخلقه وتكليفه [سورة الإنسان (76) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3) إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (4) المفردات: حِينٌ الحين: جزء محدود من الزمان شامل للقليل والكثير. الدَّهْرِ: الزمان الممتد الذي ليس بمحدود. نُطْفَةٍ: هي القليل من الماء. أَمْشاجٍ: جمع مشج، أى: أخلاط. نَبْتَلِيهِ: نختبره. هَدَيْناهُ: دللناه وأرشدناه إلى الطريق. أَعْتَدْنا: هيأنا. سَلاسِلَ: قيودا توضع في الأرجل. وَأَغْلالًا: أطواقا توضع في الأيدى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 792 المعنى: هل أتى على الإنسان وقت من الزمن لم يكن شيئا مذكورا؟ وقد علم الله أنهم يقرون فيقولون: نعم قد أتى عليه ذلك، فيقال لهم: الذي أوجده من العدم بعد أن لم يكن كيف يمتنع عليه إحياؤه من العدم «1» ؟ والإنسان من حيث هو إنسان مر عليه حين من الدهر كانت الكرة الأرضية خالية منه، وهذا الزمن لا يعلمه إلا الله. هذا الإنسان الذي خلق من العدم كيف خلق؟ يقول الله- تعالى- مجيبا ومؤكدا: إنا خلقناه من نطفة أمشاج، يا سبحان الله! يقول الله تعالى: إنا خلقنا الإنسان من نطفة موصوفة بأنها أخلاط، فيها نوازع الخير والشر كامنة، وفيها صفات للإنسان مختلفة، وفيها اتجاهات له متباينة. ولو شاء ربك لجعل الناس على نظام واحد وطريقة واحدة كلهم للخير أو كلهم للشر، ولكنهم لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك، ولأجل هذا الاختلاف خلقهم، فبه يعمر الكون، وتكون الدنيا والآخرة. خلقنا ربك من نطفة فيها أخلاط ليبتلينا، إنا خلقناه من نطفة أمشاج حالة كوننا مريدين ابتلاءه واختباره فيما سنكلفه به من شرائع. ولهذا جعلناه سميعا بصيرا، أى: فترتب على إرادة الابتلاء أن خلق الله فينا قوة العقل والإدراك لنميز بعقولنا التي كان طريقها المهم السمع والبصر، ولكن هل يكفى العقل وحده لإدراك الخير والشر؟ لا.. ولهذا قال: إنا هديناه السبيل العام، أى: دللناه وبينا له طريق الخير وطريق الشر بواسطة الشرائع والرسل بعد أن منحناه العقل والنظر. فالله- سبحانه- خلق الإنسان، وفيه نوازع الخير والشر، والاتجاهات المختلفة المتباينة ثم رزقه عقلا وفكرا، وأرشده بعد ذلك إلى سبيل الخير والشر بواسطة الكتب والرسل.. إنا هديناه السبل حالة كون الإنسان إما شاكرا وإما كفورا، فهو بعد ذلك إما شاكرا لربه نعمه سالكا سبل الخير مستحقّا دار الكرامة، وإما كفورا لنعم ربه لم يقم بحقها فكفر وكذب وعمل سيئا، فاستحق دار الإهانة، وهذا ما أعد لكل من الفريقين فريق الشاكرين وفريق الكافرين. إنا هيأنا للكافرين في جهنم سلاسل توضع في أرجلهم وأغلالا في أيديهم وأعناقهم: ونارا مستعرة يصلونها وبئس القرار قرارهم.   (1) هذا المعنى على أن (هل) استفهامية، وهي تفيد التقرير، وبعضهم يقول: إنها بمعنى (قد) وتفيد التقرير، والمآل واحد على المعنيين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 793 الأبرار: أعمالهم وجزاؤهم [سورة الإنسان (76) : الآيات 5 الى 22] إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (8) إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَلا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (11) وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (13) وَدانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَيُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَيُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَإِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً وَكانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 794 المفردات: الْأَبْرارَ: جمع بر. وهو من جمع بين الصدق والتقوى والإخلاص. كَأْسٍ الكأس: تطلق على إناء الخمر وعلى الخمر نفسها. مِزاجُها: ما تمزج به. كافُوراً: طيب معروف له رائحة جميلة. يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً فجر الماء وفجره: إذا أخرجه من الأرض وشق طريقا يجرى فيه، والمراد أنها تحت أمرهم. بِالنَّذْرِ النذر: هو ما التزمته منه قربة لله، والوفاء به إنفاذه حسب ما التزمته. مُسْتَطِيراً: منتشرا فاشيا في كل جهة. مِسْكِيناً: هو من أسكنه فقره وحاجته أو ذله حتى كان قليل الحركة. وَيَتِيماً اليتم: التفرد، وهو هنا من فقد أباه حتى أصبح وحيدا بلا عائل. وَأَسِيراً: من أسر في حرب إسلامية مع الكفار. عَبُوساً: شديد الهول عظيم الخطر. قَمْطَرِيراً: شديدا مظلما. وَلَقَّاهُمْ: ألقى عليهم وأعطاهم. نَضْرَةً وَسُرُوراً: حسنا وفرحا. مُتَّكِئِينَ الاتكاء: الجلوس بتمكن وراحة. وغالبا يكون على شق واحد مع الاعتماد على وسادة. الْأَرائِكِ: جمع أريكة وهي السرير عليه الأستار والكلة- الناموسية- زَمْهَرِيراً: بردا قارسا. وَذُلِّلَتْ: سهلت حتى صارت في متناول الأيدى. قُطُوفُها: جمع قطف وهو العنقود ساعة يقطف. بِآنِيَةٍ: هي صحاف الطعام. وَأَكْوابٍ: جمع كوب: آنية الشراب، والكوب قدح مستدير الرأس لا عروة فيه، ولا خرطوم، وهو ما نسميه الآن- كوبة-وارِيرَ : جمع قارورة وهي الوعاء الزجاجي المعروف. زَنْجَبِيلًا: نبات له طعم حريف ورائحة جميلة. سَلْسَبِيلًا: الشراب السهل المرور في الحلق لعذوبته، واسم عين في الجنة. سُندُسٍ: من الثياب المصنوعة من الحرير. وَإِسْتَبْرَقٌ: نسيج من حرير سميك. وَحُلُّوا ألبسوا حلية. شَراباً طَهُوراً: نقيّا من الشوائب. المعنى: تلك سنة القرآن يتبع الترهيب بالترغيب، ويتكلم على الكفار ونهايتهم ثم على الأبرار من المؤمنين وخاتمتهم، ليظهر الفرق جليا فيكون ذلك أدعى إلى الإيمان وعدم التكذيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 795 إن الأبرار لفي نعيم، يشربون شرابا ممزوجا بالكافور، هذا الشراب مستمد من عين جارية لا ينفد ماؤها، أعنى عينا يشربها عباد الله، يجرونها حيث شاءوا فهي طوع إرادتهم. وكأن سائلا سأل: بماذا استحقوا تلك الكرامة، وهذا النعيم؟ والجواب: إنهم يوفون بالنذر، ويخافون يوم الحساب فإن شره مستطير، وهم يتمتعون بخلق كريم فاضل، والوفاء بالنذر الشرعي الذي هو قربة إلى الله كنذر صيام أو صلاة أو صدقة دليل على قوة الإيمان ومضاء العزيمة في الخير، وإذا وفي الإنسان بالنذر لأنه التزام، فالوفاء بالواجب المكلف به شرعا أحرى وأهم له، بل هو من باب أولى، تلك هي الخصلة الأولى للأبرار. والخصلة الثانية: خوفهم من الحساب، فهذا الخوف يدعوهم إلى عمل الصالح من الأعمال، وترك الفحش من السيئات، وهذا اليوم جدير بالخوف من العقلاء لأن فيه شرا مستطيرا منتشرا في كل جهة. والخصلة الثالثة: تمسكهم بالخلق الفاضل، وتحليهم بكرم الفعال كإطعام الطعام للمحتاجين، وبالتجربة كان الإطعام والبذل لله دليلا على صدق الإيمان، وقوة اليقين هؤلاء يساعدون المحتاج، ويمدون إليه يد المعونة وخاصة الإطعام، والمحتاج مسكين قانع أو يتيم محروم أو أسير ذليل، هم يطعمون الطعام مع حبه وشدة الحاجة إليه. وقد روى عن علىّ- كرم الله وجهه- وزوجه فاطمة- رضى الله عنها- أنهما نذرا لله نذرا إن شفى الحسن والحسين سبطا رسول الله فسيصومان ثلاثة أيام، فشفاهما الله فصاما ولم يكن عند هما إلا ما يفطرهما فقط، وعند المغرب سألهما مسكين طعاما، فأعطياه الطعام مع الحاجة إليه وباتا على الطوى: وفي اليوم الثاني سألهما يتيم فأعطياه مع شدة الحاجة، وفي اليوم الثالث سألهما أسير فأعطياه وقد صاما ثلاثة أيام متوالية بلا طعام.. عند ذلك نزل جبريل على النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذه الآيات ثم قال: خذها يا محمد هنأك الله في أهل بيتك. هذا هو الإيمان السليم من كل شائبة، يطعمون الطعام على حبه قائلين بلسان الحال لا بلسان المقال، قالوا: إنا نخاف من ربنا عذاب يوم تعبس فيه الوجوه من كثرة ما تلاقى: عبوسا لشدة هوله وعظيم خطره على العباد، يوما عبوسا قمطريرا، أى: شديدا مظلما. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 796 كافأهم الله على ذلك بأن وقاهم شر ذلك اليوم وألقى عليهم بدل العبوس والظلمة والشدة والرهق حسنا وبهجة وبهاء. وسرورا، أعطاهم جنة تجرى من تحتها الأنهار، أكلها دائم، وظلها كذلك، وتلك عقبى المتقين، وأعطاهم جنة وكساهم حريرا، وأجلسهم على الأرائك متكئين جلسة المتمكن الهادئ فارغ البال، وهم في تلك الجنة، لا يرون شمسا محرقة، ولا يحسون بردا شديدا، بل هم في جو هادئ حالم لا يشعرون بما يكدرهم. وهذه الجنة قد دنت عليهم ظلالها الوارفة، وكانت ثمارها سهلة التناول، يتناولها الشخص بلا تعب ولا مشقة، يا سبحان الله!! وهم فيها مكرمون، لهم خدم وحشم، ويطوف عليهم غلمان لهم بآنية من فضة فيها طعامهم، ويطاف عليهم بأكواب من فضة، فيها شرابهم، هذه الأكواب فيها صفاء الزجاج وبياض الفضة ونضرتها، وهذه الأوانى قد قدرت لهم تقديرا تامّا فليست صغيرة لا تفي بما يطلبون، ولا كبيرة تزيد على ما يحتاجون. وهم في الجنة يسقون فيها شرابا تارة يمزج بالكافور كما مضى، وطورا يمزج بالزنجبيل، وهذا الشراب مستمد من عين لا تنقطع تسمى سلسبيلا لأنها سهلة لينة هينة، ولهم خدم يطوفون عليهم، هؤلاء الولدان مخلدون في نضرة الشباب وروعة الحسن والجمال إذا رأيتهم مقبلين ومدبرين حسبتهم لؤلؤا منثورا في الصفاء والنظافة والجمال. وإذا رأيت هناك- ونسأل الله الكريم أن يرينا ذلك- رأيت نعيما لا يقادر قدره، ولا يدرى كنه، ورأيت ملكا كبيرا، يتضاءل أمامه ملك كسرى وقيصر، وما مر من وصف لبعض مشاهد الجنة فوصف تقريبي فقط، ونعيمها الحقيقي لا يعلمه إلا خالقه، وهم في الجنة تعلوهم ثياب من سندس رقيق أخضر، ومن إستبرق سميك كل بما يناسبه، وألبسوا حلية هي أساور من فضة أو ذهب، وسقاهم ربك شرابا لا يدرى وصفه، شراب طهور نقى من كل الشوائب. إن هذا كان لكم أيها العاملون الشاكرون جزاء على أعمالكم، وكان سعيكم مشكورا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 797 توجيهات للنبي صلّى الله عليه وسلّم [سورة الإنسان (76) : الآيات 23 الى 31] إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27) نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَإِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31) المفردات: آثِماً: كثير الإثم. كَفُوراً: شديد التعصب للكفر. بُكْرَةً وَأَصِيلًا: أول النهار وآخره. الْعاجِلَةَ: الدنيا. وَيَذَرُونَ: يتركون. ثَقِيلًا: شديدا. وَشَدَدْنا أَسْرَهُمْ: ربطنا أوصالهم بعضها إلى بعض بالعروق، وفي القاموس: الأسر: شدة الخلق والخلق، والمراد: أحكمنا خلقهم. تَذْكِرَةٌ: عظة وعبرة. لقد جمعت هذه السورة بين تذكير الإنسان بخلقه ونشأته ثم تكليفه بالشرائع، ووعظه ببيان أحوال المكذبين يوم القيامة والمؤمنين، ومع هذا فقد ظل المشركون على الجزء: 3 ¦ الصفحة: 798 ما هم عليه، فكان من الخير أن تختم السورة بتوجيهات شديدة للنبي صلّى الله عليه وسلّم تنفعه في هذا الوضع. المعنى: إنا نحن نزلنا عليك القرآن يا محمد: نزلناه تنزيلا، فهذا القرآن حق لا شك فيه ولا مراء، وليس عليك إلا اتباعه، وعلينا وحدنا نصرة المؤمنين وخذلان الكافرين، فالأمر كله لله الذي أنزل القرآن كتابا محكما لا يأتيه الباطل أبدا، وإذا كان الأمر كذلك فاصبر لحكم ربك فإنه هو الحكم العدل، سيقضي بينك وبينهم بالقول الفصل، وما عليك شيء سوى الصبر، وإياك أن تطيع منهم آثما كثير الذنوب كعتبة بن ربيعة الذي كان يعرض على النبي أن يترك دينه نظير تزويجه بنتا جميلة من بناته، ولا تطع منهم كفورا قوى الشكيمة في الكفر شديد التعصب للجاهلية كأبى جهل والوليد بن المغيرة، الذي يروى عنه أنه كان يقول للنبي صلّى الله عليه وسلّم: ارجع عن هذا الأمر وسأعطيك مالا حتى ترضى، ولهذا قال له ربه: اصبر حتى يقضى الله أمرا كان مفعولا، ولا تطع منهم آثما أو كفورا. ولهذا لا بد لمقابلة هذه الشدائد من التذرع بسلاح الإيمان القوى: ألا وهو الذكر في الصباح والمساء والغدو والرواح فإنه الحصن الحصين، والسجود لله في الليل وتسبيحه في وقت طويل منه. وأما هؤلاء الكفار فدعهم لخالقهم فهو أعلم بهم وأدرى، إنهم يحبون العاجلة ويجرون وراء الدنيا وزينتها الفانية، ويتركون وراءهم يوما شديد الهول، يوما تذهل فيه كل مرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حمل حملها، فنحن خلقناهم، وأحكمنا خلقهم وتصويرهم. وإذا شئنا بدلنا بهم أمثالهم تبديلا، فربك على كل شيء قدير، وهذا تهديد لهم كبير. إن هذه السورة وأمثالها- يا محمد- تذكرة وعظة فمن شاء اتعظ واتخذ إلى ربه سبيل الخير الموصلة للخير في الآخرة. ومن شاء لم يتعظ واتخذ طريق الضلال والإثم والفسوق والعصيان إلى ربه؟ وهذا أسلوب تطمين وتهدئة لخاطر النبي الكريم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 799 فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا، إذ السبل مفتحة أمام العبد وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «1» ولكن اعلموا أن الأمر مع هذا لله، وما تشاءون إلا وقت أن يشاء الله، فللعبد مشيئة جزئية هي مناط الثواب والعقاب، ولله المشيئة الإلهية. إن الله كان عليما بخلقه حكيما في كل أفعاله. ثم ختمت السورة ببيان عاقبة الفريقين: أما أحدهما فالله يدخله في رحمته وجنته ورضوانه، وأما الآخر فهم الظالمون وقد أعد الله لهم عذابا أليما.   (1) - سورة البلد آية 10. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 800 سورة المرسلات وهي مكية وعدد آياتها خمسون آية، وتشمل الكلام على البعث بالقسم عليه ثم ببيان مقدماته، ثم ذكر بعض مظاهر القدرة لله في خلقه، ثم ذكر حال الكفار يوم القيامة، وذكر حال المؤمنين كذلك، وقد ختمت بلوم الكفار على بعض أعمالهم. [سورة المرسلات (77) : الآيات 1 الى 50] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4) فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15) أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25) أَحْياءً وَأَمْواتاً (26) وَجَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَأَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30) لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35) وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 801 المفردات: وَالْمُرْسَلاتِ: فسرها بعضهم بالملائكة المرسلة بأمره تعالى فعصفن في المضي وأسرعن في تنفيذ الأمر كما تعصف الريح، وبعضهم فسرها بالرياح المرسلات بأمره إلى جهات مختلفة، فالعاصفات: السريعات الهبوب والسير. عُرْفاً: إرسالا متتابعا مأخوذ من عرف الفرس، وهو اسم للشعر المتتابع الثابت في محدب الرقبة. وَالنَّاشِراتِ نَشْراً أى: الرياح التي تنشر السحب في السماء، أو هي الملائكة تنشر الشرائع في الأرض. فَالْفارِقاتِ فَرْقاً: الرياح تفرق السحاب في أجواء الفضاء، أو هي الملائكة تفرق بين الحق والباطل. فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً: هي الرياح تلقى في قلوب الناس ذكرا لمن أرسلها بالخير، أو هي الملائكة تلقى على الأنبياء الذكر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 802 من الوحى. طُمِسَتْ: ذهب ضوؤها. فُرِجَتْ: تشققت. نُسِفَتْ: تفرقت أجزاؤها من نسف الحب بالمنسف: إذا نفضه وذراه. أُقِّتَتْ: بلغت الوقت المحدود لها. لِيَوْمِ الْفَصْلِ: يوم القيامة. ماءٍ مَهِينٍ: ماء حقير ضعيف. قَرارٍ مَكِينٍ: مستقر حصين وهو الرحم. قَدَرٍ مَعْلُومٍ: زمان معين. فَقَدَرْنا وقدرنا: بمعنى هيأنا وأحكمنا. كِفاتاً كفت الشيء: ضمه وجمعه، كفاتا مصدر له. رَواسِيَ: جبالا ثابتات. شامِخاتٍ: عاليات مرتفعات. فُراتاً: عذبا. ظِلٍّ المراد به: دخان جهنم. شُعَبٍ: فروع وذوائب. بِشَرَرٍ: جمع شرارة، وهي ما يتطاير من النار. كَالْقَصْرِ: كالدار، والعرب تطلق القصر على البناء الكبير والصغير. جِمالَتٌ جمع جمال الذي هو جمع جمل، وهو الحيوان المعروف. كَيْدٌ: مكر أو حيلة. ظِلالٍ: جمع ظل. المعنى: أقسم الحق- تبارك وتعالى- على وقوع يوم البعث الذي يكذب به المشركون أقسم بالملائكة التي أرسلن بأمره- تعالى- وأمرن بإنفاذه فورا حالة كونها متتابعات فعصفن في المضي فيه تنفذه وأسرعن إسراعا كما تعصف الرياح، وذلك دليل على سرعة الامتثال وأنهم لا يتباطئون في تنفيذ أمره، وأقسم «1» كذلك بالملائكة التي تنشر الموتى أو: التي تنشر أجنحتها في الفضاء هابطات أو صاعدات، أو تنشر الشرائع على الأنبياء فتفرق بين الحق والباطل، فتلقى ذكرا إلى الأنبياء- عليهم السلام- على أن الإلقاء ليس مختصا بجبريل وإنما هو رئيسهم، تلقى هذا لأجل إعذار المحقين في أعمالهم، وإنذار المبطلين كذلك لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل. وبعض العلماء يذهب في تفسير الآية مذهبا آخر يتضمن أن المراد بالمذكورات الرياح وعلى ذلك فيكون المعنى:   (1) هنا سؤال: لم عطف بالواو في قوله: والناشرات وعطف بالفاء في غيرها؟ والجواب- والله أعلم- أن الواو تدل على المغايرة في الذات وكأن الله أقسم بطائفتين، الأولى بالمرسلات فالعاصفات والثانية والناشرات فالفارقات فالملقيات، والفاء تدل على ترتيب معاني الصفات في الوجود فكان الإرسال فالعصف، وكان النشر فالفرق فالإلقاء. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 803 أقسم- تبارك وتعالى- بالرياح لما لها من الأثر الفعال في حياة العالم بل في وجود هذا الكون، أقسم بها ليلفت النظر إليها كما أقسم بالكواكب في سورة النازعات، وبالخيل في سورة العاديات، على أن الرياح والكواكب والخيل كلها تعدو وتسير وكلها من صنع الجليل القدير جل شأنه. أقسم بالرياح التي أرسلت بعد ركودها تحمل السحب وتلقح الشجر، وتحمل البذر، وتدفع السفن، إلى غير ذلك، وهذه الرياح التي أرسلت متتابعة الهبوب كشعر الفرس الذي ينبت في محدب رقبته، وهي بعد الإرسال تأخذ في العصف بشدة، فالعصف عقب الإرسال، ولذا عطف بالفاء. وأقسم بالرياح الناشرات «1» نشرا التي تنشر السحب وتبسطها في الفضاء، وبعد ذلك تأخذ في تفريقها وتوزيعها على من يشاء من عباده وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالًا سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ [الأعراف 57] وهذه الرياح بعد أن تفرق السحب وتوزعها على من يشاء تلقى في قلوب الناس ذكر الله- سبحانه وتعالى- الذي أرسلها ومن عليهم بها، وهذا معنى قوله تعالى فَالْفارِقاتِ فَرْقاً فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً والناس حينما يذكرون الله وقت هبوب الرياح وحملها للسحب، منهم من يذكر الله مؤمنا به وبصفاته، ومصدقا بوحيه ورسله وكتبه فيكون هذا عذرا له عند ربه في محو سيئاته، ومنهم من يكون ذكره بمثابة الإنذار له بسوء حيث ينسب هبوب الرياح وسقوط الأمطار لغير الله كالطواغيت والأصنام أو الأنواء والكواكب كما كانوا يقولون: مطرنا بنوء كذا. أقسم الله بهذه الرياح على أن ما توعدون به من البعث والثواب والعقاب واقع لا محالة. مقدمات البعث: فإذا النجوم طمست، وذهب ضوؤها بعد أن كانت مضيئة وإذا السماء فرجت وتشققت أجزاؤها بعد أن كانت ملتحمة متينة الوضع والتركيب قوية الجاذبية. إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ [الانشقاق 1] وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً [النبأ 19] وإذ   (1) ويظهر أن العطف بالواو على هذا المعنى لتباين صفة العصف مع النشر، بخلاف غيرها فكأن القرآن نزل تغاير الصفة منزلة تغاير الذات على هذا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 804 الجبال التي كانت ثوابت ورواسى تقلع من أصلها، وتفرق أجزاؤها، وتذرى في الرياح كأنها نسفت بالمناسيف وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً [سورة النبأ آية 20] وَبُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا [سورة الواقعة آية 5] . وهذا وصف للعالم يوم القيامة أو قبله بقليل، وليس هناك أحد يعفى من السؤال حتى الرسل والأنبياء فإنه يوقت لهم وقت لا يتعدونه ليشهدوا على أنفسهم بالبلاغ، ويشهدوا على أممهم، مبرئين أنفسهم من تبعة التقصير في التبليغ، وهذا معنى وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ أى: أجلت ليوم خاص، وكأن سائلا سأل عن ذلك اليوم الموعود؟ فأجيب: ليوم الفصل الذي ليس بالهزل، وما أدراك؟ أى: ما أعلمك به أيها الإنسان؟ ما يوم الفصل! أى: ما كنهه وحقيقته؟ وإنه لعجيب منك أن تلهو عنه ولا تعمل له. فإذا النجوم طمست وإذا السماء فرجت «1» ، فعندئذ تعلمون صدق الوحى في إثبات البعث، وتعلمون حينئذ مقدار ضلالكم وأن الويل والهلاك والثبور لكم. بعض مظاهر القدرة التي تلقى في قلوب الكفار والمكذبين الروع بعد الكلام على يوم القيامة وأهواله: ألم نهلك الأولين من قوم عاد وثمود وغيرهم ممن كذبوا بالرسل ولم يؤمنوا بالله وباليوم الآخر وأنتم تعلمون ذلك! ثم بعد ذلك أتبعناهم قوما آخرين، كانوا بعدهم في الزمن، وكذبوا مثلهم، والمراد أقروا «2» بذلك فاعتبروا به، وتنبهوا له، واحذروا أن تكونوا مثلهم، فإن مثل ذلك الفعل الذي فعلناه مع غيركم نفعله بالمجرمين الذين يكذبون بيوم الدين، ويل يومئذ للمكذبين وهلاك لهم وأى هلاك؟! وهذه الجملة كررت هنا عشر مرات لأن السورة تضمنت ذكر نعم ونقم، فكان إذا ذكرهم الله بنعمة أو خوفهم من نقمة أكد التذكير أو التخويف بذكر الهلاك والثبور المعد للمكذبين يوم القيامة ردعا لهم عن الغفلة وحثا لهم على التصديق وعمل الخير. ألم نخلقكم من ماء ضعيف حقير؟ فعلى أى شيء تتكبرون عن الإيمان بالله واليوم الآخر؟ ألم يخلق الله الإنسان من منى يمنى؟ ثم كان علقة فمضغة ... إلخ، كل ذلك،   (1) وهذا إشارة إلى جواب إذا. (2) وهذا إشارة إلى أن الهمزة للتقرير، وكذا الاستفهام فيما سيأتى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 805 وهو في رحم أمه، قد وضع في قرار مكين، وإن الأطباء وعلماء التشريح قد وقفوا على تفسير الآية عمليا، وأن الرحم بالنسبة للجنين مكان حصين ومستقر أمين، وكان فيه مع هذا إلى قدر معلوم، وزمان محدود فإذا حان وقت خروجه تفتحت الأبواب، ولانت العظام، واتسع القرار المكين لنزول الجنين، ألا ترى أن ربك قدر ذلك وهيأه تهيئة العليم الحكيم القوى القادر؟ فنعم القادرون المقدرون بالحمد والثناء، والمراد الله جل جلاله وتقدست أسماؤه. ألم نجعل الأرض كفاتا؟ أى: تكفتكم وتضمكم حالة كونكم أحياء وأمواتا؟! يا سبحان الله أليس هذا من عجائب قدرة الله أن جعل الأرض مستقرّا للإنسان على ظهرها يحيى ويتقلب ويسير، وهي- إذا مات- تضمه في بطنها، وتوارى سوأته وتكرم جسده. فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ [سورة المائة آية 31] . أليس من نعم الله على خلقه أن جعل الأرض تضمهم إليها حالة كونهم أحياء وأمواتا؟ وجعلنا في الأرض رواسى ثابتات، وأطوارا شامخات، كان لها أثر كبير في إنزال المطر ولذا جاء بعد هذا: وأسقيناكم ماء عذبا فراتا، ويل يومئذ وهلاك شديد للمكذبين الذين يكذبون بنعم ربك، ويكذبون بيوم الدين. الكفار يوم القيامة: يقال لهم: انطلقوا إلى عذاب كنتم به تكذبون، فهذه جهنم التي يكذب بها الكافرون، وانطلقوا إلى ظل!! يا سبحان الله، الظل الذي يتفيؤه الإنسان ويتخذه مقيلا لراحته هو الظل الممدود الذي لا ينفذ منه حر ولا قر، ولا نار ولا لهب، وهذا هو الظل المعد لأصحاب اليمين، أما الظل المعد للكفار فعذاب أليم، ودخان من يحموم لا بارد ولا كريم، هو ظل ذو ثلاث شعب، فهو يحبس الأنفاس، ويكوى بالنار، ويرمى بالشرار، ظل ليس ظليلا واقيا من وهج الشمس أو لفح النار وليس يقي من اللهب، ظل ناره ترمى بشرر كالقصر أو الجمالات الصفر، فهو ظل جهنمى والعياذ بالله فهو نوع من العذاب شديد، فهو دخان أسود قاتم يملأ الخافقين منعقد من نار تلظى، وانظر إلى وصف الشرر بأنه كالبيت في الضخامة ثم هو كالجمال في الشكل والخفة وسرعة الحركة واللون، وإنه لحقا تنزيل رب العالمين!! ويل يومئذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 806 للمكذبين، هذا يوم لا ينطق فيه الكافر بما ينفعه أصلا، أو عند ذلك لا يتكلم أبدا، ولا يؤذن له فيعتذر «1» ويل يومئذ للمكذبين. هذا يوم الفصل، والقضاء بالعدل، هذا يوم جمعناكم فيه مع الأولين السابقين لكم في الزمن أو المكانة، فهل تستطيعون أن تفلتوا؟! فإن كان لكم كيد به تستطيعون شيئا فافعلوا وكيدوني، يا ويلكم أيها المكذبون! وويل يومئذ للمكذبين!! حال المتقين: إن المتقين الذين اتقوا ربهم وخافوا يوما كان شره مستطيرا هم في ظلال وعيون، أى: قريبون من العيون، تجرى من تحتهم الأنهار فلا يتعبون، وعندهم فواكه كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة، فواكه مما يشتهون، ويقال لهم تكريما: كلوا واشربوا هنيئا بما كنتم تعملون، ولا غرابة في ذلك، إنا كذلك نجزى المحسنين، ويل يومئذ للمكذبين الذين يقال لهم في الدنيا: كلوا كما تأكل الأنعام، وتمتعوا قليلا فإنا نستدرجكم إلى يوم الدين، كلوا وتمتعوا بدنياكم، وغدا حسابكم إنكم مجرمون، ويل يومئذ للمكذبين، وكان من سوءاتهم أنه إذا قيل لهم: اركعوا لله ربكم، واعبدوه وحده، ولا تشركوا به شيئا لا يركعون، وقيل: المراد بالركوع ركوع الصلاة. ويل يومئذ للمكذبين! الويل لهم والهلاك لهم والثبور، حيث لم يشكروا النعم ولم يخافوا النقم فالويل لهم ثم الويل لهم!! إذا كان الأمر كذلك وأنهم لم يؤمنوا بهذا الحديث العجيب، فبأى حديث بعده يؤمنون؟؟ إذ هو الكتاب الكامل الذي جمع فأوعى، وهكذا المغضوب عليهم يقضون حياتهم لا ينتفعون بحكمة ولا يهتدون بنور.   (1) قرئت بالرفع لأن نصبها يشعر بأنهم قد يعتذرون لو أذن لهم، والقرآن يريد لمن يصفهم أنهم لا يعتذرون أصلا أو لم يؤذن لهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 807 سورة النبأ وتسمى سورة عم. وهي مكية، وعدد آياتها أربعون آية، وهذه السورة تكلمت على البعث وإثباته، وبيان مظاهر قدرة الله، ثم تعرضت لمنكري البعث وبينت حالهم يوم القيامة: وحال المؤمنين به، على أن تهويل يوم القيامة وتفخيم شأنه، وتخويف الناس من عذابه من عناصر السورة المهمة التي ذكرت في ثنايا الكلام. [سورة النبإ (78) : الآيات 1 الى 40] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَالْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَخَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَجَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَجَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَجَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَباتاً (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً (16) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21) لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَلا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26) إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَكَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30) إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَأَعْناباً (32) وَكَواعِبَ أَتْراباً (33) وَكَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا كِذَّاباً (35) جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَقالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَيَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 809 المفردات: عَمَّ يَتَساءَلُونَ: عن أى شيء يسألون رسول الله؟ عَنِ النَّبَإِ: عن خبر يوم البعث، والنبأ: هو الخبر المهم. كَلَّا: كلمة ردع لهم وزجر. مِهاداً المهاد: الفراش الموطأ، وفي القاموس: المهد: الموضع المهيأ للصبي كالمهاد. أَوْتاداً أى: كالأوتاد، والوتد: خشبة تغرس في الأرض ويظهر منها جزء. أَزْواجاً: أصنافا، والمراد ذكر وأنثى. سُباتاً السبات: الموت، والمراد: جعلنا نومكم كالموت، والمادة تدل على القطع فالنوم يقطع التعب والألم، والموت يقطع الحياة، والمراد: جعلنا نومكم راحة لكم. لِباساً أى: كاللباس في الستر. مَعاشاً: حياة، ووقتا لطلب العيش. وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً أى: خلقنا فوقكم السموات كالقباب. سِراجاً وَهَّاجاً: سراجا متلألئا وقادا، وهو الشمس. الْمُعْصِراتِ المراد: السحائب. ثَجَّاجاً: منصبا كثيرا. حَبًّا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 810 وَنَباتاً الحب: ما يقتات به الإنسان كالذرة والحنطة، والنبات ما يقتات به الحيوان كالتبن والحشائش. وَجَنَّاتٍ أَلْفافاً أى: جنات ملتفة الأشجار كثيرة الأغصان. أَفْواجاً: جمع فوج، وهو الجماعة المتميزة عن غيرها بشيء. سُيِّرَتِ الْجِبالُ: تناثرت أجزاؤها حتى صارت كالغبار المتطاير. سَراباً: وهو ما يظهر في الجو فيظنه الرائي ماء. مِرْصاداً: مكانا معدا لرصدهم. لِلطَّاغِينَ: المتجاوزين الحدود في العصيان. مَآباً: مرجعا. لابِثِينَ: مقيمين فيها. أَحْقاباً: جمع حقبة أو حقب، والمراد: مددا متطاولة لا نهاية لها. حَمِيماً: هو الماء الحار. غَسَّاقاً: هو القيح والصديد الدائم السيلان من أجساد أهل النار. كِذَّاباً: تكذيبا كثيرا. كِتاباً: إحصاء. مَفازاً أى: فوزا، أو مكانا للفوز. حَدائِقَ الحديقة: البستان المثمر شجره. كَواعِبَ: جمع كاعب، وهي الفتاة التي استدار ثديها. أَتْراباً: جمع ترب، وهن من كن في سن واحدة كاللدات. كَأْساً: هو إناء من البلور يشرب فيه. دِهاقاً: ممتلئة. لَغْواً: هو ما لا يعتد به من الكلام. عَطاءً: فضلا وإحسانا منه. حِساباً: كافيا على قدر أعمالهم. الرُّوحُ: جبريل عليه السلام. صَفًّا: مصطفين. صَواباً أى: قولا صوابا. مَآباً: مرجعا. نْذَرْناكُمْ : حذرناكم. نْتُ تُراباً : لم أخلق. المعنى: كان المشركون يتساءلون عن البعث فيما بينهم. ويخوضون فيه إنكارا له واستهزاء بوقوعه، فرد الله عليهم بأسلوب الاستفهام تفخيما لشأن المسئول عنه وتهويلا، وإخراجا له عن دائرة علوم الخلق. عن أى شيء يسألون «1» الرسول صلّى الله عليه وسلّم والمؤمنين؟! عن النبأ العظيم يتساءلون؟ الذي هم فيه مختلفون فمنهم من هو جازم بعدم وقوعه ما هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَنَحْيا «2» ومنهم من ينكره لأنه ينكر وجود الله ... إلخ.   (1) فالتساؤل متعد ومفعوله في الآية محذوف لظهوره، على أن المنكر هو السؤال فقط. (2) سورة الجاثية آية 24. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 811 كلا! وهي كلمة ردع عن التساؤل والاختلاف في البعث مع وضوح الأدلة عليه. كلا سيعلمون، أى: ليرتدعوا عما هم فيه فإنهم سيعلمون عما قريب حقيقة الحال إذا حل بهم العذاب والنكال. ثم كلا سيعلمون!! وها هي ذي بعض مظاهر القدرة وآيات الرحمة الدالة على قدرة الله على البعث وأنه صاحب النعم: ألم «1» نجعل الأرض فراشا ممهدا ليعيش عليها الإنسان عيشة سعيدة؟ والمعنى: قروا واعترفوا بأن الله قد جعل الأرض مستقرا ومهادا لكم، وجعل الجبال في الأرض كالأوتاد لإرسائها كما يرسى البيت من الشعر بالعمد والأوتاد. وقد خلقناكم ذكرا وأنثى ليتسنى التناسل والتوالد. وينتظم أمر الحياة فيها. وقد جعلنا- أى: الذات الأقدس- نومكم كالموت يقطع طول العناء وكثرة التعب: فالنوم أحد الموتتين، على أنه نعمة من نعم الله الكبرى، فإن نوم ساعات يريح القوى، ويجدد النشاط، ويعيد القوة والحيوية للإنسان، وقد جعلنا الليل كاللباس لأنه يستر الأشخاص بظلمته. يا سبحان الله في الظلمة خير!! وفي النور خير، إذ للناس في ظلام الليل مصالح وفوائد فكما أن اللباس يقي من الحر والبرد، ويستر العورات، كذلك يستتر فيه الفار من العدو، أو الحيوان المفترس، ويستعد فيه الكامن للوثوب: وربما كان فرصة لقضاء بعض حوائج الناس، وقد جعلنا النهار حياة، ووقتا لتحصيل المعاش فيه يستيقظ الناس لمعاشهم، وفيه يتقلبون لقضاء حوائجهم ومكاسبهم ففي النهار الحياة، وفي الليل النوم والسكون، وقد خلقنا فوقكم سبعا شدادا، أى: سبع سموات قوية محكمة لا يختل نظامها، ولا يضعف بناؤها، وقد جعلنا الشمس فيها سراجا وهاجا، سراجا قويا، متلألئا وقادا، وقد أنزلنا من السحب ماء منصبا كثيرا، ليخرج بسببه الحب من حنطة وأرز وغيرهما، والنبات من عشب وحشائش وغيرهما، ولتخرج بسببه الجنات الملتفة الأغصان، والحدائق الملتفة الأشجار لتقارب أغصانها وطول أفنانها، إن يوم الفصل كان ميقاتا. أليس الذي خلق هذا بقادر على أن يحيى الموتى يوم الفصل؟! أمن من على الناس بتلك النعم يعجز عن يوم يكون فيه الفصل والقول الحق، والميزان العدل بين الخلائق   (1) الاستفهام هنا للتقرير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 812 فيفصل المحسن عن المسيء ويجازى كلا على عمله؟! إن يوم الفصل كان ميقاتا معلوما ينتهى إليه الناس فيجتمعون فيه ليرى كل عاقبة عمله، ونهاية أمره وَما نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ فيوم الفصل مؤقت بأجل محدود لا يزاد عليه ولا ينقص منه ولا يعلمه إلا الله. كيف حال ذلك اليوم؟! وما حال المكذبين به؟! إنه هو يوم الفصل، ليس بالهزل. إنه يوم الفزع الأكبر، يوم ينفخ في الصور، النفخة الثانية التي يأتى بسببها الناس أفواجا، تأتى كل أمة بإمامها، وتأتى كل جماعة منفردة من غيرها، قد فتحت السماء فكانت أبوابا إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ فالقرآن يفسر بعضه بعضا، والمراد: انشقت السماء انشقاقا يشبه فتح الباب في السهولة والسرعة وقد سيرت الجبال في الجو على صورتها بعد تفتتها وبعد قلعها من مقارها، فتصبح كأنها سراب، فهي سراب غليظ يرى من بعيد كأنه جبل وما هو بالجبل. إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً نعم كانت جهنم في ذلك اليوم مكانا وموضعا لرصد الكفار للعذاب لأنهم الطغاة المتجاوزون الحدود، كانت لهم مآبا ومرجعا يؤوبون إليه، حالة كونهم لابثين فيها أحقابا، أى: ماكثين فيها أزمانا غير محدودة، أزمانا متعاقبة متلاحقة لا يعلمها إلا الله، حالة كون الماكثين فيها لا يذوقون شيئا إلا ماء حميما. وصديدا يقطر من جلود أهل النار!! جزاهم ربك على أفعالهم جزاء وفاقا!! وما السبب؟ إنهم كانوا لا يرجون حسابا على أعمالهم، وكذبوا بآياتنا الناطقة على إمكان البعث وكمال القدرة تكذيبا مفرطا، وكل شيء من الأشياء التي من جملتها أعمالهم حفظناه وضبطناه في كتاب وأحصيناه إحصاء، إذا كان الأمر كذلك فيقال لهم: ذوقوا هذا العذاب، فلن نزيدكم بعده إلا عذابا مثله أو أشد. وهذا بيان لحال المؤمنين يوم القيامة بعد بيان حال الكافرين والمكذبين: إن للمتقين فوزا عظيما بما عملوا في الدنيا، وإن لهم في الجنة موضع فوز ومكان نجاة، بعضه حدائق غناء، ذات بهجة ورواء، وأن لهم فيها فواكه وأعنابا، وكواعب أترابا، أى: نساء حسانا في سن واحدة فهن لدات، والتمتع بهذا الصنف من النساء أمل الناس في الدنيا فكان لهم في الآخرة على وجه ونظام لا يعلمه إلا الله، وليس لنا أن ندقق النظر في أمثال هذا، بل نؤمن به إيمانا كما نطق القرآن، وإن لهم فيها كأسا مملوءة بالمشتهى من الجزء: 3 ¦ الصفحة: 813 المشروبات والمستلذ من الطيبات، وهم لا يسمعون لغوا ولا كذابا، وقد جزاهم الله على أعمالهم جزاء، قد تفضل به وأحسن، جزاء من صاحب الفضل والنعمة رب السموات والأرض، وكان جزاء كفاء لما قدموا، وهذا وصف آخر ليوم القيامة يملأ القلوب خشية، والنفوس روعة ورهبة، كل الناس يوم القيامة لا يملكون من الحق- تبارك وتعالى- رب السماء والأرض الرحمن لا يملكون منه خطابا، ولا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ «1» في هذا اليوم يقوم الروح جبريل والملائكة بين يدي الرب- سبحانه وتعالى- صفا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا!! يا سبحان الله!! يقوم الروح والملائكة بين يدي الجبار المتكبر المتعالي، لا يسمح لأحد بالنطق إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا بأن تشفع لمن يستحق الشفاعة! أين الأصنام والشركاء الذين يظنون أنهم شفعاء لله؟!! أين الناس جميعا؟! وقد وقف جبريل والملائكة بين يدي الجبار ينتظرون الإشارة منه؟! ذلك اليوم الحق، نعم هو اليوم الحق الذي لا شك فيه، ولا مرية. إذا كان الأمر كذلك فمن شاء فليتخذ مآبا إلى ربه، وليعمل عملا صالحا يقربه إليه. ثم عاد إلى تهديد الكفار المكذبين بيوم القيامة الذين يتساءلون عنه محذرا لهم من عاقبة عنادهم وتكذيبهم. إنا أنذرناكم عذابا قريبا حصوله إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً «2» يوم ينظر المرء ما قدمت يداه فقط، يوم لا يرى فيه أبدا إلا عمله، يوم يقول الكافر: ليتني كنت ترابا لم أخلق، يقول ذلك من شدة هول ما يلقى، ويتمنى أن لو كان جمادا أو حيوانا غير مكلف.   (1) سورة هود آية 105. [ ..... ] (2) سورة المعارج الآيتان 6 و 7. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 814 سورة النازعات وهي مكية. وعدد آياتها ست وأربعون آية، والسورة الكريمة تضمنت القسم بالنجوم أو الملائكة على إثبات البعث، وأنه سهل ميسور، ثم هددت المشركين بذكر قصة فرعون ونهايته، ثم بينت بعض مظاهر القدرة وأن خلق الناس أقل من غيره، وبينت حالهم يوم القيامة. ثم ختمت السورة ببيان بعض الحقائق المتعلقة بيوم البعث. [سورة النازعات (79) : الآيات 1 الى 46] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالنَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَالنَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَالسَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4) فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَإِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19) فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَعَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26) أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَمَرْعاها (31) وَالْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (33) فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَآثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41) يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 815 المفردات: وَالنَّازِعاتِ: الكواكب الجارية على نظام خاص، وقيل: الملائكة التي تنزع النفوس وتخرجها من الأبدان. غَرْقاً يقال: أغرق إغراقا، وغرقا في الشيء: بالغ فيه وجد. وَالنَّاشِطاتِ: الكواكب تخرج من برج إلى برج، أو هي الملائكة تخرج الأرواح من الأجساد، مأخوذ هذا من نشط الدلو من البئر، إذا أخرجها برفق. وَالسَّابِحاتِ: الكواكب تسبح في أفلاكها أو تسير سيرا هادئا، أو هي الملائكة تسبح بأمر ربها بين السماء والأرض. فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً: للكواكب يسبق بعضها بعضا، أو هي الملائكة تتسابق في تنفيذ أمر ربها. تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ: تتحرك الأرض والجبال وتضطرب. الرَّادِفَةُ: التابعة أو الواقعة التي تردفها، وكل شيء جاء عقيب شيء فهو رديف له. واجِفَةٌ: مضطربة قلقة. خاشِعَةٌ: خاضعة ذليلة. فِي الْحافِرَةِ: في الحياة التي كنا فيها، يقال: رجع فلان في الجزء: 3 ¦ الصفحة: 816 حافرته أى: طريقه التي جاء منها فحفرها بقدميه. نَخِرَةً العظام النخرة: البالية التي لو لمستها لتفتتت. كَرَّةٌ خاسِرَةٌ: رجعة يخسر فيها أصحابها. زَجْرَةٌ: صيحة. بِالسَّاهِرَةِ: بالأرض التي كانوا يسهرون عليها بعد أن كانوا في جوفها، وقيل: سميت ساهرة والمراد أصحابها. بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ: الوادي الطاهر المطهر. طُوىً: هو اسم للوادي، أو المراد بورك فيه مرة بعد مرة. طَغى: تجاوز الحد. تَزَكَّى أى: تتزكى وتطهر نفسك من الآثام والعيوب. الْآيَةَ الْكُبْرى: هي معجزة انقلاب العصا حية. فَحَشَرَ: جمع ما في استطاعته. نَكالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولى المراد: عقوبتها في الآخرة بالإحراق وفي الأولى بالإغراق والإذلال. بَناها أصل البناء: ضم شيء إلى شيء برباط وإحكام ليكون شيئا واحدا، والمراد أن السماء وما فيها من كواكب قد جمعت وضمت بإحكام وإتقان حتى صارت كأنها واحد. رَفَعَ سَمْكَها السمك: مقدار الارتفاع من أسفل إلى أعلى، وقد رفع الله سمكها، أى: جعل مقدار ارتفاعها من الأرض وذهابها إلى جهة العلو مديدا. فَسَوَّاها: جعلها مستوية محكمة. وَأَغْطَشَ لَيْلَها أى: جعله مظلما. وَأَخْرَجَ ضُحاها: أبرزه، والمراد بالضحى: النهار. دَحاها: بسطها ومهدها للإنسان. الطَّامَّةُ الْكُبْرى: الداهية الكبرى- والمراد هنا يوم القيامة لأن كل من فيه يذهل عن كل شيء سواه. وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى: ظهرت بارزة للعيان. الْمَأْوى: المكان الذي يأوى إليه الشخص ويقر فيه. أَيَّانَ مُرْساها؟: متى إرساؤها وإقامتها. مُنْتَهاها: نهايتها. عَشِيَّةً: طرف النهار من آخره. أَوْ ضُحاها: أوله. المعنى: أقسم الحق- تبارك وتعالى- بالكواكب السيارة التي تجرى على سنن مقدر ونظام معين لا تتعداه، تنزع مجدة في سيرها، مسرعة فيه بلا توان، وأقسم بها وهي تخرج من برج إلى برج وتسبح في الفضاء سبحا، وتسير فيه سيرا هادئا، كل في فلك يسبحون، والمراد بذلك وصف الكواكب بالجري السريع والانتقال من حال إلى حال، سابحة في الفضاء، ومع هذا فعالم السماء محكم لا اضطراب فيه ولا تصادم، ألا يدل ذلك على قدرة قادرة، وعلى علم كامل تام، لا يحيط به إلا هو؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 817 فَالسَّابِقاتِ «1» أى: فبعض الكواكب تسبق بعضها في الجري. فالمدبرات أمرا للعباد في معاشهم وحياتهم كتوقيت المواقيت، وتكوين الفصول، وما يتبع ذلك من نظام الحياة البشرية، وليس المراد تدبير أمر الخلق تدبيرا كاملا على ما يعتقد بعض عبدة الكواكب فهذا كفر صريح، بل المراد: بها يكون ذلك. وبعضهم يرى أن الله أقسم بالملائكة التي تنزع الأرواح من الأجساد نزعا. فهي تنزع قلوب الكفار نزعا بشدة وإغراق ومبالغة، وهي تنزع قلوب المؤمنين برفق وهوادة وهذا معنى الناشطات نشطا، وذاك معنى النازعات غرقا، والمراد بالسابحات الملائكة تسبح في الفضاء نازلة بأمر ربها، وأما السابقات فالملائكة تتسابق في تنفيذ الأمر، والمدبرات هم الملائكة، وقد وكل الله لكل طائفة تدبير أمر والقيام عليه بإذنه وعلى العموم فالله أعلم بسر كتابه، أقسم الله بالنازعات والناشطات فالسابقات فالمدبرات لتبعثن بعد الموت. ولتنبؤن بما عملتم يوم ترجف الراجفة، وتضطرب الأرض والجبال بسبب النفخة الأولى. تتبعها الرادفة وهي النفخة الثانية، أو المراد تتبعها الرادفة وهي السماء يوم تمور مورا. وتنشق انشقاقا. يوم ترجف الأرض والسماء تكون قلوب الكفار يومئذ قلقة خائفة لأنهم أبصروا ما كانوا ينكرون. ورأوا ما به يوعدون، أبصارهم خاشعة ذليلة، أرأيتهم وهم يضطربون عند ما رأوا العذاب يوم القيامة؟! انظر إليهم وهم يقولون في الدنيا ساعة ينذرون بالبعث يقولون منكرين: أنرد إلى حياتنا الأولى؟! بعد أن متنا وكنا ترابا، إن هذا لعجيب! وقد حكى القرآن عنهم قولهم ثانية: أإذا كنا عظاما بالية متفتتة ليس فيها حياة ولا حرارة أنرد ونبعث!! إن هذا لعجيب! أما القول الثالث: فقد قالوا مستهزئين بالنبي وبوعده بالبعث: تلك إذا كرة خاسرة على معنى: إن صح ما يقوله محمد، وأن هناك حسابا وثوابا وعقابا وحياة بعد أن صرنا ترابا فنحن إذا خاسرون، وتلك رجعة خاسر أصحابها حيث لم نعمل لها!   (1) عطف بالواو ثم بالفاء مع أن المراد إما الكواكب أو الملائكة فالموصوف واحد، وإنما نزل تغاير الصفة منزلة تغاير الذات فجاء بالواو التي تدل على المغايرة وكانت الفاء في قوله: فَالسَّابِقاتِ، فَالْمُدَبِّراتِ للدلالة على ترتبهما على ما قبلهما بغير مهلة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 818 وقد رد الله عليهم دعواهم الباطلة في قولهم: أإذا كنا عظاما نخرة نبعث؟ ببيان أن إعادة الحياة للبشر أمر سهل، وأن الله القادر على البدء قادر على الإعادة، وأنه خلق في الكون ما هو أشد وأكبر من البشر لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [سورة غافر آية 57] فقال ما معناه: لا تستبعدوا البعث بعد الفناء فإنما هي صيحة واحدة يكلف بها ملك ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «1» فالمراد بالصيحة النفخة الثانية. فإذا أنتم بعدها جميعا لدينا محضرون تنتظرون ما يفعل بكم. وإذا أنتم أحياء على وجه الأرض بعد أن كنتم أمواتا. وتلك قصة موسى مع فرعون الطاغية سيقت كالتسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وتهديدا للمشركين، فليس هم أقوى وأشد من فرعون وقومه، فلما كفروا بالله واليوم الآخر عاقبهم عقوبتين في الأولى والآخرة، فاحذروا يا آل مكة أن تكونوا مثلهم: هل أتاك حديث موسى؟ وهذا أسلوب بديع في التشويق إلى استماع الحديث والحرص عليه كأنه أول نبأ عن موسى، هل أتاك حديثه إذ ناداه ربه- جل وعلا- وهو بالوادي المقدس المطهر- واد في أسفل جبل طور سيناء من جهة الشام- الذي قدسه الله مرة بعد مرة فقال له: اذهب إلى فرعون إنه طغى وجاوز الحد المعقول في تعذيب بنى إسرائيل وفي الكفر بالله، فقل له مع الملاينة والملاطفة لتتم الحجة وينقطع العذر: هل لك إلى أن تطهر نفسك من أدرانها باتباع شرع الله الذي أوحى إلى؟ وأهديك إلى ربك فتؤمن به وتعلم صفاته، فيترتب على ذلك أنك تخشاه، ولكن فرعون كذب ولم يؤمن وطلب آية على صدق موسى، فأراه الآية الكبرى التي هي انقلاب العصا حية، فكذب وعصى أيضا، ثم أدبر عن الحق وأعرض عن موسى وعن دعوته، وأخذ يسعى في الأرض بالفساد ومكايدته هو ومن معه، فجمع السحرة من جميع البلاد وقال لهم: أنا ربكم الأعلى فليس هناك سلطان بعد سلطاني، وظل فرعون سادرا في غلوائه لاهيا في عتوه وجبروته حتى تبع موسى وقومه إلى البحر الأحمر. وهم يخرجون من مصر وَجاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ: آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ «2» وهكذا حكم الله على فرعون   (1) - سورة الزمر آية 68. (2) - سورة يونس آية 90. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 819 بالإغراق، وكان آية لمن بعده، وهو في الآخرة في جهنم وبئس القرار، فأخذه الله ونكل به نكال الآخرة والأولى، وكان عقابه نكالا له ولغيره، إن في ذلك لعبرة ولكن لمن يخشى، فاعتبروا يا أولى الأبصار!! وهذا فرعون مصر الجبار العنيد لم يعجز الله في شيء، فأين أنتم يا كفار مكة منه! وهكذا سنة الله في خلقه يكذبون الرسل، ولا يؤمنون حتى يروا العذاب الأليم، فصبرا يا رسول الله. وبعد ذلك خاطب المشركين موبخا لهم ومبكتا على إنكارهم البعث بعد ما بين لهم سهولته على الله وأنها صيحة واحدة فإذا هم قيام أحياء يحاسبون، خاطبهم بقوله: أأنتم أشد خلقا أم السماء؟ فكأنه يقول لهم: إنكم خلقتم من ماء مهين، وأنتم مع هذا ضعاف عاجزون لا تملكون لأنفسكم نفعا ولا ضررا. ولا موتا ولا حياة، وهذه هي السموات بديعة الخلق، حسنة الشكل، قوية التركيب، متينة البناء، محكمة لا عوج فيها ولا اضطراب رغم كثرة الدوران وسرعة السير، أليس عالم السماء وما فيه آية على قدرة الله، وعلى أن خلقه أعظم منكم خلقا؟! فالله بنى السماء بناء محكما، ورفع سمكها إلى حيث شاء! فسواها حيث وضع كل جرم سماوي في وضعه لا يتعداه، وله فلك يسبح فيه لا يتخطاه، وبين كل الأجرام تجاذب وترابط بحيث لم يند عن المجموعة جرم، وإذا أراد الله شيئا انتهت الدنيا وبطل هذا النظام. وانظر إلى ذلك الكون العجيب وإلى وضعه الدقيق، فهذه الشمس والأرض ودوران كل في مداره بحكمة ودقة، كيف ينشأ عنهما الليل والنهار أَغْطَشَ لَيْلَها وَأَخْرَجَ ضُحاها والأرض بعد ذلك دحاها وبسطها ومهدها للحياة بحيث يستطيع الحيوان السير عليها، والمعيشة فوقها. وقد أخرج منها ماءها ومرعاها، وقد أرسى عليها الجبال الرواسي الشامخات لئلا تميد وتضطرب، ولتكون مصدرا للمنافع، كل ذلك خلقه الله متعة لكم ومنفعة لكم ولأنعامكم. وهذا وصف عام لبعض أهوال يوم القيامة لعلهم يعتبرون! فإذا وقعت الواقعة، وجاءت الداهية الكبرى التي يصغر أمامها كل حدث، وينسى صاحبها كل شيء إلا هي، تلك هي الطامة الكبرى تكون يوم القيامة، يوم يتذكر الإنسان أعماله حيث يراها مكتوبة أمامه في كتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، يوم تبرز جهنم بصوتها المزعج، وهي تفور تكاد تميز من الغيظ. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 820 إذا جاءت الطامة يفصل ربك بين الخلائق، فمنهم شقي، ومنهم سعيد، فأما الشقي فهو الذي طغى وتجاوز الحدود وآثر الحياة الدنيا، فكانت الجحيم هي المأوى، وبئس المصير، وأما السعيد فهو من خاف مقام ربه، وخاف قيامه بين يدي العزيز الجبار يوم القيامة، وقد نهى النفس عن هواها، وألزمها كلمة التقوى، فكانت الجنة هي المأوى ونعم القرار. أرأيت أسباب دخول جهنم وأنها هي الطغيان والظلم، وحب الدنيا وترك العمل للآخرة؟ وأسباب دخول الجنة وأنها معرفة الله والخوف منه، ونهى النفس عن اتباع الهوى؟! وقد كانوا يسألون النبي صلّى الله عليه وسلّم استهزاء بالساعة قائلين: متى تكون؟ ويقصدون بذلك إنكار الوقوع، فيرد الله عليهم على طريق الاستفهام الإنكارى مخاطبا النبي صلّى الله عليه وسلّم ليكون أتم وأبلغ: فيم أنت من ذكراها؟ على معنى: في أى شيء أنت حتى تذكر لهؤلاء وقت حصولها؟ والله وحده عنده علم الساعة، وإلى ربك وحده منتهاها، وإنما أنت منذر فقط من يخشاها، وليس عليك إلا البلاغ فلا يهمنك أمرهم، ولا تشغل بطلبهم، وكأنك بهم يوم يرونها، تراهم كأنهم لم يلبثوا في هذه الدنيا إلا عشية أو ضحاها وقد انقضت، فإذا هم فيما أنكروه واقعون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 821 سورة عبس وهي مكية. وعدد آياتها اثنتان وأربعون آية، وقد تكلمت عن قصة ابن أم مكتوم، مع بيان أن القرآن تذكرة فمن شاء فليتعظ به، ثم بينت أصل الإنسان ونشأته، ولفتت نظره إلى طعامه وشرابه لعله يتعظ، ثم لم تهمل الحياة الآخرة وما فيها. [سورة عبس (80) : الآيات 1 الى 32] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَهُوَ يَخْشى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16) قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَعِنَباً وَقَضْباً (28) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (29) وَحَدائِقَ غُلْباً (30) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (32) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 822 المفردات: عَبَسَ العبوس: تقطيب الوجه من الألم. وَتَوَلَّى: أعرض. الْأَعْمى: هو ابن أم مكتوم. يَزَّكَّى: يتطهر من الذنوب. الذِّكْرى: الموعظة. اسْتَغْنى أى: عن الإيمان بالله. تَصَدَّى: أصله تتصدى، أى: تترصد له بالموعظة. يَسْعى: يسرع في طلب الخير بجد. تَلَهَّى: أصله تتلهى، أى: تنشغل عنه. تَذْكِرَةٌ: موعظة. صُحُفٍ: جمع صحيفة وهي ما يكتب فيه. سَفَرَةٍ: جمع سافر، وهو الوسيط بين جماعتين ليصلح ما بينهما. بَرَرَةٍ: جمع بار، وهو من لم يقترف إثما. فَقَدَّرَهُ: هيأه لما يصلح له. أَنْشَرَهُ المراد: أحياه. وَقَضْباً: كل ما يأكله الإنسان قضبا، أى: غضا طريّا كالبقول. غُلْباً: ملتفة الأغصان. أَبًّا المراد به: الكلأ والمراعى. روى أن ابن أم مكتوم، ابن خال خديجة بنت خويلد- وكان أعمى- جاء إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم يسأله قراءة القرآن، وتعليمه مما علمه الله، وكان عند النبي رهط من زعماء قريش كعتبة بن ربيعة، وأخيه شيبة، وأبى جهل بن هشام وأمية بن خلف وغيرهم، والنبي مشغول بدعوتهم إلى الإسلام وبتذكيرهم بالله وباليوم الآخر، وكان صلّى الله عليه وسلّم شديد الحرص على إيمان هؤلاء ثقة منه بأن إسلامهم سيجر غيرهم من أتباعهم. فلما جاء ابن أم مكتوم وناداه قائلا: يا رسول الله: أقرئنى القرآن، وعلمني مما علمك الله، وهو مشغول بمحادثة زعماء الشرك كره ذلك منه النبي وعبس في وجهه وقطب، وأعرض عنه فنزلت هذه الآيات تعاتب النبي عتابا رقيقا على تركه الفقير الأعمى الذي جاء يسأل ويزداد علما ونورا، وعلى توجهه إلى الأغنياء الأقوياء، وفي هذا كسر لقلوب الفقراء، فلدفع هذا عوتب الرسول على عبوسه في وجه الفقير الأعمى. أليس في هذا العتاب الصريح دليل للمنصف على أن هذا الرسول صادق في كل ما يبلغه عن ربه، وأن هذا القرآن من عند الله لا من عنده؟ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 823 عبس النبي وأعرض بوجهه لأن جاءه الأعمى، وهو ابن أم مكتوم، جاءه وهو مشغول بمحادثة زعماء الشرك، فعاتبه الله على ذلك قائلا: وما يدريك لعله يتطهر بما يسمعه منك ويتلقاه عنك من الوحى، نعم أى شيء يعلمك بحال هذا السائل لعله يتطهر أو يتعظ فتنفعه موعظتك؟ التفت الله إلى رسوله الكريم معاتبا لائما قائلا ما معناه: إن ما صدر منك كان على هذا التفصيل: فالذي استغنى عن الإيمان بالله وعن طاعته وطاعة رسوله، واستغنى بماله وجاهه عن قبول الحق وعن استماع النصيحة فأنت تتعرض له، وتشغل نفسك بوعظه، وأما من جاءك طالبا الهداية خائفا من الله، فأنت عنه تتلهى وتشتغل عنه بسواه، وهذا عتاب للنبي وإنكار لهذا العمل، مع أن الرسول ليس عليه إلا البلاغ، فمن ركب رأسه، واغتر بدنياه، وأغفل آخرته، وظن أنه غنى عن هداية الله فليس على الرسول عيب ولا لوم في بقائه على حالته. ثم لما ذكر الله هذه الحادثة أعقبها ببيان وظيفة الرسول وعمله وأن هذه الرسالة التي أرسل بها الرسول ليست محتاجة إلى حيلة ولا موعظة، فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، وعلى ذلك فلست أيها الرسول في حاجة إلى الإلحاح على هؤلاء ليؤمنوا. كلا.. إنها- آيات القرآن- تذكير ووعظ، لمن غفل عن الله فمن شاء ذكره واتعظ به فليفعل، ومن لم ينفعه وعظه فقد جنى على نفسه. ثم إن الله تعالى وصف هذه التذكرة بأوصاف تدل على عظم شأنها، فقال: إنها مودعة وثابتة في صحف عالية مكرمة مشرفة، مرفوعة مطهرة عن النقص والعيب، لا تشوبها شائبة خلل في أية ناحية من النواحي، وقد أتت بأيدى ملائكة سفرة بين الله وبين الخلق، وهم كرام على الله بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ [الأنبياء 26] وأبرار وأطهار، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون. فهذا هو حال القرآن جاء تذكرة وموعظة، وكان بالمنزلة العالية المرفوعة المطهرة وجاء على أيدى ملائكة أمناء كرام بررة، فهل يعقل بعد هذا أن يكفر به عاقل؟! قتل الإنسان! ما أشد كفره! وما أفظعه! أفلا ينظر إلى نفسه من أى شيء خلق؟ إنه خلق من نطفة قذرة، ثم كان خلقا سويا قد قدره الله وهيأه ليقوم بما يكلف به، الجزء: 3 ¦ الصفحة: 824 وليؤدى رسالته في عمارة الكون ثم قد هداه الله إلى الخير والشر بما أودع فيه من عقل وغرائز، وبما أرسل له من رسل وكتب، ألا ترى أن الله هداه السبيلين، ثم بعد ذلك أماته فجعل له قبرا يواريه، ثم إذا شاء بعد ذلك أحياه للحساب، فانظر إلى مبدئك ومنتهاك. كلا أيها الإنسان: ارتدع عما أنت فيه، وثب إلى رشدك وارجع إلى ربك فأنت لم تقض ما أمر به ربك، ولم تعرف ما طلب منك. إذا كان الأمر كذلك فلينظر الإنسان إلى طعامه كيف يكون؟ ألم يروا أن الله أنزل من السماء ماء وصبه على الأرض صبا، ثم شق الأرض بالنبات، وأحياها بالزرع والخضروات، فأنبت منها قمحا وشعيرا، وعنبا وفاكهة، وبقولا وزيتونا ونخلا، وحدائق ملتفة الأغصان كثيفة، كل هذا لكم ولأنعامكم!!! [سورة عبس (80) : الآيات 33 الى 42] فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42) المفردات: الصَّاخَّةُ: الصوت الشديد الذي يصم الآذان، والمراد هنا: النفخة التي بها تقوم القيامة. وَصاحِبَتِهِ: زوجته. يُغْنِيهِ: يصرفه ويصده عن كل من عداه. مُسْفِرَةٌ: مضيئة متهللة، تقول: أسفر الصبح: إذا أضاء مُسْتَبْشِرَةٌ: فرحة. غَبَرَةٌ: غبار. تَرْهَقُها: تدركها من قرب، والمراد: تعلوها. قَتَرَةٌ: سواد الدخان. الْفَجَرَةُ: الذين خرجوا عن حدود العقل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 825 المعنى: هكذا الشأن بعد تعداد النعم، والتذكير بآلاء الله- تعالى- التي تقتضي من الإنسان النظر الصحيح والبعد عن الكبر والكفر والفجور، أخذ الله- سبحانه وتعالى- يذكرنا بيوم القيامة وأهواله التي تجعل الإنسان يذهل عن أحب الناس إليه، فإذا وقعت الواقعة وجاءت الصاخة، يوم يفر المرء ويتباعد عن أخيه ولا يأخذ بناصره ولا يواليه يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً «1» وقد كان في الدنيا يستنصر به ويعتز، بل يفر كذلك من أبويه، أمه وأبيه، بل يفر كذلك من الذين يتعلق بهم قلبه أشد من غيرهم كزوجة وبنيه وكيف لا يكون ذلك؟ ولكل امرئ منهم يومئذ شيء يصرفه ويصده عن قرابته وأهله، ويوم القيامة ترى وجوها مضيئة متهللة فارغة البال ضاحكة السن مستبشرة فرحة، تلك هي وجوه المؤمنين الذين آمنوا وعملوا الصالحات، وهناك وجوه أخرى عليها غبرة ويعلوها سواد فهم في هم وحزن وكمد، أولئك هم الكفرة الذين كفروا بالله ورسوله ولم يؤمنوا باليوم الآخر وكانوا في الدنيا فجرة قد خرجوا عن حدود الشرع والعقل والعرف الصحيح، واجترحوا السيئات فكان جزاؤهم ذلك وبئس المصير.   (1) - سورة الدخان آية 41. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 826 سورة التكوير وهي مكية. وآياتها تسع وعشرون آية، وقد تضمنت الكلام على البعث بذكر مقدماته. وما يكون فيه، ثم القسم المؤكد على أن القرآن حق أوحى به إلى محمد على لسان جبريل الأمين. وما كان محمد بمجنون ولا متهم. [سورة التكوير (81) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14) المفردات: كُوِّرَتْ: لفت مثل تكوير العمامة، أى: لفها، والمراد: اختفاؤها عن الأعين وذهاب ضوئها. انْكَدَرَتْ: انتثرت وتساقطت. سُيِّرَتْ: أزيلت عن أماكنها بالرجفة. الْعِشارُ: هي السحاب، وتعطيلها: منعها من حمل الماء، وقيل: هي النياق أتى على حملها عشرة أشهر. وهي من كرائم المال، وتعطيلها: إهمالها. حُشِرَتْ: جمعت. سُجِّرَتْ: ملئت بالنار بعد أن غاض ماؤها. زُوِّجَتْ: زوجت الأرواح بأبدانها وعادت إلى أجسامها. الْمَوْؤُدَةُ: هي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 827 البنت تدفن حية. الصُّحُفُ: ما يسجل فيه العمل. كُشِطَتْ: أزيلت كما يكشط الجلد عن الذبيحة. سُعِّرَتْ: أوقدت نارها إيقادا شديدا. أُزْلِفَتْ: قربت وأدنيت. المعنى: ابتدأ الله هذه السورة الكريمة بذكر علامات ودلائل تكون يوم القيامة. بعضها سابق عليه وبعضها يكون فيه، وعلى العموم فمقدمات البعث تكون بخراب الدنيا واختلال نظامها وهلاك كل من فيها، وذلك عند النفخة الأولى، في هذا الوقت تكور الشمس وتلف حتى لا يكون لها ضوء أو حرارة، والنجوم تتناثر وتسقط، وترجف الأرض وتضطرب فتزول الجبال من أماكنها، وتصبح كالعهن المنفوش، عند ذلك يملأ الخوف والاضطراب كل الكون، فلو فرض وكانت حياة عندئذ يذهل كل إنسان عن أعز شيء لديه، فتراه يهمل عشاره وكرائم ماله، بل تذهل كل مرضعة عما أرضعت لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ» وترى الوحوش قد جمعت من كل مكان وأصبحت في صعيد واحد، والبحار سجرت بالزلازل حتى اختلطت وضاعت الحواجز بينها، وتعود بحرا واحدا، ويكون التسجير: معناه امتلاؤها بالماء. ولعل المراد بالتسجير هنا: ملؤها بالنار بدل الماء، ولا غرابة فباطن الأرض شديد الحرارة جدا بدليل البراكين التي تخرج منه، وليس ببعيد عند انتهاء الدنيا، أن تتشقق الأرض ويغيض الماء لتبخره، ثم يمتلئ البحر بالنار التي تخرج من باطن الأرض، تلك هي مقدمات البعث الأولى، وبعدها يكون البعث والحياة والنشور وهذا عند النفخة الثانية، ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ [سورة الزمر آية 68] . هذه هي أولى مراحل البعث ذكرت بعد مقدماته، وإذا النفوس عادت إلى أبدانها، بعد أن كانت بعيدة عنها، وكانت الحياة الثانية لأجل البعث، وفيه يؤتى بالموءودة التي دفنت حية خوف الفقر أو العار، وتلك كانت عادة من عادات العرب في الجاهلية، فجاء الإسلام وحاربها وقضى عليها، واستبدل من أولئك الأعراب الذين كانوا يئدون   (1) - سورة عبس آية 37. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 828 البنات أحياء عربا فيهم ظرف الإسلام، وحكمة المسلمين وغرس فيهم التربية الإسلامية العالية التي قوامها: لا ضرر ولا ضرار، والتمسك بأهداب الفضيلة والمثل العليا. هذه الموءودة تسأل: لأى ذنب قتلت؟! لم يكن لها ذنب- علم الله- وهذا سؤال للتبكيت والتوبيخ والتسجيل عليهم، وإذا الصحف التي كتبت فيها الأعمال، وسجل فيها ما اقترفه كل إنسان، نشرت ليقرأ كل إنسان كتابه، ويعرف عمله وحسابه، وإذا السماء كشطت وأزيلت فلم يعد لها وجود. والظاهر- والله أعلم- أن المراد بكشط السماء هو رفع الحجاب فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ «1» فترى كل نفس عند ذلك عملها، وتقوم عليها شهودها، فتبصر ما لم تكن تبصره من قبل، وإذا الجحيم سعرت وأحميت نارها وأوقدت، وإذا الجنة أزلفت وقربت وقدمت للمتقين. وإذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت ... إلخ ما ذكر هنا من الأمور الاثنى عشر. وجواب هذا الشرط قوله: علمت نفس ما أحضرت، أى: إذا حصل هذا- ما ذكر- علمت نفس ما قدمت من عمل إن كان خيرا فجزاؤه خير، وإن كان شرّا فجزاؤه شر. وقد فصل هنا ما أجمل في سورة «ق» عند بيان ما يسبق الحساب فقال هناك: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وقال هنا: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ إلى قوله: وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ وهنا أجمل في ذكر ما يحصل يوم الحساب حيث اكتفى بسؤال الموءودة، وتسعير جهنم. وتقريب الجنة، وفي سورة «ق» فصل كثيرا حيث قال: وَجاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَشَهِيدٌ ... ... إلخ. الآيات. اعتاد العرب في كلامهم أنهم إذا أقسموا على إثبات أمر واضح ظاهر، قالوا: لا أقسم إشارة إلى أنه لا يحتاج إلى قسم، وقيل: إنه يؤتى بلا في القسم إذا أريد تعظيم المقسم به على ما فصلناه عند قوله: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ «2» وعلى ذلك يمكننا أن نفهم قوله تعالى هنا: فلا أقسم بالخنس.   (1) - سورة ق آية 22. (2) - سورة القيامة الآية الأولى الجزء: 3 ¦ الصفحة: 829 [سورة التكوير (81) : الآيات 15 الى 29] فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29) المفردات: بِالْخُنَّسِ: جمع خانس، وهو المنقبض المستتر. الْكُنَّسِ: جمع كانس، أو كانسة، وأصله من قولهم: كنست الظبية: إذا دخلت الكناس وهو مكانها ومأواها، ومنه قولهم: كنست المرأة: إذا دخلت هودجها، والمراد: الكواكب التي تظهر في أفلاكها للعين ليلا تشبيها لها بالمرأة إذا ظهرت في هودجها، أو الظبية إذا ظهرت في كناسها. عَسْعَسَ: أقبل بظلامه. تَنَفَّسَ: ظهر وامتد حتى صار نهارا بينا. ذِي قُوَّةٍ: صاحب قوة في الجسم وغيره. مَكِينٍ: صاحب مكانة. صاحِبُكُمْ: هو الرسول عليه السلام. بِضَنِينٍ أى: بمتهم، أو ببخيل. رَجِيمٍ: ملعون. ذِكْرٌ: عظة وعبرة. المعنى: فلا أقسم بالكواكب المتخفية عن العين نهارا، الجواري لكي تظهر في أفلاكها ليلا كالظباء في كناسها، لا أقسم بهذا على أنه قول رسول كريم لظهور ذلك للعيان فلا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 830 يحتاج إلى إقسام، أو المعنى: لا أقسم بهذه الأشياء لعظمها فإنها عظيمة في نفسها ولو لم يقسم بها، والمعنى على القسم بها قسما مؤكدا، وأقسم بالليل إذا عسعس وأدبر ظلامه، والصبح إذا أضاء وظهر «1» أقسم بهذا على أن القرآن قول رسول كريم وهو جبريل لأنه حمله إلى النبي صلّى الله عليه وسلّم فنسب إليه، هذا الرسول ذو قوة في العقل ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى «2» فهو شديد القوى ذو حصافة في العقل والرأى، عند ذي العرش جل جلاله، مكين، أى: صاحب مكانة وشرف، والعندية عندية تشريف وإكرام لا عندية مكان، وهو مطاع في الملأ الأعلى: أمين على الوحى وعلى نقله، وما صاحبكم هذا بمجنون كما يصفه المشركون، وهو على ثقة من جبريل حين يبلغه، والحال أنه رآه على صورته الأصلية بالأفق العالي الظاهر- عند سدرة المنتهى- وما محمد على الغيب، أى: الوحى بمتهم بل هو صادق في خبره، ويؤيد هذا المعنى قراءة بظنين، وقيل: وما هو على الغيب ببخيل، فليس مقصرا في تبليغ الوحى، وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم، حيث إن محمدا أمين، وليس مجنونا: وما هو على الغيب بمتهم إذ ليس هذا القرآن قول شيطان، ولا قول كاهن، وليس أساطير الأولين. فأين تذهبون «3» وأى طريق تسلكون؟ وأية حجة تقولون؟ بعد أن سدت عليكم كل الطرق وأقيمت عليكم الحجج والبراهين، وبطلت جميع المفتريات التي تفترونها. ما هذا القرآن إلا ذكر وتذكرة وموعظة وعبرة، عظة للعالمين لمن شاء أن يستقيم على الجادة ويسير على سواء السبيل، والمعنى أن من شاء الدخول في الإسلام- لمن شاء منكم أن يستقيم- هو الذي ينتفع بهذا الذكر الحكيم، أما غيرهم فقد ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة، فلا يمكن أن يروا نور الحق، ولا أن يهتدوا بنور القرآن. ولكن هل مشيئة العباد مطلقة غير خاضعة لأية قوة أو مشيئة أخرى؟ الجواب: إن إرادتكم الخير خاضعة لإرادة الله ولا تكون إلا بعد مشيئة الله رب العالمين، فهو سبحانه   (1) في قوله (والصبح إذا تنفس) استعارة تصريحية تبعية، أو هي مكنية على تشبيه الصبح بماش وآت من مسافة بعيدة وإثبات التنفس قرينة، وإسنادها له تخييل. (2) سورة النجم آية 6. (3) هذا الاستفهام للإنكار، والتعجيز. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 831 الذي يودع في البشر إرادة الخير. فتنصرف همة أصحاب الخير إليه، ولو شاء لسلبكم تلك الإرادة فكنتم كالحيوان. ولما كان رب العالمين وكان ما نحهم كل ما يتمتعون به كانت إرادة البشر مستندة إلى إرادة الله، وهذا معنى قوله تعالى: وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فمشيئة العبد في دائرة صغيرة هذه الدائرة داخلة في دائرة مشيئة الله الكبرى. بقيت كلمة أخرى في إقسام الله بالكواكب الخنس والكنس، وبالليل والصباح أو بالشمس والقمر أو غير ذلك، والظاهر أن هذا القسم للفت الأنظار إلى تلك الأشياء، وأنها دلائل على قدرة الله وبديع نظامه في الكون، ثم جاءت صفات لها كالخنس والكنس توبيخا لمن يعبد الكواكب ببيان بعض صفاتها التي يستحيل معها أن تكون آلهة بل هي مخلوقة متغيرة متحولة من حال إلى حال، مصرفة يصرفها المولى- جل جلاله- والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 832 سورة الانفطار وهي مكية. وعدد آياتها تسع عشرة آية، وهي تتضمن الكلام على البعث والتذكير بيوم القيامة وأن النفس تشهد فيه ما عملت، ثم ناقشت الإنسان في شأن مخالفته لربه وتماديه في فجوره، مع أنه صاحب نعم جليلة عليه، وقد جعل له شهودا كراما كاتبين، ثم كانت النهاية لكل إنسان إما الجنة وإما النار، والأمر يومئذ لله. [سورة الانفطار (82) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 833 المفردات: انْفَطَرَتْ: انشقت. انْتَثَرَتْ: تساقطت. فُجِّرَتْ: فتحت وشققت جوانبها فزال ما بينها من برزخ. بُعْثِرَتْ: قلب ترابها الذي وضع على موتاها، ويلزم هنا إخراج من دفن فيها. ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ؟: ما خدعك وجعلك تعصاه؟! فَسَوَّاكَ: خلقك كامل الأعضاء حسن الهيئة. الْأَبْرارَ: جمع بر، وهو من يعمل البر ويلتزم به في كل تصرفاته. الْفُجَّارَ: جمع فاجر، وهو الخارج عن الحدود. يَصْلَوْنَها: يقاسون حرها. يَوْمَ الدِّينِ: يوم الحساب والجزاء. وَما أَدْراكَ : ما أعلمك ما هو؟ المعنى: يذكرنا القرآن كثيرا بيوم القيامة، وأن الإنسان فيه يشهد ما قدمته يداه من خير أو شر وسيجازى عليه، ويقدم لذلك بذكر بعض أهوال يوم القيامة ليجذب قلب السامع إلى دائرة الاتعاظ والتهويل والتفخيم، فترى السامع وقد حبس أنفاسه ساعة يسمع (إذا السماء انفطرت) وتشققت، وإذا الكواكب التي كانت زينة ونورا تصبح وقد تناثرت وسقطت بلا نظام، كسقوط العقد إذا انفرط حبه في يد صاحبه، ولا تنس أن الأرض تسير سيرا، وتضطرب اضطرابا. ويقع الخلل في جميع أجزائها فترى البحار وقد فجرت تفجيرا، وتشققت جوانبها وامتلأت ماء حتى اختلط عذبها بملحها، ولم يعد بينها حاجز بل يغمر البسيطة الماء ثم لا يلبث أن يتبخر، والبحار تسجر وتملأ لهبا ودخانا، أرأيت الأرض في هذه الساعة: وكأنى بك وأنت تنظر إلى القبور وقد بعثرت، وذرى ترابها وأخرج من فيها للحساب، وقد نشرت الصحف وقرئت الكتب عندئذ تعلم كل نفس ما قدمت من صالح الأعمال أو سيئها وما أخرت منه. عجبا لك أيها الإنسان العاقل المفكر ما الذي غرك وخدعك، وجرأك على عصيان ربك الكريم؟! وقد علمت ما سيكون يوم القيامة من أهوال، وما ستلاقيه أنت من أحوال، وما سيظهر لك من أعمال، يا أيها الإنسان ما غرك بربك الكريم المتعالي المنزه عن كل نقص المتصف بكل كمال، الذي خلقك أولا، وهو على خلقك ثانيا أقدر الجزء: 3 ¦ الصفحة: 834 وأقدر، الذي خلقك فسواك وجعلك حسن الصورة كامل الهيئة سالما في أعجب الصور وأتقنها وأجملها وأدقها وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ الأعضاء، الذي خلقك فعدلك وصيرك معتدلا متناسب الخلق منتصب القامة، فلست كبقية الحيوان، وقد عدلك، أى صرفك عن صورة غيرك. «كلا» ارتدع عن الاغترار بمولاك، ولا تجعل كرمه حجة لعصيانه فتلك حجة المغرورين المخدوعين، فقد خلقك في صورة حسنة كاملة وركّبك في أى صورة شاءها. ولكنكم يا معشر العصاة والكفار لا ترتدعون بل تكذبون بيوم الدين، أو تكذبون بدين الإسلام، والحال أن الله جعل عليكم حافظين: ملائكة تكتب أعمالكم وتحفظها ليوم الدين، وهم كرام بررة، كاتبون للأعمال: خيرها وشرها، يعلمون كل ما تفعلون. ويوم القيامة تعرفون وتندمون ولات ساعة مندم. وما نتيجة هذا الحفظ والكتب من الملائكة؟ النتيجة: إن الأبرار لفي نعيم مقيم، وإن الفجار لفي جحيم مقيم، يصلونها ويحترقون بنارها يوم الدين. أما الأبرار فأولئك هم العاملون المؤمنون بالله وباليوم الآخر وبالملائكة والكتاب والنبيين، الذين آتوا المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، ووفوا بالعهود، وصبروا في البأساء والضراء وحين البأس أولئك هم الذين صدقوا الله في إيمانهم، وأما الفجار فهم على النقيض من ذلك كله. وما أدراك ما يوم الدين؟ ثم ما أدراك ما يوم الدين؟! وهذا تعجب من حال الإنسان الذي لا يعرف هذا اليوم الشديد ولا يعمل له لينجو من عذابه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 835 سورة المطففين وهي مكية في قول الأكثرين، وعدد آياتها ست وثلاثون آية، وتتضمن هذه السورة تفصيلا لبعض أنواع الفجور كالتطفيف في الكيل، والتكذيب بيوم الدين، والاعتداء على الغير، والقول بأن القرآن أساطير الأولين، وسبب هذا، وجزاؤه يوم القيامة، ثم تفصيل جزاء الأبرار، فكأن هذه السورة جاءت بيانا للسورة السابقة. [سورة المطففين (83) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) المفردات: وَيْلٌ: هلاك وعذاب. لِلْمُطَفِّفِينَ: الذين يأخذون حقهم كاملا، ويعطون حق غيرهم ناقصا. اكْتالُوا: أخذوا ما لهم من حق بالكيل. يَسْتَوْفُونَ: يأخذونه وافيا كاملا. كالُوهُمْ: أعطوهم شيئا بالكيل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 836 يُخْسِرُونَ: ينقصون الكيل والميزان. أَلا يَظُنُّ: ألا يعلم. كَلَّا: كلمة ردع وزجر لهم عما هم فيه من التطفيف والتكذيب. سِجِّينٍ: هو علم على سجل ضخم فيه سوءات الفجار. مَرْقُومٌ: بين ظاهر الكتابة، أو له علامة يعرف بها، أى: معلم. مُعْتَدٍ: متجاوز حدود العقل والشرع. أَثِيمٍ: كثير الآثام والانهماك في الشهوات. أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ: أكاذيبهم نقلها الخلف عن السلف. رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ: غلب عليها وغطاها، أى: اسودت من الذنب. المعنى: بعض النفوس قد ملئت بالشح والأنانية وحب الذات، طغى عليها حب المال طغيانا شديدا، فتراه إذا كان له حق عند غيره أخذه كاملا غير منقوص، وطفف في الكيل أو الميزان، وإذا كان لغيره حق عنده نقصه في الكيل أو الميزان، الويل لهؤلاء! ثم الويل لهم! فإن عملهم هذا لون من الفجور والآثام والأنانية يحاربها الإسلام الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ. عجبا لهؤلاء ثم عجبا! ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون؟؟! إن هؤلاء المطففين لو كانوا يظنون «1» أن الله باعث الخلق ومحاسبهم على أعمالهم لما أقدموا على تلك الأعمال الشنيعة، إذ لو اعتقدوا حقا أن الله يبعث خلقه ويحاسبهم لتركوها، وكان التعبير بقوله أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ أبلغ وصف لهم، فاسم الإشارة يدل على أنهم ممتازون بهذا الوصف القبيح، وعلى بعدهم عن رحمة الله، ووصفهم بأنهم لا يظنون البعث دليل على أنهم أسوأ من الكفار فإنهم يظنون البعث، ثم انظر إلى وصف اليوم ويا بؤسهم فيه، ويا خير من يؤمن بالله ويعمل صالحا في ذلك اليوم الذي يقوم فيه الناس ويطول قيامهم أمام رب العالمين للحساب. المعنى: ارتدعوا أيها الفجار من المطففين والمكذبين بيوم الحساب عن ذلك وارجعوا إلى ربكم القادر على كل شيء، فستحاسبون على أعمالكم حسابا شديدا، وقد أعد الله لهم   (1) هذا المعنى على أن (ألا) الهمزة فيها للإنكار والتعجب، ولا للنفي. وليست أداة استفتاح. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 837 كتابا أحصى أعمالهم، ولم يغادر منها صغيرة ولا كبيرة، وإن هذا الكتاب لفي الديوان الجامع الذي دون فيه أعمال الفجرة من الثقلين، وما أدراك ما سجين؟ والمراد تفخيمه وأنه لا أحد يعرف عنه شيئا إلا ما أخبر به الحق- تبارك وتعالى- فقال: هو كتاب مرقوم ظاهر الكتابة، أو معلم يعرفه بعلامته كل من رآه أنه لا خير فيه. الويل والهلاك للمكذبين، الذين يكذبون بيوم الدين، ومنشأ ذلك هو كثرة الاعتداء وتجاوز الحدود، وارتكاب الآثام والشرور ولذا يقول الله: وما يكذب به إلا كل معتد أثيم، وتأويل ذلك أن النفس التي اعتادت الظلم والطغيان والبغي والاسترسال في الشرور والآثام يصعب عليها جدا الإذعان لأخبار الآخرة والتصديق بها، فإن تصديقها- مع هذه الأعمال- حكم صريح عليها بالسفه والجنون، وهذه النفس تكون جامحة طامحة، فصاحبها يعللها، ويهون عليها الأمر بالتغافل والتكذيب بيوم القيامة، أو التعلق بالأمانى الباطلة. تلك حقائق قرآنية نادى بها العلم الحديث فلذلك إذا تليت آيات القرآن التي تنادى بإثبات البعث على هذه النفس لم يكن منها إلا أن تقول: تلك أساطير الأولين وأكاذيبهم، حكيت لنا وأثرت عنهم، ولكنها أحاديث لا حقيقة لها، ولا تستحق النظر. «كلا» ليست آيات القرآن أساطير، وإنما هي الحق لا مراء فيه، إنما دفعهم إلى هذا وجرأهم عليه أعمالهم السيئة التي مرنوا عليها ودربوا حتى اسودت قلوبهم، وران عليها الفساد فلم تعد تبصر الخير على أنه خير، فإن الرين الذي ينشأ عن الذنب كالصدإ على المرآة، والتوبة تجلوه: ومداومة العمل الفاسد تجعل الفساد ملكة عند الإنسان فيعمل الشر بلا تفكير ولا روية، وذلك هو الرين أو الطبع أو القفل. [سورة المطففين (83) : الآيات 15 الى 36] كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28) إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 838 المفردات: لَمَحْجُوبُونَ: لممنوعون من رؤية ربهم. لَصالُوا الْجَحِيمِ: لداخلوها وذائقو حرها. الْأَبْرارِ: جمع بر ضد الفاجر. عِلِّيِّينَ: علم لديوان ضخم سجل فيه عمل الأبرار الصالحين من الثقلين. يَشْهَدُهُ: من الشهود وهو الحضور، والمراد أنهم يحافظون عليه، أو من الشهادة. الْأَرائِكِ: جمع أريكة وهي السرير عليه الكلة. نَضْرَةَ النَّعِيمِ: بهجته. رَحِيقٍ: جيد الخمر. مَخْتُومٍ: ختمت أوانيه تكريما لشاربيها. مِزاجُهُ: ما يخلط به ذلك الشراب. تَسْنِيمٍ: عين مرتفعة حسا ومعنى. الْمُقَرَّبُونَ: هم السابقون، والأبرار: هم أصحاب اليمين. فَكِهِينَ فرحين مسرورين للاستهزاء بالمؤمنين. لَضالُّونَ: منحرفون عن الحق وعن الطريق السوى. حافِظِينَ لأعمالهم شاهدين عليها. ثُوِّبَ الْكُفَّارُ: جوزوا على عملهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 839 المعنى: كان الكفار لسوء تفكيرهم، وغرورهم بأنفسهم يقولون: إن كان محمد صادقا في أن هناك بعثا، فنحن في المنزلة العليا والدرجة الرفيعة، وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ «1» . وهنا بين الله للكفار الفجار منزلتهم يوم القيامة فقال: إنهم عند ربهم يومها لمحجوبون عن رؤيته، ولممنوعون عن خيره وبره، ثم إنهم يومها لداخلون جهنم، وذائقون حرها وجحيمها، ثم يقال لهم من قبل الملائكة تأنيبا وتوبيخا: هذا هو العذاب والجزاء الحق الذي كنتم إذا سمعتم خبره تكذبون به وتكفرون، وها أنتم أولاء قد عاينتموه بأنفسكم بل وذقتم مره! «كلا» ردع لهم عما هم فيه ليعقب بوعد الأبرار كما عقب سابقا بوعيد الفجار، إن كتاب الأبرار لفي عليين، نعم كتاب حسناتهم مسجل في ديوان عمل الأبرار. فسيجازون على عملهم أحسن الجزاء، والعرب تصف ما يدل على السرور والسعادة بالعلو والطهارة والفسحة والوجاهة، كما أن وصف الشيء بالسفل والضيق والظلمة يدل على الحزن والكآبة لذلك كان كتاب الأبرار في عليين، وكتاب الفجار في سجين، والقرآن عرفنا بكتاب الأبرار حيث قال: وما أدراك ما عليون؟ هو كتاب مرقوم معلوم، بين الكتابة واضح الرسوم، يشهده المقربون من الملائكة ويحافظون عليه، أو يشهدون على ما فيه، هذا حال كتاب الأبرار فما حالهم هم؟ إن الأبرار لفي نعيم على السرر يجلسون وينظرون إلى ما أعد لهم، وإلى ما أعد للفجار المذنبين، تعرف في وجوههم نضرة النعيم ورونقه، يسقون من خمر خالص جيد لا غول فيه، ولا هم عنها ينزفون، قد ختم باسمهم إكراما لهم، ختامه مسك، وفي ذلك فليتبار المتبارون في تخليصه، وليتنافس المتنافسون في الحصول عليه. وشراب المؤمنين في الجنة خمر جيدة قد مزجت بعين يقال لها تسنيم لأنها عين مرتفعة حسا ومعنى: أعنى عينا يشرب منها المقربون السابقون، فهي معدة ليكرم الله بها أولياءه وأحبابه.   (1) - سورة فصلت آية 50. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 840 وهذه بعض سيئات الفجار لأنهم فجار، ولذلك أخرها إلى هنا بعد بيان جزاء الفريقين في الآخرة.. إن الذين أجرموا واعتادوا فعل الشنيع من الأعمال كانوا يضحكون من الذين آمنوا، ويستهزئون بهم، وإذا مروا بهم يتغامزون، ويشيرون إليهم استهزاء بهم، وإذا انقلبوا إلى أهلهم بعد هذا انقلبوا فكهين مسرورين، لأنهم آذوا المسلمين واستهزءوا بهم، وكانوا إذا رأوهم قالوا: إن هؤلاء المؤمنين لقوم ضالون عن الطريق السوى طريق آبائهم وأجدادهم، وهل أرسل أولئك الفجار حافظين وشاهدين على المسلمين؟ لا، إنهم ما أرسلوا عليهم حافظين. ولكن أيترك ربك عباده وأولياءه بدون جزاء؟ إنه جازى كلا على عمله فجازى الكفار بجهنم وسعيرها، وجازى المؤمنين بالجنة ونعيمها، فاليوم الذي فيه المؤمنون ينعمون بجنة الخلد، والكفار يصلون فيه بنار الجحيم: في هذا اليوم يضحك المؤمنون من الكفار لا ضحك الجاهل المغرور بل ضحك الموفق المسرور، ضحك من وصل إلى نتيجة عمله بعد طول المشقة، وبعد المسافة ضحك من انكشف له الحق فسر له لأنه حق، وهم على الأرائك ينظرون صنع الله وفعله المحكم الدقيق. هل جوزي الكفار على أعمالهم؟ نعم، هل جوزي المسلمون على أفعالهم؟ نعم وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 841 سورة الانشقاق وهي مكية. وآياتها خمس وعشرون آية، تتضمن ذكر مقدمات يوم القيامة، ونهاية كل إنسان، وما يكون عليه يوم القيامة، ثم القسم بالشفق والليل والقمر لتكونن في حياة ثانية تكون كالأولى، ثم الإنكار عليهم لعدم إيمانهم، وتكذيبهم. [سورة الانشقاق (84) : الآيات 1 الى 25] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَيَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15) فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 842 المفردات: أَذِنَتْ: استمعت لأمر ربها وامتثلت له. وَحُقَّتْ أى: وحق لها أن تمتثل. مُدَّتْ: اتسعت رقعتها. وَتَخَلَّتْ: لم يبق في باطنها شيء. كادِحٌ: مجد ساع في طلب الدنيا. يَسِيراً: سهلا. وَيَنْقَلِبُ: يرجع. أَهْلِهِ: إخوانه من المسلمين. ثُبُوراً: هلاكا وموتا، والمراد أنه يقول: وا ثبوراه وا هلاكاه. وَيَصْلى: يقاسى ويصطلى. سَعِيراً: حر جهنم. فِي أَهْلِهِ: في الدنيا. مَسْرُوراً: فرحا فرح بطر وترف. يَحُورَ: يرجع إلى الله. بَلى: نعم جواب لما بعد النفي، أى: نعم يرجع. بِالشَّفَقِ: الأثر الباقي من الشمس في الأفق بعد الغروب، وقيل: هو النهار، والمادة تدل على الرقة. وَما وَسَقَ أى: وما جمع. اتَّسَقَ: اجتمع وتكامل وتم واستدار. يُوعُونَ: يحفظونه في قلوبهم من شرك أو معصية. غَيْرُ مَمْنُونٍ: غير مقطوع. المعنى: إذا أراد الله ذهاب هذا العالم، وقيام الساعة، اختل نظام الدنيا، بأى صورة كانت، وعلى أى شكل يريده الله، فترى عند ذلك أن السماء تتشقق وتنفطر، ويعلو الجو غمام وأى غمام؟ وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ عند ذلك ترى أن السماء قد استجابت لأمر ربها وانقادت له، وحق لها ذلك الامتثال والاستماع لأمره، وكيف لا يكون ذلك وهي في قبضته وتحت سلطانه. وهو الذي يمسك السماء والأرض أن تزولا، عند ذلك تكور الشمس، وتتناثر النجوم والكواكب، وأما الأرض فلا يمكن أن تبقى على حالها بل نراها قد اندكت جبالها، واتسعت سهولها وامتد جرمها، وألقت ما في باطنها من الكنوز والأجساد والعظام البالية، وتخلت عن كل ذلك، ولم يبق في باطنها شيء وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ وإذا السماء انشقت، وإذا الأرض مدت، وألقت ما في باطنها وتخلت عن كل شيء. يكون ماذا؟ يكون ما شاء الله مما ذكره في غير موضع من القرآن، ويقال: إن الجواب محذوف دل عليه قوله تعالى: يا أَيُّهَا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 843 الْإِنْسانُ وكأن المعنى: إذا السماء انشقت، وإذا الأرض مدت ... إلخ. كان البعث ولاقى الإنسان ربه فوفاه حسابه. يا أيها الإنسان المجد في سعيه، النشيط في عمله السريع في تحصيل معاشه وكسبه: أنت تكدح في طلب الدنيا، حتى استبطأت حركة الزمن، وكم تمنيت نهاية اليوم أو الشهر أو العام لتحصيل على طلبك، أيها الإنسان ما أجهلك!! ألم تعلم بأن هذا كله من عمرك، وأنت تكدح صائرا إلى ربك، وتجد وأصلا إلى نهايتك وموتك: يسر المرء ما ذهب الليالى ... وكان ذهابهن له ذهابا فأنت تجد في السير إلى ربك فتلاقى عملك هناك أوضح من الشمس فاعمل في دنياك على هذا الأساس. أيها الإنسان: ستلاقى ربك يوم القيامة، وستلاقى عملك يوم يقوم الناس للعرض على الملك الجبار يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ «1» وهناك يظهر الحق، ويعرف كل عمله، فأما من أوتى كتابه بيمينه، وهم الصالحون المقربون فسوف يحاسبون حسابا يسيرا سهلا، ويرجعون إلى إخوانهم من المؤمنين فرحين مسرورين لأنهم لاقوا جزاءهم. وَجَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً «2» وأما من أوتى كتابه بشماله أو من وراء ظهره وهم الكفار الفجار، فسوف يحاسبون حسابا عسيرا، ويدعون من شدة ما بهم قائلين: ووا ثبوراه، وا هلاكاه وسيصلون سعيرا ويقاسون حر جهنم الشديد القاسي، فإيتاء الكتاب باليمين أو بالشمال. أو من وراء الظهر تمثيل وتصوير لحالة المطلع على أعماله المستبشر المبتهج بها، أو لحالة المبتئس العبوس الحزين بسببها: والعرب تستعير جهة اليمين للخير وجهة اليسار للشر. وما سبب عذاب هؤلاء؟ إنه كان في أهله، أى: في الدنيا فرحا مسرورا فرح بطر أو أشر، ولما كان فيه من ترف وحب للشهوة، واستمتاع باللذة، والذي دفعه إلى هذا كله ظنه أنه لن يرجع إلى ربه للحساب، فيحسب ما اقترفته يداه، بل سيرجع إلى ربه فيحاسبه حسابا كاملا، إن ربه كان به بصيرا، وعليما خبيرا، ومقتضى علمه بالمخلوق علما كاملا: أنه لا يتركه سدى، بل يجازى المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته   (1) - سورة الحاقة آية 18. [ ..... ] (2) - سورة الإنسان آية 12. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 844 إذ مقتضى العلم الكامل بالخلق، والعدل التام في الحكم أن الله لا يترك الخلق بلا حساب وثواب وجزاء، إذ تركهم لا ينشأ إلا من أحد أمرين: إما لأنه لا يعرف حالهم- وحاشا لله أن يكون كذلك- وهو الذي خلقهم، وإما لأنه غير عادل في حكمه وهو مستحيل عليه، فظهر من هذا حسن وجلال قوله تعالى: بلى- نعم سيرجع إلى ربه للحساب- إن ربه كان به بصيرا. فلا أقسم بالشفق وحمرته، ولا بالليل وظلمته، ولا بالليل وما جمع من خلق كان منتشرا في النهار، ثم أوى إليه فجمعه تحت جناحيه، وما جمع من أمهات إلى أفراخها ومن سائمات إلى حظائرها، ومن نجوم اجتمعت في السماء، وبالجملة ففي النهار الحركة والانتقال وفي الليل المأوى والسكون، وأقسم بالقمر إذا اتسق، واجتمع وتكامل، واستدار وأنار الكون بنوره الكامل ليلة البدر. لا أقسم بهذه الأشياء: لتركبن طبقا عن طبق، لظهوره ووضوحه، فهو غير محتاج إلى قسم، أو المعنى: لا أقسم بهذه على إثبات البعث فإنه أمر جليل الشأن عظيم الخطر، وهذه الأشياء لا يخشى منها أذى، ولا يخاف منها ضرر. أو: لا أقسم بهذه الأشياء لتعظيمها، فإنها عظيمة في نفسها من غير قسم، وأيا كان فهو أسلوب للقسم مستعمل في لسان العرب. وقد أقسم الحق بهذه الأشياء لفتا لأنظار الناس إليها، وأنها أثر من آثار القدرة الإلهية، على أن في صفاتها ما ينفى كونها آلهة تعبد. أقسم لتركبن طبقا على طبق، ولتكونن في حالة شبيهة بتلك الحال ومطابقة لها تماما وهي الحياة الثانية، أو لتركبن أيها الناس حالا بعد حال، وأمرا بعد أمر ثم يستقر بكم الأمر إلى الواحد الأحد فيجازى كلا على عمله. ألا ترى أن القادر على تغيير الأجرام العلوية، والأفلاك السماوية من حال إلى حال قادر على البعث وإحياء الإنسان بعد مماته؟ فما لهم لا يؤمنون؟ أى شيء ثبت لهم حتى كفروا بالله وباليوم الآخر؟ مع أن الشواهد كلها ناطقة على ذلك، وأى شيء ثبت لهم حتى جعلهم إذا قرئ عليهم القرآن لا يسجدون لله شكرا، ولا يسجدون له إعجازا، بل الذين كفروا يكذبون بلا حجة ولا برهان، والله أعلم بما يحفظونه في قلوبهم من كفر وحسد وبغضاء، إذا كان الأمر كذلك فبشرهم بعذاب أليم، لكن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم أجر غير مقطوع. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 845 سورة البروج وهي مكية. وعدد آياتها اثنتان وعشرون آية، وهذه السورة جاءت تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم وللمؤمنين وتشجيعا لهم على تحملهم أذى قومهم، ثم ضربت لهم الأمثال بأصحاب الأخدود، وفرعون وثمود. وتخلل ذلك ما به تقر نفوس المؤمنين ببيان نهاية الكفار، ونهاية المؤمنين، على أنها لم تغفل ذكر القرآن في نهايتها. [سورة البروج (85) : الآيات 1 الى 22] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16) هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 846 المفردات: الْبُرُوجِ: جمع برج، وهو في أساس اللغة يطلق على الأمر الظاهر. ثم استعمل في القصر العظيم، وعلى ذلك فالسماء ذات البروج أى: النجوم، وقيل المراد بالبروج هنا: منازل الكواكب. وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ: يوم القيامة. الْأُخْدُودِ: الشق في الأرض يحفر مستطيلا، وجمعه أخاديد. شُهُودٌ أى: حضور عذاب المؤمنين. وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ: وما عابوا عليهم. فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ: ابتلوهم بالإحراق. بَطْشَ رَبِّكَ: أخذه الكفار. الْوَدُودُ: المحب للطائعين. المعنى: أقسم الحق- تبارك وتعالى- بالسماء ذات النجوم التي كانت ضياء وزينة، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها المسافرون، وهي مع ذلك أبنية فخمة عظيمة تدل على قدرة صانعها الحكيم، وقيل المراد بالبروج: منازل الكواكب في السماء التي ينشأ عنها الفصول الأربعة، وما فيها من حرارة وبرودة، والتي ينشأ عنها عدد السنين والحساب، وتفصيل كل شيء في الوجود، وأقسم الحق- تبارك وتعالى- باليوم الموعود الذي وعدنا الله به، وهو يوم القيامة، وأقسم كذلك بكل الخلائق والعوالم الشاهد منها والمشهود، فله- سبحانه- في كل شيء دلالة على وحدانيته، فكل شيء شاهد بهذا المعنى، على أن كل شيء في الكون مشهود للناس، والناس مختلفون في الشهادة، أى: الرؤية، أو الفكرة والتأمل. أقسم الحق- تبارك وتعالى- بهذه الأشياء: لقد ابتلى الله المؤمنين والمؤمنات قديما بالعذاب والفتنة والبلاء من أعدائهم الكفار، ولكنهم صبروا على ما أوذوا واحتسبوا ذلك عند الله، فكان لهم الأجر الكبير، ولأعدائهم عذاب جهنم ولهم فيها عذاب الحريق، فاصبروا أيها المؤمنون، وسيعوضكم الله خيرا، ولقد ضرب الله قصة أصحاب الأخدود هنا مثلا، ودليلا على جواب القسم المقدر وهو ابتلاء المؤمنين. قتل أصحاب الأخدود: أصحاب النار ذات الوقود، النار التي أعدوها ليصلاها المؤمنون الموحدون. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 847 أصحاب الأخدود جماعة من الكفار كانوا في القديم، ويروى أنهم من أمراء اليمن أو زعماء اليهود، وقد غاظهم إيمان المؤمنين المعاصرين لهم، وشق عليهم ذلك، فانتقموا منهم انتقاما شديدا، وشقوا لهم أخدودا في الأرض، أضرموا فيه النيران ذات الوقود الشديد اللهب والدخان وألقوا فيها كل ما يضرمها ويؤججها ثم جاءوا بالمؤمنين وألقوهم في النار ذات الوقود!! وقد كانوا قساة القلوب غلاظ الأكباد، فجلسوا يضحكون فرحين بإلقاء المؤمنين في النار، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين من كبائر الإثم وفظائع الجرم شهود وحضور! وما فعل هؤلاء المؤمنون حتى يلقوا في النار؟ لم يفعلوا شيئا أبدا، وما نقموا، ولا عابوا عليهم إلا أنهم آمنوا بالله العزيز الحميد! يا سبحان الله ما كان سببا في السعادة والخير، يكون سببا في القتل والإحراق والتعذيب بالنيران! ولكن تلك طبيعة البشر قديما وحديثا، وهذا صراع الحق والباطل، وتلك هي البوتقة التي يصهر فيها الإيمان ويصفى. هؤلاء المؤمنون آمنوا بالله العزيز الذي لا يعجزه شيء، الحميد في السموات والأرض، وإن كفر به بعض خلقه، الذي له ملك السموات والأرض، وهو على كل شيء شهيد، فهل يترك المؤمنين نهبا للكفار والمشركين يفعلون معهم الأباطيل ويذيقونهم العذاب ألوانا؟! لن يكون هذا أبدا. إن الذين فتنوا المؤمنين بالتعذيب ثم لم يتوبوا- فإن من يفعل ذلك لن يتوب- فلهم عذاب جهنم، ولهم عذاب الحريق، والله من ورائهم محيط، وهو على كل شيء قدير، أما المؤمنون العاملون فلهم جنات تجرى من تحتها الأنهار، وذلك هو الفوز العظيم، ولا عجب في هذا كله فربك بطشه بالكفار شديد، وهو القادر على كل شيء الذي يبدئ الخلق ثم يعيد، وهو الغفور لمن تاب الودود لمن أطاع، صاحب الملك والسلطان بيده الأمر وهو الفعال لما يريد. وهذه أمثلة أخرى تؤكد أن العاقبة للصابرين، وأن الله مع المؤمنين، فاحذروا يا آل مكة تلك العاقبة، وهذه النتيجة، واحذروا أيها الطغاة الظالمون نتيجة أعمالكم! هل بلغك قصص أولئك الجنود، أصحاب القوة والبأس الشديد، مثل فرعون وجنوده وقبيلة عاد وثمود، وكانوا أكثر منكم أموالا وأولادا، فلما كذبوا بالرسل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 848 وكفروا بالبعث، وآذوا رسلهم، أخذهم ربك أخذ عزيز مقتدر، أخذهم ربك بظلمهم وما ربك بظلام للعبيد. لو نظر العاقل في تلك الآيات يسوقها الحق للاعتبار والاتعاظ لاهتدى إلى سنة الله في خلقه، وأنها لا تتحول ولا تتغير، ولكن كفار مكة لم يكن فيهم شيء من ذلك بل كانوا في كفر وتكذيب، وكأن الكفر والتكذيب إطار وهم داخلون فيه لا يتجاوزونه. والله من ورائهم محيط، وهو على كل شيء قدير، فهم لا يعجزونه في الأرض ولا في السماء. وهل لهؤلاء عذر في تكذيبهم وعدم إيمانهم؟ لا. بل هو قرآن مجيد: قرآن كريم، قد رفع الله قدره، وشرف مكانته، وجعله كاملا في كل شيء، وهو في لوح محفوظ، ولذلك هم في ضلال ولا عذر لهم. ويقول الشيخ محمد عبده- رحمه الله- في تفسيره: واللوح المحفوظ شيء أخبر الله به وأنه أودعه كتابه، ولم يعرفنا حقيقته، فعلينا أن نؤمن بأنه شيء موجود، وأن الله قد حفظ فيه كتابه إيمانا بالغيب. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 849 سورة الطارق وهي مكية. وعدد آياتها سبع عشرة آية، وقد تكلمت على إثبات أن للنفس حافظا يحفظها وهو الله، والدليل على ذلك، ثم على إثبات البعث، ثم ختمت بالكلام على القرآن، وكيد الكفار والمشركين ويتبع ذلك تصديق النبي صلّى الله عليه وسلّم. [سورة الطارق (86) : الآيات 1 الى 17] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (1) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (10) وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15) وَأَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17) المفردات: الطَّارِقِ: كل ما جاءك ليلا فهو طارق، والمراد به النجم. الثَّاقِبُ: الذي يثقب حجب الظلام بضوئه. لَمَّا: قرئت مشددة بمعنى إلا، وإن على ذلك نافية أى: ما كل نفس إلا عليها حافظ، وقرئت لما بالتخفيف فتكون ما زائدة في الإعراب والمراد بالقراءتين واحد. دافِقٍ دفقت الماء أدفقه: إذا صببته، والمراد ماء مدفوق أى: منصب. الصُّلْبِ: عظام الظهر، أى: فقاره. وَالتَّرائِبِ: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 850 جمع تريبة، وهي عظام الصدر التي يوضع عليها القلادة. تُبْلَى السَّرائِرُ المراد: تظهر السرائر وتعلم المكنونات. ذاتِ الرَّجْعِ: ذات الماء أو المطر. الصَّدْعِ: هو الشق، وقيل: هو النبات الذي يصدع الأرض، أى: يشقها. فَصْلٌ: فارق بين الحلال والحرام. يَكِيدُونَ كَيْداً الكيد: المكر، وهو إذا أسند إلى الله لا يعقل أن يكون على حقيقته وإنما يكون المقصود منه الوصول بالإنسان إلى جزاء عمله من حيث لا يشعر. فَمَهِّلِ: فتأن عليهم وتريث. رُوَيْداً: إمهالا يسيرا. المعنى: أقسم الحق- تبارك وتعالى- بالسماء وما فيها من أفلاك وأجرام لا يعلمها إلا هو، وبالطارق الذي يطرق ليلا، وهذا توجيه ولفت لأنظار الناس إلى عالم السماء وما فيها. ولكنا لم نعرف الطارق فأراد الحق أن يبينه فقال: وما أدراك ما الطارق؟ وهذا أسلوب تفخيم للطارق، كأنه لفرط فخامته لا يحيط به وصف، إلا ما سيذكره الله عنه، هو النجم الثاقب الذي يثقب الظلام بشعاعه اللماع، أقسم بالنجم لما له من أثر كبير في الهداية الحسية والمعنوية والشئون الحيوية الأخرى. والله- جل شأنه- يقسم على أن كل نفس من النفوس عليها رقيب وحفيظ، وليست في النفوس نفس تترك هملا بلا حساب ولا رقابة، ومن هو الحفيظ؟ هو الله فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ «1» وقيل: هو الملك الموكل بالإنسان. فإذا كنت في شك من ذلك فلينظر الإنسان إلى نفسه وكيف خلق؟! إنه خلق من ماء دافق: ماء مصبوب، يخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة، وهذا الماء السائل كيف يتكون منه خلق سوى؟ وإنسان كامل في كل شيء! لا يعقل أن يكون ذلك بمحض الصدفة أو بفعل الطبيعة، وإلا لكانت كل الخلائق سواء. هذا الخلق بهذا الشكل، وعلى تلك الصورة دليل على أن لكل نفس رقيبا وحفيظا يراقب ذلك كله ويدبره، وينقله من حال إلى حال، ولا يعقل أن تترك تلك النفوس سدى بلا ثواب أو عقاب، الإنسان خلق من ماء دافق خارج من صلب الرجل وترائب   (1) - سورة يوسف آية 64. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 851 المرأة وهذا الماء من الدم، والدم من الغذاء، والغذاء من النبات، ثم هذا الماء لا يصلح إلا إذا كان الأب مع الأم على وضع خاص. فمن الذي جمع كل هذا؟ أظن أن القادر على ذلك قادر على إرجاع الإنسان وإحيائه يوم تكشف السرائر، وتظهر مكنونات الضمائر، والإنسان عند ذلك ما له من قوة يدفع بها العذاب أو يجلب بها الثواب، وليس له ولى ولا ناصر. والسماء ذات المطر الذي يحيى الموات، وينبت النبات، والأرض ذات الصدع والشق، أقسم الله بهذا إنه- أى: القرآن- لقول فصل، يفرق بين الحق والباطل، وما هو بالهزل، إنه قول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين، ليس بالشعر ولا بالسحر وإنما هو تنزيل رب العالمين، ذلك هو القرآن المجيد. أتراه تكلم عن الحفيظ- سبحانه وتعالى- ثم على البعث وتلك دعامتان، أما الثالثة فهي القرآن ومن أنزل عليه. ثم ختم السورة بتهديد الكفار والمشركين تهديدا يهد كيانهم مثبتا لهم أنهم يكيدون ويمكرون، ولكن الله يمهلهم ولا يهملهم ثم يأتى عذابه من حيث لا يشعرون. إذا كان الأمر كذلك فمهل الكافرين يا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ولا تستعجل لهم: إن عذاب ربك واقع بهم، وأمهلهم إمهالا يسيرا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 852 سورة الأعلى وهي مكية، وعدد آياتها تسع عشرة آية، وتشمل الأمر بالتسبيح والتنزيه، ثم الأمر بالتذكير وبيان أن الفلاح لمن تطهر من دنس المعاصي، وخلص من حب الدنيا. [سورة الأعلى (87) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (19) المفردات: سَبِّحِ التسبيح: تنزيه وتمجيد الله عما لا يليق. فَسَوَّى أى: جعله متساويا في الإحكام والإتقان. قَدَّرَ: جعل الأشياء مقدرة على مقادير مخصوصة. فَهَدى: فوجه كل كائن إلى وجهته. غُثاءً: باليا هشيما. أَحْوى: الجزء: 3 ¦ الصفحة: 853 مائلا إلى السواد. وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى: نوفقك إلى الخير. فَذَكِّرْ: بلغهم رسالتك وعظهم. يَخْشى: يخاف ربه. َْشْقَى الشقي: الكافر. تَزَكَّى: تطهر. فَصَلَّى: خشع وخضع لله. تُؤْثِرُونَ: تفضلون. الصُّحُفِ الْأُولى: الكتب التي أنزلت قبل القرآن. المعنى: سبح اسم ربك، ونزهه من كل نقص، واسم به عما لا يليق به من شبه المخلوقات أو اتخاذ الشركاء والأنصاب، والاسم: ما به يعرف الشيء، والله يعرف بصفاته، أما ذاته المقدسة فتعالت عن الأوهام والعقول، فالبشر يعرفون الله بأنه هو العالم القادر المريد الواحد الأحد، الفرد الصمد المنزه عن كل نقص، المتعالي عن الشريك والصاحبة والولد، جل شأنه وتقدس اسمه، وهذا الاسم- أى: الصفات التي بها يعرف- هو الذي وصف بأنه ذو الجلال والإكرام، وهو الذي يجب علينا تنزيهه وتقديسه لأنه هو الذي خلق الخلق، فسواه ووضعه على نظام محكم متقن، لا تفاوت فيه ولا خلل، حتى ما في هذا الكون من سموم وآفات وجراثيم، كل ذلك لكمال النظام وتمام العمل وحسن التقدير، وهو الذي قدر لكل كائن ما ينفعه وما يصلحه، فهداه إليه وأرشده إلى الانتفاع به، أرشده إليه بطبعه وما أودع فيه من غرائز واتجاهات، وهو الذي أخرج المرعى، وأنبت النبات، الذي هو الغذاء للإنسان والحيوان، ثم بعد أن أنبت النبات جعله هشيما باليا مائلا إلى السواد ليكون غذاء للحيوان، وفي هذا إشارة إلى جواز الحياة بعد الموت، وهو الذي تفضل فأنعم على البشر كله بإنزال القرآن، على النبي صلّى الله عليه وسلّم ووعده بأنه سيقرئه القرآن وأنه لا ينساه إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ إلا إذا شاء الله فالكل منه وإليه، وخاضع لأمره إنه يعلم الجهر والإعلان وما هو أخفى من الخفاء، وهو يوفقك للشريعة السمحة السهلة التي لا يصعب قبولها وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى. إذا كان الأمر كما ذكر من وجوب تنزيه الحق- تبارك وتعالى- عن كل نقص لأنه خلق الخلق فسواه، وقدر له كل ما يصلح به وهداه إليه بطبعه وغريزته، وأنعم بالنبات أخضره ويابسه، وأنزل القرآن هدى للناس، ووعد بحفظه، وأنه يسر لنا شريعة سهلة سمحة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 854 إذا كان الأمر كذلك فذكر يا محمد الناس بالقرآن وعظهم واعلم أن الناس نوعان فريق تنفعه الموعظة، وفريق لا تنفعه، وسيذكر بها ويتعظ من في قلبه نوع من الخشية لله، والإيمان بالغيب، وسيتجنبها الشقي المغلق القلب الذي لا يؤمن بالله ولا بالغيب. وهذا سيصلى نارا ذات لهب، النار الكبرى التي تكون يوم القيامة: أما نار الدنيا فمهما كانت فهي صغرى! ثم هو فيها لا يموت بل يظل معذبا عذابا شديدا ولا هو فيها يحيى حياة سعيدة: حياة يحبها. ولا عجب في ذلك، قد أفلح من تطهر من دنس المعاصي ورجس عبادة الهوى والأصنام قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ «1» قد أفلح من زكى نفسه، وقد خاب من دساها ودنسها بالمعاصي، قد أفلح الذي طهر نفسه، وذكر اسم ربه فخشع له وخضع، ذكر ربه فوجل قلبه، واضطربت نفسه، وفاضت عينه، فقام بالعمل الصالح الذي ينفعه بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا وهذا إشارة إلى الداء الكامن، والسبب الحقيقي في معصية العاصي وكفر الكافر، والسبب هو إيثار الدنيا على الآخرة، وحب العاجلة الفانية، فحسب الدنيا رأس كل خطيئة حبها، بمعنى أنك تعبدها وتتفانى في خدمتها، مع أن الآخرة خير بلا شك منها، وهي أبقى لك، فلن تأخذ من دنياك إلا ما قدمته يداك من صالح الأعمال، والآخرة خير وأبقى. ولا تظنوا أن محمدا أتى بالجديد. لا. إن هذا- الشرع المحمدي- لفي الكتب الأولى، كتب إبراهيم وموسى، إذ الكل متفق على توحيد الله، وتنزيهه وإثبات البعث وتصديق الرسل.   (1) - سورة المؤمنون الآيات 1- 3. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 855 سورة الغاشية وهي مكية. وآياتها ست وعشرون آية، وقد تكلمت عن الغاشية وأن الناس بها فريقان: فريق في الجنة وفريق في السعير، ثم لفت الأنظار إلى بعض الآثار، ثم مرت بالنبي وتذكيره مع بيان أن المرجع إلى الله. [سورة الغاشية (88) : الآيات 1 الى 26] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16) أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 856 المفردات: الْغاشِيَةِ المراد: يوم القيامة لأنه يغشى الناس بعذاب أليم. خاشِعَةٌ: ذليلة. تَصْلى ناراً: تقاسى حرها. آنِيَةٍ: شديدة الحرارة. ضَرِيعٍ: شائك لا خير فيه. لاغِيَةً: لغو لا فائدة فيه. عَيْنٌ جارِيَةٌ: ينبوع لا ينقطع. سُرُرٌ: جمع سرير. وَأَكْوابٌ: جمع كوب وهو ما نسميه الآن «كباية» . وَنَمارِقُ: جمع نمرقة وهي الوسادة، أو ما نسميه الآن مسندا أو مخدة. وَزَرابِيُّ: جمع زربي وهو البساط، وأصله: النبات إذا كانت فيه حمرة وصفرة وخضرة. بِمُصَيْطِرٍ: بمتسلط. إِيابَهُمْ: رجوعهم. المعنى: هل سمعت قصة ذلك اليوم العظيم «1» ؟! إنه يوم يغشى الناس بالعذاب، ويغشى فيه وجوههم النار، يوم يفترق فيه الناس إلى الفريقين، فريق وجوهه يغشاها العذاب خاشعة ذليلة مما رأته من الإهانة والذل وقد كانت في الدنيا تعمل وتتعب، ولكنها لم تأخذ شيئا وَقَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «2» ثم هي تقاسى النار وحرها بما قدمت من سيّئ الأعمال، وهي تسقى من عين شديدة الحرارة، إذا عطشت، حتى إذا خوت بطونهم وأحسوا بالجوع والحرمان جيء لهم بطعام من ضريع، لا يسمن لحما، ولا يدفع جوعا، فلا غناء فيه ولا فائدة. - وقانا الله شرها- فهي فوق ما يتصور العقل، نار وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين. وأما الفريق الثاني، فهو فريق أهل الجنة، وجوه- يومئذ تدخلها ناعمة- ذات بهجة وحسن نادر ناضرة، وهي- أى: أصحابها- لسعيها في الدنيا راضية، فرحة مستبشرة لأنها أدت عملها، وقامت بواجبها، وهي في جنة عالية المكان والوصف أو   (1) هذا استفهام أريد به التقرير ولفت النظر إلى هذا الحديث حتى كأنه الحديث المنفرد في بابه، وقيل: هل بمعنى قد. (2) سورة الفرقان آية 23. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 857 عالية البناء والركن، لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما، بل هو الحديث العذب، والفاكهة الحلوة، التي لا عبث فيها ولا مجون. انظر إلى وصف أهل الجنة بالسرور والرضا عن أعمالهم في الدنيا، وأنهم في جنة مرتفعة، ثم هم لا يسمعون لغوا فيها، كما نرى عند الأغنياء والمترفين، في تلك الجنة العالية عيون لا ينقطع ماؤها ولا ينضب معينها. وفيها سرر مرفوعة قد أعدت للجلوس عليها أو النوم، وفيها أكواب موضوعة لاستخدامها وتناول المشروب بها وفيها نمارق ووسائد قد صفت على الأرائك والمقاعد، وفيها البسط الجميلة المنقوشة كالزرابى المبثوثة، وفي الواقع فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وهم فيها خالدون. ولا عجب في هذا!! أنسوا فلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت «1» إنها خلقت على شكل بديع يدل على أن خالقها عليم بها بصير، أرأيت إلى عنقها وطوله وإلى خفها وحافرها كيف أعد للسير في الصحراء وإلى معدتها وكيف وضعت على شكل يسهل معه حفظ الماء أياما، أو لم ينظروا إلى السماء وما فيها كيف رفعت وعلقت في الهواء مع سرعة دورانها وشدة تجاذبها، أو لم ينظروا إلى الجبال كيف نصبت كالأعلام يهتدى بها السارى، ويلجأ إليها الخائف، ويقصدها المتنزه والمصطاف، أو لم ينظروا إلى الأرض كيف سطحت وبسطت، ومهدت للعيش عليها، أما جمع الإبل والسماء والجبال والأرض في سلك واحد فتلك هي أهم المرئيات عند العربي المخاطب بالقرآن الكريم ألا يدل ذلك كله على أنه قادر على كل شيء، إذا كان الأمر كذلك فذكر يا محمد هؤلاء الناس، واحملهم على النظر في ملكوت الله لعلهم يتفكرون، ولا تأس عليهم، إنما أنت مذكر فقط، لست على قلوبهم مسيطرا، إنما الذي يملك القلوب هو الله وحده، فهو الذي يقدر على إلجائهم إلى الإيمان، ولست عليهم مسلطا إلا من تولى وأعرض فسيسلطك الله عليه: أو المعنى: لست مستوليا عليهم لكن من تولى وأعرض فإن الله معذبه العذاب الأكبر، لأن إليه إيابهم، ثم إن عليه حسابهم.   (1) (كيف) حال مقدم من ضمير خلقت، وجملة (خلقت) : بدل اشتمال من الإبل. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 858 سورة الفجر مكية. وآياتها ثلاثون آية، وقد تضمنت القسم على أن الكفار سيعذبون حتما، كما عذب غيرهم من الأمم السابقة، وبيان الإنسان وطبعه وما جبل عليه في الدنيا، وبيان موقفه يوم القيامة. [سورة الفجر (89) : الآيات 1 الى 14] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْفَجْرِ (1) وَلَيالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14) المفردات: وَالْفَجْرِ: هو الوقت المعلوم الذي ينبلج فيه النور متتابعا ويظهر ليبدد حجب الظلام. وَلَيالٍ عَشْرٍ: هي الليالى الأولى من كل شهر التي يغالب فيها النور الظلام- وهي غير معينة ولذلك نكرت. وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ: الزوج والفرد من تلك الليالى. يَسْرِ أى: يسرى، بمعنى يجيء ويقبل. حِجْرٍ: عقل. بِعادٍ: قبيلة من العرب البائدة كان نبيها هودا، وكانت تسكن الأحقاف جنوبي جزيرة العرب. إِرَمَ: لقب لها. ذاتِ الْعِمادِ: رفيعة العماد، وهذا كناية الجزء: 3 ¦ الصفحة: 859 عن الغنى والبسطة. ثَمُودَ: قبيلة من العرب البائدة كانت تسكن الحجر بين الشام والحجاز وكان نبيها صالحا. جابُوا: قطعوا الصخر ونحتوه. فِرْعَوْنَ: ملك مصر. ذِي الْأَوْتادِ: الأبنية الثابتة ثبوت الوتد- الذي يدق في الأرض. طَغَوْا: تجاوزوا الحد. فَصَبَّ: أنزل عليهم العقوبة. سَوْطَ عَذابٍ أصل السوط: الجلد الذي يضفر ليضرب به، والمراد به العذاب الذي ينزل بهم. لَبِالْمِرْصادِ المرصاد: المكان الذي يقوم فيه الرصد. والرصد من يرصد الأمور ويراقبها ليقف على ما فيها من خير وشر، ويقال للحارس: رصد. المعنى: أقسم الحق- تبارك وتعالى- بالفجر ساعة يظهر فيه الضوء مطاردا للظلام بجحافله، وقت ينفسخ الصبح وإسفاره، لينشق النهار فينتشر الناس والحيوان، والطير والوحوش يبتغى الكل رزقا من عند الله وفضلا، وأقسم كذلك بالليالي العشر من كل شهر، ولا يزال الظلام فيها يغالب القمر وضوءه حتى يغلبه فيسدل على الكون حجبه وأستاره، وأقسم بالشفع من الليالى والوتر منها، وأقسم بالليل بأستاره التي تستر الكون فيختفى النهار، ويظهر الشفق في الأفق، أقسم بهذا كله ليلفت النظر إلى عجائب الكون وآثار قدرة الله لعلهم يتفكرون، أقسم ليقعن الكفار في قبضة القوى القادر، وليعذبهم عذابا شديدا كما عذب غيرهم من الأمم التي كذبت وكفرت، وكان عاقبة أمرها خسرا، وها هي ذي أخبارهم بالإجمال. ألم تر كيف فعل ربك بعاد بعد أن أرسل لها هودا فكذبته وكفرت بالله. وإرم لقبها «1» ، وكانت تسكن الخيام وتتخذ البيوت من الشعر إلا أنها كانت رفيعة العماد، قوية الجناب، لم يكن يضاهيها أحد، ولم يخلق مثلها في البلاد قوة وعددا. وقد ذكر الله أخبار عاد، وثمود، وفرعون، بالتفصيل في سور أخرى كالحاقة وغيرها. أما ثمود فكانوا ينحتون من الجبال بيوتا حالة كونهم فارهين، وكانوا يقطعون الصخر وينحتونه لبناء مساكنهم، وهذه شهادة لهم بقوة العمل وسعة الفكر، وأما فرعون وما أدراك ما فرعون؟ إنه ملك مصر وصاحب الحول والطول الذي كان   (1) هذه إشارة إلى أن (إرم) بدل من عاد وهو ممنوع من الصرف. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 860 يقول: أنا ربكم الأعلى، وكان قومه قد برعوا في فن الهندسة والعمارة حتى بنوا الأهرام وأقاموا التماثيل والمسلات، وما أروع التعبير بقوله: ذِي الْأَوْتادِ فتلك أبنية ثابتة شامخة ثبوت الأوتاد في الأرض، وإذا نظرنا إلى الهرم وجدناه أشبه ما يكون بالوتد المقلوب، هؤلاء جميعا طغوا وبغوا وتجاوزوا الحد في البلاد، ونشأ عن ذلك أنهم أكثروا فيها الفساد، فأنزل الله عليهم من العقوبات والعذاب الدنيوي ما يشبه ضرب السياط المتتابعة المتتالية، وما أدق قوله تعالى: فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ حيث شبه الله ما أوقعه بهم من أنواع المهلكات وأصناف العذاب بضرب السياط الذي يكون في أشد العقوبات والله- جل جلاله- إنما يعذب الأمم جزاء لما كانوا يعملون إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ فهو يجازى المسيء على إساءته، ولا يفوته واحد منهم، ولن يعجزه أحد في الأرض ولا في السماء، فاطمئنوا أيها المسلمون فغدا يلقى كل جزاءه، واحذروا أيها المشركون فهؤلاء كانوا أشد منكم قوة وأكثر حجما. [سورة الفجر (89) : الآيات 15 الى 30] فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26) يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30) الجزء: 3 ¦ الصفحة: 861 المفردات: ابْتَلاهُ: اختبره بما فعله معه. وَنَعَّمَهُ: صيره مكرما يتمتع بالنعم. وَلا تَحَاضُّونَ: لا يحض بعضكم بعضا على إطعام المسكين. التُّراثَ: الميراث. لَمًّا: شديدا. جَمًّا: كثيرا. دُكَّتِ الْأَرْضُ الدك: الدق والهدم، ومنه: اندك سنام البعير: إذا انغرس في ظهره. وَلا يُوثِقُ الوثاق: الشد والربط بالسلاسل والأغلال. الْمُطْمَئِنَّةُ : المستقرة الثابتة المتيقنة بالحق فلا يخالجها فيه شك. المعنى: هذا هو الرب- سبحانه- مع المخلوقين، فإن أردت أن تعرف الإنسان: فأما إذا ما ابتلاه بالخير في الدنيا أصابه الغرور، وقال: إن الله أكرمنى، ومن يكرمه الله في الدنيا فلا يعذبه في الآخرة مهما فعل من المعاصي، وإذا ما ابتلاه بأن ضيق عليه رزقه يقول: ربي أهاننى، ويظن أن من صغرت قيمته عند ربه لم يبال به ولا بعمله فتراه قد وقع في المعاصي وانخرط مع الجبارين، فكأن الغنى والفقر امتحان لا ينجو منه إلا قليل، لم يبتل الله الإنسان بالغنى لكرامته عنده، وإلا لما رأيت كثيرا من الصالحين المقربين فقراء ليس عندهم ما يكفيهم كلا: لم تكن الدنيا دليلا على هذا وذاك، وكان العرب يظنون أنهم على شيء يرضى الله، وكانوا يتوهمون أنهم على دين أبيهم إبراهيم الخليل فرد الله عليهم بأنهم ليسوا على شيء بدليل أنهم لا يكرمون اليتيم بل يأخذون ماله ظلما، ولا يحسنون إليه، ولا يحض بعضهم بعضا على إطعام المساكين، فكرمهم للرياء والسمعة، لا للإنسانية. وهم يأكلون الميراث أكلا بنهم وشدة، ويحبون المال أيا كان حبا شديدا كثيرا، أليس هذا دليلا على أن هؤلاء الكفار المغرورين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة، وأنهم ليسوا على شيء يرضى الله ولا يرضى أحدا من أنبيائه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 862 كلا وألف كلا!! لا ينبغي أن تكونوا كما وصفكم القرآن، ومن كان كذلك فإنه إذا دكت الأرض دكا وقامت القيامة قياما، وجاء ربك- والله أعلم بكيفية المجيء ولكن نؤمن به «1» - والملك ... !! قاموا وأحدقوا بالناس جميعا- وخاصة الكفار- صفوفا صفوفا، وجئ يومئذ بجهنم وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى «2» يوم إذ يحصل هذا فقط يتذكر الإنسان أنه أخطأ وأهمل، وكذب وعصى، ولكن هل ينفعه ذلك؟! لا. وأنى له الذكرى؟! يقول الإنسان الذي عصى في الدنيا: يا ليتني قدمت عملا ينفعني في تلك الحياة الأبدية. وكأنها هي الحياة فقط وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ «3» . فيومئذ لا يعذب عذاب ربك أحد، بل هو الذي يتولى العذاب وحده بلا شريك ولا يوثق أحدا من خلقه غيره، وهذا لأن الأمر يومئذ أمره. هذا شأن الإنسان المادي، وهذا جزاؤه ونهايته في الآخرة. أما الإنسان إذا صفت روحه وسمت عن الماديات، كانت نهايته يوم القيامة سعيدة، ويقال له: يا أيتها النفس المطمئنة الواثقة في الله وفي لقائه، والمستيقنة بنور الحق الذي لا يخالجه شك، أيتها النفس ارجعي إلى ربك، وأحظي بشرف لقائه ورضوانه، ارجعي إلى ربك راضية عن عملك في الدنيا مرضية عنك لأن من كان معها قد رضى عنها، والله قد رضى عنها، وذلك هو الفوز العظيم، فادخلي أيتها النفس في عداد عبادي الصالحين المقربين لأنك عملت عملهم، وادخلى جنتي. والرجوع إلى الله تمثيل لكرامة بعض خلقه عنده وإلا فالله معنا حيث كنا.   (1) وأول الخلف فقالوا: هذا تمثيل لعظمة المولى، أو المراد: جاء أمر ربك. (2) سورة النازعات آية 36. (3) سورة العنكبوت آية 64. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 863 سورة البلد مكية على الصحيح، وآياتها عشرون آية، وهي تتضمن القسم على أن الإنسان في كبد. وأن المغرور يظن أن لن يقدر عليه أحد، ثم بيان بعض نعم الله على الإنسان، ثم دعوته لاقتحام العقبة، مع بيان أصحاب الميمنة، وأصحاب المشأمة. [سورة البلد (90) : الآيات 1 الى 20] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20) المفردات: كَبَدٍ: تعب ومشقة. لُبَداً: كثيرا. وَهَدَيْناهُ: دللناه وبينا له. النَّجْدَيْنِ النجد: الطريق المرتفع، والمراد هنا سبيلا الخير والشر. اقْتَحَمَ اقتحم الدار: دخلها بشدة وصعوبة. الْعَقَبَةَ: الطريق الصعب، والمراد المشاق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 864 التي تصادفك. فَكُّ رَقَبَةٍ: عتقها. ذِي مَسْغَبَةٍ المسغبة: المجاعة، والسغب: الجوع. مَقْرَبَةٍ: قرابة. مَتْرَبَةٍ يقال: ترب فلان: إذا افتقر، أى: أصبحت يده ملتصقة بالتراب. بِالْمَرْحَمَةِ: الرحمة بالناس. مُؤْصَدَةٌ وقرئت موصدة، والمراد: محيطة بهم ومغلقة عليهم. المعنى: ابتدأ الله هذه السورة الكريمة بعبارة تدل على القسم وتأكيده- كما بيناه في سورة القيامة وفي سورة التكوير وفي سورة الانشقاق-: أقسم بهذا البلد، والمراد مكة المكرمة التي جعلت حرما آمنا جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ «1» فيها الكعبة التي هي قبلة المسلمين، وفيها مقام إبراهيم، وفيها ظهور النور المحمدي الذي كان قياما للناس، وأقسم بكل والد وما ولد من إنسان وحيوان ونبات، أقسم بهذا كله على أن الإنسان خلق في تعب ومشقة، ولعلك تسأل ما السر في قوله: وأنت حل بهذا البلد؟ أى مكة، وقد جعل معترضا بين ما أقسم به من هذا البلد والوالد والولد وبين المقسم عليه، فأقول لك: هذا تفخيم لمكة ورفع لشأنها، أى: أقسم بهذا البلد، والحال أن أهلها قد استحلوا إيذاءك وإيلامك- وهذا معنى: وأنت حل، أى: مستحل لهم- فهم لم يرعوا حرمة بلدهم في معاملتك، وفي هذا إيقاظ لضميرهم، وتعنيف لهم على فعلهم مع النبي صلّى الله عليه وسلّم ولعلك تسأل: وما العلاقة بين القسم والمقسم عليه؟ والجواب: أنه جاء تسلية للنبي صلّى الله عليه وسلّم فهو في مكة وقد ناله ما ناله من تعب ومشقة، وهذا المتعب مما يخفف عنه أن يعلم أن أفراد الإنسان كلهم في تعب ومشقة، ولا تنس أن ذكر الوالد والولد مما يبشر أن مكة ستلد ما به تفخر الإنسانية كلها وتعتز: وإن يكن هذا مع تعب ومشقة، وكلنا يعرف ما يلاقي الولد والوالد في ذلك حتى البذرة في الأرض وعند الحصاد. أيحسب «2» الإنسان المغرور بقوته المتباهى بشدته رغم ما هو فيه من تعب ونصب أن لن يقدر عليه أحد؟! وهذا نوع منه، وذاك نوع آخر يقول: أهلكت مالا كثيرا،   (1) سورة المائدة آية 67. (2) هذا الاستفهام للإنكار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 865 وإن كان في الشر، وهذا قول المفتونين بمالهم وغناهم، أيظن أولئك أن الله لم يرهم، إن الله يعلم ما أنفق، ولا يقبل منه إلا الطيب. يقول الشيخ محمد عبده- رحمه الله- في تفسيره: بعد أن أخبر الله- جل شأنه- بأن الإنسان قد خلق في كبد لام الجاهل المغرور على غروره حتى كأنه يظن أن لن يقدر عليه أحد. مع أن ما هو فيه من المكابدة كاف لإيقاظه من غفوته واعترافه بعجزه، وبعد أن وبخ المرائين الذين ينفقون أموالهم طلبا للشهرة وحبا في الأحدوثة مع حسن النية، أراد أن يبين لهؤلاء وأولئك أنه مصدر لأفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق والعقل المميز بين الخير والشر. أما كان الأجدر بالإنسان: وقد خلق الله له العين ليبصر بها، واللسان والشفة ليتكلم وينطق بهما، وهداه إلى طريق الخير والشر بما وهبه من عقل مميز، وبما أرسل له من رسل وبما أنزل عليه من كتب، وترك له بعد ذلك حرية الاختيار، أما كان يجدر به أن يختار سبيل الخير، وينأى بنفسه عن سبيل الشر، ويصعد بها عن الدنايا ويقتحم العقبة التي في طريقه- وللإنسان عقبات من نفسه وشيطانه وهما أدنياه- وذلك بأن يكون جودا لله فيفك الرقبة ويعتقها أو يعمل على ذلك بكل قواه، أو يطعم في المجاعة والشدة يتيما، والقريب أولى، أو مسكينا يده ملصقة بالتراب لا يجد شيئا، ثم كان بعد ذلك من المؤمنين الكاملين الذين يتواصون بالصبر على تحمل المكاره في سبيل الله، ويتواصون أى: يوصى بعضهم بعضا بالرحمة على خلق الله، لا تنس أن السورة تدور حول تسلية النبي ليتحمل أذى قومه. أولئك- الموصوفون بما ذكر- هم أصحاب الميمنة السابقون السعداء في الآخرة، أما من كفر بآيات ربه الكونية والقرآنية فأولئك هم أصحاب المشأمة: أصحاب الشمال الأشقياء الخالدون في جهنم كما يشير إلى ذلك قوله: عليهم نار مطبقة من كل جانب، فلا خلاص لهم منها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 866 سورة الشمس مكية. وآياتها خمس عشرة آية، وهي تتضمن الحث على تزكية النفس، والقسم على أن العذاب واقع على المكذبين لا محالة كما وقع على ثمود قديما. [سورة الشمس (91) : الآيات 1 الى 15] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالشَّمْسِ وَضُحاها (1) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4) وَالسَّماءِ وَما بَناها (5) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (6) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَسُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14) وَلا يَخافُ عُقْباها (15) المفردات: وَضُحاها الضحى: الضوء، أو: هو النهار كله، والأصل فيه أنه انبساط الشمس وامتداد النهار. تَلاها: تبعها واستمد نوره منها. جَلَّاها: كشفها وأظهرها وأتم وضوحها. يَغْشاها: يزيل ضوءها. طَحاها أى: بسطها ووسعها. وَما سَوَّاها: عدلها وكملها بخلق القوى والغرائز التي بها الحياة. فَأَلْهَمَها الإلهام: هو الإفهام أو التمكين والإقدار. فُجُورَها الفجور: هو الجزء: 3 ¦ الصفحة: 867 الإتيان بما يسبب الهلاك والخسران. وَتَقْواها: التقوى دَسَّاها: النقص والإخفاء، ومن سلك طريق الشر والمعصية فقد أنقص نفسه عن مرتبة الكمال. بِطَغْواها: بسبب طغيانها. انْبَعَثَ: أسرع. وَسُقْياها: شربها الخاص بها. فَدَمْدَمَ: أطبق عليهم. فَسَوَّاها أى: سوى عليهم الأرض، أو لم يفرق بين واحد منهم وواحد. المعنى: أقسم الحق- تبارك وتعالى- بالشمس على أنها كوكب سيار مع ضخامتها وكبر حجمها وقوة ضوئها، وبضحاها، أى: ضوئها وحرها، وهما مصدر الحياة، ومبعث الحركة، ومنبع نور الكون في النهار والليل، وأقسم بالقمر إذا تلاها في ارتباط مصالح الناس به، وتبيين المواقيت، وإضاءة الكون، ومن هنا كان حساب السنين إما بالسنة الشمسية أو بالسنة القمرية، والقمر يتلو الشمس ولأنه يستمد نوره منها، والغريب أن هذا الرأى لبعض العلماء القدامى، وجاء العلم مؤيدا له، وأقسم بالنهار إذا جلاها، أى: أظهر الشمس وأتم نورها، والنهار من الشمس، وكلما كان أجلى كانت الشمس كذلك لأن قوة الأثر تدل على قوة المؤثر فصح بهذا قوله- جل شأنه-: وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها ترى أن الله أقسم بالضوء الذي يعم الكون عن طريق مباشر كما في الشمس أو عن طريق غير مباشر كما في القمر، وبالنهار الذي هو زمانه، ثم بعد ذلك أقسم بالليل إذا يغشى الشمس ويستر ضوءها عنا فالنهار يظهرها، والليل يسترها، فسبحان من خلق هذا، وإذا كانت الشمس يجليها النهار ويسترها الليل هل يعقل أن تعبد وتكون إلها؟! وأقسم بالسماء وعوالمها وقد بناها الله وأحكم رباطها، وقوى جاذبيتها فلا ترى فيها خللا ولا عوجا لأنها صنعة الحكيم القادر. وأقسم بالأرض وما طحاها، أى: بسطها في نظر العين ووسعها ليعيش عليها الخلق، وأقسم بالنفس «1» والذي سواها وأحكم   (1) اختلف العلماء في (ما) هذه، فقيل: مصدرية، والأحسن أنها موصولة، والمراد الوصف لا الذات، ولذا حسن التعبير (بما) دون (من) . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 868 أمرها ومنحها القوى والغرائز التي تستكمل بها الحياة، فترتب على ذلك أن خلق لها عقلا يميز بين الخير والشر وذلك من تمام التسوية، وأقدرها على فعل المعصية التي تهلكها والخير الذي ينجيها ويقيها من السوء، قد أفلح من زكاها ونماها وأعلاها. وقد خاب وخسر من دساها حتى جعلها في عداد نفوس الحيوانات. فإن الإنسان يرتفع عن الحيوان بتحكم العقل والسمو بالنفس عن مزالق الشهوات، أما إذا انحط إلى المعاصي وحكم الشهوة في نفسه كان هو والحيوان سواء. ويصدق عليه: أنه دسى نفسه وأنقص مرتبتها وجعلها في عداد نفوس الحيوانات التي تحكمها شهوتها لا عقلها. أقسم الله بذلك كله والمقسم عليه محذوف لتذهب فيه النفس إلى كل مذهب، وتقديره: لتبعثن، أو ليحاسبن المسيء على إساءته، والمحسن على إحسانه، وربما كان هذا هو الظاهر والدليل عليه هو ذكر قصة ثمود هنا، وقيل: إن الجواب (قد أفلح من زكاها) واللام حذفت منه، وقصة ثمود مع نبيهم صالح ذكرت قبل هذا. كذبت ثمود بسبب طغيانهم حين انبعث أشقاهم الذي عقر الناقة، فقال لهم رسول الله صالح: احذروا ناقة الله وسقياها، وأطبق عليهم العذاب، ولم يترك منهم أحدا لأنهم رضوا عن فعل صاحبهم، والله لا يخاف عاقبة ما فعل بهم، لأنه عادل في حكمه وقوى قادر في عمله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 869 سورة الليل مكية على الصحيح. وآياتها إحدى وعشرون آية، وفيها أقسم الله على أن الناس مختلفون في العمل والثواب، ثم أنذرهم نارا حامية أعدت لمن عصى وحرمت على من أطاع، وهذه السورة قيل: إنها نزلت في أبى بكر- رضى الله عنه- ولكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. [سورة الليل (92) : الآيات 1 الى 21] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضى (21) المفردات: يَغْشى: يستر الكل بظلامه ويواريه. تَجَلَّى: ظهر وانكشف لَشَتَّى: جمع شتيت، وهو المتباعد بعضه عن بعض، والمراد: مختلف نوعا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 870 وجزاء. بِالْحُسْنى: بالخصلة الحسنى. لِلْيُسْرى: للخصلة السهلة التي تنتج خيرا. لِلْعُسْرى: للخصلة المعقدة والفعلة المتعبة التي لا تنتج إلا شرا. تَرَدَّى: هوى وسقط والمراد نزل إلى قبره. تَلَظَّى أصلها: تتلظى، أى: تتوهج وتتقد. لا يَصْلاها: لا يحترق بها. إِلَّا الْأَشْقَى: كثير الشقاء. سَيُجَنَّبُهَا: يبعد عنها. الْأَتْقَى: المبالغ في التقوى. تُجْزى: تستحق الجزاء. المعنى: أقسم الحق- تبارك وتعالى- بالليل إذا يغشى هذا الكون بجحافله، لا يفلت منه شيء، والليل الذي يستر الكل بظلامه، ويواريه تحت جنحه فيسكن الكون، ويموت الحي ميتة صغرى، وأقسم بالنهار إذا تجلى وانكشف بطلوع الشمس فانكشف بظهوره كل شيء، ودبت الحياة في الحي، واستيقظ الكل يسعى وراء العيش، بعد طول الهجود والنوم. فسبحانك يا رب جعلت الليل والنهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا، وماذا كان الحال لو أن الليل كان دائما أو النهار؟! وأقسم بالذي خلق الزوجين الذكر والأنثى من المنى مع أن الماء واحد، والمكان واحد، ولكنه- جل جلاله- يهب لمن يشاء إناثا، ويهب لمن يشاء الذكور، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما، سبحان الله خلق الليل والنهار، والضوء والظلام، والذكر والأنثى، على أن المادة واحدة في الجميع، ثم أقسم بهذا كله على أن سعيكم أيها الناس لمختلف نوعا وجنسا وغاية ونهاية، قل كل يعمل على شاكلته أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ «1» ؟ لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ «2» . أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ «3» ؟.   (1) - سورة الجاثية آية 21. [ ..... ] (2) سورة الحشر آية 20. (3) سورة السجدة آية 18. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 871 فأما من أعطى بعض ما عنده وبذل ما في وسعه، واتقى الله ومحارمه، ونهى النفس عن الهوى، وصدق بالحسنى والفضيلة تصديقا قلبيا مقرونا بالعمل الخالص فالله يجزيه ويهديه وييسر له الخصلة اليسرى والفعلة الطيبة لأن قلبه قد ملئ بالنور، واعتاد الخير، وأما من بخل بما عنده واستغنى به عن الناس، فلم يعمل لهم خيرا ولم ينظر لهم، لأنه مغرور بما عنده، وكذب بالفضيلة فالله يجزيه ولا يهديه، وييسره دائما للفعلة العسرى التي فيها حتفه وهلاكه، فكان الأول من أهل الجنة، وكان الثاني من أهل النار. من صدق بالحسنى وعمل لها فأعطى واتقى. يسره الله لأيسر الخطتين وأسهلهما في أصل الخلقة وهي خطة تكميل النفس بالكمال وفعل الصالحات لتسعد بمزاياها في الدنيا والآخرة، وهذا- كما يقولون- أصل العادة التعود، فإذا تعودت أولا فعل الخير أصبح عادة لك بتيسير الله وهذا معنى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى والعكس صحيح فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى لأن من مرنت نفسه على فعل الشر، واستشرى معها الفساد فإن الله- على حسب سنته- يسهل له تلك الخطة العسرى وهي الخطة التي يحط فيها الإنسان من نفسه ويرتمى في أحضان الرذيلة، أو إذا تردى في قبره وسقط، فماذا يغنى عنه ماله؟! ولكن كيف يحاسب الله العبد على ذنب أطلق له الإرادة فيه ومكنه من عمله! والجواب تكفل به القرآن فقال ما معناه: إن علينا وقد خلقنا الإنسان للعبادة، أى: ليحرز الثواب في الدنيا والآخرة أن نهديه وندله على طريق الخير والشر، ونطلق اختياره، ونمكنه من العمل، وهذا تقويم له وتشريف، فمن يعمل بعد ذلك خيرا يثب عليه أو شرا يجاز عليه، وهذا كقوله تعالى: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ وإن لله الآخرة والأولى، والله أنذركم أيها الناس نارا تلتهب وتحترق بشدة فاحذروها. فإنه لا يصلاها ولا يحترق بها إلا الشقي المبالغ في الكفر أو المعصية ولم يتب، وهو الذي كذب بالله وكفر. وتولى عن الحق وأعرض عنه، ولم يرجع إليه في لحظة من اللحظات، وسيبعد عنها التقى المبالغ في التقوى والهداية الذي يؤتى ماله يتزكى به لوجه الله، وليس لأحد عنده من نعمة أو يد يجازيه عليها لكن كل عمله وصدقته ابتغاء وجه الله ورضوانه وهذا الصنف سيعطيه الله في الدنيا والآخرة حتى يرضى. ألم يبين الله لكم أيها الناس طريق الخير وطريق الشر ونهاية كل، فمن يعمل بعد ذلك مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذررة شرّا يره، على أن العقل وحده وطبيعة الإنسان قد تدرك أصل الخير والشر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 872 سورة الضحى مكية. وعدد آياتها إحدى عشرة آية، وفيها يقسم الله، أنه ما ودع محمدا صلّى الله عليه وسلّم وما قلاه، وأن آخرته خير من أولاه، وأنه يعطيه حتى يرضيه، ثم يطلب منه الإقرار ببعض النعم عليه، ثم إرشاده إلى بعض الفضائل. [سورة الضحى (93) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11) المفردات: وَالضُّحى: ضوء الشمس في شباب النهار. سَجى: سكن. وَدَّعَكَ: تركك. ما قَلى يقال: قلاه يقلاه، ويقليه: إذا أبغضه وكرهه. فَآوى: أسكن ورعى. ضَالًّا: حائرا، فليس من الضلال بل من الحيرة. فَهَدى: فوفقك إلى أحسن طريق. عائِلًا: فقيرا. فَلا تَقْهَرْ: فلا تذله. فَلا تَنْهَرْ: لا تزجر. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 873 المعنى: أقسم الحق- تبارك وتعالى- بالضحى ساعة ارتفاع الشمس أو النهار، وساعة امتلاء الكون بالحياة والضوء والحرارة، وأقسم بالليل إذا سكن «1» وهدأ كل ما فيه بعد حركة واضطراب. أقسم بهذا وذاك على أنه ما تركك يا محمد وما كرهك، وكيف ذلك وأنت الحبيب المختار والرسول الأمين، وخاتم الأنبياء والمرسلين. ولقد اتصل بالنبي صلّى الله عليه وسلّم الأمين جبريل حينما بعث، وهذا الاتصال لأنه بين ملك وبشر كان شديدا على النبي صلّى الله عليه وسلّم إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ لهذا فتر الوحى وانقطع لتطمئن نفس الرسول ويتجدد عزمه، وتقوى نفسه على ملاقاة جبريل، فيبحث عنه ويطلبه، فكانت فترة الوحى تأديبا وتطمينا وإصلاحا. ولقد تاقت نفسه الشريفة إلى ملاقاة ربه عن طريق جبريل واشتاق إلى ذلك. ومع الشوق قلق وخوف. فأراد الحق أن يطمئن الرسول على ما يطلب بذكر ما صنعه معه. وتبشيره بمستقبل زاهر، وأن هذه الفترة لم تكن عن ترك ولا بغض وأقسم له على ذلك. ولعلك تسأل عن العلاقة بين القسم بالضحى والليل وبين المقسم عليه؟ والجواب أن الوحى وانقطاعه للاستجمام والتقوية والاطمئنان كان أشبه بالضحى وما فيه من حركة وحياة ثم ما يعقبه من ليل يسكن فيه الكون ليستجم ويستعد لكفاح وحياة أخرى سعيدة. والضحى والليل إذا سجى. ما ودعك ربك وما تركك عن غضب عليك. واعلم أن الآخرة- أى: الأيام المستقبلة الآتية- خير بلا شك من أيامك هذه، فثق أن دعوتك وحياتك تنتقل من طور إلى طور أحسن، وإن يكن في ذلك نوع من التعب والمشقة، ولسوف يعطيك ربك من توارد الوحى الذي تطلبه لإرشاد قومك، وهداية العالم ما به ترضى وتطمئن، ولا عجب في ذلك ولا غرابة، ألم يجدك «2» يتيما فآواك   (1) عبر هنا بالماضي، وفي سورة الليل بالمضارع لأن الماضي يدل على اللزوم والمضارع بدل على التجدد وسكون الليل لازم، وغشيانه الوجود بالظلمة متجدد إذ قد يتخلله نور القمر. (2) الاستفهام هنا للتقرير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 874 وأيدك ورعاك، وقد ولد النبي يتيما إذ مات أبوه وهو في بطن أمه، فلما ولد عطف الله قلب جده عليه فرعاه وحنا عليه حنوا كثيرا، ثم لما مات جده عبد المطلب كفله عمه أبو طالب بأمر من جده، وكان شديد الحرص عليه كثير العطف والحماية له. وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم ذا روح قوية نقية طاهرة فكان يرى أن قومه على ضلال، وأن الأديان المحيطة بهم كاليهودية، فأصابته حيرة من أمره، وفر من هذا المجتمع، وحبب إليه الخلاء والمكث في الغار حتى أنقذه الله من حيرته، وهداه إلى أسمى شريعة وأعظم دين: وهذه الحيرة التي كان فيها النبي صلّى الله عليه وسلّم هي التي عبر عنها القرآن بالضلال، وإلا فالنبي صلّى الله عليه وسلّم نشأ طاهرا مطهرا لم يدنس نفسه بالسجود إلى صنم، ولم يقترف فاحشة أبدا، بل ذهب مرة ليستمع إلى حفل فيه غناء فنام حتى أيقظته الشمس، وهو الملقب بالأمين، وقد كان فقيرا- لم يرث عن أبيه إلا ناقة وجارية- فأغناه الله بالقناعة، وجعله عزوفا عن الدنيا، وأدر عليه بعض المال من تجارته في مال خديجة، إذا كان الأمر كذلك وقد غمرك الله بفضله يا محمد، فأما اليتيم فلا تقهره أبدا، وأنت سيد الأيتام وزعيمهم، وأما السائل فلا تنهره، وقد كنت ضالا فهداك الله، وأما بنعمة ربك فحدث بالإنفاق، وقد كنت فقيرا فأغناك الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 875 سورة الانشراح مكية. وآياتها ثمان آيات، وهي كسابقتها في تعداد النعم التي من الله بها على نبيه، مع تطمينه، وحثه على العمل. [سورة الشرح (94) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8) المفردات: نَشْرَحْ الشرح: التوسعة والبسط، وشرح الصدر: كناية عن السرور وانبساط النفس. وِزْرَكَ الوزر: الحمل الثقيل. أَنْقَضَ ظَهْرَكَ: أثقله. الْعُسْرِ: الصعوبة والشدة. يُسْراً: سهولة ولينا. فَانْصَبْ: فاتعب في تحصيل غيره. فَارْغَبْ: فاتجه إلى الله وحده. هذه السورة كأنها امتداد للسورة السابقة، ولذا تراها مرتبطة معها أشد ارتباط حتى قال بعضهم: إنهما سورة واحدة. المعنى: قر يا محمد واعترف- بهذه الحقيقة التي لا ينكرها أحد- بأنا شرحنا لك صدرك، وجعلناه يتسع لكل ما يصادفه، شرحنا صدرك للقيام بالدعوة خير قيام وتحمل أعبائها الجزء: 3 ¦ الصفحة: 876 بنفس راضية وقلب مطمئن، وقد كان الرسول يضيق صدره بما يقولون. ويتألم مما يفعلون إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ «1» . وهذه الدعوة العامة الشاملة التي جاء بها النبي صلّى الله عليه وسلّم يدعو بها العرب الجاهلين والناس أجمعين، هذه الدعوة عبء ليس بالخفيف بل عبء من أشد ما يكون، وحمل تنوء به كواهل الفطاحل، وينقض لأجله ظهور الأكابر، ولكن الله بما تعهد به لنبيه المصطفى من الآيات والإرشادات، والتوجيهات قد وضع عنه وزره الذي أثقل ظهره لولا لطف الله. ولقد رفع له ذكره، وهل هناك رفعة أعلى من اقتران اسمه باسم الله في الأذان والتكبير، والدعاء والصلاة، ألم يجعل الله طاعة رسوله من طاعته، وحبه من محبته؟ وأى مكانة أرفع من أن يكون له في كل ركن في الأرض أتباع وأنصار يدينون للنبي بالطاعة والولاء؟ ألم تر إلى الصحابة وهم يتسابقون إلى مجلسه والتمتع بحلو حديثه، والاستشفاء بمخالفاته؟ تلك بعض نعمه على رسوله، والله أعلم بغيرها. نعم ما قد شرح الله صدره، ووضع عنه وزره، ورفع له ذكره ليس في الأرض فقط، بل عند سدرة المنتهى، عند جنة المأوى، وكان هذا كله بعد أن لحق بالنبي ما لحق من أذى قومه وعنتهم، حتى ضاق صدره، ولا عجب في ذلك، فإن مع العسر يسرا: وانظر إلى قوله: مع العسر، ثم إلى قوله: يسرا، أى: بالتنكير، وكما يقول الرسول: لن يغلب عسر يسرين «2» أما العسر الذي كان عند النبي صلّى الله عليه وسلّم والصحابة فهو الفقر وقلة الصديق، وقوة العدو وشدة مقاومته، وقد جاءهم اليسر فكثر المال والصديق، وضعف قوة العدو، وأما قوة المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله، ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم   (1) سورة الحجر الآيات 95- 98. (2) هذا المعنى مأخوذ من أن العسر ذكر معرفا فهو يدل على عسر واحد، وذكر اليسر منكرا فتراه يدل على أكثر من واحد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 877 خصاصة، يحبون إخوانهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، إن قتلوا فهم الشهداء، وإن عاشوا فهم السعداء، فقد كانت- ولا تزال- مضرب الأمثال. وهل كل عسر يعقبه يسر كما هو ظاهر في القرآن؟ الظاهر- والله أعلم- أنه كذلك متى سار صاحب العسر على سنن الله الكونية، فتذرع بالصبر، واستعد للمقاومة وصابر نفسه وصبر على المكروه، وعمل على التخلص منه، عند ذلك يرزق اليسر، بأى شكل وعلى أى وجه، أما إذا حقت كلمة الله فإن صاحب العسر يتخبط في سيره، فينطبق عليه قوله تعالى: كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «1» والأمر كله أولا وأخيرا لله، والمشاهد أن مع العسر يسرا، ولكن اليسر يختلف تبعا لحكم يعلمها الله، وانظر إلى التربية القرآنية، وإلى النصيحة الإلهية للحبيب المصطفى، وكذلك كل فرد يريد أن يهتدى بنور القرآن. فإذا فرغت من أى عمل خير فانصب في غيره واعمل على تحقيقه بتوفيق الله، وإلى الله وحده فارغب، وعليه وحده فتوكل، فإنه نعم المولى، ونعم النصير.   (1) سورة القصص آية 88. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 878 سورة التين مكية. وآياتها ثمان آيات، وفيها يقسم الحق- تبارك وتعالى- بأنه خلق الإنسان فعدله، ثم رده حتى كان أسفل سافلين، إلا المؤمنين فلهم الثواب الكبير، والله أحكم الحاكمين. [سورة التين (95) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8) المفردات: وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ: هما الشجرتان المعروفتان ذات الثمر المعروف، أو هما مكانان في الشام. طُورِ سِينِينَ: الجبل المسمى بهذا الاسم في طور سينا، والذي ناجى موسى عليه ربه. وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ أى: مكة. تَقْوِيمٍ يقال: قومت الشيء تقويما: إذا جعلته على أعدل وجه وأكمل صورة. أَسْفَلَ سافِلِينَ المراد: جعلناه من أهل النار الذين هم أسفل من كل سافل. غَيْرُ مَمْنُونٍ: غير مقطوع. بِالدِّينِ: بيوم الجزاء. المعنى: أقسم الله بالتين والزيتون، وبطور سينين التي ناجى فيها موسى ربه، وبهذا البلد الأمين، وهو مكة التي يقاسى فيها النبي الأمرّين من قومه، مع أنها البلد الأمين الذي الجزء: 3 ¦ الصفحة: 879 يأمن صاحبه ومن دخل فيه من كل صوب، بل يأمن فيها الطير والوحش والقاتل المطلوب، ولكن ما المراد بالتين والزيتون؟ هل هما الشجرتان المعروفتان؟ وأقسم الله بهما لمزيد فضلهما، ولمكانتهما الطيبة المعروفة، غير أن النسق العام للقرآن البليغ يأبى ذلك، ولهذا قيل: المراد بهما مكانهما، وهما يكثران في الشام التي كان فيها السيد المسيح عليه السلام، وعلى ذلك يكون القسم بهما للإشارة إلى المسيح وبطور سيناء للنبي موسى كليم الله، وبهذا البلد الأمين لخاتم الأنبياء والمرسلين- عليه الصلاة والسلام-. وبعض العلماء يقول: التين والزيتون موضعان في الشام، وهذا يحتاج إلى تصديق الواقع له. قد أقسم الله بهذه الأمكنة المقدسة لشرف من حل بها من الأنبياء والرسل لقد خلق الإنسان في أحسن تقويم، أى: على أحسن حال وأكمل صورة، ألا تراه وقد خلقه مستوى القامة مرفوع الرأس، يأكل بيده، قد وهبه العقل والتفكير، والقدرة على تسخير غيره من الحيوان والنبات، بل امتد عقله، واتسع تفكيره إلى أن سخر الطبيعة وذللها لأغراضه ومنافعه، والشواهد على ذلك كثيرة الآن. ولعل السر في هذا القسم لفت أنظار الناس إلى أنفسهم، وما ركب فيها من قوى وإدراك وعقول وتمييز ليصلوا بهذا إلى توحيد الله القوى القادر، هذا الإنسان الذي خلقه ربه فأكرمه ونعمه، وجعله يستولى على جميع العوالم، قد كان في أول أمره ساذجا قليل الأطماع، لم تتنبه فيه غرائز الشر، ثم تنبهت فيه عوامل الشر، وغرائز السوء حتى ظهر الحقد والحسد والتنازع والإفساد، وكان القتال والنزاع والحروب. وأصبح الإنسان كالحيوان المفترس. وضريت نفسه حتى صار أعظم اغتيالا لأخيه الإنسان من السباع، وهذا معنى قوله: ثم رددناه أسفل سافلين، ففطرة الله التي فطر الناس عليها تدعو إلى التراحم والتعاون وإيثار العدل والخلق الكامل، ولكن الإنسان قد ينزع إلى الشر بعوامل البيئة التي تحرك فيه مصادر السوء. وحينئذ ينسى فطرته، ويعود إلى حيوانيته. ويعمل عمل أهل النار، فيكون أسفل من كل سافل وأشد من كل حيوان ضار. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 880 عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ ... عوى وصوت إنسان فكدت أطير هذا هو الإنسان وطبعه وما جبل عليه، فطرة سليمة حتى إذا حركت فيها عوامل الشر انقلب أشد من الحيوان، إلا الذين امتلأت قلوبهم بالإيمان بالله واليوم الآخر فإنهم يكبحون جماح نفوسهم، ويردونها إلى الجادة والخير، فيعملون العمل الصالح ابتغاء مرضاة الله، وهؤلاء لهم أجر كريم غير مقطوع فلهم الحسنى في الدنيا، ثم لهم الأجر الكامل في الآخرة. عجبا لك أيها الإنسان! ما الذي يجعلك تكذب بيوم الدين بعد أن عرفت ذلك؟! أليس الله بأحكم الحاكمين «1» وأعدل العادلين. حيث أثاب الطائعين بالثواب الدائم وجازى المكذبين بالعقاب الصارم.   (1) هذا استفهام للتقرير بما بعد النفي، أى: قروا بأنه أحكم الحاكمين. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 881 سورة العلق وتسمى سورة «اقرأ» أو «القلم» . وهي مكية، وآياتها تسع عشرة آية، وفيها أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم بالقراءة مع بيان مظاهر قدرة الله مع الإنسان، وبيان بعض صفاته ثم ذكر مثل يدل على عناد بعض أفراده وبيان جزاء أمثاله. [سورة العلق (96) : الآيات 1 الى 19] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19) المفردات: عَلَقٍ: جمع علقة، وهي قطعة دم جامدة الْأَكْرَمُ أى: هو أكرم من كل كريم. لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ السفع: الجذب بشدة، والناصية: شعر مقدم الرأس، والمراد إذلاله وإهانته. نادِيَهُ المراد: أهل النادي. الزَّبانِيَةَ: الملائكة الموكلين بالإشراف على الكفار في النار فهم يدفعونهم إليها دفعا. وَاقْتَرِبْ: تقرب إلى ربك بالعبادة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 882 المعنى: روى البخاري في صحيحه عن عائشة- رضى الله عنها- ما معناه قالت: أول ما بدئ به رسول الله من الوحى الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح، ثم حبب إليه الخلاء، فكان يأتى حراء فيتحنث فيه- فيتعبد فيه- الليالى ذوات العدد، ويتزود لذلك، ثم يرجع إلى خديجة فيتزود لمثلها، حتى فاجأه الوحى، وهو في غار حراء فجأه الملك فيه. فقال: اقرأ. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ما أنا بقارئ، قال: فأخذنى فغطني- ضمني إليه- حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ، فغطني الثانية حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى، فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بقارئ فغطني الثالثة حتى بلغ منى الجهد ثم أرسلنى، فقال: اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الإنسان ما لم يعلم ... إلخ الحديث. وعلى ذلك فصدر هذه السورة أول ما نزل من القرآن، رحمة وهدى للناس، وأول خطاب وجه إلى رسول الله من قبل الحق- تبارك وتعالى- كان أمرا بالقراءة وحديثا عن القلم والعلم، أفلا يتدبر المسلمون هذا ويعملون على نشر العلم ويحملون لواءه؟! فهذا نبيهم الأمى أمر بالقراءة وعمل على نشرها. أما بقية السورة فالظاهر أنها نزلت بعد ذلك، وأول سورة نزلت كاملة أم الكتاب- الفاتحة- وخلاصة معنى الآيات: كن قارئا- يا محمد- بعد أن لم تكن كذلك، واتل ما أوحى إليك ولا تظن أن ذلك بعيد لأنك أمى لا تقرأ ولا تكتب، ولا تتوهمن أن ذلك محال، فالله الذي أبدع هذا الكون وخلق فسوى وقدر فهدى: وخلق الإنسان الذي هو أشرف المخلوقات، والمسيطر عليها، والمتميز عنها بالعقل والتكليف وبعد النظر، خلقه من قطعة دم جامدة لا حس فيها ولا حركة ولا شعور، ثم بعد ذلك صار إنسانا كاملا في أحسن تقويم. هو الله الذي يجعلك قادرا على القراءة ويهبك العلم بما لم تكن تعلم أنت ولا قومك منه شيئا، وهو القادر على أن ينزل عليك القرآن لتقرأه على الناس على مكث وما كنت تدرى قبله ما الكتاب ولا الإيمان!! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 883 اقرأ باسم ربك، أى: بقدرته- فالاسم كما مر علم على الذات وبه تعرف، والله يعرف بصفاته- الذي خلق كل مخلوق فسواه وعدله في أى صورة شاءها له- وقد خلق الإنسان من علق، اقرأ يا محمد، والحال أن ربك الأكرم من كل كريم. لأنه واهب الكرم والجود، وهو القادر على كل موجود، ولقد كرر الأمر بالقراءة لأنها تحصل للإنسان العادي بالتكرار. وتكون للمصطفى صلّى الله عليه وسلّم بتكرير الأمر، وإذا كان الله أكرم من كل كريم، أفيصعب عليه أن يهبك نعمة القراءة وحفظ القرآن وأنت لم تأخذ بأسبابها العادية، اقرأ إن شئت قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [سورة القيامة آية 67] سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى [سورة الأعلى آية 6] . اقرأ وربك الأكرم الذي علم الناس كيف يتفاهمون بالقلم مع بعد المسافة، وطول الزمن، وهذا بيان لمظهر من مظاهر القدرة والعلم عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ نعم لقد أودع الله في الإنسان من الغرائز والتفكير ما جعله يبحث ويستقصى، ويجرب حتى وصل إلى معرفة أسرار الكون، وطبائع الأشياء فاستخدم كل هذا له وسخره لإرادته خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة 29] وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها [البقرة 31] . ترى أن الله أمر نبيه بالقراءة عامة وخاصة القرآن ثم بين له أن هذا أمر ممكن بالنسبة لله الذي خلق الخلق، وخلق الإنسان من علق، وهو الكريم الذي لا يبخل وخاصة على رسوله، وهو الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم. كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى حقا إن الإنسان ليطغى ويتكبر ويتمادى في الإثم لأنه رأى نفسه قد استغنت عن الغير بكثرة المال والأولاد، وما كان له ذلك! إن إلى ربك وحده الرجوع يوم القيامة فسوف يحاسبه على ذلك حسابا شديدا. لعلك تسأل عن تناسق الآيات؟ فأقول لك: لما ذكر الله فيما ذكر بعض مظاهر القدرة والعلم وكمال النعم التي أنعم بها على الإنسان، ومقتضى ذلك ألا يكفر به أحد، ولكن الإنسان كفر وبغى فأراد الله أن يبين السبب فقال ما معناه: إنه حب الدنيا والغرور بها والحرص عليها حتى تشغله عن النظر في الآيات الكبرى! بعد أن أمر الله نبيه بأن يتلو ما أوحى إليه من الكتاب وأبان له سبب كفر الإنسان ضرب له مثلا برأس من رءوس الكفر قيل: هو أبو جهل، وإن كانت الآية عامة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 884 أخبرنى يا محمد عن الذي ينهى عبدا خاضعا لله يصلى له، ما شأنه؟ إن شأنه لعجيب «1» شخص يكفر ويعصى ربه، ينهى عن الخير وخاصة الصلاة أخبرنى عن حاله لو كان من أصحاب اليمين، وكان من السابقين المهتدين ثم يأمر بالتقوى والخير ما شأن هذا؟ إن حاله يكون عجيبا لأنه يستحق المثوبة الكبرى في جنة المأوى. أخبرنى إن كذب إنسان وأعرض عن الحق وتولى وأعطى نفسه كل ما تتمنى!! ألم يعلم هؤلاء بأن الله يرى، قروا واعترفوا بأن الله يعلم الغيب والشهادة وسيجازى كلا على عمله إن خيرا فخير وإن شرا فشر، ففروا أيها الناس إلى الله وتوبوا إليه واعملوا على مرضاته. كلا: كلمة ردع وزجر لمن يعصى الله مطلقا، فأقسم لئن لم ينته هؤلاء الكفار أو العصاة عن أفعالهم لنعذبنهم عذابا شديدا، ولنذلنهم إذلالا يتناسب مع تكبرهم في الدنيا وما ذلك على الله بعزيز. لنجذبن تلك الناصية بشدة، تلك الناصية التي طالما كذبت لغرورها بقوتها واعتقادها أنها تمتنع عن الله الذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهذا كذب بلا شك، وقد أخطأت لأنها تجاوزت حدها وأساءت إلى غيرها وخاصة الأبرار الصادقين، سنفعل مع صاحبها كل إهانة فليدع أهل ناديه ليدفعوا عنه شيئا!! بل سندعو الزبانية، أى: سيدعو الله زبانية جهنم يدفعونه دفعا لها يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا [سورة الطور آية 13] وليس له شفيع ولا نصير. كلا- ردع للكافر عن عمله- لا تطعه أيها الرسول واسجد لله دائما وتقرب إليه بالعبادة فإنها الحصن والوقاية، وطريق النجاح.   (1) هذا إشارة إلى أن: أرأيت؟ استفهام للإنكار والتعجب وهي تفيد معنى أخبرنى. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 885 سورة القدر وهي مكية على الصحيح، وآياتها خمس آيات، وفيها تكلم عن بدء نزول القرآن، وأنه نزل ليلة القدر، التي تنزل فيها الملائكة والروح بكل أمر من الله، وهي سلام من كل سوء. [سورة القدر (97) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) المفردات: لَيْلَةِ الْقَدْرِ: ليلة التقدير، أو الشرف الرفيع والقدر العالي. وَالرُّوحُ: هو جبريل. المعنى: إن ربك أنزل القرآن- أى: بدأ نزوله- في ليلة مباركة كثيرة الخيرات والبركات لأن فيها نزلت الآيات البينات، وهذه الليلة من رمضان لقول الله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ» وهي ليلة القدر التي ابتدأ الله فيها بتقدير دينه الحنيف. وتحديد دعوة رسوله الكريم، وهي ليلة القدر والشرف والعزة والكرامة لأن الله أعلى فيها منزلة نبيه، وشرف الإنسانية برسالة السماء الكبرى خاتمة الرسالات وقد جاء هذا   (1) - سورة البقرة آية 185. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 886 التصريح بشرفها وعلو مكانتها حيث يقول الله: وما أدراك ما ليلة القدر؟ لا أحد يعرف كنهها، ولا يحيط أحد بفضلها إلا بما سأذكره عنها، ليلة القدر خير من ألف شهر، ولا غرابة فالليلة التي ابتدأ الله فيها نزول القرآن هي ليلة مباركة فيها يفرق ويفصل كل أمر حكيم لأنه من الحكيم الخبير، أليست هذه الليلة خيرا من ألف شهر، بل هي خير ليلة في الوجود، وأسمى وقت في الزمن وبالطبع العمل فيها خير من العمل في غيرها ألف مرة. واستأنف بيان بعض فضلها فقال: إنها تتنزل فيها الملائكة- وخاصة جبريل المكلف بالوحي- يتنزلون فيها بإذن ربهم من كل أمر حكيم على النبي صلّى الله عليه وسلّم فأول عهد النبي بشهود الملائكة وجبريل معهم كان في تلك الليلة التي تنزلت الملائكة من عالمها إلى عالم الأرض، نزلوا بالوحي على رسول الله. وهذه الليلة ليلة سلام وأمان ولا غرابة ففيها ابتدأ نزول القرآن مصدر الإسلام ومبدأ السلام، روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم خرج ليخبر عن ليلة القدر فوجد رجلين يتنازعان فنسي الخبر. ليلة القدر مصدر السلام والأمان حتى مطلع الفجر . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 887 سورة البينة وتسمى سورة البرية أو «لم يكن» ، وآياتها ثمان آيات، وفيها الرد على الكفار من المشركين وأهل الكتاب، ببيان أن ما جاء به النبي هو الحق، ثم ذكرت جزاء من بقي على الكفر منهم، ومن آمن بالنبي صلّى الله عليه وسلّم. [سورة البينة (98) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8) المفردات: مُنْفَكِّينَ: مفارقين كفرهم تاركين ما هم عليه. الْبَيِّنَةُ: الحجة الظاهرة الجزء: 3 ¦ الصفحة: 888 التي يتميز بها الحق من الباطل، من البيان وهو الظهور. مُطَهَّرَةً: طاهرة من الزور والبهتان. قَيِّمَةٌ: لا عوج فيها. حُنَفاءَ: مائلين عن الباطل. الْقَيِّمَةِ أى: الكتب القيمة، أو الأمم المستقيمة العادلة. الْبَرِيَّةِ: الخلق. جَنَّاتُ عَدْنٍ: إقامة ومكث. المعنى: أرسل النبي صلّى الله عليه وسلّم إلى الناس أجمعين، أرسل لهم بالهدى ودين الحق، ليخرجهم من ظلمات الجهالة، وفساد العقيدة، وذل التقليد الأعمى، وكان الكفار من أهل الكتاب أو المشركين سواء في البعد عن الحق والدين الصحيح. أما أهل الكتاب فبعد أن فارقهم موسى وعيسى تخبطوا وحرفوا الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله وأصبح دينهم خليطا ممقوتا فيه إلى جانب الحق البسيط ضلالات وضلالات، وأما المشركون الذين لا يقولون بالتوحيد ولا يؤمنون بالبعث كمشركي مكة، فقد تردوا في الباطل إلى أقصاه، وأصبح دينهم مسخا من عقائد جاهلية وتقاليد بالية حسبوها دين إبراهيم الخليل، والله يعلم أنه منها برىء. ما كان الذين كفروا من أهل الكتاب الذين كانوا يستفتحون على الذين كفروا من المشركين ببعثة النبي العربي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة والإنجيل، فلما جاءهم ما عرفوا- بعثة النبي- كفروا به، ولهذا ذكرهم أولا، على أنهم أشد جرما من المشركين الذين يجهلون الحق، وهؤلاء عرفوه وكفروا به عنادا وحسدا من عند أنفسهم، ما كان هؤلاء وأولئك منفكين عن باطلهم حتى تأتيهم البينة الواضحة، والحجة الظاهرة التي تقصم ظهر الباطل، وما هي؟ هي رسول من الله، وقد كان رسول الله نفسه بينة وحجة ظاهرة على أن دينه هو الحق، فهو الصادق الأمين صاحب الخلق القويم والمعجزات الناطقة بصدقه، والمنزل عليه القرآن الذي يتلوه، أى: يقرؤه مع كونه أميا، وقد كان النبي صلّى الله عليه وسلّم يقرأ القرآن حفظا عن ظهر قلب. يتلو صحفا- القرآن- مطهرة من كل عيب وزور وكذب، تلك الصحف فيها كتب قيمة لا عوج فيها ولا نقص، وما المراد بالكتب؟ قيل: هي ما في القرآن مما بقي صحيحا من كتب موسى وإبراهيم مثلا، أو هي سور القرآن: وكأن كل سورة كتاب الجزء: 3 ¦ الصفحة: 889 مستقل قائم بذاته، أو هي أحكام الإسلام وشرائعه، وعلى كل فهي كتب قيمة لا عوج فيها ولا باطل، ولا كذب ولا بهتان الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً [سورة الكهف الآيتان 1 و 2] . وهل انتهى الكفر بإرسال النبي حتى يصح قوله تعالى: حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ والجواب: إن إرسال النبي صلّى الله عليه وسلّم كان صدمة للشرك زلزلت عقائد المشركين وفتحت قلوب الجهلاء الملتاثين، وأنارت الطريق حتى عرفت الحق من الباطل، فكانت بعثته حدا فاصلا بين عهدين، لهذا صح قوله: «حتى» ولكن لم يؤمن الكل بالنبي. بل بعضهم وقف من النبي موقف العناد يصد عن سبيل الله، ويحاول بكل ما أوتى من قوة وجهد أن يصرف الناس عن رسول الله، أراد الله أن يسلى الرسول ببيان أن كفر الناس وعنادهم طبيعة فيهم، وقد حصل لإخوانك الأنبياء مثلك، وتفرق الناس معهم واختلفوا في شأنهم بين مؤمن وكافر ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ «1» ولقد اختلف أهل الكتاب على أنبيائهم، وما اختلفوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة والحجة القائمة، أى: بعد إرسال الرسل إليهم. عجبا لهؤلاء- اليهود والنصارى- كيف يقفون معك هذا الموقف!! هل جئتهم بأمر جديد عليهم! لا، هل أمرتهم بالمنكر ونهيتهم عن المعروف؟ إنك لم تأمرهم إلا بعبادة الله وحده مع الإخلاص والبعد عن الشرك والميل عن الإثم وكل بهتان، وأمرتهم بإقامة الصلاة لله وإيتاء الزكاة؟ ما لهم لا يؤمنون؟! إن كان هؤلاء متمسكين بدينهم حقا ومؤمنين به حقا فدينهم الصحيح يدعو لذلك، ويدعوهم للإيمان بالنبي محمد وذلك- الذي ذكر من العبادة والإخلاص ... إلخ- هو دين الكتب القيمة الصحيحة التي لم تحرف بعد، وهو دين الأمم المستقيمة على الحق والخير، فهل لهؤلاء عذر في ترك الإسلام؟ وهل يقبل منهم أن يعاندوا رسول الإسلام؟! ما جزاء من يكفر بتلك الشريعة الغراء السهلة السمحة؟ وما جزاء من يؤمن بها ويصدق رسولها؟ أما جزاء الذين كفروا من أهل الكتاب- وكانوا أولى الناس بأن يتسابقوا إلى الإسلام- والمشركين الذين يعبدون الأوثان ويقدسون الأصنام والأحجار فهم في نار جهنم، خالدين فيها أبدا.   (1) - سورة الأحقاف آية 9. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 890 ولا غرابة في ذلك فهم شر الخلق على الإطلاق لأنهم كذبوا على الله وصدوا عن سبيله وكذبوا بكتابه، ولم يصدقوا رسوله، بل كذبوه وآذوه وأخرجوه وحاربوه. أما جزاء من آمن بالله وباليوم الآخر، وصدق رسول الله فأولئك هم خير البرية، وكان جزاؤهم عند ربهم- وهذه نهاية الشرف لهم- جنات إقامة ومكث، وجنات تجرى من تحتها الأنهار فيها ما يدعون ويشتهون: وهم فيها خالدون أبدا. ولا غرابة فقد رضى الله عن أعمالهم التي عملوها، ورضى أن يمدحهم ويثيبهم عليها، وهم قد رضوا عنه لأنهم فرحوا بلقائه وسروا بنعيمه. وذلك الفوز العظيم لمن خشي ربه، فاحذروا أيها الناس واعملوا لتنالوا هذا الأجر العظيم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 891 سورة الزلزلة مدنية، وقيل: إنها مكية. آياتها ثمان آيات، وفيها أثبت الله أن الخير مهما كان سيجازى عليه صاحبه، وأن الشر مهما كان سيجازى عليه صاحبه، كل ذلك يوم القيامة. [سورة الزلزلة (99) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8) المفردات: زُلْزِلَتِ الزلزلة: الاهتزاز والاضطراب الشديدان. أَثْقالَها: جمع ثقل، وهو في الأصل متاع البيت، والمراد به هنا: ما في جوف الأرض من دفائن. يَصْدُرُ النَّاسُ المراد: يخرجون من قبورهم. أَشْتاتاً: متفرقين فريق إلى الجنة وفريق إلى السعير. مِثْقالَ ذَرَّةٍ: الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة يقال: ذرة. المعنى: حينما يريد الله انقضاء الدنيا، وقيام الساعة، يأمر الأرض فتتزلزل وتهتز اهتزازا عنيفا لم يكن مألوفا، وتخرج دفائنها وأثقالها من نار ومياه ومعادن وما بقي من جثث، عندئذ الجزء: 3 ¦ الصفحة: 892 يقول الإنسان الذي يرى هذا: ما لها؟ أى: ما الذي حصل للأرض؟! فإن هذا لم يألفه ولم يعرف له سببا، وفي ذلك الوقت تحدثك الأرض حديثها، وتنطق بلسان الحال لا بلسان المقال، كما قال العلامة الطبري في تفسيره: إن هذا تمثيل، فما وقع للأرض مما لم يكن مألوفا إنما كان بسبب أن ربك أوحى لها، وأمرها بهذا أمرا تكوينا، وكل ما يحصل في الكون فهو من قبيل الأمر التكويني من الله، إلا أن هناك أمورا تحصل بلا سبب ظاهرى فتسند للأمر التكويني، وما يحصل بسبب عادى لا يسند إليه، وإن كان في الواقع منه، يومئذ يخرج الناس من قبورهم متفرقين كل على حسب عمله، ليروا جزاء أعمالهم، فمن يعمل ما يوازن مثقال ذرة من خير يثب عليه، ومن يعمل مثقال ذرة من شر يجاز عليه وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ، فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً، وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ «1» وهذه السورة سورة ترغيب وترهيب.   (1) - سورة الأنبياء آية 47. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 893 سورة العاديات مكية، وعدد آياتها إحدى عشرة آية، وفيها يقسم الله على أن الإنسان الذي أنعم عليه كفور جحود، وأنه شهيد على ذلك، وأنه محب للمال بخيل، ثم هدده بالعقاب الشديد يوم القيامة. [سورة العاديات (100) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11) المفردات: وَالْعادِياتِ أى: الخيل التي تعدو وتسرع في الجري. ضَبْحاً الضبح: نوع من السير، أو نوع من العدو، وقيل: هو اسم للصوت. فَالْمُورِياتِ قَدْحاً أورى فلان: إذا أخرج النار بزند ونحوه. والقدح: ضرب شيء بشيء ليخرج من بينهما شرار النار. فَالْمُغِيراتِ: الإغارة والهجوم. فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً أى: هيجن، والنقع: الغبار. فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً: توسطن به جمعا. لَكَنُودٌ الكنود في الأصل: الأرض التي لا تنبت، شبه به الإنسان الذي يمنع الحق والخير والواجب عليه، والمراد به الكفور، أو العاصي. لَشَدِيدٌ أى: بخيل ممسك شديد الضن بالمال. بُعْثِرَ أى: بعث وأثير وأخرج. وَحُصِّلَ: أظهر ما في الصدور محصلا مجموعا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 894 المعنى: أقسم الحق- تبارك وتعالى- بالخيل إذا عدت حالة كونها تضبح ضبحا، فالخيل التي تغير على العدو في الصباح، فالخيل التي تثير التراب وتهيجه فوق الرءوس فتتوسط به جموع الأعداء، وهن متلبسات بالغبار. أقسم الله بالخيل الشديدة العدو التي تخرج من أفواهها زفيرا عاليا، فالتي تورى النار أثناء الجري، وتغير على العدو في الصبح، وتثير النقع وتتوسط به جمع الأعداء، وتلك أوصاف للخيل التي يجاهد بها أصحابها في سبيل الله، وهذا شرف كبير، ولذلك أقسم الله بها، على أن الخيل من الدواب التي لها مكانتها، وهي كما قال العربي: ظهورها حرز وبطونها كنز. ومهما استحدث من آلات الحرب فلا زال للخيل مكان ملحوظ، على أن هذه الأوصاف تعلمنا كيف نستخدم الخيل، حتى لا نتخذها زينة فقط. لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً [سورة النحل آية 8] . أما المقسم عليه فقوله: إن الإنسان لربه لكنود، وإنه على ذلك لشهيد، وإنه لحب الخير لشديد، وقد وصف الله الإنسان بثلاث صفات: الأولى كونه كنودا، أى: مناعا للخير جحودا يجحد نعمة ربه، ولا يقوم بشكرها، وهذا إنما يكون من الإنسان الكفور أو العاصي، لقد صدق الحديث: «الكنود الّذى يمنع رفده، ويأكل وحده، ويضرب عبده» الثانية كونه على أعماله شهيدا فأعماله شاهدة عليه فلا تحتاج لدليل، وهو لا يستطيع إنكار جحده لظهوره، على أنه إن أنكر بلسانه عناده فبينه وبين ضميره يشهد بأنه منكر جاحد لنعم ربه، وسيشهد على نفسه يوم القيامة، فهو إذا على أعماله شهيد، والثالثة: إنه لحب الخير لشديد، نعم، إن الإنسان لأجل حبه المال حبا جما بخيل به شحيح لا ينفق منه إلا بقدر بسيط، وهو حريص عليه، متناه في الحرص، ممسك مبالغ في الإمساك. يحصل منه هذا؟! أفلا يعلم الإنسان أن ربه به بصير؟ أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور وأخرجت الناس من الدور، ثم أظهرت دفائن القلوب وأسرار الصدور: إن ربهم بهم يومئذ لخبير، وإنه سيجازى على النقير والقطمير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 895 سورة القارعة وهي مكية، وآياتها إحدى عشرة آية، وفيها يصف بعض مناظر يوم القيامة. [سورة القارعة (101) : الآيات 1 الى 11] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11) المفردات: الْقارِعَةُ «1» القرع: الضرب بشدة، وسميت الحادثة العظيمة قارعة لأنها تقرع أصحابها وتصك آذانهم، والمراد بها هنا: يوم القيامة لأنه يقرع الناس بالهول والفزع الشديد. كَالْفَراشِ: حيوان صغير أحمق يتهافت على النار. الْمَبْثُوثِ: المتفرق كَالْعِهْنِ: الصوف ذي الألوان. الْمَنْفُوشِ: الذي نفش. فَأُمُّهُ: ما يأوى إليها كما يأوى الولد إلى أمه. هاوِيَةٌ: هي نار جهنم. حامِيَةٌ: ملتهبة.   (1) وإعرابها: القارعة مبتدأ، و (ما) مبتدأ ثان، أو خبر مقدم، والقارعة مبتدأ مؤخر، والجملة خبر القارعة. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 896 المعنى: القارعة التي تقرع الناس بأهوالها، وتصك آذانهم بصوتها هي يوم القيامة، يوم الفزع الأكبر والهول الشديد، واليوم الذي تصطك فيه الأجرام العلوية بالسفلية، ويقرع فيها أعداء الله بالعذاب الشديد والخزي والنكال، تلك هي القارعة الكبرى وما القارعة؟ وهذا استفهام للتهويل والتفخيم، وما أدراك! ما القارعة؟! نعم أى شيء يعرفك بها ويعلمك حقيقتها؟ لا أحد يخبرك عنها إلا خالقها وهو الله، وأنت لا تعرف عنها إلا ما يقصه عليك ربها. يوم يكون الناس حيارى مضطربين كالفراش المتفرق الذي يقع في النار لتخبطه وسوء تقديره، وتكون الجبال الرواسي- التي كانت مثلا في الثبات وعدم التأثر- كالصوف المنفوش، يا سبحان الله! أما حال من فيها فها هو ذا: فمن ثقلت موازينه لحسن أعماله وكثرة إخلاصه، فهو يومئذ في عيشة راضية، أى: فهو في حال تقر بها عينه، وتطمئن لها نفسه حتى يصبح راضيا مغتبطا. وأما من خفت موازينه لسوء عمله واتباعه الباطل وبعده عن الحق فأمه هاوية، ما أروع هذا التعبير! ما يأوى إليه نار حامية، نار يهوى فيها صاحبها، وما أدراك، ما هيه؟ أى: أنت لا تعرف عنها شيئا، إنها نار حامية تكوى الوجوه، وتشوى الجلود، وقانا الله شرها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 897 سورة التكاثر مكية، وآياتها ثمان آيات، وفيها يحذرنا الله عاقبة التكاثر في المال والجاه، ويخبر أن عذاب العصاة واقع لا محالة، وأن جهنم حق لا شك فيها، وأنكم ستسألون عن نعيم الدنيا. [سورة التكاثر (102) : الآيات 1 الى 8] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8) المفردات: أَلْهاكُمُ: شغلكم. التَّكاثُرُ: التبارى في الكثرة، أى: المفاخرة بكثرة المال والولد، أو المراد التغالب في تكثير المال وكثرة الرجال. عِلْمَ الْيَقِينِ أى: علما يقينيا، والعلم اليقيني: هو الذي نشأ عن اعتقاد مطابق للواقع عن عيان أو دليل صحيح. عَيْنَ الْيَقِينِ أى: لترونها رؤية حقيقية كأنها هي اليقين نفسه، فعلم العيان والمشاهدة يسمى عين اليقين. المعنى: ألهاكم التكاثر في الأموال والرجال والتغالب في جمعها عن تحصيل ما ينفعكم وعمل الجزء: 3 ¦ الصفحة: 898 ما يبقى لكم يوم القيامة، ألهاكم ذلك وشغلكم عن الخير الذي ينفعكم حتى صرتم موتى والمعنى: أنكم بقيتم على ذلك طول حياتكم. وقد ورد أن قبيلتين تفاخرتا بكثرة المال والرجال حتى ذهبوا إلى قبورهم، وتفاخروا بمن مات فنزلت السورة تنعى عليهم ذلك وتحذرهم عاقبته ومغبته. ارتدعوا عن ذلك العمل الذي ينشئ التدابر والتقاطع والانشغال بما لا ينفع صاحبه. كلا سوف تعلمون عاقبة هذا التكاثر وعند ذلك تندمون ولا ينفع الندم، ثم كلا سوف تعلمون، وهذا تأكيد للمعنى السابق، كلا! لو تعلمون عاقبة ذلك علما يقينيا لا شك فيه ولا شبهة علما ناشئا عن اعتقاد صحيح لما تفاخرتم بالمال أو بالرجال، ولما تسابقتم في تكثير المال والرجال، ولانصرفتم إلى ما هو خير لكم وأجدى عليكم، ألا وهو التسابق في تحصيل الخير، فلمثل هذا فليعمل العاملون. أقسم لترون الجحيم- وهذا كناية عن ذوق عذابها- ثم لترونها ولتتذوقن عذابها لأنكم تسابقتم في المال وتكاثرتم وتفاخرتم به، ولترونها لذلك رؤية مشاهدة، رؤية محسوسة وهي الرؤية اليقينية، ثم بعد ذلك لتسألن عن النعيم الذي تتفاخرون به وتتسابقون في تحصيله، فاحذروا أيها الناس وانتبهوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 899 سورة العصر مكية. وآياتها ثلاث آيات. وفيها القسم على أن الإنسان لفي خسر وضلال إلا من عصمه الله من المؤمنين العاملين الذين تواصوا بالحق والصبر. [سورة العصر (103) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3) المفردات: الْعَصْرِ: هل المراد به الدهر كله؟ أو هو الوقت الخاص الذي يكون في طرف النهار.؟ خُسْرٍ: ضلال وفساد. تَواصَوْا: يوصى بعضهم بعضا. بِالْحَقِّ: بالثابت والمراد به الخير. بِالصَّبْرِ الصبر: قوة النفس على تحمل المشاق. يقسم الله بالدهر، لما فيه من العبر، وما يكون فيه من الأحوال المتناقضة التي تدل على أن لهذا الكون، ولهذا الدهر إلها هو المتصرف القادر فيه، ألست ترى فيه ليلا ونهارا يتعاقبان، وترى فيه آية لليل وأخرى للنهار، ألست ترى فيه سراء، وضراء، وسعادة وشقاء وصحة ومرضا، وخوفا وأمنا، وإنسانا يموت من الجوع وآخر يهلك من الشبع، وهذا يموت من الغرق، وذاك يموت من الحرق، كل ذلك والعصر زمن لا دخل له في شيء أبدا، بل هذا يدل على أن للكون إلها هو خالقه ومدبره وهو المستحق لأنه يتوجه إليه وحده ويعبد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 900 إن الإنسان لفي خسر وضلال وكفر وهلاك بسبب ما يتردى فيه من المعاصي والكفر والآثام التي اختارها لنفسه «1» يا سبحان الله الإنسان كالمغمور في الخسران، وقد أحاط به من كل جانب، وذلك أنه يذنب في حق الإله الذي رباه وأنعم عليه بكل نعمة وخير. إن الإنسان- جميع أفراده- في ذنوب وآثام مهلكة إلا من عصم الله منه ووفقه إلى الخير، وهم الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله إيمانا صادقا خالصا، ثم أتبعوا ذلك بالعمل الصالح المفيد الذي يرضى الله ورسوله والمؤمنين، ولكن هل يكتفى منك الله بذلك؟ لا، بل لا بد من خصلة ثالثة هي التواصي بالحق، والتواصي بالصبر، أى: يوصى بعضهم بعضا بالحق الثابت الذي أرشد له الدليل السليم والشريعة الصحيحة، ويوصى بعضهم بعضا بالصبر على المكروه، وتحمل المشاق. إذ لا يكتفى منك الدين بأن تعمل الخير فقط بل لا بد أن تدعو غيرك- بعد أن تصلح نفسك- تدعوه إلى الحق وإلى الخير وإلى الصراط المستقيم، وسيلحقك أذى في ذلك بلا شك فاصبر وادع غيرك للصبر، فالصبر نصف الإيمان والله هو الموفق إلى الخير.   (1) والله قد خلقه مستعدا للخير ميالا له لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ. [ ..... ] الجزء: 3 ¦ الصفحة: 901 سورة الهمزة مكية. وآياتها تسع آيات، وفيها ينعى الله على العياب الطعان المشاء بالنميمة، ويعده بنار شديدة مطبقة عليه من كل ناحية. [سورة الهمزة (104) : الآيات 1 الى 9] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9) المفردات: وَيْلٌ: هلاك وعذاب. هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ: عياب طعان مشاء بالنميمة بين الناس، وهذه الصيغة ذاتها تدل في اللغة على الكثرة. وَعَدَّدَهُ أى: عده مرات متلذذا به. أَخْلَدَهُ: جعله خالدا باقيا. كَلَّا: ردع وزجر. لَيُنْبَذَنَّ: ليرمين. الْحُطَمَةِ: النار الشديدة، سميت بذلك لأنها تحطم العظام وتأكل اللحوم. الْمُوقَدَةُ، المتقدة الشديدة. تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ: تصل إليها وتؤثر في موضع الشعور ومركز الإحساس، أو تطلع على ما فيها وتميز بين أنواعها. مُؤْصَدَةٌ: مطبقة مغلقة عليهم. عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ: عمد طويلة. ويل شديد لا يدرك كنهه، ولا تعرف حقيقته: لكل همزة لمزة، لكل شخص يطعن في أعراض الناس، ويغض من شأنهم، ويحقر من أعمالهم، يسيء إليهم متلذذا الجزء: 3 ¦ الصفحة: 902 بعمله، وإنما دعاه إلى ذلك إعجابه بنفسه، وغروره بماله الذي جمعه وجعله عدته، وعده مرات، وظن أنه لا يموت، ويروى أن الأخنس بن شريق، أو الوليد بن المغيرة، أو أمية بن خلف كان يفعل ذلك مع النبي صلّى الله عليه وسلّم. سيذكر الله ما أعده لهؤلاء وأمثالهم من العيابين المغرورين بمالهم فقال: كلا: ردع لهم وزجر عن ظنهم الفاسد وحسبانهم الكاذب والله لينبذن من يفعل ذلك في الحطمة، تلك النار التي تحطم العظام وتأكل اللحوم وتهجم على القلوب. وما أدراك ما الحطمة؟ وهذا الاستفهام يراد به تفخيم أمرها، وإكبار شأنها وبيان أنها مما لا تدركها العقول، ولا تحيط بها الأوهام، ولا يعرفها إلا خالقها فمن ذا الذي يعلمك بشأنها إلا خالقها؟ ولذا عرفها فقال: هي نار الله التي ليست كنيران الخلق، نار الله الموقدة، التي تطلع على الأفئدة وتقهرها وتعلوها، لأنها تدخل في الجوف، أو هي تعرف أسرار القلوب، وتميز بين الطائع والعاصي، إنها مطبقة عليهم فلا يخرجون منها أبدا، وأبوابها المغلقة شدت بأوتاد طويلة لا تفتح أبدا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 903 سورة الفيل مكية. وآياتها خمس آيات، وفيها يذكر الله قصة أصحاب الفيل، وخلاصتها: كان على اليمن ملك يسمى أبرهة الأشرم، وقد بنى كنيسة عظيمة بصنعاء، وكانت على جانب كبير من الأبهة وفخامة البناء، وأراد أن يصرف الحج من الكعبة إليها، وأخبر النجاشيّ ملك الحبشة بذلك، ويروى أن أعرابيا أحدث فيها وفر، فغاظ ذلك الملك، وأقسم ليدمرن الكعبة، فجهز جيشا عظيما، وقصد به إلى مكة، وكان في مقدمته فيل عظيم، ولما شارف الجيش مكة أمر الملك بنهب أموال العرب، وكان فيها إبل لعبد المطلب بن هاشم جد النبي- عليه الصلاة والسلام- فاستاقها الجند، فلما علم عبد المطلب بذلك طلب مقابلة الملك، فقابله وكلمه في شأن الإبل فرد عليه الملك قائلا: لقد أعجبتنى حين رأيتك ثم زهدتني فيك حين كلمتنى، تسألنى الإبل وتترك البيت الذي هو دينك ودين آبائك!! فرد عليه عبد المطلب قائلا: أما الإبل فهي لي وأما البيت فله رب يحميه، فرد عليه أبرهة الإبل ... ويروى أن عبد المطلب لما انصرف من عند الملك أمسك بحلقة باب الكعبة وقال: لاهم «1» إن العبد يمنع ... رحله فامنع رحالك لا يغلبن صليبهم ومحالهم ... أبدا محالك إن كنت تاركهم وقبلتنا ... فأمر ما بدا لك فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبأ جيشه لهدم البيت والانصراف إلى اليمن، فلما وجهوا الفيل إلى مكة برك، ولما وجهوه إلى اليمن أو إلى الشام قام ونهض. عند ذلك أرسل الله عليهم طيرا تحمل في مناقيرها وأرجلها حجارة صماء ألقتها عليهم فانتشر المرض فيهم حتى مات أغلبهم، وصاروا كأوراق الشجر الجافة. ولكن هل هذه الحجارة قتلتهم بنفسها أو لأنها تحمل جراثيم الطاعون؟ الله أعلم بذلك، والثابت أنهم عقب إلقائها عليهم مات معظم الجيش، وانصرف أبرهة ومن بقي عن هدم الكعبة، ومات أبرهة في الطريق.   (1) أصله: اللهم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 904 [سورة الفيل (105) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5) المفردات: كَيْدَهُمْ: مكرهم وحيلتهم. تَضْلِيلٍ: هلاك وضياع. أَبابِيلَ: جماعات متفرقة. سِجِّيلٍ: الطين الذي تحجر. كَعَصْفٍ العصف: ورق الزرع الذي يبقى بعض الحصاد فتأكله الماشية. المعنى: ألم تعلم بقصة متواترة مستفيضة أصبح العلم بها يساوى في قوته وجلائه العلم الناشئ عن الرؤية والمشاهدة؟ والمراد: أخبرنى بقصة أصحاب الفيل، أخبرنى كيف فعل ربك بهم؟ ألم يجعل كيدهم ومكرهم وحيلتهم في هدم الكعبة، في ضلال وباطل، ولم يصلوا إلى ما أرادوا؟!. وقد أرسل الله عليهم طيرا جماعات تحمل حجارة فيها جراثيم الأمراض التي فتكت بمعظم الجيش، حتى باء بالخيبة، ورجع بالخذلان المبين، هذه الطيور رمت الجيش بحجارة من طين متحجر، فأهلكت أكثره، وتركته نهبا للطير، أشبه ما يكون بالعصف المأكول للحيوان، وهو ورق الشجر إذا جف بعد الحصاد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 905 سورة قريش مكية. وآياتها أربع، وفيها أمرت قريش بعبادة ربها صاحب النعم عليها. [سورة قريش (106) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4) المفردات: لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ يقال: آلفت الشيء إيلافا، وألفته إلفا وإلافا، بمعنى: لزمته وعكفت عليه، وقيل المراد بذلك: المعاهدات التجارية والمحالفات التي عقدوها مع غيرهم، وهذه المادة تدل على اجتماع الشمل مع الالتئام. رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ الرحلة والارتحال: شدهم الرحال للسير هذه في الأصل، ثم صارت اسما للسفر. ذَا الْبَيْتِ : الكعبة. آمَنَهُمْ: نجاهم وسلمهم. كلنا يعرف أن مكة وما حواليها بلاد قاحلة لا نبات فيها ولا زرع، رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ «1» وهذا الوضع جعل سكانها يفكرون في أمر معاشهم، فكانوا تجارا. يتاجرون مع جيرانهم في الشمال والجنوب، فرحلوا إلى اليمن شتاء وإلى الشام صيفا، ولأنهم أهل بيت الله وجيرانه كان الناس   (1) - سورة ابراهيم آية 37. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 906 يحترمونهم، ويكرمونهم، ويعاملونهم معاملة حسنة، بذلك زادت منافعهم، واتسعت تجارتهم وكثر ربحهم، وعقدوا المعاهدات والمحالفات التجارية مع جيرانهم. وخلاصة معنى السورة: إن كانت قريش «هم أولاد النضر بن كنانة» لا يعبدون ربهم لسبب من الأسباب فليعبدوا رب هذا البيت لأنه آلفهم رحلة الشتاء والصيف للتجارة وكسب الرزق، وكانوا بذلك أغنياء آمنين ينتقلون حيث شاءوا، بفضل الله الذي جعلهم جيران بيته وخدم حجاجه لْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ ولله وحده المنة والفضل على أهل مكة حيث نجّى البيت من أبرهة لتظل لهم مكانتهم وتجارتهم مع جيرانهم، فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم بعد جوع وفقر، وآمنهم بعد خوف وذل. فالله- سبحانه وتعالى- الذي وسع لهم في الرزق، ومهد لهم سبيل الأمن، وأعطاهم القبول عند الناس لأنهم أهل بيته وخدم حجاجه، فاستطاعوا بذلك أن يجدوا قوتهم ويأمنوا على أنفسهم وتجارتهم، وإذا كان الله هو صاحب الفضل في ذلك كله فليعبدوه وحده دون سواه لأنه أطعمهم بدل جوع شديد، وآمنهم بدل خوف كثير. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 907 سورة الماعون مكية. وآياتها سبع آيات، وفيها ينعى الله على من يكذب، ويبين صفاته. [سورة الماعون (107) : الآيات 1 الى 7] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7) المفردات: بِالدِّينِ: بالجزاء، وقيل: بالإسلام كله. يَدُعُّ الْيَتِيمَ: ينهره ويزجره زجرا شديدا. وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ: لا يحث عليه. فَوَيْلٌ: هلاك. ساهُونَ: غافلون عنها. الْماعُونَ: كل ما يستعان به وينتفع. أرأيت الذي يكذب بالدين؟ أخبرنى عنه من هو؟ فإن الواجب على المتدين أن يعرفه على حقيقته حتى يبتعد عنه لا عن صفاته؟ فالاستفهام أريد به تشويق السامع ليعرف ما بعده، وللإشارة إلى أن هذا الأمر خفى! وكل يدعى أنه مصدق بيوم الدين، هل عرفت من هو المكذب بالدين؟ إن لم تكن عرفته فذلك هو: الذي يدع اليتيم، ويدفعه دفعا عنيفا ويزجره زجرا شديدا عن حقه في ماله إن كان له مال، أو عن حقه في الصدقة إن كان فقيرا، وهو الذي لا يحض على إطعام المساكين، وإذا كان لا يحث عليه الجزء: 3 ¦ الصفحة: 908 فمن باب أولى لا يطعم هو، وانظر إلى علامة المكذب بيوم الدين التي ذكرها القرآن: منع الحقوق وإيذاء الضعفاء، والبخل الشديد على المستحقين، إذا عرفت ذلك فويل وهلاك للمصلين الذين هم عن صلاتهم غافلون، الذين يصلون صلاتهم بدون خشوع وخضوع، وبدون استحضار قلبي لعظمة الله، وبدون تدبر لمعانى ما يقرءون، صلاة لا يشعر صاحبها أنه بين يدي الخالق فتراه يسبح بفكره ويسرح طرفه ويتحرك ويعبث بأطرافه ولا يعرف عدد ما يصلى، تلك صلاة بعض الناس الذين يكذبون بيوم الدين وهي بلا شك لا تنهى عن الفحشاء والمنكر، وقد سها أصحابها عن ذكر الله وهم لذلك يراءون الناس ويذكرونهم ويفعلون لهم ولا يفعلون لله، وهم لشدة الشح وكثرة البخل يمنعون الماعون! أرأيت من يكذب بالدين؟ هو الذي يشتد على اليتيم، ولا يعطى حقوق المساكين وهو غافل عن صلاته مراء للناس في عمله، ومانع خيره عن غيره، فالويل ثم الويل لهؤلاء، إن صاموا وإن صلوا. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 909 سورة الكوثر مكية على الصحيح، وآياتها ثلاث آيات. وفيها يذكر الله أنه أعطى نبيه الخير الكثير ثم يطالبه بالصلاة والصدقة شكرا له على ما أنعم. [سورة الكوثر (108) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) المفردات: الْكَوْثَرَ: الشيء الكثير. قيل لأعرابية رجع ابنها من سفر: بم رجع ابنك؟ فقالت: رجع بكوثر، وقيل: هو نهر في الجنة. شانِئَكَ: مبغضك. الْأَبْتَرُ: مقطوع الأثر والذكر. المعنى: كان المشركون حينما يرون النبي والمسلمين في قلة من العدد وقلة من المال يستخفون بهم ويهونون من شأنهم ظانين أن الحق والخير إنما يكون مع المال والغنى وكثرة العدد، وإذا رأوا النبي وقد مات له ولد قالوا: قد بتر محمد ولم يبق له ذكر، وكان المنافقون كذلك إذا رأوا ما عليه المسلمون من شدة وضيق ذات اليد انتظروا منهم السوء ومنوا أنفسهم بالغلبة عليهم، وكان ضعاف المسلمين ربما وقع في نفوسهم شيء من خواطر السوء إذا وقعوا في ضيق أو شدة لهذا كله نزلت السورة تبين ما عليه النبي صلّى الله عليه وسلّم وما أعطى من الخير الكثير في الدنيا والآخرة، وما سيؤول إليه حال حاسديه ومبغضيه، ولعلنا نعتبر بذلك ونرضى! الجزء: 3 ¦ الصفحة: 910 إنا أعطيناك الكوثر، أى: الخير الكثير البالغ حد الإفراط، ألم يعطك ربك النبوة والدين الحق؟ وأرسلك للناس كافة؟ وجعل دينك خاتم الأديان، ونهاية الرسالات، وجمع فيه بين خير الدنيا والآخرة، وجمع فيه الحسن والكمال من كل ناحية؟ ألم يعطك القرآن والعلم والحكمة؟ ألم يعطك الفضل الكثير والخير العميم، والهدى والنور؟ وسعادة الدنيا والآخرة لك ولأصحابك ولأمتك إلى يوم القيامة؟! نعم أعطاك هذا كله، ومن بينه الكوثر- إذا فسر بنهر في الجنة- وإذا كان الأمر كذلك فصل لربك وتوجه إليه وحده وتوكل عليه ولا ترج غيره فإنه نعم المولى ونعم النصير، صل لله وانحر ذبيحتك مما هو نسك لله، كل هذا له وحده فإنه هو الذي رباك وأعطاك وهداك ووفقك. أما شانئوك وحاسدوك ومبغضوك فهم المقطوع أثرهم، الذين لا يبقى لهم ذكر جميل، وقد شبه الله الذكر الجميل بذنب الحيوان لأنه يتبعه وهو زينة له، وشبه الحرمان من الأثر الطيب بقطع الذنب، وقد شاع البتر في ذلك، وبعض العلماء يفسر الصلاة بصلاة العيد، والنحر بالأضحية فقط، وليس هذا بسديد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 911 سورة الكافرون مكية. وآياتها ست آيات، وفيها قطع لآمال الكفار وبيان الفرق بين عبادتهم وعبادة النبي صلّى الله عليه وسلّم وأنه واسع جدا. [سورة الكافرون (109) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) روى أن زعماء الشرك أتوا النبي صلّى الله عليه وسلّم لما يئسوا منه ورأوا أن في دعوته خيرا ولكن يمنعهم من اتباعه حب التقليد الأعمى والعظمة الكاذبة، وقالوا له: تعال نعبد إلهك مدة وتعبد آلهتنا مدة فيحل بذلك الصلح بيننا وبينك، وتزول العداوة من بيننا فإن كنا في خير أخذت منه حظا، وإن كنت في خير أخذنا منه حظا، فنزلت السورة ردا عليهم، وقطعا لأطماعهم. المعنى: قل يا محمد لهؤلاء الكفار الذين مرنوا على الكفر فلم يعد فيهم خير، ولن يرجى منهم إيمان، قل لهم: لا أعبد الذي تعبدونه فأنتم تعبدون آلهة تتخذونها شفعاء لله الواحد القهار، أنتم تعبدون آلهة تظنون أنها تحل في صورة أو تظهر في صنم أو وثن، وأنا أعبد الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يتخذ صاحبة ولا ولدا، ولا مثيل له ولا ند، ولا يحل في جسم أو شخص، وهو الغنى عن الشفعاء ولا يتقرب إليه بمخلوق، بل القربى والوسيلة إليه في العبادة فقط فبين الذي أعبد والذي تعبدون فرق شاسع، فلا أنا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 912 يا أيها الكافرون الثابتون على الكفر: لا أنا عابد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتي فالآيات 2، 3 تدلان على الاختلاف في المعبود الذي يعبد، فالنبي- عليه الصلاة والسلام- يعبد الله وهم يعبدون الأصنام والأوثان والشفعاء، والآيتان 4، 5 تدلان على الاختلاف في نفس العبادة فعبادة النبي خالصة لله لا يشوبها شرك ولا تصحبها غفلة عن المعبود، وعبادتكم كلها شرك وإشراك وتوسل بغير العمل فكيف يلتقيان!! وبعض العلماء يرى- دفعا للتكرار- أن المعنى: لا أعبد في المستقبل ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد، ولا أنا عابد ما عبدتم في الماضي ولا أنتم عابدون ما أعبد فيه، والأمر سهل والنهاية واحدة. لكم دينكم وعليكم وحدكم وزره، ولى ديني الذي أدعو إليه وعلى تبعاته وأوزاره، وهاتان الجملتان لتأكيد المعنى السابق. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 913 سورة النصر مدنية. وآياتها ثلاث آيات، وفيها البشارة للنبي وصحبه بنزول العون لهم ونصرة دينهم وفتح قلوب الناس لهذا الدين، ثم أمرهم بالتسبيح والتنزيه لله- تعالى- على أنه سبب النجاح. [سورة النصر (110) : الآيات 1 الى 3] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3) المفردات: نَصْرُ اللَّهِ: عونه ومعونته. وَالْفَتْحُ بمعنى: فتح البلاد، أو الحكم في القضية التي بينكم وبين خصوم الإسلام. أَفْواجاً: جمع فوج، بمعنى الجماعات. فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ التسبيح: هو التقديس والتنزيه، والحمد: هو الثناء عليه بما هو أهله. المعنى: كان النبي صلّى الله عليه وسلّم شديد الحرص على إيمان الناس وخاصة قريش والعرب، والنبي كبشر لا يعلم الغيب ولذا كان قلقا ضجرا بعض الشيء على الدعوة، فأتت هذه السورة تبشره وتذكره بأن هذا كان الأولى أن تبتعد عنه، وهذا من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين فقد يكون الشيء حسنة عندك وهو عند غيرك لمم- صغير من الذنوب- يصح الاستغفار منه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 914 وإذا جاء نصر الله وعونه وهو لا بد حاصل، وجاء الفتح للبلاد المغلقة والقلوب المقفلة إذا جاء هذا وذاك، ورأيت الناس يدخلون في دين الله جماعات كثيرة إذا حصل هذا فالواجب مقابلته بالشكر والثناء على الله بما هو أهله، إذا حصل هذا فسبح ربك وقدسه تقديسا، ونزهه تنزيها يليق بجنابه، سبحه حامدا له فعله الجميل ذاكرا له صفاته المناسبة وأسماءه الحسنى، واستغفر لذنبك واطلب المغفرة مما قد تكون ألممت به وهو لا يليق بك كخاتم الأنبياء والمرسلين، استغفر الله إنه كان توابا كثير القبول لتوبة عباده، إنه يقبل التوبة ويعفو عن السيئة، ويعلم ما نفعل، والخطاب في السورة للنبي صلّى الله عليه وسلّم ولكل من يصلح له الخطاب. روى أن هذه السورة كانت بمثابة نعى الله لنبيه، فإنه إذا حصل هذا فقد أدى محمد صلّى الله عليه وسلّم رسالته كاملة، وإذا أداها فسيلحق بالرفيق الأعلى، ولقد فهم هذا المعنى بعض الصحابة وبكى على رسول الله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 915 سورة المسد مكية. وآياتها خمس آيات. وفيها ذم أبى لهب وامرأته حمالة الحطب. [سورة المسد (111) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5) المفردات: تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ التباب: الهلاك والخسران، والمراد: خسر وهلك أبو لهب. سَيَصْلى: سيجد حرها ويذوق لهبها. حَمَّالَةَ الْحَطَبِ: هل الحطب على حقيقته؟ وكانت أروى بنت حرب بن أمية أخت أبى سفيان وزوج أبى لهب تحمل الحطب حقيقة، أم كانت امرأة تسعى بين الناس بالوقيعة والفساد، وهذه الجملة جاءت كناية عن ذلك. مَسَدٍ المسد: الحبل المفتول فتلا شديدا. المعنى: روى أن النبي صلّى الله عليه وسلّم حينما أمر بالجهر والتبليغ العلنى للناس خاصة المقربين من أهله وقف على البطحاء فنادى: «يا صباحاه» فاجتمعت إليه قريش، فقال: أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم مصدقون؟ قالوا: نعم، قال: فإنى نذير لكم بين يدي عذاب شديد، فقال أبو لهب: تبا لك ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ . الجزء: 3 ¦ الصفحة: 916 هلك أبو لهب وخسر خسرانا شديدا، وهذا دعاء عليه، وقد هلك وخسر بالفعل بدليل قوله تعالى ثانيا: وَتَبَّ ما أغنى عن أبى لهب ماله، ولا نفعه كسبه وعمله، ولم ينفعه شيء من ذلك في تثبيط دعوة النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد كان أبو لهب عم النبي صلّى الله عليه وسلّم واسمه عبد العزى، وكان من ألد أعدائه، يسير وراء النبي فإذا قال شيئا كذبه، ولهذا ذكر الله جزاءه فقال: سيصلى نارا لا يعرف قدرها ولا وصفها إلا خالقها، نارا ذات لهب، سيصلى هو وامرأته أذم حمالة الحطب. روى أنها كانت تضع الشوك في طريق رسول الله بعد جمعه لهذا السبب، وقيل: إنها كانت تسعى جاهدة في إيقاع العداوة بين النبي والناس، وتحمل حطب نار الفتنة، وتوقد بينهم نار العداوة، وقد زاد سبحانه في تبشيع صورتها بقوله: في جيدها حبل من مسد، وقد كان لها قلادة حلفت لتبيعنها في الإنفاق ضد رسول الله، فأعقبها الله بدلها حبلا في جيدها: حبلا محكما ليوضع في عنقها، وهي في نار جهنم، وقيل: إن المعنى على تحقيرها وتصويرها بصورة الحاطبات الممتهنات إذلالا لكبريائها هي وزوجها. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 917 سورة الإخلاص مكية. وآياتها أربع آيات، وهي سورة التوحيد والتنزيه لله- سبحانه وتعالى- وهذا هو الأصل الأول والركن الركين للإسلام لذلك ورد أنها تعدل ثلث القرآن في ثواب قراءتها إذ الأصول العامة ثلاثة: التوحيد، تقرير الحدود وأعمال الخلق، وذكر أحوال يوم القيامة، ولا حرج على فضل الله الذي يهب لمن يقرؤها بتدبر وتفهم مثل ما يهبه لقارئ ثلث القرآن. [سورة الإخلاص (112) : الآيات 1 الى 4] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4) المفردات: أَحَدٌ: واحد في ذاته وصفاته وأفعاله. الصَّمَدُ: المقصود وحده في قضاء الحوائج. كُفُواً: مكافئا ومماثلا ونظيرا. المعنى: هذا هو الأساس الأول، والمهمة الأولى التي جاء إليها النبي صلّى الله عليه وسلّم فشمر عن ساعد الجد، وأخذ يدعو الناس إلى التوحيد، وعبادة الله الواحد لهذا أمر في هذه السورة بأن يقول للناس: هو الله أحد. قل لهم يا محمد: الخبر الحق المؤيد بالصدق، والبرهان القاطع هو الله أحد، فالله واحد في ذاته ليس مركبا ولا متعددا، واحد في صفاته فليس لغيره صفة تماثله، وواحد في أفعاله فليس لغيره فعل يدانى فعله أو يشبهه. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 918 ولعل تصدير الكلام بضمير الشأن- هو- للتنبيه من أول الأمر على فخامة الكلام الآتي، ولبيان أنه من الخطورة والروعة ما يجعلك تبحث عنه وتلتفت إليه. وذلك أن الضمير يدعوك إلى ترقب ما بعده، فإذا جاء تفسيره وتوضيحه تمكن في النفس أى تمكن، ولعلك تسأل: أما كان الأولى أن يقال: الله الأحد بدل أحد؟ والجواب على ذلك: أن المقصود إثبات أن الله- جل جلاله- واحد ليس متعددا في ذاته، ولو قيل الله الأحد لأفادت العبارة أنهم يعتقدون الوحدانية ويشكون في ثبوتها لله. مع أن المقصود نفى العدد لأنهم كانوا يعتقدونه ولهذا قال: الله أحد الله الصمد، أى: ليس فوقه أحد ولا يحتاج إلى أحد، بل هو وحده الذي يحتاج إليه كل ما عداه، إليه وحده يلجأ الخلق في الشدائد والأزمات جل جلاله وتباركت آلاؤه. لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وهذا تنزيه لله عن أن يكون له ولد أو بنت أو والد أو أم، أما كونه لا ولد له فهذا رد على المشركين الذين يقولون: الملائكة بنات الله، وعلى النصارى واليهود الذين يقولون: العزير والمسيح أبناء الله، ولم يكن الله مولودا كما قالت النصارى: المسيح ابن الله ثم عبدوه كأبيه، أما استحالة أن يكون له ولد فإن الولد يقتضى انفصال جزء من أبيه وهذا بلا شك يقتضى التعدد والحدوث ومشابهة المخلوقات، على أنه غير محتاج إلى الولد فهو الذي خلق الكون وهو الذي فطر السموات والأرض وهو الذي يرثهما. أما استحالة كونه مولودا فهي من البديهيات الظاهرة لاحتياج الولد إلى والد ووالدة، وإلى ثدي ومرضعة، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ نعم ما دام واحدا في ذاته ليس متعددا، وليس والدا لأحد ولا مولودا لأحد، فليس يشبه أحدا من خلقه، وليس له مثيل أو نظير أو ند أو شريك سبحانه وتعالى عما يشركون. وهذه السورة مع وجازتها ردت على مشركي العرب وعلى النصارى واليهود كما مر وأبطلت مذهب المانوية القائلين بالنور والظلمة، وعلى النصارى القائلين بالتثليث، وأبطلت مذهب الصابئة الذين يعبدون النجوم والأفلاك، وردت على مشركي العرب الذين زعموا أن غيره يقصد عند الحوائج، وأن له شريكا تعالى الله عن ذلك كله. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 919 وتسمى هذه السورة سورة الإخلاص، لأنها تضمنت إثبات وحدانية الله، وأنه لا شريك له، وأنه هو المقصود وحده في قضاء الحوائج، وأنه لم يلد ولم يولد، وأنه لا مثيل له ولا نظير، وهذا يقتضى الإخلاص في عبادة الله وحده، أو الاتجاه إليه وحده. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 920 سورة الفلق مكية، وقيل: مدنية. وآياتها خمس آيات، وهي إحدى المعوذتين. [سورة الفلق (113) : الآيات 1 الى 5] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5) المفردات: الْفَلَقِ أصله: شق الشيء وإبانة بعضه عن بعض، والمراد كل ما يفلقه الله: كالأرض بالنبات والجبال بعيون الماء، والسحاب بالمطر، والأرحام بالولد. غاسِقٍ الغاسق: الليل الشديد الظلمة. إِذا وَقَبَ: إذا دخل في كل شيء، وغشى كل كائن وستره. النَّفَّاثاتِ: جمع نفاثة، والنفث: النفخ مع ريق يخرج من الفم. فِي الْعُقَدِ: جمع عقدة، وهل هي المعروفة أو هي رابطة المحبة والصلة بين الناس؟ روى أن بعض اليهود سحر النبي صلّى الله عليه وسلّم فمرض رسول الله ثلاث ليال، واشتد عليه ذلك حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء وهو لا يفعله، ثم أتاه جبريل فأخبره بالسحر وبموضعه الذي وضع فيه، وتلا عليه المعوذتين، وجيء بالسحر، وقرأ المعوذتين فكأنما نشط من عقال، ورجعت إليه طبيعته. وهذه رواية لا أظن أنها صادقة، كما حقق ذلك بعض العلماء، وإنما هي من مفتريات الجزء: 3 ¦ الصفحة: 921 اليهود، ليشككوا الناس في النبي صلّى الله عليه وسلّم وليلصقوا به السحر، مع أن الله يقول: وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1» إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ «2» . قل لهم يا محمد: إنى أعوذ برب الكائنات كلها، التي تنشأ عن فلق الأرض أو السماء، أعوذ به وأستجير من كل شر وأذى يصيبني في نفسي وأهلى أو دعوتي وصحبي وأعوذ بك من شر الليل إذا غسق. وغشى كل كائن ووقب، فإن ظلامه ستار لكل معتد أثيم، وأعوذ بك من النفاثات في العقد التي يعقدونها، كما ورد ذلك سابقا، ولكن الأولى أن يكون المعنى: أعوذ بك من شر النمامين المقطعين لروابط المحبة، وعلى ذلك فالنفاثة تاؤه للمبالغة لا للتأنيث- هو الساعى بالنميمة الذي يعمل فكره في إيقاع المكروه بالمحسود، وهو يعمل جاهدا على ذلك، ولا سبيل لإرضائه، فلم يكن إلا أن نتوجه إلى الله أن يقينا شره، ويحفظنا من سوئه، وهو على كل شيء قدير.   (1) - سورة المائدة آية 67. (2) - سورة الحجر آية 95. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 922 سورة الناس مكية على الصحيح. وآياتها ست آيات، وهي المعوذة الثانية. [سورة الناس (114) : الآيات 1 الى 6] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6) المفردات: الْوَسْواسِ: الذي يوسوس للناس فيلقى في صدورهم أحاديث السوء. الْخَنَّاسِ: صيغة مبالغة من الخنوس: وهو الرجوع والتأخر، وذلك أنه إذا زجر انزجر ورجع. مِنَ الْجِنَّةِ: الخلق المستتر الذي لا يعلمه إلا خالقه. قل لهم: إنى ألجأ إلى الله وأستعيذ به ليحفظنى من شر الذي يوسوس لي، أعوذ برب الناس الذي رباهم وتعهدهم في صغرهم وضعفهم، وقد ملك أمرهم وتولى شأنهم فهو المالك للناس، وهو إلههم وهم عبيده، فهو أحق بالعبودية والخضوع والتوجه إليه، والله سبحانه لأنه خلق الناس ورباهم وملك أمرهم وتولاهم فهو يستعاذ به فيعيذ ويستنصر به فينصر، ويلجأ إليه من شر الذي يوسوس في النفس، فيزين لها فعل القبيح، ويصور الشر بصورة الخير، هو الوسواس الكثير الرجوع إذا زجر، سواء كان من الجنة أى: الخلق الجزء: 3 ¦ الصفحة: 923 المستتر، وهم جند إبليس وأبناؤه، أم كان من الإنس كقرناء السوء، وقانا الله شر شياطين الجن والإنس، إنه سميع مجيب، وهو على كل شيء قدير، والله سبحانه وتعالى يعلمنا ويرشدنا إلى كيفية الاستعاذة به من كل سوء ومكروه ظاهر وباطن. والله أعلم. الجزء: 3 ¦ الصفحة: 924 فهرس المجلد الثالث الموضوع صفحة كيف تدعو أهل الكتاب إلى الإسلام 1 ذكر بعض الشبه والرد عليها 4 توجيهات إلهية للمسلمين 7 بيان حال الكفار في الشدة والرخاء 10 سورة الروم- من أخبار الغيب 13 لفت أنظار المشركين وتهديد لهم 15 أوقات التسبيح والعبادة 18 بعض آيات الله الناطقة بقدرته ووحدانيته 20 الإسلام دين الفطرة 26 بيان طبيعة الناس مع توجيهات لهم 28 من دلائل التوحيد ونتائج الأعمال 31 من آيات في الرياح والمطر 34 هكذا الإنسان- وختام السورة 37 سورة لقمان- القرآن وأثره 41 الكافرون بالقرآن والمؤمنين به 42 هذا خلق الله 45 قصة لقمان ووصيته لابنه 46 كيف تكفرون بالله وهو صاحب النعم؟ 50 المؤمن والكافر 51 الله هو الخالق وهو الحق وما دونه هو الباطل 52 وعظ وإرشاد 55 سورة السجدة- القرآن من عند الله الذي خلق ودبر 58 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 925 إنكارهم للبعث 62 وهؤلاء هم المؤمنون وهذا هو جزاؤهم 65 مواعظ وعبر 68 سورة الأحزاب- توجيهات وآداب 71 النبي عليه الصلاة والسلام ومكانته 75 غزوة الخندق أو الأحزاب 77 من آداب البيت النبوي 87 من آداب أهل البيت وأوصافهم 91 قصة زينب بنت جحش مع زيد بن حارثة 96 من تأديب الله للمؤمنين وعنايته بهم 101 بعض الآداب الإسلامية 102 من خصوصيات النبي صلى الله عليه وسلّم 104 كلمة عن تعدد أزواج النبي صلّى الله عليه وسلّم 108 ما وجب على المؤمنين نحو بيت النبي مع آية الحجاب 109 مكانة الرسول صلى الله عليه وسلّم 113 ستر عورات النساء 115 هؤلاء المنافقون وهذا جزاؤهم 118 وهذا جزاء الكفار 120 توجيهات وعظات 121 أمانة التكاليف وحملها 123 سورة سبأ 125 إثبات البعث وبيان دواعيه والرد على منكريه 125 داود وسليمان 129 قصة سبأ وسيل العزم 132 مناقشة المشركين في اتخاذهم من دون الله آلهة شفعاء لهم 136 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 926 من مواقف المشركين 139 تسلية النبي صلى الله عليه وسلّم 141 بعض مواقف الكفار في الدنيا والآخرة 144 سورة فاطر أو سورة الملائكة 151 وعظ وإرشاد مع إثبات مبدأ الثواب والجزاء 153 الآيات الدالة على قدرة الله وإمكان البعث 157 وعظ وإرشاد 160 الناس مختلفون في خشية الله وأخشاهم لله أعلمهم به 163 القرآن والمؤمنون به والكافرون 165 نقاش المشركين 168 حقيقة هؤلاء المشركين 170 سورة يس 173 موقف النبي صلى الله عليه وسلّم مع قومه 173 قصة أصحاب القرية 176 بعض مظاهر القدرة 181 ذكر بعض أحوال الكفار 185 أصحاب الجنة وأصحاب النار 188 فضل الله على الناس كبير 190 إثبات الوحدانية لله مع نفى الشعر عن رسول الله 192 إثبات البعث 194 سورة الصافات- إن إلهكم لواحد 197 من مواقف المشركين يوم القيامة 201 المخلصون في الجنة 204 وهذه هي جهنم مأوى الظالمين 208 من قصة نوح عليه السلام 210 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 927 من قصة إبراهيم عليه السلام 211 قصة الذبيح 214 طرف من قصة موسى وهارون 217 طرف من قصة إلياس 218 ذكر طرف من قصة قوم لوط 220 قصة يونس عليه السلام 220 نقاش المشركين في عقائدهم 222 تقوية العزائم 226 سورة ص- مناقشة الكفار في عقائدهم والرد عليهم 229 قصة داود 234 لا بد من ثواب وعقاب 238 سليمان عليه السلام 239 أيوب عليه السلام 242 إبراهيم عليه السلام ونسله 244 إن ذلك لحق تخاصم أهل النار 246 من الأدلة على صدق النبي 248 قصة خلق الإنسان وإكرام الله له 249 سورة الزمر 253 من دلائل عظمة الله وكمال قدرته 255 المؤمن والكافر 258 التقوى والإخلاص واجتناب الطاغوت 259 هذه هي الدنيا 263 النور وشرح الصدور بالقرآن 264 الأمثال في القرآن 267 من أظلم الناس ومن أصدقهم 269 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 928 مناقشة اهل الشرك في عبادتهم الأصنام 271 إثبات وحدانية الله وقدرته مع مناقشتهم وبيان جزائهم 273 هكذا الإنسان 276 وعظ وإرشاد 278 لا إله إلا الله يجزى كلا على عمله 281 أحوال الخلق يوم القيامة 284 سورة غافر- القرآن ومن جادل فيه ومن آمن به 288 ومن أهوال يوم القيامة 292 تخويف الكفار وترويعهم 295 موسى مع فرعون وهامان وقارون وموقف الرجل المؤمن 299 دفاع الرجل عن موسى- تحذيره لقومه وبيان عاقبتهم في الدنيا والآخرة 300 تذكير هم بما حصل لهم أيام يوسف 303 إنكار فرعون وجود الإله 304 وعظ الرجل المؤمن لقومه 305 من مواقف الكافرين في الدنيا والآخرة 308 الجدل في آيات الله وسببه مع ذكر بعض النعم 311 كيف نعبد غير الله؟ 315 المجادلون وجزاؤهم وصبر النبي على إيذائهم 316 بعض آيات الله ونعمه علينا 319 تهديد المجادلين في آيات الله 321 سورة فصلت- القرآن وموقف المشركين منه 323 الله هو القادر المريد 326 تهديدهم بمثل ما حل يعاد وثمود في الدنيا 329 تهديدهم بعذاب يوم القيامة 333 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 929 الكفار وأعمالهم وجزاؤهم 335 الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا 337 الدعوة إلى الله وآداب القائمين بها 339 بعض آيات الله 342 تهديد الملحدين في القرآن 243 القرآن والذين يلحدون فيه 345 إليه يرد علم الساعة 349 الإنسان وطبعه 350 ختام سورة فصلت 352 سورة الشورى- الذي أوحى بهذا القرآن هو الله 355 حقائق إسلامية 357 حقيقة الرسالة المحمدية وهدفها 360 العاملون وجزاؤهم 365 من مظاهر حكمته وقدرته 369 من صفات المؤمنين وجزائهم، وأحوال الكافرين وعاقبتهم 373 الأمر كله لله 377 كيفية اتصال الله برسله 378 سورة الزخرف 382 القرآن الحكيم وقريش 382 من نعم الله علينا 384 ألوان من مفترياتهم وأباطيلهم والرد عليهم 386 إنكارهم النبوة والرد عليهم مع بيان حقارة الدنيا 390 تقوية العزيمة 394 العبرة من قصة موسى وفرعون 397 بعض مفترياتهم والرد عليها 400 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 930 بعض أحوال يوم القيامة 403 استحالة الولد والشريك لله 407 سورة الدخان 410 ذلك هو القرآن الكريم 410 ما لهم لا يعتبرون بفرعون وقومه 413 إنكارهم البعث والرد عليهم 416 هؤلاء هم المتقون يوم القيامة 420 سورة الجاثية 422 تلك بعض آياته الدالة عليه 422 الويل لكل أفاك أثيم 424 من فضل الله علينا 426 تحذيرهم من أن يكونوا كبني إسرائيل 428 بعض سيئاتهم وجزاؤهم عليها يوم القيامة 431 ختام سورة الجاثية 435 سورة الأحقاف 437 إثبات الوحدانية لله ونفى الشركاء 437 شبهاتهم في نبوة محمد لله وصدق القرآن 440 الإنسان بين خالقه ووالديه 443 قصة نبي الله هود مع قومه عاد 447 إيمان الجن بالنبي لله 451 من دلائل البعث 453 ختام السورة 454 سورة محمد لله: أحوال الكافرين والمؤمنين 456 القرآن والقتال 458 المؤمنين والكافرون في الدنيا والآخرة 462 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 931 مثل النعيم والعذاب الأليم يوم القيامة 464 المنافقون والمهتدون 466 المؤمنون الصادقون والمنافقون الكاذبون 468 ختام السورة 473 سورة الفتح 476 صلح الحديبية 477 المتعاهدون مع الله ورسوله 481 المتخلفون عن الحديبية 484 بيعة الرضوان وما فيها من خير 488 تحقيق رؤيا الرسول 493 محمد وصحبه الأبرار 495 سورة الحجرات 498 موقف المسلمين من أحكام الله 498 من أدب الحديث مع رسول الله 499 التثبت في تلقى الأخبار 502 كيف تقضى على النزاع الداخلى 504 إرشادات إلهية في المعاشرة والاجتماع 506 الإيمان الصحيح 511 سورة ق 516 إنكارهم للبعث والدليل عليه 516 العبرة من سير الأولين 520 تقوى الله والخوف من عذابه يوم القيامة 521 تهديد لمنكري البعث وختام السورة 525 سورة الذاريات- إثبات البعث 529 من هم المتقون وما جزاؤهم 532 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 932 إكرام الله لأوليائه وإهانته لأعدائه 535 من آيات الله الكونية 539 سورة الطور- يوم القيامة والكفار فيه 543 المتقون وجزاؤهم يوم القيامة 545 نقاش الكفار في معتقداتهم وختام السورة 548 سورة النجم- تحقيق أمر الوحى 553 تلك هي آلهتهم التي لا تغنى عنهم شيئا 557 من هم المحسنون 560 حقائق إسلامية 562 سورة القمر- الكافرون وموقفهم من دعوة الحق 566 عاقبة المكذبين 569 تهديد المشركين مع بيان عاقبة المتقين 575 سورة الرحمن- أمهات النعم 578 بعض نعمه أيضا 582 من نعم الله يوم القيامة 584 من نعم الله على المتقين يوم القيامة 587 من نعم الله على المؤمنين يوم القيامة 589 سورة الواقعة- قيام القيامة 592 هؤلاء السابقون وذلك جزاؤهم 593 هؤلاء هم أصحاب اليمين وهذا جزاؤهم 596 هؤلاء هم أصحاب الشمال وهذا هو جزاؤهم 598 بعض الأدلة على إثبات قدرة الله الكاملة على البعث وغيره 600 إن هذا لهو حق اليقين 604 سورة الحديد- التسبيح لله وحده 608 الحث على الإيمان والإنفاق 611 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 933 المنافقون يوم القيامة 614 وعظ وإرشاد 616 حقيقة الدنيا والآخرة 618 الأمر كله لله 621 أسس الحكم في الإسلام 622 الغرض من أرسال الرسل 624 سورة المجادلة 627 الظهار وحكمه وكفارته 627 الله بكل شيء محيط 630 آداب المناجاة في الإسلام 631 من أدب الإسلام في المجالسة 634 نجوى الرسول 635 موالاة غير المؤمنين 637 سورة الحشر 641 إجلاء بنى النضير 641 الفيء وحكمه 644 هكذا المنافقون واليهود 648 التقوى وموجباتها 651 سورة الممتحنة 655 موالاة الكفار وعلاقتنا بها 655 المهاجرات من النساء ومبايعتهن 660 سورة الصف 664 توجيهات دينية 664 التجارة الرابحة 668 سورة الجمعة 671 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 934 منّ الله على العرب والناس جميعا 671 هؤلاء هم اليهود 673 بعض أحكام تتعلق بصلاة الجمعة 674 سورة المنافقون 677 المنافقون 677 سورة التغابن 683 من مظاهر قدرته وعلمه 683 إثبات البعث وتهديد الكفار 685 الحياة الدنيا في نظر المؤمنين 687 سورة الطلاق 691 أحكام تتعلق بالعدة 691 وعد ووعيد 697 سورة التحريم 700 ما حدث من بعض زوجاته من خصومة 700 توجيهات ومواعظ 704 أمثلة حية للنساء 706 سورة الملك.. من مظاهر القدرة والعلم 709 بعض مظاهر نعمه وقدرته وعلمه مع تهديد الكفار 713 إثبات للبعث وتهديد وبيان لبعض النعم 718 سورة ن.. محمد رسول الله أكرم الخلق على الله 720 قصة أصحاب الجنة ومغزاها 724 مناقشة المكذبين وتهديدهم 727 ختام السورة 731 سورة الحاقة.. يوم القيامة ومن كذب به 733 يوم الحساب وما فيه من مواقف للأبرار والفجار 735 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 935 حقيقة الإنسان وما نزل فيه 739 سورة المعارج.. تهديد المشركين بالعذاب الواقع عليهم 742 طبيعة الإنسان وعلاج القرآن لها 746 هؤلاء هم المكذبون وهذه نهايتهم 748 سورة نوح: قوم نوح وتصوير حالهم 751 سورة الجن: الجن واستماعهم للقرآن 757 توجيهات إلهية للرسول عليه السلام 762 سورة المزمل وإرشادات إلهية لزعيم الدعوة الإسلامية 766 ذلك تخفيف من ربك ورحمة 771 سورة المدثر.. توجيهات نافعة للمصطفى لله 773 ما يلاقيه زعماء الشرك!! 775 سفر ومن فيه 780 سورة القيامة.. يوم القيامة وما فيه 784 الإنسان عند موته وعند بدء خلقه 789 سورة الإنسان.. الإنسان بعثه وخلقه وتكليفه 792 الأبرار.. أعمالهم وجزاؤهم 794 توجيهات للنبي لله 798 سورة المرسلات 801 سورة النبإ 809 سورة النازعات 815 سورة عبس 822 سورة التكوير 827 سورة الانفطار 833 سورة المطففين 836 سورة الانشقاق 842 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 936 سورة البروج 846 سورة الطارق 850 سورة الأعلى 853 سورة الغاشية 856 سورة الفجر 859 سورة البلد 864 سورة الشمس 867 سورة الليل 870 سورة الضحى 873 سورة الانشراح 876 سورة التين 879 سورة العلق 882 سورة القدر 886 سورة البينة 888 سورة الزلزلة 892 سورة العاديات 894 سورة القارعة 896 سورة التكاثر 898 سورة العصر 900 سورة الهمزة 902 سورة الفيل 904 سورة قريش 906 سورة الماعون 908 سورة الكوثر 910 سورة الكافرون 912 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 937 سورة النصر 914 سورة المسد 916 سورة الإخلاص 918 سورة الفلق 921 سورة الناس 923 الجزء: 3 ¦ الصفحة: 938