الكتاب: التصوير القرآني للقيم الخلقية والتشريعية المؤلف: علي علي صبح الناشر: المكتبة الأزهرية للتراث عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- التصوير القرآني للقيم الخلقية والتشريعية علي علي صبح الكتاب: التصوير القرآني للقيم الخلقية والتشريعية المؤلف: علي علي صبح الناشر: المكتبة الأزهرية للتراث عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة : {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا، وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف: 1-3] ، {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 1-3] ، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] ، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا، وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الإسراء: 88، 89] ، {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192- 195] ، {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 1-3] ، {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 بَعِيدٍ} [فصلت: 44] ، {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 1-4] ، {الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآنَ، خَلَقَ الْإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ} [الرحمن: 1-4] . والصلاة والسلام على أفصح الخلائق أجمعين آثره ربه -عز وجل- بجوامع الكلم، فكان خلقه القرآن الكريم {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4] ، {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16-19] ، {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا، قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا، وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 105- 109] ، اللهم صلى وسلم وبارك على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه- والتابعين رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك لمن خشي ربه، {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 175] ، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين. وبعد ... فهذه الآيات الكريمات وغيرها في كتاب الله -جل جلاله- صريحة ودامغة، يقسم الله -عز وجل- فيها بمواقع النجوم على أن القرآن تنزيل من رب العالمين: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 76- 80] ، فالكتاب والتنزيل والفرقان {لَقُرْآنٌ كَرِيم} ، {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41- 42] ؛ فليس أدبًا عربيًّا، لكنه "أدب قرآني"، وليس فنًّا قصصيًّا، ولكنه "قصص قرآني"، وليس شعرًا ولا نثرًا فنيًّا، ولا سحرًا ولا كهانة، {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ، وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ، وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ، وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ، وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ، فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} [الحاقة: 40- 52] ، وليس تصويرًا فنيًّا، ولا تصويرًا في القرآن، بل هو "تصوير قرآني"، وأسلوب قرآني، ونظم قرآني، وبيان قرآني، ونسق قرآني، وإيقاع قرآني، وموسيقى قرآنية، لأن صفة "القرآنية" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 منحت الموصوف صبغة القرآن الكريم: {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً} [البقرة: 138] ؛ فتردّ كل احتمال يمسّ قداسة القرآن: كلام الله المقدس جل جلاله، وآثرت أن يكون الإعجاز في "التصوير القرآني" عنوانًا لكتابي هذا، لا "النظم القرآني" ولا "الأسلوب القرآني" إلى آخر ما ذكرناه؛ لأن "التصوير القرآني" للقيم الخلقية والتشريعية يشمل كل ما سبق، وأكثر منه، فهو حقًّا "الإعجاز"، وضحت ذلك في الفصل الأول مناقشًا هذه القضية، مبينًا ما تتركه التعبيرات الأخرى للنقاد من احتمالات لا تتفق مع قداسة القرآن الكريم بالتصريح الواضح الدامغ، حتى لا أترك منفذًا لاحتمال أو جدل أو مناقشة؛ لأنه "تصوير قرآني" مدعمًا ذلك بالدراسة لكثير من الصور القرآنية، القائمة على التحليل والتطبيق؛ لبيان الإعجاز في "التصوير القرآني" للقيم الخلقية والتشريعية، ثم انتقلت من الفصل الأول إلى عرض قضايا كبرى في "التصوير القرآني"؛ فتناولت في الفصل الثاني "التصوير القرآني" لليل والنهار، وفي الفصل الثالث "التصوير القرآني" للصيام والصوم، وفي الفصل الرابع "التصوير القرآني" لأدب النشء وتربيته في القرآن الكريم والسنة الشريفة، وفي الفصل الخامس القيم الخلقية والتشريعية في المعاملات الإسلامية في القرآن الكريم والسنة الشريفة. وهذا الكتاب يتخذ منهجًا واضحًا في بلاغة التصوير القرآني، التي وصلت إلى حد إعجاز البشر على أن يأتوا بآية من مثله. ودلالته على القيم الروحية والخلقية والتشريعية في الصور القرآنية المعروضة، فإذا تعرضت لبعض الحقائق الكونية والإنسانية من آيات تقترب من ألف آية، بالتنبيه على إشارات عامة تفتح المجال للعلماء والمتخصصون على أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 يفسّروا هذه الحقائق الثابتة -لا المفترضة- من خلال إشارات التصوير القرآني إلى طليعة التقدم العلمي في كل عصر، بما لا يتعارض مع تفسيرات السابقين ولا اللاحقين؛ لأن هذه الإشارات والتأويلات يجب ألا تقصر القرآن الكريم عليها فقط؛ فلا يتعدَّاه إلى غيرها، ولا تطلق الأحكام إطلاقًا عامًّا على سبيل الجزم واليقين، بحيث لا يتجاوزه إلى حقائق أخرى تتجدَّد مع الزمان والمكان والأجيال، كالشأن في القرآن الكريم الكتاب المقدس الخالد. هذا المنهج يفتح المجال للتفكير والبحث والتقدم العلمي القائم على القيم الروحية والخلقية في كل عصر إلى يوم القيامة، وهو ما حثّ عليه القرآن الكريم والسنة الشريفة، لأن حقائق القرآن ثابتة لا تخضع لنظرية علمية أو تفسير كوني أو إنساني يختلف من عصر إلى عصر، وعلى سبيل المثال ما قبل في تفسير إشارة التصوير القرآني لحركة الشمس في مجرة فلكها في قوله تعالى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [يس: 38] ، فهذا التأويل لإشارة الآية مقبول في عصرنا، ولايتعارض مع الحقيقة العامة في القرآن الكريم، ولا مع جميع مراحل تفسيرها قديمًا وحديثًا، ولا تقصر الآية عليها؛ فلا تتعدَّاه في المستقبل إلى غيرها من الإشارات والتأويلات، التي سيصل إليها التقدم العلمي في المستقبل، حين يفسر العلماء جريان الشمس في مجرة فلكها تفسيرًا علميًّا آخر، لا يتعارض مع ما سبقه من إشارات وتأويلات، وهكذا في غيرها من الحقائق الكونية، التي يشير إليها التصوير القرآني المعجز، لتقدم العقل البشري وعلومه في كل عصر، ولا تتعارض مع نص قرآني مطلقًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 هذا المنهج قد أشار إليه التصوير القرآني في آيات كثيرة، منها قوله تعالى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ} [يونس: 39] ، {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7] ، {بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ} [العنكبوت: 49] ، {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الحج:؛ 54] ، {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52] {لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} [الأنعام: 67] ، {نُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] ، وغيرها من الآيات التي جاءت صريحة في هذا المنهج الرباني مما لا يحتاج إلى شرح أو تعقيب على ما ذكرناه. وقد فسر ابن كثير "م 774هـ" قوله تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ} فقال: "أي ستظهر لهم دلالاتنا وحججنا على كون القرآن حقًّا منزلًا من عند الله -عز وجل- على رسوله -صلى الله عليه وسلم- بدلائله خارجية في الآفاق من الفتوحات، وأن هذه الآية تشير إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 بعض الحقائق في علوم الأحياء والتشريح، وجاء في تفسير الطبري "25/ 5" أن ابن زيد السلفي قال: آفاق السماوات نجومها وشمسها وقمرها اللائي يجرين، وآيات في أنفسهم". وينكر الداعية الإسلامي الشيخ محمد متولي الشعراوي على الذين يحاولون ربط القرآن الكريم بنظريات علمية مكتشفة: "ويحاولون إثبات القرآن الكريم بالعلم، والقرآن ليس في حاجة إلى العلم ليثبت؛ فالقرآن ليس كتاب علم، ولكنه كتاب عادة ومنهج، ولكن الله -سبحانه وتعالى- علَّم أنه بعد عدة قرون من نزول القرآن الكريم سيأتي عدد من الناس ويقول: انتهى عصر الإيمان، وبدأ عصر العلم، والعلم الذي يتحدَّثون عنه قد بينه القرآن الكريم كحقائق كونية منذ أربعة عشر قرنًا" "معجزة القرآن -الجزء الأول- مؤسسة أخبار اليوم مصر 1993م"، ويقول الأستاذ عبد الرزاق نوفل: "أثبت التقدم الفكري في العصر الحديث أن القرآن كتاب علمي جمع أصول كل العلوم والحكمة ... وكل مستحدث في العلم نجد أن القرآن قد وجه إليه النظر أو أشار إليه" "القرآن والعلم الحديث -مؤسسة دار الشعب بالقاهرة 1982م"، ويشير الدكتور محمد ناظم نسيمي إلى أن العلوم الكونية من صناعة وزراعة وطب وغيرها، ليست نصوصًا مفصلة في القرآن الكريم، فإذا أشار إليها القرآن، يريد أن يوجه الإنسان إلى الإيمان بالخالق، مبدع هذه الكائنات، وما فيها من خواص الطبيعة وقواعد العلم؛ فيحيا في عقيدة صحيحة، وتفكير سديد، وسلوك قويم "مع الطب في القرآن الكريم -مؤسَّسة القرآن بدمشق- الطبعة الأولى 1984م"، ويقول الدكتور مصطفى محمود: "إن القرآن كلام الله الذي لا نهاية لمعانيه، وهو كتاب جامع ... ولهذا فإنه احتمل أكثر من من منهج في التفسير؛ فهناك التفسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 البياني ... والتفسير العلمي الذي يركز على الآيات الكونية في الفلك والطب والأجنة، وعلى معطيات الموضوعية العلمية، وهناك التفسير الإشاري ... إلى آخره، ولكل منهج من هذه المناهج مكانة، وكلها مكملة لبعضها البعض، والاجتهاد فيها لا ينتهي، ونظرًا لكثرة المعلومات المتاحة في العصر العلمي الذي نعيشه، أخذ التفسير العلمي مكان الصَّدارة؛ إذ وجدنا آيات القرآن تتوافق مع كل ما يجد من معارف ثابتة. وهو يرد على المعترضين بحجة العلم وعدم ثباته" "التفسير العلمي للقرآن بين المؤيدين والمعارضين -تحقيق بمجلة المسلمين 1402هـ- 1981م"، والشيخ عبد المجيد الزنداني أمين عام هيئة الإعجاز العلمي للقرآن والسنة، له كتب عديدة في مجال الإشارات العلمية للقرآن الكريم، وبحوث منشورة في مؤتمراتها بمكة المكرمة. وعندنا في مصر جمعية الإعجاز العلمي للقرآن والسنة، أشهرت برقم 924 عام 1988م، اتخذت لها منهجًا في التفسير العلمي للقرآن الكريم، يقوم على ضوابط هي بإيجاز: 1- تجميع الآيات التي تعالج قضية واحدة. 2- مراعاة تعدد معاني الألفاظ. 3- خضوع التفسير لدلالات اللغة العربية وقواعدها. 4- عدم العدول عن حقيقة اللفظ إلى مجازه كلما توفر. 5- الاستعانة بالتفاسير السابقة مع استبعاد الخرافات والإسرائيليات الموجودة في بعضها. 6- عدم تعارض التفسير المقترح مع نصِّ قرآني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 7- التثبت من حقائق العلم قبل استخدامها في التفسير وعدم إقحامها في غير موضعها. 8- القرآن الكريم هو الذي يحكم على صحة أو بطلان النظريات العلمية. 9- الاستعانة بتفسير القرآن للقرآن. 10- استحالة التعارض بين آيات القرآن مع بعضها، أو بين آيات القرآن وصحيح الحديث الشريف، أو بين القرآن والحقائق الكونية المثبتة "كتاب الإعجاز في القرآن والسنة ص9، صدَّ عن جمعية الإعجاز العلمي للقرآن والسنة بجمهورية مصر العربية، عدد1 عام 1997 برقم إيداع 3947". جزى الله تعالى عني وعن الإسلام وعن القرآن الكريم أستاذي الجليل الأستاذ الدكتور: محمد نايل أحمد، عميد كلية اللغة العربية، فقد عرضت عليه بعض الموضوعات لتسجيلها بحثًا للعالمية "الدكتوراه" عام 1969م، وكان من بينها موضوع: "الصورة الأدبية في القرآن الكريم" وإذا به ينزعج، فينض قائمًا وهو يقول: أنت أنت تكتب في هذا الموضوع، قطعنا شوطًا طويلًا من حياتنا وكنا نخشى أن نقدم على مثل هذه الموضوعات في القرآن الكريم، ولما هدأت أنفاسه وضع يده اليمنى على منكبي، وهو يحدثني في هدوء: أترك هذا الموضوع الآن لوقت لاحق، وفكر في موضوع آخر، وليكن "الصورة الأدبية في شعر أبي تمام أو المتنبي أو ابن الرومي"، وتحوَّلت عن ذلك، واخترت: الصورة الأدبية في شعر ابن الرومي بحثًا "للدكتوراه"، وحمدت الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 -عز وجل- على هذا الموقف الذي أرشد مجرى التفكير في حياتي العلمية؛ فقد أفادني كثيرًا في بحثي في "الصورة الأدبية في شعر ابن الرومي" بصفة عامة، فنشرت أكثر من كتاب، وبدأت اتحرى الكتابة في القرآن الكريم من هذا التاريخ والموقف الرشيد، حتى خرج هذا الكتاب بعد أن نشرت بحوثًا كثيرة في هذا الشأن، منها بحث نشر بعنوان: "التصوير القرآني" لا الأدبي في القرآن الكريم1، ثم رقيت به مع بحوث أخرى إلى درجة "أستاذ" في الأدب والنقد عام "1983م"، ثم توالت البحوث على هذا النحو، وكلما أقدمت على نشر هذا الكتاب، راجعت نفسي فيما كتبت مرات ومرات، وأخيرًا استخرت الله -عز وجل- فأقدمت على نشره في رمضان المباكر عام "1421 هـ" داعيًا الله -عز وجل- أن يجنبنا الزلل، وأنا أردِّد قوله تعالى: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} [البقرة: 286] ، وداعيًا الله -عز وجل- أن ينفع به، وأن يكون لي ولوالدي ولأساتذتي ولأهلي في ميزان حسناتنا، وأن يكون القرآن الكريم لنا شفيعًا يتآزر مع شفاعة سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في الدين والدنيا والآخرة، إنه نعم المولى ونعم النصير، فهو القائل وقوله الحق: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة: 186] .   1 مجلَّة الوعي الإسلامي: عدد 203 في ذي القعدة عام 1401هـ/ سبتمر 1981م بالكويت، ص82 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، اللهم صلي وسلم وبارك على سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- خاتم الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وأصحابه والتابعين -رضي الله عنهم ورضوا عنه. هذا وبالله تعالى التوفيق. في ليلة السبت: 217 من رمضان المبارك 1421هـ الموافق: 23 من ديسمبر 2000م علي علي صبح الأستاذ في كلية اللغة العربية بالقاهرة رئيس قسم الأدب والنقد والعميد الأسبق جامعة الأزهر الشريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 الفصل الأول: معالم التصوير القرآني القرآن: المعجزة الخالدة فضل الله -عز وجل- أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- خير الأمم بمعجزة خالدة، تؤيّد رسالته إلى يوم القيامة، وهي القرآن الكريم، بينما غيرها من المعجزات له وللأنبياء السابقين -عليهم السلام- أيدت نبوتهم ورسالتهم إلى أقوامهم ساعة حدوثها، لكي يؤمنوا، دون استمرار ودوام، فلا يبقى لها أثر بعد نبيهم لقومه أو لأقوام غيرهم، مثل معجزات نجاة إبراهيم من النار، وقلب عصا موسى حية، وإحياء الموتى لعيسى -عليهم السلام، وانشقاق القمر وتسبيح الحصى لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، قد أدت دورها تأييدًا للرسالة ساعة حدوثها، ثم انتهى دورها إلى الأبد من غير أثر خالد لا كمعجزة القرآن الكريم الخالدة. أما مظاهر الاختلاف بين معجزة القرآن الكريم وغيرها فهي كثيرة، فالقرآن الكريم لم يكن لقوم معينين دون غيرهم، بل كان تشريعًا للعالمين كافة، وللناس جميعًا، فلا زال عطاؤه كاملًا ومتجددًا، وسيظل إلى الأبد يعطي لكل جيل، وزمان عطاء يختلف باختلاف الأجيال والأزمان، قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] ، تكفَّل الله تعالى بحفظه وتقديره حتى من العاصي والكافر، كما تكفل باستمرار العمل به حفظًا ومنهجًا وتشريعًا وسلوكًا إلى قيام الساعة: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] . والقرآن الكريم كلام الله المقدس، وكتاب الحق الخالد، شرح الله تعالى به الصدور، وأحيا به القلوب، وأيقظ العقول، وأرشد عباده من الضلال إلى الهدى، وأخرجهم من الظلمات إلى النور: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ، يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المائدة: 15، 16] ، وعن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنه قال: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ألا إنها ستكون فتنة، فقلت: ما المخرج منها يا رسول الله؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما كان قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، هو الفصل، ليس بالهزل، من تركه من جبار قصمه الله، ومن ابتغى الهدى في غيره أضله الله، وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المستقيم، هو الذي لا تزيغ عنه الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق على كثرة الرَّدّ، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا، يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ} ، من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدي إلى صراط مستقيم". وسيظل الكتاب الخالد الذي لا تنفد كلماته إلى الأبد: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا} [الكهف: 109] ؛ فكتاب الله المقدس هو القيم على الخلق بشيرًا ونذيرًا، متمسكون به، ماكثين عليه في استقامته بلا عوج إلى الأبد، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا، قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا، مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا} [الكهف: 1-3] . وهذه المعجزة الكبرى الأبدية، تحدَّى بها الرسول -صلى الله عليه وسلم- المعاندين من الإنس والجن، وهم أرباب الفصاحة والبلاغة، بعد أن انتهت إليهم صولتها، وجولتها، فبلغوا فيها القمة حتى تميَّزوا بها بين الشعوب والأجناس، لكنهم عجزوا عن التحدِّي والمجاراة مبهورين ببلاغته وسحره، وظلوا كفارًا معاندين مكابرين، يهذون في لجاجة وعناد، كما صورهم القرآن الكريم: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفرقان: 5] ، بل بلغوا في الخصومة والجدل أنهم ادعوا افتراء أن يأتوا بمثله: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} [الأنفال: 31] ، وقالوا أيضًا: {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ} [الأنبياء: 5] ، وتحدَّى الإنس والجن على أن يأتوا بمثله فعجزوا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] ، ولما عجزوا تحدَّاهم على أن يأتوا بعشر سور مفتريات: {قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ} [هود: 13] ، بل ترخص لهم في أن ياتوا بسورة واحدة: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البقرة: 23] ، بل أقر أبلغ بلغائهم بالتسليم والاعتراف بأنه ليس من كلامهم ولا من شعرهم ولا من خطبهم، ولا من كلام الإنس ولا الجن، لأنه هزَّ أعماق نفوسهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وغيَّر حياتهم وعقيدتهم، فقد أسلم عمر بن الخطاب وهو من أشدهم عنادًا وحربًا على الإسلام، كما في قصته المعروفة مع أخته فاطمة وزوجها سعيد بن زيد، بعد أن سمع خبابًا -رضي الله عنه- يتلو عليهما القرآن من سورة طه؛ فاقشعرَّ جسده، واطمأن قلبه بذكر الله، فأعلن إسلامه بعد أن قال: "ما أحسن هذا الكلام وأكرمه"، وهذا أبلغ الكفار المعاندين الوليد ابن المغيرة، أرسله قومه ليتحدَّى الرسول -صلى الله عليه وسلم- في بلاغة أقواله؛ فيعود إليهم مدحورًا بعد أن سمع القرآن الكريم يقول لهم: "فوالله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيده، ولا بأشعار الجن، والله ما يشبه الذي نقول شيئًا من هذا"، وفي رواية: "والله لقد سمعت من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس، ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه يعلو ولا يعلى ...... ما يقول هذا بشر"1. ومثل هذا قول عتبة بن ربيعة حين سمع القرآن الكريم: يا قوم لقد علمتم أني لم أترك شيئًا إلا وقد علمته وقرأته وقلته، والله لقد سمعت قولًا، والله ما سمعت مثله قط، ما هو بالشعر ولا بالسحر ولابالكهانة"2. وبعد عنادهم وإخراجهم المسلمين من مكة وعدوانهم عليهم، ندموا على ذلك، وآمنوا به وصدقوه، وأصبحوا جند الله تعالى في الأرض شرقًا وغربًا، يدافعون عنه ويقاتلون في سبيله؛ لأنه كتاب الله المقدس، ومعجزته الخالدة.   1 سيرة ابن هشام: والشفاء للقاضي عياض، والإتقان للسيوطي. 2 الشفاء للقاضي عياض 1/ 232. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وجوه الإعجاز اهتمَّ العلماء قديمًا وحديثًا بالتعرُّف على وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، وسمو بلاغته المعجزة، وأخرجوا في ذلك مؤلفات وبحوثًا كثيرة، اختصت به، ومن أشهرها: "إعجاز القرآن" لأبي عبيدة "م 207هـ"، وكتاب "نظم القرآن" للجاحظ "م 255هـ"، وكتاب "إعجاز القرآن في نظمه وتأليفه" لأبي عبد الله محمد بن يزيد الواسطي "م 306هـ"، وشرحه عبد القاهر الجرجاني في كتابه "المعتضد"، وكتاب "نظم القرآن" لابن الإخشيد، وكتاب "نظم القرآ،" لابن أبي داود "م 316هـ"، وكتاب "إعجاز القرآن" للرماني "م 383هـ"، وللإمام الخطابي "م 388هـ"، وللقاضي أبي بكر محمد بن الطيب الباقلاني "م 403هـ"، وكتاب "دلائل الإعجاز" لعبد القاهر الجرجاني "م 471هـ". وكذلك ألف في إعجازه: فخر الدين الرازي "م 606هـ"، وابن الإصبع "م 653هـ"، والزملكاني "م 727هـ"، والقاضي عياض في كتابه "الشفاء"، والسيوطي في كتابه "الإتقان"، ومصطفى صادق الرافعي في كتب وبحوث منها "إعجاز القرآن" "م 1937م"، والدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه "النبأ العظيم" "1894- 1958م"، والشيخ محمد متولي الشعراوي في كتابه "معجزة القرآن"، والأستاذ سيد قطب في كتابيه "التصوير الفني في القرآن"، و "في ظلال القرآن الكريم"، والأستاذ عبد الرزاق نوفل في كتبه "والله والعلم الحديث"، و "الإسلام والعلم الحديث"، و "القرآن والعلم الحديث"، و "الإعجاز العددي في القرآن الكريم" عدة أجزاء، والأستاذ بديع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 الزمان سعيد النورسي التركي "م 1960م" في كتابه: "إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز"، والدكتور محمود ناظم نسيمي السوري في كتابه: "مع الطب في القرآن الكريم"، والشيخ عبد المجيد الزنداني في بحثه: "المعجزة العلمية في القرآن والسنة"، وكتابه: "توحيد الخالق"، والدكتور مصطفى محمود في كتابه: "القرآن محاولة لفهم عصري"، والدكتور منصور حسب النبي في كتابه" الكون والإعجاز العلمي للقرآن"، وكتاب "القرآن الكريم والعلم الحديث"، وكتاب "الإشارات القرآنية للسرعة القصوى والنسبية"، وله أيضًا: "موسوعة المعارف الكونية في ضوء القرآن -للفتيان"، والدكتور عبد الله عبد الرزاق سعود في كتابه "العسل من الإعجاز الطبي في القرآن"، والدكتور عبد الغني الراجحي في كتابه: "الأرض والشمس في منظور الفكر الإسلامي"، والدكتور محمد أحمد الغمراوي في كتابيه: "الإسلام في عصر العلم"، و "سنن الله الكونية"، وصلاح الدين خشبة في رسالته: "العلم والإيمان"، ومحمد محمد إبراهيم في رسالته "إعجاز القرآن في علم طبقات الأرض"، وعلي عبد العظيم في كتابه: "في ملكوت السماوات والأرض"، وحنفي أحمد في كتابيه: "التفسير العلمي للآيات الكونية في القرآن" و"معجزة القرآن في وصف الكائنات"، والدكتور محمد صدقي في كتابه: "علم الفلك والقرآن"، والشيخ محمد بخيت المطيعي في كتابه: "تنبيه العقول الإنسانية لما في آيات القرآن من العلوم الكونية والعمرانية"، والدكتور عبد العزيز باشا إسماعيل في كتابه: "الإسلام والطب الحديث"، وعبد الله فكري باشا في كتابه: "القرآن ينبوع العلم والعرفان"، والغازي أحمد مختار باشا في كتابه "سرائر القرآن"، ومحمد عفيفي الشيخ في كتابه: "القرآن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 الكريم وعلوم الغلاف الجوي"، ومحمد توفيق صدقي في كتابه: "دروس سنن الكائنات"، وعمربن أحمد الملباري في كتابه: "إعجاز القرآن في مسألة اللؤلؤ والمرجان"، ومحمد بن أحمد الإسكندراني في كتابيه: "كشف الأسرار النورانية في النبات والمعادن والخواص الحيوانية"، و "البراهين البينات في بيان حقائق الحيوانات"، والدكتور عبد الله شحاته في كتابه: "تفسير الآيات الكونية"، والعلامة وحيد الدين خان في كتابه: "الإسلام يتحدى"، ومصطفى الدباغ في كتابه: "وجوه الإعجاز"، والدكتور محمد جمال الدين القندي في كتابه: "الله والكون"، ومحمد عبد القادر الفقي في كتابه: "القرآن الكريم وتلوث البيئة"، والدكتور محمد يوسف حسن في كتابه: "قصة السماوات والأرض"، والدكتور عبد الحميد محمد عبد العزيز في كتابه: "الإنسان بين الحقائق القرآنية والمعارف الطبية"، والدكتور عبد العليم عبد الرحمن خضر في كتبه: "الظواهر الجغرافية بين العلم والقرآن"، "هندسة النظام الكوني في القرآن"، "الماء والحياة بين القرآن والعلم"، "المدخل الإيماني للدراسات، الكونية"، وتوفيق محمد عز الدين في كتابه: "دليل الأنفس بين القرآن والعلوم الحديثة"، واللواء المهندس أحمد عبد الوهاب في كتابيه "العلوم الذرية المدنية في التراث الإسلامي"، "خاصية النظام بين الكون والقرآن"، والدكتور كارم السيد غنيم في "رحلة مع الجراد"، "عجائب العنكبوت"، "الإشارات الكونية في القرآن الكريم بين الدراسة والتطبيق"، "حاشية الحليب في ضوء القرآن وسنة الحبيب"، ورءوف أبو سعدة في كتابه: "العلم الأعجمي في القرآن مفسرًا بالقرآن"، والدكتور محمد السعيد إمام في كتابه: "حديث الإسلام عن الأشجار"، والدكتور محمد البار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 في كتبه: "خلق الإنسان بين الطب والقرآن"، "الخمر بين الطب والفقه"، "تحريم الخنزير" "دورة الأرحام" والدكتور الطاهر توفيق في كتابه: "القرآن والإعجاز في خلق الإنسان"، وعبد المنعم السيد عشري في كتابه: "تفسير الآيات الكونية في القرآن"، والدكتور توفيق علوان في كتابه: "معجزة القرآن في الوقاية من مرضى دوالي الساقين"، والدكتور محمد عثمان الخشت في كتابه: "وليس الذكر كالأنثى من منظور الإسلام والعلوم الحديثة"، وعبد الحميد محمود في كتابه: "المعجزة والإعجاز في سورة النمل"، والدكتور محمد علي البنبي في كتابه: "نحل العسل بين القرآن والطب"، وكذلك الدكتور أحمد شوقي إبراهيم، والدكتور عبد الحليم منتصر، والدكتور دسوقي الفنجري، والدكتور زغلول راغب النجار، والدكتور محمد أحمد الشهاوي، والمهندس مصطفى بدران، والدكتور أحمد حسنين القفل، والدكتور علي علي المرسي، وغيرهم كثيرون، وانتهوا جميعًا في مؤلفاتهم إلى أن جوانب الإعجاز في القرآن الكريم ووجوهه كثيرة لا تدخل تحت الحصر، وقد تظهر له وجوه أخرى في المستقبل لا يعلمها إلا الله سبحانه، لأنه يتجدد مع مقتضيات كل عصر، ويلبي احتياجات المجتمعات المتنوعة والمتجدة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، ومنها: 1- كان القرآن الكريم معجزًا لإخباره عن المغيبات للأمم السابقة في الماضي البعيد، بعد انقطاع الصلات والأخبار، فيخبرنا عن الأنبياء والرسل والصالحين، وعن أقوامهم البائدة، وعن شرائعهم وكتبهم المقدسة، وأحوالهم معهم، وعاقبة أمرهم، وعرضها وتصويرها في القرآن الكريم بطريقين عن طريق القصص القرآني، وعن طريق عرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 أخبارهم وتأريخها في تصوير قرآني بديع مثل قصة نوح وإبراهيم وهود وصالح وشعيب وموسى وعيسى وغيرهم -عليهم السلام، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف: 111] . 2- للإخبار عن المغيبات التي ستقع في المستقبل؛ فقد أخبر القرآن الكريم عن هزيمة الروم من الفرس، ثم انتصارهم عليهم، وحينئذ ينتصر المؤمنون عليهم، فقال تعالى: {الم، غُلِبَتِ الرُّومُ، فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ، فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} [الروم: 1- 5] ، وأخبر عن انتصارات الإسلام بعد الهجرة مباشرة في بدر، فقال تعالى: {سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ} ، وفي فتح مكة، فقال تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا} [الفتح: 27] . 3- وكذلك ما انتهى إليه العلم الحديث من نظريات علمية مثل: دوران الأرض وكرويتها، وعلم الأجنة، والجلود مصدر الإحساس، واختلاف البصمات، وغيرها، قال تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 وقال تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُون} [الذاريات: 21] ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56] ، وقال تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} [القيامة: 4] . 4- الإعجاز في التشريع للفرد والأسرة والمجتمع والأمة، والأمم في العقيدة والعبادات والمعاملات والأخلاق والآداب، وفي التفكير والعلوم النفسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والسياسية والعسكرية والعلاقات الدولية، وغيرها من القيم التي تغذِّي القلوب والعقول، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] ، وقال تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 27، 28] ، وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] ، {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} [الحديد: 25] . 5- الإعجاز في استمرار جلاله، ودوام إبداعه، وتجدُّد تلاوته دون سأم أو ملل، بل يبدو في كل مرة بشكل جديد، وبمعنى بديع، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 وبروح قوية، مما يشجِّع على إعداته وتكراره ما دام حيًّا، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] ، وقال تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 44] . 6- يرجع الإعجاز إلى دقة نظمه، وجلال أسلوبه، وكمال بنيانه، ودقة إحكامه، وتمام إتقانه، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ، عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ، بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} [الشعراء: 192- 195] . 7- يرجع إعجازه إلى قدسيته دون تبديل أو تحريف، أو حذف أو إضافة، أو تعديل أو تغيير، كما حدث للتوراة والإجيل وغير ذلك مما اعترف به اليهود والنصارى، وكشف عنه القرآن الكريم؛ لكنه مرَّ عليه خمسة عشر قرنًا، وظل كما أنزله الله عز وجل، لأنه تكفَّل بحفظه وقدسيته، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ، وقال تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 16- 19] . 8- وذهب بعضهم إلى القول بالصرفة، وهو أن الله قد حفظ كتابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 من أيدي العابثين، فصرف عنه كل من يتعدى عليه بالعبث والمعارضة والتحدي والتبديل والتغيير، وهذا الوجه دون الوجوه السابقة، وأضعفها جميعًا، حتى أنكره جمهرة العلماء والبلغاء. 9- الإعجاز اللغوي والعلمي والإصلاحي والتهذيبي والاجتماعي كما أشار إلى ذلك الدكتور محمد عبد الله دراز في كتابه: "النبأ العظيم". 10- الإعجاز العددي في القرآن الكريم كما أشار إلى ذلك في الأجزاء التي أصدرها ونشرها عبد الرزاق نوفل. 11- ويرجع الإعجاز أيضًا إلى "التصوير القرآني"، وهذا الوجه هي الذي دعاني إلى التفكير في تاليف هذا الكتاب منذ عام "1969 م"، حتى شاء الله تعالى أن يرى النور بعد تردُّده طويل، ومتابعة دقيقة، وحذر شديد، ودراسة شاملة قديمًا وحديثًا، لأن التصوير القرآن يجمع بين معظم الوجوه السابقة من حيث القيم الفنية، والقيم الخلقية والتشريعية، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، وأقسم الله تعالى بتفصيل آياته، وإعجاز بيانه، وتصويره القرآني، فئقال تعالى: {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 1-3] ، وقال تعالى: {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} [الزخرف: 1-4] ، وقال تعالى: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [يوسف: 1-3] ، وهذا الوجه في التصوير القرآني هو موضع هذا الكتاب، سنعرضه في فصوله المختلفة بالدراسة والتفصيل -إن شاء الله تعالى-. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 حقيقة التصوير القرآني 1: بين الأدب القرآني والأدب العربي: لا يشكُّ عاقل لحظة واحدة ألَّا مجال للموازنة ولا المقارنة بين الأدب القرآني، وفنون الأدب العربي ونقده، فشتَّان بين كلام الله -عز وجل- الأزلي، وبين كلام خلقه الذي أبدعهم وخلقهم، فمهما بلغت اللغة العربية قمَّة البلاغة على يد أربابها صقلًا وتهذيبًا وحضارة، فقد عجزوا عن مجاراة القرآن الكريم ومعارضته بعد أن تحدَّاهم، إذن فلا تصحُّ الموازنة ولا المقارنة بحال بين الأدب القرآني وبين أدبهم العربي. فالقرآن الكريم كلام الله -جل جلاله- مبدع الكون كله، والأدب العربي كلام البشر المخلوقين، فكل منهما يتميز بخصائص ينفرد بها عن الآخر، ويتضح ذلك أكثر حينما نقف على أطوار كلمة "الأدب" منذ نشأتها حتى صارت تشمل جميع الفنون الأدبية المختلفة من شعر ونثر فني، فقد انتقلت من المعنى الحسي والواقعي لها قديمًا، وهو بمعنى "المأدبة" التي يلتقي على مائدتها أهل الجودة والكرم وذو الأخلاق الفاضلة، إلى المعنى الأخلاقي المجرد عن الحس، وهو ما يحسن من الأخلائق والمكارم والفضائل، قال عتبة بن ربيعة لابنته هند عن أبي سفيان: "يؤدب أهله ولا يؤدبونه؛ فقالت له: سآخذه بأدب   1 "التصوير القرآني": بحث علمي أكاديمي رقيت به مع بحوث أخرى إلى درجة "أستاذ" في الأدب والنقد عام 1983، وكان منشورًا قبل ذلك في ذي القعدة 1401هـ/ سبتمبر 1981م في مجلة الوعي الإسلامي عدد "203" ص82 بالكويت، وزدت عليه في بحث نشر عام 1987م في مجلة كلية اللغة العربية بالقاهرة العدد الخامس ص365، وفي بحث آخر نشر عام 1995 في مجلة كلية اللغة العربية بالقاهرة في العدد الثالث عشر ص3- 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 البعل"1، وقال النعمان بن المنذر في رسالته إلى كسرى: "وقد أوفدت أيّها الملك رهطًا من العرب لهم فضل في أحسابهم وآدابهم"2. وفي العصر الإسلامي أخذت كلمة "الأدب" معنى إضافيًّا جديدًا يجمع بين التهذيب الأخلاقي والتعليم والتربية الخلقية والعلمية والسلوكية، فقد جاء في الحديث الشريف عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "أدَّبني ربي فأحسن تأديبي"، وقال أيضًا: "إلزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم"، وفي الأثر عن الخليفة الثاني عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- قال: "طفق نساؤنا يأخذن من أدب نساء الأنصار"، وقال أيضًا لابن عباس -رضي الله عنه: "هل تروي لشاعر الشعراء، قال: ومن هو؟ قال: الذي يقول: ولو أن حمدًا يخلد الناس أخلدوا ... ولكن حمد الناس ليس بمخلد قلت: ذاك زهير، قال: فذلك شاعر الشعراء، قلت: وبم؟ قال: لأنه لا يعاظل في الكلام، وكان يتجنب وحشي الشعر، ولم يمدح أحدًا إلا بما فيه"؛ والشعر فن فنون الأدب عندهم، وقال عن لامية العرب للشنفري -رضي الله عنه: "علموا أولادكم لامية العرب، فإنها تعلمهم مكارم الأخلاق"3. وترددت كلمة "الأدب" كثيرًا في العصر الأموي بمعنى التعليم، وتحصيل العلم، قال معاوية -رضي الله عنه: "اجعلوا الشعر أكبر همكم وأكثر   1 الأمالي: للقالي 2/ 104. 2 العقد الفريد: ابن عبد ربه 1/ 169. 3 الأغاني: الأصفهاني 10/ 289. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 آدابكم"، واشتهرت في هذا العصر طبقة المعلمين، الذين كانوا يؤدِّبون أبناء الخلفاء والأمراء والولاة بالأخبار واللغة ورواية الشعر والخطب والقصص الأدبي والوصايا الأدبية والأمثال العربية، وأطلق عليهم آنذاك لقب: "المؤدبين" و"الأدباء"، قال عبد الحميد الكاتب، الذي اشتهر بأدب الكتابة: "بدئت الكتابة بعبد الحميد، وخُتمت بابن العميد"، قال في رسالة الكاتب: "فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الآداب"، ومن هنا نشأت حرفة "الأدب"، وقال الخليل بن أحمد عن الأدباء: "لأنهم كانوا يتكسبون بالتعليم"1. وفي العصر العباسي اهتمَّ العلماء والرواة بالكتاب؛ فتنوعت الدراسات عندهم، فكانت تشمل: النحو والصرف وعلوم اللغة والاشتقاق والبلاغة والعروض والقافية وعلم الأخبار والأنساب وتاريخ الأمم، فكان يطلق عليهم وعلى الشعراء لتكسُّبهم بالأدب: "الأدباء"، قال الجواليقي في شرح أدب الكتاب: "اصطلح الناس بعد الإسلام بمدة طويلة على أن يسموا العالم بالنحو والشعر وعلوم العرب: "أديبًا"، ويسموا هذه العلوم "الأدب"، وذلك كلام مولد؛ لأن هذه العلوم حدثت في الإسلام"2. وأصبحت كلمة "الأدب" تطلق على الموسوعات في سائر العلوم شعرًا ونثرًا ولغة وبلاغة وتاريخًا ونحوًا وصرفًا، وغيرها كـ"البيان والتبيين" للجاحظ "م 255هـ"، و "الكامل" للمبرد "285 هـ"، و"العقد الفريد" لابن عبد ربه الأندلسي "م 328هـ"، و "الأمالي"   1 ثمار القلوب: للعثالبي ص529. 2 شرح أدب الكاتب: الجواليقي ص14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 لأبي علي القالي "م 356هـ"، ولما كان القرن الرابع الهجري، أصبح "الأديب" يطلق على الشاعر والكاتب والناقد فقط، قال ابن خلدون في حد الأدب: "هذا العلم لا موضوع له، وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته، وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليبهم ومناهجهم، فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصيل به الملكة من شعر عالي الطبقة، وسجع متساوٍ في الإجادة"1. وهكذا ظلَّ الأدب في العصر الحديث يطلق على الشعر والنثر الفني الجيد، الذي يترك المتعة الفنية عند القارئ والمتلقي، وما يتصل بهما من تاريخ الآداب ونقدهما والعلوم والثقافة؛ فالأدب عند الدكتور طه حسين هو مأثور الكلام نظمًا كان شعرًا أو نثرًا، ومؤرخ الأدب لا يكتفي بمأثور الكلام، وما يتصل به من علوم ومن دراسة تاريخ العقل الإنساني وتاريخ العلوم والفلسفة والفنون2، ويقول الدكتور محمد عبد المنعم خفاجي: "فالأدب هو كل كلام عبَّر عن معنى من معاني الحياة وجلًا صورة من صورها بأسلوب جميل، ولفظ بديع فتثير معانيه العاطفة، وتستثير بلاغته الإعجاب. فإن أجود البيان نثره ونظمه ما صدر عن الطبع وجاء عفو القريحة من غير تكلف ولا استكراه ولا إغراب، ومتى كان الكلام جيدًا على هذا النحو فهو الذي نسميه أدبًا"3. والأدب يختلف من عصر إلى عصر، لذلك قسمه الأدباء والنقاد إلى عصور أدبية على النحو التالي: العصر الجاهلي، وعصر صدر   1 المقدمة: ابن خلدون ص488. 2 الأدب الجاهلي: 1/ 18، 19. 3 الحياة الأدبية في العصر الجاهلي: د. محمد عبد المنعم خفاجي ص4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الإسلام، والعصر الأموي، والعصر العباسي الأول، والعصر العباسي الثاني، والعصر الأندلسي، وعصر الدويلات، وعصر المماليك، والعصر العثماني، والعصر الحديث، والأدب المعاصر. هذه الأطوار المختلفة للأدب وتاريخه ونقده، تنوَّعت واختلفت من حيث المفهوم والأصول والقواعد والفنون، بل أصبحت تختلف من عصر إلى عصر، حسب تنوع الروافد والعلوم والثقافات والتيارات المختلفة، لذلك صار الأدب العربي ونقده خاضعًا للتغيرات والعصور والبيئات، لا يثبت على حال، ولا يستقر على أصول ولا مصطلحات وقواعد؛ لأنه صورة للحياة فيكل عصر، وقطعة منها، يتردَّد صداها في نفس الأديب، فيصورها حسب الاتجاهات الأدبية والنقدية المعاصرة، ثم يميّز الناقد الأدبي بين الجيد منها والرديء، حسب مطابقة الأدب لمقاييس النقد الأدبي الجيد ومصطلحاته في كل عصر؛ فيصفه بالجودة والإحسان، أو مخالفته لهذه القواعد والمصطلحات؛ فيصفه بالرداءة. تلك هي طبيعة وخصائص الأدب العربي ونقده؛ فهي خاضعة للتغيير والتجديد والتحديث، لأنها نتاج البشر المخلوق، الذي لا يثبت على حال، بل يزدهر ويتقلَّب بين سائر الأحوال والثقافات؛ فهذه الخصائص الفنية لأدبه وكلامه، وهما على النقيض تمامًا لكلمات الله العليا، والأدب القرآني المقدس؛ فليس من المنطق المستقيم التسوية في الموازنة بينهما، ولا يقبل العقل والوجدان والحس أن يتعامل معهما على السواء؛ بل لكلٍّ مجاله وسماته وخصائصه التي ينفرد بها عن الآخر، كما يتضح ذلك أكثر في توضيح الأدب القرآني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 الأدب القرآني : أعتقد أنه من المسلمات، التي لا تقبل الجدل ولا المناقشة أن وصف الأدب بالقرآنيّ كالعنوان، أو إضافته إلى القرآن الكريم مثل قولنا: "أدب القرآن" تضفي على الأدب سمات القرآن وخصائصه؛ فيُتخذ طريقًا ومنهجًا مخالفًا للأدب العربي ونقده، ولا يظن عاقل أن نتعامل مع أدب القرآن، كما نتعامل مع الأدب العربي ونقده، فهذا شيء آخر ومختلف تمامًا. والقرآن مصدر "قرأ"، مثل: "غفر غفرانًا"، ثم صار اسمًا وعلمًا على كتاب الله المقدس لأمة محمد -صلى الله عليه وسلم، كما اتفق علماء اللغة على أن "قرأ" تشتمل على معاني الجمع والتلاوة؛ لأن من يتلو صفحة، يجمع بين حروفها وكلماتها قبل أن يتلوها، لذلك ذهب ابن عباس -رضي الله عنه- إلى أنها بمعنى التلاوة، أي قرأت الكتاب بمعنى تلوته، قال الله تعالى: {يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [الإسراء: 71] ، ورأيه لا يختلف عن رأي قتادة -رضي الله عنه- من أن "قرأ" بمعنى الجمع والتأليف، فما أعدّ الكتاب إلا ليقرأ؛ لذلك جمع بينهما القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 17-18] ، وفسَّرها ابن عباس -رضي الله عنه: أي: إن علينا جمعه وتلاوته عليك، فإذا تلوناه فأتبع تلاوته. فهما لا يفترقان، بل يتعلَّق أحدهما بالآخر، ولا ينفصل أحدهما عن الآخر، فهما متلازمان، فالقرآن اسم للتنزيل كما جاء في القاموس المحيط، وورد القرآن باسم الكتاب كثيرًا، قال تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا} [الكهف: 1] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ومرَّة بالذكر، قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9] ، ومرة بالفرقان، قال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] ، ومرة بالتنزيل، قال الله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 192] . وفضل كتاب الله المقدس، وكلام الله تعالى على سائر الكلام، كالفرق بين الخالق والمخلوق، لقول الله تعالى في الحديث القدسي الشريف: "من شغله القرآن وذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين، وفضل كلام الله تعالى على سائر الكلام كفضل الله على خلقه"، قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41، 42] ، ويقول فيه الرسول -صلى الله عليه وسلم: "إن هذا القرآن مأدبة الله، فتعلموا من مأدبته ما استطعتم"؛ لأنه القرآن الكريم كلام الله المقدس، وكتابه المنزل، ليس نثرًا ولا سجعًا ولا كهانة ولا شعرًا، بل هو قرآن كريم تنزيل من رب العالمين، قال تعالى: {وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ، وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ، لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ، ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ، فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ، وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} [الحاقة: 41- 48] ، وقال تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} [يس: 69] ، وقال تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الواقعة: 77- 80] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وعلى ذلك فليس القرآن شعرًا، ولا سجعًا، ولا نثرًا فنيًّا، ولا غير ذلك من كلام البشر، وليس نصًّا أدبيًّا، كما يطلق عليه بعض النقاد في دراساتهم، وما دام كذلك فلا يصح مطلقًا أن يخضع لمصطلحات النقد الأدبي، التي نقيس بها جودة الأدب العربي والإسلامي ورداءته، لنحكم على آداب البشر بالجودة والرداءة، لأن الأدب القرآني بلغ في سموه إلى حد الإعجاز، مما تتعطل معه مقاييس البشر ومصطلحاته النقدية في ميزان الأدب؛ ليقفوا على عناصر الجمال وأسبابه ومسبباته، ويتذوقوا مواطن الحلاوة، ويشعروا بها، لأن الجلال -لا الجمال ولا الحلاوة- في الأدب القرآني لا يحتاج إلى مقاييس الناقد الأدبي ومصطلحاته للوقوف على الإعجاز في التصوير القرآني، وهذا يحتاج إلى توضيح لقضية الجمال والحلاوة والجلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 الجلال والحلاوة والجمال قضية الجمال : اهتم النقاد قديمًا وحديثًا بقضية الجمال الأدبي في الشعر والنثر الفني في جميع فنونهما وأقسامهما المتنوعة، التي تضع النص الأدبي في منزلة من الجودة والرداءة حسب درجة الجمال وتوافر شروطه ومقوماته وأسبابه وعناصره، وغير ذلك من الوسائل الفنية المحسة، التي يكاد يجمع عليها النقاد وعلماء البلاغة واللغة والعروض، واتفاقهم جميعًا على مبادئ وقواعد ومسلمات وافقت العقل والذوق الأدبي معًا؛ فالنص الأدبي الجيد والجميل، لابدَّ أن يشتمل على مسلمات اتفق عليها النقاد، فأصبحت أصول النقد وقواعده في اللغة والأسلوب؛ فيكون فصيحًا بليغًا، صحيحًا في اشتقاقه وإعرابه ومصادره، ومتفقًا مع موازين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 العروض وبحوره وقوافيه، ومعتمدًا على قواعد علوم البلاغة الثلاثة وأصولها، وهي علم المعاني، وعلم البيان، وعلم البديع قديمًا، وعلم الأسلوب حديثًا، وأن يلتزم الشعر بأصوله وعناصره، فلا يخرج عن عمود الشعر العربي، الذي أجمع عليه النقاد، ولا عن أطواره المختلفة في كل عصر، وأن يتفق الأدب مع فنون النثر الفني وأقسامه وأنواعه، فلا تخرج عن منهجها وأنواعها، وعناصرها ومقوماتها الفنية، وخصائصها في الرسالة والوصية والخطبة، والمقامة والقصة والأقصوصة والرواية والمسرحية، والمقالة وفن السيرة الأدبي وأدب الرحلات وغيرها. فإذا استوفى النص الأدبي هذه القواعد والأصول الفنية، وتعرف عليها الناقد الأدبي، واستخراجها بذوقه الأدبي؛ واحدة بعد الأخرى من خلال تحليله الأدبي والنقدي، عند ذلك يصف النص الأدبي ويحكم عليه بالجمال والجودة؛ فإذا افتقدها حكم عليه بالرداءة والقبح والسقوط، وعلى سبيل المثال لا الحصر: كالخطأ في الإعراب والاشتقاق اللغوي، أو الخروج على قواعد وأوزان البحور الشعرية والموسيقى الخارجية والداخلية، أو جاء التشبيه غريبًا، والاستعارة شاذة، والكناية لغزًا أو أحجية، وغير ذلك مما يتعرض له النقاد قديمًا وحديثًا، مثل: بشر بن المعتمر، وابن سلام، وابن قتيبة، وقدامة، والجاحظ، والقاضي الجرجاني، والآمدي، وابن طباطبا، والرماني، وعبد القاهر الجرجاني، وغيرهم فيكتبهم ومؤلفاتهم المشهورة والمعروفة، وكذلك الأمر في النقد الحديث مما لا يحتاج إلى ذكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 قضية الحلاوة : انتهى النقد الأدبي إلى أن الجمال في الأدب له قواعد وعناصر وأصول تقوم على الأسباب والمسبّبات، والعلل والتعليل، وإقامة الأدلة والمقارعة بالحجة والدليل، حتى ينتهي الأمر بالقبول والتسليم، أو بالرفض والإنكار والجدل، لكن قضية الحلاوة في النقد الأدبي تختلف عنها كثيرًا، فقد يكون الناقد مبهورًا بحلاوة النص بحاسته النقدية وذوقه الأدبي؛ فيحكم عليه بأن جودته وصلت إلى القمة عند الجميع؛ فإذا اجتمع النقاد على أن يستخرجوا منه عناصر الجودة، فلا يجدون منها إلا القليل من أصول وقواعد قضية الجمال، لكن الأسباب الرئيسة التي سمت به إلى الحلاوة، إذا فتشوا عنها؛ فلن يجدوا منها سببًا حسِّيًّا، يعدونه على أصابع اليد الواحدة، ولا دليلًا يدفعون به الخصوم، ولا حجة ترد المنكرين؛ لكنه على الرغم من أنفه يحكم الناقد والخصم على النص الأدبي بالحلاوة دون أن ينتزع منه عناصرها ومقوماتها، ودون أن يقف على سبيل التحديد والحصر على أسباب الحلاوة، ويخفق تمامًا في الوقوف على الأسباب والمسببات كلها، ويفتقد في المناقشة أن يستنجد بأدلة يحتج بها، أو يعتمد على تعليل يقنع به الخصوم، وتراه في كل محاولاته ينتهي القول بالحكم عليه بالحلاوة، التي تنطبق على كل أطرافه وحواشيه، ولا ينهض بحال أن يصفه بالرداءة والقبح، وإلا كان مفتقدًا لمقاييس النقد الأدبي، وحاسة الذوق الفني، وتجد ذلك واضحًا عند الأدباء والشعراء، وعند الشعراء النقاد حين يتعرضون لنصوصهم الأدبية، وقد ناقشت ذلك في كتابي: "الصورة الأدبية ... تأريخ ونقد"، وسأكتفي بموقف واحد فقط أعين القارئ فيه على توفير الجهد في البحث والدراسة والفهم والتحصيل والإقناع، هذا الموقف لناقد كبير من النقاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 العرب في النقد الأدبي القديم، وهو صاحب الوساطة القاضي عليبن عبد العزيز الجرجاني، وإن اشترك معه غيره في قضية الحلاوة كالآمدي، وعبد القاهر، وابن خلدون، وغيرهم. يقول القاضي الجرجاني: "وأنت قد ترى الصورة تستكمل شرائط الحسن، وتستوفي أوصاف الكمال، وتقف بالتمام بكل طريق، ثم تجد أخرى دونها في انتظام المحاسن، والتئام الخلقة وتناسب الأجزاء، وتقابل الأقسام، وهي أحظى بـ "الحلاوة"، وأدنى إلى القبول، وأعلق بالنفس، وأسرع ممازجة للقلب، ثم لا تعلم -وإن قايست واعتبرت ونظرت وفكرت -لهذه المزية سببًا، ولما خصت به مقتضيًا، ولو قيل لك كيف صارت هذه الصورة وهي مقصرة عن الأولى في الإحكام والصنعة، وفي الترتيب والصبغة، وفيما يجتمع أوصاف الكمال، وينتظم أسباب الاختيار، أحلى وأرشق وأحظى وأوقع، لأقمت السائل مقام المتعنِّت المتجانف، ورددت المستبهم الجاهل، ولكن أقصى ما في وسعك، وغاية ما عندك، أن تقول موقعه في القلب ألطف، وهو بالطبع أليق، كذلك الكلام منثوره ومنظومه، ومجمله ومفصله، تجد منه المحكم الوثيق، والجزل القوي، والمصنع المحكك، والمنطق الموشح، قد هذب كل التهذيب، وثقف غاية التثقيف، وجهد فيه الفكر، وأتعب لأجله الخاطر، حتى أضحى ببراءته عن المعايب، واحتجز بصحته عن المطاعن، ثم تجتد لفؤادك عنه نبوة، وترى بينه وبين ضميرك فجوة"1. ثم يضرب صورة للجميل المثقل بالبديع من البيان، والمكتظ بشتَّى فنون البديع، وصور أدبية أخرى لما هو دون ذلك، مجردة من هذه   1 الوساطة للقاضي الجرجاني ص37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 الأثقال والأحمال من علم البيان وعلم البديع، تعتمد على اللفظ السهل القريب، والنظم الخالي من الصنعة والتهذيب، حتى كادت أن تخلو من صور البيان ومحسنات البديع، ولا تجد الصورة الأدبية لها طريقًا إلى القلب، ولا تهز وترًا من أوتار العاطفة، بينما تجد للصورة الأدبية الثانية لها سحرًا وبراءة في القلب؛ فتستريح إليها النفس، وتنشي العاطفة لها نشو، وتهتزّ لها طربًا؛ فيقول القاضي: "وقد تغزَّل أبو تمام فقال: دعني وشرب الهوى يا شارب الكأس ... فإنني للذي حسيته حاسي لا يوحشنك ما استسمجت من سقمي ... فإن منزله من أحسن الناس من قطع أوصاله توصيل مهلكتي ... ووصل ألحاظه تقطيع أنفاسي متى أعش بتأميل الرجاء إذا ... ما كان قطع رجائي في يدي باسي فلم يخل بيت منها من معنى بديع، وصفة لطيفة، طابق وجانس، واستعار فأحسن، وهي معدودة من المختار من غزله -وحق لها-، فقد جمعت على قصرها فنونًا في الحسن، وأصنافًا من البديع، ثم فيها من الإحكام والمتانة والقوة ما تراه، ولكن ما أظنك، تجد له من سورة الطرب، وارتياح النفس ما تجده لقول بعض الأعراب: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 أقول لصاحبي والعيس تهوى ... بنابين المنيفة فالضمار تمتع من شرير عرار نجد ... فما بعد العشية من عرار ألا حبَّذا نفحات نجد ... وريا روضه غب القطار وعيشك إذ يحلّ القوم نجدا ... وأنت على زمانك غير زار شهور ينقضين وما شعرنا ... بإنصاف لهن ولا سرار فأما ليلهنَّ فخير ليل ... وأقصر ما يكون من النهار فهو كما تراه بعيد عن الصنعة، فارغ الألفاظ، سهل المأخذ، قريب التناول"1.   1 الوساطة للقاضي الجرجاني ص37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 قضية الجلال : فالجمال والحلاوة بالمفهوم النقدي عند النقاد على النحو السابق، يتعرضون لهما بالنقد والتحليل للأدب العربي، الذي يصدر عن الأدباء والشعراء في العصور الأدبية المختلفة: العصر الجاهلي، وصدر الإسلام، والعصر الأموي، والعصر العباسي، والعصر الأندلسي وعصر الدويلات والإمارات، وعصر الممالك، والعصر العثماني، والعصر الحديث؛ فيتخذون في تحليلهم الأدبي والنقدي لفنون الأدب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وعناصرها الفنية مقاييس النقد وقواعده ومصطلحاته النقدية، التي يتعاون فيها الذوق الأدبي مع مقاييس النقد، وحين يجد الناقد النص الأدبي غير غني بمقوماته الجمالية؛ لأنه اشتمل على عناصر جمالية يخفى عليه معظمها أو كلها، أو هي عناصر كثيرة خفية يهتزُّ لها الذوق الأدبي، ولا يستطيع أن يقف على جميع أسبابها ومسبباتها، فلا يملك إلا أن يحكم على جميع أسبابها ومسبباتها، ولا يملك إلا أن يحكم على النصّ الأدبي بالحلاوة، وهي صفة تسمو في الحكم عليه بالجمال وحدَّه؛ لأن النقاد تعاملوا مع النصَّ الأدبي للشاعر والأديب لإثبات جماله، وحلاوته بالمصطلحات النقدية التي أجمع عليها النقاد في جميع العصور، وهذا أمر متعارف عليه ومقبول في أحكامهم النقدية، بل لا بد منه في أدب البشر ونقده، وخاصة في المحيط الإنساني والبشري؛ لأن النص الأدبي صادر عن الإنسان وعن البشر، والتعامل معه أمر مألوف ومتعارف عليه بالتحليل والنقد وتطبيق المصطلحات النقدية، التي يستخدمها الناقد الأدبي، وهو أيضًا -كالمبدع- من الأناسي والبشر، وهو مقياس معروف ومألوف في أعراف البشر ومحيطه الإنساني. لكن الأمر مختلف تمامًا مع كلام الله -عز وجل- وكتابه المقدس القرآن الكريم، فلا مجال هنا للمقارنة والموازنة إطلاقًا، فالنص الأدبي صادر عن الإنسان المخلوق، والقرآن الكريم أبدعه الخالق، خالق الإنسان والكون كله، ما نعلمه وما لا نعلمه، فقد أقسم الله -عز وجل- بالقرآن الكريم في أول سورة فصلت، فقال تعالى: {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 1-3] ، وهو كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ولا من خلقه، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ، لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ، مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ، وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} [فصلت: 41-44] ، وأقسم سبحانه وتعالى في أول سورة الزخرف، فقال تعالى: {حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الزخرف: 1-3] . ولما كانت هذه القضية مختلفة تمامًا؛ فإنه يلزم بالضورة بلا جدال ولا مناقشة على سبيل الحتم والوجوب، أن نتعامل مع كتاب الله -عز وجل، وقرآنه العزيز المحكم بما يتفق مع قداسته وربانيته، لأنه عزَّ على البشر والجن أن يأتوا بمثله، مبهورين بإعجازه وبلاغته، بل عجزوا على أن يأتوا بآية واحدة، قال تعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] . لذلك ينبغي إذا ما أردنا أن نعبر عن انبهارنا بآية، وعن إعجابنا بها، فلا يصح أن نكتفي بما نتعامل به مع النص الأدبي للبشر، فنحكم عليه بالجمال فقط لوضوح أسبابه وعناصره الجمالية المألوفة، ولا بالحلاوة فقط، التي جمعت بين أسباب الجمال وانبهار الذوق الأدبي، بل يجب أن يكون التعامل مع القرآن الكريم بأسمى من كل ذلك، وهو أن نصفه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 بـ "الجلال"، لا بالجمال والحلاوة فقط؛ لأن الله تعالى وحده، جل جلاله هو الذي يتصف بـ"الجلال"، ولا يتعارض هذا مع وصف النبي -صلى الله عليه وسلم- لربِّه بالجمال في الحديث الشريف: "إن الله جميل يحب الجمال" فالموقف هنا مختلف تمامًا، لأنه -صلى الله عليه وسلم- يرد على سؤال اعترض به السائل لعدم فهمه الصحيح للكبر فقال: "إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنًا ونعله حسنًا"، فردَّ عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- منكرًا فهمه للكبر وموضحًا له مفهومه الصحيح فقال: "الكبر بطر الحق وغمط الناس"، وأسباب الاختلاف أيضًا فيوصفه لله تعالى بالجمال كثيرة، منها أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يحكم على آية من كتاب الله - عز وجل-، ومنها التقريب لمفهوم الكبر بما يتعامل معه السائل من المحسات ومن مظاهر الواقع المألوف، حتى يقرب المعنى إلى عقله فيتضح معناه، وكذلك الأمر لا يختلف في التفسير عن وصف الله بالطيب في حديث شريف: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا"، فهو مختلف تمامًا، فالطيب للتمييز بين ما هو حلال أو حرام، كما أن الجميل والطيب ليسا من أسماء الله الحسنى، فهو سبحانه وتعالى "الجليل" جلَّ جلاله. والأمر أيضًا مختلف كثيرًا عما صدر من الكافر الوليد بن المغيرة حين حكم على الآيات التي سمعها من النبي -صلى الله عليه وسلم- بالحلاوة والطلاوة، لأن هذا الوصف صادر عن كافر معاند، لا من مؤمن يؤمن بالله تعالى، ولابكتابه المقدس، فلا يملك الوليد مع إعجاز القرآن الكريم، إلا أن يصفه بهذه الكلمات على الرغم من أنفه، فقال: "والله لقد سمعت من محمد آنفًا كلامًا ما هو من كلام الإنس ولا من كلام الجن، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أسفله لمغدق، وإن أعلاه لمثمر، وإنه يعلو ولا يعلو ... ما يقول هذا بشر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 ولما راجعه قومه لعناده بعد أن وقع في مأزق بهذا الحكم على القرآن الكريم وهو سفير عنهم، أخذ يفكر في التراجع عنه، ويفكر في طريقة الخلاص من هذا المأزق، فقال: إنه سحر يؤثر، وإن صاحبه لساحر، يفرق بين المرء وأهله، قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا، سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا، إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ، فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ، ثُمَّ نَظَرَ، ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ، ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ، فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} [المدثر: 16-25] . لهذا قد اختلط الأمر عند كثير من النقاد في نقدهم، فكانوا يصفون الأدب الإنساني والبشري أحيانًا بالجمال والحلاوة، وحينًا بالجلال، كما أنهم فعلوا ذلك حينما تعاملوا مع القرآن الكريم كتاب الله العزيز الحكيم، فعبروا بالجمال والحلاوة وحدهما، وهذا لايكفي مطلقًا مع كتاب الله جل جلاله، وقليلًا ما يتعاملون معه في أحكامهم وإعجابهم بالجمال والحلاوة والجلال جميعًا، كالشأن عندهم في تعاملهم مع النص الأدبي للبشر، وهذه المنزلة تسمو على السابقة كثيرًا، لكنهم في الغالب لم يقصروا صفة الجلال دون غيره من الجمال والحلاوة على القرآن الكريم وحده، وإنما تعاملوا بالثلاثة دون تمييز بينها في نقدهم للنصوص الإنسانية. لذلك أرى أن قضية "الجلال" ينبغي أن تكون مقصورة على القرآن الكريم وحده، فهو كتاب الله جل جلاله المقدس، ولا ينبغي أن نتعامل بها في الحكم على غيره مطلقًا؛ لأن كلام الخالق المبدع وكتابه المقدس يختلف -بلا موازنة ولا مقارنة- مع أدب مخلوقاته، فالمفاضلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 هنا ليست على بابها، بل مفاضلة فريدة مطلقة بديعة، لأنها مفاضلة هنا بلا نظير ولا تنظير، كما قال الله تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] ، فالنص البشري خاضع للذوق الأدبي الذي يختلف من عصر وناقد إلى عصر وناقد آخر، فلا تزال فيه الحقيقة غائبة، مهما بلغ القمة؛ لأن الكمال لله وحده، وكتاب الله جل جلاله القرآن الكريم هو الحقيقة وهو الحق المبين، الذي تقشعر منه الجلود، وتخر له الأذقان سجدًا في دموع وخشوع وذلة وتسليم، قال تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا، قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا، وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 105- 109] . لذلك كان البشر هم موطن التمييز والأفضلية؛ لأن منهم أولوا العلم من الذين آمنوا؛ فهم جديرون بحمل أمانته وتكليفه، حتى يتفاضلوا على الملائكة الذين يعبدون الله بالليل والنهار لا يفترون، وتقاصرت دونهم العوالم الأخرى عاجزة، لا تستطيع حملها، قال تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72] ، لذلك اختص التصوير القرآني بالجلال، وهي الصفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 والسمة السامية والعليا التي تتلاءم مع الإعجاز في القرآن الكريم، الذي تقاصر دونه أرباب البلاغة والفصاحة، حين وصلوا باللغة العربية وأدبها إلى القمة في البلاغة، حتى سمت وشرفت بين اللغات الأخرى بالقرآن الكريم، كما قال حافظ إبراهيم: وسعت كتاب الله لفظًا وغاية ... وما ضقت عن آي به وعظات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الإعجاز في التصوير القرآني مدخل ... الإعجاز في التصوير القرآني: كان النظم أحد وجوه الإعجاز في القرآن الكريم عند كثير من العلماء والنقاد قبل الإمام عبد القاهر الجرجاني، الذي أفاض فيه، وفصل القول فيه تفصيلًا وتحليلًا يقوم على العمق والاستيعاب والتذوق الأدبي، فتحقق على يديه من التضويح الدقيق لمفهوم النظم، وتحديد لأصوله وقواعده وسماته وخصائصه، مع التفسير والتحليل والتطبيق وغير ذلك، مما لم يكن موجودًا على مثاله من قبل، ولا عند السابقين عليه في تعرضهم لقضية النظم، واعتمد عبد القاهر في كل ذلك على ذوقه الأدبي المحنَّك والمرهف، وحسَّه النقدي المعمور بالتجارب والممارسة والاستيعاب، والتراكم الفكري والثقافي والعملي والروحي، مما أدَّى إلى إصابته وتوفيقه في التعرف على مصادر الجمال في النص الأدبي، وعلى روعة الجلال في القرآن الكريم، بصورة عميقة ودقيقة، وشاملة، لم تكن عند الذين سبقوه من النقاد والعلماء بهذه الكيفية، بل كانت دونها بكثير، وخاصة في كتابيه المشهورين: "دلائل الإعجاز"، و"أسرار البلاغة". تحدَّث عبد القاهر عن الصورة الأدبية في موضعين، الموضع الأول: في فصل قضية النظم، التي شغلته كثيرًا، حتى يظن القارئ أنه لم يخرج عنها، ولم يتعدَّ إطارها، لكن من تأمل في تحليله، وأمعن النظر في عرضه وتطبيقاته، لوجده يتحدث عن الصورة الأدبية حديثًا عميقًا، لم يعهد من قبل؛ فهي تتولد عنده من خيوط النظم، وتستمد روافدها من العلاقات بين أجزاء النظم وأركانه، كما يظهر ذلك من خلال حديثه عن النظم، يقول: "واعلم أنك إذا رجعت إلى نفسك علمت علمًا لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 يعترضه الشك، أنه لا نظم في الكلم ولا ترتيب، حتى يعلق بعضها ببعض، ويبني بعضها على بعض، وتجعل هذه بسبب تلك، وإذا كان كذلك، فعلينا أن ننظر إلى التعليق فيها والبناء، وجعل الواحدة منها بسبب من صاحبتها ما معناه وما محصوله"1. ويوضح ذلك أكثر فيقول: "إنك ترى الرجل قد يهتدي في الأصباغ، التي عمل منها الصورة والنقش في ثوبه، الذي نسج إلى ضرب من التخير والتدبر في أنفس الأصباغ، وفي مواقعها ومقاديرها، وكيفية مزجها لها، وترتيبها إياها، إلى ما لم يهتد إليه صاحبه، فجاء نقشه من أجل ذلك أعجب، وصورته أغرب، وكذلك حال الشاعر في توخِّيهما معاني النحو ووجوهه، التي علمت أنها محصول النظم"2. الموضع الثاني: عندما عرض عبد القاهر قضية السرقات الأدبية تعرض للصورة الأدبية، فوضح أن التغاير في عرض وأسلوب المعنى الواحد بأسلوب آخر يكون حتمًا نتيجة للاختلاف في هيئة الصورة الأدبية، في أسلوب كل من الشاعرين، مع أن المعنى الأصلي كان واحدًا، ولا يمكن أن يتم الاتفاق إلا في حالة واحدة؛ وذلك حينما يغيّر الشاعر المتأثر واللاحق كل لفظ عند الشاعر السابق بلفظ يشبه الأول في المعنى، وهكذا في بقية الألفاظ، حتى يتحقق الإنفاق التام بين اللاحق والسابق، لأن الشاعر الثاني واللاحق والمتأثر لم يعرض المعنى في صورة جديدة.   1 دلائل الإعجاز: ص97. 2 المرجع السابق: ص123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 لذلك نجد عبد القاهر يتَّهم من سبقه بالخطأ في فهم الصور؛ فيقول: "وجدتهم قد قالوا ذلك من حيث قاسوا الكلامين على الكلمتين؛ فلما رأوا، إذا قيل في الكلمتين أن معناهما واحد، لم يكن بينهما تفاوت، ولم يكن للمعنى في أحدهما حال، لا يكون له في الأخرى، ظنوا أن سبيل الكلامين هذا السبيل، وقد غلطوا فأفحشوا؛ لأنه لا يتصور أن تكون صورة المعنى في أحد الكلامين أو البيتين؛ مثل صورته في الآخر البتة، اللهم إلا أن يعمد عامد إلى بيت، فيضع مكان كل لفظة منه لظفة في معناها، ولا يعرض لنظمه وتأليفه، كمثل أن نقول في بيت الحطيئة: دع المكارم لا ترحل لبغيتها ... واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي ذر المفاخر لا تذهب لمطلبها ... واجلس فإنك أنت الآكل اللابس وما كان هذا سبيله كان بمعزل من أن يكونبه اعتداد ... ولا أن يجعل الذي يتعاطاه بمحل من وصف، بأنه أخذ المعنى، وذلك لأنه لا يكون بذلك صانعًا شيئًا، يستحقّ أن يدّعي من أجله واضع كلام، ومستأنف عبارة، وقاتل شعر"1. لذلك انقسم عنده من تناول معنى متحدًا إلى قسمين: قسم يكون فيه أحد الشاعرين قد أخفق في تصويره، لأنه أتى بالمعنى غفلًا ساذجًا، وترى الآخر قد أخرجه في صورة تروق وتعجب، وقسم ترى فيه شاعرًا   1 دلائل الإعجاز: 429، 431، تناولت ذلك بالتفصيل في كتابي الصورة الأدبية تأريخ ونقد، من 56- 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 منهما، قد صنع في المعنى وصور1. فالإمام عبد القاهر كما ترى قد قصر النظم على التصوير الأدبي، بحيث لا يتعدَّاه إلى غيره، وجعل النظم بهذه الكيفية هو الوجه في الإعجاز القرآني، لكنني أختلف معه في هذا التعميم والإطلاق، لأن النظم من وجهة نظري قد يكون حقلًا خصبًا للتصوير الأدبي؛ إذا اجتمعت فيه روافد البلاغة وعناصر الجمال في الأدب، وقد يكون النظم خاليًا من كل ذلك، فلا يكون موطنًا للتصوير الأدبي؛ فيعتمد على أسلوب علمي، ونظم كلمات دقيقة في معناها اللغوي، بحيث لا تتعدَّد المعاني في اللفظ، ولا يتراسل بالإيحاء والظلال، بل تؤدي الألفاظ في النظم معانيها اللغوية والحقيقة بدقة وإحكام، لتنتهي إلى نتيجة علمية بحتة، أو برهان عقلي يعتمد على مقدمات محدودة، ومسلمات يقينية، لا تفسح لإيحاء أو تلميح، ولا تتراسل بظلال أو أضواء، بل تكون واضحة صريحة، ونافذة دقيقة في أداء معانيها؛ فلا يستطيع أحد أن ينكر أن هذا الأسلوب العلمي قائم على النظم بين الألفاظ على النحو السابق، كما لايستطيع أحد أن يستمد من روافده صورة أدبية، أو يتولد منه تصوير أدبي بحال، وقضية النظم بهذه الكيفية والعموم عند عبد القاهر كانت أحد وجوه الإعجاز في القرآن الكريم، مما جعلني اختلف معه في إطلاقه وعمومه على النحو الذي وضحته آنفًا. لذلك جعلت التصوير القرآني واحدًا من الوجوه المتنوعة للإعجاز في القرآن الكريم، بل يعدُّ عندي من أدقِّ الوجوه في الوقوف على أبعاده، وفي معرفة أسرار الجلال فيه، لأن روافد التصوير القرآني   1 دلائل الإعجاز: 429، 431، الصورة الأدبية تاريخ ونقد: 56- 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 وعناصره كثيرة ومتنوعة، فلا تقتصر على الخيال بصوره المختلفة في أبواب "علم البيان"؛ كالتشبيه، والمجاز، والاستعارة التصريحية والمكنية، والكناية، مما يدخل في مفهوم الصورة الأدبية ومقوماتها عند معظم النقاد في العصر القديم والعصر الحديث، ولا تقتصر على روافد الصورة المستمدة من أبواب "علم المعاني" كالتقديم والتأخير والحذف والذكر والتعريف والتنكير والقصر والالتفات وغيرها، كالشأن في مفهوم الصورة الأدبية عند النقاد في النقد القديم، وخاصة عند عبد القاهر الجرجاني، ولا تقتصر على الروافد المستمدة من الإيقاع والموسيقى الداخلية والخارجية والنسق، كالشأن في مفهوم الموسيقى في النقد القديم والحديث معًا، بل روافد التصوير القرآني تعتمد عليها وعلى غيرها، فهي أعظم من ذلك وأكثر من ذلك مما نعلمه وما لا نعلمه، والله -جل جلاله- وحده يعلمه، كالإعجاز في تصوير الحقائق العلمية والقيم التشريعية والقيم الخلقية وغيرها مما سنوضحه في الفصول اللاحقة إن شاء الله تعالى، بل التصوير القرآني أجل من ذلك حينما تقشعر القلوب من جلاله، فيغمر العاطفة والوجدان والشعور والعقل بالجلال والرهبة والرغبة والهيبة والخوف، كما وضحنا ذلك في الفرق بين الجمال والحلاوة والجلال، حينذاك يقف الإنسان عاجزًا عن معرفة مصادره المحسوسة، لكن يعدها واحدة بعد الأخرى، فيضطر أن يعترف بالجلال الذي امتلأ به قلبه ووجدانه، وامتلك عليه عقله وعوارفه، قال تعالى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر: 23] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} [الأنفال: 2] . لهذا آثرت التعبير مع القرآن الكريم بـ" التصوير القرآني"، لتفرده بالإعجاز فيه، فهو أسمى ما عرفه البلغاء على الإطلاق قديمًا وحديثًا وفي كل عصر، على أن ينسب التصوير إلى القرآن؛ فينسب المصطلح إلى أصله، وما هو له، ويتصف الموصوف وهو "التصوير" بصفته وهو "القرآني" ليتصف بصفاته، وتنسحب عليه سماته وخصائصه، فنقول: "التصوير القرآني، ليكون خبرًا تتم به الفائدة، أي: "هذا هو التصوير القرآني"، أو يضاف "تصوير" إلى "القرآن"، فتقول: "تصوير القرآن"؛ فيأخذ المضاف حكم المضاف إليه، ويتصف بسماته وخصائصه، ليكون خبرًا تمَّ به الفائدة، أي: "هذا هو أدب القرآن"، أو خبرًا عن سمات الإعجاز، والتقدير: "الإعجاز في التصوير القرآني"، وهو عنوان الكتاب وأشرت إليه في مقدمته، فهذا أو ذاك هو الصنيع الوحيد والصحيح والأدق والأولى بجلال القرآن وقدسيته؛ لأنه كلام الله الخالق، وكتابه المقدس، وهو يختلف تمامًا عن كلام خلقه من البشر، وليس أدب القرآن مثل أدب خلق الله من الناس، حينئذ يكون التصوير منسوب إلى مصدره الإلهي الأعظم، فهو مختلف عن غيره من التعبيرات والمصطلحات النقدية في أدبهم، وعن الأوصاف التي وصف بها النقاد "التصوير القرآني" من القيم الفنية والبلاغية في الأدب والنقد، وأختلف معهم في كل ذلك؛ فئلا أعبّر مثهلم كما يعبرون فيقولون: "التصوير الأدبي في القرآن الكريم"؛ لأن هذا السلوك يقتضي تطبيق هذا المصطلح النقدي في الأدب الإنساني للبشر على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 القرآن الكريم، وعلى تصويره، مما يجعل القرآن الكريم -معاذ الله تعالى- نصًّا أدبيًّا مثل غيره من النصوص الأدبية شعرًا ونثرًا، يجري عليه أحكامها سواء بسواء، وهذا من وجهة نظري مرفوض عندي بكل مقومات الرفض ووسائله، لأنه لا يتناسب مع قداسة القرآن الكريم، لأنه لا يصح أن يوضع في مجال الموازنة، ولا المعادلة، ولا المقارنة، ولا التفاضل، حتى ولو عبر بعض النقاد بأن القرآن الكريم هو النص الأدبي الأول، مما يقتضي أن ما بعده الثاني والثالث؛ فقد وضعه في كفف الموازين النقدية مع النصوص الأدبية؛ لخلق الله -جل جلاله- كما يقول أحدهم بالنص: "منذ بدء الحياة الإسلامية، إذن أخذ القرآن مكان الصدارة بصفة كونه" النص الأدبي الأول "لهذه الأمة"1، ويقول أيضًا في موطن آخر: "ودارس القرآن من الوجهة الأدبية عليه ثانيًا أن يذكر أن القرآن نصّ أدبي، بل هو كتاب الأدب العربي الأول"2. وإذا تسامح بعضهم -وهو دون الأولى والأفضل- في قولهم: "التصوير الأدبي في القرآن الكريم"، وهو يريد أن يستخرج سمات القرآن في الصورة الأدبية، التي تختلف عن غيرها من التصوير الأدبي؛ فهذا أيضًا عندي غير مقبول، لأن هذا المصطلح يكون قاصرًا وغير دقيق وواضح، لأن القائل به قد وضعه في مقام سؤال، يحتاج إلى إجابة تكشف الغموض فيه، وبه تتم الفائدة كالشأن في خبر المبدأ، فإذا قلت: التصوير الأدبي في القرآن الكريم، يترتب عليه أسئلة، وهي: ما سمات هذا التصوير؟ وما صفته التي تريد تحديدها؟ وما مقوماته وعناصره؟   1 من الوجهة الأدبية في دراسة القرآن الكريم: د. السيد تقي الدين ص37 ج1، مكتبة نهضة مصر بالقاهرة، رقم الإيداع 2280. 2 المرجع السابق: ج1 ص8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 وما أشبه ذلك من الأسئلة، فتأتي الإجابة مكملة للمصطلح، وعلى سبيل المثال تقول: التصوير الأدبي في القرآن الكريم معجز، أو سماته هكذا، وهكذا، وهكذا، وهو مرفوض أيضًا، ولا يصح أن نتعامل به مع كتاب الله المقدس حتى لو جعله بعضهم عنوانًا لبحثه أو كتابه المنشور. وكذلك ما جاء على مثال: "الصورة الأدبية في القرآن الكريم" من المصطلحات النقدية التي تعامل بها النقاد مع الأدب ونقده بصفة عامة مثل: "التصوير الفني في القرآن"1، و"الفن القصص في القرآن"2، و"القرآن ... ونظرية الفن"3، و"من الوجهة الأدبية في دراسة القرآن الكريم"4، و"التعبير الفني في القرآن الكريم"5، وغيرها من المصطلحات عند كثير من النقاد المحدثين والمعاصرين، فإنهم يقولون: "الموسيقى في القرآن"، و"الإيقاع في القرآن"، و"الأسلوب في القرآن"، و"التعبير في القرآن"، و"النظم في القرآن"، و"الوحدة العضوية في القرآن"، و"الفن في القرآن"، و"البيان في القرآن"، و"الوجدان الفني في القرآن"، وهكذا في بقية المصطلحات النقدية في الدراسات الأدبية والنقدية في الأدب العربي الحديث ونقده؛ فما خلا كتاب في النقد الأدبي الحديث تعرَّض للقرآن إلا تجد فيه مثل هذه التعبيرات والمصطلحات النقدية، التي يتعامل بها النقاد مع كتاب الله   1 عنوان كتاب للمرحوم الشيخ سيد قطب. 2 عنوان كتاب للدكتور محمد خلف الله أحمد. 3 عنوان كتاب للدكتور حسين علي محمد، مطبعة وهبه بالقاهرة 1413 هـ، 1992م. 4 عنوان كتاب للدكتور السيد تقي الدين، مكتبة نهضة مصر بالقاهرة. 5 عنوان كتاب للدكتور بكري شيخ أمين، دار الشروق -بيروت 1976م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 المقدس جل جلاله "القرآن الكريم". ولا أقول الأولى والأفضل والأدق، بل أقول: الصحيح والحق، ألا نتعامل مع القرآن الكريم بهذه المصلطحات النقدية، كما وضحت ذلك في التعبير بـ "التصوير الأدبي في القرآن الكريم" للأسباب التي ذكرتها بالتفصيل، ولدفع الغموض والنقص والقصور الظاهر في التعبير بها؛ فنقول مع القرآن الكريم: "التصوير القرآني"، و"الأسلوب القرآني"، و"النظم القرآني" و"التعبير القرآني"، و"الموسيقى القرآنية"، و"الإيقاع القرآني" و"النسق القرآني"، و"البيان القرآني"، و"القصص القرآني"، و"الوحدة القرآنية" وهكذا مع جميع المصطلحات النقدية، فتكون على سبيل ذكر الموصوف والصفة المنسوبة إلى القرآن كما سبق، أو على سبيل الإضافة، إضافة المصطلح إلى القرآن "تصوير القرآن"، وقد وضحت ذلك. ومن هنا تتحول المصطلحات النقدية من مفهومها العام بعد نسبتها إلى القرآن الكريم، إلى مفهوم مقيد بالقرآن، يضفي عليها قدسيته وجلاله وروحه وسماته وخصائصه؛ فتكون مصطلحات قرآنية، لا أدبية ولا نقدية، لأن القرآن الكريم كلام الله الخالق ذي الجلال والإكرام، ومهما بلغت فنون الأدب القمة، فهي صادرة عن خلق الله من البشر؛ فقد أبدعه الله تعالى، وخلقه في أحسن تقويم. والقرآن الكريم حين خاطب العقل والشعور والعاطفة والوجدان، والروح والقلب جميعًا، خاطبها بأجل الوسائل في التعبير، فبهرها بـ "التصوير القرآني"، التي تلتقي فيه كل روافد الإعجاز، ليكشف عنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 أروع كشف، في جلاء ووضوح، وتأثير وإقناع في التصوير القرآني قمة الإعجاز، لأنه بمعناه الواسع العميق والشامل الثري بقيمه الكثيرة، يفيض بكل ذلك، فهو جسد وروح معًا، لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، ولا نقصد بالتصوير كما وضحت قبل ذلك الصور التقليدية والجزئية التي اقتصرت على ألوان البيان، كالتشبيه والاستعارة والكناية وغيرها، أو اقتصرت على اللفظ والعبارة، أو اقتصرت على النظم في علاقة الكلمات بمعانيها وترابطها، دون الأبعاد النفسية والشعورية، التي يعلمها خالق النفس والشعور سبحانه وتعالى، بل الأمر أعمق من كل ما سبق، وأرحب أفقًا، إن التصوير القرآني كائن حي خالد، يلتقي فيه ما اجتمع في الإنسان من كل وسائل الحياة في ارتباط شكله بمضمونه جملة وتفصيلًا، وما وراء ذلك من مشاعر النفس وخوالجها، وعواطلها والصدق فيها، بل الحقيقة الكبرى التي يعلمها الله وحده وغيرها من مقومات التصوير وعناصره، التي تملك زمام التأثير على النفس وتدفع صاحبها إلى الاقتناع العقلي على سبيل الاعتقاد الصادق، والإيمان الراسخ. والتأثير والإقناع هما الغاية من الإعجاز في التصوير القرآني، وبهما تحول الوليد بن المغيرة من معاند فاتك إلى مهزوم ضعيف، يسترحم محمدًا صلى الله عليه وسلم، ويضع كفه على فمه الشريف فزعًا مذعورًا ويقول: "أمسك عليك يا ابن أخي"، ثم يذهب إلى صناديد الكفر، الذين كانوا ينتظرون منه الفتك به والقضاء عليه؛ فإذا بالحق ينطق به قلبه وعقله، وينطلق على لسانه، ليجري مجرى المثل والحكمة، وإن كان المثل من الكافر فيصف التصوير القرآني بقوله: "إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن أعلاه لمثمر وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وصدق الله العظيم إذ يقول تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [الحشر: 21] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 من التصوير القرآني : تلاحم الموسيقى والمعاني والقيم : الإعجاز في الموسيقى القرآنية لا يصدر عن أوتار وآلات يعزف عليها الفنان بأنامله وأعضائه التي أعدت لذلك إعدادًا مدروسًا، لكنها تصدر عن حروف اللغة المتحركة والساكتة والمهموسة والمجهورة والرقيقة والغليظة الشديدة وحروف القلقلة، وعن البناء الصوتي للكلمة القصيرة أو الطويلة، والسلسلة، والسهلة العذبة، والفخمة الجزلة القوية؛ لانسجام الحروف في الكلمات والتلاؤم الصوتي بين العبارات المختلفة لتشكل صورة موسيقية تامة، ولحنًا قرآنيًّا متكاملًا لبناء صورة قرآنية تتآزر مع المعاني والقيم الخلقية لتحقيق الغاية من التصوير القرآني المعجز، فإذا قرأت قوله تعالى: {إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} [الكهف: 10] ، فالموسيقى القرآنية هنا تنوعت في آية واحدة، حين صورت أصحاب الكهف وهم يسرعون في البحث عن ملجأ يحميهم من طغيان دقيانوس الظالم المشرك الذي أصرَّ على قتلهم، لتمسكهم بعقيدة التوحيد، فتوعدهم بالقتل إذا استمروا في التوحيد، حتى لجئوا إلى كهف آمن يحميهم من القتل، فلما أطمأنت أنفسهم وهدأت أنفاسهم في خضوع وتأن وخشوع في دعائهم، استجاب الله تعالى لهم، فكان الإعجاز في الموسيقى القرآنية، التي صورت السرعة في البحث عن مأوى يحفظهم من القتل خلال أصواب وحركات وسكنات الحروف، والتراكيب وتآلفها السريع المناسب، ليكون الفرق واضحًا فيما لو جاء في غير القرآن -حين لجأ الفتيان إلى الكهف-؛ لأن "إذ" تعتمد على حرفين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فقط في حركة وسكون بدون حرف اللين -وهو الياء- يمتد معه الصوت في "حين" والمعنى واحد، وكذلك "أوى" تألفت فيها أصوات الحروف السريعة الخفيفة في الحركة والسكون، فلا تستطيع أن تتأنى وتتريث مطلقًا مثل التريث في "لجأ" وهما بمعنى واحد، وكذلك السرعة والخفة في موسيقى الفتية في حركة وسكون، مع أنها مكونة من خمسة حروف، وفي صيغة جمع التكسير التي تدل على القلة، لا "الفتيان" التي تمتد موسيقاها وتدل على جمع الكثرة المتعارض مع حقيقة عددهم، ليندلف الجميع بسرعة إلى الكهف، فلايستطيع القارئ لهذه الآية أن يتريث فيها، بينما يضطر إلى التريث على الرغم من أنفه في التصوير القرآني في بقية الآية، حين استقر أصحاب الكهف في كهفهم فأمنوا غدر الملك وأعوانه، فأخذوا يدعون الله تعالى في تأنٍّ وخضوع وتريث تصورها الحروف والكلمات ذات الحركات الوئيدة، وحروف اللين التي يمتد معها النطق الطويل، وكثرة الشداد الثقيلة التي يتوقف فيها النطق تمامًا، وقواعد التجويد كالغنة وجهارة الحروف وثقلها على اللسان في قوله تعالى: {فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} إنه الإعجاز في تصوير الموسيقى القرآنية البديعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 إبداع في تصوير النوم المعجزة : قال تعالى في سورة الكهف: {فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا} [الكهف: 11] ، في هذه الصورة القرآنية البديعة إعجاز في حروفها وكلماتها وصيغها وتراكيبها اللغوية، فقد صور القرآن الكريم سرعة استجابة دعائهم، فأنجاهم من ظلم الملك دقيانوس، وأنقذهم من الشرك الذي دعاهم إليه، وحفظهم من القتل حين وفقهم الله تعالى إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 كهف، آية وكرامة لهم تخدلهم إلى الأبد، لا يستطيع أحد أن يصل إليهم بأذى على الرغم من أنهم قد ناموا فيه ثلاثمائة وتسع سنين، وهي كرامة تتحقق لأولياء الله الصالحين، كما سيضح ذلك من خلال التصوير القرآني لهذه الآية الكريمة. ودلائل الإعجاز في ذلك جرت في الحروف والكلمات والأسلوب والصور التي شكلت الصورة الكلية المعجزة، فالتصوير القرآني في "الفاء" وهو حرف يدل على عظيم منزلتهم عند الله تعالى، يدل على الترتيب بسرعة الاستجابة لهم، والتعقيب بلا تريث، على العكس من "ثم" التي تدل على التريث والتراخي، ثم تأمل الصورة القرآنية في قوله: {فَضَرَبْنَا} التي تدل على تكريمهم حين حفظهم في الكهف بالنوم، من أن تمتد إليهم أيادي الملك وأعوانه، ولا تصلح "أنامهم"، لأن في الضرب دلالة أخرى غير النوم، وهي المجازاة والإيحاء بالعقاب، وهو من باب حسنات الأبرار سيئات المقربين، لأن معاني الضرب في اللغة الإيذاء والإقامة والتثبيت والنوم، وفي هذا التصوير دلالة على أنهم ليسوا بأنبياء؛ لأن النبي لا يفرُّ من المواجهة في الدفاع عن عقيدة التوحيد، بل كانوا أولياء، لأنهم لجئوا إلى العزلة عن الناس، والإيواء إلى الله تعالى. وتأمَّل الإعجاز في هذه الصورة القرآنية في قوله تعالى: {عَلَى آذَانِهِمْ} والشأن القريب عند الإنسان في مفهوم النوم أن يكون الضرب على الأعين لا على الآذان، فتنطبق الأجفان، ولا تتحرك الأحداق، لكن الإعجاز ينأى عن ذلك المتعارف، ليصور النوم الحقيقي لا الظاهري، فيجعله ضربًا على الآذان فلا يسمع النائم أحدًا، لا على الأعين، فقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 يتناوم النائم، فيغمض عينيه وهو مستيقظ يسمع من حوله كنوم الذئاب والثعالب، وقد ينام حقًّا وهو مفتوح العينين كما عند بعض الناس في العادة، لكن الضرب على السمع هو المقياس الحقيقي للنوم، يجعل النائم لا يسمع أحدًا مطلقًا، فالنوم الحقيقي يكون بالضرب على المسموعات لا على المرئيات، فكانت هذه الصورة القرآنية مبهرة للعقول، وأكثر إثارة للعواطف القوية، وإحياء للمشاعر الصادقة، وتعميرًا للوجدان المتدفق. أما كلمة "سنين" تدل على كثرتها، حتى بلغت أكثر من ثلاثمائة سنة، لا "سنوات" التي تدل على ثلاث فأكثر قليلًا، إنه الإعجاز في التصوير القرآني الخالد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 الكهف إبداع بياني وجغرافي : قال تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] ، هذه الآية الكريمة تصور موقع الكهف على سطح الأرض، وتحدد اتجاه بابه الذي لم يقتصر على الجهات الأربع، وهي الشمال والجنوب والشرق والغرب، بل يضيف أربعة أخرى، وهي الشمال الشرقي والغربي والجنوب الشرقي والغربي، ويظهر ذلك من خلال التصوير القرآني بالحروف والكلمات، وبالصور المتنوعة. أما دلالة ذلك على موقع الكهف من سطح الأرض فهو الإعجاز لأنه أكثر دقة من حقائق التاريخ، ومن لوحة فنية تبدعها ريشة الفنان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 بالألوان والأحجام والأشكال والرسوم والمواقع، وموقعها من خطوط العرض والطول، بل حققت ذلك أكثر عن طريق الحروف والكلمات والصور الحية المتحركة، تجد ذلك في أربع كلمات: "ترى -الشمس- إذا- طلعت"، تصور الشمس الساطعة طول العام لا تغيب أو تحجب بل ترسل أشعتها الضوئية الدافئة من مطلعها إلى مغربها، لأن الرؤية هنا بصرية، جاءت عن طريق العين الباصرة، والتنصيص على الشمس يؤكد ظهورها الدائم، فلا يتطرق احتمال الاختفاء فيما لو جاءت ضميرًا مستترًا أو ظاهرًا أو كنائيًّا. تأمَّل إيثار "إذا" التي تدل على أزمنة طلوع الشمس، فهي تصور حقيقة يقينيَّة لا تتخلف، تأكدت من الدلالة اللغوية عند علماء اللغة، على العكس من التعبير بـ"إن" التي وضعت للشك، والتقليل والظن، ومن "حين" وهي زمانية، يتطرق إليها الاحتمال والظن للإبهام فيها، لكن "إذا" قاطعة في ظهور الشمس على اليقين والتحقيق. وتأمل الصورة القرآنية التي تدل على الظهور والإشراق في "طلعت"، أي ظهرت وأشرقت على سبيل الحقيقة، بحيث لا تغيب إلا إذا غربت، وظهور الشمس بهذه الصورة لا يتأتى حول القطب الشمالي ولا الجنوبي، لأنها تغيب شهورًا ليلًا، وتظهر شهورًا نهارًا، كما لايتأتى على خط الاستواء لأنها تختفي في الصيف لكثرة الغمام والأمطار في هذه المواقع، ولا يتأتى ذلك على مدار الجدي، فقد أثبت التاريخ أن الرسالات السماوية لم تظهر في هذه المواقع، ولا يتأتى ذلك إلا على مدار السرطان، فتظل الشمس ساطعة طول العام، كما أثبت التاريخ أن مواقع السرطان غرب مصر خالية من الرسالات، فلم يبق إلا مواقع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 السرطان في الشرق من مصر إلى العراق، وأثبت التاريخ أن الكهف كان جنوب الشام في الأردن، وقد أعلنت الأردن اكتشافه من أكثر من عشر سنوات، وأما موقع باب الكهف فهو في الشمال الشرقي، نوضحه بعد ذلك في هذه الآية الكريمة1.   1 انظر الخريطة في كتابي: "الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق" الجزء الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 التكييف الرباني لأهل الكهف : قال تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} [الكهف: 17] ، هذه الآية الكريمة تصور موقع باب الكهف من الجهات على باب الكهف، ومن ذلك أطلق على الضيف زائرًا، لأنه يمكث مدة قليلة عند المضيف، ومن المعهود ألا تتجاوز ثلاثة أيام، وأطلق على الشهادة الآثمة شهادة الزور، لأن من يشهد بها يتمسك بها قليلًا ثم يتحول إلى الحق بعد أداء المهمة الآثمة، كذلك الشمس إذا طلعت تمكث على بابه في الصباح عن يمين الواقف الذي يرى باب الكهف حتى تأخذ طريقها إلى كبد السماء، فتتحول عن الباب، وتلك منه ربانية تحفظ أهل الكف من لفح الشمس القاتل لهم وهم نائمون، فيصابون بالحمَّى والموت، ومن قيظ البرد فلا يتعرضون للبرد القارص فيهلكون. هذه المدة القصيرة تكفيهم من الحرارة الدافئة الهادئة، ومن الأشعة المتنوعة التي تحفظ جسدهم من البلى، وهكذا تتجدَّد الوقاية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 والحماية كل يوم في الصباح، والصورة القرآنية في قوله تعالى: {وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ} ، فالشمس أثناء الغروب تمنع أشعتها الحرارية والضوئية عن باب الكهف على سبيل القطع، لأن الدلالات اللغوية والتصويرية لحروف "تقرضهم" وصيغتها تصور القطع والمنع عن شمالالواقف على باب الكهف، ولا يصل من أشعتها شيء مطلقًا وقت الغروب، بل تبتعد تمامًا، ولا يتأتى مكث الشمس فترة وجيزة عند الطلوع على باب الكهف، وانقطاعه عنه تمامًا وقت الغروب، إلا إذا كان الباب ناحية الشمال مائلًا إلى الشرق قليلًا، أي في الجهة المعروفة عند الجغرافيين بالشمال الشرقي. ولا يتأتى ذلك إذا كان الباب في غير هذه الجهة، لأن أشعة الشمس في جميع الجهات الأخرى تصل إلى أعماقه وتستمر مدة أطول من التزاور سواء أكان الكهف على مدار السرطان أو الجدي أو خط الاستواء، علاوة على القطبين الشمالي والجنوبي، وصورة الخريطة توضح ذلك، وتقرب الصورة لغير المتأمل للحروف والكلمات1، لذلك كان خاتمة التصوير القرآني بما يثير العجب في قوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّه} ،أي من عجائب قدرته ودلائل إعجازه، حين وفق أولياءه لهذا الموقع العادي الذي اجتمعت فيه خصائص الموقع المنيع إلى حدِّ الإعجاز في التصوير القرآني كرامة لأصحاب الكهف أولياء الله الصالحين: {مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا} .   1 انظر الخريطة في كتابي: "الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق" الجزء الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 كلب أهل الكهف : قال تعالى: {وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} [الكهف: 18] . بالحروف والكلمات والصور المتنوعة بلغت هذه الصورة القرآنية حد الإعجاز الرباني، يعجز عنها العبقري في فن الرسم والتصوير والنحت، مهما استخدم أدوات اللوحة الفنية المتألقة التي عبر فيها بالألوان والأشكال والأحجام والأضواء والظلال، فلن تعط أكثر من لقطة واحدة، تجمدت على حركة ولون وشكل وضوء وظل واحد، لا يتكرر أبدًا ولا يتجدد مع المكان والزمان، ولا مع الفكر والثقافة، لكن الصورة القرآنية تتجدَّد مع الأزمان والأجيال الخالدة، فالتعبير بالفعل المضارع في "تحسبهم، ونقلبهم" يعطي الحركة المتجددة من حين لآخر، لأن أصحاب الكهف ليسوا أمواتًا بل أحياء، لكنهم يتقلبون ذات اليمين وذات الشمال، وتتجدد الألوان المتنوعة للنائم ما بين حمرة وصفرة وقتام، وتأمل صورة الكلب يحرسهم وهو يقظان، لا مستلقيًا على ظهره، ولا مضطجعًا، بل متوقزًا دائمًا يحملق بعينيه، ويقعي على رجليه، باسطًا ذراعيه على باب الكهف، فليس بعيدًا حتى يهملهم، ولا جبانًا يأنس إليهم في داخله. وفي صيغة اسم الفاعل في "باسط" ما يدل على دوام حراسته وعدم انقطاعه عنها لحظة واحدة. مثل هذه الصورة المزعجة غير المألوفة في عرف البشر، تجعل الجريء لو أشرف من بعيد يفرُّ مذعورًا فلا ينظر وراءه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ومن المعروف أن المطلع على المنظر المخيف يعتريه الخوف أولًا ثم يفرُّ بعد ذلك، مما يتوهم أن هذه الصورة القرآنية في الظاهر تخالف الواقع، لكن المتأمل قليلًا يجدها تصور الحقيقة والواقع معًا، لأن المناظر الرهيبة تبث أوائل الفزع، وهذا يكفي ليكون حافزًا للفرار والجري، وكلما تخيل فظاعة المنظر ازداد خوفًا وجريًا، فيتكاثر الرعب في القلب حتى يتملئ عن آخره، لذلك عبرت الصورة القرآنية، بالامتلاء، لا بمجرد الخوف، لأن أول الخوف معلوم للمتلقي، فلايحتاج إلى ذكره بلاغة وإيجازًا، فقال تعالى: {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} ، إنه الإعجاز القرآني في التصوير البديع الرباني: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 عدد أهل الكهف : قال الله تعالى: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} [الكهف: 22] ، قال شيخ المفسرين حبر الأمة عبد الله بن العباس، حين عقب على تفسيرها، أن عليًّا بن أبي طالب -رضي الله عنه- من القليل الذين ألهمهم الله الصواب في تفسيرها، لأنه وصل إلى حقيقة العدد بأنهم سبعة وثامنهم كلبهم، عن طريق الإعجاز في التصوير القرآني بالحروف والكلمات والصور، وذلك حين عبر القرآن الكريم بالصورة الأولى لقول بعضهم في المستقبل: {سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ} ، أنه لم يفصل بين الثلاثة والأربعة، ولا بين الخمسة والستة بالواو، التي تقتضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 المغايرة، ثم تكاملت الصورة القرآنية بالحكم القاطع، وهو أن ما سبق تخمين وغير واقعي ولا حقيقي، حين حكم عليه القرآن الكريم بمخالفة الحقيقة، لأنه رجم بالغيب وافتراء عليه، فالله وحده عالم الغيب والحقيقة، وذلك في قول الله تعالى: {رَجْمًا بِالْغَيْب} . وفي الصورة القرآنية الثانية عبر القرآن الكريم عن قول بعضهم الآخر: {وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} ، ويظهر الإعجاز في تصوير العدد الحقيقي لهم في بلاغة صورتين، الأولى تشكلت من حرف واحد، وهو حرف العطف هنا، ولم يأت هناك، وتدل صورته البليغة على أن ما جاء بعده يغاير ما ورد قبله، وهو احتمالات التخمين السابقة المخالفة للحقيقة، لأنها رجم بالغيب، فإذا كان ما قبل حرف العطف غير صحيح، فيلزم بالضرورة أن ما بعده يكون صحيح العدد، وهو الحقيقة، وهي سبعة وثامنهم كلبهم، حتى ينفق ذلك مع الوضع اللغوي لمعنى حرف العطف. ثم تأكدت هذه الحقيقة بالصورة القرآنية الثانية في قوله تعالى: {قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} لدلالتها المعجزة على أن علم الله -عز وجل- بعددهم سبق المخلوقات فيفهمهم لحقيقة العدد الصحيح، لأن من وفقهم الله لنور العلم وحقائقه، ليس كل العلماء، وإنما الخيار منهم {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ} لذلك كان علي بن أبي طالب من القليل كما قال عبد الله بن العباس -رضي الله عنه، وجاءت آيات كثيرة تدل على التغاير والنقيض كما بين {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} في قوله تعالى: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} [التحريم: 5] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 وَازْدَادُوا تِسْعًا: قال الله تعالى: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا} [الكهف: 25] ، يظهر في هذه الآية الكريمة الإعجاز في التصوير القرآني المستمد من الحقيقة والواقع المجردين من ألوان الخيال المختلفة تشبيهًا أو استعارة أو كناية، التي تقوم عليها الصورة الأدبية عند معظم النقاد. فالصورة القرآنية هنا مع تجردها من الخيال بلغت حدَّ الإعجاز في صورتين، الأولى: مستمدة من حقيقة علمية انتهى إليها علماء الفلك في حساب السنين الهجرية والميلادية في قوله تعالى: {وَازْدَادُوا} ، فقد جرت العادة في ذكر هذا العدد بدون هذه الزيادة، بأن يقال: ثلاثمائة وتسع سنين، ظنًّا بأنها لا تضيف جديدًا، بل وقعت استطرادًا في التعبير العلمي، لكن الحقيقة غير ذلك، فالتعبير بالزيادة مع المغايرة في حرف العطف يدل على الفرق بين الأيام الزائدة في السنة الميلادية عن السنة الهجرية، فالثلاثمائة سنة ميلادية تقل في مجموعها عن السنة الهجرية بتسع سنين زيادة في مجموعها، وهو الإعجاز العلمي في عرف علماء الفلك حديثًا. أما الصورة القرآنية مستمدة من الواقع، فالشأن في النائم، بعد بذل جهد طويل فيسهر متواصل حين يأوي إلى فراشه أن يقطع ساعات فوق عادته اليومية، ليعود إليه نشاطه، ويسترد قواه، فإذا ما استيقظ بعد ذلك لا ينهض واقفًا فجأة، وإلا سقط على الأرض، بل لا بد من دقائق تمهيدًا للانتقال من السكون إلى الحركة، فيظل في فراشه شبه يقظان تتقلب يمينًا وشمالًا ويحرك يديه ورجليه، حتى يدبَّ النشاط في البدن، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وتتنفس فيه الحركة بين السكون المطبق، ليتهيأ للوقوف دون أن يقع، كالشأن فيمن ينزل من سيارة متحركة، فلا بد أن يتحرك في اتجاهها حتى لا ينكبَّ على وجهه، فما بالك بأصحاب الكهف، الذين قطعوا في النوم أكثر من ثلاثمائة سنين، فهم بالضرورة محتاجون، لكي يقفوا على أرجلهم، أن يتقلبوا في حركات متنوعة إلى مدة تتناسب مع هذه السنوات الطويلة، قد صورها القرآن الكريم بتسع سنوات لها طبيعة مختلفة، يتبدد فيها السكون بالحركة المتتابعة تمهيدًا للقيام، مما يقتضي الإعجاز في قوله تعالى: {وَازْدَادُوا} ؛ لأن طبيعة السنوات التسع تختلف تمامًا عن المدة السابقة. إنه الإعجاز في التصوير القرآني، قال تعالى: {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 تقديم السمع ... على البصر: جاء ختام قصة أصحاب الكهف بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ} [الكهف: 26] ، ليقتضي الإعجاز تقديم البصر على السمع هنا، لاعتماد القصة على مشاهد كونية في الطبيعة غنية بالمظاهر الفاتنة، والألوان الساحرة التي تشرق عليها الشمس صباحًا وتغرب عنها مساء، فتأخذ بالبصر كل مأخذ لا بالسمع، قال تعالى: {وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ} [الكهف: 17] ، لذلك كان التصوير القرآني لرؤى هذه المشاهد بالبصر أولًا، ولأن الأمر هنا مختص بالله -عز وجل- لا بالبشر، فسبحانه وتعالى يستوي لديه المسموعات والمبصرات على سبيل الانكشاف التام، فلا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 يخرج شيء من علم الله القديم الشامل، كما تقدم السمع في سورة طه: {قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [آية: 46] ، بعد قوله تعالى: {فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} [طه: 44] ، ولمقتضى الحال. لكن الكثير الغالب أن يأتي السمع مقدمًا على البصر بالنسبة للعباد، لأنه أبلغ إعجازًا في مقام انتفاعهم بالعلم والتلقي، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] ، وكذلك استفادتهم في معاشهم وهدايتهم، ويرجع تقديم السمع للعباد إلى أسباب، أهمها: أن الوليد يكتمل سمعه قبل بصره، فيسمع ما حوله بعد مولده مباشرة قبل أن يفتح عينيه ويرى، وأن المسموعات تتراسل إلى الأذن من كل الجهات، من الأمام والخلف، أو اليمين واليسار، أو من أعلى وأسفل، وقد يغمض اليقظان عينيه فلا يرى أحدًا، لكنه يسمع من حوله، بينما البصر لا تتأتى فيه الرؤية إلا من جهة واحدة وهي الجهة المقابلة. وكذلك الانتفاع بالسمع في مقام الهدايات أكثر من البصر الذي يقتصر على القراءة فقط، بينما السامع قد يكون أميًّا لا يقرأ، كما أن السمع لا تقف دونه حواجز، بينما يتعرض البصر لموانع تحجز عنه المرئيات، جاء ذلك كثيرًا في القرآن الكريم، كما في قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ} [الأنعام: 46] وقوله: {قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ} [الملك: 23] ، وغيرها كثير. ولم يأت السمع متأخرًا عن البصر مع العباد إلا نادرًا لغرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 بلاغي أيضًا، كما فيقوله تعالى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] ، فقد تأخر السمع هنا المعطل فيهم ليكون مجاورًا لتشبههم بالأنعام في عدم الاستفادة من السماع، ليشتركوا معهم في الغفلة والضلال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الموسيقى التصويرية لطلب العلم : في قصة موسى والخضر -عليهما السلام- تصوير قرآني معجز للمعاناة في تحصيل العلم، والمصابرة على عقباته، والتحدي للإخفاق وتذليل العقبات، لأن العلم نور، ونور الله لا يهدى لعاص ولا لكسلان أو مهمل. وتصور القصة القيم الخلقية التي يتحلى بها طالب العلم، ويتصف بها المعلم والأستاذ، وتصور أيضًا أرقى مناهج التعليم، وأدق مقومات الدراسة، وسنقتصر هنا على الموسيقى القرآنية في تصوير هذه الرحلة التعليمية، التي يعاني فيها الطالب والأستاذ من المشقة وبذل الجهد العنيف والشاق، حتى يستحق الطالب الإجازة العلمية، ويستحق الأستاذ الريادة والقدوة الحسنة لغيره، مما يقتضي إيقاعًا ممتدًّا وئيدًا في أصوات الحروف وأوتار الكلمات، وموسيقى عنيفة بطيئة ثقيلة لتصوير المعاناة الدراسية في تحامل وإعياء شديدين. نلمح ذلك في أصوات الحروف الثقيلة على اللسان والسمع والشديدة والضخمة، كالقاف والضاد والطاء والعين والغين والجيم والحاء والخاء والهاء والهمزة والميم والنون والواو وغيرها في كل الآيات: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا} [الكهف: 60] ، وتجدها أيضًا في كثرة المدات وحروف اللين كالألف والواو والياء، وما يقتضيه التجويد من المد إلى ست حركات للحرف المسبوق بهمزة، فهذا التثاقل الموسيقي يتلاءم مع رحلة العلم الشاقة في القصة كلها، قال تعالى: {فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا} [الكهف: 62] ، وتكون الموسيقى القرآنية أشدّ تثاقلًا مع الشدات؛ التي يتوقف عندها النطق، معاناة في النطق والصوت: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا} [الكهف: 66] . وفي العادة أن ينوب الأستاذ المتبوع عن الطالب التابع في الحديث، لكن الموسيقى القرآنية هنا تقتضي التثنية لتزداد المعاناة والمشقة، ليكون الإيقاع أكثر ثقلًا وبطئًا، مثل: بلغا -بينهما- نسيًا- حوتهما- جاوزا- انطلقا، وغيرها: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا} [الكهف: 71] ، وكذلك ما يقتضيه المقام من الإيقاع الموسيقي في تصوير الرحلة منذ البداية حتى قبيل النهاية في كلمات طويلة كثيرة الحروف لا تختصر مثل كلمة "تستطيع"، فقد تكررت بدون حذف كثيرًا. فلما أوشكت الرحلة أن تنتهي قبيل الفراق لعدم صبر موسى -عليه السلام- والتزامه، خف الإيقاع بحذف اللين الطويل في قوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 78] ، فلما أراد الخضر أن يتخلى عنه تمامًا بعد أن شرح له المشاهد الثلاثة، جاءت الكلمة بدون الياء والتاء: {ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا} [الكهف: 82] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 وأحيانًا تقتضي الموسيقى القرآنية حذف حرف غير مسبوق بجازم، للمفاجأة والسرعة إلى تحقيق الغاية من الرحلة، وهو اكتشاف الأستاذ ليتلقى العلم على يديه، فحذفت الياء من الفعل: "نبغي" في قوله تعالى: {قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف: 64] ، للإيقاع القرآني السريع المعجز في التصوير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 الأمة الواحدة : قال الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ، وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} [الأنبياء: 92، 93] . الإعجاز في التصوير القرآني في الآيتين الكريمتين، جاء متنوعًا في مقوماته وعناصره التي تضفي عليه الجلال، فقد جاءت الصورة القرآنية الأولى على طريق الخطاب المباشر، فقد خاطب الله -عز وجل- أمته بقوله: "أمتكم -ربكم- فاعبدون"، أي: أنتم، ثم انتقل من الخطاب إلى أسلوب الغيبة في الصورة القرآنية الثانية في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ -بَيْنَهُمْ- رَاجِعُونَ} ، أي: هم. والأسرار البلاغية في هذا التصوير القرآني يعود إلى أمة الإسلام حين تتوحد، وتعتصم بكتاب الله -عز وجل، تكون قريبة من الرحمن تسعد بالشهود في حضرته، وتشرف بمخاطبته لهم فيكلمهم، ويتلقى منهم مباشرة، فينظر إليهم، ويتمتعون برؤيته بالبصيرة لا الباصرة، ولا يغيبون عنه سبحانه، فهم في مقام التكريم، لأنهم راشدون مصلحون في قوة وعزة، لترابطهم في أمة واحدة كالجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، وغير ذلك مما تفيده بلاغة الخطاب بأنتم، وقيمه الخلقية السامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وما أروع التقابل بين المعاني والقيم السامية في الصورة القرآنية الأولى، وبين التنفير والإنكار لنقائض هذه المعاني والقيم في الصورة الثانية، التي تصور تمزق الأمة وتقطع أوصالها في قوله تعالى: {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} ، وكذلك التقابل بين الإيقاع القرآني في موسيقى الصورة الأولى الهادئة الرقيقة المناسبة كانسياب الماء العذب البارد، وبينه في موسيقى الصورة الثانية العنيفة الشديدة الهادرة المدمرة بالتقطيع والتمزق، لأن الله تعالى ينصرف عن الأمة الممزقة، فيغيبون عن ساحة مشاهدته وحضرته، ولا يستحقون منه النظر ولا الخطاب لانصرافهم عن منهج القرآن وتفرقهم عن سبيله، فينصرف الله عنهم ولا يخاطبهم، لأنهم غائبون عنه بعيدون عن رحمته وحضرته، وهذا هو الإعجاز في الانصراف عن الخطاب إلى الغيبة. وما أروع التصوير القرآني لتمزق الأمة وتقطعها إربًا إربًا، ليذهب كل فريق بجزء بعد أن كانوا كيانًا واحدًا وجسدًا قويًّا، وذلك في التعبير بصيغة "تقطعوا" لتدل من حيث معناها اللغوي على التمزُّق والضعف والذلة وعظيم البلاء، وللتنفير من الخلاف والدعوة إلى التضامن والوحدة، وتدل أيضًا من حيث المبنى والإيقاع بين أصوات حروفها على عنف الموسيقى القرآنية الصاخبة والمدمرة، مما يبث الخوف والرهبة من هذه الكارثة، وبحث على الترغيب في وحدة الأمة والاعتصام بكتاب الله تعالى، ثم يأتي التذييل في الصورة القرآنية الثالثة: {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُون} ، للتهديد لهم باستحقاق العقاب الشديد، لأن الله تعالى لا يرضى لهم الضعف والهوان، ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين، لتكون كما أراد الله -عز وجل- خير أمة أخرجت للناس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 بين فظاعة اليهود ... ورقة النصارى: قال تعالى: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ} [المائدة: 82] . فقد صور القرآن الكريم طبيعة اليهود والنصارى تصويرًا قرآنيًّا بديعًا تعجز عنه أحدث نظريات علم النفس في كل عصر، مهما بلغ العقل مبلغ الإبهار البشري، حين أبدع في تصوير طبيعة اليهود المادية الطاغية من غلظة القلب وشدة الشكيمة، وفظاعة التصرف، وبشاعة الصنيع، وخبث العداوة، وخسة البغضاء، وعنادهم في الحق لغيرهم من البشر وخاصة مع المؤمنين، فهم أشد عداوة لهم من غيرهم، فلا تجد فيهم عرقًًا واحدًا من المشاعر ينبض، فهم كما قال الله تعالى فيهم: {كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً} ، بل يمتاز عنهم الذين أشركوا بأنهم يعتبرون أنفسهم من البشر لا فوق البشر كاليهود في هذيانهم بأنهم شعب الله المختار. وتزداد هذه الصفات بشاعة حين قوبلت بصورة أخرى لطبيعة النصارى التي تذوب رقة وشفافية ومودة ومحبة ولين عريكة وسهولة انقياد، وميلًا للحق مع التواضع والاستكانة في غير كبر ولا غرور، وغيرها من الصفات الروحية التي تقاوم المادية في الجسد. وانطلقت هذه الصفات الحيوانية لليهود من مقومات التصوير القرآني لهم، فعبَّر بصورة المضارعة المؤكدة بلام القسم بلفظ الجلالة ونون التوكيد الثقيلة، لتؤكد هذه الصفات فيهم بمعنى: والله لتجدن يقينًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 من غير شكٍّ، وأن هذه الطبيعة أصلية ومتجدِّدة فيهم ما داموا يهودًا، كما تدل عليه صيغة المضارعة التي تقوم على التجدد والاستمرار في "تجدن"، وهو ما يتفق مع طبيعتهم العنيدة القاسية، فهم أشد الناس في هذه الصفات العنيفة، التي توحي بها الموسيقى القرآنية الصارمة من أصوات الحروف الثقيلة المجهورة، مع العنت من الشدة ومبالغة المعاني الكثيرة من صيغة التفضيل في "أشد الناس"، فقد كانوا قساة مع نبيهم فقالوا: {قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ} [المائدة: 24] ، بينما لبى النصارى دعوة نبيهم حين دعاهم كالمؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ} [الصف: 14] . وانظر إلى الصورة القرآنية المقابلة لهم في تصوير القيم الخلقية عند النصارى، تجد بونًا شاسعًا بين مودتهم، وعداوة اليهود، وعلم القساوسة والرهبان، وجهلهم، وتواضع النصارى واستكانتهم، مع كبر اليهود وغرورهم، ورقة قلب النصارى وغزارة دمعهم، مع قسوة اليهود وجمود دمعهم، قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة: 82: 83] . إنه الإعجاز القرآني المبدع في تصوير طبائع البشر المختلفة، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} [فاطر: 28] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 بلاغة التعبير عن الندم ّ: قال تعالى: {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 46] ، فالإعجاز في التصوير القرآني لهذه الآية الكريمة مع بلاغة الإيجاز فيها، يأخذ بالألباب من وجوه كثيرة، قد يتضح بعضها لنا، ويغيب عنا ما لا يعلمه إلا الله وحده: {وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلا قَلِيلا} [الإسراء: 85] . فتأمَّل مجرد "المس" فقط لا الإصابة، ولا التمزيق، ولا التقطيع، ولا الحرق، ولا وقود النار، وغير ذلك مما يقطع الجسد ويحرقه ويذيبه في جهنم، وعلى الرغم من ضآلة المس، فقد ألجأهم إلى التألم الشديد حتى صرخوا قائلين: "يا ويلنا" مستغيثين بأن يعودوا إلى الدنيا، لينجوا من العذاب بالعودة إلى الإيمان، وقد حكموا على أنفسهم بالظلم، ومما يزيد من ضآلة المس، أنه نفحة أي شيء حقير جدًّا، وتافه ضعيف لا يؤبه له، لأنها جاءت على صيغة اسم المرة، أي نفحة واحدة، فتدل بمادتها وصيغها على القلة والحقارة، كما أن صيغة التنكير تدل على التقليل والحقارة، وتدل أيضًا على التهكم بالكفار؛ لأن النفحة في العادة والوضع اللغوي تستعمل في الطيب والخير، مثل نفح الطيب والمسك، ونفح الرياح الناعمة، والنسيم الطري المعطر، فاستعيرت هنا للعذاب على سبيل التهكم والازدراء بالظالمين، على نحو التهكم في قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} ، فالتبشير يكون بالجنة والنعيم، لا بالعذاب الأليم. والذي يؤكد أن النفحة ليست مسكًا أو رفهًا، وإنما جزء يسير من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 العذاب، لما يدل عليه التبعيض في"من"، فهي جزء يسير من العذاب، ومع ذلك يتألمون ويستغيثون. وما أشدَّ النفحة حينما تضاف إلى المنتقم الجبار، الذي يستحق منهم الشكر والعبادة، فقد أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة، لكنهم تمردوا عليه وكفروا به، مما جعلهم يستحقون عذابه، إن عذابه أليم شديد، والله شديد العقاب وغفور رحيم، وإضافة الرب إلى ضمير النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه دلالة على أنهم لم يستجيبوا لرسوله، ومن يطع الرسول فقد أطاع الله. ثم تأمَّل الصورة القرآنية الأخيرة، التي تدل على التحسر والألم ولا ينفع الندم {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا} [الفرقان: 27، 28] . ويتأكد هذا الندم القائل بمؤكدات كثيرة، بالقسم، ولام القسم، ونون التوكيد الثقيلة "والله ليقولن"، ثم النداء، ولفظ الويل، والتوكيد بأن، وإسمية الجملة في قوله تعالى على لسانهم: {يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} ، وما أروع الكناية في هذه الصورة، فليس المراد وصفهم لأنفسهم بالظلم فحسب، ولكن المراد الندم والتحسر وتمني العودة إلى الدنيا، حتى يثوبوا إلى رشدهم ويؤمنوا بربهم، ليستحقوا النعيم في الجنة في اليوم الآخر، إنه الإعجاز في التصوير القرآني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 غضبة السماء والأرض : قال تعالى: {وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 44] . ورد عن ابن أبي أصبع العدواني أنه لم ير في جميع ما قرأ من المنثور والشعر الموزون مثل هذه الآية، واستخرج منها واحدًا وعشرين ضربًا من المحاسن، وقيل إن أحدًا ممن حاولوا معارضة القرآن لما قرأها مزق أوراقه، ويرجع ذلك كله إلى الإعجاز في التصوير القرآني لغضبه الأرض والسماء على الإنسان المعاند الذي كفر بالله تعالى، الذي خلقه ورزقه ودبر له أحواله، وسخر له ما في السماوات والأرض، لتكون طوع إرادته في تلبية حاجاته ومقتضيات حياته، وحين يكفر بخالق السماوات والأرض وما بينهما، فإن الطبيعة التي سخرها لعبادته تتمرد؛ فتقضي عليه وتبتلعه، ويتجلى الإعجاز في حذف الفاعل الحقيقي وإضماره جل جلاله، لأنه هو الرحمن الرحيم بعبده حتى لو كفر به، فرحمته وسعت كل شيء، ولولاها لما سقى الكافر منه شربة ماء؛ فتعاقب مظاهر الطبيعة المتمردين من خلال بناء الأفعال للمجهول في: "وقيل يا أرض، وغيض الماء، وقضي الأمر، وقيل بعدا"، لأن الفاعل الحقيقي معلوم وهو الله تعالى، فلا يحتاج إلى ذكر، ولأن مخاطبة الأرض والسماء وتوجيه الأمر لهما وللكائنات، لا يتأتى إلا من الله سبحانه وحده، فهو الذي خلقهما وسواهما، فتستجيب بسرعة، ولا تتمرَّد عليه كالإنسان، قال تعالى: {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} ، ثم تأمَّل الاستجابة السريعة من الأرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 والسماء والماء لنداء الله تعالى لها، فإذا بالأرض تبتلع الماء، والسماء تكفُّ عن المطر، والسفينة ترسو على الأرض، فتستوي على الجودي بسرعة، فتتسلط عليها قوى كبرى غير ظاهرة للعيان، يسخرها الله -عز وجل- لتلبي النداء في لمح البصر، ثم تأمل التشخيص في التصوير القرآني الذي حول مظاهر الطبيعة إلى قوى حية جبارة لها إرادتها القوية والفاعلة يأمرها الله -عز وجل- فتستجيب طائعة لأمر الله تعالى، قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] ، وما أروع التصوير القرآني في بناء الفعل للمجهول وطي ذكره في توجيه اللعنة والبعد للقوم الظالمين، لأن رحمة الله تعالى سبقت غضبه، ولا يرضى لعباده الكفر من قوله تعالى: {وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} ، وما أروع التقاسيم الموسيقية في هذه الآية الكريمة، والتوازن والتآلف بين إيقاعات العبارات الثمانية، ثم ذلك التقابل الموسيقى بين الأرض والسماء والماء، وبين ابلعي وأقلعي وغيض، وبين قضي الأمر واستوت، وغير ذلك كثير في بلاغة الإعجاز لكتاب الله الخالد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 حتى ينسى يعقوب : قال الله تعالى: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ} [يوسف: 85] . هذا التصوير القرآني البديع جاء على هذا النمط الغريب، الذي يحتاج إلىتأمل، فهو يصر مشاعر فياضة، تركت أثرا كبيرا في نفس يعقوب -عليه السلام- حين فقد أعز أبنائه، فهو يصور عاطفة تجاوزت العادة، حتى ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم، حتى: {قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَِى اللهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [يوسف: 86] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84] ، مثل هذه التجربة الإنسانية الصادقة في عاطفتها المحمومة، ومشاعرها البليغة، تحتاج إلى تصوير قرآني معجز، يخفف من غلوائها، ويحدّ من طغيانها حتى لا يتضاعف الضرر أكثر من ذلك، ولا يتأتى إلا باستخدام مقومات في التصوير لا تكشف هذا الأمر أكثر، ولا تفضح أسراره الفياضة، فيسوق إليها سحبًا من الغرابة تغطي خيوط المأساة، وتستدل عليها ستائر من الوحشة تهدئ من غلواء المصيبة، فيستخدم القرآن الكريم أغرب الألفاظ والأساليب، التي تصرف المتلقى عن المباشرة الصريحة إلى التأمل وطول النظر، وفي التحول تهدئة وانكسار، فاتخذ غرائب الألفاظ لينقل المتلقي من التلقائية الحادة والقاتلة إلى الروية والتفكير الطويل، وفي التهدئة والانتقال امتصاص للحزن، تخفيفًا لعنفه وضرره، فالقريب في التعبير المألوف أن تقول في مثل هذا الموقف: بالله لا تفتأ حتى تفنى أو لا تصير شيئًا يذكر، فتكون من الهالكين، وهذا تعبير مباشر وصريح، يتجاوز العمى إلى الموت، لذلك انصرف الأخوة عن الصراحة إلى الغرابة والوحشية، فجاء القسم بالتاء، والمألوف الواو والباء "والله -وبالله"، وحذف النفي الملازم للفعل "تفتأ"، والأصل "لا تفتأ" بمعنى لا تبرح، لزيادة الغرابة والوحشة والتحول، وأهمل لفظ الفناء والبلى المباشر في المعنى إلى التأمل في لفظ "حرضًا" الغريبة والبعيدة في معناها وموسيقاها الثقيلة المتئدة، ليزداد المعنى غموضًا في التصوير القرآني، التي تزاحمت فيه مقومات الغرابة والحذف حتى ينصرف يعقوب عن الحزن إلى التأمل، فينسى هذه المأساة حينًا، ويتحول عنها قليلًا، مما يتلاءم مع مقصود الأخوة الذين يريدون أن ينسى والدهم يوسف وأخاه، فيبتعد قلبه عنهما، والذي ضاق بهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 وتولى عنهم من أجلهما، تلك هي روعة الإعجاز في التصوير القرآني للمشاعر المختلفة والمتنوعة، مشاعر الوالد الحزين المصاب، ومشاعر الأبناء التي تجمع بين الإيثار لذواتهم والكره لأخويهم، والرفق والخوف على أبيهم يعقوب -عليه السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 التصوير القرآني لنماذج النفاق : صفقات النفاق وصفاقة المنافق : قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] . يصور القرآن الكريم نموذجًا للنفاق في صورة قرآنية تدل على حقارة سلوك المنافق، فتقشعر منه النفس، وتشمئزُّ من سلوكه، وتأبى أن تكون على مثاله من الظلم والفساد، والبخل والحرص المدمر، والاستبداد والطغيان، وهتك الأعراض، والتخلي عن المثل الفاضلة، فالمنافق يدمر نفسه، ويمزق وحدة المجتمع، لأنه لا عهد عنده ولا ميثاق، بل يعمل على انهيار القيم الخلقية، وتشويه المبادئ الإنسانية، بل ينهار ذلك أمام طموحاته الدنيئة، وشهواته الرخيصة، وما الحياة عنده إلا صفقة تجارية، لا يرى فيها غير الكسب الحرام، ويتعدَّى حدود الله، ومن يتعدى حدود الله فقد ظلم نفسه. فيظهر في صورة طاغية مستغل، مجرد عن القيم السامية في محاولاته التجارية، لا يعرف إلا أسلوب البيع والشراء، والكسب والربح والخسارة والبوار والضلال والزيف، مثل هؤلاء المنافقين الذين باعوا أنفسهم للدنيا بالآخرة، فخسروا الاثنتين معًا، مثلهم كمثل الذين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 يتزاحمون في أسواق الحياة اليومية المادية، فيشترون الضلالة بالهدى، بما يتناسب مع التجارة من الشراء والبيع والكسب والربح والخسارة، فآثر القرآن الكريم لفظ "الشراء"، لأن المنافق يريد أن يكون مشتريًا رابحًا دائمًا، بجمع المال من هنا وهناك، ولا ينبغي بحال أن يفلت من بين يديه شيء بالبيع، كما آثر في البيع لفظ "الربح" لا الخسارة، لأن المنافق يريد أن يكون الضرر بغيره فيخسر دائمًا، ليربح هو وحده، فهو أناني يجب ذاته، وعبد للدرهم فلا يدع فرصة تغيب عنه لحظة، ولو على حساب الآخرين، وهو في ذاته مصدر هلاكه وضلاله، لأن الشأن في التجارة الربح والخسارة، فيؤدي حرصه على الربح إلى أن يقتل نفسه في سبيل ذلك، فينتهي به الأمر إلى التهلكة. وما يحثُّ عليه القرآن من التخلي عن صفاته الذميمة، وهو ما يتضمَّنه قوله تعالى: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين} بل خاسرين مدحورين، وقد سلَّط النفي على الربح مباشرة، لا على التجارة، لأن التجارة قد يقع فيها الخسارة والربح، بينما نفي الربح لا يعطي فرصة للكسب أو الربح، لأن الله ختم على قلوبهم وأضل أعمالهم، وما كانوا مهتدين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 طموح المنافق شعاع يبدِّده الظلام: في التصوير القرآني لأحوال المنافقين، يقف الإنسان مبهورًا أمام روعة الكلمات، وعجائب التراكيب البلاغية، مما تملك عليه مشاعره، فتتفتح أمامه منافذ الإدراك المتنوعة من الفكر المجرد، ومن الصور المحسة في الواقع، والمشاهد الحية المنظورة، كما في قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 منابع التصوير القرآني: مثل هؤلاء المنافقين الذين باعوا أنفسهم وخسروا الدنيا والآخرة، مثلهم "كمثل" فأصبحوا مثلًا يضرب كالأمثال في الدناءة والحقارة والسوء، على عكس المثل الطيب، الذي يضرب في الرفعة والعزة والحسنى، كمثل الكلمة الطيبة ومثل الصحابة -رضي الله عنهم- في قوله تعالى: {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} [الفتح: 29] . وزاد من حقارتهم أن القرآن عرضهم في صورة المبهم، لا الاسم الصريح وهو "الذي"، فالموصول اسم مبهم لا يتضح إلا بصلة، وفي "استوقد" يجد المنافق، ويبذل أقصى طاقته، ويجمع كل قواه في طلب الوقود والنار، مما يدل على حرصه الشديد لتحصيل "نار"، لا النار ولا النيران؛ فهو يتعلق بأنفه الأشياء وصغائر النيران، لا بكبريات الأمور على حد قول الشاعر أبي تمام: لا تنكري عطل الكريم وإنما ... السيل حرب في المكان العالي فقد دعاه الخوف الشديد أن يستأنس بنار خافتة صغيرة الحجم؛ لأن التنكير يدل على الخفوت والتحقير والصغار، ومع هذه الضآلة، إلا أن هذه النار تُعدُّ مفاجأة له، وكسبًا كبيرًا؛ لأنها تُعالج ما يعتريه من قلق وحيرة، وهذه المعاني تُوحي بها كلمة "فلما" وما أروع التعبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 بـ "الفاء" التي تدل على التلهُّف لأنفه الأمور للحظة وجيزة، فمثل عمل المنافق غير باقٍ ولا خالد، مما جد في طلبه وتحصيله، فالله المنتقم الجبار، قد أخفق سعيه، وأذهب الضوء الخافت ليزداد الليل ظلامًا على ظلامه، فاختفى "النور" للدلالة على عين النار وأثرها وهو الضوء معًا، فلم يبق منهما شيء في جوف الليل، ثم ازداد الليل وحشة ورعبًا بمجيء قوله: "وتركهم"، فالترك من الله لا من غيره، يعد من أشد ألوان العذاب، ومجيء الجمع للظلام في قوله: "في ظلمات"، فهي ظلمات بعضها فوق بعض؛ لأن الظلام بعد النور يكون أشد وأنكى على النفس، وفي قوله: "لا يبصرون" يصفهم القرآن لا بالعمى، بل بنفي الإبصار وهو أشد؛ لأن نفي الشيء أبلغ من إثباته فقط، فالنفي إثباتًا وعدم في وقت واحد، ليقيم الدليل على الإثبات بالنفي، وما أروع التصوير القرآني بعد النفي المطلق بالمصدر؟ الذي يدل على الحدث والصفة مجردة من الزمان المتجدد، ليدل على الثبوت والدوام في قوله تعالى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} ، فقد انقطع منهم كل رجاء أي رجاء، فلم يكن العمى وحده صفتهم، بل أصيبوا بالصم والبكم وعدم الرجوع إلى الحق والخير والإيمان الصادق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 آمال المنافق صواعق : ومن خلال مشاهد الطبيعة يصورها القرآن الكريم في مشهد حي يموج بالحياة والحركة من السماء والأرض، والضوء والظلام، والرعد، والبرق، والصواعق والموت، فيبث فيها القرآن روحه المعجزة، لتصير صورة قرآنية خالدة يتحدَّى بها البشر كما في قوله تعالى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ، يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 19، 20] . منابع التصوير القرآني: ومثلهم السيء أيضًا كمثل "صيب" أي: مطر غزير، وليس مطر أي مطر، فهو دون الصيب بكثير، والصيب فيه قتامة وعتمة تثير الخوف، ويشتدُّ أكثر حين يجتمع مع "الظلمات" الكثيفة المرعبة، و"رعد" ضخم مزعج، و"برق" منتشر مطبق لا يبدِّد الظلام بل يخطف الأبصار، حين يجتمع كل ذلك تكون البلوى أشد وأعظم، والمصيبة أدهى وأمر؛ فيسرع المنافقون ليضعوا "أصابعهم" لا أناملهم في آذانهم؛ فالأذن لا تتسع إلا لأنملة واحدة لا لأنامل الأصابع، للدلالة على شدة الخوف وعظيم القلق في نفوسهم؛ فتأخذهم الدواهي غير العادية وهي "الصواعق" التي لا تبقي ولا تذر، وما أدق التصوير بالصواعق لا بالدواهي ولا بالصاعقة الواحدة، وفي ذلك ما فيه من شدة العقاب، ومما هو أشد وأنكى عليهم أن {اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِين} ، يحصي عليهم سيائتهم، ويحاسبهم عليها حسابًا عسيرًا، كما أن البرق لا الضوء يخطف أبصارهم حتى يزدادوا حيرة وضياعًا في قوله: {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} ، وما أشد حيرتهم وقلقهم، فهم دائمًا قائمون لا يقعدون ولا يستريحون مطلقًا، ولا يهدأون ولا يستقرون، متحفزون دائمًا للبحث عن الضوء في أي مكان، وهذا هو نهاية القلق وغاية الحيرة كما في قوله تعالى: {كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} ، وتأمل معي التصوير بـ "كلما"، فهي تصور عدم الاستقرار ومتابعة القيام لا القعود، فهم دائمًا قيام لا قعود، ثم ذلك الوعيد الشديد من الله -عز وجل- بأنه وحده هو القادر على أن يذهب بأبصارهم وأسماعهم؛ فلا يبصرون ولا يسمعون ولكن الله أراد أن يعذبهم بها على النحو السابق؛ لأن الإنسان حينما تذهب عنه هذه النعم مرة واحدة، ينسى أمرها ويصير شيئًا عاديًّا؛ فإذا ما ترددت بين الذهاب والعودة، يكو العذاب أشد وأنكى: لا يعرف الشوق إلا من يكابده ... ولا الصبابة إلا من يعانيها عناصر التصوير القرآني في الصور الثلاث: كأن التصوير القرآني البديع يطل من بين الكلمات والألفاظ والصور الحية لهما، وما تمتلئ في حواشيها من محسنات واقعية، يعيشها الإنسان مع الطبيعة والكون والحياة، فإذا ما تسلَّطت عليها أضواء الكون، وظلال الطبيعة، ونبضات الروح ودقاته، ازداد التصوير القرآني إبداعًا، فكان وقعه على النفس أقوى وأشدّ؛ لانسجام عناصر التصوير مع منابعه القوية المؤثرة، فتتلاحم المعاني مع الأضواء والظلال؛ لتعطي صورة حية محسوسة من الكون والحياة والناس، فتأمل معي: المرارة والقتامة في "الضلالة"، والحلاوة والنور في "الهدى"، والقلة وضآلة الحجم في "نار" وضخامته في "الظلمات"، والمعاناة الشديدة والتباطؤ الوئيد في الإيقاع الصوتي لقوله تعالى: {الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} ، فالشدات والمدات وحروف اللين تصور إيقاعات صوتية بطيئة، تنقل حالة المنافق وهو تائه فيحيرته وتردده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 هنا وهناك ليبحث عن النار حتى أعطته ضوءًا خافتًا أضاء ما حوله فقط، بينما يختلف الإيقاع بعد ذلك، فيكون سريعًا، يتناسب مع انخطاف البرق والنور وذهابه بسرعة في قوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِم} ، و {يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ} إنه النسق الصوتي المعجز للقرآن الكريم. وانظر إلى الألوان والأضواء للنور والنار، والبرق، والضوء، والظلمات، والعمى والإبصار، والصم والبكم. وترى القتام الشديد في الصيب والظلمات والرعد، والموت، والصواعق وما بعد البرق. وترى حجم المطر كبيرًا، فهو صيب من السماء، والظلمات متراكبة بعضها فوق بعض، والصواعق تسدّ الأفق وضآلة الضوء مع ضخامة الظلمات. فعناصر التصوير القرآني حية انتزعت من الطبيعة والحياة بحركاتها وأصواتها وألوانها وأضوائها وظلالها وإيقاعاتها الصوتية المنسجمة مع المعاني والأهداف، في تصوير خلَّاق، وصور تنبض بالحياة والحرارة والصدق والقوة والإبداع، إنه القرآن الكريم، وإنه يعلو ولا يعلى عليه. ولست مع الزمخشري: يقول جار الله الزمخشري معقبًا على التصوير القرآني في التمثيلين السابقين: "فإن قلت أي التمثيلين أبلغ؟ قلت الثاني، لأنه أدلّ على فرط الحيرة، وشدة الأمر وفظاعته؛ ولذلك اُخِّر وهم يتدرجون في نحور هذا من الأهون إلى الأغلظ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 فيرى الزمخشري أن التصور القرآني للتمثيل الثاني أقوى منه في التمثيل الأول، لأن الثاني أدل على كثرة الحيرة وشدة الأمر. ولست معه فيما ذهب إليه؛ فكلًا التمثيلين يدل على القدر نفسه من الحيرة وشدة الأمر بدون زيادة أو نقصان في بلاغة الإعجاز القرآني؛ لأن كل صورة قرآنية بلغت حد الإعجاز، فلا تهبط صورة عن أخرى، ولا تعلو صورة عن غيرها، بل الجميع في حد الإعجاز سواء. والحيرة وشدة الأمر سواء في الصورتين، فأما الصورة الأولى: فنجد فيها الحيرة الشديدة وشدَّة الأمر، والقلق العنيف، والخوف والرهبة، وشدة المعاناة التي يعانيها الإنسان في ظلمات الليل وهو يبحث عن وسائل الضياء، فهو بنفسه يبحث عن الوقود والشرارة، كما يستفاد من الألف والسين والتاء في "استوقد"، وبعد لأي أوقد نارًا ضئيلة لا تسمن ولا تغني، فإذا بالضوء الخافت يذهبه الله تعالى، لأنها ليست نارًا كسائر النيران، بل دون ذلك بكثير، وإذا كان الله هو المعاقب، فهو شديد العقاب، فقد تركهم في ظلمات بعضها فوق بعض بعد أن كانوا في ظلام واحد، وليس بعد ذلك من حيرة ولا أمر أشدّ وأعنف؛ لأن المنافق هنا جد وعمل بنفسه لتبديد وحشته من قسوة ما يعانيه، وعنفه. وأما الصورة الثانية: فنجد الحيرة الشديدة وشدة المعاناة بالمقدار ذاته؛ فالمنافق لم يبذل جهدًا في تبديد الوحشة والظلمة؛ لأن الصيب والصواعق والرعد والبرق من قبل الله -عز وجل، وموقف المنافق هنا موقف الذي يتقي الصواعق بوضع أصابعه في أذنه، وينتهز الفرصة من حين لآخر فيمشي وقت انخطاف البرق؛ ليقف بعد ذلك، وهكذا فهو قائم لا يقعد أبدًا؛ فتعدد وسائل الحيرة هنا من الصيب والرعد والبرق، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وهي من قبل الله -عز وجل- تتكافأ مع ما يبذله المنافق هناك من جمع الوقود والشرارة من هنا وهناك، والكدّ في تحصيلهما وسط ظلمات الليل، ثم العمل على إشعال الوقود؛ فإذا بها نار ضعيفة يطفئها الله؛ فيحرم من نورها، وتتركه في ظلمات متراكبة أعمى لا يبصر شيئًا، بل يكاد الله أن يذهب ببصره وسمعه. فتجد في الصورتين من روافد التصوير وعناصره، ما يختلف في كل صورة عن الأخرى، لكن كل صورة تبلغ الغاية في استيفاء أبعادها وأعماقها؛ فلا تقل واحدة عن الأخرى ولا تزيد، بل كل صورة تصور حالة لا توجد في الأخرى، فتبلغ كل منهما الغاية في الإعجاز، قال تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 2، 3] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 أخطر صور النفاق ذلاقة اللسان وحلاوة الحديث ... أخطر صورة النفاق ذلاقة اللسان وحلاوة الحديث: تضافرت الشرائع من يوم أن خلق الله الأرض وما عليها، على أن يخلص الإنسان قلبه لله وحده في جميع الأقوال والأفعال، ليكون ذا وجه واحد، يعبر بصدق عما فيه، لا يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه، قال تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] . والإخلاص والصدق توأم، ينبني عليه الخلق الحسن في النفس، فالصدق في الحديث يضاعف الثقة بين الناس، ويصير القائم به محبوبًا بين أهله وعشيرته، والإخلاص في القول والعمل، يوثق الصلة ويدعم المحبة، ويجعل المخلص مبجلًا بين الناس، وموقرًا عندهم. أما المنافق فلا يعنيه أن يكون كذلك، ومن أخطر المنافقين على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 البشرية المنافق الذلق، فصيح اللسان، عذب الحديث، ناصع الفكرة، قوي الحجة، يلفق الباطل، ويجعله في صورة الحق، ويقلب الحقائق، ويزور المسلمات، ويخلع عليها لباسًا غير لباسها الحقيقي، ذلك كله في أسلوب هادئ، يضفي على صاحبه ثوب الحكمة والوقار، وفي حديث عذب، ولسان رطب، يعبر عن تجربة حياة، وفصاحة قول تنهال على السمع، يفتلها من خبرة محنك بالدواهي والأحاييل، وذلك كله في أسلوب عصري ممزوج بما يتفتح إليه العقل، وتقبل عليه النفس من مغربات الحياة، ومقتضيات الإنسان في مجتمعه الجديد، وهو يملك زمام الحيل، يرد بها كل اتهام، ويسخر منها شباك الدهاة، يختبل فيها صيده، ثم يصل به الزيف والضلال إلى أن يجعل الله سبحانه وتعالى شاهدًا على قوله، فيقول المنافق في ختام حديثه: يعلم الله أني صادق فيما أقول، أو يقول: إن الله شاهد على ما أقول، وغيرها من عبارات الإفتراء والتلفيق. والقرآن الكريم يصور هذا النموذج الخطير من البشر، فيقول سبحانه وتعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} [البقرة: 204] ، فإذا حقق بغيته، ووصل إلى أعماق خصمه، أفسد في الأرض بإيقاع العداوة بين الناس، الذين خدعهم بالباطل، فتنعدم الثقة، وتسود البغضاء، ويحل الجفاء محل المودة، فيتهدم المجتمع، ويتقوض بنيانه، قال تعالى: {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} [البقرة: 205، 206] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ولقد نزلت هذه الآيات في الأخنس بن شريق الثقفي حليف بني زهرة، حين قدم على النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة، فأظهر له الإسلام، وأشهد الله على أنه صادق، وتعجب النبي -صلى الله عليه وسلم- من قوله العذب، ثم خرج من عند رسول الله، فمر بزرع وحمر للمسلمين، فأحرق الزرع، وعقر الحمر، فنزلت في حق هذا المنافق، ومن على شاكلته من المنافقين، الذين يزينون القول، ويخدعون به غيرهم، وما يخدعون إلا أنفسهم. المنافق يحدثك ويشفع حديثه بقوله: الله يعلم أن ما في قلبي موافق لما جرى على لساني، وبعد قليل تنكشف خصومته، ويتجلى الباطل الذي لفقه، وهذا خلق ذميم، روى البخاري ومسلم عن عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "أبغض الرجال إلى الله تعالى الألد الخصم"، وعن أبي الدرداء فيما رواه أحمد بن حنبل عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "كفى بك إثمًا ألا تزال مماريًا، وكفى بك ظلمًا ألا تزال مخاصمًا، وكفى بك كذبًا ألا تزال محدثًا، إلا حديثًا في ذات الله -عز وجل"، فشدة الخصومة من صفات المنافقين، لأنهم أحبوا الدنيا، وعبدوا المال، يتفننون في ذلك بالألوان المختلفة، ويكثرون من الجدال والخصام: {أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المجادلة: 19] . وكشف الرسول -صلى الله عليه وسلم- أمرهم، وفضح أسرارهم، ومزَّق أستارهم، فقال: "إني لا أخاف على أمتي مؤمنًا ولا مشركًا، أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأما المشرك فيقمعه الله بشركه، ولكن أخاف عليكم كل منافق الجنان، عالم اللسان، يقول ما تعرفون، ويفعل ما تنكرون"، هذا النموذج البشري من أخطر الناس على المجتمع، وخاصة في مجتمعنا المعاصر، الذي انغمس في ماديات الحياة، وتاه بين التيارات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 الاقتصادية الحديثة المتناقضة، وانجرف في ظل العقائد الضالة، وانخدع بالمدنيات الزائفة، والحضارة الملفقة، وأصبح ينوء إلى الأرض بأثقال المادة، وخبث الجسم بعد أن تكدَّر صفو الروح، وتعكَّر نقاء النفس، وأظلم القلب، وتلوثت الأنفاس بسموم التنافس الموزور، وفي وسط هذا المجتمع المنهار، لمع بريق هذا النموذج البشري، وتسلطت عليه الأضواء زيادة في التعمية، فيتصدَّى للكتابة باسم الإصلاح والتقويم، ويتصدر المجالس والاجتماعات، يدير الحوار الخادع، ليحتلَّ موقعًا في القلب، لاينبغي من كتابته إلا إرضاء لشهوته الضالة، ولا من زعامته إلا علوّ الصيت الزائف، لكي يصل إلى قلوب الناس من أقرب طريق، وفي أسرع وقت، وهؤلاء صوَّرهم الله -سبحانه وتعالى- في أقبح صورة، ليفضح أمرهم، وتبور تجارتهم، فقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ، وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ، اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ، مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 11-18] . شخصت الآيات صفات المنافق الخطيرة، وحددت معالمه، لكي لا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 يخفى على المؤمن، فيستعين عليه بالذكاء والفطنة، كما قال الرسول الكريم -صلى الله عليه وسلم: "المؤمن كيس فطن"، ليتعرف على زيفه فيقرعه الحجة بالحجة، ويأخذ بيديه إلى الحق من أقرب طريق، وبأقوى دليل. ومن أبز صفاتهم التي يعرفون بها فوق ما سبق، كثرة الجدل، والتمادي فيه، وتشعب الحديث، وقتل القول من أي اتجاه يعينه على الإفلات من الحق، لكي يذهب بالمستمع إلى غياهب يتيه فيها، حيث يظهر له الحق ملفقًا بالباطل، ثم كثرة الحلف والقسم بالله، أو بشرفه ولا شرف عنده، أو بمن يعتزُّ بهم في الظاهر، أو بمن يعتز به المستمع له، قال تعالى: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} ، ثم يظهر نفسه في صورة السخي الجواد، فالدنيا تحت قديمه، يصرفها كيف شاء، وهكذا مما يدخل تحت العلامة المميزة له، التي وصمه الله بها وهي "لحن القول" فقال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ} إلى قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ، وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ، وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ} [محمد: 26- 31] . مثل هؤلاء يشيعون الفوضى بين الناس، ويشعلون نار الحقد والعداوة، ويغرسون البغضاء في المجتمع، لكي يتحلَّل من أخلاقه الفاضلة، ويتردَّى في مهاوي الفساد، أسوأ المصائر، "والله لا يحب الفساد"، أما الصدق والإخلاص، فهما توأم يشيع المحبة والمودة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 وينشر الأمن والألفة، فتزداد الثقة ويحيا الضمير، وتصفو الروح، ويزكو القلب، فتتقدم الأمم، وتنهض المجتمعات، وما أحوج الأمم الراقية إلى هذا الخلق الفاضل، الذي تقام عليه الصروح، وتنهض به الأمم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الأمل الكاذب : إلى هؤلاء الطغاة الذين ينشدون البطولة في الأمل الكاذب، ويحلمون بالمجد وراء السراب الخادع، ويعتقدون أنهم فوق البشر؛ وإلى من حولهم من أذناب، ينفخون فيهم، ويتخذون منهم أولياء ومصلحين ومجددين؛ فهم كما قال الله عز وجل: {قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا} [الكهف: 103، 104] . يصور القرآن الكريم إليهم هذا السراب الخادع والأمل الكذاب في قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [النور: 39] . الإعجاز في التصوير القرآني: سما التصوير القرآني إلى حدِّ الإعجاز الإلهي في الإبداع الرباني؛ لتفيض كل صورة قرآنية بأروع ما عرفته البشرية من العمق والدقة والإحاطة والشمول، وشرف الغاية ونبل المضمون، وروعة التأثير على النفس والعاطفة، وقوة الإفحام بالحجة الدافعة التي يخرُّ لها العالم ساجدًا لربه تعالى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 وحينما يصور القرآن الكريم أعمال الكافرين الحسنة التي يحسبون أنها ستنفعهم يوم القيامة، فتخفف عنهم شيئًا من العذاب، فيتعلَّقون بها كما يتعلق الظمآن في اليوم القائظ بالسراب الخادع في الصحراء القاسية الجافة؛ فيزداد ندامة وحسرة، ويبوء بالخسران المبين كما آية النور السابقة. فقد صور القرآن الكريم في هذا التشبيه المعنى الذهني المجرد في صورة محسة تدرك بالحواس لا بالعقل وحده؛ فجاءت أعمال الذين كفروا في الدنيا من حسن المعاملة، وبذل المال، وقول المعروف، وصلة القربى، والإحسان للناس، وغيرها مما يعلقون عليها الأمل والنفع، فإذا بهم لا تنفعهم في الآخرة؛ فلم يجدوا فيها ثوابًا يعينهم على هول يوم القيامة، وهم في أشد الحاجة إلى ذلك، ثم جاء التشبيه فصور المشبه به: هذه المعاني الفكرية في صورة تدرك بالحس، وهي صورة السراب، الذي يتراءى في الصحراء ماءً للرائي، فيتلهف إليه الظمأن بين أحشائه، حتى إذا ما انتهى إليه لم يجد شيئًا، وإنما يجد هولًا وعذابًا وعقابًا شديدًا. وبذلك تتحرك هذه المعاني في مشهد حتى يموج بالحيوية والحياة والجدة والحركة، من خلال أدواته التي يسمع وقعها الأليم، وفي دقات القلب السريعة، وفرقعات السير وضجيجه؛ فترى العين هذه المعاني من خلال الظلال والألوان: ترى طريقًا وشخصًا يطويها، وصحراء واسعة وضبابًا حينًا، وشمسًا حارقة أحيانًا، وسرابًا يراوغ العين، كما يتذوق مرارة الجوع، وحرقة المعاناة والكد، ولظى المفاجأة، وخيبة الرجاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 الغاية من هذه الصورة القرآنية: يجتمع الطرفان "المشبه والمشبه به" المتقابلان في غاية واحدة: الصورة الذهنية الفكرية المجردة، وهي الأعمال الحسنة الخاسرة للذين كفروا، والصورة المرئية المحسة، وهي السراب الخادع في الصحراء القاسية، فالصورتان هنا يجمعهما معنًى واحد، وهو أن الكافر لا ينتفع بشيء من أعماله الحسنة في الدنيا ولا في الآخرة، مع أنه في أشدِّ الحاجة إليها حينئذ، كما يتعلق الظامئ بالسراب وانخداعه به، فهو متلهف به يعلق عليه حياته، وقد عبَّر عن هذه الغاية الرماني بإيجاز فقال: "وقد اجتمعا في بطلان المتوهم مع شدة الحاجة وعظم الفاقة"1. منابع التصوير القرآني وعناصره: روعة الإعجاز في التصوير القرآني تعتمد على منابع حية وثرية، وعناصر عميقة فريدة، هي في ذاتها غاية لأداء المراد منها: فالكافرون في أشد الحاجة للانتفاع بالأعمال الحسنة آنذاك من المؤمنين، والأعمال -أي: الحسنة لا السيئة- لها دورها الكبير في كمال الصورة وعمقها، والسراب لا الماء؛ لأن السراب هو العدم والخداع، والأمل الضائع، بقيعة أي بصحراء بواد غير ذي زرع ولا بحقل، ولا بطريق تحفه المزارع؛ لأن الحاجة إلى الماء في الصحراء أشدّ، والحرص على تأمينه ووجوده أعظم؛ فمن يسر في الوادي وبين المزارع يجد الماء دائمًا بين مرحلة وأخرى، والحسبان لا اليقين؛ فلو وجد الماء على سبيل اليقين لتحقق الأمن، وقل الظمأ، وخفت المعاناة، وهدأ الجهد في سبيله، والظمآن: أي العطشان عطشًا شديدًا، وحاجة الظمآن إلى الماء كحاجة الجسد إلى الروح؛ فلا   1 ثلاث رسائل في إعجاز القرآن: للخطابي والرماني والجرجاني ص 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 حياة للجيد بلا روح، وإلا كان جثة هامدة، كما أن الرّيّ يرد الروح إلى الجسد، فيعيد إليه الحياة من جديد؛ فلو حلَّ محله لفظ إنسان لما أوحي بهذه المعاني العميقة والحسية، و"ماء": لأن فيه الحياة، وكم يتمنى العطشان أن يرى الماء بعينيه؟ فما بالك حين يروي ظمأه؟ إنه الحياة!، ولو حل شيء مكان الماء لما عمرت الصورة بالخصوبة والثراء، ولما اتسعت للإحاطة والاستيعاب، ولما نبضت بالوحي والإشارة، و"حتى": تفيد أن غاية الظامئ الحبيبة إلى نفسه هي الماء، لا يريد غير ذلك، فما بالك إذا خاب الرجاء، وباءت المفاجأة بالفشل، فتكون الطامة الكبرى، و"إذا": التي تدل على التحقيق والإصرار على الوصول إلى السراب، والحصول على الماء، لأن العطشان لا يستغني عنه بحال، كما لا يستغني الجسد عن الروح، ولم يجد شيئًا؛ فجاءت شيئًا في سياق النفي؛ لتدل على العدم المطلق؛ فلا شيء مطلقًا؛ فلو حل الماء محله لبقيت هنا بوارق الأمل في أن يجده بعد ذلك، أو يجد جزءًا منه، قال الرماني: "ولو قيل يحسبه الرائي ماء ثم يظهر أنه على خلاف ما قُدِّر لكان بليغًا، وأبلغ منه لفظ القرآن؛ لأن الظمآن أشد حرصًا عليه وتعلق قلبه به"1، ووجد الله عنده: المراد وجد عقاب الله وعذابه؛ لكن التصوير القرآني جعل في ذكر الله -جل جلاله- من الرهبة والخوف مما يبهت الكافر ويمحقه في إنكاره لوجود الله عنده، بعد أن أنكر حساب الله وعقابه، ثم يفاجأ بعد الرغبة والمشقة بتلك الحقيقة القاهرة، وهي وجود الله أمامه وهو سريح الحساب، وقوله تعالى: {فَوَفَّاهُ حِسَابَه} لتوحي الفاء بسرعة العقاب، وعاقبة العمل السيء، فمعناها الترتيب والتعقيب؛ فتدلُّ على تلاحق العذاب بلا ترتيب، لينزل به بمجرَّد تبدُّد الأمل وانعدام الرجاء، و"وفاه": لا   1 ثلاث رسائل في إعجاز القرآن ص 82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 أعطاه، لأن العطاء قد يقلّ عما يجب أو يزيد، بينما الوفاء يكون بميزان دقيق في إعطاء الشخص ما يستحق دون زيادة أو نقصان، قال تعالى: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ} أي: بأن يأخذ المكيال حقّه موفى بلا زيادة ولا نقصان، وحينما تضاف التوفية إلى الله تعالى كما في إضافة ضميره إليها، يكون العدل والإنصاف والحساب الدقيق: {لَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 التصوير القرآني لفريضة الحج 1: القرآن الكريم حين يصوِّرفريضة من أركان الإسلام يصورها على أنها فرض وركن من أركانه، مثل تصويره للصلاة والزكاة والصوم، ومن أداها كما أمر الله تعالى ورسوله -صلى الله عليه وسلم- استحقَّ وصف الإيمان في القرآن، قال تعالى في الصلاة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} [البقرة: 238] ، {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43] ، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} [المؤمنون: 1-4] ، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183-187] ، وقال تعالى في الزكاة أيضًا: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} [التوبة: 103] . ومن لم يؤدِّ هذه الفروض توعده الله -عز وجل- بالعذاب الأليم، قال تعالى في الصلاة: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} [الماعون: 4، 5] ، وفي الصيام: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا} [البقرة: 187] ، وفي الزكاة: {وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} [فصلت: 6، 7] ، وغيرها من الآيات الكثيرة التي قامت على الترغيب والترهيب في هذه الفروض الثلاثة. أما التصوير القرآني للحج فيختلف عن تصويره لبقية الأركان،   1 مجلة الفيصل- السعودية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فقد تفرَّد الحج من بين الفرائض بالتفصيل في أركانه، بل بتصوير القرآن لمعظم مناسكه ومشاعره، كما كان ذلك في تصوير القرآن لفريضة "الميراث"، فقد جاءت الأنصبة منسوبة إلى أصحابها مفصلة في صورة النساء1، مما لا يحتاج معه إلى السنة الشريفة إلا نادرًا، مثل بعض مسائل الميراث، كالمسألة العمرية مثلًا في الفقه الإسلامي. وهذا التفصيل في فريضة "الحج" و"الميراث" يرجع إلى أسرار عجيبة ترتبط بإعجاز القرآن الكريم في تصويره، مع أن الصلاة عماد الدين، وأهم هذه الأسرار المعجزة التي يوحي بها التصوير القرآني هي: أولًا: لا تكرار في أداء فريضة الحج والميراث: كل من الحج والميراث فريضة لا تتكرر فرضيتها إلا مرة واحدة، ففريضة الحج مرة واحدة في العمر كله، وبعد ذلك يخرج من حكم الوجوب إلى النافلة من الأعمال، وفريضة الميراث توزع على الورثة مرة واحدة بعد موت المورث، وممارسة الفريضة مرة واحدة يقتضي الإعجاز فيها أن ينص عليها القرآن الكريم بالتفصيل لسهولة فهمه، ودوام حفظه، ويسر تداوله بين الناس جميعًا الخاصة والعامة على السواء، مما يجعل هاتين الفريضتين حاضرتين دائمًا في الحس والوجدان بقراءة القرآن، مثل حضور الصلاة وممارستها خمس مرات في اليوم والليلة، لذلك كانت عماد الدين، وتكرار ممارسة الصيام والزكاة في كل عام مرة على الأقل، فاستغنت هذه الفرائض الثلاثة بالتكرار والممارسة عن تفصيل أركانها وشروطها في القرآن الكريم، وتأتي السنة الشريفة بالتوضيح لها، فتتناقل أعمالها وممارستها إلى الخلف عن السلف الصالح -رضي الله عنهم.   1 النساء: 7 إلى 14، وآية 176. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 ثانيًا: مصادرة القرآن على التأويل والاختلاف في التفسير: الشأن في الفريضة التي لا يتكرر ممارستها، كالحج والميراث أن تفسح المجال لاحتمال الاختلاف في الرأي والتفسير لتحديد أركانها وفروضها وشروطها، فيكون التصوير القرآن الكريم لهما مصادرة على اختلاف الرأي، ودفعًا للتردد بين الراجح والمرجوح، فلا تتعرض الفريضة للخلاف حول الأركان هل هي ركن أو واجب أو نافلة؟ والتنصيص على ذلك في القرآن الكريم يقضي على الجدال والمناقشة والتأويل والترجيح والخلاف والتغليب، لتقرير ذلك على سبيل الحسم والإلزام والطاعة. ثالثًا: صعوبة إدراك الخطأ في الفريضتين: الخطأ في الحج والميراث من الصعب إدراكه، بل من المتعذر جبر النقص فيه، لا كالفرائض الأخرى، فالصلاة الفاسدة تقتضي في دقائق، والصيام الباطل يقضي في مدى عام أو أكثر، والزكاة تظل دينًا حتى تقضى ولو بعد الموت، كل ذلك بلا تعب ولا إعداد زاد ولا مشقة طريق ولا مخاطرة في سفر، ولا كالميراث، فالخطأ في توزيع الفرائض يرجع فيه إلى طمع النفس وحبها للمال، ولا كالحج، فالفساد في ركن من أركانه مثل ترك الطواف أو السعي، لا يصح الحج إلا بأداء المتروك، بل ترك عرفة يجعل الحج باطلًا في هذا العام، ويجب عليه أداؤه في العام المقبل، وأداء المتروك وإعادة الوقوف بعرفة أمر ليس سهلًا، بل يكاد يكون متعذرًا لإعداد الزاد، وتحمل المشقة جديدة، والمجازفة في مخاطر السفر والطريق، وكثرة أعباء الحياة التي تزداد يومًا بعد يوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 رابعًا: الخطأ في الفريضتين يؤدي إلى المخاطرة والفتنة: الخطأ في توزيع فروض الميراث يؤدي إلى الفتنة والإيقاع بين الإخوة والأخوات، وإلى البغضاء بين الآباء والأمهات، والأقارب بصفة عامة، فتنقطع صلة الأرحام بسبب المال، والاختلاف في استحقاق كل فرد، لهذا حرص القرآن الكريم على ذكر الفروض وأصحابها بالتفصيل. وكذلك الأمر في الحج، فإن ترك ركن من أركانه يؤدي إلى المخاطرة مرة ثانية لأدائه في عام قابل، ولا بديل عنه إلا بأداء المتروك ذاته، ولا يجبر بهدي، بينما الواجبات في الحج تجبر بهدي في الحرم المكي، أما من ترك واجبًا في الصلاة كالتشهد الأول مثلًا فإنه يجبر بسجود السهو. والقرآن الكريم حين يصور فريضة الحج، فإنما يفصل القول في تصوير أركانه، وفي تصوير معظم مناسكه وشعائره، فأما تصوير القرآن الكريم للأركان، فئقد تناول أركان الحج في مواطن مختلفة فيه، وهي: الإحرام، والطواف، والسعي بين الصفا والمروة، والوقوف بعرفة والحلق أو التقصير. أولًا: الإحرام: التصوير القرآن للإحرام يأتي في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، فالإحرام ورد هنا مرتين، إحداهما: التحليل من الإحرام بسبب الحصر، وهو المنع من حضور يوم عرفة بمرض أو عدو أو عجز عن السفر أو غير ذلك، فلا يجوز التحلل من الإحرام إلابعد ذبح الهدي في الحرم أو في مكان الإحصار وبعد الحلق أو التقصير، وثانيهما: في نسك التمتع، وهو المتمتع، الذي أحرم بالعمرة في وقت الحج، ثم تحلل من الإحرام واستمتع بما يستمتع به غير المحرم من الطيب والنساء وغيرها، فعليه ما تيسر من الهدي، ثم يحرم بعد ذلك للحج قبيل عرفة. ولباس الإحرام المكون من الرداء والإزار أفضل وسيلة للحاج يتخذها الإنسان في لبسه لحماية نفسه من المرض، ووقايتها من العدوى، لأن هذا الزي ليس به من الثنايا والغرز والمنحنيات، التي تحتوي على الجراثيم والحشرات، كما به من الفتحات التي تعرض الجسم دائمًا للهواء المتجدد، وخاصة إذا كان وقت الحج في غير فصل الشتاء من السنة، وفي الزحام الشديد في جميع الأحيان. ثانيًا: السعي بين الصفا والمروة: أما السعي بي الصفا والمروة سبع مرات فقد صوره القرآن الكريم في قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 158] ، فالسعي بين الصفا والمروة سبع مرات يبدؤه الساعي بالصفا إلى المروة، وتحسب هذه مرة، ومن المروة إلى الصفا وتحسب هذه ثانية، وهكذا حتى ينتهي في الشوط السابع بالمروة، وفي خلال ذلك يتذكر الإنسان قدرة الخالق وإعجازه، فقد سعت هاجر أم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 العرب سبع مرات بين الجبلين لتبحث عن الماء الذي ينقذ ولدها إسماعيل من الموت، وفي كل مرة يخدعها سراب الجبلين فلاتجد شيئًا، وإذا بالطفل الصغير الذي يضرب برجليه على الأرض بلا سعي، فتنفجر المياه تحت قدميه الضعيفتين لتعمر بها المنطقة مدى الحياة، وتطهر الحجيج من جميع أنحاء العالم. وما أروع التصوير القرآني في قوله تعالى: {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أي فلا حرج ولا إثم لمن يسعى بينهما، وفي هذا التصوير تشريع للسعي الجديد في الإسلام، ورفع الحرج عما اقترن بالسعي في الجاهلية من الشرك والأصنام، لأن المشركين كانوا يسعون بينهما متمسحين بالأصنام. ثالثًا: الوقوف بعرفة: يقول الله -عز وجل- في الوقوف بعرفة بعد أن شرع فرضية الحج في قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ} يقول تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ، ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 197-199] ، وما أروع التصوير القرآني لتدفق الحجيج من عرفات إلى المزدلفة والمشعر الحرام كفيضان البحر وانسياب الماء، وقد تجردوا من ذنوبهم وتطهروا من أدرانهم كما يطهر الفيضان أعماق الماء من أدرانه ومخلفاته، ليصير بعد الفيضان ماء صافيًا مناسبًا رائقًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وفي الوقوف بعرفة يلتقي المسلمون في مؤتمر عام على قلب واحد يناجون ربًّا واحدًا، عرايا متجردين من الأعراض والأغراض لينالوا رحمة ربهم ورضوانه، ومتذكرين بهذا الموقف الصغير يوم الحشر الأكبر بلا معين ولا سند، أو بلا سلطان ولا ولد، أو بلا قوة ولا جاه ولا حسب، ليعدوا عدة لهذا الموقف العظيم، ومن أبرز خصائص هذا المؤتمر أنه مؤتمر سياسي واجتماعي واقتصادي وديني وثقافي في وقت واحد، وأنه يجمع بين أجناس العالم وألوانهم مع اختلافهم في المذاهب السياسية والاقتصادية، وأنه ينعقد دوريًّا مرة كل عام في أيام معلومات من السنة، فيمكن المسلمين من الاطلاع على ما انتهى إليه العالم من تطور وازدهار وعداوة ومأساة وعدوان في شتى المجالات العالمية. رابعًا: طواف الإفاضة وهو الطواف الركن، وقد ذكره الله -عز وجل- في قوله تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} [الحج: 29] ، أي بعد الذبح وإزالة الأوساخ بالحلق والتقصير والاغتسال والتنظيف، يطوف الحاج حول البيت العتيق طواف الإفاضة التي به تمام التحلل، ويقول تعالى في الطواف أيضًا: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [الحج: 26] ، ويقول تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} [البقرة: 199] ، وطواف الإفاضة مأخوذ من قوله: "أفيضوا -أفاض"، ويقول تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} [البقرة: 125] ، وهذه الآية تذكر ركعتا الطواف عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 مقام إبراهيم -عليه السلام- بعد الفراغ منه. خامسًا: الحلق والتقصير: قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، وقال تعالى: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} ، والتفث هو الحلق أو التقصير، ومحل الهدي هو الحرم في منى أو مكة، وزمانه في أيام الحج المعلومة. معظم مناسك الحج وشعائره: وصور القرآن الكريم أيضًا معظم مناسك الحج وشعائره، مثل: الإحصار، وميقات الحج الزماني، والتمتع، وذبح الهدي ومكانه، ورمي الجمار، والمبيت بمزدلفة، والذكر عند المشعر الحرام، والمبيت بمنى وغيرها، قال تعالى في بيان ميقات الحج الزماني: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} [البقرة: 197] وهي شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة، وقال تعالى في بيان نسك التمتع: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] ، وقال تعالى في بيان مكان الهدي: {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] ، وقال تعالى في بيان زمن الهدي: {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 28] ، أي زمنه بعد الحلق والتقصير، وقال تعالى في بيان الهدي: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 28] {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج: 36] ، وقال تعالى في بيان المبيت بالمزدلفة: {فَإِذَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} ، والمشعر الحرام في المزدلفة، وقال تعالى في بيان المبيت بمنى ورمي الجمار: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [البقرة: 203] ، أي من استعجل النظر من منى بعد يومين من الرمي فلا إثم عليه، ومن تأخر حتى يرمي في اليوم الثالث وهو النفر الثاني فلا حرج لمن اتقى وأراد الأكمل، ليتزود وخير الزاد التقوى، قال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96، 97] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 من وحي المناسك في الحج : فريضة الحج ركن من أركان الإسلام، يجب على المسلم أداؤها إذا توفرت له القدرة والاستطاعة، قال تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران: 97] ، ويعذب بتركها؛ فإذا أدَّاها رجع بلا ذنب ولا جريرة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه" 1، وقال أيضًا: والحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة"2.   1 رواه مسلم: ج1، ص526. 2 رواه مسلم: ج1، ص526. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ومن يتأمل هذه الفريضة يعلم أن مشاعرها لا يكفي أداؤها بالقول والفعل فقط، بل ينبغي أن يعيش المؤمن مع أسرارها، وما توحي به من مقاصد أخلاقية وغايات روحية؛ فينفعل مع المناسك بوجدانه، ويسبر أغوارها، ويتعمق في أبعادها، ويقف على أهدافها ومقاصدها؛ فلكل منسك من مناسك الحج إيحاءاته الروحية الصافية التي تهذب النفس وتسمو بها، وأخلاقياته الإيمانية الفاضلة التي تظهر الروح، ومن تلك الإيحاءات العميقة، وهذه الأخلاقيات السامية: الفرق بين الحج وغيره من الأركان: الصلاة تحتاج إلى نية للدخول فيها، والصوم يحتاج إلى تبيين نية الصيام قبل طلوع الفجر، والزكاة لا تصح إلا بنية فريضة الزكاة، حتى تتميز عن الصدقة العامة وعن التبرع والتطوع، وعن النفقة الواجبة على من تجب عليه. أما الحج فهو لا يحتاج إلى تلك الإضافات في الأركان السابقة، لأنه في ذاته هو النية والقصد كما تواضع عليه أهل اللغة والشرع، وعلى ذلك فهو يتميز عن غيره، بأنه لا يحتاج إلى إضافة ولا ضميمة، ولا إلى تقديم أو إلى تثبيت، ولا إلى تهيئة أو إلى تمييز؛ فإذا قال الحاج عند الإحرام سأحج هذا العام لله تعالى يكفيه عن أن يقول: نويت أداء فريضة الحج لله تعالى، كما يقول في الصيام: نويت صوم رمضان هذا العام لله تعالى، وهذا هو الفرق بينهما. وحي الإحرام: إذا لبس الحاج رداء الإحرام وإزاره، وتجرد من كل مظاهر الزينة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 والتفاخر والتمايز، فإنه يرجع بذلك إلى بداية حياته، وإلى نهايتها، وإلى يوم محشره، حين خرج إلى الدنيا مولودًا مجردًا من كل شيء تتلقاه لفاقة تستر عورته، وتحفظ جسده من الحر والقر؛ فهو أشبه بثياب الإحرام بلا مخيط ولا زينة، وكذلك حين يخرج من الدنيا فيلف جسده في لفافة أو لفافتين بلا مخيط ولا زينة ليشيع إلى مقره الأخير، ثم أخيرًا يبعث يوم القيامة مجردًا من كل ذلك، ليدل هذا كله على أن متاع الحياة الدنيا ذاهب، ومظاهر النعيم فيها عرض زائل، إلا ما كان في طاعة الله تعالى، قال الرسول -صلى الله عليه وسلم: "ليس لك يا ابن آدم من مالك إلاما أكلت فأفنيت، أو لبست فأبليت، او تصدقت فأبقيت"1. وحي أم القرى: إذا أقبل الحاج على "أم القرى" رجع بعقله وقلبه إلى الماضي البعيد حين أذن خليل الله تعالى -عليه السلام- في الناس بالحج؛ ليظل هذا النداء باقيًا إلى قيام الساعة، يحرك المؤمن في شوق ولهفة أكثر من مرة، مصداقًًا لقوله تعالى: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} [الحج: 27] ، كما يتذكر أيضًا دعوته المستجابة في أرض صحراء مقفرة، لا ماء فيها ولا زرع ولا ضرع، فإذا بها الماء والزرع والضرع، بل أكثر من ذلك حين تنهال على "أم القرى" دائمًا جميع الخضروات والفواكه لجميع فصول السنة من أنحاء العالم خلال العام كله، مما لا يوجد في أي قطر من أقطار الدنيا، مصداقًا لقوله تعالى على لسان إبراهيم -عليه السلام: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ   1 متفق عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] ، ويتذكر أيضًا أن "مكة المكرمة" هي المدينة الوحيدة في العالم، التي يجتمع فيها المسلمون للعبادة كل عام من جميع أنحاء العالم الإسلامي؛ لذلك سميت "أم القرى"، وأثبت العلم حديثًا أنها المركز الوسيط بين مدارات الأرض. وحي الكعبة المشرفة: وحين يستقبل الحجيج بيت الله الحرام، يشعر كما قال الله تعالى أنه في أول بيت: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ} [آل عمران: 96] ، لذلك تشد إليه الرحال ويضاعف فيه الأجر إلى مائة ألف ضعف؛ فعن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "لا تُشَدُّ الرحال إلا إلى ثلاث مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى" 1، وفيه الكعبة المشرفة، التي رفع قواعدها خليل الله وابنه إسماعيل -عليهما السلام- جد العرب والنبي صلى الله عليه وسلم، وتوحي للمؤمن وهو يطوف بها بتوحيد قلوب المسلمين قبلة واحدة في جميع بقاع الأرض: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: 144] ؛ ليعبدوا ربًّا واحدًا، في عقيدة وشريعة واحدة جاء بها الإسلام، وما عداها فهو باطل، مهما تفرقت الشيع والمذاهب والأحزاب، قال تعالى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آل عمران: 103] .   1 رواه مسلم، ج1 ص522. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وحي ماء زمزم: ويتذكر الحاج أن ماء زمزم ليس ماء عاديًّا، وإنما هو آية عجيبة من المعجزات، تتعطل معها علل العقل البشري وقوانينه الوضعية؛ فبينما السيدة هاجر أم إسماعيل -عليه السلام- تهرول بين الصفا والمروة سبع مرات للبحث عن الماء حتى تروي طفلها بعد أن أشرف على الموت، وإذا به يضرب بقدميه الضعيفتين الأرض من تحته؛ فينفجر منها الماء، فيه شراب وشفاء وطعام، وتسرع إليه أمه فتزم الماء حتى لا يتبدد سدى، وأصبح يسمى "ماء زمزم"، ليعلم الإنسان أن الأرزاق يصرفها الخالق؛ فالأم بعد أن أضناها التعب وأهلكها السعي بين الصفا والمروة يتفجر الماء تحت قدمي طفلها، الذي لم يفكر فيه ولا يقوى على السعي والحركة؛ فيصير الماء معينًا لاينضب إلى يوم القيامة فيه شراب وطعام وشفاء كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ماء زمزم لما شرب له"، وما أكثر آيات الله المعجزة وعجائبه الباهرة، من حيث مصدره وطبيعته وثرائه المتنوع. وحي السعي بين الصفا والمروة: ومن أشق مناسك الحج السعي بين الصفا والمروة سبع مرات، يخرج منها الساعي مرهقًا وقد خارت قواه؛ ليوحي إلى المؤمن، بأن عليه أن يبذل غاية جهده في البحث عن رزقه ورزق من يعوله، كما فعلت السيدة هاجر أم العرب ابتغاء مرضاة ربه، ولا ينتظر أن يأتيه لا من هذا السبيل، ولا من ذاك، وربما يكون من غيره؛ فيسلم أمره لله مقدر الأرزاق، ومقسم العطايا من أي موقع وفي أي وقت، وما عليه إلا أن يتخذ الأسباب ويتوكل على الله بلا تواكل ولا تقاعس ولا كسل؛ لأن رزقه قد يجريه الله تعالى على يد إنسان آخر، قال تعالى: {وَالَّذِينَ فِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ، لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} [المعارج: 24، 25] . وحي عرفة: في اليوم التاسع من ذي الحجة يلتقي الحجيج جميعًا في إزار ورداء واحد من بقاع شتى في أنحاء العالم، وقد اختلفت ألسنتهم وأجناسهم وألوانهم وأعمارهم وقاماتهم وشعورهم وأنواعهم، يرددون شعارًا واحدًا: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك"، يناجون إلهًا واحدًا لا شريك له، ويخشون عذابه، ويطمعون في رحمته وجنته في خشوع وخضوع، وذلة وانكسار، ودعاء ورجاء وخوف، ورغبة ورهبة في هذا الموقف المهيب الرهيب، يتذكر الإنسان تجرد الناس في المحشر يوم القيامة: {يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا} [المزمل: 17] ، {يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} [لقمان: 33] ، {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ، إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء: 88، 89] ، {يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ} [عبس: 34-36] ، {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255] ، {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ، الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [غافر: 16- 17] . وحي جبل الرحمة: يقف الحجيج بجوار جبل الرحمة كما وقف أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على مرتفع منه راكبًا ناقته القصواء يستمعون إليه في خطبته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 المشهورة -رضي الله عنهم جميعًا، تلك الخطبة الجامعة التي أوحت بأن دين الإسلام قد اكتمل، فقد جاء الحق وزهق الباطل: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، وأن الرحمة قد عمت جميع الخلق، وتحقق قول الله عز وجل: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] ، فأحس المسلمون بقلوبهم الطاهرة الصافية بأن هذا العام عام الوداع، وأن هذه الحجة هي حجة الوداع، إنهم يودعون خاتم الأنبياء والمرسلين، بعد أن أظهر الله على يديه الإسلام؛ فبكى كبار الصحابة -رضي الله عنهم- لمرارة الفراق، ولذلك سميت هذه الخطبة بـ "خطبة الوداع" التي أصبحت وثيقة تشريعية جامعة لمنهج الشريعة الإسلامية، حيث يقول في ختامها: "اللهم بلغت ثلاثًا اللهم اشهد". وحي المزدلفة والمشعر الحرام والإفاضة: بعد غروب الشمس من يوم عرفة يفيض الحجيج رجالًا وركبنًا إلى المزدلفة والمشعر الحرام طاهرين من كل الذنوب والأوزار كما ولدتهم أمهاتهم، فيباهي الله تعالى بهم الملائكة بأنه قد غفر لهم بعد أن وفقهم إلى أداء هذه الفريضة، فأمرهم بالذكر والشكر على هذه المنة بعد أن هداهم إليه في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} [البقرة: 198] ، ثم يوجههم بعد الغفران إلى كيفية الدعاء والاستغفار النافع لهم في الدنيا والآخرة، فيقول سبحانه بعد ذلك مباشرة: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ، فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [البقرة: 199- 202] ، فينطلق الحاج بعد رمي الجمرة الكبرى يوم النحر إلى آخر أركان الحج وهو "طواف الإفاضة" ثناء على الله تعالى وشكرًا له على أن هداه لمغفرته ورضوانه. وحي الجمرات والأضحية والهدي: في يوم عيد الأضحى وأيام التشريق الثلاثة في منى حين ترمي الجمرات الثلاث يتأمل الحاج هذا الموقف؛ فيتذكر جهاد النفس مع هواها ومع الشيطان في كل حين، فهو يجري من النفس "كمجرى الدم من العروق" لينتصر عليه ويرد كيده ويحبط ألاعيبه، كما انتصر عليه في مواقع الجمرات الثلاث خليل الله إبراهيم -عليه السلام- وولده إسماعيل عليه السلام، وهو في كل مرة يصرفه عن ذبح فلذة كبده كما أراه تعالى في رؤيا الأنبياء الصادقة، ولم يتردد لحظة، بل ازداد في كل موقع منها تصميمًا وإصرارًا، حتى وضع السكين وحزَّه بشدة تنفيذًا لأمر ربه، وإذا بكبش الأضحية والفداء، ينزل من السماء ليفتدي به ابنه جزاء للصابرين والمحسنين، فكانت شريعة الأضيحة والفداء والهدي لمن ترك واجبًا من واجبات الحج، قال تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ، فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ، وَنَادَيْنَاهُ أَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 يَا إِبْرَاهِيمُ، قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ، إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ، وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} [الصافات: 102- 107] ، ثم يتذكر الحاج الذبيح الثاني وهو عبد الله بن عبد المطلب أبو خاتم الأنبياء والمرسلين، حين افتداه زعماء مكة بذبح مائة من الإبل، لأن جده عبد المطلب حين تكاثر أبناءه أخذ على نفسه نذرًا أنه إذا رُزق بولد آخر وهو عبد الله فإنه سيقدمه قربانًا لنذره، فكان نبينا -صلى الله عليه وسلم- "وليد الذبيحين". وحي الحلق والتقصير: بعد رمي جمرة العقبة الكبرى في صبيحة النحر، وبعد تقديم الهدي والأضحية، وقبل أن يتجرَّد من لباس الإحرام، يردّ الحاج مرة أخرى كيد الشيطان بطريق محسوس في فرحة وطهر، فيتجرد عن شعره بالحلق، أو يتخلَّى عنه بالتقصير، وينتزع جسده الطاهر من شعر رأسه كما محا الله -سبحانه وتعالى- عنه ذنبه، وجرده من أوزاره، لأنه عاد من عرفة طاهرًا من ذنوبه "كيوم ولدته أمه"، واليوم يتجرد من الشعر وثياب الإحرام ليعود إلى ما جرى عليه العرف بين الناس من التزين بألوان الزينة ومختلف الثياب، قال تعالى: {وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} [البقرة: 196] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الفصل الثاني: التصوير القرآني لتعاقب الليل والنهار مدخل ... الفصل الثاني: التصوير القرآني لتعاقب الليل والنهار التصوير القرآني لتعاقب الليل والنهار 1: القرآن الكريم كتاب الله المقدس، وكلمات الله التامات؛ فمن أراد أن يتحدث مع الله -عز وجل- بكلماته التامات وآياته المعجزات؛ فليتخذ أسلوبًا ومنهجًا يتفق مع قداسة القرآن وجلاله، وأقرب شيء إلينا حينما نتحدث عن القرآن أن ننسب كل شيء إلى القرآن؛ فنقول: إنه أسلوب قرآني، ونظم قرآني، وتعبير قرآني، وتركيب قرآني، وعبارة قرآنية، وتصوير قرآني، وإيقاع قرآني، ونسق قرآني، وأدب قرآني، وخلق قرآني، وتشريع إلهي قرآني، وهكذا، حتى لا نقع فيما تجاوز إليه الكتاب والباحثون، والأدباء والنقاد، وقالوا عنه: التصوير الفني في القرآن، والقصص الفني في القرآن، والتصوير الأدبي، والصورة الأدبية، والموسيقى في القرآن، والنظرية الأدبية في القرآن، والتعبير الفني في القرآن، والوحدة العضوية في القرآن، وفن القرآن، والقرآن فن وخلق، والقرآن نص أدبي، والقرآن الكتاب العربي الأول في الأدب، والقرآن مظهر للأدب والفن والبيان، وما أشبه ذلك من المصطلحات المستعملة في مجال الأدب والنقد والفن البشري مما تحدثت عنه في بحث مستقل بعنوان: "التصوير القرآني"2. وينبغي أن نسير على هدي القرآن وخلقه وأدبه ونهجه، كما علمنا القرآن الكريم، قال تعالى: {حم، تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ   1 منشور في مجلة كلية اللغة العربية بالقاهرة، ص3- 25 العدد الثالث عشر 1415هـ- 1995م. 2 الوعي الإسلامي عدد 203 سبتمبر 1981، ونشر بعد ذلك في مجلات أخرى بصورة أكبر، وتعرضت له في كتابي: "الأدب الإسلامي بين النظرية والتطبيق" ص60- 76 ج1 القاهرة 1408هـ- 1987م المكتبة الأزهرية للتراث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الرَّحِيمِ، كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [فصلت: 1-3] ، فقال تعالى: فصلت آياته قرآنًا عربيًّا، وليس فنًّا عربيًّا، ولا أدبًا عربيًّا إلخ، وقال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} [البروج: 21، 22] ، وقال تعالى {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ} [الواقعة: 77، 78] ، بل ينبغي أن نتعامل معه لا بالحسن فحسب، بل بالأحسن في القول والعمل؛ فتكون لنا البشرى، قال تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} [الزمر: 17، 18] . ومن إبداعات الله البديع في الكون والحياة تعاقب الليل والنهار أبد الدهر، إلا إلى ما شاء الله تعالى؛ فلا يتخلف أحدهما عن هذا التعاقب ساعة، ولا يومًا، ولا أسبوعًا، ولا شهرًا، ولا سنة، ولا يأتي أحدهما مكان الآخر، أو يتجاوز حده، بل يدوران معًا في مدارهما المعهود في توازن وإتزان؛ لكل فصل من فصول السنة؛ سواء أكان ربيعًا أو صيفًا أوخريفًا أو شتاء، قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 تقديم الليل على النهار أكثر من مسين مرة ... تقديم الليل على النهار أكثر من خمسين مرة: من عجيب بديع الله -عز وجل- لتعاقب الليل والنهار معًا إلى حدِّ الإعجاز في الخلق، وفي التصوير القرآني، أن يصور القرآن الكريم الليل قبل النهار في آيات كثيرة، يتقدم فيها اليل على النهار في موقف واحد أحيانًا في أكثر من خمسين آية، وحينًا آخر يتقدم فيها النهار على الليل في أربع آيات تقريبًا، لأسباب كثيرة ترجع إلى الإعجاز في التصوير القرآني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 تقديم النهار على الليل في أربع مرات : في هذه الآيات يأتي تصوير النهار متقدمًا على الليل في أربع مرات غالبًا مثلًا يقتضيها الإعجاز في التصوير القرآني؛ لدواع إعجازية؛ ومقتضيات بلاغية تتناسب مع المقام، وهي: 1- حين أقسم الله عز وجل بـ"الضحى" وهو نهار، جاء الليل بعد النهار في سورة "الضحى"، فأقسم الله بضحى النهار؛ فقال تعالى: {وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى، مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى} [الضحى: 1- 3] . 2- بعد القسم أيضًا في سورة "الشمس"؛ فأقسم الله بها، وهي مصدر الضوء في النهار؛ فيأتي النهار متقدمًا على الليل، قال تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} [الشمس: 1-4] ، فبراعة الإعجاز في التصوير القرآني يقتضي المقام فيها، أن يتقدم النهار على الليل؛ ولذلك لم تدخل هذه الآية مع آيات تقدم الليل على النهار، واكتفيت بذكرها هنا؛ لأن النهار يدور مع الشمس والضحى، ثم القمر وهو نور أيضًا، ثم يأتي القسم بالنهار، يتلوه مباشرة القسم بالليل، لأن النهار والقمر والضحى كلها أنوار، تقابل الظلام الذي يسود الليل، في تصوير قرآني يجمع بين النسق والتلاؤم والتوازن وبديع خلق الله وصنعه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 3- حين أقسم الله سبحانه وتعالى بـ "الفجر" وهو "نهار" فقال تعالى في سورة الفجر: {وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} [الفجر: 1-4] ، فتأمل التقابل بين الفجر وركعتي الفجر وهي شفع، وبين ليال والوتر الذي يكون في الليل. 4- أثناء التصوير القرآني "للصلاة" يكون الحديث عنها ابتداء وعن النهار أولًا، لا عن الليل؛ لأن النهار يجمع بين أبعاده أربعة فروض: فرضين يتعاقبان في الطرف الأول من النهار "الصبح والظهر" وآخرين يتعاقبان في طرفه الأخير وهما: "العصر والمغرب"، بينما الليل يستقل بصلاة واحدة وهي صلاة "العشاء"؛ لذلك كانت روعة الإعجاز في تقديم طرفي النهار، وهما "النهار" على زلف من "الليل" قال تعالى: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ} [هود: 113] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 الإعجاز في خلق الليل والنهار : البديع في خلق الليل والنهار، يجعل العقل البشري يقف أمامه عاجزًا، فمهما تقدمت علومه، وظهرت وسائله، وتجاوزت مخترعاته الحدود المذهلة، فلا يستطيع أحد أن يزحزح الليل عن النهار، ولا النهار عن الليل، أو يعطل أحدهما لحساب الآخر، أو يجعل الدهر نهارًا كله أو ليلًا كله؛ فالخالق وحده القاهر فوق عباده، يسير الليل والنهار متعاقبين، آيتين من آياته العجيبة، ويصعب على العقل البشري أن يكشف الأسرار العجيبة في الخلق والحركة والتعاقب والدوام، فسبحان الله تعالى المبدع في خلقه!! وهو الخلاق العليم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 لذلك بُهت "النمروذ" الذي كفر، حين حاجه إبراهيم -عليه السلام- فطلب منه أن يحول تعاقب الليل والنهار؛ فيقلب ويغيّر موازين الشروق والغروب فيأتي بالشمس من المغرب وقت الشروق أو النهار، ويأتي بها من المشرق آخر النهار؛ فأخرسته الحجة البالغة، وتجمد عقله أمام قدرة الخالق وحده "فأنى يؤفكون"، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [البقرة: 258] ، هذا من حيث إبداع البديع في خلق الليل والنهار، أما من حيث "التصوير القرآني" فنتعرض له بعلامات وبإشارات تفتح الطريق أمام الكتاب والباحثين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الإعجاز في التصوير القرآني لليل والنهار : أما من حيث النظم العجيب والإعجاز القرآني في التصوير؛ فالله عز وجل البديع في خلق الليل والنهار، هو سبحانه وتعالى أيضًا البديع في نظمه وتصويره القرآني، وقفت دونه أساطين الفصاحة والبلاغة عاجزة مبهورة، حتى قال أحدهم وهو الوليد بن المغيرة: "فإنه يعلو ولا يعلى عليه"، تأمل كيف ينسلخ النهار عن الليل، فيسود الظلام في الكون شيئًا فشيئًا، وتغيب الشمس رويدًا رويدًا، حتى تختفي؛ فيسود الظلام؛ وذلك مثل كشط الجلد عن لحم الشاة شيئًا فشيئًا، حتى ينكشف اللحم كله، والشأن في الجلد -بالنسبة للحم الذي تحته- أن يكون مضيئًا، فهو كالنهار للناظر، كما أن الشأن في اللحم تحت الجلد أن يكون مظلمًا للرائي، فهو كالليل، جاء ذلك في تصوير قرآني معجز حين عبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 بالفعل المضارع الذي يدل على الاستمرار والتجدد شيئًا فشيئًا في قوله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37] ؛ فيتلاشى النهار عن الليل كما ينسلخ الجلد عن اللحم رويدًا رويدًا؛ فكلما انسحب جزء من النهار أظلم الكون قليلًا بمقدار هذا الجزء، وهكذا حتى يسود الليل، ويعم الظلام، ثم يتعاقب عليه بعد ذلك النهار، فتبدأ حركة الأرض مع الشمس فتظهر شيئًا فشيئًا، لتضيء وجهًا من وجوه الأرض، وهكذا حتى ينتشر النهار كله، ثم يعقبه الليل؛ ليظهر فيه القمر منيرًا؛ فيكتمل بذلك يوم محسوب في عدد السنين والحساب. هذا التفسير وأبلغ منه دون ما جاء في تصوير قرآني معجز بل دونه بكثير وكثير، قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 37-40] ، وقال سبحانه: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12] . وتقديم الليل على النهار دليل على أنه هو الأصل في الوجود، فيسود الظلام بصفة عامة، وعلى كوكب الأرض بصفة خاصة، ثم يأتي النهار تاليًا لليل، وهذا ما أثبته القرآن الكريم منذ خمسة عشر قرنًا، فيكون ذلك واضحًا وحقيقة في عصرنا الحديث، وسيكون أكثر وضوحًا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 في المستقبل متجددًا خالدًا إلى قيام الساعة {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53] . وكذلك الأمر في قضية تكوير الأرض؛ لتكور الليل على النهار، وتكور النهار على الليل، مما يدل على أن الأرض كروية الشكل؛ فالقرآن الكريم في تصويره لتكوير الليل على النهار، وتكوير النهار على الليل أثبت كروية الأرض للإنسان منذ خمسة عشر قرنًا، قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر: 5] . وتأمل تصوير الليل متقدمًا على النهار في أكثر من خمسين مرة، تجده قد تنوع تنوعًا بديعًا ومعجزًا، فتارة يكون مع الجعل وتارة مع التسبيح أو الاختلاف أو التكوير، وهكذا مما سنقف معه بإشارات تفتح الطريق أمام الباحثين. تصوير الليل والنهار في آيات الجعل: صور القرآن الكريم الليل والنهار بـ"الجعل"، بمعنى أن الله -عز وجل- صير الليل والنهار، وهيأهما لعباده ليتمتعوا بنعم الله -عز وجل- بالليل، فيسكنوا فيه ويستريحوا ويتأملوا إلى غير هذا من النعم التي تتلاءم مع الليل، فتأتي متقدمة لتقدم الليل، وليتمتعوا أيضًا بنعم الله -سبحانه وتعالى- بالنهار فينتشروا في الأرض، ويبتغوا من فضل الله إلى غير هذا من النعم التي تتلاءم مع النهار؛ فتتأخر عن نعم الليل، لتأخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 النهار عن الليل، وذلك من خلال تقابل وتزاوج بينهما في نسق قرآني بديع، ثم تعجب أيضًا لهذا النسق القرآني بين السماوات والأرض في الآية، وبين الليل والنهار، فالأرض مضيئة لانعكاس ضوء الشمس على سطحها، فتتأخر عن السموات -وهي مظلمة بالنسبة لنا- لتتلاءم وتتوازن مع تأخر النهار، هذا التفسير وأبلغ منه مهما بلغ دون ما جاء في التصوير القرآني للجعل بكثير وكثير، قال تعالى: {أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [يونس: 66، 67] مرة واحدة. وهذه الآية الأولى في التصوير القرآني "للجعل" من آيات الليل والنهار، التي بلغت ثلاثة عشر موقعًا غالبًا من القرآن الكريم في هذه الدراسة، وهذه بقية المواقع: قال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12] ، وجاء الجعل مرتين هنا، وقال تعالى: {فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} [الأنعام: 96] ، والشمس مقترنة بالنهار لذلك وقعت بعد الليل مرة واحدة، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا} [الفرقان: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 47] ، مرة واحدة، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 623] ، مرة واحدة، وقال تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النمل: 86] ، مرة واحدة، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ، قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ، وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص: 71-73] ، ثلاث مرات، وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ} [غافر: 61] ، مرة واحدة، وقال تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا، وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} [النبأ: 10، 11] ، مرة واحدة، وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [يونس: 24] . تصوير الليل والنهار في آيات التسبيح: من أجل نعم الله تعالى على عباده تعاقب الليل والنهار بما يتناسب مع حاجة الجسد من الراحة والسكن، وحشد الطاقة وتجديدها في سكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 الليل والنوم فيه، وبما يتلاءم مع مطالب الحياة من كدٍّ وسعي وتحصيل، وتمتع الإنسان بما لذَّ وطاب من متاع الحياة الدنيا في النهار؛ لذلك وجب على الإنسان أن يشكر ربه؛ فيسبح الوهاب المنعم على عباده بهذه النعم بالليل والنهار، وينزِّه الله -عز وجل- بالوحدة والتقديس؛ فهو وحده الجدير بالعبادة والتنزيه والحمد والثناء؛ فجاء التسبيح مع الليل والنهار سبع مرات في القرآن الكريم في هذا البحث. قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130] ، جاء التسبيح مع الليل والنهار هنا مرتين، فالتسبيح مرة، والأخرى آناء الليل، وأطراف النهار، وقال تعالى: {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ} [الأنبياء: 20] ، مرة واحدة، وقال تعالى: {فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ} [فصلت: 38] ، مرة واحدة. وقال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق: 39، 40] ، فاقتران الليل مع النهار هنا جاء مرة واحدة، وهي التسبيح قبل طلوع الشمس، والمراد الليل، وقبل الغروب والمراد النهار، أما قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} فقد اتفقت جماعة الصحابة والتابعين على أن زمن التسبيح هنا في الليل من أوله إلى آخره حتى الفجر {وَمِنَ اللَّيْل} أي: في بعض أجزاء الليل: أوله أو وسطه أو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 آخره، و {وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} النوافل بعد المغرب أو الوتر بعد العشاء1، والتسبيح هنا في الليل أيضًا، وعلى ذلك فلم يجتمع الليل مع النهار في هذه الآية الثانية وإنما اقتصر على الليل، إلا إذا كان السجود كناية عن النهار لكثرة عدد فروضه في النهار، حيث يشتمل على الصبح والظهر والعصر والمغرب، بينما ينفرد الليل بصلاة العشاء فقط، وعلى ذلك فتدل الصورة القرآنية {أَدْبَارَ السُّجُود} على النهار، فيكون التصوير القرآني مع التسبيح مرتين. وقال تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ، وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48، 49] ، مرة واحدة، أي من الليل فسبحه، أي أثناء الليل، وإدبار النجوم بعد الفجر، وظهور ضوء النهار، لتختفي النجوم وتولي دبرها. وقال تعالى: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا، وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 25، 26] ، مرة واحدة، فالبكرة تصوير لليل، والأصيل تصوير للنهار، ثم جاء التسبيح في الليل وحده غير مقترن بالنهار في الآية الثانية، أما من جعل البكرة والأصيل لطرفي النهار يقابل الليل في الآية، فيكون النهار متقدمًا على الليل. تصوير الليل والنهار في آيات الاختلاف: ويظهر الإعجاز في التصوير القرآني لآيات اختلاف الليل والنهار في النسق القرآني البديع، فحينما تلتقي -في آية واحدة أو موقف واحد-   1 تفسير الكشاف: الزمخشري: ص392، 393، وفتح القدير: الشوكاني 80، 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 السماوات والأرض مع اختلاف الليل والنهار، نجد هذا التناسق القرآني في تقدم السماء لتتلاءم مع تقدم الليل، لأن السماوات بالنسبة لنا ظلمات، والليل ظلمات، وتتأخر الأرض بعد السماوات لتتلاءم مع تأخر النهار بعد الليل؛ لأن الأرض ينعكس عليها ضوء الشمس في النهار وضوء القمر في الليل، وعلى ذلك فالأرض مضاءة والنهار ضياء وهكذا جاء التصوير القرآن لاختلاف الليل والنهار ست مرات في هذه الدراسة، والاختلاف والخلفة بمعنى خلفه، أي جاء بعده، والمعنى أن يأتي أحدهما بعد الآخر، وهكذا يتعاقبان: أي يختلف أحدهما بعد الآخر. قال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [البقرة: 164] ، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] ، وقال تعالى: {إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ} [يونس: 6] ، وقال تعالى: {إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الجاثية: 3-5] . تصوير الليل والنهار في آيات الإيلاج: ولج أولج يولج بمعنى دخل وأدخل ويدخل؛ فيولج: أي يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل؛ فيصير ليلًا، أما الأولى فيصير نهارًا، وعلى ذلك فقد عددت آيات الإيلاج من الآيات التي تبدأ بذكر الليل أولًا وتقدمه من حيث اللفظ والظاهر، لا من حيث المضمون والشكل، كما في الآيات الأربع السابقة التي تقدم فيها ذكر النهار متقدمًا على الليل، وإن كان مختلفًا من حيث المعنى في آيات الإيلاج. فأما آية الإيلاج الأولى في تصوير الليل والنهار فهي في قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [آل عمران: 27] ، وتعجب كل العجب في نسقها القرآني؛ من خلال التصوير المعجز، وذلك في تلاحم التقابل والتزواج، فتصوير النهار أولًا في قوله تعالى: {تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ} لأن النهار حياة ونشاط وعمل يتلاءم مع المتقدم وهو الحياة في الفقرة الأولى من الآية {وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّت} ، وكذلك في تصوير الليل ثانيًا في قوله تعالى: {وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْل} ، والليل سكون وصمت وموت، فيه الموتة الصغرى وهي "النوم"، وقد تتحول إلى الموتة الكبرى فيه، فتأخر تصوير الليل هنا عن النهار مع تصوير الموت، الذي وقع متأخرًا أيضًا في قوله تعالى: {وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَي} إنه البديع سبحانه وتعالى في التنسيق بين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 المعاني والمشاهد في جلال التصوير القرآني المعجز. وأما الآية الثانية فهي في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [لقمان: 29] . ويظهر الإعجاز هنا أيضًا في التصوير القرآني للإيلاج، فيولج الليل في النهار ليعم الضياء، وتخرج الشمس من خدرها، ويبتغي الناس من فضل الله عز وجل، ويسعى الخلق إلى معاشهم وأعمالهم، ويولج النهار في الليل، ليعم الظلام ويتألق القمر والنجوم، ويسكن الناس، ويستريحوا من جهاد العمل والكسب، نجد هذه المعاني وأكثر منها في التصوير القرآني لإيلاج الليل في النهار، ليكون ليلًا، بعد تصوير النهار، ليتلاءم مع القمر، الذي ورد متأخرًا عن الشمس، لأن القمر يتألق في الليل مع النجوم، الذي ورد متأخرًا عن الشمس، لأن القمر يتألق في الليل مع النجوم، هذه المعاني والمشاهد قطرة من بحر التصوير القرآني المعجز في كل مشهد ولكل معنى، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا} [الإسراء: 41] ، وقال سبحانه وتعالى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} [الإسراء: 88] . وأما الآية الثالثة في تصوير الإيلاج فهي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [الحج: 61] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وأما الرابعة فهي قوله تعالى: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} [فاطر: 13] ، فالتنسيق القرآني في التصوير المعجز لهذه الآية على نحو ما جاء في الآية السابقة، فتقدمت الشمس لتقدم تصوير النهار، وتأخر القمر لتأخر تصوير الليل في تلاؤم وتوازن وإتساق: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ، نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 192، 193] . وأما الخامسة فهي قوله تعالى: {لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ، يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [الحديد: 5، 6] ، معنى الإيلاج هو أن يحل مكان الليل في مكان النهار فيصير ليلًا على وجه الأرض غير المقابل للشمس، وأن يحل مكان النهار في مكان الليل فيصير نهارًا على وجه الأرض المقابل للشمس، وذلك على سبيل الحركة والتبادل بين الليل والنهار، والتعاقب فيهما في تغيير وتجدد واستمرار، وهو ما يدل عليه الفعلان المضارعان "يولج" ويؤدي ذلك إلى نتيجتين، النتيجة الأولى، كروية الأرض فليست سطحًا واحدًا بل لها وجهان متكوران، يتعاقب عليها الليل والنهار على سبيل التبادل والتغيير، والنتيجة الثانية: هي حركة الأرض حول محورها مقابل الشمس، لأن التبادل والتعاقب لحلول الليل مكان النهار والعكس يدل على الحركة المغزلية. تصوير الليل والنهار في آيات القسم: عظائم الأمور، وجلائل النعم تنال من العناية والتقدير منزلة عالية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 تسمو إلى درجة القسم بها، فإذا ما أقسم الخالق -سبحانه وتعالى- بها أزدادت منزلة ورفعة، للدلالة على عظم خلقها، وعميم نفعها وفضلها، لهذا أقسم الله -عز وجل- بالليل والنهار في القرآن الكريم أربع مرات في هذا البحث. قال تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ، وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ، وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} [المدثر: 32-34] ، تقدم الليل على الصبح والنهار، لتجاوره مع القمر، الذي تصدر به القسم، والقمر كوكب ليلي يظهر في الظلام أكثر منه في النهار. وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ، الْجَوَارِ الْكُنَّسِ، وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ، وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ، إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ، ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ، مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ} [التكوير: 15-21] ، تقديم تصوير الليل على الصبح لتجاوره مع النجوم الخنس والجواري السيارة السبعة، وهذه كلها تخنس أي: "تغيب" وتكنس أي: "تختفي" في النهار، وتظهر في الظلام والليل، فهي كواكب ليلية، تتلاءم مع الليل في تجاورها له. وقال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ، وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ، وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ، لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} [الانشقاق: 16-19] ، وهنا تقدم الشفق على الليل، لأنه أول الليل حيث يظهر بعد الغروب وقبيل العشاء، ثم كان القسم الثالث بالقمر؛ لأنه يبدو أكثر ظهورًا وتألقًا بالليل منه في وقت الشفق، وقال تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} [الليل: 1، 2] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 تصوير الليل والنهار في آيات الإغشاء: غشى غشيًا وغشيانًا، وأغشى إغشاء، وغشى تغشية، كلها بمعنى غطاه وستره تغطية وستره، وحل محله، فأغشى الليل والنهار، أي غطاه وستره فيعم الظلام ويسود الليل، وأغشى النهار الليل بمعنى غطاه وستره، فينتشر الضياء، ويسيطر النهار على الكون، وجاء الإغشاء في تصوير الليل والنهار مرتين في هذه الدراسة. قال الله تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 54] ، فالإعجاز في التصوير القرآني يظهر في كل مرة حسب القراءات، فالقراءة المشهورة: {يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ} -بضم الياء وكسر الشين غير المشددة، ونصب الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات-، بمعنى يغطي الليل النهار ويستره ويطلبه حثيثًا، كما يطلب الشمس والقمر والنجوم حالة كونها مسخرات بأمره؛ وإن كان البعض قد نصب الشمس وما بعدها بالفعل "خلق" عطفًا على السماوات والأرض، وإن طال العطف هنا وفصل بقول تعالى: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا} . وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بتشديد الشين ورفع النهار ونصب اللليل، والمعنى: يستر النهار الليل ويغطيه، فيضيء الدنيا ويسيطر النهار على الكون، ومن هنا كان حسن التلاؤم وروعة الاتساق حين تجاورت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 الشمس مع النهار متقدمة على ما بعدها، ويؤيد هذا التصوير البديع قراءة رفع الشمس وما بعدها على الاستئناف، فهي مصدر النور في النهار، ويؤيد هذا التصوير المعجز أيضًا قراءة حميد بن قيس: "يغشي الليل النهار" بفتح الياء والشين غير المشددة ونصب الليل ورفع النهار1، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ، لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} [الواقعة: 77- 81] . قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ، وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد: 2، 3] فالتصوير القرآني هنا بالفعل المضارع "يغشي" يدل على حقائق: الأولى: أن تقديم الليل على النهار يجعل الظلام هو الأصل، وأن الضوء يحدث نتيجة حركة الأرض في مواجهة الشمس، والثانية: معنى يغشى: يغطي، ودلالته محسوسة، وعلى ذلك فالمراد بالليل: الظلام، وهو زمن، وبالنهار: الضياء، وهو زمن أيضًا، والمعنى يغطي الله بظلمه الليل مكان النهار على الأرض فيحدث زمن الليل، ويغطي الله بنور النهارمكان الليل على الأرض فيحدث زمن النهار، الثالثة: دلالة صيغة المضارعة على التكرار المعكوس لدلالته على التجدد والتغيير والاستمرار   1 الكشاف: الزمخشري، 109/ 2، فتح القدير: الشوكاني 211/ 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 فيهما والتعاقب، وهذا هو الإعجاز في التصوير القرآني، فلا يصح أن يقال: يغشي الليل النهار، ويغشي النهار الليل، لأن الغشيان بمعنى التغطية إن تلاءم مع الليل، فلا يتلاءم مع النهار، لأنه تجلية ونور وضياء لا تغطية وقتام وظلام. وتأمل كيف تقدمت السماوات بما فيها من آيات الله على الأرض بما عليها من نعم وآلاء، ليتسق ذلك ويتلاءم مع تقدم الليل على النهار كما تقدمت السماوات على الأرض، وقد ظهر فيها روعة الإعجاز في التصوير القرآني على نحو ما أشرنا إليه قبل ذلك. تصوير الليل والنهار في آيات التسخير: سخر الله -عز وجل- الليل والنهار لعباده بمعنى ذللهما وهيأهما لهم، وجعل كلا منهما يلبي حاجات البشر، ويستجيب لرغباته وطبيعته البشرية، التي تحتاج إلى كل منهما، وجاء التسخير هنا مرتين، قال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ} [إبراهيم: 33] ، وقال تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [النحل: 12] . ومن روعة الإعجاز في التصوير القرآني في مجال ذكر النعم التي سخرها الله تعالى لعباده؛ لينتفعوا بها، مع تأتي النعمة الأكثر نفعًا والأعظم فضلًا للعباد متقدمة على ما دونها في النفع والفضل؛ لذلك تقدمت الشمس على القمر، لأن نعمة الشمس أكثر نفعًا وأعم فضلًا من نعمة القمر، ويؤيد هذا اتساق الآيات بعضها مع بعض، وتلاؤم ما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 بعدها وما قبلها في ترابط وتلاحم وثيق؛ فالآية الأولى في سورة إبراهيم جاء قبلها قوله تعالى: {وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ} [إبراهيم: 32] ، وجاء بعدها قوله تعالى: {وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] ، والآية الثانية في سورة النحل جاءت قبلها آيات تجمع كثيرًا من النعم من أول قوله تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} 1، وجاءت بعدها آيات تجمع كثيرًا من النعم تنتهي بقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} 2. تصوير الليل والنهار في آية الصيام: قال الله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] ، فتقدمت ليلة الصيام عن ظهور الخيط الأبيض مع الخيط   1 الآيات: 5-11. 2 الآيات: 13-18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 الأسود من الفجر، والمراد به هو النهار. تصوير الليل والنهار مع الإنفاق: قال الله تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 274] ، وانظر إلى تقدم السر لتقدم الليل، وتأخر العلانية لتأخر النهار. تصوير الليل والنهار مع الخفاء والظهور: قال تعالى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ} [الرعد: 10] ، فما أروع النسق القرآني بين الغيب ومستخف من النهار والليل، وبين الشهادة وسارب وهو أكثر ظهورًا من الخفاء كالسراب والنهار في الآية السابقة: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} [الرعد: 9] . تصوير الليل والنهار مع الخلق: قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [الأنبياء: 33] ، خلق الليل والنهار على الأرض، وخلق الشمس والقمر وجعلها جميعًا تسبح في الفضاء، وتدور الأرض حول محورها وحول الشمس، ويدور القمر حول الأرض، وتدور الشمس حول مركز المجرة، روى ابن كثير عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- قال: "يدورون كما يدور المغزل في الفلكة"، ومن العجيب أن ابن عباس عبر بالجمع كالجمع في يسبحون ليضم الأرض إلى الشمس والقمر، لأن الليل والنهار في الآية كناية عن الأرض، فذكر الليل والنهار يستلزم الأرض، ولم يلحظ ذلك مجاهد حين عقب على رأي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 ابن عباس فلم يذكر الأرض، فقال: لا يدور المغزل إلا بالفلكة، ولا الفلكة إلا بالمغزل، كذلك النجوم والشمس والقمر1. تصوير الليل والنهار مع السكن: قال تعالى: {قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام: 12، 13] ، فما أروع التناسق في التصوير القرآني في تقدم السماوات والأرض مع تقدم الليل على النهار على نحو ما ذكرناه من قبل؟ وتقدم السميع على العليم، لأن السمع بالليل أدق وأقوى، وتحصيل العلم وتعليمه للناس يتصل بالنهار أكثر من الليل، تناسق وتلاحم بين عناصر التصوير القرآني المعجز. تصوير الليل والنهار مع التوفي: قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأنعام: 60] . تصوير الليل والنهار مع الكلأ وهو الحفظ: قال تعالى: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} [الأنبياء: 42] .   1 ابن كثير: 187/ 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 تصوير الليل والنهار مع التقليب: قال تعالى: {يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [النور: 44] . تصوير الليل والنهار مع النوم: قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ، وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ} [الروم: 22، 23] . تصوير الليل والنهار مع السير: قال تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ} [سبأ: 18] ، وغالبًا إذا ما أطلق اليوم يراد به النهار، وخاصة في مقابلة الليل هنا. تصوير الليل والنهار مع المكر: قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ: 33] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 تصوير الليل والنهار للسلخ: قال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37] . تصوير الليل والنهار للسبق: قال تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس: 0] . تصوير الليل والنهار للسجود: قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصلت: 37] . تصوير الليل والنهار مع القيام والتهجد: قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ، قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا، نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا، أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا، إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا، إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا، إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا} [المزمل: 1-8] . تصوير الليل والنهار مع الإغطاش: قال تعالى: {وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا، وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا} [النازعات: 29، 30] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 تصوير الليل والنهار مع التقدير: قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ} [المزمل: 20] . تصوير الليل والنهار مع التكوير: قال تعالى: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} [الزمر: 5] ، والتصوير القرآني لتكوير الليل على النهار، وتكوير النهار على الليل، يدل على استدارة الأرض وكرويتها، وأنها تتحرك حول محورها؛ لأن معنى التكوير اللف والنشر في استدارة لا تسطيحًا، كما قال: كار الرجل العمامة على رأسه أي لفها في استدارة، ونشرها حول رأسه، ومعنى التكوير أن الله سبحانه وتعالى يلف الأرض الكروية حول محورها أمام الشمس، التي تنير نصفها المواجه لها نهارًا، ويكون النصف الآخر غير المواجه لها ليلًا، وبذلك يتكور الليل والنهار فيحدثان في وقت واحد مصداقًا لقوله تعالى: {أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا} ، ومعنى "أو" الإباحة، أي أنهما موجودان حول الأرض في وقت واحد، لذلك جاء لفظ التكوير مرتين بصيغة الفعل المضارع الذي يدل على التتابع في جهتين مختلفتين والاستمرار والتجدد كل يوم. إنه التصوير القرآني المعجز لليل والنهار، أنزله البديع الحق بالحق، لأنه الحقيقة والحق، حينما يدركه الذين أوتوا العلم فليؤمنوا به يخرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 للأذقان سجدًا ويقولون متعجبين مبهورين من إعجازه وبديع تصويره: "سبحان ربنا"، قال تعالى: {وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا، وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا، قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لَا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا، وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا، وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} [الإسراء: 105- 109] . تعاقب الليل والنهار: قال الله تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} [يس: 37] ، فالإعجاز في التصوير القرآني في هذه الآية الكريمة يبهر العقول، ويحير الأفئدة، فالتنكير في "آية" يدل على تعظيم الليل والنهار، وفي مضمونها العجيب، فالإبداع في خلق الليل والنهار وتعاقبهما في حركة متوازنة ومستمرة لا تتخلف، وتسخيرها للعوالم والمخلوقات من أعجب العجائب، تلك هي الصورة القرآنية الأولى، وأما الثانية في قوله تعالى: {اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَار} فهي صورة قرآنية بلغت حد الإعجاز في المعنى والمضمون وفي النظم القرآني، وفي الخيال القائم على التشبيه، وفي تقديم الليل عن النهار، فأما من حيث المعنى والمضمون، فلا يستطيع أحد أن يسير الليل والنهار متعاقبين إلى ما شاء وجل، فالليل والنهار آيتان من آيات الله -سبحانه وتعالى- العجيبة، التي اعتادها الإنسان، ولا يدري الأسرار الخفية في خلقهما وحركتهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 وتعاقبهما، سبحان الله الخالق الذي أحسن خلقه وأبدعه، وأما من حيث النظم القرآني المعجز في تصويره كيفية سلخ النهار عن الليل، فتغرب الشمس وتختفي أنوارها ويسود الظلام في الكون كله، وكيفية سلخ النهار تعتمد على انسحابه رويدًا رويدًا، فينخلع شيئًا فشيئًا، فكلما انسحب منه جزء أظلم الكون بمقدار هذا الجزء المنسحب، فيظهر فيه الليل، ليبدّد جزءًا من النهار، وفي هذا يصور حركة الأرض حول الشمس وحركة الأرض حول مدارها، فكلما اختفى جزء من ضوء الشمس يؤدي إلى ظلام جانب من الأرض بينما تضيء بقية الجوانب الأخرى، وهكذا حتى يختفي قرص الشمس كله، فيعم ظلام الليل، وأما من حيث الخيال القاسم على التشبيه الذي يقرر الحقيقة العلمية السابقة، فقد شبه هذا التعاقب الحثيث البطيء بعملية واقعية حقيقية، يتعامل معها الإنسان حين يقوم بسلخ جلد الحيوان عن لحم جسده شيئًا فشيئًا ليجسم بعض أسرار التعاقب في صورة محسة مألوفة تتمكن من النفس أيما تمكن، فيشكر الله -عز وجل- على الانتفاع بنعمتي التعاقب والطعام معًا، وأما من حيث تقديم الليل على النهار لإقامة الدليل على أن الأصل هو سيادة الظلام على كوكب الأرض لعدم وجود ذرات كافية في الفضاء، ثم يأتي النهار تاليًا له، فقد أثبته القرآن الكريم ذلك منذ خمسة عشر قرنًا، قبل أن يقرّره العلماء؛ فجاءت أكثر من خمسين آية تقدم فيها الليل على النهار، إلا في أربع آيات تقدم فيها النهار على الليل لغرض بلاغي، ومن الكثير الغالب قوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، {وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} ، وغيرها، ومن القليل قوله تعالى: {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا} لمجاورة النهار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 للقمر والشمس والتلاؤم معهما. المشرقان والمغربان: قال تعالى: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 17، 18] ، اقتضت البلاغة عند العرب أن يعبروا عن المتقابلين بتثنية أحدهما على سبيل التغليب والاكتفاء بواحد عن الاخر للدلالة عليه، فقالوا القمران لا الشمسان للشمس والقمر، والأسودان للتمر والماء. وهكذا، ويعدُّ ذلك من بلاغة الإيجاز؛ فعارضهم القرآن الكريم على نحو بلاغة أسلوبهم، فجاء بالإعجاز الرباني في تصويره القرآني في هذه الآية الكريمة؛ فعجزوا عن مجاراتها لأنهم لم يفطنوا إلى الحقيقة العلمية، التي تتجدد مع الزمان والمكان، فئقد انتهى العلماء في العصر الحديث إلى أن الأرض تدور حول محورها وحول الشمس، وأن الشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم، وأن هناك عوالم أخرى اكتشفت حديثًا تقابل العوالم القديمة على سطح الأرض الكروي وهي الأمريكتان واستراليا، وقد صور القرآن الكريم هذه الحقائق العلمية منذ خمسة عشر قرنًا، لكن العرب قديمًا لم يفطنوا إليها ولم يستطيعوا تفسيرها حتى يقفوا على حقيقة المشرقين والمغربين، لأن الشروق عندهم في جهة واحدة وهي الشرق، وكذلك الغروب في جهة الغرب، وقد ظهر لنا حديثًا أن العوالم لم يكن لها مشرق واحد بل مشرقان، وكذلك لها مغربان، بل للعوالم مشارق ومغارب لأن كروية الأرض تجعل بعض العوالم في قارات آسيا وإفريقيا وأوربا تشرق عليها الشمس جميعًا في وقت واحد تقريبًا وهو جهة الشرق، ويطلق عليها "مشرقًا" وهي نفسها تسمى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 "مغربًا" في الجهة المقابلة لها من الأرض عند عوالم الأمريكتين واستراليا تقريبًا، وحينما تشرق الشمس على الأمريكتين واستراليا تسمى هذه الجهة عندهم "مشرقًا"، وهي نفسها تسمى "مغربًا" في الجهة المقابلة لها من الأرض عند عوالم آسيا وإفريقيا وأوربا، لذلك فهم العرب هذه الآية على سبيل التغليب كالقمرين، ولم يستطيعوا تفسيرها على النحو العلمي الحديث، لأنهم كانوا يعتقدون بمشرق واحد ومغرب واحد، بل إن القرآن الكريم أعطى حقيقة علمية أخرى في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج: 40] ، {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} [الصافات: 5] ، {وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا} [الأعراف: 137] ، على اعتبار تنوع الأقاليم والدول وما أكثرها في جهتي الأرض، فأصبحت لكثير من الدول مشارق في جهة من الأرض ولكثير من الدول في الجهة المقابلة من الأرض مغارب، بل إن لكل دولة مشارق ومغارب، لأن زمن الشروق والغروب وزواياهما تختلف في كل يوم من أيام السنة يتراوح ما بين دقيقة فأكثر، لذلك يصير للدولة الواحدة مشارق ومغارب تختلف حسب الأيام والفصول والسنوات، وهذا لا يتم إلا بسبب دوران الأرض حول محورها مرة كل يوم، وحول الشمس مرة كل عام، لأن دوران الأرض وكرويتها، تجعل لكل دولة مشارق ومغارب، ولا يتأتى ذلك إذا كانت الأرض مسطحة، فلو كانت مسطحة لا بد لها من مشرق واحد، ومغرب واحد. وفي جميع الأحوال السابقة أعطى التصوير القرآني لكل جيل وعصر تفسيرًا علميًّا يتلقاه العقل بالقبول والإقناع والإيمان، ولا يتعارض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 مع حقائق الكون، بل يستجيب لحقائق العلم في كل عصر، ولا يتعارض معها مطلقًا، ويعطي لكل عقل حاجته ليزداد صاحبه إيمانًا على إيمانه، فالتصوير القرآني متجدد دائمًا مع الأجيال والعصور والتقدم العلمي والفكري والحضاري والإنساني، وهذا هو الإعجاز في كتاب الله -عز وجل- الخالد: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} . دوران الشمس والقمر: قال الله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [يس: 38-40] ، يظهر الإعجاز القرآني لحركة الشمس وتسابق القمر معها في إيقاع الحروف وموسيقى الكلمات، وحيوية التشخيص؛ فأما الموسيقى التصويرية لحركة الشمس البطيئة في قوله تعالى: {تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} في مقابلة حركة القمر السريعة في قوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} ؛ فقد انتهى العلماء حديثًا بأن الشمس تدور في مجرّتها حول محروها، وتجري في فلكها المستقر لها، فلا ينبغي لها أن تدرك القمر في سباقه، فجري الشمس دون سرعة القمر حول الأرض، التي تصل إلى درجة السباق، كما في قوله تعالى: {وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَار} ، فالشمس والقمر والأرض كل له فلكه، وإن كانت جري الشمس دونهما، ويتضح ذلك من الموسيقى القرآنية لحركة الشمس البطيئة الصادرة من الشدَّتين في "الشمس، ومستقر لها" مع حرفي اللين في "تجري-ولها"، كما ترى السباق السريع للقمر والأرض الصادر من الإيقاع السريع في قوله تعالى: {حَتَّى عَادَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} ، فهو دون جري الشمس في عدد الشدات، مما يمنحها سرعة أكثر، مع أنهم يسبحون بقدرته الخارقة: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} ، وأما الصورة القرآنية المستمدة من الخيال لتقرير حقائق علمية سبق إليها القرآن قبل أن يصل إلى بعضها العلم الحديث، وذلك من خلال التشخيص الحي للكواكب الثلاث، فالشمس تجري كالإنسان لها إرادتها وعقلها، الذي يقيد السرعة مقدرة في إطارها ومستقرها وفلكها، لذلك انتهت الصورة القرآنية بهذا التذييل البديع من التقدير للعزيز العليم: {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} ، وأما التشخيص لحركة القمر والأرض معًا؛ فهو يعطي حركة أسرع من حركة الشمس حتى تصل إلى درجة السباق فلا تستطيع الشمس أن تدركهما؛ فكأن للقمر والأرض عقلًا وإرادة يقومان بتحديد أبعاد الحركة والسباق كما يظهر في قوله تعالى: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} ، وصورة الليل سابق النهار كناية عن حركة الأرض وسرعتها، ثم تأمل روعة التشخيص والتشبيه في قوله تعالى: {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} ، فالتعبير بالفعل "عاد" هلالًا كالعرجون كما كان في أول الشهر هلالًا أيضًا، وبتشخيص القمر في رحلته الشهرية حين يبدؤها هلالًا حتى يتكامل بدرًا، ثم يعود هلالًا كما بدأ، وما أروع تشبيه الهلال الذي تقادم عليه العهد مثل العرجون الذي قضى مدة حتى جفَّ وتقوَّس، كما توحي الصورة بمعانٍ أخرى وهي أن العرجون شيء تافه لا يلتفت إليه كالهلال تراه ضالًا في السماء، لا تتعلق به الأبصار، وأن كلًّا منهما موضع العناية؛ فالعرجون حامل الثمر والنفع، والهلال يرسل النور ويهدي الضال ليلًا، وأما دلالة التصوير المعجز على كروية الأرض وحركتها حول محورها في شهر، وحول الشمس في سنة، وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 حركة القمر حول الأرض، وجري الشمس في فلكها، ودلالتها على التسبيح والسجود الذي خلقها سبحانه كما في قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} [الحج: 18] ، وفي قوله تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44] ، فحركة هذه الأفلاك تشبه حركة المصلي في تسبيحه وسجوده لله تعالى، ولا فرق بينهما، فما من مخلوق في السماوات والأرض إلا يسبح بحمده، ولكن لا تفقهون تسبيحهم، وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- سجود الشمس وتسبيحها لله -عز وجل- فيما رواه مسلم عن أبي ذر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أتدرون أين تذهب الشمس؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: "إن هذه تجري حتى تنتهي إلى مستقرها تحت العرش فتخرّ ساجدة، فلا تزال كذلك حتى يقال لها ارتفعي ارجعي من حيث جئت؛ فترجع طالعة من مطلعها، ثم تجري لا يستنكر الناس منها شيئًا، حتى تنتهي إلى مستقرها ذاك تحت العرش؛ فيقال لها: ارتفعي اصبحي طالعة من مغربك؛ فتصبح طالعة من مغربها، أتدرون متى ذلك؟ ذلك حين لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا". يقول الدكتور أحمد شوقي إبراهيم: الحديث الشريف يصور اندفاع الشمس في فلكها الحلزوني الذي اكتشف حديثًا جدًّا، وهي ترتفع وتجري ثم ترتفع وتجري، ومعنى لا يستنكر الناس منها هذه الحركة؛ لأنهم لا يشعرون بحركتها لتحرك الأرض تحتهم حول نفسها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 وحول الشمس، فيصعدون معها حين تصعد، ويهبطون معها أينما هبطت؛ لذلك لا يستنكرون حركة الشمس، لكونهم يتحركون معها، ومعنى سجود الشمس تحت العرش، أن ملكوت السماوات والأرض في جوف ملكوت الكرسي، كما في قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ} وملكوت الكرسي في جوف ملكوت العرش، كما في الحديث الشريف الذي رواه أنس -رضي الله عنه: "الكرسي في جوف العرش"، إذن فالسماوات والأرضين كرة داخل كرة أكبر منها هي ملكوت الكرسي، وهذه كرة داخل كرة أخرى هو ملكوت العرش. وعلى ذلك فالسماوات والأرضون تحت الكرسي، والكرسي تحت العرش، ولما كان كل ما في السماوات والأرض يسجد لله تعالى، فإنما يسجدون له تحت العرش، فالشمس أينما كانت تسجد تحت العرش، والناس جميعًا على الأرض يسجدون تحت العرش، فتعالى الله الملك الحق لا إله إلا هو رب العرش الكريم. ومعنى تطلع الشمس من مغربها أن العلماء اكتشفوا أن الكون يتسع الآن، وسيظل يتسع إلى أن يأتي زمن يتوقف فيه عن الاتساع، ويبدأ في الانكماش تدريجيًّا، حينئذ تنعكس حركات كل الكواكب والنجوم فتشرق الشمس من المغرب، وتغرب في الشرق، يحدث ذلك قبيل انفجار الكون وقيام الساعة، وهذا هو معنى قوله -صلى الله عليه وسلم: "فتصبح الشمس طالعة من مغربها، ثم قال: أتدرون متى ذلك؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذاك حين لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 الفصل الثالث: التصوير القرآني للصوم والصيام بين الصوم والصيام في القرآن والسنة الشريفة معنى الصوم والصيام في اللغة ... الفصل الثالث: التصوير القرآني للصوم والصيام بين الصوم والصيام في القرآن الكريم والسنة الشريفة 1: تمهيد: قبل عرض الموضوع لا بد من تحديد مساره وأبعاده: من حيث شكل "الصوم والصيام"، وبناؤه اللفظي واشتقاقه اللغوي، ومن حيث المضمون والمحتوى "أي: معناه"، وأطواره ونموه وروافده، وهما معًا متلازمان لا نستطيع أن نتحدث عن أحدهما دون الآخر؛ فلا لفظ بغير مضمون، ولا مضمون بغير وعاء لفظي؛ لذلك كان من الضروري الحديث عن اشتقاق اللفظ وقيمه اللغوية والفنية، وعن مضمون اللفظ وقيمة الخلقية التي تتصل بمعناه، أما أحكام الصيام فهذا موضوع آخر لا صلة له بموضوعنا. معنى الصوم والصيام في اللغة: الصوم والصيام مصدران فعلهما صام، وأصله صوم على وزن فعل، ومعناه ترك الطعام والشراب والنكاح والكلام، يقال: قوم صُوَّام وصيام وصُوَّم وصِيَّم، كما يقال: رجل صوْم، وامرأة صوم ورجلان صوم، ورجال صوم. فلا يُثنى ولا يُجمع، لأنه نعت بالمصدر والتقدير، أي: ذا صوم وذات صوم وذو صوم. وصامت الريح: ركدت، وصامت الشمس: استوت في كبد السماء، وصام النهار: اعتدل وقام قائم الظهيرة، قال امرؤ القيس:   1 بحث علمي منشور في مجلة كلية اللغة العربية بالقاهرة في العدد السادس عشر في عام 1418هـ- 1998م، ص 27- 40، ونُشر قبل ذلك بعشر سنوات ملخصًا في صحيفة الأهرام اليومية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 ذَمُولٌ إذا صام النهار وهجرًا1 والصائم من الخيل: الساكن الذي لا يطعم، قال النابغة: خيل صيام وخيل غير صائمة ... تحت العجاج وأخرى تعلك اللُّجمَا وصام الفرس: وقف، ومصامه: موقفه، قال امرؤ القيس. كأن الثُّرَيَّا علقت في مصامها وصام الرجل: تظلل بالصوم وهو شجر على شكل شخص الإنسان ليس له ورق ولاتنتشر أفنانه. والألفاظ التي تشترك مع الصوم في أغلب الحروف تلتقي معه في المعنى، فالصمت: طول السكوت، والصَّرْم والصرم: القطيعة والهجر، والصرم جمع صرماء، وهي الفلاة التي لا ماء فيها، والصَّلم: قطع الأذن أو الأنف من أصلها، والسوم: تجشم المشقة، وسامت الماشية: رعت السوم، وفيه مشقة الرعي، والجميع فيه معنى الإمساك والقطع والترك.   1 ذمول: نوع من السير السريع. هجرا: وقت الهاجرة، وهي شدة الحر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الصوم والصيام في اصطلاح الشريعة الإسلامية : هو الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح، وعن الشهوات والملذَّات، وعن المحرمات والمكروهات، وغيرها ممن تجتمع فيه شروط وجوب الصوم، من طلوع الفجر الثاني إلى غروب الشمس، فالإمساك عن الشهوات والمحرمات والمكروه كالإمساك عن الطعام والشراب والنكاح في تمام الصيام، وفي أيام معدودات من أيام السنة، وهي في شهر رمضان، وذلك من المسلم العاقل القادر على الصيام غير ذات الحيض والنفاس، وغيرها من أحكام الصيام التي تكفَّل بتوضيحها فقه الشريعة الإسلامية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الفرق بين المعنى اللغوي والاصطلاح الإسلامي : من خلال التناظر بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي الشرعي، نجد أنهما يشتركان في ترك الشيء، والإمساك، لنؤكد بأن المصطلح الشرعي يعتمد على المعنى اللغوي، ثم ينطلق منه معنى جديدًا، ويضيف إلى وعائه مضمونًا، لم يكن موجودًا في معناه اللغوي الأصلي عند العرب، يستمد روافده من الشريعة الإسلامية. لذلك نجد أن لفظ الصيام قد اكتسب مضمونًا جديدًا لم يكن له في الجاهلية، فصار بمضمونه الإسلامي لفظًا جديدًا من الألفاظ التي تطورت وتهذبت في ظل الشريعة الإسلامية، مثل: الإيمان والإحسان والصلاة والزكاة وغيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 مبنى الصوم والصيام : صام، أي صَوْم على وزن فعل، وهو فعل لازم أجوف معتلّ الواو، مصدره على وزن فعل "صام صومًا"، مثل: قال قولًا، إلا أن "قال" فعل متعدّ، وقد يكون مصدر صام على وزن فِعَال، صام صيامًا، مثل قام قيامًا، ولم يرد فيه قام قومًا، مثل صوم. لكن القياس في المصدر الذي يأتي على وزن فعال أن يكون فعله على وزن فاعل، مثل ضارب ضرابًا وقاتل قتالًا، وهذا الفعل ومصدره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 يدلَّان معًا على المشاركة والمفاعلة والمجاهدة والمقاومة والتصدِّي والتحدِّي، وغيرها من المعاني التي تتولَّد من المفاعلة، وتتأتَّى من جوانب مختلفة لا من جانب واحد. وجاء أحد مصدري "صام" على صيغة الفعال والمفاعلة وهو: "صيام" دون "صوم"؛ ليدل على معاني المفاعلة؛ فلفظ الصيام قد احتوى المعاني العامة السابقة بل وأكثر؛ ليستمدَّ مضمونه من روافد التشريع الإسلامي لفريضة الصيام، ولا توجد معاني المفاعلة في مصدر الصوم، وهو المصدر الآخر للفعل صام. لهذا كان الإعجاز في القرآن الكريم حين صور هذا الركن من الأركان الخمسة، التي بنى عليها الإسلام، وهو صيام رمضان صوره بمصدر "الصيام"، لا بمصدر "ألصوم"؛ ليتسع بمضمونه الحيوي لمعاني المفاعلة والمشاركة والمجاهدة وغيرها؛ فيكون بذلك خير وعاء لغوي للبناء الأخلاقي والبناء الجسدي، وهما الغاية السامية التي يهدف إليها التشريع الإسلامي من فريضة الصيام. فالتصوير القرآني لهذه الفريضة في شهر رمضان بالصيام، وما يتبعها من فرائض وواجبات، مثل صيام الكفارات هو الإعجاز، الذي تحدَّى به العرب في لغتهم، ليكون البشر دونه بكثير مهما بلغ الدرجة العليا فيما بينهم، فقد انعقد الإجماع قديمًا وحديثًا على أن أفصح العرب بلاغة وقولًا هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فانقادت له طوعًا جوامع الكلم في حديثه النبوي الشريف؛ لكنه مع الدرجة العليا من البلاغة دون القرآن الكريم، لأن القرآن الكريم دائمًا يتفرَّد بالإعجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 فالنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يعبِّر عن هذه الفريضة بالصوم، فقال: 1- "بُني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج بيت الله الحرام" متفق عليه. 2- "كل عمل ابن آدم له يضاعف الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" رواه مسلم. 3- وفي رواية أخرى: "إلا الصوم وأنا أجزي به، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" متفق عليه. 4- "الصوم جنة وحصن حصين من النار" رواه أحمد. تعبير النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الفريضة بالصيام: 1- عن علي -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن في الجنة غُرَفًا يرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، قالوا لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن طيب الكلام وأطعم الطعام وأدام الصيام وصلى بالليل والناس نيام" رواه أحمد والبيهقي وغيرهما. 2- "الصيام جنة أحدكم من النار كجنته من القتال" رواه أحمد. 3- "من لم يبيّت الصيام قبل الفجر فلا صيام له" رواه الخمسة. 4- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يبشر أصحابه فيقول: "قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك، كتب الله عليكم صيامه، فيه تفتح أبواب الجنة وتغلق أبواب الجحيم، وتغل فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم" رواه أحمد والنسائي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 5- عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: خطبنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في آخر يوم من شعبان فقال: "يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم مبارك، شهر فيه ليلة القدر خير من ألف شهر، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوعًا"، وهو حديث طويل في أخلاق الصيام نتعرض له فيما بعد، رواه ابن خزيمة والبيهقي وغيرهما. 6- عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصيام بعد رمضان شهر الله المحرم..". 7- "الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة: يقول الصيام: أي رب منعته الطعام والشهوة فشفعني فيه، ويقول القرآن منعته النوم بالليل فشفعني فيه، قال: فيشفعان" رواه أحمد والطبراني. 8- "ليس الصيام من الأكل والشرب، وإنما الصيام من اللغو والرفث، وإن سابك أحد وجهل عليك فقل إني صائم إني صائم" رواه ابن حبان وابن خزيمة. 9- "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر" رواه ابن ماجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الصيام والصوم في القرآن الكريم مدخل ... الصيام والصوم في القرآن الكريم: جاء القرآن الكريم بلفظ "الصيام" في تصوير فريضة شهر رمضان، فهي عبادة كسائر الفرائض والأركان؛ لأنه كلام الله -عز وجل- المعجز: {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} ، {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا} ، وقد شهد بإعجازه زعيم المعاندين وأفصح المشركين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وهو على الكفر. ولم يرد في القرآن ذكر لفظ "الصوم" إلا على لسان مريم -عليها السلام- يصوِّر فيها الصمت والسكوت وعدم الكلام مع الناس، ولم يصور ركن الصيام ولا عبادة مفروضة، قال تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا، فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا، يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا، فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا} [مريم: 25-29] . لكن لفظ "الصيام" لا "الصوم" ورد كثيرًا في غير فريضة رمضان رابعة أركان الإسلام، وذلك مع الكفارات؛ لأنها بالطبع عبادة؛ بل أداؤها واجب وحتم، فمن لم يؤدِّها وهو قادر فهو آثم لا يرفع عنه العذاب إلا إذا أداها، وذلك في هذه الآيات البينات: في سورة البقرة: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ .... } [البقرة: 196] ، وردت مرتين. وفي سورة النساء: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 92] . وفي سورة المائدة: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [المائدة: 89] . وفي المائدة أيضًا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} [المائدة: 95] . وفي سورة المجادلة: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المجادلة: 3، 4] . أما غير مصدر الصوم أو الصيام، فقد ورد في القرآن الكريم بلفظ المضارع في سورة البقرة: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} [البقرة: 184] {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185] ، وورد في سورة الأحزاب بلفظ "الصائمين": {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} [الأحزاب: 35] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 آيات الصيام : بهذا يتضح الفرق الكبير بين الصيام والصوم في تصوير القرآن لفريضة شهر رمضان، قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] ، وفي قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} إلى قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [البقرة: 187] . وختام آيات الصيام في الآية الأولى والآية الأخيرة بالتقوى توضيح لأهدافه السامية، وغايته الشريفة وهي التقوى، ولا تتحقق إلا بما يفيده معنى الصيام من المثابرة والمجاهدة والمتابعة والمشاركة والمرابطة والصراع مع هوى النفس ونزغات الشيطان والانتصار عليهما، ومحاربة النزوات والشهوات والملذات والمحرمات والمكروهات والإسراف والبخل والحرص والأثرة والأنانية، والمسارعة إلى الطاعات وفعل الخيرات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وغيرها من أخلاق الصيام وقيمه السامية التي تنتهي بالصائم إلى تقوى الله تعالى؛ فقد لازمت آيات الصيام "لعلكم تتقون -ولعلهم يتقون"، فالصيام ليس الإمساك عن الطعام والشراب والنكاح فقط؛ بل مجاهدة النفس في تحقيق الفضائل، والبعد عن الرذائل، وفي الحديث الشريف: "رب صائم حظَّه من صيامه الجوع والعطش" رواه أحمد، وفي الحديث الصحيح: "من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" رواه أحمد وغيره. وقوله -صلى الله عليه وسلم: "الصوم جنة- أي تقوي ووقاية-، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابَّه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم، إني صائم" رواه البخاري. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حق امرأتين صامتا عن الطعام والشراب وجلستا تغتابان المسلمين وتنهشان أعراض العباد: "إن هاتين صامتا عما أحل الله لهما، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما، جلست إحداهما إلى الأخرى فجعلتا تأكلان من لحوم الناس" رواه أحمد. وقال أيضًا: ليس الصيام من الأكل والشرب وإنما الصيام من واللغو والرفث، فإن سابك أحد أو جهل عليك فقل إني صائم" رواه ابن حبان. لهذا كله كان واضحًا أن صيغة "الصيام" وعاء لغوي كبير، وصورة قرآنية تصور جهاد النفس في صيامها، وجهادها مع الضروريات ومقومات الحياة من الطعام والشراب، وجهاد النفس مع الملذات والشهوات، ومع المحرمات والممنوعات، وتصور جهاد النفس في المسارعة إلى الخيرات، ومضاعفة الحسنات، والتسابق إلى الحب والإخاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 والتعاون والنصرة للمظلوم وللحق، وإلى الإنصاف والعدل والجود والكرم والعزة والإباء والقوة والبناء. إن صيغة الصيام لا الصوم ثرية بالمعاني والمضامين، تتسع للجوانب الرحبة في التشريع الإسلامي لهذه الفريضة، وتستوعب كل ما تهدف إليه من غايات شريفة وأهداف سامية، تلتقي جميعًا في أساسين كبيرين: وهما البناء الجسدي السوي الصحيح، والبناء الأخلاقي الفاضل القويم، وسنقف معهما بإيجاز: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 البناء الجسدي : فلا يستطيع المؤمن أن يداوم على طاعة الله تعالى ويتزوَّد منها إلا إذا كان صحيح البدن، سويّ الخلقة، قوي البنية، ولا يتم ذلك بكثرة الطعام وبالإسراف في المأكل والمشرب، بل وحسب المؤمن لقيمات يقمن ظهره، فنحن قوم لا نأكل حتى نجوع، وإذا أكلنا لا نشبع، ولما كان الإنسان لا يستطيع ضبط نفسه من شدة الإقبال على الطعام والإفراط فيه، شرع الله تعالى رحمة بعباده فريضة الصيام شهرًا في كل عام، يرد إلى الجسم توازنه وقواه وسلامته ونشاطه؛ فالمؤمن القوي في عقله وبدنه وكيانه ودينه خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، لقد كانت حكمة الله اللطيف الخبير أن يفرض على المؤمنين فريضة الصيام قبل معركة بدر الكبرى، وهي المعركة الفاصلة بين الكفر والإيمان في شهر شعبان من السنة الثانية للهجرة؛ ليُعِدَّ الله -عز وجل- من المؤمنين جندًا قويًّا في بدنه، وفي إيمانه، فقد صاموا أكثر من نصف شهر رمضان قبل دخولهم المعركة، فكان الصحابي منهم بعشرة من الكفار، لأن الصيام نقى جسدهم من الأمراض، وخلَّص جوفهم من كل داء، فالمعدة بيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 الداء، والحَمَيَّة رأس الدواء، فالصيام يقضي على أمراض الجسد والجهاز الهضمي من سوء الهضم والتخمة والبطنة والسمنة، ويخلصه من الرواسب والسموم والفضلات، ويطهر الأمعان ويقضي على البطر والغفلة بسبب الشبع وكثرة مباشرة النساء، ويغدو الإنسان رشيقًا قويًّا ضامرًا؛ فيعود إليه توازنه واتزانه، وفيما رواه ابن السني وأبو نعيم عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "صوموا تصحوا"، وحسنه السيوطي، فقد جعل النبي -صلى الله عليه وسلم- "الصوم وجاء ليقطع شهوة النكاح لمن لم يستطع مؤنة الزواج"، وكما قال أيضًا: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، فضيقوا مجاريه بالجوع"، فتنغلق أمامه أبواب الشهوات والملذات والوساوس والتردد وتناقض الفكر والمزاج. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وأما البناء الأخلاقي : أما القيم الإسلامية والأخلاق القرآنية التي يغرسها الصيام وينميها في نفس الصائم يحييه بالذكر والقرآن، وبالصلاة والقيام، وبالصدقة والزكاة، وبالهجرة عن المعاصي واللغو والرفث، فيغض البصر، ويقمع الشهوة والنظر، ويحبس اللسان عن اللغو والعبث، ويصون اليدين والرجلين، ويظهر العقل والأذن، فقد ذم الرسول -صلى الله عليه وسلم- المرأتين اللتين صامتا عن الحلال والطعام، وأفطرتا على اغتياب الناس ونهش أعراض المسلمين، وليس الصيام من الأكل والشرب، وإنما الصيام من اللغو والرفث، {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ، إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ، فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 هُمُ الْعَادُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} [المؤمنون: 1-9] ، فكلها من أخلاق الصيام، ومن أخلاق الصيام الوفاء بالعهد وأسمى أنواع الأمانات التي تكون ابتغاء مرضاة الله عز وجل، فقد يزداد الأمين حرصًا على أمانته كلما أحسن بأن الناس من حوله يكثرون الثناء عليه، ويشيدون بأمانته، فيظهر للمطرين أشد حرصًا عليها، ويتراءى للمادحين أشدّ تمسكًا بها ابتغاء مرضاتهم ومزيدًا من الثناء والمدح، لا ابتغاء مرضاة الله، أما أمانة الصيام فهي سرٌّ بين العبد وربه، فهو سبحانه يعلم السر وأخفى، فلا يدركها إلا الله عز وجل، لأن أمانة الصيام لا تظهر حقيقتها في القول والعمل إلا لله سبحانه، فتسجل على الصائم السيئات أو له الحسنات: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به"، وما أشد حاجة الإنسان والأمة الإسلامية إلى هذه الأمانة الخاصة لوجه الله الكريم؛ فإنها تسمو بالإنسان عن حب الذات إلى العمل الصادق والبناء، فيمتلئ قلبه بالرضى، ويسعد في الدارين، وتقوى الأمة وتنصر على أعدائها "فلا إيمان لمن لا أمانة له". ومن أخلاق الصيام: تربية الإرادة القوية، وتنمية العزيمة الصادقة وغرسها، في النفس، وذلك حينما يقبل الصائم بنفس راضية على صيام ثلاثين يومًا متتابعة، وعلى قيام ليلها على الرغم من شدة الحر أو قسوة البرد، ومن جهاد النفس بالعمل وتحصيل الرزق، ومن مقاومة الرغبات والمغريات والشهوات والملذات، وهو فرح مسرور بصيامه "للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه"، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه"، "ومن قام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه"، "ومن قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" متفق عليه، وما أشد حاجة الإنسان من حياته إلى قوة الإرادة وصدق العزيمة وحاجة الأمة الإسلامية إلى أمثاله من المؤمنين الأقوياء الصادقين. ومن أخلاق الصيام تربية النفس على تحمل المكاره والمشقات والصبر عليه، فالصائم حين يصبر فيمنع نفسه وهواها من ضروريات الحياة وقوامها، وما به حياتها أو موتها، فيكف عن الطعام والشراب وهو ضروري من ضرورات الحياة، لهو قادر على أن يمنع نفسه من الشهوات والملذات ومغريات الحياة وهوى النفس ونزغات الشيطان، فأمرها أهون، فهو "شهر الصبر، والصبر ثوابه الجنة" كما يقول النبي -صلى الله عليه وسلم، وقال أيضًا: "فإن سابه أحد أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم"، قال الله تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} آخر سورة آل عمران. فالمؤمن الصابر تهون أمامه كل الشدائد والمشقات في بناء الحياة وتقدمها، لا يكلّ ولا يملّ، ولا يعجز ولا يضعف، ولا يفرّ ولا يجبن، ولا يحزن ولا يجزع، فهو مؤمن بقضاء الله وقدره "ومن لم يرضَ بقضائي فليخرج من تحت سمائي وليتَّخذ ربًّا سواي"، ولولا الصبر والثبات للسلف الصالح لما كان لهم هذا المجد الكبير الذي حيَّر العقول وهوَّن أمر الشعوب من بعدهم، ومن هنا كان الصبر نصف الإيمان، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاة} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ومن أخلاق الصيام: رقَّة القلوب وعطف النفوس وحنانها وامتلاؤها بالحب والإخاء والمودة والتعاون والمواساة والتكافل والمساواة والعدل والإيثار والتضحية، كل ذلك ينمو في النفس ويغرسه الصيام في الصائم حينما يشعر بالحرمان والجوع والعطش، وكل ذلك ميسر تحت يديه، قد حرمه عليه الصيام، عند ذلك يدرك ألم الفقير والمحتاج فلا يقسو عليه، وإنه لا يكون إنسانًا إلا بمشاركة أخيه الإنسان بهذه المعاني السامية، فالناس سواسية كأسنان المشط، كلكم لآدم وآدم من تراب، لا فضل لأحد على آخر إلا بالتقوى؛ فينمي الصيام هذه الفضائل ويغرسها في نفس الصائم، فلا تجد في الأمة الإسلامية جائعًا ولا عاريًا، ولا مهضومًا ولا مغبوبًا، ولا حاقدًا ولا حاسدًا، ولا ضعيفًا ولا مكروهًا ولا منبوذًا ولا حقيرًا، ولا عاطلًا ولا معدومًا، ولا مظلومًا ولا مغصوبًا، فما خلق الله سبحانه إنسانًا على وجه الأرض إلا تكفَّل برزقه، لكنه قد يكون على يديه أو على يدي غيره، قال تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ، وقال أيضًا: {وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ، فهي أرزاق الفقراء تُرَدّ عليهم من الأغنياء، كل ذلك وأكثر من ذلك من أخلاق الصيام، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "وهو شهر المواساة وشهر يزاد فيه الرزق، من فطر صائمًا كان مغفرة لذنوبه وعتق من النار، وكان له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره"، قالوا: يا رسول الله ليس كلنا يجد ما يفطر به الصائم، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يعطي الله هذا الثواب لمن فطر صائمًا على مِذْقَة لبن أو تمر أو شربة ماء، ومن سقى صائمًا سقاه الله -عز وجل- من حوضي شربة لا يظمأ بعدها حتى يدخل الجنة" رواه ابن خزيمة والبيهقي، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "أفضل الصدقة: صدقة في رمضان" الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 رواه الترمذي. ومن أخلاق الصيام أن يسود النظام وتعم المساواة بين أقطار الأمة الإسلامية قاصيها ودانيها، فكلهم في أيام معدودات يصومون شهرًا جميعًا، ويصلون التراويح جميعًا، ويتوقعون ليلة القدر جميعًا، ويُسرعون إلى الإفطار جميعًا، وينوون الصيام بعد السحور جميعًا، ويتصدقون بصدقة الفطر جميعًا، ويختلفون بعيد الفطر جميعًا، فتصير الأمة في كل شهر كالجسد الواحد، تنتظم أعضاؤه بروح واحدة في اتساق وجمال ومساواة وتناظر، ويجتمعون على قلب رجل واحد في وحدة واعتصام وهيبة ووقار، قال تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} ، {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} . ومن أخلاق الصيام: تنمية غريزة المراقبة لله -عز وجل- في السر والعلن، وغرسها في النفس، فتنشأ من مراقبة القلب لله طول اليوم وهو صائم، فهو على يقظة تامة وحذر شديد من الوقوع فيما يفطر أو يغضب الله -عز وجل، ومن مراقبة الله وتذكره دائمًا أثناء الإفطار والسحور وما بينهما في قيام الليل والتهجد فيه، فيشتغل القلب بذكر الله ومراقبته بالنهار والليل، وهكذا حتى ينتهي الشهر، وبذلك تقوى غريزة المراقبة لله، ويظل القلب عامرًا بها طول العام، بل الدهر كله، فيكون الصيام وقاية من الوقوع في المعاصي، وتقوى له حفظًا مما يغضب الله -عز وجل، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "الصوم جنة ما لم يخرقها"، وقال: تعالى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 ومن أخلاق الصيام: أنه يرتفع بصاحبه عن الحيوانية إلى شرف الإنسانية لتحقيقها بالصيام نفسًا وروحًا، لا جسدًا ومادة وشهوة، بل يسمو إلى مصافّ الملائكة الذين يعبدون الله بالليل والنهار لا يفترون، فالصيام يهذِّب النفس ويصفي الروح ويطهر القلب فتنأى عن الشهوات والملذات، وتتعفف عما يهبطهما إلى نهم الحيوان وغفلته، فلا يضخع لمطالب الجسد وحكم الغريزة الحيوانية، وتتغلب روحه على جسده، ليكون هو الإنسان الكامل المتدبر في ملكوت الله، والمفكر في مخلوقاته، ويتحرَّر من سلطان هواه وغرائزه الحيوانية. وفي النهاية فأخلاقيات الصيام كثيرة لا ستع لها المقام في هذا الموضوع، مثل: التواضع، والتراحم، والترابط، والجد، والحزم، والإيثار، والخوف، والرجاء، وغيرها وغيرها. قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في الصيام: "شهر أوله رحمة ووسطه مغفرة وآخره عتق من النار" رواه ابن خزيمة والبيهقي من حديث سلمان -رضي الله عنه، فكان الصائم مستجاب الدعوات لما ذكره الله تعالى مع آيات الصيام وهو قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} . اللهم استجب دعاءنا -وتقبل صلاتنا وقيامنا وصيامنا واختم بالصالحات أعمالنا- اللهم إنك عفوٌّ كريم تحب العفو فاعفُ عنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 أدب التعبير عن المباح : من الإعجاز في التصوير القرآني لرمضان شهر الصيام أنه تميز عن غيره بأنه شهر غلبت عليه العبادة والبعد عن الملذات، والزهد في الشهوات المختلفة المحرم منها والمباح. لذلك كان أفضل الشهور عند الله والناس فهو شهر عظيم مبارك، من صام وقام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه، لهذا كله جاء التصوير القرآني لما يباح للرجل من زوجته في ليلة الصيام من الرفث في قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] ، والرفث لفظ قبيح، معناه في اللغة الفحش، وما يقع من الزوجين مما هو مذموم في غير هذا المقام، قال الأزهري والزجاج: "الرفث كلمة جامعة لكل ما يريده الرجل من امرأته"، يقول الشاعر: وبهن عنرفث الرجال نفر ويتضح ذلك أكثر في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197] ، وفي الحديث الشريف: "من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه. وعلى ذلك فالرفث هو الفحش من القول والفعل، ويظهر الإعجاز في التصوير القرآني للرفث مع الصيام، مع أن القرآن في إعجازه أيضًا استغنى عنها في مواطن أخرى كثيرة تحفظًا في التعبير بالقبيح، وتصونًا من الفحش، قال تعالى: {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ} [البقرة: 222] ، {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ} [البقرة: 223] ، {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] ، {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة: 237] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} ، وغيرها من الكنايات المهذبة الراقية في أدب التعبير عن ذلك. لكن التصوير القرآني هنا آثر التعبير عن الرفث في شهر الصيام لأغراض بلاغية وأخلاقية، منها: إباحة مشروعية الجماع في ليالي رمضان بعد أن كان محرمًا، فكنَّى بالرفث عن إباحته للصائم ليلة الصيام، لا في النهار ولا في المساجد أثناء الاعتكاف، قال ابن عباس -رضي الله عنه: "إن الله -عز وجل- كريم حليم يكني عن الجماع"، قال تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} ، {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} [البقرة: 187] ، قال البراء رضي الله عنه: "لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان الرجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله عليهم: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187] . كما تفيد إيثار كلمة الرفث إباحة كلام النساء من الجماع في ليالي رمضان ومقدماته، ويفيد ذكر الرفث أيضًا الإقلال من الجماع في ليالي رمضان والزهد في مباشرة النساء، والتنفير من الملذات والشهوات، لينصرف الصائم إلى شهر العبادة وإلى التحلِّي بالزهد والصيام، والاشتغال بالصلاة وقراءة القرآن وعمل الطاعات، وخاصة في العشر الأواخر، كما في الحديث الشريف كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا دخل العشر الأواخر شدَّ مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله، وفي رواية أخرى: وطوى فراشه واعتزل النساء. وما أروع التصوير القرآني للمباح في الصيام، والترخص فيه، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 كما في الحديث الشريف: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه"، وذلك في قوله تعالى: {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 184] ، فقد أباح للمريض والمسافر والشيخ الهرم رخصة الإفطار مع اختلاف في طريقة القضاء، فالمريض والمسافر عليهما القضاء بصيام الأيام بعد رمضان مباشرة حتى لا يلاحقه الأجل، لما تدل عليه "الفاء" من الترتيب والتعقيب المباشر في {فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} ، وأما الشيخ الهرم فعليه استخراج فدية طعام مسكين لا القضاء بالصيام، وذلك في قوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} ، فمعنى يطيقونه يصومونه بعسر ومشقة وشدة، وفي غير القرآن يقال: "وعلى الذين لا يطيقونه" أي: لا يستطيعون الصيام، والإعجاز في التصوير القرآني هنا لأسباب كثيرة، لأن التصوير القرآني صريح في أداء المراد ولا يحتاج إلى تأويل، وما لا يحتاج إلى تأويل أولى مما يحتاج إلى تأويل، فلا داعي لتقدير محذوف وهو "لا"، لأن الطوق هو المشقة والجهد العنيف، فالهرم والحامل والمرضع يستطيعون الصوم لكن بمشقة وعسر عظيمين، لذلك فهم مخيرون بين الرخصة لهم في إباحة الإفطار، وبين الصيام وهو خير لهم، وهذا هو موطن الإعجاز في التصوير القرآني، لأن تقدير "لا" المحذوفة تؤدي إلى تسليط النفي على الشدة والمشقة في "الطوق" فيلزم منه الإفطار والرخصة والفدية مما يتنافى مع الأفضل وهو الصوم في قوله تعالى بعده: {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وهو الخير المراد من الآية، لأن الطاقة كما يقول الراغب الأصفهاني: "اسم لمقدار ما يمكن للإنسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 أن يفعله مع المشقة وشبه بالطوق المحيط بالشيء"، وأن الاحتمال لم يرد بعد رخصة المريض، والمسافر مباشرة، كما ورد بعد الطوق في قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} لأن الصوم قد يضاعف المرض فيقتل المريض، ويهلك المسافر، وخاصة بوسائله في الماضي، فكم أهلكت القوي الشديد، إنه الإعجاز في التصوير القرآني. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 أنوار الإمساك والإفطار : قال تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] ، بلغت هذه الآية الكريمة حد الإعجاز في التصوير القرآني لبداية الإمساك ونهايته من ليل رمضان ونهاره، بالحروف والكلمات والصور الواقعية من الطبيعة بما لا يتأتى على مثاله من تصوير للقيم الخلقية والتشريعية بدقة متناهية وقول فصل لا يقبل الطعن والجدل. فقد جاء الأمر بالأكل والشرب على سبيل الوجوب من بداية الليل الواضحة حين يبدأ بغروب الشمس، وهو أمر قاطع لا يختلف عليه اثنان في قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْل} ، ويمتد الليل طويلًا لغاية آخره، تحددت أبعاده بكلمة واحدة وهي "حتى"، وأما نهاية الليل وبداية الإمساك ليس أمر فاصلًا كغروب الشمس، لذلك كانت مقومات التصوير القرآني متنوعة، فاقتضت التأكيد في التعبير عن الظهور بقوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّن} بزيادة التاء وتكرار الياء بالشدة عليها، لأن زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى، كما يحتاج الأمر إلى قرار جماعي لا فردي في قوله تعالى: {لَكُمُ} أي: جمع متواتر لا يتواطئون على الكذب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 لأن الفصل بين بداية النهار ونهاية الليل أمر غير ظاهر ولا فاصل، بل يحتاج إلى تأمل ومشاركة في إصدار القرار الفاصل بين الليل والنهار. وكان لابد من تحريك الوجدان بصورة حية متحركة من الواقع المحسوس والملموس، مما لا يقبل الطعن أو الشك، وذلك حينما يظهر الخيط الأبيض من الفجر لا خيوط تزاحم خيط الليل الأسود، ولا خيوطه الكثيرة التي تمحو الخيط الأبيض، ثم التأكيد على الخيط الأبيض بأنه ليس بأشعة الشمس الذهبية، وإنما هو خيط يتفجَّر من نور الفجر. كما أن التعبير بمن التي أفادت التبعيض عن الخيط الأبيض يدل على أن الأصل هو الليل، فمن أكل في نهايته وهو شاكّ فلا يفطر، لأنه الأصل، على العكس من الإسراع إلى الإفطار بالنهار قبيل الغروب، فصاحبه مفطر وعليه القضاء، لذلك كان من المستحب تأخير السحور وتعجيل الفطور بعد الغروب مباشرة. تجد هذه الروعة بل أكثر إذا تأملت قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} ، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنما ذلك بياض الصبح وسواد الليل" لعدي بن حاتم يصفه بعدم التأمل حين عمد بعد نزول الآية إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض، فجعلهما تحت وسادته جعل ينظر إليهما، فلما تبين له الأبيض من الأسود أمسك، فقال له: "إن وسادك إذن لعريض". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 الفصل الرابع: تربية النشء ومراحله في التصوير القرآني والسنة الشريفة أدب الطفولة بين القرآن الكريم والسنة الشريفة ... الفصل الرابع: تربية النشء ومراحله في التصوير القرآني والسنة الشريفة أدب الطفولة بين القرآن الكريم والنسة الشريفة أدب الإسلام للطفل: فطرة وعبادة: يهذِّب الإسلام الطفل منذ مراحله المبكرة بأدب سام، يوقظ فيه كل حين الفطرة المستقيمة، والخليقة الخالصة النقية، التي تفضل بها الله عز وجل على خلقه في إبداعاته، حين يتلو أو يسمع قوله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] ، فيسلك المنهج القويم {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى، وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} [الأعلى: 1-3] ، ويميز بين الطيب والخبيث، والهدي والفجور، {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} فألهمها فجورها وتقواها {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7-10] ، لتختار من النجدين طريق الخير لا طريق الشر {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ، وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ، وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 8-10] ، فأقرت الروح البشرية بذلك إيمانًا بربها وخالقها منذ الأزل {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] ، لذلك حثَّ القرآن الكريم في أدبه المعجز العباد على الطريق المستقيم والهدي، والوقاية من الضلال، والعذاب: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم: 6] ، كما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 حثَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- في أدب بليغ يتردَّد صداه في جوانب النفس وحنايا الوجدان: "كل مولود يُولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه" أخرجه البخاري 410/ 1، ورغب في مخالطة الأخيار، ونهى عن مجالسة الأشرار "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل" رواه أبو داود والترمذي والحاكم، وقال أيضًا: "إنما مثل الجليس الصالح والجليس السوء كحامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك: إما أن يحذيك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبًا، ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة" رواه مسلم 4/ 2026، وقال أيضًا: "لا تصاحب إلا مؤمنًا، ولا تأكل إلا مع تقي" رواه أبو داود في 5/ 167، والترمذي برقم 2397؛ لذلك قال تعالى: {وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا} [النساء: 38] ، {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا} [الكهف: 28] ، {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29] ، {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا، يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا، لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا} [الفرقان: 27-29] ، ويقول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: فلا تصحب أخا الجهل ... وإياك وإياه فكم من جاهل أردى ... حليمًا حين آخاه يقاس المرء بالمرء ... إذا ما المرء ماشاه وللشيء من الشيء ... مقاييس وأشباه وللقلب على القلب ... دليل حين يلقاه1 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 أدب الرحمة بالطفل عبادة وسلوك تربوي : إذا عاش الطفل في أسرة تفيض بالحب والرحمة، وفي مجتمع يلفه بالشفقة والعطف والحنان، ينشأ متأدبًا بآداب الرحمة، متذوقًا لأساليب الحب والجمال والخير والحق، فيشب الطفل عاشقًا للرحمة والمحبة، متخذًا صورها الجميلة في قوله ومنهجه وسلوكه؛ لأن أدب الإسلام في جميع صوره حث عليها منذ الصغر على أنها عبادة وطاعة، ومنهجًا وسلوكًا؛ فقد صور القرآن الكريم الرحمة بما يعجز عنه البشر؛ فلم تخل سورة من تصوير قرآني لها تهتز لها العاطفة، وتبعث فيها الحرارة والصدق والدفء، وتغمر الوجدان فتحييه بالإيمان والإخلاص، والحب والمودة، فأصبح مفتاح كل سورة {بسم الله الرحمن الرحيم} ، لأن الله -عز وجل- {الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَة} [الأنعام: 133] ، ورحمته وسعت كل شيء {فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ} [الأنعام: 147] ، وجعل آية الزواج وثمرتها العجيبة المودة والرحمة في السكن والولد {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] . وفي الحديث الشريف يخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- عن رب العزة: "لما خلق الرحم قال تعالى: أنا الرحمن وأنا الرحيم شققت اسمك من اسمي، فمن وصلك وصلته، ومن قطعك قطعته" 2، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه-   1 الديوان، تحقيق د. محمد عبد المنعم خفاجي. 2 بصائر ذوي التمييز 3/ 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ من خلقه قالت الرحم هذا مقام العائذ بك من القطيعة قال نعم؛ أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى يا رب، قال: فهو لك"، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: فاقرءوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ} " أخرجه البخاري 10/ 532، وقد حثت الأحاديث الشريفة على الرحمة بالبنين والبنات، وتأديبهم بآدابها البليغة وصورها الأدبية الجميلة، التي تتفتح لها منافذ الإدراك في النفس، وفي رواية أبي سعيد الخدري قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من عال ثلاث بنات فأدبهنَّ ورحمهنَّ وأحسن إليهنَّ فله الجنة" رواه الإمام أحمد 3/ 98، وفي رواية جابر بن عبد الله: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من كان له ثلاث بنات يؤدبهن ويكفيهن ويرحمهن فقد وجبت له الجنة البتة، فقال رجل من القوم: وثنتين يا رسول الله؟ قال: وثنتين" رواه البخاري في الأدب المفرد، وفي رواية أخرى: "وواحدة"، وعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم" أخرجه ابن ماجه 291/ 2، وروى عبد الله بن عمر قال: "أدب ابنك فإنك مسئول عنه، ماذا أدبته؟ وماذا علمته؟ "1، وعنه أيضًا: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "كلُّكم راعٍ ومسئول عن رعيته، فالإمام راعٍ وهو مسئول عن رعيته، والرجل في أهله راع، وهو مسئول عن رعيته، والمرأة في بيت زوجها راعية، وهي مسئولة عن رعيتها، والخادم في مال سيده راعٍ، وهو مسئول عن رعيته" متفق عليه ... البخاري 718/ 2. وحث الإسلام الكبير على الرحمة بالطفل لضعفه وقلة حيلته،   1 تحفة المودود في أحكام المولود: ابن القيم ص153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فإذا امتلأت قلوب الأطفال بصور الرحمة الجميلة وأدبها المهذب، شبوا قادرين على النهوض بأمة الإسلام؛ لتكون العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46] ، ومن الباقيات الصالحات رعايتهم وتأديبهم، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] ، روى أبو هريرة قال: "قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحسن بن علي وعنده الأقرع بن حابس التميمي جالسًا، فقال الأقرع: إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحدًا؛ فنظر إليه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ثم قال: "من لا يرحم لا يرحم" أخرجه البخاري 426/ 10، وقال أبو قتادة -رضي الله عنه: "خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأمامة بنت أبي العاص على عاتقه، فصلى فإذا ركع وضعها، وإذا رفع رفعها" أخرجه البخاري 426/ 10، وعن عائشة -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- "وضع صبيًّا في حجره يحكنه فبال عليه فدعا بماء فأتبعه" أخرجه البخاري 433/ 10، وعن جابر بن سمرة -رضي الله عنه- قال: "صليت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة الأولى، ثم خرج إله أهله وخرجت معه، فاستقبله ولدان، فجعل يمسح خدَّيْ أحدهم واحدًا واحدًا، قال: وأما أنا فمسح خدِّي فوجدت ليده بردًا وريحًا كأنما أخرجها من جؤنة عطار" أخرجه مسلم 1814/ 4 "وجؤنة العطار: وعاء يعد فيه الطيب". وعن أسامة بن زيد -رضي الله عنها- كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن بن علي على فخذه الآخر، ثم يضمهما ثم يقول: "اللهم ارحمهما فإني أرحمهما" أخرجه البخاري 434/ 10، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "ما رأيت أحدًا كان أرحم بالعيال من رسول الله -صلى الله عليه وسلم، كان إبراهيم مسترضعًا في عوالي المدينة، وكان ينطلق ونحن معه، فيدخل البيت، وأنه ليدخن، وكان ظئره قينًا، فيأخذه فيقبله ثم يرجع" أخرجه مسلم 1808/ 4 "والظئر: زوج المرضعة، وقينًا: حدادًا"، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: خرجت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في طائفة من النهار، لا يكلمني ولا أكلمه، حتى جاء سوق بني قينقاع، ثم انصرف حتى أتى خباء فاطمة فقال: أثمَّ لكع، أثمَّ لكع "الصغير" يعني حسنًا؛ فظننًا أنه إنما تحسبه أمه لأن تغسله وتلبسه سخابًا "قلادة الأطفال"؛ فلم يلبث أن جاء يسعى حتى اعتنق كل واحد منهما صاحبه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "اللهم إني أحبه وأحبُّ من يحبه" أخرجه مسلم 1782/ 4، وعن يعلى بن مرة أنه قال: خرجنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- ودعينا إلى طعام؛ فإذا حسين يلعب في الطريق، فأسرع النبي -صلى الله عليه وسلم- أمام القوم، ثم بسط يديه؛ فجعل إحدى يديه في ذقنه والأخرى في رأسه، ثم اعتنقه، ثم قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "الحسين مني وأنا من الحسين، أحبّ الله حسينًا، الحسين سبط من الأسباط" أخرجه البخاري 459/ 1. عن أم خالد بنت خالد بن سعيد قالت: "أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع أبي وعليَّ قميص أصفر، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "سنه، سنه"، قال عبد الله: وهي بالحبشية: حسنة، قالت: فذهبت ألعب بخاتم النبوة، فزوَّجرني أبي، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: دعها، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أبلي وأخلقي" "دعا لها باستهلاك ثياب كثيرة"، قال عبد الله: فبقيت حتى ذكر يعني: من بقائها" أخرجه البخاري "425/ 10، وعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أحسن الناس خلقًا، وكان لي أخ يقال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 له أبو عمير -قال كنت أحبه وكان فطيمًا- قال: فكان إذا جاء رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: يا أبا عمير، ما فعل النفير بك؟ قال: فكان يلعب به، أخرجه البخاري 426/ 10، وقال أبو هريرة: "سمعت أذناي، وبصرت عيناي هاتان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آخذ بيديه جميعًا بكفي الحسن أو الحسين -صلوات الله عليهما- وقدميه على قدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: ارق، فرقى الغلام حتى وضع قديمه على صدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "افتح فاك"، ثم قال: "اللهم أحبه، فإني أحبه" أخرجه البخاري 348/ 1، وقال الطبراني: قال -عليه الصلاة والسلام: "خير بيت في المسلمين يبيت فيه يتيم يحسن إليه، وشر بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يساء إليه، أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا"، وجاء رجل إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- يشكو قسوة قلبه، فقال له: "أتحب أن يلين قلبك، وتدرك حاجتك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلين قلبك، وتدرك حاجتك" كنز العمال 173/ 3. ومن القيم الخلقية في الأدب الإسلامي أدب العدالة بين الأطفال، فلا يضارون بصور الظلم وأنواعه من الأسرة أو من المجتمع، مما يترك أثرًا بناء في تهذيب نفسه، وفي رقة مشاعره وعمارة وجدانه؛ فيشب على المحبة والمودة والتعاطف والتعاون، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} ، {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ} ، {قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْط} ، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين} ، {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} ، {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ} ، {وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ} ، ولقد أنقذ الخضر وموسى -عليهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 السلام- حقّ اليتيمين من مجتمعهما الظالم الشحيح {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} [الكهف: 82] ، هذا ما يجب على المجتمع من رفع الظلم عن المسلم وعن الطفل الضعيف، وإرساء العدالة الاجتماعية بينهم، وأما موقف الأسرة من ذلك فقد قال تعالى فيها: {وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} إلى قوله: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [النساء: 9-11] ، في تصوير قرآني معجز، وكذلك في ضرب مثلين متقابلين، أحدهما يصور المنفق على أهله وغيرهم ابتغاء مرضاة الله عز وجل، ولا يكون ذلك إلا بالعدل، والآخر لا يؤدي ذلك في تصوير قرآني يهزّ أعماق الكبير ووجدان الصغير؛ فالأول كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين، والآخر كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا، ثم يزيد الآخر توضيحًا وتفصيلًا وبلاغة وإعجازًا فيقول تعالى: {أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 266] . والأحاديث الشريفة البليغة التي وردت في ذلك كثيرة، وهي عامة للأطفال وغيرهم؛ لكنني سأقتصر على بعض ما يخصّ الصغار لعدم الإطالة، قال عامر: "سمعت النعمان بن بشير -رضي الله عنه- وهو على المنبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 يقول: أعطاني أبي عطية؛ فقالت عمرة بنت رواحة لأبي: لا أرضى حتى تشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية، فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله، قال: "أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟ " قال: لا، قال: "فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم"، قال: فرجع فردَّ العطية" أخرجه البخاري 211/ 5، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن عز وجل -وكلتا يديه يمين- الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولُّوا" أخرجه مسلم 1458/ 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 تلاوة الأطفال للقرآن وسماعه تأديب وتربية وتعليم : قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "أدَّبني ربِّي فأحسن تأديبي"؛ لأنه تأدب بأدب القرآن، وتخلّق بأخلاق القرآن؛ فقراءة القرآن وسماعه أو حفظه يعرب اللسان ويهذِّبه؛ فيكون أعظم بيانًا وفصاحة، وبلاغة وأدبًا: {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِين} ، ويرقى بالعاطفة فتتَّسم بالصدق والإخلاص في الإيمان، ويعمر الوجدان بالمشاعر الرقيقة والأحاسيس المرهفة، ويقوم العقل والفكر بقيمه السامية وأخلاقه وتشريعاته الزاكية، وبذلك تتحقق للإنسان السعادة في الدنيا والآخرة، فحينما حفظ الأطفال سورًا قصارًا بعد وفاة أبيهم، رفع الله العذاب عنه في قبره، بعد أن سأل النبي -صلى الله عليه وسلم- أمهم وزوج المعذب في قبره عما صنعت بعد دفنه، لذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، وقال تعالى: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الأعراف: 204] ، {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا} [الإسراء: 106] ، {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ، لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} [فاطر: 29-30] ، {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا} [الإسراء: 82] ، وعن أبي أمامة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من قرأ عشر آيات في ليلة لم يُكتب من الغافلين، ومن قرأ مائة آية كتب له قنوت ليلة، ومن قرأ مائتي آية كتب من القانتين، ومن قرأ أربعمائة آية كتب من الحافظين، ومن قرأ ستمائة آية كتب من الخاشعين، ومن قرأ ثمانمائة آية كتب من المخبتين، ومن قرأ ألف آية أصبح له قنطار والقنطار مائتا أوقية، والأوقية خير مما بين السماء والأرض، أو قال: خير مما طلعت عليه الشمس، ومن قرأ ألفي آية كان من الموجبين" "أي وجبت له الجنة" رواه الطبراني، وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليك السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده" رواه مسلم وغيره. وحينما عظم الله -عز وجل- ثواب القرآن في الدنيا بما تقدَم ذكره من تحقيق السعادة فيها، وفي الآخرة بأعظم وأخلد أنواع السعادة برضوان الله -عز وجل- لمن قرأه وعمل به، فشفَّعه فيه وأدخله الجنة، فإنما يحثُّ المؤمن على دوام قراءته وتعليمه لأهله وأولاده ورعيته؛ فهو مسئول عنهم، وعن الإنفاق على تعليمهم القرآن وعلومه، كما دلَّت الآيات السابقة في أدب قرآن معجز، والأحاديث الشريفة في بلاغتها الجامعة في أدب نبوي سام، يترك ذلك أثره البليغ والسريع في تأديب الأطفال وتربيتهم إذا ما تعلموها أو قرءوها في مراحل تعليمهم، وبالإضافة إلى ما سبق ما رواه جابر -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "القرآن شافع مشفع، وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 حل به مصدق، من جعله أمامه قاده إلى الجنة، ومن جعله خلفه ساقه إلى النار" رواه ابن حبان، وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يقال لصاحب القرآن: إقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلك عند آخر آية تقرؤها" رواه أبو داود وغيره، وما رواه معاذ بن أنس الجهني -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قرأ: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَد} حتى يختمها عشر مرات، بنى الله له قصرًا في الجنة، فقال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه: إنا نستكثر يا رسول الله، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: إذا الله أكثر وأطيب" رواه أحمد، وما رواه علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من قرأ القرآن فاستظهره فأحل حلاله وحرم حرامه أدخله الله الجنة وشفَّعه في عشرة من أهل بيته كلهم قد وجبت لهم النار" رواه ابن ماجه والترمذي، وعن أبي أمامه -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلى أن يموت" رواه الطبراني وابن حبان، لذلك حرص عبد الله بن عباس -رضي الله عنه- الذي دعا له الرسول بدعوته المشهورة، ووصاه بوصيته المشهورة، لتي سنذكرها في مقامها هنا، فقد حرص أن يقرأ المحكم ولم يتجاوز عشر سنين، فقال: "توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأنا ابن عشر سنين وقد قرأت المحكم"، مما جعل أطفال المسلمين يتدافعون لحفظ كتاب الله -عز وجل- وتعلّمه حتى ضاقت المساجد بالصبيان، فاضطر الضحاك بن مزاحم معلم الصبيان ومؤدبهم إلى أن يطوف على حمار ليشرف على طلاب مكتبه الذين بلغ عددهم ثلاث آلاف صبي، وكان لا يأخذ أجرًا على عمله1.   1 منهج التربية النبوية للطفل: محمد سويد ص113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ولهذا أصبح الأزهر الشريف أعظم جامعة وأقدمها في العالم قاطبة، لتخريجه علماء أجلاء ينشرون الإسلام وعلومه في بقاع العالم، لأنهم كانوا يحفظون القرآن الكريم في مراحل الطفولة المبكرة، ويتأدبون بأدبه السامي وبلاغته المعجزة، وكذلك الحديث الشريف. ومما يضطر الأطفال إلى تأديبهم بأدب القرآن والسنة الشريفة أن الإسلام أوجب على الوالدين أن يرعى أولاده الأطفال منذ سبع سنين على سبيل الوجوب والإلزام بتعليمهم الصلاة، وأن يُعينهم على أدائها، وأن يضربهم عليها إذا ما بلغوا عشر سنين وانصرفوا عنها، قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طه: 132] ، وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "مروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع" رواه أبو داود، وعن أبي ثرية سبرة بن معبد الجهني -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "علّموا الصبي الصلاة لسبع سنين، واضربوه عليها ابن عشر سنين" رواه أبو داود والترمذي، وفي حديث الرسول -صلى الله عليه وسلم- لأبي هريرة -رضي الله عنه: "يا أبا هريرة، مر أهلك بالصلاة فإن الله يأتيك بالرزق من حيث لا تحتسب"، لأن اعتياد الصلاة وتكرارها في اليوم خمس مرات تؤدّبهم بما تهدف إليه عن طريق حفظ فاتحة الكتاب وترديدها، وحفظ كثير من السور القرآنية وبعض الآيات التي تعقب الفاتحة في الصلاة، وعن طريق سماع القرآن الكريم من الإمام في الصلاة الجهرية، وعن طريق سماع الخطبة في صلاة الجمعة، وهي فنّ أدبي من فنون النثر الفني، وما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 اشتملت عليه من الآيات القرآنية والأحاديث الشريفة وأدب الصحابة والتابعين، والحاكم والأمثال والشعر الإسلامي الذي يتمثل به الخطيب في خطبة الجمعة والعيدين، أو في المحاضرات والندوات والدروس التي تلقي في المسجد أثناء مصاحبة الطفل لوالده، أو حضوره بنفسه للمشاركة في صلاة الجماعة، أو صلاة الجمعة والعيدين بعد أن يعتاد على الصلاة وحده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- للغلام عبد الله بن عباس: ومن الدروس التي كان يلقنها الرسول -صلى الله عليه وسلم- للأطفال وصيته لابن عمه عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- فيما رواه ابن عباس نفسه إذا قال: "كنت خلف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يومًا فقال: "يا غلام إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك: احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفَّت الصحف" رواه الترمذي 667/ 4، وزاد أحمد وغيره: "تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، وأعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك، وأعلم أن النصر مع الصبر، وأن الفرج مع الكرب، وأن مع العسر يسرا". هذه الوصية النبوية الشريفة تُعَدّ لوحة أدبية فنية غنية بالألوان والظلال، زاخرة بالقيم الخلقية والقيم الفنية في أدب الأطفال، تحمل طابعين أدبيين، ووجهين إبداعيين، أحدهما: إبداع المصطفى الأدبي الزاخر بقيم خلقية وقيم فنية في تأديب الأطفال، وثانيهما: نموذج أدبي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 رفيع المستوى ومثل أعلى في البلاغة البشرية يسير على نهجه أدب الأطفال سواء من إبداعاتهم أو إبداع الأدباء لهم؛ لأن هذه الوصية تميَّزت بقيم كثيرة في أدب الأطفال، ومن أهمها: 1- مجالسة الأطفال للكبار، ليحرصوا على التعلم منهم، ويستنيروا بمعارفهم، ويقتدون بهم في سلوكهم، فقد لازم ابن عباس خير البشر، وسار خلفه تأدبًا وتقديرًا، وتوقيرًا لمكانة الأستاذ الأول والمعلم الأكبر -صلى الله عليه وسلم. 2- تلقي ابن عباس -رضي الله عنه- الوصية من رسول الله -صلى الله عليه وسلم؛ ليعمل بها هو وأمثاله من الغلمان والشباب، لأن العبرة بعموم اللفظ والوصية لا بخصوص السبب. 3- تخصيص ابن عباس -رضي الله عنه- بهذه الوصية من بين الغلمان فيه دلالة على نجابته، ورجاحة عقله، فقد صدقت نبوءة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في خصوصيته؛ فصار حبر الأمة ورائد التأويل والتفسير لكتاب الله -عز وجل-، يتميز برجاحة العقل في الحوار، وقوة الحجة، ونصاعة الرأي. 4- تعبير الرسول -صلى الله عليه وسلم- في افتتاح الوصية بقوله: "يا غلام" وفي رواية: "يا غلامي" يوحي بحرارة العطف وعميق الحب والحنان، كما يشير إلى قرب منزلته وشدَّة حرصه عليه، مما يعين على فتح منافذ الإدراك الكثيرة في النفس من عاطفة ووجدان ومشاعر وخواطر وأحاسيس، فيكون أكثر إقبالًا على الوصية وأعظم قبولًا لها. 5- يتميز أسلوب الرسول -صلى الله عليه وسلم- هنا بالرقة، وتصويره الأدبي بالقرب والتيسير، حيث يقول: "إني أعلمك كلمات" أي: يسيرات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 معدودات، مما يعيّن على تحريك الانتباه، وتفتح القلب؛ فيستقرّ مغزاه في القلب والعقل معًا. 6- بلغ التعبير الأدبي الغاية في تصوير الطاعة لله عز وجل، والالتزام بالمحافظة على حدوده، ومما يستحق عليه الجزاء الأوفى من ربه؛ فيتحقَّق المراد ويطمئنُّ القلب في ثقة وإقدام، وذلك في قوله: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك". 7- أن يغرس في نفوس الأطفال الاعتداد بأنفسهم وعدم التواكل أو الاعتماد على البشر، لأنهم لا يدفعون عن أنفسهم الضرر، ولا يجلبون لأنفسهم النفع، فكيف يكون ذلك لغيرهم، بل يجب الاستعانة بخالق البشر والخلق جميعًا؛ فهو وحده النافع أو الضار، وقد قضى الله -عز وجل- بذلك منذ الأزل، فقد "رفعت الأقلام وجفَّت الصحف"، وذلك في تصوير أدبي من جوامع الكلم، يتزاحم بالقيم الكثيرة والمعاني الغزيرة على الرغم من الإيجاز في الأسلوب وقلَّة الألفاظ، فلا زالت الوصية تثير كثيرًا من القيم الخلقية والفنية الخالدة في تأديب الأطفال والسموّ بهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وصية لقمان لابنه : ومن وصايا القرآن الكريم التي أعجزت الفصحاء في بلاغتها، وأثرها الإيجابي في تربية الأطفال وتأديبهم بأدب القرآن الكريم، وتجاوبهم مع أخلاقه الخالدة: وصية لقمان لابنه وهو يعظه؛ فهي درس خلقي وأدب رباني، لا زال يعطي لأطفال كل عصر ما يتناسب مع حضارته ومعطياته، ولكل جيل ما يهيئه ويعدُّه إعدادًا قويًّا صالحًا، يتجاوب مع هذه الحضارة وتلك المعطيات الحيَّة؛ بخلود القرآن الكريم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وازدهار حضارته، وأصالة قيمه الخلقية والبلاغية؛ قال تعالى: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ، وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ، وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ، يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ، يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ، وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 13-19] . في هذا التصوير القرآني المعجز في بيان بلاغي أخاذ، يرسي قيمًا خلقية وتشريعية لعلاقة النشء مع ربِّه في قضية التوحيد وعدم الشرك بالله، وعلاقة النشء مع نفسه، وعلاقته مع والديه وأسرته، وعلاقته مع مخلوقات الله، كما توضح علاقة الأب بأبنائه منذ المراحل الأولى في حياته، فهو مسئول عن رعيته يرعاهم، ويرشدهم بأسلوب يفيض رقَّة وعطفًا وحنانًا، ويخاطب به العاطفة والعقل والمشاعر والوجدان؛ في بناء لجسده القوي، وتهذيب للروح الصافية، في توازن واتِّزان بينهما على السواء، وبذلك تصلح الأسرة؛ لتكون خلية حية وقوية في تشكل المجتمع الإسلامي قويًّا عزيز الجانب؛ فيسمو بحضارة الإسلام المتجدّد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 في كل عصر ولكل جيل؛ لذلك احتوت الوصية على معالم رئيسة في بناء الطفل، وتكوينه على أسس قوية تجمع بين هذه العلاقات المختلفة: 1- تصور الوصية قضية التوحيد وإخلاص العقيدة لله وحده لا شريك له؛ فالشرك بالله ظلم عظيم وجرم كبير. 2- تصور الوصية ما يجب على الأطفال من البر والطاعة في غير معصية للوالدين، ومصاحبتهما بالمعروف، مهما اختلفت أحوالهما وعلاقاتهما عرفانًا بالجميل، وإنصافًا لأصحاب الفضل عليهم. 3- الحرص على طاعة الله وتوحيده، وطاعة الوالدين والبر بهما في الحياة كلها؛ فلا يهمل ذلك أو يغفل عنه؛ لأنه محاسب على ذلك عندما يرجع إلى ربه، فالله وحده خلقه وأماته وأعاده إليه ليحاسبه على تفريطه وعصيانه. 4- تصور الوصية مراقبة الله له في كل حين، وإحاطته بكل شيء؛ ليغرس في نفسه منذ المراحل الأولى للطفولة غريزة المراقبة والحضور والخوف، والتدبر، والتفكير العميق، والاهتمام والعزيمة الصادقة، والمتابعة والتواصل، وذلك في تصوير تهتزُّ له العاطفة، ويمتلأ به الوجدان والقلب رهبة ورغبة {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ} . 5- تنمية القيم الخلقية والعلاقات الاجتماعية التي تحييها وتجدِّدها: أداء الصلاة، ومواصلة الصبر في المعاملة مهما كانت الشدائد والعقبات، والحرص على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ ليؤدِّي الطفل دوره الفاعل في بناء نفسه، ولا يقصر في تقدم مجتمعه ورفعته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 6- تصور الوصية قيمًا خلقية سامية، يتعامل بها مع المجتمع من حوله، فلا يؤذي مشاعرهم، فيصدر عنه ما يكرهونه، أو يفرق وحدتهم، ويفسد المودَّة بينهم؛ فتنفره من الكبر والخيلاء والإعجاب بالنفس وهتك الحرمات، والخوض في أعراض الناس وتلويث البيئة بالأفعال القبيحة والصور المنفرة والأصوات المزعجة، وذلك في صور يهتزّ لها الوجدان، وينخلع منها القلب، وتتفق مع الفطرة والعقل جميعًا {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا} . 7- تؤكِّد الوصية أن القيم الإنسانية والخلقية تتفق مع فطرة الإنسان في كل عصر، ولكل الأجيال؛ فما أوصى به لقمان في الماضي البعيد أقرَّه الإسلام، ولا زال يقره ويحث عليه في الحياة الدنيا؛ لأنها قيم ثابتة وحية ترتبط بوجود الإنسان وحياته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 أدب الإسلام في استئذان الأطفال : حث الإسلام على إفشاء السلام، وتبادل التحية بصفة عامة لإشاعة السلام والأمن، ونشر المحبة، والتعاون على البر والتقوى، لا الإثم والعدوان، قال تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا} [النساء: 86] ، {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ، إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ} [الذاريات: 24-25] ، وعن كلدة بن الحنبل -رضي الله عنه- قال: أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فدخلت عليه ولم أسلم، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ارجع فقل السلام عليكم أأدخل" رواه أبو داود والترمذي، وكذلك الاستئذان في الدخول على الآخرين، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 27-28] ، وعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إنما جعل الاستئذان من أجل البصر" رواه البخاري ومسلم، وقال تعالى: {فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} [النور: 61] ، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا بني إذا دخلت بيتك فسلم يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك" رواه الترمذي، وعن أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "الاستئذان ثلاث، فإن أُذن لك وإلا فارجع" رواه البخاري ومسلم، هكذا حثَّ الإسلام على أدب إفشاء السلام وتبادل التحية بين الناس، مؤكدًا على أن يبدأ به الصغير على الكبير توقيرًا له وعرفانًا بفضل الله عليه. لكن أدب استئذان الأبناء والأطفال في الدخول على آبائهم وأمهاتهم داخل البيوت، وعلى غيرهم من باب أولى، فقد صوَّره القرآن الكريم تصويرًا بلاغيًّا معجزًا ليحدِّده في أوقات ثلاثة فقط، وما عداها فمجاله مفتوح غير مقيد به في غير ذلك من الأوقات؛ لأن هذه الأوقات الثلاثة يجنح الإنسان فيها إلى عدم المكاشفة، ويميل إلى التكتم والراحة، ويتخفف من ثيابه، ويفضي إلى نفسه بأسرار لا يحب أن يطلع عليها غيره، أو يستغرق في التأمل والتدبر، أو في النوم؛ فيكره أن يزعجه أحد بالدخول ولو كان ابنه؛ ليتجدد نشاطه بعد ذلك، ويعيد إلى الجسد طاقته وحيويته؛ فيباشر أعماله في دأب ونشاط؛ لذلك كان من الواجب على الأطفال أن يتأدبوا بأدب الإسلام، ويتخلقوا بخلق القرآن الكريم والسنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 الشريفة، يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58-59] ، وهذه القيم الحضارية -التي أدَّب بها القرآن الكريم والسنة الشريفة- أدب رباني أبهر العقول، وباتت مبهورة بهذا التشريع السماوي الذي يتفق مع الأدب الجم، والذوق الرفيع، والرقي الإنساني، وسمو المبادئ الإنسانية التي اصطفى بها الله -عز وجل- هذه الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس؛ فيعمّ الخير والبركة على من ألقى السلام والتحية وآنس الاستئذان، وعلى من ردَّ التحية والسلام وسمح بالدخول: {تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً} ، "يكن بركة عليك وعلى أهل بيتك"، "رجل دخل بيته بسلام فهو ضامن على الله"، ومن كان الله ضامنه وكفيله فلن يتعرض للأذى مطلقًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 أدب القصة القرآنية والنبوية للأطفال : تسيطر القصة بعناصرها الفنية على الأطفال، ويرغبون فيها أكثر من الأجناس الأدبية الأخرى، فيستغرقون فيها حتى النهاية، ربما في جلسة واحدة، مهما طالت، وذلك لبنائها الفني المحكم، الذي يعتمد على تطور الأحداث، وفاعلية الحركة، وحيوية عناصر التشويق، والإثارة، وتوقع الحلول، والرغبة في الخروج من الأزمة، لذلك تعامل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 بها القرآن الكريم مع أهل الكفر والعناد في مكة غالبًا؛ لينفذ إلى أعماقهم من جميع منافذ الإدراك في النفس؛ لئلا يكون لهم حجة بعد قصص الرسل وغيرها؛ فهم في عنادهم أشبه بالأطفال في قلة حيلتهم، وضعف موارد التلقي والاستيعاب عندهم، لذلك غلبت القصة على التنزيل في مكة المكرمة، وقد ضربت القصة القرآنية المثل الأعلى في الإثارة والتشويق، وجلال التعبير، ومثالية القيم الخلقية؛ فانبهرت بها عقول الأطفال، وأخذت بتلابيب عواطفهم، واستجابت لها وجداناتهم تأثرًا واقتناعًا، وخاصة القصص التي تثير فيهم مراحل طفولتهم المبكرة، وقد وصلت أحداث مراحلها إلى الإعجاز، الذي فوق طاقة البشر: مثل قصة طفولة موسى -عليه السلام- وإلقائه في اليم، ونجاته على يد عدوه اللدود فرعون؛ ليصير ولدًا حميمًا في معية أسرته، كما جاء في سورة القصص وغيرها، قال تعالى: {نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ، إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ، وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ، وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ، وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ، وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ، وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ، فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} الآيات إلى آخر سورة القصص. إن قصص القرآن لا يحتاج منا إلى تعليق أو توضيح للأطفال أو لغيرهم، لأن الإعجاز فيها جعل القرآن كله يفهمه الجاهل والعالم والطفل والشاب والشيخ، مصداقًا لقوله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا} [الكهف: 54] ، {وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا} [الفرقان: 50] ، وكذلك قصة يوسف وإخوته مع أبيهم يعقوب -عليهم السلام، قصة صراع الأبناء مع الأباء والأخوة مع بعضهم، صراع بين الحق والباطل، وبين الخير والشر، في قصة كاملة جاءت في سورة كاملة وهي سورة يوسف -عليه السلام، نحيل القارئ إليها، فقد وصف القرآن الكريم قصصه بقوله في مفتتح هذه السورة: {الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ، إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ، نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ، إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ، قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ} الآيات إلى آخر سورة يوسف، وكذلك قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام في سورة مريم وفي غيرها من السور الكثيرة، وقصة زكريا ويحيى عليهما السلام، وقصة إسماعيل مع أبيه إبراهيم في الرؤيا عليهما السلام، وغيرها من القصص الكثيرة التي جاءت في القرآن الكريم. أما القصة في الحديث النبوي الشريف فكانت مصدرًا ثانيًا من مصادر الأدب الإسلامي في تربية الأطفال وتأديبهم بأدب النبوة، فقد جاءت متنوعة تعتمد على الإثارة والتسشويق، وأحيانًا تنتهي الأزمة فيها بخوارق العادات، وكانت لونًا بديعًا من ألوان الدعوة الإسلامية، فهي تدعو إلى تثبيت العقيدة، وتفسر القرآن وتنفر من الشر، وتحذر من الباطل، وتحض على الخير، وتدعو إلى الحق، وتحث على الفضيلة، وتنفر من الرذيلة، وتحبب الطاعة، وتكره الكفر والقسوة والعصيان، فيترك ذلك أثره في عاطفة الأطفال، فتنفرهم من الشر والقبيح، وتغريهم بمحبة الخير والحق، وقد وردت في الأسانيد الستة وغيرها قصص كثيرة، منها قصة أصحاب الغار "أخرجها البخاري 526/ 4"، وقصة الأبرص والأقرع والأعمى "أخرجها مسلم 97/ 18"، وقصة الذي يدور في النار "صحيح مسلم 118/ 18"، وقصة إبراهيم وآزر "أخرجها البخاري 169/ 4"، وقصة الكفل "أخرجها أحمد بن حنبل رقم الحديث 4517"، وقصة المستلف ألف دينار "أخرجها البخاري 125/ 12"، وقصة الغلام والساحر، فعن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كان فيمن قبلكم ملك، وكان له ساحر، فلما كبر قال للملك: إنني قد كبرت فابعث إلي غلامًا أعلمه السحر؛ فبعث إليه غلامًا يعلمه؛ فكان في طريقه إذا سلك راهب قعد إليه، وسمع كلامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 فأعجبه؛ فكان إذا أتى الساحر مرَّ بالراهب، وقعد إليه؛ فإذا أتى الساحر ضربه، فشكا ذلك إلى الراهب وقال: إذا خشيت الساحر فقد حبسني أهلي، وإذا خشيت أهلك فقل حبسني الساحر، فبينما هو كذلك إذا أتى على دابة عظيمة قد حبست الناس؛ فقال اليوم: أعلم الساحر أفضل؟ أم الراهب أفضل؟ فأخذ حجرًا فقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها فقتلها، ومضى الناس، فأتى الراهب فأخبره، فقال له الراهب: أي بني: أنت اليوم أفضل مني، قد بلغ من أمرك ما أرى، وإنك ستبتلى، فإن ابتليت فلا تدل علي، وكان الغلام يبرئ الأكمه والأبرص، ويداوي الناس من سائر الدواء؛ فسمع جليس الملك وكان قد عمي، فأتاه بهدايا كثيرة، فقال: ما هاهنا لك أجمع إن أنت شفيتني، فقال: إني لا أشفي أحدًا، وإنما يشفي الله، فإن أنت قد دعوت الله شفاك، فآمن بالله فشفاه الله، فأتى الملك فجلس إليه كما كان يجلس؛ فقال له الملك: من ردَّ عليك بصرك؟ فقال: ربي؛ فقال: أولك رب غيري، فقال: ربي وربك الله، فأخذه؛ فلم يزل يعذبه حتى دلَّ على الغلام؛ فجيء بالغلام، فقال له الملك: أي بني قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه والأبرص، وتفعل وتفعل؟ فقال: إني لا أشفي أحدًا، وإنما يشفي الله، فأخذه، ولم يزل يعذبه حتى دلَّ على الراهب، فجيء بالراهب، وقيل له ارجع عن دينك، فأبى فأتى بالمنشار، فوضع المنشار في مفرق رأسه فشقه حتى وقع شقاه، ثم جيء بالغلام، فقيل له ارجع عن دينك؛ فأبى، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال لهم اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصعدوا به الجبل؛ فإذا بلغتم ذروته؛ فإن رجع عن دينه، وإلا فاطرحوه، فذهبوا به، وصعدوا به إلى الجبل، فقال: اللهم اكفينهم بما شئت، فرجف بهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 الجبل فسقطوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله، فدفعه إلى نفر من أصحابه، فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور، وتوسطوا به البحر، فإن رجع عن دينه وإلا فاقتلوه، فذهبوا به فقال: اللهم اكفينهم بما شئت، فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، وجاء يمشي إلى الملك، فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ فقال: كفانيهم الله، فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به، قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد، وتصلبني على جذع، ثم خُذْ سهمًا من كنانتي، ثم ضِعْ السهم في كبد القوس، ثم قل: بسم الله ربِّ الغلام، ثم ارمني؛ فإنك إن فعلت ذلك قتلتني، فجمع الناس في صعيد واحد، ثم صلبه على جذع، ثم أخذ سهمًا من كنانته، ثم وضع السهم في كبد القوس، ثم قال: بسم الله رب الغلام، ثم رماه، فوقع السهم في صدغه؛ فوضع يده في صدغه في موضع السهم فمات، فقال الناس: آمنا برب الغلام، آمنا برب الغلام، فأتى الملك، فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر؟ قد والله نزل بك حذرك، قد آمن الناس، فأمر بالأخدود في أفواه السكك، فخُدت السكك، وأضرم فيها النار، فقال: من لم يرجع عن دينه فاحموه فيها، أو قيل له اقتحم، ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها، فتقاعست أن تقع فيها، فقال لها الغلام: يا أمَّه اصبري فإنك على الحق" أخرجه مسلم 130/ 18. واجتمعت في هذه القصة عناصر الإثارة والتشويق وسرد الأحداث في نمو وتطور، وتشابكها حتى تصل إلى العقدة والأزمة التي تدفع القارئ إلى البحث عن الحل والانفراج منها في شوق ولهفة، وإذا بالأقدار تتدخل لكي يأتي الحل فيها كرامة تجري على أيدي عباد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الصالحين، ومن خلال العرض الأدبي تظهر أهداف القصة السامية، وتتحدَّد فيها معالم القيم الخلقية والإنسانية، التي تستثيرها القصة في عاطفة الأطفال، وتحرك مشاعرهم نحوها بالإعجاب والحب والدفاع والسلوك السيء، فيتأدبون بأخلاقها، وينشدون قيمها، ويبدعون في أعمالهم الأدبية على مثالها، أو يجندون أنفسهم للدعوة بمنهجها الفني والإسلامي، وقد سبق أن أوجزنا الجانب الفني، وهذه هي القيم الخلقية بإيجاز أيضًا: 1- التمسك بالعقيدة الصحيحة، وهي الإيمان بالله -عز وجل- وحده لا شريك له. 2- انتصار العقيدة الصحيحة، ليحق الله الحق ويبطل الباطل ولو كره الكافرون، وذلك حين آمن الناس جميعًا برب الغلام على الرغم من أنف الملك. 3- التحلِّي بأخلاق الصدق، ولو أدَّى ذلك إلى العنف والشدة والقسوة؛ فإن الله سيتولى عباده الصادقين، وينتصر للحق وأهله الذين يدافعون عنه بصدق وإخلاص. 4- التحذير من الشَّر والتنفير من الباطل والترغيب في الخير، والحث على الحق. 5- السعي في سبيل تحقيق الغاية الشريفة والوصول إلى القصد النبيل. 6- أن حاشية الظلم والشرك ومصاحبة الأشرار تجر عليهم الخيبة، فيستحقوا الجزاء الوخيم والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 7- الصراع بين جنود الشيطان وجند الله -عز وجل- لا يخلو منه عصر مما يدفع الأطفال إلى التمسك بالمبادئ السامية، والعقيدة الصحيحة؛ للانتصار بها على حزب الشيطان {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ} . 8- حثّ الأطفال على التعليم النافع، وتحصيل المعارف والعلوم، التي تعين على طاعة الله -عز وجل، وتنصر الحق وتحثُّ على الخير، وتحارب الشر والباطل. 9- الإيمان الصادق بأن الله -عز وجل- يؤيِّد عباده الصالحين، ويدافع عنهم {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} . 10- الإيمان بما جاء به الإسلام والنبي -صلى الله عليه وسلم- بأن المعجزة للأنبياء والرسل، ولم يبقَ منها بعد خاتم الأنبياء إلا الكرامة للصالحين من عباد الله عز وجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 المنهج الإسلامي في تربية النشء ومراحله مدخل ... المنهج الإسلامي في تربية النشء ومراحله: منهج الإسلام في تربية النشء هو تشريع من الله عز وجل، قائم على الشمول والعلم واليقين، قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ، ولم ينطلق من نظريات بشرية قاصرة، تقوم على الظن والفرض والتخمين فتتلاشى يومًا بعد يوم، قال تعالى: {وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النجم: 28] ، {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ، إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [الأنعام: 116-117] ، {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23] ، وسلوك الإسلام في تهذيب الإنسان ينساب من قيم سامية شرعها مبدع الفطرة الإنسانية {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] ، فلن يشب النشء قويًّا في تكوينه وجسده وعقيدته وخلقه وفكره ووجدانه إلا إذا سلك منهج الإسلام في التربية؛ ليكون خير وأحب إلى الله، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف"، وتميز الإسلام بتمامه وشموله، ليتلاءم مع العقل البشري، والنشاط الإنساني الحضاري في كل بيئة وعصر، مهما بلغت البشرية من الكمال في العقل والفكر، واتزان العاطفة والوجدان، وتلازم الروحية والمادية على السواء، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] ، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، والقرآن الكريم هو الذي احتوى منهج الإسلام وتعاليم الشريعة، واشتمل على مكارم الأخلاق السامية، كما وصفت ذلك بدقة وشمول أم المؤمنين عائشة بنت أبي بكر الصديق رضي الله عنه، فقالت عن القرآن الكريم، وعن النبي -صلى الله عليه وسلم: "كان خلق النبي -صلى الله عليه وسلم- القرآن الكريم"، لهذا لا تجد شريعة اهتمَّت ببناء النشء بناء كاملًا مثل شريعة الإسلام، ولا تجد دينًا اعتنى بتكوينه تكوينًا صحيحًا مثل دين الإسلام، ولا تجد حضارة عملت على تهذيبه تهذيبًا أخلاقيًّا ساميًّا مثل حضارة الإسلام، وذلك من خلال مجتمعه الصغير "الأسرة"، ومن خلال مجتمعه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 الكبير "الأمة الإسلامية". فأما تربية النشء من خلال المجتمع الصغير وهو "الأسرة"؛ فالشريعة الإسلامية اهتمت به، لا بعد وجود الإنسان من العدم فحسب، بل اعتنت به كذلك وهو في حالة العدم وقبل أن يوجد في بطن أمه، وذلك في مراحل على النحو التالي: 1- أسس المنهج الإسلامي في تربية النشء ومراحله. 2- في مرحلة العدم حين الخطبة واختيار الزوجين. 3- قبل أن تحمل الأم به. 4- رعايته أثناء الحمل في بطن أمه وهو جنين. 5- حسن استقباله وقت الولادة. 6- في الأسبوع الأول من الولادة. 7- الغذاء الكامل في "الرضاعة". 8- الحضانة والقلب الرحيم للوالدين. 9- مدارج التربية ومنازل الرعاية. 10- مرحلة التعليم والتعلم. 11- مرحلة الشباب. 12- مرحلة المراهقة. 13- مرحلة النضج. 14- مرحلة الرجولة. 15- معرفة العرفان بالجميل والوفاء. وسنذكر كل مرحلة من هذه المراحل بإيجاز لتظهر ملامح السمو والمثالية في منهج الإسلام لممارسة السلوك البشري، وبناء النشء المسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 على أكمل وجه، وأجمل صورة، قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] ، وقال أيضًا: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 14] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 مرحلة العدم أثناء الخطبة الزوجية : لكي يحافظ الإسلام على النشء وهو في مرحلة العدم قويًّا صالحًا، اعتنى به عناية كاملة، فأعطى للزوجين أثناء الخطبة حق الاختيار، بأن يرضى كل منهما عن الآخر، وليس هذا الاختيار والرضا لذات الزوجين فحسب، بل لمراعاة نتاجهما من الأولاد الأصحَّاء الأقوياء الصالحين، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "تخيَّروا لنطفكم فإن العرق دسَّاس"، فالزوجان اللذان يرجعان إلى أصل طيب ونسب طاهر، وخلق فاضل، يكون نتاجهما كذلك، يشرب من نفس النبع الصافي، وتترقرق في نفسه الأصالة العريقة، وإن كان غير ذلك فتكون الكارثة، قال تعالى: {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} [النور: 26] ، وقال تعالى: {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ} [الأعراف: 58] ، لذلك كان أساس الاختيار في الإسلام هو الدين والخلق فيما روى أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "تنكح المرأة لأربع: لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك"؛ لأن ذات الدين تخشى الله تعالى، وتعرف حدود شريعته، والواجبات التي ينبغي أن تؤديها، ثم بعد الدين تكون المفاضلة في الصفات الأخرى من باب الأفضل والأولى، فإن تحقَّقت فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ونعمت، وإلا فيكفي الدين والخلق، وهذه الصفات: أن تكون من بيت معروف بالدين والصلاح، وأن تكون ودودًا ولودًا، فعن أنس -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة"، وأن تكون الزوجة بكرًا، لقوله -صلى الله عليه وسلم- لجابر -رضي الله عنه: "هلَّا بكرًا تلاعبها وتلاعبك" متفق عليه، وأن تكون جميلة، فالجمال أغضُّ للبصر وأكمل للمودة، وأسكن للنفس، وأعفُّ للسان، وألزم للحياء، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قيل يا رسول الله أي النساء خير، قال: "التي تسره إذا نظر وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا في ماله بما يكره" رواه أحمد والنسائي، وأن ينظر إليها إن تيسر له ذلك، دون أن تعلم مقصده، وهذا أفضل حتى لا ينكسر قلبها فيما لو تراجع عن خطبتها، أمر النبي -صلى الله عليه وسلم- المغيرة بن شعبة أن ينظر إلى خطيبته، فقال: "انظر إليها فإنه أحرى أن يُؤدم بينكما"، وقال جابر -رضي الله عنه: "خطبت جارية من بني سلمة، فكنت أتخبأ لها حتى رأيت منها بعض ما دعاني إلى نكاحها"، قال تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} . أما المخطوبة فقد حثَّها الإسلام أن يكون خطيبها قادرًا على تكاليف الزواج وأهلًا لتبعاته ومسئولياته، وتائقًا له، قال تعالى: {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ} [النور: 33] ، وقال -صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" والباءة: القدرة، والوجاء: الحفظ، وأن يكون خطيبها كفئًا في نفسه وجسده، وقويًّا في دينه وعقله، وحسنًا في خلقه وسلوكه، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] ، وقال -صلى الله عليه وسلم: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فأنكحوه وإلا أن تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد كبير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وكذلك لا بدَّ من التقارب النفسي والفكري بين الزوجين، مما يعين على المشاركة والتجاوب فيما تقضيه الأسرة والحياة الزوجية، ليستقبل النشء حياة سعيدة مملوءة بالأمن والرخاء والسكن والمودة، والرحمة والحب والتعاون، كما قال الله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 بعد الزواج مباشرة : الإسلام في هذه المرحلة يسلك منهج الإعداد والتهيئة الصالحة للزوجين، وترويضها على التوافق والانسجام، ليصيرا معًا قدوة حسنة، ينجذب إليها النشء في مجال التأثر والتأثير، وهذا المنهج يقوم على دعائم من أهمها: "السكن في قوله تعالى: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} ، ويشمل السكن الحسي والمعنوي من إباحة الخلوة في سكن يضم الزوجين في تحفظ وحياء ومودة، قال تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] ، ويشمل دوام الاستقرار والأمن والرعاية والسعادة والرضا والقبول، ومعرفة الحقوق والواجبات. المودة والرحمة في قوله تعالى: {وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَة} التي ينميها الزواج، ويرعاها الزوجان بعد استقرارهما في سكن الحياة الزوجية، ويرفض كل الرفض ما عليه أصحاب العشق والغرام والتجارب والخيلات والخدان قبل الزواج، وغير ذلك مما انحرف إليه بعض شباب العرب في سقوط وانحلال تابعين للمدينة الغربية الفاسدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 أن تظهر الزوجة دائمًا لزوجها في أكمل صورة تحفظ استمرار الحياة الزوجية {فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] ، قيل: يا رسول الله: أي النساء خير، قال: "التي تسرُّه إذا نظر، وتطيعه فيما أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا في ماله بما يكره". "حسن المعاشرة: حتى لا تنفصم عُرى الحياة الزوجية، قال تعالى: {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19] ، {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [البقرة: 228] ، ويتخذ كل وسائل الإصلاح حتى لا تتصدَّع الحياة الزوجية حرصًا على تربية الأبناء، قال تعالى: {وَاللاّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا، وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء: 34-35] ، {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء: 128] . مواصلة العمل الصالح ليبني الزوجان أفراد الأسرة بناء صالحًا، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] ، وقال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة: 71] . لهذه الهيئة الصالحة الطاهرة يسير في إطارها الأولاد على نفس المنهج والقدوة، تابعين لهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور: 21] ، وهذه الآيات وغيرها تهدف إلى توفير الاستقرار النفسي والعصبي، والأمن الاجتماعي والاقتصادي للرجل والمرأة، ثم تهيئة الجو الصالح لتنشئة الأجيال على أحسن حال، والجو الهادئ الآمن المستقر هو الذي يعطي الثمرة المرجوة، والحياة السعيدة المجردة من التيه والاضطراب والقلق النفسي والروحي والعصبي والفكري، وتقضي على الكراهية والشحناء والعداوة والبغضاء، وقد جاءت المعاني كلها وأكثر منها مما يعلمه الله ولا نعلمه، في إيجاز معجز لقوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُم} [البقرة: 223] ، فالحرث يقتضي أن تكون الأرض خصبة معطاءة، وأن يتجاوب معها الفلاح باختيار البذرة الصالحة، وأن يصلح الأرض ويحرثها، وينقيها ويرويها ويرعاها، ويقيها ويسمدها، ويحافظ عليها وعلى ما فيها وهكذا، حتى تزهو وتثمر وتنضج، وتحصد لذة للآكلين، كذلك الشأن في الحياة الزوجية تمامًا، إنه القرآن الكريم؟!! وبعد هذه المدرسة العملية والسلوك الإسلامي ينشأ الطفل في هذا المحيط الصالح، يتغذَّى فيه بروح الإسلام وشفافيته وصفائه، ويعيش في واقعه عمليًّا، ويتلقى تعاليمه ويمارسها بنفسه سلوكًا قويمًا مقتادًا بأبويه، لأن الإسلام ليس أمنية تتردَّد في الرأس، ولا ميراثًا يلقى بلا عمل ولا مجهود، قال تعالى: {لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا، وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 123-124] ، وقال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ} [الأعراف: 169] ، ويتقلب الطفل في هذا المحيط الإسلامي بمنهجه العملي بين مراحل العطف والضبط، والقدوة والتلقين ربانيًّا وبوسائل تروبية أخرى، ولم يأتِ دور هذه المراحل بعد. وحثَّ الإسلام أيضًا على مداعبة الزوجة وملاعبتها، وتهيئتها نفسيًّا وفكريًّا وروحيًّا، ليتم التجاوب النفسي والفكري بينهما، والتفاعل العاطفي، والصفاء الروحي في علاقتهما، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- عن جابر -رضي الله عنه: "هلَّا بكرًا تلاعبها وتلاعبك"، ولذلك يولد الطفل قويًّا في جسده وعقله وتكوينه وخلقه ودينه، وهذه الصفات الكاملة والأخلاق الفاضلة يؤكدها ويوضحها هذا الحديث الشريف الذي رواه ابن عباس -رضي الله عنه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لو أن أحدهم أراد أن يأتي أهله قال: باسم الله اللهم جنّبني الشيطان، وجنب الشيطان ما رزقت، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك، لم يضره شيطان أبدًا" أخرجه البخاري 11/ 191، وفي رواية أخرى لابن عباس أيضًا: "أما لو أن أحدهم يقول حين يأتي أهله: بسم الله اللهم جنبني الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا، ثم قدر بينهما في ذلك وقضي ولد، لم يضره شيطان أبدًا" أخرجه البخاري 9/ 228، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 وحرصًا على سلامة النشء وبراءته من المرض والضعف، فقد حث الإسلام الرجل على ألا يباشر زوجته أثناء الحيض أو النفاس، لأن ذلك يعود بالضرر الصحي على الزوج وعلى الزوجة صحيًّا ونفسيًّا في هذه الليلة. وجاء علم التشريح والطب ليقرِّر هذا في المجال العلمي والعملي، وما خفي عليهم من علَّة تحريمهم المباشرة أثناء ذلك أعظم وأكبر مما يتعلَّلون به الآن وفي المستقبل، قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 222- 223] ، فالآية تحثُّ على الوقاية من المرض، والحفاظ على الأسرة آباء وأولادًا في صحتهم وأبدانهم، والحرص على الملاطفة والمداعبة في التقديم للإتيان، فالمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وتحثّ أيضًا على أن تبقى المرأة دائمًا في صورة جميلة غير منفِّرة حينما تكون طاهرة من هذا الدم ورائحته وطبيعته، فلا تهتزّ صورتها هذه في أي وقت من الأوقات التي يجب أن يراها فيها زوجها على أحسن حال، لتدوم العشرة، وتتواصل المحبَّة والمودة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 أثناء الحمل وهو جنين حتى الولادة : تعهد الإسلام الجنين في بطن أمه بالتغذية والحفظ والرعاية، وهو نطقة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم خلقًا آخر في أحسن تقويم، فتبارك اللهأحسن الخالقين، فحرم الإسلام إجهاض الجنين، وكل عمل يؤدي إلى سقوطه أو إهلاكه أو إزهاق روحه، فقد صار روحًا وجسدًا له حقوق الإنسان الذي يمشي بين الناس، وحرماته التي تعرض المعتدي إلى غضب الله عز وجل، ورفع الإسلام عن أمه المشقة، وبذل الطاقة التي تعود عليها بالأذى والضرر، فرخص لها الإفطار في نهار رمضان خوفًا عليه فيهلك، وعلى أمه فتضعف أو تصاب بأذى، وأمر الإسلام الزوج بالإنفاق على زوجه الحامل، وأن يجعل معيشتها في سعة حسب طاقته وقدرته، فلا يضيق عليها، ولا يكلفها ما لا تطيق خوفًا عليها وعلى الجنين، قال تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6] ، وبذلك ينال الجنين حقه من الغذاء وهو في بطن أمه، بل إن غذاءه هو خلاصة الطعام الذي يبني خلايا جسمه من غير أن يمرَّ بمراحل التنقية، كما ينال حقَّه أيضًا من الحفظ والرعاية، فيقدم إليها البلح والرطب والتمر، فإنه يعين على نضج الجنين واكتمال صورته، ويقوي الطلق أثناء الوضع، ويسهل التوليد كما أشار إلى ذلك القرآن الكريم والطِّبّ الحديث، قال تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا، فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا} [مريم: 25-26] ، كما حثَّ الإسلام على حسن استقبال الطفل ساعة ولادته، فتظل القابلة في ذكر دائم لله عز وجل، وفي شكر دائم وثناء متواصل على بديع صنعه، وقدرة البارئ المصور في خلقه وإبداعه، قال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} [المؤمنون: 12- 14] ، ثم يشمّ الطفل ويقبَّل ساعة ولادته، ويكون أول ما يتلقاه سمعه في الدنيا هو ذكر الله عز وجل، فيؤذن له في أذنه اليمنى، ويترتدَّد أذان الإقامة في أذنه اليسرى، ليكون أول وارد على سمعه وقلبه ومنافذ الإحساس فيه هو ذكر الله تعالى، الذي أقر بوحدانيته، وأسلم لخالقه وهو في عالم الذر والغيب قبل أن تحل روحه بجسده كما قال الله عز وجل: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 حق الرضاعة والغذاء : حثَّ الإسلام على توفير وسائل الغذاء بعد ميلاد الطفل، وتهيئة مصادره المختلفة بما يتناسب مع مراحل نمو الطفل، فأوجب على الأسرة الرضاعة، وأولى بها الأم، فهي عليه أعظم عونًا، وأشد عطفًا وحنانًا، وأقرب رعاية وحفظًا، فإن لم يتيسر عندها الغذاء لجفاف اللبن أو لقلته، اختبر له أجود المرضعات من النساء المتفرغات، فإن تعذرت الرضاعة الطبيعية وهي الأفضل والأولى، لجأت الأسرة إلى الرضاعة الصناعية عن طريق اللبن الصناعي الطبي المعروف، وإن كانت له مخاطرة كبيرة سيتعرض لها الطفل، لأنها تحتاج إلى حذر وذكاء ويقظة شديدة، ومع ذلك لا يسلم من الأذى، ولقد أشاد الطب والعلم الحديث بالرضاعة الطبيعية بأنها لا نظير لها في نمو الطفل وسلامته، ويجب على الأسرة الإنفاق على الرضاعة وتوفير طاقتها بما يتناسب مع سعة الأسرة في النفقة، كما وضَّح ذلك سبحانه وتعالى في قوله الكريم: {أَسْكِنُوهُن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى، لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 6-7] ، بل جعل الإسلام حق الرضاعة والنفقة عليها حق للطفل يُورث فيجب على الورثة، قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] ، ويستمر الطفل في الرضاعة مدة عامين على الأكثر بعد ولادته، وتلك هي الرضاعة الكاملة التي ينمو فيها جسده نموًا طبيعيًّا وكاملًا، بما يتناسب مع كبر عمره يومًا بعد يوم، قال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 في الأسبوع الأول من الولادة : يظل الجنين وهو في بطن أمه في عالم بعيد عن الصخب، والضجيج، وتلاطم الحياة وعنقها، فقد لفَّه الرحم في هدوء واستقرار، وسكون وأمن، لأنه في ظلمات ثلاث، هي: 1- ظلمة البطن. 2- ظلمة الرحم. 3- ظلمة المشيمة. وكلها حواجز قوية تمنع من تسرب الأصوات المزعجة، وصخب الحياة وضجيجها، قال تعالى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} [الزمر: 6] ، فإذا خرج الجنين من الرحم استقبل الدنيا الجديدة بما فيها من أصوات وصخب وضجيج وأضواء، عند ذلك يستهلُّ صارخًا لهذه الحياة العنيفة التي لم يألفها من قبل، لهذا كان لا بد من رعايته بالهدوء والسكون، فنبتعد به عن الأماكن المزعجة، وتخفض الأضواء من حواليه، وترفق الأصوات التي نتعامل بها كلما أمكن إلى ذلك سبيلًا، فتلزم الدار في الأسبوع الأول من ولادته الهدوء والسكينة وخفض الأصوات والمسالمة، حتى لا يفزع الطفل ولا يضجر حين يستقبل دنياه الجديدة. ثم يختار له أحسن الأسماء، وأجملها وقعًا وتأثيرًا في النفس، وأعذبها في النطق، وأحلاهما على اللسان، وأولاها بالقبول والإعجاب، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "خير الأسماء ما عبد وحمد"، فالاسم القيح يعير به صاحبه وهو كبير، وربما قد تتأزم نفسه وتسوء معاملته مع إخوانه وأصدقائه أثناء المعاملة والمعاشرة، ثم يختفي به في اليوم السابع شكرًا لله -عز وجل- على هذه النعمة الجليلة نعمة الإنجاب، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وحفظ النوع البشري، فقد رزقه الله -عز وجل- بلسان يذكره ويوحده، وذلك بأن تذبح العقيقة، وهي على الأقل كبشان للذكر وكبش للأنثى، ويطعم منها الأقارب والجيران، والأصدقاء وخاصة الفقراء منهم، ليكون ذلك بمثابة الشكر والثناء على الله سبحانه وتعالى، الذي جعلهم زينة الحياة الدنيا، قال تعالى: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 46] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 الرضاعة : حث الإسلام على توفير وسائل الغذاء بعد ميلاده، وتهيئة مصادره المختلفة بما يتناسب مع مراحل نمو النشء، فأوجب على الأسرة الرضاعة بالإنفاق وحسن اختيار المرضعة، فيما لو جفَّ اللبن عند الأم وأن يستمرَّ الطفل مدة عامين يتناول فيهما لبن الرضاع حتى ينمو جسده نموًا طبيعيًّا وكاملًا يتلاءم مع كبره يومًا بعد يوم، وخصَّ الإسلام لبن الرضاعة دون غيره، لأنه هو الغذاء الكامل والطيب الذي لا بديل عنه في إعداد الطفل كما أمر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6-8] ، وقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] . ولقد أشاد العلم والطب الحديث بهذا، وما خفي عليه كان أعظم، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، قال تعالى -يوضح ذلك أكثر-: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا Results الرضاعة الرضاعة: حث الإسلام على توفير وسائل الغذاء بعد ميلاده، وتهيئة مصادره المختلفة بما يتناسب مع مراحل نمو النشء، فأوجب على الأسرة الرضاعة بالإنفاق وحسن اختيار المرضعة، فيما لو جفَّ اللبن عند الأم وأن يستمرَّ الطفل مدة عامين يتناول فيهما لبن الرضاع حتى ينمو جسده نموًا طبيعيًّا وكاملًا يتلاءم مع كبره يومًا بعد يوم، وخصَّ الإسلام لبن الرضاعة دون غيره، لأنه هو الغذاء الكامل والطيب الذي لا بديل عنه في إعداد الطفل كما أمر الله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار: 6-8] ، وقال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4] . ولقد أشاد العلم والطب الحديث بهذا، وما خفي عليه كان أعظم، {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ} ، قال تعالى -يوضح ذلك أكثر-: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة: 233] ، وقال تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى، لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} [الطلاق: 6-7] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 الحضانة : إذا كانت الرضاعة هي الغذاء والبناء، فالحضانة هي العنصر الفعال للحفاظ على هذا البناء والغذاء، فالحضانة ينبعث منه الدفء الذي يفيض على الطفل بالعطف والرقة واللطف والحنان، وكذلك تجاوب الأحاسيس والمشاعر وحرارة العاطفة وصدقها، ولذلك كانت الأم هي الأولى بالحضانة من الأب والرجل، لأن الصفات السابقة من طبيعة تكوينها البشري، التي فطرها الله عليها، وذلك أيضًا لكمال الشفقة عندها، كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "أنت أحق به ما لم تنكحي" رواه أبو داود، وحضانة الأم ثم أمها فالقربى تكون ضرورية وحتمية إذا حدث نزاع بين الزوجين، فقد قضى أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- بعاصم بن عمر -رضي الله عنه- لأمه، وهو يقول لعمر: "ريحها وشمها ولطفها خير له منك"، وحرصًا على سلامة التنشئة للطفل، وكمال الرعاية له، اشترط الإسلام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 في الحاضنة شروطًا، منها: 1- أن تكون الحاضنة مؤمنة، ومن له إيمان له، لا يؤتمن على شيء. 2- أن تكون أمينة عالمة بأحوال الطفل ومصالحه، فلا تكون منحرفة ولا خائنة ولا مستهترة ولا مستخفة. 3- أن تكون متفرغة للحضانة، فليست عاملة، حتى تهمل شئونه وحاجته، وكذلك لا تكون متزوجة فتشتغل بزوجها عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 التربية والتعليم 1: أولًا: ينبغي أن يكون أسلوب التربية والتعليم للنشء نابعًا من أساس الحياة الزوجية والغاية منها، كما هو جوهر الآية الكريمة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] ، فالأساس في الحياة الزوجية أن يبلغ الزوجان من التفاهم والتجاوب والتلاحم حتى يصير الاثنان شخصًا واحدًا، بدليل قوله تعالى: {خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} ، وقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} [البقرة: 187] ، وتأمل قوله: {مِنْ أَنْفُسِكُم} ولزوم اللباس للشخص تجد هذا المعنى وأكثر، والغاية من الحياة الزوجية تجدها في بقية الآية: {لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} ، فالسكن والأمن والاستقرار، والتجاوب والسعادة والهدوء، والاطمئنان والسلامة، والصحة والمودة   1 ألقيت في إذاعة الرياض بالسعودية في عام 1401هـ/ 1981م حين كنت أستاذًا مشاركًا في جامعة الملك سعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 والمرحمة، والتعاون والإخاء، والشفقة والاعتصام، كل هذه المعاني من عطاء الآية، بل عطاؤها أكثر، وهو الغاية من الزواج، لا بد إذن أن تنبع التربية والتعليم من هذا المنطلق في الآية، وهو أساس الزواج والغاية منه، وعند ذلك تكون التربية سلوكًا جادًّا، ويكون التعليم توجيهًا صادقًا سليمًا. ثانيًا: كذلك تكون التربية والتعليم نابعة من شعور الأبوين بالمسئولية أمام الله عز وجل، وأن التبرُّم منها والتخلِّي عنها يُعَدُّ خروجًا على طاعته، وتمردًا على محبة رسوله -صلى الله عليه وسلم، وينبغي في المسئولية عند الوالدين في التوجيه والتربية والتعليم والإصلاح أن تنطلق من تقوى الله عز وجل، والخوف من عذابه، والطمع في رضوانه، والحذر من نقمته، وهذا ما نراه واضحًا في هذه الآية الكريمة من أول سورة النساء: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} [النساء: 1] . ويتَّضح معنى المسئولة وخطرها فيما رواه ابن عمر -رضي الله عنه: قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته، فالأمير الذي على الناس راعٍ وهو مسئول عنهم، والرجل راع على أهله وهو مسئول عنهم، وامرأة الرجل راعية على مال زوجها وولدها، وهي مسئولة عنهم، وعبد الرجل راع على مال سيده وهو مسئول عنه، وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته" 1.   1 الموطأ: ص343. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 ثالثًا: أن تكون التربية والتعليم نابعة من منطق النصح والتوجيه قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ} [التوبة: 71] ، ونابعة أيضًا من منطق التعاون والمشاركة، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، ونابعة أيضًا من منطق التشاور والتجاوب، قال تعالى: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم} [الشورى: 38] . رابعًا: والتربية والتعليم حين يصدر عن الأبوين تكون نابعة من منطلق رعاية حدود الله وأوامره، فيقيمون مع أبنائهم جميعًا شريعة الله أمرًا ونهيًا، ويعرفون حدود الحلال والحرام، وكذلك الإحسان في العبادات والمعاملات، وفي الاجتماع والترفيه، ويعرفون أيضًا حدود الزينة وآداب الإسلام وخلقه، ومنهج الرسول وأصحابه في التربية. وإذا قامت التربية والتعليم على الأسس السابقة، أصبح المنهج في سلوك التربية والتعليم منهجًا يسير على الجادة، ويبني النشء بناء سليمًا صالحًا، ويتكون تكوينًا علميًّا وجادًّا، وخاصة وأن الطفل يولد على الفطرة الصافية المستقيمة، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [الروم: 30] ، وفيما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أوينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء" "متفق عليه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وكذلك فالنشء يُولد مستعدًّا للتوجيه والتربية والتعليم شيئًا فشيئًا، قال تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78] ، وهنا يجب على الأبوين وعلى المجتمع معًا أن يسلكوا جميعًا في تربية النشء وتعليمه منهج الإسلام تدريجيًّا على النحو التالي: 1- اعتنى الإسلام أولًا بالرعاية والحفظ للنشء، فأوجب على الأسرة الغذاء والكساء والحفظ. 2- وعلى الأسرة أن تغرس في نفس الطفل -منذ أن يتجاوب إحساسه مع أفراد الأسرة- معرفة الله عز وجل، الذي خلقه وأطعمه وسقاه، فإذا ما تفتح عقله وفكره أحيا في نفسه الإيمان بالله سبحانه، خالق الكون ومبدع الوجود؛ بطريق يتلاءم مع سنه كالقصة الخفيفة واللفتة إلى آثار صنع الله. 3- وعلى الأسرة بعد ذلك أن تنمي في نفسه غرائز الخوف، والمراقبة، والمحبة، والتدبر في ملكوت الله، وتوجيه هذه الغرائز توجيهًا سديدًا نحو طاعة الله واتباع أوامره، والتخلُّق بالأخلاق الفاضلة والسلوك الحسن. فأما غريزة الخوف: فتنمِّي في نفسه على أساس الخوف من الله -عز وجل- وحده، لا من الناس، لأن المخلوقات جميعًا كلهم محتاجون إلى خالقهم ورازقهم، ومدبر أمرهم، قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ} [الإخلاص: 1-2] ، وقال تعالى: {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} [الأحزاب: 37] ، وقال تعالى: {فَلَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} [المائدة: 44] ، وقال تعالى: {أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [التوبة: 13] ، فينطبع النشء على الخوف من الله عز وجل، والحذر من انتقامه وعذابه. وأما غريزة المراقبة: فعلى الأسرة أن تنمي غريزة المراقبة لله تعالى في كل تصرفاته وأقواله مع الله ومع الناس في السر وفي العلن فيعلم أن الله معه أينما كان: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر: 19] ، وهنا تحكي الأسرة للنشء قصة لقمان مع ابنه، ويذكر له قوله تعالى في ذلك: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16] ، بل مراقبة الله لا تفلت منها الذرة الواحدة، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [[الزلزلة: 7-8] . وأما غريزة المحبة: فتنمي فيه على أساس محبة الله ورسوله أولًا، لأن الله هو الذي خلقه من العدم، وتفضل عليه بسائر النعم ظاهرة وباطنة، ثم محبة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم، لأنه هو الذي قاده إلى الطريق المستقيم، وأخرجه من الظلمات إلى النور، قال تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران: 31] ، وكذلك محبة والديه الذين تعهداه وربياه وسهرا على راحته وأحبا له الخير ودوامه، وكذلك محبة أقارب الوالدين وأرحامهما، فهي من محبتهما وتكريمهما، قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: 36] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وكذلك محبة المسلمين جميعًا، لأنهم إخوته، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10] ، وقال النبي -صلى الله عليه وسلم: "المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشدُّ بعضه بعضًا"، وقال أيضًا: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى". وأما غريزة التدبُّر في ملكوت الله -عز وجل- تخرّج النشء من إسار التقليد الأعمى إلى بروز شخصيته في الاستقلال في الرأي والفكر، فلا يكون تابعًا للغير، يستجيب لكل صيحة، ويطير وراء كل هيعة، ويهيم خلف كل ناعق، ولهذا علمه الرسول الكريم الاستقلال بالرأي، فيختار الحسن، ويتجنَّب السيء، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا يكن أحدكم إمعه، يقول أنا مع الناس إن أحسن الناس أحسنت وإن أساءوا أسأت، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساءوا أن تجتنبوا إساءتهم" "رواه أبو داود وابن ماجه"، فيتعلم النشء التدبر في ملكوت الله، قال تعالى: {أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ، وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ، وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ، وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ} [الغاشية: 17- 20] ، وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24- 32] ، وقال تعالى: {أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 لَهَا مِنْ فُرُوجٍ، وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} [ق: 6-7] ، وقال تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 190] ، وقال تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا، وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا} [الفرقان: 61-62] ، وقال تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ، ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ، ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ، ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 12-16] ، وقال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} إلى قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [فصلت: 37-39] ، وهكذا آيات كثيرة في القرآن تدفع الإنسان إلى التأويل والتدبر، وتحكي قصة إبراهيم -عليه السلام- مع النجوم والكواكب، من أول قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} إلى قوله تعالى: {وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [الأنعام: 75-80] . 4- وعلى الأسرة أن تروِّض النشء على الصلاة إذا بلغ الطفل سبع سنين كما جاء في الحديث الشريف: "مُرُوا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين، وإذا بلغ عشر سنين فاضربوه عليها" "حديث حسن رواه أبو داود وأحمد والترمذي". وعلى الأسرة أن تعلمهم السيرة النبوية، والقصص القرآني، والوصايا الإسلامية كوصية الرسول الكريم لابن عباس -رضي الله عنه، وكذلك قراءة القرآن الكريم بطريقة تجذبهم إليه، فيحبونه ولا ينصرفون عنه، ثم يشرحون صدورهم للعلم، فيضعونهم في المجال العلمي والأدبي الذي يبدعون فيه، ويتساوق مع ميولهم واستعدادهم، لكي يستفيدوا منه ويفيدوا غيرهم، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" "رواه ابن ماجه رقم 224"، وقالت عائشة -رضي الله عنه: "رحم الله نساء الأنصار لم يمنعهن الحياء من التفقُّه في الدين". 5- ينبغي على الأسرة أن تفرق في التربية والتعليم بين الذكر والأنثى، وتكون الأسرة هي القدوة الحسنة للنشء، فيحسنون أدبهم بهذه القدوة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "الزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم"، فتتعلم البنت أخلاق الاحتشام والحياء، والاشتراك في عمل البيت، وتلتزم بحدود الزينة واللبس في الإسلام، وتقرأ عليها سورة النور وتفسيرها لتتعلم منها الأحكام، التي تخص المرأة مما يتصل بالعرض والشرف، وتقرأ سورة الأحزاب، لكي تتعلم أدب نساء النبي وأخلاقهن: من التصون في الحديث، والاحتجاب في البيوت، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 والتحجب، وعدم التبرج، قال تعالى: {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا، وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى. ... } [الأحزاب: 32-33] ، ويتعلمن أدب الحجاب، قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ} [الأحزاب: 53] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [الأحزاب: 59] ، ثم توجهها الأسرة إلى التعليم الذي يتناسب مع حياتها الزوجية من تعلم التمريض والطب والتدريس وفنون الثقافة المنزلية والخدمة الاجتماعية، مما يعود على أولادها في المستقبل بالفائدة والتوجيه كُربة بيت في بيت مسلم. 6- وعلى الأسرة أن تنمِّي في النفس الملكات الفكرية والحسية، بالتدريب والترويض على شتَّى المهارات الفنية والرياضية المفيدة، جاء في الأثر: "علموا أولادكم السباحة والرماية، ومروهم فليثبوا على الخيل وثبًا، ورووهم ما يجمل من الشعر". 7- ينبغي على الأسرة تربية النشء على آداب الإسلام من الرحمة بالصغير، واحترام الكبير، وحديث شجر البوادي لابن عمر رضي الله عنها منهج لهم في التوقير والاحترام، وكذلك مساعدة الضعيف، وحسن اختيار الصديق، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "مثل الجليس الصالح والجليس السوء كبائع المسك ونافخ الكير" الحديث الشريف، والإحسان إلى الجار، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وأن يرتاد المساجد ودروس العلم، والمحاضرات والندوات، وأن يتجول في دور الكتب والحدائق. وكذلك تربية النشء على أخلاق الإسلام في الاستئذان، فلا يدخل بيتًا غير آهل بالسكان، ولا بيتًا آهلًا بالسكان إلا بعد أن يستأنس فيهم الدخول، ويجد في وجوههم القبول والرغبة في اللقاء، ويسلِّم عليهم، ويغضَّ البصر عما حرم الله، ونرى ذلك واضحًا في قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور: 27-28] ، ولا يقتصر الاستئذان على الأجنبي فحسب، بل يجب أن يستأذن على الأهل والأبوين في ثلاثة أوقات، من قبل صلاة الفجر، وبعد الظهرية، ومن بعد صلاة العشاء، وفي غير هذه الأوقات لا حرج على الجميع في الدخول، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58] ، وكذلك تربيهم الأسرة على آداب الأكل والأماكن التي يسمح فيها بالطعام، قال تعالى: {لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [النور: 61] ، وتربي النشء أيضًا على آداب الدعوة إلى الطعام إذا ما دعوا إلى ذلك، وتكون الدعوة مقصورة على الإطعام فقط، فإذا فرغ المدعو من الطعام فلينتشر في الأرض، ولا داعي لاستئناف الحديث، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ} [الأحزاب: 53] . وتربيهم أيضًا على آداب الجلوس والمجالسة، فلا يتخطى رقاب الناس، بل يجلس حيث ينتهي به المجلس، كما كان يفعل أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم، وقد رباهم النبي على ذلك في مجلس حديثه، وأن يفسحوا في المجالس للقادم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [المجادلة: 11] ، ويربي النشء أيضًا على التواضع وعدم الكبر والخيلاء، وأن يخفضوا أصواتهم، ويقتصدوا في مشيهم، فالناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى، قال تعالى: {وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} [لقمان: 18- 19] . 8- أن تكون تربية النشء قائمة على أساس من العدل لا المحاباة والتميز، فقد يخصّ أحد أفراد الأسرة بإظهار المحبة والعطية، فتكون المحاباة في تمييزه بالقرب والمحبة والعطية دون الآخر، فتدل العداوة والفتنة بين الأخوة، وتنغرس في أنفسهم صفات قبيحة كالحقد والبغض والكراهية وغيرها، مما يحرمه الإسلام، ويأباه على النشء المسلم، وفي الحديث: عن النعمان عن بشير -رضي الله عنه- قال: "تصدق علي أبي ببعض ماله، فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تُشهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم، فانطلق أبي بي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ليشهده على صدقتي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "أفعلت هذا بولدك كلهم"، قال: لا، قال: "اتقوا الله واعدلوا في أولادكم، فرجع أبي فرد تلك الصدقة" "رواه مسلم". 9- ينبغي على الأسرة في أسلوب تربية النشء أن تساير التغيرات الاجتماعية، والرقي الثقافي والعلمي البنَّاء، الذي لا يتنافى مع الشريعة الإسلامية، لتكون سياسة الأسرة قائمة على الاستفادة بالحسن واختيار الجيد، والابتعاد عن الرذائل، والتخليل عن الحرمان، وسياسة الزجر والعنف، فإن السلبية والجمود والتخلف عن التطورات الاجتماعية والثقافية والعلمية الجديدة، وفرض الحرمان من التثقيف بها، يؤدي إلى غريزة التطلع إلى الممنوع، فتشكِّل في نفس النشء ما يسمى "ازدواج الشخصية"، فيتظاهر أمام الأسرة بالخضوع الكاذب، بينما يقع في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الممنوع في غياب الأسرة عنه، ويرجع السبب في ذلك إلى تخلُّف الأسرة وجمودها، بل يجب أن تتسلح بالثقافة المعاصرة، والتطورات الراقية الجادة، وأن نستمع إلى النشء، ونناقشهم فيما يدور بخلدهم، فنردهم إلى الصواب ونختار لهم الجيد، وننفرهم من رذائل العصر وانحرافه في التطورات الاجتماعية والثقافية والسلوكية. وهنا تأتي خطورة مؤسسات المجتمع المختلفة من المدارس والجامعات ووسائل الإعلام المختلفة من صحافة وكتب ومجلات وإذاعة وتلفاز، ونواد مختلفة، ومسرح وسينما وملاهي، وفي هذا يؤدي المجتمع دوره مع الأسرة لتربية النشء، وهذا الدور يقوم على الانسجام والتوافق التام بين تربية الأسرة وعطاء المجتمع لهم، فينشروا الأفكار النافعة، ويغرسوا القيم الفاضلة، ويميزوا بين الغثِّ والسمين من التغييرات المعاصرة في شتَّى المجالات، وإلا حدثت نكسة في التربية، نتيجة لاضطراب التوجيهات بين الأسرة والمجتمع، فتشيع الفوضى بين النشء، وتنهار قيمه، ويتجرَّد من أخلاقه الفاضلة، وهو ما يحث عليه قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71] ، وقال تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [التوبة: 67] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 مرحلة الشباب والمراهقة والرجولة مدخل ... مرحلة الشباب والمراهقة والرجولة 1: منهج التربية الإسلامية في بناء الشباب وتكوينه قائم على الشمول والكمال، والتقصِّي لكل ما لا يخطر على بال الإنسان، فهو غير قاصر على الشباب في فترة معينة ولجنس خاصّ، بل يمتدّ مع الأزمان والأجيال إلى أن يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89] ، قال الطبري في تفسيره: "يقول نزل عليك يا محمد القرآن بيانًا لكل ما بالناس إليه الحاجة من معرفة الحلال والحرام والثواب والعقاب"2. وفي حديث سلمان الفارسي -رضي الله عنه- أنه قيل له: "لقد علمكم نبيكم كل شيء حتى الخراءة، قال: أجل، لقد نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن نستقبل القبلة بغائط أبو بول، وألا يستنجي باليمين، وألا يستنجي أحدنا بأقل من ثلاثة أحجار، وألا نستنجي برجيع أو عظم" "رواه مسلم وأحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي وأبو داود". ضوابط السلوك الإسلامي: ويتولَّى الإسلام تربية الولد والبنت منذ الصغر حتى سن الرشد والبلوغ، الذي يختلف عندهما من حيث الكم وتحديد السنوات، فالذكر يبلغ في سن الخامسة عشرة غالبًا، والأنثى تبلغ بالحيض ما بين التاسعة والثانية عشر غالبًا، لكنهما متفقان من حيث النضج والكمال في الجسم والتمييز، مهما كان الفرق في عدد السنوات متباينًا.   1 مجلة الفيصل: ص72-75، العدد 66 السنة السادسة، ذو الحجة 1402هـ -اكتوبر 1982م، بمناسبة العام الدولي للكبار. 2 ج14، ص108، طبعة بولاق عام 1328هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ويتولى الإسلام تربية الشباب في مرحلة المراهقة والانطلاق والأنانية من الخامسة عشرة إلى العشرين على أساس من الخلق القويم، ويقيم بناءه لبنة لبنة في تجربته العملية بضوابط كثيرة في ممارسة السلوك وأهمها: 1- المسئولية والحساب: فيستيقظ حينئذٍ على الحدِّ الفاصل بين الإعفاء وبين الإحصاء، ألا وهو حدُّ البلوغ، إذ لا حساب ولا مساءلة قبل ذلك، وإن لزم التوجيه والرعاية له من الوالدين، لأنهما يتحملان عنه الوزر، كما أنهما لا يحرمان من حسناته وحسن أخلاقه، فهما معًا السبب في الأوزار والحسنات: "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته" "متفق عليه". لكن البلوغ يحمل الشباب على أن يبدأ مرحلة جديدة في حياته، وهو أن يتحمل كل التبعات، إن خيرًا فخير وإن شرًّا فشرّ، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "رُفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يبلغ، وعن النائم حتى يستيقظ، وعن المجنون حتى يفيق" "متفق عليه"، قال تعالى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا، اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 12-13] وقال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8] ، وقال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] . ولم يكن حد البلوغ مجازفة واعتباطًا، وإنما كان نتيجة طبيعية للبناء الجسدي والعقلي والوجداني والعاطفي، فالشجرة لا تثمر إلا إذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 اكتملت جذورها وساقها وفروعها وأوراقها وأزهارها، كذلك الصبي حين يبلغ الحلم، يجري في صلبه ما يحفظ به نوعه، ولو كان دون الخمسة عشر عامًا، التي تكون نهاية الحدّ في تفجير الطاقة الجنسية، وفورة العاطفة الشهوانية في الولد. أما البنت تبلغ عندما يظهر عليها إمارات الأنوثة الناضجة التي تجعل الرحم على استعداد تام لحفظ نوعها، وذلك عن طريق المبيض الذي ينفجر حيضًا في العادة الشهرية، وعلى ذلك فمعنى البلوغ هو أن تأخذ الغريزة الجنسية في الإنسان مجراها الطبيعي في الحياة. وينظر الإسلام إلى الدافع الجنسي كسائر الدوافع الفطرية الأخرى، فيقدرهاغ ويحترمها ويحميها وينظمها، بما يتلاءم مع كرامة الإنسان وشرفه على سائر المخلوقات، فيجعل تلبية الرغبة الجنسية في دائرة واحدة فقط، وهي الزواج، وأغلق أمامه كل الدوائر الأخرى، التي تهبط بشرف الإنسانية إلى الحيوانية، قال تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21] ، وقال تعالى: {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ} [النحل: 72] . أحاط الإسلام الشباب بدائرة الزواج في مشقاته، وتكاليفه وكفاءته وقدراته، حتى ينصرف منذ البداية إلى الاستعداد له، واتخاذ الوسائل والأسباب كالعمل والتعليم، أو غير ذلك من وسائل المعيشة، لتضبط الشهوة وتبتلعها، حتى يقدر على الزواج، ليكون له ضابطًا آخر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 يقيِّد الشهوة في شكل جديد، فإن طغت الشهوة ولم يقدر على الزواج حثه الإسلام على الصوم، يضبطها ويحصنها، فهو خير وجاء وقاطع لطغيانها، يقول عبد الله بن عمر -رضي الله عنه: "كنا مع النبي -صلى الله عليه وسلم- شبابًا لا نجد شيئًا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب، من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم، فإنه له وجاء" 1، والباءة هي القدرة على الزواج بمعناها الواسع، والكفاءة بمعناها الدقيق، لذلك قال ابن عمر: كنا شبابًا لا نجد شيئًا، فكانت النتيجة أن الصوم يقتل الشهوة ويقضي على طغيانها، فينصرف الشباب بضابط الصوم إلى استغلال مواهبه العقلية وقدراته البدنية لتحقيق هذه الباءة، وغالبًا ما تتكامل له هذه الوسائل عندما ينضج في سن العشرين أو أكثر قليلًا، فتبرز طاقته المتعددة الجوانب في التعليم والتعلم، ويحضه الإسلام على ذلك: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، "طلب العلم فريضة على كل مسلم" 2، قال تعالى: {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9] ، وقال تعالى: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ} [المجادلة: 11] ، وقال ابن رجب الحنبلي: يعني على الذين آمنوا ولم يؤتوا العلم، كذا قال ابن مسعود وغيره من السلف3، وغير ذلك من الآيات والأحاديث الكثيرة التي تحث على العلم والاهتمام به، أو يبرز طاقاته في العمل والتحصيل، ويحثه الإسلام، ليربي في الشباب الطاقة   1 فتح الباري في شرح البخاري 6/ 122، المطبعة السلفية -القاهرة "وجاء بمعنى قاطع للشهوة". 2 رواه ابن ماجه برقم 224. 3 رسالته في "شرح حديث أبي الدرداء فيمن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا"، ص37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 والجهد والحمية، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] ، وقال تعالى: {فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] ، وقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه" "رواه البيهقي". 2- الإطار الأخلاقي المثالي: وهو ضبط سلوك الشباب: فيقتاد في خلقه بمن هم أكبر سنًّا، وأعمق تجربة في الحياة، فأغراه الإسلام بأن يكون من السبعة، الذين ميزهم الله عن سائر الناس في يوم القيامة بظل عرشه، يوم لا ظل إلا ظله: "إمام عادل، وشاب نشأ في عبادة، ورجلان تحابا في الله ... اجتمعا عليه وافترقا عليه .... " إلى آخر الحديث الشريف. 3- العبادات: فالعبادات تربي في النفس مراقبة دائمة لله عز وجل، بحيث يظل الفرد مشغول القلب بذكر الله كل يوم، بل في اليوم على الأقل خمس مرات، ينصرف فيها عن كل ما يشغله من مغريات الدنيا وشهواتها، ليجدد في كل صلاة نشاطه الروحي مع ربه: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ} [العنكبوت: 54] ، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك"، وقال أيضًا: "أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يبقى من درنه شيء"، قالوا: لا يا رسول الله: قال: "كذلك مثل الصلوات الخمس يمحو بهن الخطايا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وكذلك الصوم يربي في النفس غريزة الإخلاص، فهذه العبادة اختص الإخلاص فيها بعلم الله عز وجل، لأن الصوم سر بين العبد وربه، وكذلك يربي أيضًا أسمى أنواع الأمانات، لأن الصائم يرعى الله بأمانة؛ فيراقبه في السر والعلن مخلصًا لوجه الله تعالى، على العكس من الأمانة بصفة عامة، فقد يشتهر فيها شخص من بين الناس، وهو يقصد كسب ثقتهم، فيزداد حفاظًا على الأمانة كلما زادوه ثقة وهكذا، فإن مراعاة الناس واعتبارهم يهزُّ كيان الإخلاص في الأمانة العامة، فتصير مزيجًا من الإخلاص والتظاهر نوعًا ما، بينما الصائم لا يداخله هذا الخيط من التظاهر في الصوم وإلا لفسد كله، ولم يقبل في جانب الله عز وجل: "كل عمل ابن آدم له، إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به". 4- تربية أخلاق العقيدة: وهي أن يحيي القلب بنور الإيمان، ويوقظ الضمير بمعرفة الله، قال تعالى: {أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام: 122] . وتربية أخلاق العقيدة تتمُّ أيضًا بأن يتزي الشبان بزي الإيمان، وهو السكينة والوقار، والطمأنينة والاتزان، فيشعر دائمًا ببرد الراحة وحلاوة الأمن {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد: 28] ، فلا يحزن على ما فات، ولا يفرح بما هو آتٍ، قال تعالى: {لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ} [الحديد: 23] . وكذلك غرس الإسلام قوة العزيمة في شبابه، ليقيم بناءه على أساس قوي ثابت، فيتحرَّر من سيطرة الغير، ما دام يعلم أن الله معه، وهذا واضح في وصية الرسول الكريم لخيرة الشباب في عصره عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 ابن العباس -رضي الله عنه، قال: "يا غلام: إني أعلمك كلمات: أحفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا شيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفَّت الصحف". وكذلك تنمية الشجاعة والإقدام في روح الشباب، ولقد أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- برأي الشباب في الخروج إلى "أحد"، مع أن الشيوخ وهم أقل كانوا على صواب في عدم الخروج من المدينة لمواجهة المشركين في جبل أحد، ليربي شباب الإسلام على الشجاعة والإقدام، ويهذب الله تعالى النفس بهذا الخلق فيقول: {أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ} [النساء: 78] . ويربي الإسلام في النفوس التواضع مع الشجاعة، جنبًا إلى جنب، قال تعالى: {وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا} [الإسراء: 37] ، وقال تعالى: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29] . ويربي في الشباب صون اللسان وحفظه من كثرة الكلام فيما لا يفيد، فيكون جادًّا في حياته، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لمعاذ -رضي الله عنه: "أمسك عليك هذا"، وأشار إلى لسانه، فيقول معاذ: وهل نحن مؤاخذون بما نتكلم، قال النبي: "وهل يكبُّ الناس على وجوههم في النار إلا حصائد ألسنتهم"، قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} [المؤمنون: 1-3] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 ويربي في الشباب روح الأخوة الإسلامية، والإيثار والتضحية في سبيل الله، قال تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة: 71] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ، وقوله -صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". في البناء الاجتماعي للفرد: إذا كانت ضوابط التربية الإسلامية في مرحلة الشباب والمراهقة قد تمخَّضت عن سلوك وممارسة عملية على حدّ مصطلحات علماء التربية الحديثة، أو تمخَّضت عن استقامة وأخلاق على حد التشريع الإسلامي، فإن الشباب بعد ذلك سينتقل إلى مرحلة النضج والرجولة، كما اصطلح على ذلك علماء التربية، وأطلق عليه مرحلة البناء الاجتماعي للفرد، وقد تعقَّب المنهج الإسلامي في التربية المرحلتين بصورة شاملة وعميقة وجادة، كعهده دائمًا في بناء الفرد والجماعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 أولًا: مرحلة النضج: ومرحلة النضج تكون ما بين سنِّ العشرين إلى الثلاثين عامًا، وتخضع هذه المرحلة لضوابط التربية الإسلامية والتعليم، ومن أهمها: 1- الضابط الأول: وهو أن العقد الثالث من العمر ضابط بذاته لهذه الحلقة الناضجة من الحياة، فهي الحلقة المثالية لبناء حياة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 اجتماعية على أساس قوي متين، وقد كان زواج النبي -صلى الله عليه وسلم- من أم المؤمنين خديجة بنت خويلد في هذا السن تعبيرًا دقيقًا وصادقًا عن تمام النضج الاجتماعي، وتقريرًا يعبر بدقة عن نضوج البدن، ليقاوم الحياة الجنسية الجديدة، بحيث لا تضطرب القوة، ويتحكم الناضج حينئذ في ضبط الشهوة نوعًا ما، وخاصة بعد اجتيازه مرحلة المراهقة، التي هي من أخطر المراحل، فلا يسرف فيها، ويحفظ على النفس اتزانها وقوتها. 2- الضابط الثاني للسلوك التربوي القويم هو الزواج، فجمال الزوجة، وملكة التسلية، والإمتاع في حديثها، وغريزة الإيثار والتضحية في سبيل حب زوجها، وغيرها من غرائزها الفطرية تسيطر على عقل الزوج، وتستبد بقلبه، فلا يجد في غير هذا الحلال الطيب بديلًا في الخبيث المحرم، ومن هنا تنحصر الشهوة فيما أحله الله له فقط دون غيره من المحرمات، ثم يتوالى بعد ذلك ما ينظم الشهوة ويضبطها، وهو إنجاب الأولاد وما يحتاجونه من نفقات ورعاية وحفظ وتوجيه وتربية وتعليم وتنمية للغرائر الفطرية، عند ذلك تنحصر الشهوة في إطار ضيق جدًّا مع زوجته ربة البيت وأم الأولاد، والحديث الشريف يحذر من الإفراط "فإنه نور عينيك ومخ ساقيك". يقول ابن القيم الجوزية: وأما الجماع والباه "النكاح" فكان هديه "أي النبي" فيه أكمل هدي يحفظ به الصحة، ويتمّ به اللذة وسرور النفس، ويحصل به مقاصده التي وضع لأجلها، فإن الجماع وضع في الأصل لثلاثة أمور هي مقاصده الأصلي، أحدها: حفظ النسل ودوام النوع إلى أن تتكامل العدة التي قدر الله بروزها إلى هذا العالم، الثاني: إخراج الماء الذي يضر احتباسه واحتقانه بجملة البدن، والثالث: قضاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 الوتر ونيل اللذة والتمتع بالنعمة1. والإفراط في الغريزة وعدم انضباط الشهوة يؤثر على الجسم والعقل معًا، يقول الطبيب إليكس كاربل: ومن المعروف أن الإفراط الجنسي، يعرقل النشاط العقلي، ويبدو أن العقل يحتاج إلى غدد جنسية حسنة النمو، وكبت مؤقت للشهوة الجنسية حتى يستطيع أن يبلغ منتهى قوته2. 3- الضابط الثالث: أن يجعل الأساس في اختيار الزوجة أن تكون ذات دين، ثم يأتي بعد ذلك الجمال والبكارة والولود الودود، من باب الأولى، أو من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو الواجب، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أبو هريرة: "تنكح المرأة لأربع، لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك" 3، فالمرأة الصالحة خير ما يرزق بها الرجل في حياته، لأنها تعين زوجها على طاعة الله دائمًا، ليظل معها في الحياة مستقيمًا طاهرًا عفيفًا، يرضي الله فيها، ويحافظ على عشرتها بالمعروف، وحسن المعاشرة لأهله، لأنه راع، وهو مسئول عن رعيته. ولهذا حذر النبي -صلى الله عليه وسلم- من خضراء الدمن، فقال: "إياكم وخضراء الدمن"، قالوا: وما خضراء الدمن يا رسول الله؟ قال: "المرأة الحسناء في المنبت السوء" 4، ومصدر الخطورة أنها تجمع بين ضررين   1 زاد المعاد في هدي خير العباد 3/ 307. 2 الإسلام ومشكلات الحضارة: سيد قطب 132. 3 متفق عليه. 4 رواه الدارقطني في الفتح الرباني 16/ 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 كبيرين بالنسبة للرجل، أحدهما: الجمال الفاتن والمجرد من الدين والخلق، وفي هذه الحالة لا تنضبط الشهوة معها، فتكون نهاية الزوج كنهاية المدمن في الخمر، فيغيب عقله ويفنى جسده معًا. وثانيهما: سوء الخلق، فلا ترضى به وعنه إلا إذا كان على شاكلتها، ويناظرها في سوء الخلق، ويجاريها في وقاحتها، فيكون تابعًا لها، بل أشد منها، لكونه إمعة لا إرادة له ولا شخصية، ولذلك كان خير النساء كما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "التي تسره إذا نظر، وتطيعه إذا أمر، ولا تخالفه في نفسها ولا في مالها بما يكره" "رواه أحمد والنسائي". وإذا لم يكن الدين والخلق الكريم هو أساس الزواج، تنخر الفتنة في عصب الأمة، ويعبث الفساد في الأرض، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فانكحوه إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض وفساد كبير" "رواه الترمذي". 4- الضابط الرابع: حقوق الحياة الزوجية، التي تعمرها بالسعادة والتعاون والحب والإيمان، فرعاية تلك الحقوق تربِّي في النفس الإحساس بالمسئولية والشعور بالواجب، فيتناصح الزوجان: {وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} ، ويتعاونان معًا: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2] ، ويتشاوران فيما يخالط الأسرة والحياة: {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} [الشورى: 38] . وهذه الحقوق تغرس في النفس المودة والمحبة: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ، وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وتربي حقوق الحياة الزوجية في النفس أيضًا الرعاية لحدود الله وأوامره، فينفقه الزوجان في الدين، ويقفان على حدود الحلال والحرام، ويحفظان أسرار الزوجية: {قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ} [النساء: 34] ، ويتعامل معها الزوج بالرفق والمعروف: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} [البقرة: 228] . وهذه الحقوق الزوجية أيضًا تربي في النفس رعاية حقوق الأولاد لتأمين حق الرضاعة والحضانة: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} [البقرة: 233] . ومن واجبات التربية للأولاد تنمية الغرائز في نفوسهم، مثل غريزة الخوف والمراقبة والمحبة والتدبر في ملكوت الله، ليؤمن بربه عن اعتقاد لا تقليد، وينمي فيهم الملكات الحسية والفكرية والفنية، جاء في الحديث: "علِّموا أولادكم السباحة والرماية ومروهم فليثبوا على الخيل وثبًا ورووهم ما يجمل من الشعر" "رواه الترمذي وأحمد وأبو داود". ويربيهم أيضًا على أخلاق القرآن الكريم من معرفة آداب الدخول وأخلاق الاستئذان العامة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27] ، والاستئذان على أهله ووالديه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [النور: 58] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 ثانيًا: مرحلة الرجولة: في هذه المرحلة التي تبدأ من الثلاثين إلى الأربعين، يكون الجسم فيها قد اكتمل وبلغ غاية النضج في تمام الأعضاء، واعتدال القوام وقمة النشاط، وحيوية الحركة، فيتحول العقل من حالة التوازن إلى حالة الاتزان، ووضع الأمور في نصابها، فالعقل السليم في الجسم السليم، وهذا العمر يكون أنضر وأقوى مراحل حياة الرجل، والقوة فيه بلغت غاية الاتزان الجسدي والعقلي والعاطفي والوجداني والنفسي والفكري، ويكون في منزلة هي أحب إلى الله فيما لو تحقق الاتزان، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف"، لأن القوة هنا تشمل جوانبها المختلفة من القوة البدنية، والقوة الفكرية والعقلية، والقوة الدينية، والقوة العلمية، وهذه القوى تستلزم بالضرورة القوة في المال والاقتصاد، لأنها مرحلة بناء الحياة الاقتصادية للأسرة، وتأمين حياتها، وحياة الأفراد فيها. عن عبد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين حدثاه أنهما أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألانه عن الصدقة، فقلب فيهما النظر، فرآهما جلدين، فقال: "إن شئتما أعطيتكما، ولا حظَّ فيهما لغني ولا لقوي مكتسب" "رواه أحمد وأبو داود والنسائي"، وهذا الحديث يستلزم تحريم الصدقة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 على القوي الجلد، لأنه يجب أن يعمل ما دام قويًا جلدًا، قال أحمد بن حنبل معقبًا على هذا الحديث: ما أجوده من حديث، وقال الصنعاني: والحديث من أدلة تحريم الصدقة على الغني وعلى القوي المكتسب1، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعولن وخير الصدقة ما كان عن ظهر غني، ومن يستضعف يعفه الله ومن يستغن يغنه الله" "رواه البخاري ومتفق عليه". وفي ختام هذه المرحلة غالبًا، يشعر الإنسان بأنه بلغ الغاية، فيثني على الله عز وجل بهذه النعمة الجليلة، ويطلب منه أن يسلكه في الصالحين المقبولين عنده، وكذلك الذي يقطع الأربعين وهو ماض في غيه، منساق حسب شهواته ونزواته، فئلا أمل في صلاحه وتقواه، لأن العقد الرابع هو الفيصل بين حياة الرجل الصالحة أو الطالحة. وحين يجدد القرآن الكريم السلوك التربوي الصالح في هذا العقد يصف صاحبه بالصلاح، قال تعالى: {حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ، أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} [الأحقاف: 15-16] ، ومع الأنبياء عليهم السلام يصفهم الله تعالى في هذا العقد بصفات المحسنين والمرسلين، قال تعالى يصف موسى عليه السلام في هذه المرحلة: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا   1 سبل السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [القصص: 14] ، وقال تعالى في يوسف -عليه السلام: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 22] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 في مرحلتي الكهولة والشيخوخة 1: منهج التربية الإسلامية، والسلوك الأخلاقي في الشريعة يعتمد على حقيقة لا تقبل النقض ولا الجدل، ولا تكون قاصرة محدودة، بل تظل صالحة، تتجاوب مع أصداء الحياة، وتستجيب لها كل الأجيال، لأنها ترتبط بالقيم الفاضلة، والأخلاق السامية، وكلاهما ثابت لا يتغير بتغير الزمان والأجيال. وحقيقة التربية قائمة أيضًا على العلم واليقين، والدقة والشمول والاستقصاء لكل الجوانب المحتملة، التي لا تخطر على بال الإنسان، لأنها تشريع من قبل الله -عز وجل- العليم الخبير بمخلوقاته: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14] ، فقد خلق الله الخلق، وهداهم إلى ما يحتاجونه في الحياة: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 50] . لهذا يجب ألا تضع أنفسنا في مجال الموازنة والمقارنة بين منهج التربية الإسلامية، وبين مناهج التربية الحديثة، وفلسفاتها المعاصرة، فالأول يظل حيًّا خالدًا، يتجاوب مع كل عصر وجيل، والثاني يرتبط بالأحياء، الذين أنتجتهم معامل التجارب، فيقبل الاحتمالات.   1 مجلة الفيصل: ص 115-118، العدد 61 في رجب 1402هـ/ مايو 1982م، بمناسبة العام الدولي للكبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 والتوقعات، وهذا من المسلمات حتى عند أصحاب النظريات، فلسان حالهم يردِّد قول الله تعالى: {مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا} [الكهف: 51] . ومنهج الإسلام في التربية والتوجيه يختلف حسب المراحل المتنوعة التي يمر بها الكبار، فله منهجه العميق في كل مرحلة: في مرحلة الشباب، ومرحلة النضج، ومرحلة الرجولة، ومرحلة الكهولة، ومرحلة الشيخوخة، ونحن الآن بصدد المرحلتين الأخيرتين لنقف على الضوابط التربوية الإسلامية في الكهولة والشيخوخة. والكهل هو من بلغ الأربعين إلى الخمسين، وفي هذه المرحلة يبلغ الرجال الكمال في الدين والخلق، ويسمو إلى غاية النضج في العلم والمعرفة، فتكون منزلته في الحياة منزلة المعلم والمرشد والموجه، وهو صادق فيها كل الصدق، لأنها من واقع تجربته في الحياة، تنساب كلماته نافذة طاهرة قوية، وتنفجر عن خبرة ذاق حلاوتها ومرارتها. وفي مطلع هذه المرحلة يصطفي الله الرسل مبشرين ومنذرين، حيث يكون الإنسان فيها أقدر على التأثير في غيره والتوجيه له، وهي مرحلة الثقة التي يأخذ عنها الغير في ثقة مبرأة من طيش الشباب، وأنانية الرجولة وحرصها، وحين اتهم قوم عاد هودًا -عليه السلام- بالسفه، ردَّ الله عليهم دعواهم الباطلة بأنه رسول من رب العالمين، قال تعالى: {قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ، قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف: 66-67] ، ويمتن الله على عيسى بن مريم عليه السلام بأنه دعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 الناس وهو في المهد، وكذلك وهو كهل في سنن النبوة، فهو من الصالحين: {وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ} [آل عمران: 46] ، {إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [المائدة: 110] . وفي مرحلة الكهولة تتمكن العادات من النفس، فتصير طبيعة بشرية، لا تنفك عن صاحبها، فإن كانت العادات حسنة، انصهرت بأخلاق فاضلة، وصلاح وتقوى، ليرتقي الكهل إلى منزلة العالم الخبير المجرب، والواعظ المخلص في دعوته؛ وإن تمكنت منه عادات فاسدة سيئة، صارت فيه طبيعة بشرية لا ينفك عنها إلا من هداه الله تعالى، ولهذا السبب أكد العلماء أن سن الأربعين هو الفيصل في حياة الإنسان، وهو بشير خير، أو نذير شر، على حسب سلوك الشخص في مراحله السابقة، هذا كله من حيث الظاهر، أما الباطن فيختص بعلمه الله عز وجل، ولا ردَّ لقضائه، فهو فعال لما يريد: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53] . وتبدأ مرحلة الشيخوخة من الخسمين إلى الثمانين أو إلى نهاية الحياة وحلول الأجل، ويظل الشيخ فيها مشغولًا بلقاء ربه أكثر من المراحل السابقة، وهي أيضًا مرحلة الضعف والهزال، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} [الروم: 54] ، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر: 67] . ومع الضعف يكون الشيب والدعاء غالبًا، قال تعالى: {قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا} [مريم: 4] ، والشيخوخة هي الثمرة الحقيقية لمرحلة الكهولة، فإن كانت الكهولة صالحة فينسحب عليها الصلاح ليصير الشيخ صالحًا، يعرف ربه حق المعرفة، ويمتلئ قلبه بالرحمة والعطف والحنان والشفقة، والخوف من الله -عز وجل، والوجل من عذابه، وفي الأثر: "لولا الأطفال الرضع والشيوخ الركع لصببنا عليكم العذاب صبًّا"، وإن كانت الكهولة فسادًا وهوى، وضلالًا وتيهًا، فإن ذلك ينسحب على الشيخوخة، فيكون صاحبها في نقمة وعذاب، وقلق وآلام، وربما يبلغ أرذل العمر بلاء واختيارًا ومحنة له، قال تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ} [يس: 68] . والشيخوخة أشدّ ما تحتاج إلى البر بالوالدين فيها، وضرورة الطاعة لهما، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23-24] ، فإن كان الوالدان في حاجة إلى النفقة والمال وجبت لهما، وإن كانا أغنياء، أهداهما وحقق لهما المطالب المحببة إلى نفوسهما من حين لآخر، وقد جعل الإسلام سعي الرجل على أبويه الشيخين الكبيرين ضربًا من الجهاد في سبيل الله، فقال -صلى الله عليه وسلم: "ألك أبوان كبيران؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد"، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وفي الحديث: أن بعض الصحابة رأى شابًّا قويًّا يسرع في عمله، فقال بعضهم: لو كان هذا في سبيل الله، فرد عليه النبي -صلى الله عليه وسلم: "لا تقولوا هذا، فإنه إن كان خرج يسعى على ولد له صغارًا فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه فهو في سبيل الله"، وإن كان يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان". وأفضل الأعمال بر الوالدين، سُئل النبي -صلى الله عليه وسلم: "أي الأعمال أفضل يا رسول الله؟ قال: "الصلاة على مواقيتها": قال: ثم أي؟ قال: برُّ الوالدين، قال: "ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله" "متفق عليه"، بل عقوق الوالدين من أكبر الكبائر، قال صلى الله عليه وسلم: "ألا أدلُّكم على أكبر الكبائر؟ " قلنا بلى يا رسول الله، قال: "الشرك بالله، وعقوق الوالدين"، وكان متكئًا فجلس، فقال: "ألا وقول الزور" "متفق عليه". ومن البر بهما أن يعلمهما، إن فائتتهما فرصة التعليم، وهنا يجب على الصغار أن يعلموا الكبار ليمحوا أميتهم، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يفتدي الأسير بتعليم عشرة من أصحابه، وقد أمر زيد بن ثابت أن يتعلم الرومية والفارسية وهو كبير. ومن البر أيضًا أن يقرأ عليهما القرآن الكريم، والسنة الشريفة، والعلم، وأن يعينهما على أداء الفرائض والواجبات، وقضاء الديون، وصلة الأرحام، وأن يطيعهما في المعروف، ويستمع إلى رأيهما، فإن إهمالهما يؤدِّي إلى الجحود والنكران، قال تعالى: {وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 تَعْمَلُونَ} [لقمان: 15] ، وهذه المرحلة يكثر فيها الشيخ من الكلام، ليملأ به الفراغ الذي يعيشه، ويحاول أن يمتصَّه بالحديث واللغو، وذلك لاعتداده بنفسه، وثقته بأنه الأوحد في عصره، وصاحب التجربة الكبرى في الحياة، وينبغي أن يسمع له، ويستجاب لأمره، لهذا كله يربيه الإسلام على الصمت وخاصة في هذه المرحلة، فهو أولى وأفضل من الكلام والثرثرة، فالصمت تفكر وتأمل في الله تعالى. وحذره أيضًا من القيل والقال، وكثرة السؤال، مما يؤدي إلى كثرة الكلام، التي تدفع إلى الخطأ، وتوقع في المحظور، وتكدر النفوس، وتُذهب بهيبة المسلم ووقاره، روى المغيرة بن شعبة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعًا وهات، ووأد البنات، وكره لكم قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال" "متفق عليه". وكان أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- يعالج من نفسه كثرة الكلام بأن يضع حصاة تحت لسانه لتمنعه من الكلام، حتى يتبين الخير فيه، ويسأل عقبة بن عامر رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "ما النجاة؟ قال: "أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك" "رواه الترمذي". ويضع النووي معيارًا دقيقًا لاستخدام اللسان، فيقول: ينبغي لكل مكلف أن يحفظ لسانه من جميع الكلام إلا كلامًا ظهرت فيه المصلحة، ومتى استوى الكلام وتركه في المصلحة، فالسنة الإمساك عنه، لأنه قد يجرّ الكلام المباح إلى حرام أو مكروه، وذلك كثير في العادة، والسلامة لا يعدلها شيء، ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت"، وهنا دليل صريح في أنه ينبغي ألا يتكلم، إلا إذا كان الكلام خيرًا، وهو الذي ظهرت مصلحته، ومتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 شك في ظهور المصلحة فلا يتكلم "شرح النووي على صحيح مسلم". ويربي الإسلام المؤمن في هذه المرحلة تربية يحثه فيها دائمًا إلى النظر في عاقبة الأمر لأولاده من بعده، ليتركهم أغنياء، خير لهم من أن يتركهم عالة يتكففون الناس، فيمنعه الإسلام من الوصية لوارث، حتى يتساوى جميع الأولاد والورثة في التركة كما أمر الله عز وجل، وإذا أوصى تكون الوصية بمقدار الثلث أو أقل، وهذا أفضل وأولى، وهو الذي فعله السلف الصالح، لأن أقرباءه أولى بالغنى من غيرهم، وخاصة إذا كانوا فقراء، لحديث سعد -رضي الله عنه: "الثلث والثلث كثير". وتقييد الوصية بهذا القدر، يظهر حكمة التشريع الإسلامي، وهي تفتيت الثروة على الورثة، حتى لا تتضخم عند شخص دون آخر، ثم حذر المسلم من التعدي على هذه الحقوق، وتلك الحدود والفروض، التي شرعها الله -عز وجل- في الميراث بنظام فريد، كما رغب في تنفيذها، قال تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ، وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} [النساء: 13-14] . وهكذا كان منهج الشريعة الإسلامية في توجيه وتربية الكبار في مرحلتي الكهولة والشيخوخة، وأساس هذا المنهج الإسلامي في التربية والتعليم والتوجيه والإصلاح يرجع إلى تنمية غريزة الرقابة الداخلية في النفس، وإحياء الضمير، ليكون حارسًا على النفس من التردِّي في الهلاك، لتحقيق سعادته في الدنيا والآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الفصل الخامس: العقود والمعاملات في التصوير القرآني والسنة الشريفة سمات الاقتصاد الإسلامي في العقود والمعاملات الاقتصاد الإسلامي تشريع إلهي : الاقتصاد الإسلامي تشريع من قبل الله -عز وجل- للبشرية جمعاء، إلى أن تقوم الساعة، وقد أيقن الإنسان المعاصر أكثر وأكثر بعد فشل النظم الاقتصادية منذ القدم حتى الآن، سواء أكان النظام الاقتصادي هو الرق القديم، ثم الإقطاع ثم البرجوازية، أو الرأسمالية ثم الاشتراكية، فقد أثبت هذا النظم فشلها حديثًا لسبب واضح، هو أن الإنسان أصبح عبدًا لماله، لا يرى في الوجود سواه، فكان مشركًا بالله شركًا مقنعًا، كما في النظام الرأسمالي الاقتصادي، أو عبد لآلته تسخره؛ فتذوب إنسانيته بين ضجيجيها وفحيحها، وكان أيضًا مشركًا مقنعًا، كما في النظام الاشتراكي الاقتصادي، لأن عبودية الإنسان المعاصر للمادة هزت كيانه وجوهره، وعكَّرت صفوة فطرته السليمة، فضل عن القيم الروحية والأخلاقية، التي لا تستقيم الحياة إلا بها، ولا تسمو نواميس الطبيعة إلا بمقدار التجاوب العملي معها. لهذا أقر علماء الاقتصاد في العالم، ومنهم: جاك أوستري من علماء الاقتصاد في فرنسا، ورايموند شارل1، أقروا بأن الاقتصاد الإسلامي هو النظام الذي يحقُّق للإنسان السعادة، فهو نظام شامل صالح للحياة والإحياء، وذلك لقيمه النبيلة، وأخلاقه السامية، ودقته ومطاوعته لأساليب الحياة والناس، وهو نفسه ما تتميز به العقود والمعاملات في   1 الإسلام والتنمية الاقتصادية، ترجمة د. نبيل صبحي، دار الفكر- دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 الفقه الإسلامي والشريعة السمحاء، وهذا ما سيعني به بحث "منهج الإسلام وأخلاقه في العقود والمعاملات"، نسأل الله -عز وجل- أن تجتمع أمة الإسلام على تطبيقه والعمل به، وأن تسير على نهجه القويم، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} ، في تصوير قرآني معجز. ولما كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس، اقتضت شريعة الله -عز وجل- نظامًا اقتصاديًّا متكاملًا يشتمل على الجوانب: الروحية، والمادية، والوجدانية النفسية، والعقلية، والإنسانية، والأخلاقية لتسير الحياة على أكمل وجهٍ بما يتلاءم مع نضوج العقل البشري، واتزان الوجدان النفسي، لذلك كان الهدف من التشريع الإسلامي كمال الأخلاق وتمامها، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، وقال أيضًا يُوضح أن التشريع الإسلامي جاء كاملًا شاملًا لكل جوانب الحياة والآخرة، وجاء أيضًا مكملًا ومتممًا لما خلت منه الرسالات السابقة، كطغيان المادية في اليهودية، وطغيان الروحية في المسيحية، وتعادل الجانبين في توازن واعتدال في الإسلام، فقال -صلى الله عليه وسلم- يوضح ذلك كله في إيجاز: "إنما مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وجمَّله وجعل الناس يطوفون به، ويعجبون له، ويقولون: ما أحسن هذا البناء؟! وما أعظم هذا البناء؟! لولا موضع هذه اللبنة، وتلك الزاوية، فأنا اللبنة وأنا الزاوية وأنا خاتم النبيين"، وقال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] . وعلى ذلك تكون الشريعة الإسلامية بجميع جوانبها المادية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 والروحية منهجًا وأخلاقًا، بمعنى أن كل ما اشتملت عليه من عبادات ومعاملات وغيرهما، إنما هو وسيلة لغاية كبرى، وهي البناء الأخلاقي المتكامل للبشرية، في منهج تشريعي من قبل الحق عز وجل، لا من البشر، الذين يعتمدون على الظن والفوضى والتخمين في علومهم ونظرياتهم القاصرة، قال تعالى: {وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا} [النساء: 157] ، وقال تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا} [يونس: 36] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 العبادات وأثرها في بناء القيم الاجتماعية والاقتصادية : العبادات: من طهارة وصلاة وزكاة وصوم، وحج وعمرة، ومن اتباع لما أمر الله به من أوامر، واجتناب لما نهى الله عنه من محرمات، ثم التطوع والنقل، وغير ذلك مما كان الهدف الإسلامي منه هو البناء الأخلاقي المتكامل للبشرية، فالعبادات من صلاة وصوم ويغرها ليست مقصورة لذاتها، بل هي وسيلة لغاية أسمى، وهي بناء الخلق الفاضل في المسلم، فليس المقصود من الصلاة هي عملية ترويض الجسم بالقيام والركوع، والاعتدال والجلوس والسجود، بل المقصود منها أن تنهى عن الفحشاء والمنكر، وليس المقصود من الصيام هو تعذيب النفس بالجوع والعطش؛ لكي يصح البدن فحسب، ولكن المقصود الأسمى هو بناء خلق المسلم على المحبة والعطف والرحمة، والصبر والأمانة والمواساة، وغير ذلك من مبادئ الأخلاق الإسلامية، كما أن الأخلاق التي تنميها العبادات في النفس ليس المقصود منها أن تكون أخلاقًا أنانية ذاتية للشخص نفسه فحسب، ولكن المقصود منها هو أن تكون أخلاقًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 اجتماعية يتعامل بها مع الناس، فالدين المعاملة، لهذا كان المقصود من العبادات والغاية منها هي تربية الأخلاق في النفس وتنميتها لكي يحسن المعاملات والعقود التي تجري مع الناس تبعًا لسنة الحياة وناموس الطبيعة الإنسانية الاجتماعية، وهذا يقتضي أن تقف على الأخلاق التي تغرسها العبادات في النفس البشرية. وأما الأخلاق الاجتماعية التي تنمِّيها الصلاة في النفس فهي المساواة، والشكر، والخوف والمراقبة المستمرة، والمواظبة على العمل؛ فالمساواة في الصلاة بين الناس مهما اختلفت أجناسهم وتباينت منازلهم، وتنوعت ألوانهم؛ فالجميع يقف أمام الله في صف واحد تنتفي فيه فوارق الثراء، وتمايز الدم، وتذوب الألوان، فيشعر الفرد بأنه من الجماعة وللجماعة، وتتوثق الروابط الأخوية، التي تعين على التعاون في مجالات الحياة المختلفة، وفي مجال المعاملات الاقتصادية، التي هي في أشدِّ الحاجة إليها، وهي الشعور بالمساواة والإخاء. والصلاة في ذاتها إنما هي عمل خالص في الشكر والثناء على الله عز وجل، فالله -سبحانه وتعالى- أسبغ على الإنسان نعمًا ظاهرة وباطنة، كالعقل والبصر والسمع واللسان وسائر الجوارح، ويسَّر له كل أسباب النعم والحياة، وهذه النعم تقتضي من الإنسان أن يشكر ربه شكرًا عمليًّا لا باللسان فقط؛ لذلك كانت أعمال الصلاة قد اشتركت فيها جميع الجوارح من الخضوع والخشوع، لتؤدي بذلك الشكر العملي لله عز وجل، وبالمتابعة في الصلاة والمواظبة عليها، تنمو في النفس غريزة الشكر، التي سيكون لها دور كبير في العقود والمعاملات، فيتعامل الإنسان مع الناس بالشكر والتقدير، لتيسير الخدمات وتحضيرها، وتقوم المعاملات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 على أساس من الاحترام والتقدير، مما يكون له أثر كبير في مجال الاقتصاد الإسلامي {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا، وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا، إِلَّا الْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} [المعارج: 19-23] . وتنمي الصلاة غريزة الخوف من الله -عز وجل- دائمًا، وما أحوج العقود والمعاملات بيننا إلى غريزة الخوف والمراقبة لله عز وجل، فتنأى النفس عن السرقة والغصب والغشِّ والاختلاس والغبن والغرر والظلم والتطفيف والبخس والتناجش، وغيرها من المحرمات، وتنمي الصلاة في النفس غريزة المواظبة عليها خمس مرات في اليوم والليلة، وما أحوج المعاملات والعمل إلى المواظبة والاستمرار، فبهما يتضاعف الدخل، ويتزايد الإنتاج، ويسمو الاقتصاد الإسلامي، وهذه الغرائز كلها تربِّي في النفس ضمير المؤمن الصادق، الذي يراقب الله في السر والعلن، فتستقيم النفس على الجادة، وتتجنب الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر، لذلك يقول الله عز وجل: {إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [العنكبوت: 45] ، وفي الحديث الشريف: "ومن لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له"، وقال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ، الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1-2] ، فإذا لم تؤدّالصلاة رسالتها في تحقيق هذه الغرائز ولم تحقق الثمرات السابقة في النفس، كانت كالعدم سواء، وصارت عديمة الجدوى، وهذا هو ما أشار إليه الحديث القدسي الشريف، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ربه: "إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع بها لعظمتي، ولم يستطل بها على خلقي، ولم يبت مصرًّا على معصيتي، وقطع النهار في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 ذكري، ورحم المسكين وابن السبيل والأرملة، ورحم المصاب، ذلك نوره كنور الشمس، أكلأه بعزتي، وأستحفظه ملائكتي، أجعل له من الظلمة نورًا، ومن الجهالة حلمًا، ومثله في خلقي كمثل الفردوس في الجنة" "رواه البزار عن ابن عباس -رضي الله عنه". وأداء الصلاة على وجهها، معناه استقامة النفس على الجادة والإيمان؛ فتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، وعدم أدائها على وجهها هو اتباع الشهوات والزيغ والضلال، قال تعالى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} [مريم: 59] ، وصلاح الأعمال في الدنيا والآخرة يرجع إلى إتقان الصلاة والإخلاص، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "أول ما يحاسب عليه العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله" "رواه الطبراني"، ولذلك كانت الصلاة عماد الدين، من أقامها فقد أقام الدين، ومن هدمها فقد هدم الدين، قال -صلى الله عليه وسلم: "رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله" "رواه الطبراني". وأما الأخلاق الاجتماعية التي تنميها الزكاة، فهي تطهر الغني من الشح والبخل والحرص المدمر، وإذا تجرَّدت النفس من هذه الفواحش الذميمة جبلت على الكرم والسماحة، وحسن المعاملة وغيرها مما يؤدِّي إلى سماحة البذل والمعاملة، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا قضى واقتضى" "فتح الباري 5/ 211"، فالزكاة تطهير للغني من الشح والبخل، قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 [التوبة:103] ، ولذلك وصف الله -سبحانه وتعالى- النفس السمحة التي تغلبت على شحها بالفلاح والفوز، قال تعالى: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9] ، وتطهر الفقير من الحقد والحسد والبغضاء، لتطبع نفسه على المحبة والسماحة في المعاملة. وأما الأخلاق الاقتصادية التي تنميها الزكاة، فهي تحثُّ على الاستثمار وعلى الاستهلاك، وكلاهما ضروري في مجال العقود والمعاملات، فتحصيل الزكاة من الأغنياء، يدفعهم إلى استثمار أموالهم، وإلا تآكلت من الزكاة كل عام، فيقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "اتجروا بمال اليتيم حتى لا تأكله الزكاة"، فاكتناز المال يؤدّي إلى خطرين: القضاء عليه وإهلاكه بعدم الاستثمار والتنمية، والقضاء على صاحبه بالعذاب الأليم في الآخرة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] ، وكذلك تحث على الاستهلاك، فالذين يحصلون على الزكاة يستهلكونها في قضاء حاجتهم مما يؤدّي إلى زيادة الاستهلاك، وهذا بدوره يؤدّي إلى زيادة الاستثمار، وسداد ديون الغارمين في الزكاة يشجع الأغنياء والفقراء على القرض والاقتراض لضمان السداد من سهم الغارمين، إذا عجز الفقير عن أداء الدين، وهذا يؤدِّي بدوره إلى الاستثمار أيضًا، وكذلك فالزكاة تحثُّ على العمل وتشغيل رءوس الأموال والعاطلين، فحينما يقضي الفقير حاجاته يؤدِّي إلى كثرة الاستثمار والاستهلاك، مما يؤدي إلى الحث على العمل وتشغيل العاطلين. وأما الأخلاق الاجتماعية التي تنميها فريضة الصوم فهي الصبر، وقوة العزيمة، وأسمى أنواع الأمانات، وكلها من مبادئ الأخلاق في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 العقود والمعاملات، أما الصبر فيغرس في النفس من احتمالها على الجوع والعطش، وهما من ضروريات حياتها وبقائها، والصبر على الضروريات من أشدّ ما تكايده النفس وتعانيه، وبهذا يكون الصبر عليها أقوى من الصبر على غيرها من الكماليات أو اللغو في الحديث أو الفحش في القول وغير ذلك، وأن كان ذلك كله محرمًا أيضًا على الصائم، وينبغي أن يتجنبه ما دام صائمًا، ويصبر على مقاومته، ولذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة" ويقول: "من لم يدع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" "رواه البخاري"، قال تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45] ، فالصبر على الطعام والشراب سلاح ضدِّ الشيطان وهوى النفس والشهوات، قالت عائشة -رضي الله عنها: "أول بلاء حديث في هذه الأمة بعد نبيها الشبع، فإن القوم لما شبعت بطونهم سمنت أبدانهم، فضعفت قلوبهم، وجمحت شهواتهم" "رواه البخاري". والصبر الذي يغرسه الصوم له دوره الفعال في مجال العقود والمعاملات، فهو سلاح قوي يقاوم الشطط في الأسواق ويحارب شهوات النفس من حبها للمال وجمعه بشتى الوسائل، ويوزن التصرفات المالية على أساس من الحكمة والاتزان، ووضع الأمور في نصابها الصحيح، فإذا ما كان أحد المتعاقدين صابرًا بضبط نفسه، كان النجاح والتوفيق حليف المتعاقدين في العقود والتصرفات والمعاملات، وكذلك الصوم يربي في النفس أسمى أنواع الأمانات البشرية، وهي الأمانة الخالصة لوجه الله عز وجل، فالأمين على حاجات الناس قد يتمسَّك بالأمانة، ويزداد تمسكًا وحفاظًا كلما أثنى على أمانته الناس؛ فزيادة التمسك بالأمانة يرجع إلى ثناء الناس لا ابتغاء وجه الله عز وجل، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 ولذلك لم تكن خالصة لله، بل قد تعتريها شبهة الاستجابة لثقة الناس فيه، بينما الأمانة التي يغرسها الصوم لا تعتريها هذه الشبهة، بل تكون خالصة لوجه الله عز وجل؛ لأن أداء الصوم بشروطه وأركانه لا يكون طمعًا في رضى الناس عنه وخوفًا منهم، فقد يتظاهر الإنسان بالصوم أمام الناس إرضاء لهم، أو خوفًا منهم، ثم يأكل ويشرب في الخفاء، وإنما يكون أداء الصيام ابتغاء مرضاة الله خالصًا لوجهه الكريم؛ لأنه يعلم السر وأخفى، ويرى الصائم دائمًا لا تخفى عليه خافية، لذلك يكون الصائم أمينًا، وتكون أمانته أسمى أنواع الأمانات؛ لأنها خالصة لله عز وجل، لا تظاهرًا ولا رياء ولا سمعة، ولا طمعًا في شهوات النفس، ومن ثم يقول الله -عز وجل- في حديث قدسي: "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" "رواه البخاري"، وما أحوجنا في العقود والمعاملات إلى هذا النوع السامي من الأمانة التي يغرسها الصيام في النفس، حينئذ يتعامل الناس فيما بينهم على أساس مجرد من الهوى أو الرياء أو التظاهر، وتكون تصرفاتهم في عقودهم ومعاملاتهم ابتغاء مراضة الله عز وجل، فلا يتظالم الناس ولا يأخذون أموال غيرهم بالباطل. وأما تنمية الأخلاق الاجتماعية عن طريق مشاعر الحج، فيعود إلى ما يغرسه الحج في النفس من مبادئ سامية، أهمها التكافل الاقتصادي بين شعوب الأمة الإسلامية، فتتحد كلمة المسلمين على الوقوف بجانب البلاد الفقيرة لتغطي حاجاتها، وتتعاون معها في سبيل النهوض بها، وإقالتها من عثرتها، لأن الأمة الإسلامية أمة واحدة مثل الجسد الواحد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وهو ما تشير إليه الآية الكريمة من شهود المنافع للمسلمين، قال تعالى: {وَأَذِّن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27-28] ، وقد أقر القرآن الكريم هذه المعاملات والعقود، سواء أكانت مادية في مظهرها الخارجي، أو كانت روحية في جوهرها الحقيقي، وجمعها القرآن في أربعة أعمال مهنية كبيرة، وهي: الزراعة، والرعي، والصيد، والصناعة، والتجارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 التصوير القرآني للأعمال الحرفية 1: التصوير القرآني لحرفة الزراعة : القرآن الكريم حينما يصور مهنة الزراعة، يعطي اهتمامًا بالغًا أكثر من غيرها من التجارة والصناعة والرعي والصيد، لأن الزراعة هي المصدر الأول لمواد الغذاء عند الإنسان والحيوان على السواء، بل قد تكون مصدرًا كبيرًا من مصادر الصناعة الحديثة في المواد الغذائية؛ ولأنها أيضًا عمل مبارك كثير الخير والنماء، إذا أفاضت الأرض والسماء بخيراتهما، ولأن من أبرز خصائصها التوكل على الله من يوم أن توضع البذرة في الأرض، حتى يصل حصادها إلى أيدي الناس لتكون غذاء شهيًّا، يعين على طاعة الله عز وجل، لذلك يقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فتأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة" "رواه مسلم"، ويصور القرآن الكريم الزراعة ليقيم من خلالها منهجًا تشريعيًّا أخلاقيًّا، يحدد فيها القيم الإنسانية النبيلة، التي   1 مجلة الفيصل بالمملكة العربية السعودية، العدد 76 شوال 1403هـ -أغسطس 1983م، السنة السابعة، ص48 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 يتعامل بها الإنسان مع ربه عز وجل، ومع أخيه الإنسان، ومع الطير والحيوان، وكل روح خلقها الله عز وجل، لتظل هذه القيم السامية مع الزراع فيكل عصر وجيل، فهي باقية مع تطور الآلات الزراعية من جيل إلى آخر، ومن زمن إلى زمن، فالآلات الزراعية تتطور وتتغير حسب الظروف والتقدم الحضاري، لكن القيم الأخلاقية التي شرعها القرآن خالدة، لا تتغير ولا تتبدل، بل تظل صالحة لكل الأجيال والأزمان؛ لأنها هي المنهج التي تدور عليه الحياة الزراعية؛ ليضع في كل مجتمع سلوكًا يتناسب مع ظروفه وعصره الحضاري. وموضع الحديث هنا مهنة الزراعة من خلال التصوير القرآني فقط دون الحديث الشريف فله مجال آخر؛ فيحث القرآن الكريم المعجز على تعمير الأرض، واستغلالها بالزراعة، فتنشق عن عطاءها الموفور من الحبوب والبقول والفواكه والثمار والخضروات والمراعي، والنخيل، والأعناب والزيتون والرمان، والتين والأشجار، ليتأمل الإنسان في نعم الله وخيراته؛ فيشكره ويثني عليه، قال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ، أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا، ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا، فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا، وَعِنَبًا وَقَضْبًا، وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا، وَحَدَائِقَ غُلْبًا، وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 24-32] ، وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 99] ، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وقال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأنعام: 141] ، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ، يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 10- 11] ، وقال تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الرعد: 4] ، ويقول تعالى: {وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ، تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ، وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ، وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ، رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} [ق: 7-11] ، ويقول تعالى: {أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ، أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} [الواقعة: 63-64] ، ويقول تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [الزمر: 21] . ويصور القرآن الكريم في مجال الاختيار والفتنة، فمن أدى شكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 هذه النعمة لا يتعرَّض لمحنة الله وعذابه في الدنيا والآخرة، لأنه وفي حق الله فيها وأحسن ولايته عليها، فيضاعف له العطاء في الدنيا والآخرة، ومن لم يؤدِّ شكر هذه النعمة، باتباع ما أمر الله تعالى، واجتناب ما نهى عنه، أصبحت نقمة عليه، تجلب له الغضب والعذاب الأليم في الدنيا والآخرة، قال تعالى يصور ذلك في بيان معجز خلَّاب: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ، أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} [البقرة: 265-266] ، ويقول تعالى: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ، فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ، ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ} [سبأ: 15-17] . ويقول في قصة الرجلين الذين ابتلاهما الله عز وجل، أحدهما بالفقر فصبر فرضي الله عنه، والآخر بالمال والولد وجنات تجري من تحتها الأنهار، فأغواه الشيطان ونسي الرحمن، ولم يشكر ربه على نعمه، فغضب الله عليه، بل أشرك به، وليس بعد الشكر ذنب، فأحبط الله عمله في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا، كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا، وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا} ... {وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا، فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا، أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا، وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا، وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا} .... {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا، الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا} [الكهف: 32-46] ، وكذلك حين يصوِّر القرآن أصحاب الجنة في قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ، وَلَا يَسْتَثْنُونَ، فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ، فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ، فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ، أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ، فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ، أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ، وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ، فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ، بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ، قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِحُونَ، قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ، قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ، عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ، كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [القلم: 17-33] ، وكذلك رؤيا الملك التي فسرها يوسف -عليه السلام- بأن يستمر الناس في الزراعة سبع سنين، وتظل الحبوب في سنابلها ومخزنها الطبيعي محفوظة من الآفات والحشرات، لكي يقاوم الجدب، الذي سيحدث في المستقبل بإرادة الله عز وجل، ومعجزة ليوسف عليه السلام، وهنا يشرع القرآن الكريم الإدخار لتوقع واحتمال النقصان في السنين العجاف، قال تعالى: {قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ، ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ} [يوسف: 47-49] ، وتلقيح الزروع لكي تثمر بعض أزهارها قرَّره القرآن قبل أن ينكشف في علوم الأحياء منذ خمسة عشر قرنًا، ويحدثنا عن التلقيح عن طريق الرياح، واحتكاك الزهور بعضها ببعض، لتكون الثمرة ناضجة على أتم وجه، يقول تعالى: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ، وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ، وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ، وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ} [الحجر: 19-22] . وأما دعوة خليل الله إبراهيم -عليه السلام- المستجابة، وطلبه من الله عز وجل أن يعمر الله أرض الجزيرة الجدباء، وتلك الصحراء بالزروع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 والثمار، فتحوَّلت تلك الجبال إلى زروع وثمار، وأفاض الله عليها من بركات السماء، وفي كل يوم جديد ترى بقعة جديدة عامرة بالثمار والزروع، وستظل دعوة إبراهيم باقية مباركة فيها إلى يوم القيامة، قال تعالى: {رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} [إبراهيم: 37] ، وهذه هي القيم الأخلاقية لمهنة الزراعة التي جاء بها القرآن الكريم، أما فقه المزارعة، وباب إحياء الموات من الأرض وغير ذلك مما يتصل بالزراعة، فقد تولَّى الحديث الشريف والفقه الإسلامي شرحه بالتفصيل في نظام فريد، شهد به وبدقة إحكامه أعداء الإسلام، والفضل ما شهدت به الأعداء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 التصوير القرآني لحرفة الرعي والصيد : والرعي والصيد من أقدم الأعمال الحرفية، التي عرفها الإنسان البدائي القديم، حيث كانت الأرض معمورة بالأعشاب والمرعى، وما عليه إلا أن يتحرك وراء الحيوان الأليف لتبتلعه الوديان المعشوشية، والسهول الممرعة، ولا زال الإنسان المتحضر في العصر الحديث، يعتمد على الرعي والصيد، فالحيوان يستخرج منه أهم غذاء للإنسان، وهو المواد "البروتينية"، والمواد "الدهنية"، فمنه تأخذ اللحوم والشحوم، واللبن والجبن، والزبد، والقشدة والسمن، وتستخدم جلودها في شتَّى الصناعات الحديثة من الأحذية، والأحزمة والحقائق وغيرها، كما كانت تستخدم قديمًا في إقامة البيوت، ومن أصوافها تُصنع أفضل أنواع الملابس الثقيلة والخفيفة، وليست حرفة الرعي وتربية الحيوان بالحرفة البدائية البدوية في العصر الحديث كما يدَّعي البعض، ولكنها أصبحت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 في منزلة الزراعة مدنية، وحضارة تدفع إلى المدنية والتقدم والرقي، وكذلك الصيد ما زال أهم الحرف المتحضرة في العصر الحديث، مثل صيد الأسماك والحيوانات البحرية العجيبة، ومثل استخراج اللآلئ، واليواقيت، والجواهر والمرجان من البحار، فأصبحت لها وزنها الحضاري وميزانها النقدي في مجال الاقتصاد المعاصر، فإذا ما توفرت هذه المصائد لدى أي أمة، قفزت بها هذه الحرفة إلى مستوى الدول الغنية الواسعة الثراء بين دول العالم في أنحاء الدنيا، ومنذ قرن اشتهرت بريطانيا بأساطيلها البحرية لصيد الأسماك والجواهر في البداية، وعن طريق الترويض في هذه الحرفة خلعت عليها الدول المجاورة لقب "سيدة البحار"، ثم انطلقت من هذه الحرفة لتسيطر على الدول الضعيفة باستعمار أراضيها قرابة قرن من الزمان. أما حرفة الرعي فكانت مهنة أفضل خلق الله، وهم الرسل عليهم السلام، لتنمي في نفوسهم غريزة الصبر وقوة الاحتمال، وتحمل الشدائد، فكليم الله موسى -عليه السلام- حينما خرج خائفًا من المدينة، وتوجَّه تلقاء مدين، وجدّ أمة من الناس يسقون أغنامهم من بئر، قال تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ، فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ، قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ، قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ، قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ} [القصص: 23-28] ، وهكذا ظل موسى -عليه السلام- في مهنة الرعي عشر سنين عند نبي الله شعيب عليه السلام، ليوفِّي ما عليه من صداق الزواج. وكذلك بقية الأنبياء حتى جاء خاتم الأنبياء والمرسلين محمد -صلى الله عليه وسلم- ليعمل في مهنة الرعي منذ بداية حياته لعمه أبي طالب الذي تكفُّله بعد وفاة جده عبد المطلب، والسيرة النبوية تحدثنا عن ذلك بالتفصيل، ويصوّر القرآن الكريم المرعى والأعشاب التي أنبتها الله بعد الغيث بلا رعاية من الإنسان، حتى أصبحت المرعى كالماء والنار والملح من الأشياء المشاعة، التي لا يختص بها أحد دون آخر، بل هي حق مشاع لجميع المسلمين: الناس شركاء في ثلاثة وقيل في أربعة: الماء والنار والكلأ والملح، اللهم إن حمى ولي الأمر المرعى لفئة معينة من المسملين لفقرهم، كما حمى النبي -صلى الله عليه وسلم- "أرض النقيع"، وكما حمى عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أرض "الربذة"، قال تعالى في المرعى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [عبس: 31-32] ، وقال تعالى: {وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا، أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا، وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا، مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ} [النازعات: 30-33] ، وقال تعالى: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ، وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} [النحل: 5-8] ، وقال تعالى: {وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ، ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ، وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الأنعام: 142-144] ، وهكذا يصور القرآن الكريم في سورة سميت باسم الأنعام -وهي من كبار السور- الحيوان الذي يحل في حالاته المتنوعة، وما يحرم من الحالات الأخرى كأن يكون دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير أو ميتة، فإنه رجس أو فسقًا أهل لغير الله به، فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك غفور رحيم، وقال تعالى: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا} [النحل: 66] . وأما النحل وما يستخرجه من عسل مصفى فيه شفاء للناس، حين يتخذ من الجبال بيوتًا، ومن الشجر وما يقيمه الناس من الخلايا المعدة على غرار بيوتها في الجبال والشجر، يقول تعالى: {وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ، ثُمَّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 68-69] ، وأما صيد الحيوانات من البر فقد حرم الله صيده في زمن الإحرام، وأحله بعد التحلل من مشاعر الحج، قال تعالى: {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [المائدة: 96] ، ويدخل في ذلك الطير، وهو حيوان أيضًا مما جاء الحديث بتوضيحه، فما نصَّ عليه بالتحريم فهو حرام، وما عدا ذلك مما تعارف عليه الناس فهو حلال. وأما صيد الأسماك واللآلئ والجواهر واليواقيت، والمرجان وغيرها من أصداف البحر وحلاه، فقد صوره القرآن الكريم تصويرًا يحثُّ فيه عباد الله على أن يبتغوا من فضل الرزاق ونعمه الكثيرة، فيغتدى باللحم من الأسماك المتنوعة، ويتزينون بأصدافه وجواهره، ويزدادون ثراء من البحر كالبر، قال تعالى: {وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 14] ، وقال تعالى: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} [فاطر: 12] ، وقال تعالى: {مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ، بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ، فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ، يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} [الرحمن: 19-22] ، فالتصوير القرآني لهذه الحرفة أيضًا يحثُّ على تشريعها للبشرية، لكن من خلال القيم السامية التي جاء من أجلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 التصوير القرآني لبناء الخلق القيم في الإنسان، حتى نحسن معاملته مع الله ومع نفسه ومع الناس أجمعين، ولا تخلو كل آية من الآيات السابقة مما يأتي من الحث على العمل لا الكسل والخمول، فليس هذا من طبيعة المؤمن، بل يجب عليه أن يعمل، وأن يختار العمل الذي يجيده، فإذا قام به بعضهم سقط عن الباقين، وإلا وجب عليه أن يعمل في المهنة التي تحتاجها الأمة لتسدَّ النقص الواقع فيها. التشريع والتقرير لهذه المهنة العملية من خلال ما شرعه الله -سبحانه وتعالى- حين ذكرها في القرآن أمرًا ونهيًا أو تقريرًا، سواء أكان ذلك إخبارًا عن قوم أو أنبياء سبقوا، أو كانوا توجيهًا صريحًا لأنه محمد -صلى الله عليه وسلم- فكلاهما تشريع لنا وشريعة إسلامية لهذه الأمة الآخرة، ودائمًا يكون التشريح والتقرير للحرفة من خلال النص على القيم السامية التي يتعامل بها الإنسان الصالح مع الله ونفسه ومع الناس أجمعين، مثل قوله: {لِقَوْمٍ يَعْقِلُون} ، {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين} ، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} ، {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ، {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون} ، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِه} ، {فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} ... وهكذا في كل آية اشتملت على حرفة أو مهنة في القرآن الكريم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 التصوير القرآني لحرفة الصناعة : ومهنة الصناعة من الحرف التي اهتمَّ بها التصوير القرآني ليحث المسلم على العمل بها والإنتاج في مجالاتها المختلفة، بل كان بعض الأنبياء والرسل يجيدون العمل في بعض الصناعات التي اشتهروا بها، فنبيُّ الله نوح -عليه السلام- صنع السفينة التي حملت عالمًا جديدًا، ليعمر الحياة بوجه جديد يقوم على أساس من التقوى لا الكفر والضلال، حيث اندحر أهله مع طوفان الأرض والسماء، وكان من بينهم ابن نوح -عليه السلام، ومن هذا الحدث التاريخي نشات صناعة السفن، قال تعالى: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ، وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ} ... {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ، وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ، وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 37-42] ، وقال تعالى: {وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ، تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ} [القمر: 13-14] . وقد ارتبطت صناعة السفن بالقيم الروحية التي تقيم في الإنسان بناء أخلاقيًّا، حيث كانت سفينة نوح -عليه السلام- هي منجاة العقيدة والإيمان الذي يرضى عنه الله عز وجل، ونبي الله داود -عليه السلام- اشتهر بصناعة الدروع والأسلحة من الحديد، قال تعالى: {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} [الأنبياء: 80] ، وقال تعالى: {ولَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ، أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [سبأ: 10-11] ، وكذلك فمن الحديد تنوع المصنوعات، ولذلك سمى الله إحدى سور القرآن بسورة الحديد، قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] ، وأصبح الحديد هو القوة في العصر الحديث التي أشار إليها الله -سبحانه وتعالى- في قوله: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: 60] ، وترى أن صناعة الحديد هنا ارتبطت بالعدل والميزان والرسل والمنافع للناس والنصر لكلمة الله، وكذلك القوة ارتبطت بإرهاب أعداء الله الذي يعتدون على دينه ومقدساته، ثم تنتهي الآية الأولى بالقوة والعزة وأن الله قوي عزيز، بما يتناسب مع الحديد، وكذلك الآية الثانية في مضمونها. أما صناعة السدود فيصور القرآن ما صنعه ذو القرنين ليوقف زحف يأجوج ومأجوج في زحفهم على الآخرين، فقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا} ... {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا، كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا، ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا، حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا، قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا، قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا، آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا، فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا} [الكهف: 83-97] ، وكان قامة هذا السد لدفع الأذى عن الإنسان، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 ودرء الفساد والطغيان من يأجوج ومأجوج، فهم مفسدون في الأرض، ولذلك قال الله تعالى بعد هذه الآيات على لسان ذي القرنين: {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا} [الكهف: 98] ، وأما صناعة الأسورة وأدوات الزينة والرفه من الذهب، قال تعالى: {فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ} [الزخرف: 53] ، وكذلك صناعة الصحاف والأطباق والأكواب: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف: 71] ، وقوله تعالى: {وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ} [الغاشية: 14] ، وجاءت هذه الصناعات في سور كثيرة منها سورة الطور، وسورة يس، وسورة الرحمن، وسورة الواقعة، وسورة الزخرف، والإنسان، وغيرها مما ورد في سياق الترغيب أو الترهيب. وأما صناعة القرش والسرر والمفروشات، قال تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن: 54] ، وقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} [الرحمن: 76] ، وقوله تعالى: {فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ، وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ، وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ، وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ} [الغاشية: 13-16] ، وأما صناعة الأواني الفخارية في قوله تعالى: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13] ، وأما صناعة النار فقد صورها القرآن الكريم في قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ، أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ، نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 [الواقعة: 71-73] ، وأما صناعة البناء، فتشمل البيوت الخفيفة المتنقلة التي تخضع لظروف البوادي والرحلات من مكان إلى آخر مثل الخيام {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} [النحل: 80] ، وتشمل صناعة البيوت الثابتة المستقرة في الحضر كالقصور، والصروح، قال تعالى: {قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [النمل: 44] ، وقال تعالى: {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} [ص: 37] ، وقال تعالى يمن على قوم هود -عليه السلام- بصناعة البناء والصناعة بصفة عامة، قال تعالى: {أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ، وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ، وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} [الشعراء: 128-131] ، كما يمن الله تعالى على قوم صالح -عليه السلام- في مدائن قوم ثمود، التي ما زالت تزهو بفنها حتى الآن، يقول تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِين} [الشعراء: 149] ، وأما صناعة الملابس فقد صورها القرآن الكريم في قوله تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} [الأعراف: 26] ، وقال تعالى بحث المسلم على أن يتزيَّن بأحسن الثياب وأدوات الزينة التي تجعله جميلًا حسنًا، قال تعالى: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ، قُلْ مَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [الأعراف: 31-32] . وأما تسخير الرياح للنقل، وإن كانت في صورة معجزة من الله -عز وجل- لنبي الله سليمان -عليه السلام، لكنها أوحت إلى العقل البشري، ليتخذ الأسباب في سبيل الوصول إلى تسخير الرياح، كما سخرها سليمان للنقل لا على سبيل المعجزة، ولكن باتخاذ أسباب العلم حتى صار الجو حديثًا معبرًا للطيران في جميع أنحاء العالم، قال تعالى يصف معجزة سليمان في تسخير الرياح: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} [الأنبياء: 81] ، وقال تعالى: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} [سبأ: 12] ، وقال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} [ص: 36] ، وقال تعالى: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [فاطر: 12] ، وهكذا صور القرآن الكريم الحرف الصناعية تصويرًا معجزًا ليرسي الخلق الإسلامي خلق القرآن الكريم فيتحقق ما يأتي: التشريع والتقرير لهذه الصناعات، وأنها مشروعة من قبل الله عز وجل: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ} [الملك: 15] ، وغرس القيم وتنمية الفضائل من خلال التشريع لهذه الصناعات المتنوعة، لتحقق الغاية من الإسلام وهي الأخلاق "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، كما حث الإسلام على العمل والصمود فيه، فخير الكسب ما كان عن جهد ومشقة "من أمسى كالًّا من عمله بات مغفورًا له". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 التصوير القرآني لحرفة التجارة : القرآن الكريم هو كتاب هذه الأمة إلى قيام الساعة، فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم، يقيم منهجًا مستقيمًا يتجاوب مع الإنسان في أي مكان، وفي كل الأزمان {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} [المؤمنون: 52] ، على العكس من الأمم السابقة، فقد كان لكل قوم تشريع يتناسب معهم، ولا يتناسب مع غيرهم، ولا يصلح إلا لعصر وجيل واحد، وهو الجيل الذي يعيش فيه الرسول حتى يلتحق بالرفيق الأعلى فتنقطع رسالته من بعده، قال تعالى: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} [الحج: 67] ، لهذا العموم في رسالة الإسلام، كانت الغاية من القرآن الكريم في تصوير الحرف والمهن العامة، وتصوير التجارة خاصة، هي إقرار الحرفة والمهنة، وتشريعها من خلال القيم الإسلامية، لتكون منهجًا صالحًا لتطبيقه في كل عصر، ولتستجيب مع أمسى الغايات للإسلام، وهي البناء الأخلاقي للإنسان المثالي، التي تحسن علاقته مع ربه ومع الناس أجمعين. هذا هو منهج القرآن الكريم في تصوير الحرف، وسنوضح حرفة التجارة من خلال القرآن وحده غير مرتبط بالسنة الشريفة، وفيها تفصيل شامل لها، وليست السنة موضع حديثنا، لأنني سأتحدث عن التجارة في القرآن الكريم هنا بصفة خاصة. صور القرآن الكريم أعمال التجاربة في إعجاز بياني يقوم على تشريعها من خلال القيم الإسلامية، التي تميِّز بين الغثِّ والسمين، وبين الحلال والحرام، وبين الطيب والخبيث، ليوضح للإنسان التجارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 المشروعة: ويحرم عليه غير المشروع فيها، الذي يتنكب طريق الفطرة الإنسانية المستقيمة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ، الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 267-268] ، ثم يبين التجارة المشروعة ويميزها عن التجارة غير المشروعة، في حوار مع الذين أضلهم الشيطان عن الحق، فيقول تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ، يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} [البقرة: 275-276] . ومن لم يلتزم بشريعة الله في التجارة، فستعلن عليه الحرب لا من الناس فقط، بل من الله ورسوله، وهذا التصوير القرآني أعنف تهديد للإنسان على وجه الأرض في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ، وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ} [البقرة: 278-281] . وينكر القرآن، بل يحرم كل سيطرة على حقوق الغير بالباطل، فيقول تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [البقرة: 188] ، ويصور القرآن الكريم تحريم التجارة والبيع أثناء الصلاة، وخاصة صلاة الجمعة، ثم يأمر الله -عز وجل- بالعمل والتجارة والبيع والشراء بعد أداء الصلاة، ليبتغوا من فضله، ويشكروه على نعمه التي أمتن بها عليهم، فقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ، فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} [الجمعة: 9-11] . لذلك جعل القرآن التجارة ابتغاء مرضاة الله لا تطاولًا ومفاخرة، ورياء وسمعة، فهذا يحقق للإنسان السعادة في الدنيا والآخرة، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الصف: 10-11] ، ويقول أيضًا يصور التجارة من خلال العقيدة الصحيحة: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] ، ويصوّر القرآن الكريم التجارة وأعمال البيع والشراء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 المشروعة لتقوم على القيم الإنسانية النبية مجردة من الأنانية والغش والبخس والتطفيف والفساد والضلال وغيرها، مما يتنافى مع الفطرة الظاهرة، يقول الله تعالى: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء: 181-183] ، وقال تعالى: {وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ، أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ، وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ} [الرحمن: 7-9] ، وقال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ، يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1-6] . ويمتن الله -سبحانه وتعالى- بما أسبغ على قريش من نعم التجارة وفضلها عليهم دون سائر العرب آنذاك، من خلال رحلتيهما العظيمتين رحلة الشتاء إلى اليمن، ورحلة الصيف إلى الشام، وحين يقرِّر القرآن هذا العمل في الجاهلية يصير بعد ذلك تشريعًا إسلاميًّا لهذه الأمة، فشرع من قبلنا شرع لنا إذا ورد في القرآن ما يقرِّره، قال تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ، إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ، فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ، الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش: 1-4] . وهنا قرر القرآن التجارة لا كما كانت عليه الجاهلية الأولى، ولكن من خلال قيم الإسلام التشريعية، وهي أن تكون مرتبطة بمرضاة الله عز وجل، رب هذا البيت الذي بسببه كانوا أفضل البشر على وجه الأرض، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 لأن فيهم خير البشر محمد -صلى الله عليه وسلم، وقافلة الأسباط التجارية تنزل على وزير الخزانة والتموين والاقتصاد يوسف عليه السلام، ويطلبون منه أن يفيض عليهم بالخير في تجارتهم، وأن يوفِّي لهم الكيل، حتى يرجعوا رابحين في رحلتهم، ليلقي الجزاء الأوفى من الله عز وجل، وهو جزاء المتصدقين المحسنين في إدارة أعمالهم: {فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ} [يوسف: 88] ، ويصور القرآن الكريم تجارة البحر، كما صور تجارة البر السابقة، فيقول تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِي فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ، إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ، أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى: 32-34] ، ويقول تعالى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ} [العنكبوت: 65] ، ويقول تعالى: {وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ} [الرحمن: 24] ، وقال تعالى: {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ، فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [يونس: 22-23] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 ويوضح الله -عز وجل- المقاييس الأخلاقية في الأعمال، فيحث القرآن الكريم على التجارة، ويحرم الكنز للأموال، يقول تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [التوبة: 34] ، والنفقة في سبيل الله تشمل تنمية الأموال والعمل فيها، لأنها ستعود على المسلمين بتشغيل العاطلين، وتوفير السلع لهم، واستثمار الأموال وزيادتها، وزيادة الدخل والعائد وغيرها مما يهدف إليه الاقتصاد الإسلامي، والاستثمار في مؤسسات الإنتاج من أعظم المصارف في سبيل الله، لأنها تعود على الأمة بالعزة والمجد والقوة {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} [المنافقون: 8] ، ويحث القرآن الكريم على الإنجار في مال اليتيم والسفيه حتى لا تأكله الزكاة كل عام فيقول تعالى: {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلا مَعْرُوفًا، وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} [النساء: 5-6] . وحث على الكتابة في الديون حتى لا يقع التنازع بين المسلمين في تجارتهم، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ} إلى قوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} إلى قوله: {وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ} [البقرة: 282-283] ويضع القرآن الكريم المقياس المثالي في الأعمال التجارية، فيقول سبحانه وتعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 37-38] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الأخلاق الإسلامية ودورها في الإنتاج والعمل : القيم الإسلامية لا تقبل مطلقًا من المسلم أن يحصل على المال بلا تعب ولا بذل، وينفر من تحصله عن طريق المسألة والتسول، لذلك كان العمل ومضاعفة الإنتاج هو السبيل الوحيد للحصول على المال، وهو الذي تحث عليه القيم الإسلامية، فالعمل في الإسلام هو الوسيلة الوحيدة لزيادة الإنتاج وبناء الاقتصاد الإسلامي بناءً قويًّا وجادًّا، وعلى قدر ما يبذل المسلم من عمل ينال من الأجر والمال في الدنيا، والثواب وحسن الجزاء في الآخرة، قال تعالى: {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل: 97] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} [البقرة: 168] ، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "من أمسى كالًّا من عمل يده بات مغفورًا له"، ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم: "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا فيأكل منه طير أو بهيمة إلا كان له به صدقة" "رواه مسلم"، ويقول صلى الله عليه وسلم: "ما أكل أحد طعامًا قط خيرًا من أن يأكل من عمل يده، وأن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده" "رواه البخاري". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 وقد رعي النبي -صلى الله عليه وسلم- الغنم قبل النبوة، واشتغل بالتجارة لخديجة أم المؤمنين -رضي الله عنه، وأن الصحابة كانوا عمال أنفسهم، وأن المهاجرين كان يشغلهم الصفق في الأسواق "رواه البخاري 4/ 287"، ولعناية الإسلام بالعمل والإنتاج، واهتمامه بهما، وضع القيم الإسلامية، وشرع الأخلاق التشريعية لضبط العمل والسمو بالإنتاج، وهذه الضوابط الأخلاقية في العمل والإنتاج من أهمها: من خلق الإسلام أن يحث المعدم على العمل بساعده وجهده بقدر طاقته، ليحصل رزقه ويضمن عيشه، فدفعه إلى العمل، ونفره من العجز والكسل، ونهاه عن التسول والسؤال والاستجداء، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يزال الرجل يسأل حتى يأتي يوم القيامة وليس في وجهه مزعة لحم" "رواه البخاري ومسلم"، ويقول أيضًا: "لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة من الحطب على ظهره فيكف بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أم منعوه" "رواه البخاري"، ومن خلق الإسلام أيضًا أن يحث المسلم على النشاط والعمل، وينهاه عن الاستسلام لهموم الدين، وعن القعود لغلبة الحاجة، وكما قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "المعدة بيت الداء، والحية رأس الدواء"، وهذا هو البلسم الشافي، الذي عالج به النبي صاحبه "أبا أمامه"، حينما أثقلته الهموم وغلبته الديون، فقال له: "ألا أعلمك كلمات إذا قلتها قضي الله دينك وفرج عنك"، قلت: بلى يا رسول الله، قال: "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال". ومن خلق الإسلام أيضًا ألا يكون المعدم عالة على غيره، مهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 كانت الظروف والأسباب، بل لا بد أن ينمي فيه روح العمل والمثابرة وبذل الجهد، ولا أدل على ذلك من قصة مؤاخاة عبد الرحمن بن عوف -رضي الله عنه- بعد أن ترك داره وماله في مكة، آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بينه وبين سعد بن الربيع -رضي الله عنهما، فقال له: إني أكثر الأنصار مالًا فأقسم لك نصف مالي، وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها فإذا أحلت تزوجتها، فقال له عبد الرحمن: لا حاجة لي في ذلك، هل من سوق فيه تجارة؟ قال سعد: سوق بني قينقاع، قال عبد الرحمن، فأتى بأقط وسمن، قال: ثم تابع التجارةفما لبث أن جاء عبد الرحمن عليه أثر صفرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تزوجت؟ " قال: نعم، قال: "ومن؟ " قال امرأة من الأنصار، قال: "كم سقت؟ " قال: زنة نواة من ذهب "أو نواة من ذهب"، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "أولم ولو بشاة" البخاري 4/ 288". ومن خلق الإسلام أن يحفز على العمل، ويحث على الاستغناء والاستعفاف، ويمنع الزكاة عن الأقوياء القادرين على العمل، لما رواه عبد الله بن عدي بن الخيار: أن رجلين حدَّثاه أنهما أتيا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يسألانه من الصدقة، فقلب فيهما النظر فرآهما جلدين، فقال: "إن شئتما أعطيتكما ولا حظَّ فيهما لغني ولا لقوي مكتسب في حكم الغني فلا يستحق زكاة ولاصدقة؛ لأن صناعته جعلته غنيًّا، لتكون يده هي العليا، واليد العليا خير من اليد السفلى"، قال صلى الله عليه وسلم: "اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول، وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنًى، ومن يستعفف يعفه الله، ومن يستغن يغنه الله" "متفق عليه"، ومن خلق الإسلام أن يعمل الإنسان بيده، ويزاحم في العمل بكاهله، فقد اشترك المسلمون جميعًا في بناء مسجند النبي -صلى الله عليه وسلم، وفي حفر الخندق حول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 المدينة، واشترك النبي معهم، فكان يحمل الحجارة، ويحفر بيده، ويحرسه بنفسه ليكون قدوة حسنة للمسلمين من بعده، ويسيرون على نهجه وجده في العمل، ومن خلق الإسلام في العمل والإنتاج، أنه يضع المسلم في مكانه المناسب منه، ويرفعه إلى موقعه الصحيح، واعتبر ذلك مما يوجب النصح لله ولرسوله وللمؤمنين، ومما يوجبه أداء الأمانة التي أؤتمن عليها المسئول عن ذلك، وعكس ذلك يكون الغش والخيانة وضياع الحقوق، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الأنفال: 27] . ويضع يوسف -عليه السلام- نفسه في العمل الذي يتقنه، فيقول للملك، قال تعالى: {اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} [يوسف: 55] ، وتصف بنت شعيب موسى -عليهما السلام- مؤهلاته للعمل عند أبيها، قال تعالى: {يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ} [القصص: 26] ، ووضع الرجل في مكانه المناسب من باب النصيحة في الدين؛ قال صلى الله عليه وسلم: "الدين النصيحة"، قالوا: لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ورسوله ولكتابه ولأئمة المسلمين وعامتهم" "رواه الحاكم وصححه"، والرجل في غير مكانه يُعَدّ غشًّا وخداعًا، والغش والخداع يخرج المتصف بهما عن الإسلام والمسلمين، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "ومن غشنا فليس منا"، وأن ذلك من علامات الساعة، قال أيضًا: "إذا وُسِّد الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة" ولذلك لعن الله الراشي والمرتشي؛ لأنهما يمنعان الحق عن صاحبه، ويضعان الرجل في غير محلِّه، وفي مكان لا يتناسب مع مؤهلاته، وطبق الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه -رضي الله عنه- ذلك في حياتهم العملية، فوضعوا كل إنسان حسب ما يجيد من عمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 ومهارة، فيختار النبي عمر عاملًا على الصدقات لعدله وحزمه، واختار خالدًا قائدًا على الجيش لحنكته العسكرية ومهارته، ومعاذًا واليًا على اليمن لرجاحة عقله وفقهه، وبلالًا على بيت المال لتدبيره وأمانته، وأنسًا على الحدود لقوته وقدرته، ويرد الأشعريين وأبا ذر لضعفهم في الولاية، ويختار أبا بكر الصديق زيد بن ثابت لجمع القرآن لعلمه وفطانته وكياسته، وهكذا صنع عمر بن الخطاب -رضي الله عنهم- جميعًا. ومن خلق الإسلام أيضًا حثّه على العمل في طريقه المباح، وحرمه في الطريق المحظور والحرام، أو ما يؤدّي إلى الحرام، قال صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام"، فقيل يا رسول الله: أرأيت شحوم الميتة، فإنها تُطلى بها السفن، وتُدهن بها الجلود، ويستصبح بها الناس؟ فقال: "هو حرام"، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله اليهود، إن الله تعالى لما حرم عليهم شحومها جمَّلوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه" "متفق عليه"، وقال صلى الله عليه وسلم: "لعن الله آكل الربا ومؤكله وشاهديه وكاتبه"، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [المائدة: 90] . ومن خلق الإسلام أن يعرف المسلم متطلبات العمل، حتى يتقنه ويؤديه على أحسن وجه، وقد وصف الله العمل المتقن بالصلاح؛ لأن صاحبه أخلص العمل فيه لوجه الله تعالى، وبذل فيه قدر طاقته، قال تعالى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} [الأنبياء: 105] ، وقال تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} [سبأ: 37] ، ومن خلق الإسلام الإخلاص في العمل، ليوفيه حقه، فقد وعد الله المخلصين في أعمالهم بمضاعفة الأجر: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: 30] ، وقال صلى الله عليه وسلم: "إن الله يحب إذا عمل أ؛ دكم عملًا أن يتقنه"، وقال أيضًا: "الخازن الأمين الذي يؤدي ما أمر به طيبة به نفسه أحد المتصدقين" "رواه الطبراني"، ومن خلق الإسلام في العمل والإنتاج أن يوفي العامل شروط عقد العمل التي اتفق عليها، قال صلى الله عليه وسلم: "المسلمون على شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا" "رواه الطبراني"، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ} [المائدة: 1] . ومن خلق الإسلام في العمل والإنتاج، أنه حث المسئول على محاسبته ومساءلته، فلا يترك العامل وهواه حتى لا تجرفه الشهوة إلى الخطأ وموارد الهلاك، فالإيمان يرغبه في مرضاة الله عز وجل، ويحذِّره من عذابه وسخطه، والراعي يحاسبه إن قصر في عمله، أو أهمل واجبه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إنما أهلك من كان قبلكم إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد"، وقال أيضًا: " من استعملناه منكم على عملم فكتمنا مخيطًا فما فوقه فهو غلول يأتي به يوم القيامة"، فقام رجل من الأنصار أسود -كأني أنظر إليه- فقال يا رسول الله: أقبل عني عملك، "قال: وما ذلك؟ " قال: سمعتك تقول كذا وكذا، فقال رسول الله: "وأنا أقوله الآن: ألا من استعملناه على عمل فليجئ بقليله وكثيره، فما أعطي منه أخذ، وما نهي عنه انتهى" "رواه مسلم وأبو داود"، وعن أبي حميد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 استعمل رجلًا فجاء يقول: "هذا لكم وهذا أهدي إليَّ، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: " ما بال العامل نبعثه فيقول: هذا لكم وهذا أهدي إليّ؟ أفلا جلس في بيت أبيه وبيت أمه، فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحد منهم بشيء إلا جاء به على رقبته يوم القيامة إن كان بعيرًا له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تبعر"، ثم رفع يده حتى رأينا عفرة إبطيه، ثم قال: "هل بلغت، اللهم هل بلغت؟ " "رواه البخاري ومسلم". ومن خلق الإسلام في العمل والإنتاج أن يوفي الأجير أجره، وأن يعطي العامل حقه، وجعله الإسلام من باب الأمر بالعدل والإحسان، قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ} ، ومنع الأجر عنه من باب الظلم المحرم عند الله تعالى، جاء في الحديث القدسي: "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرمًا فلا تظالموا"، ومن هنا أحل الإسلام الصدقة للغني من مصارف الزكاة، لأنه عامل عليها، فالواقع أنها أجر لعمله، وليست صدقة، قال صلى الله عليه وسلم: "لا تحل لغني إلا لخمسة ... لعامل عليها" "رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه"، وفي الحديث: "ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة .... ورجل استأجر أجيرًا فاستوفى منه ولم يعطه أجره"، وقال أيضًا: "أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفَّ عرقه". ومن خلق الإسلام في العمل والإنتاج أنه أعطى للعامل حق الرعاية والكفالة من صاحب العمل، فعليه أن يوفّر له حقَّه من التعليم والصحة والسكن، ولأولاده كذلك، لأنه راعٍ وهو مسئول عن رعيته؛ لأن هذا يعين العامل على حسن تأدية العمل على خير وجه، قال صلى الله عليه وسلم: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من ولي شيئًا فلم تكن له امرأة فليتزوج امرأة، ومن لم يكن له سكن فليتخذ مسكنًا، ومن لم يكن له مركب فليتخذ مركبًا، ومن لم يكن له خادم فليتخذ خادمًا، فمن اتخذ سوى ذلك كنزًا، أو إبلًا جاء يوم القيامة غالًا أو سارقًا" "البخاري: الأموال"، وهذا ما دعا أبو ذرا لغفاري رضي الله عنه أن يلبس غلامه مثل ما يلبس ويؤاكله مثل ما يأكل، ونترك له حكاية السبب في ذلك، يقول المعرور بن سويد: "رأيت أبا ذر الغفاري -رضي الله عنه- وعليه حُلَّة وعلى غلامه حُلَّة، فسألناه عن ذلك، فقال: إني ساببت رجلًا، فشكاني إلى النبي -صلى الله عليه وسلم، فقال لي النبي -صلى الله عليه وسلم: أعيَّرته بأمه؟ ثم قال: إن إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه ما يأكل، وليُلبسه مما يلبس، ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم" "فتح الباري 5/ 173". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 منهج الشريعة الإسلامية في محرمات العقود والمعاملات : وهذا المنهج الإسلامي في بناء الأخلاق يقتضي أيضًا في العقود والمعاملات الإحسان فيها، والصدق القائم على الوضوح والبيان، لا على الغشِّ، وكتمان العيب، والتدليس، والخيانة، وأكل المال بالباطل، والربا، والغرر، وبخس الكيل، وتطفيف الميزان، قال ابن تيمية: "فمن العدل ما هو ظاهر يعرفه كل أحد بعقله، كوجوب تسليم الثمن على المشتري، وتسليم المبيع على البائع للمشتري، وتحريم تطفيف المكيال والميزان، ووجوب الصدق والبيان، وتحريم الكذب والخيانة، وأن جزاء القرض الوفاء والحمد" "فتاوى ابن تيمية 28/ 284"، وتحريم بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 العقود والمعاملات في الإسلام يرجع إلى عدم انسجامه مع الفطرة المستقيمة، فيسلك طريقًا تأباه النفس، ولا تقبله، ولذلك فإن الله أحل البيع وحرم الربا، قال تعالى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275] ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ} [البقرة: 278-279] ، وعن جابر -رضي الله عنه- قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا ومُؤكله وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء" "رواه مسلم". وعلى هذا فالربا بشتَّى صوره وأشكاله حرام، سواء أكان ربا "النسيئة"، وهو أن يقترض إنسان من آخر مالًا أو عينًا لأجل معين، فإذا حلَّ الأجل قال الدائن: إما أن تدفع الآن وإما تزيد عليه نظير التأجيل عن الموعد، وهذه الزيادة هي الربا، وقد نزل القرآن بتحريمه، حيث قال عز وجل: {وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ} [الروم: 39] ، وجاء في السنة الشريفة: "كل قرض جرَّ نفعًا فهو ربا"، أو كان ربا "الفضل"، ويكون في الزيادة الخالية من العوض في مبادلة مال بمال من نفس جنسه، كمبادلة ذهب بذهب وفضة بفضة، فالزيادة في أحد العوضين تسمى بـ"ربا الفضل"، وقد جاءت السنة الشريفة بتحريمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 أيضًا، قال -صلى الله عليه وسلم: "الذهب بالذهب والفضة بالفضة والبر بالبر والشعير بالشعير والتمر بالتمر والملح بالملح مثلًا بمثل سواء بسواء يدًا بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى، فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم" 1، ويقاس على النقدين الأموال، وعلى البر والشعير البقول والحبوب، وهكذا. والخلق الإسلامي الرفيع يرجع إلى الحكمة البالغة من تحريم الربا في الشريعة الإسلامية، وهي: أن تحريم الإسلام للربا يقضي على حفنة قليلة من المرابين لا خلاق لهم، ولا يرعون البشرية إلًّا ولا ذمَّة، ويتركز النشاط الاقتصادي في أيديهم فيتحكمون في تصرفات الغير بالاحتكار والاستغلال والظلم والإجحاف، وهذا ما عليه النظام الرأسمالي في الغرب، إذ يؤثر الرأسماليون تأثيرًا خطيرًا في شتَّى الاتجاهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والحضارية. وتحريم الإسلام للربا يقضي على تضخم الثروات عند طبقة قليلة في المجتمع، وهذا يؤدي إلى الصراع الدائب في المجتمع بين هذه الطبقة وبين الطبقات الفقيرة، مما يؤدي إلى الحقد والحسد والبغضاء والكراهية والقلق والاضطراب، وعدم استتباب الأمن الداخلي في البلاد، والنزوع إلى التشاجر والتخاصم والعراك، وتحريم الربا أيضًا يقضي على تلك الطبقة الباغية المترفة التي آثرت الكسل والبطالة والخمول والسمنة والتبلد في العمل والكفاح، ليظل المسلم قويًّا عاملًا نشيطًا، حتى إذا ما دقَّت ساعة الجهاد في سبيل الله لا يتوانى واحد منهم عن المشاركة في رفع كلمة الله، أما طبقة أهل الربا فإنهم لا يحركون ساكنًا، ويولون الأدبار   1 صحيح مسلم: شرح النووي 11/ 14. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 خوفًا ورعبًا وضعفًا وجبنًا وكسلًا وخمولًا، وتحريم الربا يقضي على أنانية المرابين وعدم إسهامهم في بناء الثروة العامة للأمة، بينما الربح الذي يحصل عليه المقترض، يسهم به في اقتصاد الأمة، لأنه ربح حلال، فيبارك الله فيه، ولأن المقترض يستثمره لنفسه، فتزداد به الثروة العامة، وتحريم الربا يقضي على العداوة والبغضاء والأحقاد، التي تنشأ من استغلال المراببين للمدينين، وبذلك تسود المودة والمحبة والتآخي، والتعاون والتكافل بين الناس. ومن أخلاق الإسلام أنه حرم بخس الكيل وتطفيف الميزان في العقود والمعاملات، لتستقيم الحياة وبتعاون الناس فيما بينهم على بناء اقتصادهم وتقدم مجتمعهم، قال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} [الإسراء: 35] ، وقال تعالى: {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ، الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ، وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ، أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ، لِيَوْمٍ عَظِيمٍ} [المطففين: 1-5] ، وقال تعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [الأنعام: 153] ، وقد أرسل شعيبًا -عليه السلام- إلى قومه ليردّهم إلى العدل والحق، حتى لا يتعرضوا لنقمة الله عز وجل، فقال منذرًا قومه يحذرهم من عذابه وغضبه: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء: 181-183] . ومن أخلاق الإسلام أنه حرم الغش في العقود والمعاملات، حتى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 يرفع الضرر عن الآخرين، ويحقق التعاون بين الناس وينمِّي الثقة في نفوسهم، فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "لا يكسب عبد مالًا حرامًا، فيتصدق به فيقبل، ولا ينفق منه فيبارك له فيه، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيء بالسيء، ولكن يمحو السيّئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث" 1، وقال أيضًا: "من غشَّ فليس مني" 2، وقال: "إنه لا يربو لحم نبت من سحت إلا كانت النار أولى به" "أخرجه الترمذي والنسائي"، وإن عدم الغش يسمو بصاحبه إلى درجات الصالحين، الذي رضي الله عنهم في الدنيا والآخرة، وقصة زوج عاصم بن عمر -رضي الله عنهم- في الدنيا والاخرة، وقصة زوج عاصم بن عمر -رضي الله عنه- معروفة، التي أنكرت على أمها غش اللبن في الحوار الذي دار بينها وبين أمها، وعمر -رضي الله عنه- يسمع، حتى انتهى الأمر بتزويجها لعاصم، لتكون جدة للخليفة الزاهد عمر بن عبد العزيز -رضي الله عنه. ومن أخلاق الإسلام أنه حرَّم بيع الغرر في العقود والمعاملات، ليسدَّ باب الخلافات التي تحدث بين المتعاقدين بسبب العقود، التي تقوم على المقامرة والغرر، وغالبًا ما تنتهي بالتنازع بينهما، لأنه بيع لا يتحقق من نتائجه، فهي مجهول أمرها في المستقبل، فقد تقع وقد لا تقع، ويعتمد الغرر على الجهل بالثمين والمثمن، والجهل بالأجل والتسليم، وذلك مثل اللبن في الضرع وجنين الحيوان في بطن أمه، والسمك في الماء، والطير في الهواء، والفاكهة قبل الاستواء، والبلح قبل النضج، والغنائم قبل التسليم والتعيين، والصدقات قبل القبض والتحديد، عن سعيد الخدري -رضي الله عنه- رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "أنهيكم عن شراء ما في   1 مصابيح السنة. 2 أصحاب السنن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 بطون الأنعام، حتى تضع وما في ضلوعها إلا بكيل، وعن شراء العبد وهو آبق، وعن شراء المغانم حتى تقسم، وعن شراء الصدقات حتى تقبض" "أخرجه ابن ماجه"، وعن علي -رضي الله عنه- قال: "نهانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع المضطر وبيع الغرر وبيع الثمر حتى تدرك" "رواه أبو داود"، وعن أنس -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الثمار حتى تزهى، قبل: وما تزهى، قال: حتى تحمر أو تصفر، قال: "إذا منع الله الثمرة بم يستحلّ أحدكم مال أخيه" 1. ومن أخلاق الإسلام تحريم الاحتكار في المعاملات، لأنه يهدر حرية التجارة والصناعة ويتحكم في حركتها، ويجمد الأسواق، ويفرض على الناس عنتًا في الأسعار، ويحمِّلهم ما لا يطيقون في شراء ضروريات الحياة، قال الرسول الكريم: "من احتكر فهو خاطئ" "رواه مسلم وأبو داود والترمذي"، وقال: "من احتكر طعامًا أربعين يومًا فقد برئ من الله وبرئ الله منه" "رواه أحمد بن حنبل في مسنده"، ومن أخلاق الإسلام تحريم استغلال النفوذ والنصب للحصول على المال بلا وجه حق، وهو ما يُسمى في هذه الأيام بالكسب غير المشروع، وبقانون من أين لك هذا، وقد طبقه النبي -صلى الله عليه وسلم- عمليًّا حين أرسل ابن اللتبية ليجمع صدقات بني سليم، فقسم ما معه نصفين، وقال النبي هذا لكم وهذا لي أهدي إليّ، فغضب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقام وخطب الناس فقال بعد أن حمد الله وأثنى عليه: "أما بعد فإني استعمل رجالًا منكم في أمور المسلمين في الله، فيأتي أحدكم فيقول هذا لكم وهذه هدايا أهديت إليّ، فهلَّا جلس في بيت أبيه أو بيت أمه فينظر أيهدى إليه أم   1 مصابيح السنة: 2/ 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأخذ أحد منه شيئًا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على رقبته" ثم صادر النبي -صلى الله عليه وسلم- جميع الهدايا التي أهديت لابن اللتبية وضمها إلى بيت المال، وكذلك طبق هذا المبدأ الخليفة عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- على عماله وولاته في الأمصار. ومن أخلاق الإسلام أيضًا غرس التعاون والإخاء، والمحبة، والتكافل، والرحمة والعدل، وغير ذلك مما يؤدي إلى إزالة الفوارق الشاسعة بين الطبقات، فلا يبلغ الغني حد الإسرار والترف والنعيم والرخاوة، ولا ينزل بالفقير إلى الجوع والمسغبة والعدم، بل يقرب الإسلام بينهما، ليقضي الفقير حاجاته وضرورياته، وتستقيم حياته بما يمتنع به الغني عن الإسراف والترف، فقد أعطي للفقير حقه من الغني، وأمره باستثمار ماله، حتى لا يكنزه ولا يسرف فيه بما لا يرضي الله عز وجل، ليدفع ضررين خطيرين، فيدفع عن الغني خطر النعومة والليونة والرخاوة والعجز نتيجة للترف والإسراف، فيصير الغني قويًّا عزيز الجانب دائمًا، ويدفع غائلة الجوع والموت عن الفقير، حيث يأخذ حقَّه من الغني ويعمل في أمواله المستثمرة، فيزداد الإنتاج، وتتقدم الأمة الإسلامية في اقتصادها وحضارتها، قال تعالى يحرم الإسراف والترف والتبذير والتقتير: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29] ، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] ، وقال تعالى: {إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 27] ، وقال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا} [الإسراء: 16] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 ومن أخلاق الإسلام أيضًا عدم التلاعب بالأسعار في العقود والمعاملات لكي تسير وفق قانون "العرض والطلب"، بلا تدخل من التجار لرفع الأسعار طمعًا واستغلالًا، بل ينبغي أن يكون السعر نابعًا من واقع وجود السلعة حسب كثرتها أو ندرتها، وحين غلا السعر قالوا: يا رسول الله سعِّر لنا، قال: "إن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق، وإني لأرجو أن ألقى الله وليس أحد منكم يطالبني بمظلمة في دم ولا مال" "حديث صحيح"، وهذا هو معنى أن يقوم الناس بالعدل والقسط، فقال الله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 القيم الإسلامية في العقود : نظمت الشريعة الإسلامية الفقه في المعاملات والعقود، فوضعت له منهجًا عامًا، يسلكه الأفراد في معاملاتهم المختلفة لبناء أخلاقهم من خلال قضاء حاجاتهم وتحقيق أغراضهم، وهذا المنهج الإسلامي في بناء الأخلاق اقتضى أن يكون الأساس في عقود المعاملات هي مصالح المجتمع، ومقاصد الأفراد، فالمصالح والمقاصد هي التي تحدِّد ما يتطلبه كالشأن في العبادات، فالصلاة تحتاج في وقتها وهيئتها إلى توقيف من الشريعة، على العكس في السلعة التي يحتاجها الفرد، كالثلاثة أو المولدات، فلم ترد بهيئتها أو طريقة استعمالها في الشريعة، وإنما حاجة الإنسان، إلينا، ومصلحته فيها هي التي أتاحت له هذه السلعة، بما يستلزمه عصره ومجتمعه، بعد أن أخذت مادتها وصناعتها حكم الإباحة والتملك من الشريعة الإسلامية، لأن الأصل في العادات والمعاملات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 العفو والإباحة، ولا حظر على شيء منها إلا ما نصَّ الشرع بتحريمه، ومن هنا يستنكر الله -عز وجل- على الشركاء الذين شرعوا لغيرهم ما لم يأذن به الله، قال تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى: 21] ، وجعل ذلك افتراء يستحقون عليه العذاب، قال تعالى: {وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [الأنعام: 138] . وفي هذا يقول ابن تيمية: "وهذه قاعدة عظيمة نافعة، وإذا كان كذلك فنقول: البيع والهبة والإجارة وغيرها من العادات التي يحتاج الناس إليها في معاشهم كالأكل والشرب واللباس، فإن الشريعة قد جاءت في هذه العادات، التي يحتاج الناس إليها في معاشهم كالأكل والشرب والباس، فحرمت منها ما فيه فساد وأوجبت ما لا بد منه، وكرهت ما لا ينبغي، واستحبت ما فيه مصلحة راجحة في أنواع هذه ومقاديرها وصفاتها"1، وهذا المنهج الإسلامي في بناء الأخلاق اقتضى أيضًا أن تنعقد العقود بأي لفظ يدل على المقصود في المعاملات، وبذلك يتنزَّه الإسلام عن الشكلية والمظهرية، فلئلا يشترط صيغة معينة بلغة معينة كالبيع والشراء، ولا يلزم فيه لفظ "بعت واشتريت" باللغة العربية، بل يكفي في ذلك أي لفظ عربي أو غير عربي، يدل على الإيجاب والقبول، وكذلك الأمر في عقد التجارة، فقد جاز استعمال لفظ "التراضي" في البيع، قال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29] ، وصح لفظ "طيب" النفس في التبرع، قال تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا} [النساء: 4] ، وهكذا في   1 فتاوي ابن تيمية: 19/ 18. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الشركات والمضاربات والزراعة والقرض والسلم، يقول ابن تيمية: "فكل ما عدَّه الناس بيعًا وإجارة فهو بيع وإجارة، وإن اختلف اصطلاح الناس في الألفاظ والأفعال، انعقد العقد عند كل قوم بما يفهمونه بينهم من الصيغ والأفعال، وليس لذلك حدّ مستمر لا في الشرع ولا في اللغة، بل يتنوع اصطلاح الناس كما تتنوع لغاتهم"1. وهذا المنهج الإسلامي في بناء الأخلاق أوقف إنجاز العقود على رضا المتعاقدين، وقد وفَّرت الشريعة لتحقيقه وسائل الصون والحماية، فاشترط في المتعاقدين أن يكون أهلًا للتكليف، وأن يترك فرصة الخيار والمراجعة لهما بجميع صوره، من خيار الغبن، أو خيار الشرط، او خيار المجلس، أو خيار الرؤية، ولذلك أوصى النبي -صلى الله عليه وسلم- الرجل الذي يخدع في المعاملات والعقود بأن يقول عند بيعه وشرائه "لا خلابة" أي: لا خديعة، وهذا الرضا لا بد أن يعبر عنه بالإرادة الصادقة من غير إكراه ولا خوف، وعلى أي صورة لفظية تفصح عنه، وهذا المنهج الإسلامي في بناء الأخلاق أوجب أيضًا توثيق العقود، حفاظًا على الحقوق، وتنصيبًا للعدل بين الناس، فلا يتنازع الناس عند الغفلة والنسيان، ولا يتغابنوا عند الخطأ، وليقيموا بالتوثيق العدل وقت الاختلاف والتخاصم، وجعلت الشريعة العقد موثقًا بشهادة رجلين، حتى إذا ضل أحدهما، أو غفل أو نسي، ذكَّره الاخر، أو موثقًا برجل وامرأتين إن لم يكونا رجلين، حتى إذا ضلَّت المرأتان، أو نسيتا، أو غفلتا، أو تجاهلتا، ذكرهما الرجل، أو بالعكس، ولا يصح اقتصار الشهادة في توثيق العقود على أربع نساء، لأن النسيان والتواطؤ على   1 فتاوي ابن تيمية: 29/ 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 الضلال يخضعهن، بسب غلبة العاطفة على تصرفاتهنَّ في الحياة غالبًا وقد نزلت أكبر آية في القرآن الكريم لتوثيق العقود في الدين للدلالة على خطورة المعاملات، وفداحة التنازع فيها، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [البقرة: 282] . وهذا المنهج الإسلامي في بناء الأخلاق يقتضي أيضًا تحقيق العدل لا الظلم بين المتعاقدين، فلا يحلُّ مال مسلم إلا عن طيب نفسه، بأن تكون طائعة راضية غير مكرهة أو مخدوعة، فقد نهى الإسلام عن المعاملات، التي قامت على أكل المال بالباطل، كالربا والميسر والغش وبيع الغرر، وستر العيب، وغيرها مما ينطوي على الظلم، قال ابن تيمية: "فمن العدل ما هو ظاهر يعرفه كل أحد بعقله، كوجوب تسليم الثمن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 على المشتري، وتسليم المبيع على البائع للمشتري، وتحريم تطفيف المكيال والميزان، ووجوب الصدق والبيان، وتحريم الكذب والخيانة، وأن جزاء القرض الوفاء والحمد"1، وهذا المنهج الإسلامي في بناء الأخلاق يقتضي أيضًا الفضائل والقضاء على الرذائل، بأن تقوم المعاملات على تزكية الإنسان بالآداب الكريمة والأخلاق الفاضلة، وعلى المحافظة على الشعائر والقيم الإسلامية النبيلة، وإلا اهتزَّ نظام المجتمع، وتدمرت حياة الفرد، لفقدان الثقة، وغروب الأمن والطمأنينة، فتستعر المعاملات بالرشوة، والاختلاس والغش، ولذلك وصف الله عباده المؤمنين في تجارتهم وبيعهم ومعاملاتهم بقوله تعالى: {رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ، لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [النور: 37-38] . ولذلك نهى الإسلام عن عقود ومعاملات قامت على المفاسد، منها: النهي عن بيع العنب لمن يستعمله خمرًا، وعن السلاح للأعداء واللصوص، وعن الإيجار لدور الملاهي والبغاء، قال صلى الله عليه وسلم: "من حبس العنب أيام القطاف حتى يبيعه ممن يتخذه خمرًا فقد تقحم النار على بصيرة" 2، ونهى أيضًا عن بيع أخيه، لأنه يعقب في النفس الشحناء والحقد والبغضاء، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: "نهى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يبيع حاضرة لباه، ولا تناجشوا ولا يبع الرجل على بيع أخيه ولا يخطب على خطبته"، ونهى عن البيع إذا نُودي للصلاة،   1 فتاوى ابن تيمية: 28/ 284. 2 سبيل السلام: 3/ 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 وخاصة لصلاة الجمعة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} [الجمعة: 9] ، وهذا المنهج الإسلامي في بناء الأخلاق يقضي أيضًا ألا تتم المعاملات والعقود إلا بعد تحديد الأثمان، وضبط الموازين والمكاييل، دفعًا للتنازع بين المتعاقدين، وتثبيتًا للثقة بين الناس في تبادل المنافع، فحرم بيع الغرر، وبيع الجنين في بطن أمه، وبيع اللبن في الضرع، أو السمك في الماء، للجهل بالعوضين أو بأحدهما، كما حرم الله تطفيف الكيل والميزان، وبخس السلع، قال تعالى: {أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ، وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ، وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [الشعراء: 181-183] ، ولهذه الأهمية نشأت في الفقه الإسلامي وظيفة "المحتسب" لمراقبة الأسواق. وهذا المنهج الإسلامي في بناء الأخلاق يقتضي أيضًا في المعاملات الإحسان، والصدق القائم على الوضوح والبيان، لا على الغش، وكتمان العيب، والتدليس، والخيانة، قال النبي -صلى الله عليه وسلم: "البيعان بالخيار مالم يتفرقا، فإن صدقا وبينا، بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا، مُحقت بركة بيعهما" "رواه البخاري"، وكتب الرسول -صلى الله عليه وسلم- للعداء بن خالد: "هذا ما اشترى محمد رسول الله من العداء بن خالد، بيع المسلم من المسلم لا داء ولا خبئة ولا غائلة" "رواه البخاري: فتح الباري"، ويحضّ على السماحة في المعاملة، لأنها دليل الأخلاق الفاضلة الكريمة والآداب الإسلامية النبية، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "رحم الله رجلًا سمحًا إذا باع وإذا اشترى وإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 قضى واقتضى" "فتح الباري: 5/ 11"، وينهي الإسلام عن كثرة الحلف وترويج السلعة، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "الخلف منفقة السلعة مسحقة للبركة"، ونهى الإسلام عن المطل والتسويف فهما ظلم وظلمات، عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مطل الغني ظلم وإذا أتبع أحدكم على ملئ فليتبع" "فتح الباري 5/ 371". بهذا المنهج الإسلامي القويم في بناء خلق المسلم من خلال سائر العقود والمعاملات تتكون الغاية من شريعة الإسلام، حيث جاء لتحقيق هذا الهدف وهو "البناء الخلقي"، تارة عن طريق العبادات، وتارة عن طريق المعاملات والعقود، وتارة عن غيرها مما جاءت به الشريعة الإسلامية، فكلها عند الله سواء، لا فرق بين العبادات والمعاملات في تقديس الله وعبادته، لأن امتثال أمر الله ونهيه، وصهر الأعمال بالنية الخالصة لوجه الله تعالى، تحول العقود والمعاملات، وأي عمل دنيوي ومادي إلى عبادة يُثاب عليها المرء عند الله، لأنها تُضفي على هذا العمل لباس التقوى، وتضفي عليه طابعًا روحيًّا، جاء في الحديث أن بعض الصحابة -رضوان الله عليهم- رأى شابًّا قويًّا يسرع إلى عمله، فقال بعضهم: "لو كان هذا في سبيل الله" فرد عليه النبي: "لا تقولوا هذا، فإنه إن كان خرج يسعى على ولد له صغارًا فهو في سبيل الله، وإذا كان يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى على نفسه فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان"، كما أن المعاملات والعقود عبادة، لأن لها هدفًا ساميًا نبيلًا، وهو بناء حضارة الدنيا، امتثالًا لأمر الله، واستجابة لخلافته في الأرض، حتى يسعد الفرد، وتسعد البشرية جمعاء، اعتقادًا منه بمسئوليته أمام ربه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 عن ذلك، ومحاسبته له، قال تعالى: {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ، وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7-8] . وكذلك العقود والمعاملات تتم من خلال مراقبة ذاتية داخلية تخشى الله وتتقيه في كل عقد ومعاملة، فالله يراه ويطّلع عليه، ولا يخشى أحدًا ولا سلطانًا ولا قانونًا إلا تبعًا وتاليًا للمراقبة الذاتية، لأن المؤمن على يقين بأن الله يراه، وإن لم تكن عينه تراه، فقلبه مشدود بربه، الذي لا تأخذه سنة ولا نوم {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255] ، وهذا المنهج هو خلق القرآن الكريم، الذي سمَّا به النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيم} ، وقول عائشة -رضي الله عنه- حينما سُئلت عن خلقه فأجابت: "كان خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن الكريم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 الفهارس : الصفحة الموضوع 3 مقدمة 15 الفصل الأول: معالم التصوير القرآني 17 القرآن الكريم ... المعجزة الخالدة. 21 وجوه الإعجاز 30 حقيقة التصوير القرآني بين الأدب القرآني والأدب العربي 35 الأدب القرآني 37 الجلال والحلاوة والجمال 37 قضية الجمال 39 قضية الحلاوة 42 قضية الجلال 49 الإعجاز في التصوير القرآني من التصوير القرآني 60 تلاحم الموسيقى والمعاني والقيم 61 إيداع في تصوير النوم المعجزة 63 الكهف إيداع بياني وجغرافي 65 التكييف الرباني لأهل الكهف 67 كلب أهل الكهف 68 عدد أهل الكهف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 الصفحة الموضوع 70 وازدادوا تسعًا 71 تقديم السمع على البصر 73 الموسيقى التصويرية لطلب العلم 75 الأمة الواحدة 77 بين فظاعة اليهود.. ورقة النصارى 79 بلاغة التعبير عن الندم 81 غضبة السماء والأرض 82 حتى ينسى يعقوب التصوير القرآني لنماذج النفاق 84 صفقات النفاق وصفاقة المنافقين 85 طموح المنافق يبدِّده الظلام 87 آمال المنافق صواعق 92 أخطر صور النفاق: ذلالة اللسان وحلاوة الكلام 97 الأمل الكاذب 102 التصوير القرآني لفريضة الحج 110 من وحي المناسك في الحج 121 الفصل الثاني: التصوير القرآني لتعاقب الليل والنهار. 122 تقديم الليل على النهار أكثر من خمسين مرة 123 تقديم النهار على الليل 124 الإعجاز في خلق الليل والنهار 125 الإعجاز في التصوير القرآني لليل والنهار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 الصفحة الموضوع 127 تصوير الليل والنهار في آيات الجعل 129 تصوير الليل والنهار في آيات التسبيح 131 تصوير الليل والنهار في آيات الاختلاف 133 تصوير الليل والنهار في آيات الإيلاج 135 تصوير الليل والنهار في آيات القسم 137 تصوير الليل والنهار في آيات الإغشاء 139 تصوير الليل والنهار في آيات التسخير 140 تصوير الليل والنهار في آيات الصيام 141 تصوير الليل والنهار مع الإنفاق 141 تصوير الليل والنهار مع الخفاء والظهور 141 تصوير الليل والنهار مع الخلق 142 تصوير الليل والنهار مع السكن 142 تصوير الليل والنهار مع التوفي 142 تصوير الليل والنهار مع الكلأ 143 تصوير الليل والنهار مع التقليب 143 تصوير الليل والنهار مع النوم 143 تصوير الليل والنهار مع السير 143 تصوير الليل والنهار مع المكر 144 تصوير الليل والنهار للسلخ 144 تصوير الليل والنهار للسبق 144 تصوير الليل والنهار للسجود 144 تصوير الليل والنهار مع القيام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 الصفحة الموضوع 144 تصوير الليل والنهار مع الإغطاش 145 تصوير الليل والنهار مع التقدير 145 تصوير الليل والنهار مع التكوير 146 تعاقب الليل والنهار 148 المشرقان والمغربان 150 دوران الشمس والقمر 155 الفصل الثالث: التصوير القرآني للصوم والصيام 157 معنى الصوم والصيام في اللغة 158 الصوم والصيام في اصطلاح الشريعة الإسلامية 159 الفرق بين المعنى اللغوي والاصطلاح الإسلامي 159 مبنى الصوم والصيام 161 الصوم في الحديث الشريف 161 الصيام في الحديث الشريف 162 الصيام والصوم في القرآن الكريم 165 آيات الصيام 167 البناء الجسدي 168 البناء الأخلاقي 173 أدب التعبير عن المباح 177 أنوار الإمساك والإفطار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 الصفحة الموضوع الفصل الرابع 181 تربية النشء ومراحله في التصوير القرآني والسنة الشريفة 183 أدب الطفولة بين القرآن الكريم والسنة الشريفة 185 أدب الرحمة بالطفل. عبادة وسلوك تربوي 191 تلاوة الأطفال للقرآن وسماعه تأديب وتربية وتعليم 195 وصية الرسول -صلى الله عليه وسلم- للغلام عبد الله بن عباس -رضي الله عنه 197 وصية لقمان لابنه 200 أدب الإسلام في استئذان الأطفال 202 أدب القصة القرآنية والنبوية للأطفال 209 المنهج الإسلامي في تربية النشء ومراحله 212 مرحلة العدم أثناء الخطبة الزوجية 214 بعد الزواج مباشرة 218 أثناء الحمل وهو جنين حتى الولادة 220 حق الرضاعة والغذاء 221 في الأسبوع الأول من الولادة 223 الرضاعة 224 الحضانة 225 التربية والتعليم 238 مرحلة الشباب والمراهقة والرجولة 245 أولًا: مرحلة النضج 250 ثانيًا: مرحلة الرجولة 252 في مرحلتي الكهولة والشيخوخة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 الصفحة الموضوع الفصل الخامس 263 العقود والمعاملات في التصوير القرآني والسنة الشريفة 265 سمات الاقتصاد الإسلامي في العقود والمعاملات 265 الاقتصاد الإسلامي تشريع إلهي 267 العبادات وأثرها في بناء القيم الاجتماعية والاقتصادية التصوير القرآني للأعمال الحرفية 274 التصوير القرآني لحرفة الزراعة 280 التصوير القرآني لحرفة الرعي والصيد 285 التصوير القرآني لحرفة الصناعة 291 التصوير القرآني لحرفة التجارة 297 الأخلاق الإسلامية ودورها في الإنتاج والعمل 304 منهج الشريعة الإسلامية في محرمات العقود والمعاملات 311 القيم الإسلامية في العقود 319 أهم المصادر والمراجع 320 كتب منشورة للمؤلف 321 ثبت الموضوعات تم بحمد الله تعالى وتوفيقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326