الكتاب: الرق في الجاهلية والإسلام المؤلف: إبراهيم محمد حسن الجمل الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد من المجلة] ---------- الرق في الجاهلية والإسلام إبراهيم محمد حسن الجمل الكتاب: الرق في الجاهلية والإسلام المؤلف: إبراهيم محمد حسن الجمل الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد من المجلة] معنى الرق ونشأته ... الرَّق في الجَاهليّة والإسلام للشيخ إبراهيم محمد الحسن الجمل مدرس بالمعهد الثانوي بالجامعة معنى الرقي ونشأته: الرق في اللغة: العبودية، وسمى العبيد رقيقا، لأنهم يرقون لمالكهم، ويذلون ويخضعون، والرقيق هو المملوك. وقيل: الرق في اللغة: الضعف ومنه رقة القلب 1 وهو نظام اجتماعي معروف بين الشعوب القديمة، واستمر قائما حتى أخريات القرن التاسع عشر، وكان يعتبر بين تلك الشعوب نظاما مشروعا تحميه قوانين الدولة 2. وعرف أيضا بأنه حرمان الشخص من حريته الطبيعية، وصيرورته ملكا لغيره 3، وهذا ما كان مصطلحا عليه عند الأمم القديمة. ولقد عرف الرق من قديم، وكانت الحرب بادئ الأمر عاملا على نشأة الرق. وذلك أن القوي حينما كان يظهر بالضعيف يقتله، ولا يقبل بغير القتل بديلا، وكان الناس في ذلك الوقت يعملون لأنفسهم فكان الرجال يقومون بالصيد والحروب وكان النساء والأبناء يقومون بغير ذلك من الأعمال.   1 لسان العرب لابن منظور جـ11 ص415. 2 دائرة المعارف الحديثة لأحمد عطية الله مادة " الرق)) . 3 قصة الحضارة تأليف ول ديورانت ترجمة د. زكي نجيب محمود جـ1 ص37. الجزء: 50 - 51 ¦ الصفحة: 153 وحينما اتجه الإنسان إلى الزراعة، كان في حاجة إلى العناية بالأرض عناية تتكرر كل يوم، وإلى تنظيم العمل، كما أنه كان مع حاجة إلى من يساعده، وهذه المساعدة كانت تعتمد في النهاية على القوة والإرغام، وحدوث التعاون بين الناس، انتهى إلى استخدام الضعفاء بواسطة الأقوياء ثم فكر القوى الظافر في القتال أن الأسير الذي يقتله يمكن أن يبقيه حيا. فيستخدمه في زراعة الأرض. وبهذا قلت المجاور وقل أكل الناس لحوم بعضهم بعضا. وحين أمتنع الإنسان المنتصر عن قتل المغلوب اعتبر هذا تقدما عظيما للإنسان من حيث الأخلاق، حين أقلع عن قتل زميله أو أكله واكتفى من أعدائه باسترقاقهم، وإعمالهم في الأرض وفي الزراعة1 ثم انتقل استرقاق الغير من الزراعة إلى الصناعة، حتى إذا زادت الثروة، ومال الأغنياء إلى الدعة والراحة، واستغلال الآخرين في ذلك جعل الناس ينظرون إليه كأنه نظام فطري لا غنى عنه. وكانت الجماعات البدائية لا ترى فارقا بين الحر والعبد، ولا تجد رقا ولا طبقات، ولا تدرك من الفوارق بين الرئيس وتابعيه إلا قدرا ضئيلا وبالتدريج، أخذ تقسيم العمل. وما يقتضيه الاختلاف بين الناس، يستبدل شيئا فشيئا المساواة بقليل من التحكم الذي زاد على مرور الأيام، ثم لما ازدادت الآلات والصناعات تعقدا، عمل ذلك على إخضاع الضعيف لمشيئة القوى، وكلما ظهر سلاح جديد في أيدي الأقوياء زاد من سلطانهم على الضعفاء واستغلالهم إياهم. ثم عمل نظام التوريث على اتساع الهوة بأن أضاف إلى الامتياز في الفرص السانحة امتيازا في الأملاك. وقسمت المجتمعات التي كانت يوما متجانسة إلى عدد لا يحصى من طبقات وأوساط، وأحس الأغنياء والفقراء بغناهم أو فقرهم إحساسا يؤدى إلى التشاحن، وأخذت حرب الطبقات تسرب خلال التاريخ حتى انتهت إلى وجود طبقة من الناس تُستخدم وكأنها آلة تتحرك بغير إرادتها يحركها الغير، وكأنها دمية توجه حسب ما يريد لها سيدها2. ولم يستطع الفلاسفة القدامى أن يغيروا شيئا من الواقع، وإنما زادوه تثبيتا، وكأنما هذا الصنف من الناس إنما خلق بغير إرادة ولا حول ولا قوة، فأفلاطون يقضي في جمهوريته الفاضلة بحرمان الرقيق حق المواطنة وإجبارهم على الطاعة والخضوع للأحرار من ساداتهم أو   1 المرجع السابق. 2 قصة الحضارة جـ1 ص38. الجزء: 50 - 51 ¦ الصفحة: 154 من السادة الغرباء، ومن تطاول منهم على سيد غريب أسلمته الدولة إليه ليقتصَّ منه كما يريد. ومذهب أرسطو في الرق أن فريقا من الناس مخلوقين للعبودية؛ لأنهم يعملون عمل الآلات التي يتصرف فيها الأحرار ذوو الفكر والمشيئة، فهم آلات حية تُلحق في عملها بالآلات الجامدة. ويحمد من السادة الذين يستخدمون تلك الآلات الحية أن يتوسموا فيها القدرة على الاستقلال والتمييز فيشجعوها ويرتقوا بها من منزلة الأداة المسخرة إلى منزلة الكائن العاقل الرشيد 1. الجزء: 50 - 51 ¦ الصفحة: 155 الرق قبل الإسلام كان الرق من دعائم المجتمع عند قدماء المصريين، وكانوا يتخذون الإماء للخدمة، وللزينة. ولمظاهر الأبهة، فكانوا بقصور الملوك، وبيوت الكهان والأعيان، وهم إن كانوا يسيئون معاملة رقيق الخدمة، بحيث يعتبرونهم كآلة صماء، فإنّ رقيق الزينة على العكس. فقد كانوا يلقون معاملة حسنة كما يدل على ذلك قول العزيز لامرأته في حق يوسف عليه السلام. {وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً} (يوسف آية1 3) ولقد أباح العبرانيون الرق، وذكر في التوراة في مواضع 2، وكان الرق عندهم نوعين: استرقاق الأفراد لارتكاب خطيئة محظورة، واسترقاق غير اليهود في الحروب 3. وكذلك أباحته المسيحية، وأمر بولس مدعي الرسالة العبيد بطاعة سادتهم كما يطيعون السيد المسيح. فقال في رسالته إلى أهل أفسس: "أيها العبيد! أطيعوا سادتكم حسب الجسد، بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم كما للمسيح، ولا بخدمة العين كمن يرضى الناس، بل كعبيد المسيح عاملين مشيئة الله من القلب خادمين بنية صالحة كما للرب ليس للناس عالمين، أنه مهما عمل واحد من الخير فذلك يناله من الرب عبدا كان أم حرا".   1 حقائق الإسلام وأباطيل وخصومه للعقاد ص210. 2 سفر التكوين 31-2-7 وسفر التثنية 21، 14، 24، 7 3 النظم الإسلامية د. حسن إبراهيم ص301. الجزء: 50 - 51 ¦ الصفحة: 155 وأوصى مدعى الرسالة بطرس بمثل هذه الوصية، وأوصاها آباء الكنيسة، لأن الرق كفارة من ذنوب البشر يؤديها العبيد لما استحقوا من غضب السيد الأعظم 1. ونص في الإنجيل على أن الناس كلهم إخوان، ولكنه لم ينص على منع الاسترقاق، لذلك أقرته جميع الكنائس على اختلاف أنواعها ولم ترفيه أقل حرج. ولم ير من جاء من باباوات النصارى ولا قديسيهم حرجا من إقرار الرق حتى قال باسيليوس، في كتابه القواعد الأدبية، بعد أن أورد ما جاء في رسالة بولس إلى أهل افسس: " هذا يدل على أن العبد تجب عليه طاعة مواليه تعظيما لله عز وجل" إن الطبيعة (هكذا قول بولس) قضت على بعض الناس بأن يكونوا أرقاء، واستشهد على نظريته (كما يرى هو أي بولس) بالشريعة الطبيعية والشريعتين الوضعية والإلهية. وقال القسيس المشهور بوسويت الفرنسي: "إن من حق المحارب المنتصر قتل المقهور فإن استعبده واسترقه فذلك مِنهُ مِنّةٌ وفضل ورحمة". وقد بقى الاسترقاق معتبرا من الأمور المشروعة لدى المسيحيين؛ فقد جاء في دائرة معارف لاروس أن رجال الدين الرسميين يقرون صحة الاسترقاق ويسلمون بشرعيته 2. وإذا كانت الأديان التي سبقت الإسلام، قد أباحت الرق، فإن جميع الأمم المعروفة لنا في القديم قد أباحته كذلك. ففي الهند قسمت الشرائع البرهمية القديمة الأشخاص الملزمين بالخدمة إلى قسمين وهما الخادمون والأرقاء، فالأعمال الطاهرة من خصائص الخادمين، والأعمال النجسة على عواتق الأرقاء 3. وكانت الشريعة الهندية تقضى على أن الرقيق لم يُخلَق إلا لخدمة البرهمي- وهم الطبقة المقدسة عندهم- فكانوا يتخذون الرقيق من إحدى طبقات المجتمع التي تعتبر صفة العبودية لازمة لها حتى لو تخل السيد عن عبده فإنه يبقى رقيقا لا يصلح أن يتمتع بحريته كغيره من الناس، وكانت القوانين عندهم تقضى بقتل العبد لأقل هفوة يرتكبها، أما التنكيل به والانتقام منه بسائر الوسائل الوحشية فحدث ولا حرج 4   1 حقائق الإسلام وأباطيل خصومه ص209. 2 دائرة معارف القرن العشرين لمحمد فريد وجدي جـ4 ص278 مادة رقق. 3 الرق في الإسلام لأحمد شفيق ص11. 4 دائرة معارف القرن العشرين جـ4 ص275 مادة رقق. الجزء: 50 - 51 ¦ الصفحة: 156 وكان الرق عند الفرس بدولتهم العظيمة التي امتدت في حدود آسيا المعروفة كثيرة، فكان الأرقاء الرعاة، والأرقاء المختصون بحاجات الزينة والثروة واليسار، ومنهم من خُصص لعمل القبائح المنكرة التي قضت بها خرافات القوم. قال هيرودت: "ولا يجوز لأي قاس أن يعاقب عبده على ذنب واحد اقترفه بعقاب بالغ في الشدة والصرامة لكن إذا عاد العبد لارتكاب هذا الذنب بعدما أصابه من العقاب. فَلِمَولاَه حينئذ أن يعدمه الحياة أو أن يعاقبه بجميع ما يتصور من أنواع العذاب" 1. ولعل الصين كانت في القديم من أكثر الدول اعتدَالا في معاملة رقيقها، فكان يستخدم للمنفعة العامة، وكانوا يجلبون الرقيق من الخارج بواسطة الحروب والأسلاب، أو يأخذونهم من البلاد بسبب الفقر والحاجة، لأن الفقير كان يضطر لبيع نفسه أو لبيع أولاده، وكان الاسترقاق في تلك البلاد قليل الشدة والصعوبة؛ لأن الشرائع والعرف والأخلاق كانت تساعد على تلطيف حاله. وقد ورد في أثارهم: " إن الإنسان هو أفضل وأشرف المخلوقات التي في السماء والتي على الأرض، فمن قتل رقيقه فليس له من سبيل في إخفاء جرمه، ومن أخذت به الجرأة فكوى رقيقه بالنار، حُوكِم على ذلك بمقتضى الشريعة، ومن كواه سيده بالنار دخل في عدد الوطنيين الأحرار"2. وإذا تركنا آسيا وانتقلنا إلى أوربا لم يكن حال الرقيق بأحسن مما كان عليه الحال في بلاد فارس أو الهند. فلقد كان المجتمع اليوناني المقسم إلى سادة وعبيد يبالغ في احتقار العبيد على الرغم من استخدامهم في سائر المرافق، وكانوا يعتقدون أن الأرقاء إنما خلقوا لخدمة السادة والأمراء، وكانوا يعتبرونهم جزءاً من الأرض يباعون ويشترون، وكان المورد الأساسي للعبيد عندهم الأسر في الحروب، وأهل البلاد المغلوبة التي يعملون فيها، وكانت القرصنة هي المورد الثاني للعبيد. وعندما نشطت تجارة الرقيق في أثينا لم تقف مطامع النخاسين عند حد، وصار القرصان اليونانيون يخطفون المسافرين، والسكان الآمنين في الشواطئ الأفريقية والأوربية ويبيعونهم للناس في الأسواق من غير خجل ولا تكبر 3.   1 الرق في الإسلام لأحمد شفيق ص 18. 2 الرق في الإسلام لأحمد شفيق ص 18. 3 معجم لاروس مادة " رق)) الجزء: 50 - 51 ¦ الصفحة: 157 وكان حق المولى على عبده أنه جزء من أملاكه وأمتعته، فله رهنه أو بيعه، والتصرف فيه كما يشتهى لا يمنعه مانع 1. ولم يكن الحال عند الرومان بأقل مما كان عليه غيرهم من حيث استخدامهم في الأعمال الجسمانية، ومساواتهم بالأمتعة والفرش، فكانوا يباعون بالمزاد. وكانوا يوقفون على مكان عال بحيث يتيسر لكل واحد أن يراهم ويمسهم بيده، ولو لم يكن له نية في شرائه. أحيانا كانوا يشاهدون كيوم ولدتهم أمهاتهم، وكان الرق في نظرهم نتيجة الأسر والسبي، أو الميلاد، أو الدين أو الفرار من الجيش2. ومن العجيب أن الدولة كانت تسترق بعض الأفراد بسلطة القانون مثل أن يمتنع الشخص من أداء الضريبة، أو بعيب عندما يطلب منه الحضور، فيمتنع فيصبح حينئذ في عداد الأرقاء. وكذلك كان المجرمون والثوار يسترقون للدولة، أما الملحدون في الدين فكانوا يسترقون للمعاد. وكان الإسبرطيون يكَروُن العبيد لمن يرغب في ذلك، ويشغلونهم في الحروب والقتال زيادة في الخدمة، وفلاحة الأراضي وحراستها وغير ذلك من أنواع العمل الشاق. وكانت القرون الوسطى مسرحا للاسترقاق. وتكاد كلها تتشابه مع الرومان. ويعتبر الرقيق كجزء من متاع البيت فهو بمنزلة الفرس والثور، وغيرهما من الحيوانات المستخدمة الأهلية، فكان المولى في شرعهم يتصرف بعبده كما يتصرف بما عنده من الأشياء ذات القيمة، وكان لا يجوز له قتله لأنه شيء من الأشياء التي تملكها يمينه، ولم يختلف الاسترقاق عن سابقه عند الغاليين وهم السكان المعروفون في فرنسا وأمام جبال الألب في إيطاليا الشمالية. وأقاليم الغاليا في الجزر البريطانية وإسبانيا وكذلك سكان جرمانيا- ألمانيا- فكانوا يحتكمونهم بطريقة الشراء أو الميراث، وكانوا يكلفون بخدمة المنازل، وكان الولي يفرض عليه مقدارا من القمح أو الماشية أو الملابس كأنه من مؤاجريه، وكان سكان نَهر الرين الأسفل إذا تزوج أحد الأهالي برقيقة أجنبية وقع في الرق والاستعباد. وكذلك المرأة الحرة التي تتزوج برقيق تفقد حريتها، وينالها العقاب. وكان عند القوط أن المرأة الحرة إذا تزوجت برقيقها، كانت عقوبتها أن تحرق هي وإياه وهما على قيد الحياة، وإذا كانت لا تمتلك العبد يفسخ النكاح، ويجلد كل منهما   1 النظم الإسلامية ص 301. 2 النظم الإسلامية ص 301. الجزء: 50 - 51 ¦ الصفحة: 158 بالسياط، ولكن التصرف في العبد بالموت، كان يلجأ السيد إلى القاضي، ليحكم حكمه، ثم يسلمه لسيده ليفعل به ما يريد، وكانت قبائل الويز يغوط تشدد النكير في مسألة تزواج الأحرار بالأرقاء، حتى نص القانون على أن المرأة الحرة إذا تزوجت بعبدها فعقابها أن تحرق هي وهو حيين، وكذلك كانت قبائل الاستورغوط، فقد كانوا يقتلون المرأة التي تتزوج بعبد1. وكان الأنجلو ساكسون يقسمون الرقيق إلى نوعين هما الرقيق المشبهون بالمنقولات والمشبهون بالعقارات، فالصنف الأول يجوز بيعهم أما الآخرون فكانوا لا ينفكون عن الأرض يقومون بحراثتها وزراعتها 2. من هذا يتبين أن الأرقاء لم يكن لهم أي تصرف في أنفسهم، ولا أمل لهم في حياة إنسانية أو شبه إنسانية. وكانت تجارة الرقيق نشطة في أسواق أوربا، ومواني جنوة والبندقية وليفورن في إيطاليا، تعج بالمراكب التي تحمل أبناء السود من الجنسين المخطوفين من إفريقيا، وبعض دول آسيا، وكان أكثر القائمين على هذه التجارة من اليهود. ولم يكن الحال في أمريكا بأقل منه في الدنيا القديمة، فلقد كانت بواخرها تنتقل بين شاطئ أفريقية وبين أمريكا حاملة الألوف من أهل إفريقية للاتجار، وللزراعة، وكانت حالتهم شبيهة بحال إخوانهم في الدنيا القديمة، فهم بين العمل، والاحتقار، والمهانة فكان على غاية الشدة والقسوة، وكان مقتضى القانون الأسود أن الحرّ إذا تزوج بأمة صار غير جدير بأن يشغل وظيفة في المستعمرات. وكانت القوانين تصرح بأن للسيد كل حق على عبده حتى حق الاستحياء والإماته. وكَان يجوز للمالك رهن عبده، وإجارته، والمغامرة عليه وبيعه، كأنه بهيمة وكان لا حق للأسود أن يخرج من الغيط، ويطوف بشوارع المدن إلا بتصريح قانوني، ولكن إذا اتفق واجتمع في شارع واحدٍ أكثر من سبعة من الأرقاء ولو بتصريح قانوني، كان لكل أبيض إلقاء القبض عليهم وجلدهم، وقد صرح قانونهم على أن ليس للعبد روح ولا عقل وأن حياتهم محصورة في أذرعهم 3.   1 دائرة معارف القرن العشرين جـ3 ص277. 2 الرق في الإسلام ص 32. 3 دائرة معارف القرن العشرين جـ3 ص 278. الجزء: 50 - 51 ¦ الصفحة: 159 ولقد بدأ إلغاء الرق في أمريكا في منتصف القرن الثامن عشر، وفي سنة 1788م نشبت الحروب بين الولايات الشمالية والجنوبية من أجل إعلان حرية العبيد، ولم يتحقق إلا سنة 1865م بعد انتصار الشماليين على الجنوبيين وقد ظلت التفرقة العنصرية شائعة سنوات عديدة، ولم يكن من الممكن أن يدخل العبيد في الأماكن التي فيها الأسياد ولا أن يركبوا مراكبهم، وكثيرا ما كان البيض يثورون ضدهم، ويشبعونهم ضربا وتقتيلا، وكان القانون دائما في صف البيض. ومع مرور الأيام بدأ يخف هذا النمط من المعاملة حتى أخذ العبيد أو السود كما يسمونهم شيئا من المشاركة في الحياة العامة. ولقد بقي الرق على شرعيته عند غير المسلمين إلى أن قررت الثورة الفرنسية إلغاءه سنة 1779 م ومع ذلك فإن عامة البلاد الأوربية والأمريكية ظلت تمارسه إلى نهاية القرن التاسع عشر؛ أي بعد الثورة الفرنسية التي أعلنت مبادئ الحرية والمساواة بين الناس بما يزيد على قرن كامل من الزمن. وكان الرق في الجزيرة العربية لا يختلف كثيرا عما كان عليه في الأمم الأخرى. وكانت الحروب الدعامة الكبرى للرق، فعندما تقوم الحرب. ويأسر الغالب المغلوب يأخذه أسيرا عنده. وأيضا كان الرق نتيجة للثراء بعد أن يخطف الرقيق؛ فلقد خطف زيد بن حارثة وهو صغير في أثناء لعبه بعيدا عن أمه وهو عند أخواله، ثم بيع في إحدى الأسواق القريبة من مكة واشتراه حكيم بن حزام ابن أخي السيدة خديجة بنت خويلد، ثم أهداه حكيم إلى عمته ولما رأت رضى الله عنها رغبة زوجها الأمين محمد بن عبد الله قبل البعثة أن يلازمه فيقوم بخدمته، قدمته إليه هدية فلزم الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة وبعدها. وكانت تجارة الرقيق من أهم موارد الثروة عند أهل مكة في الجاهلية ومن أشهر تجار الرقيق عبد الله بن جدعان. وكان ذا تجارة واسعة في الرقيق. ولقد حرم الأرقاء في الجاهلية من كافة الحقوق المدنية، ومن التصرف في شئونهم الخاصة وغالبا ما كنوا يطلقون كلمة السبايا على النساء خاصة وفي ذلك يقول الشاعر: فعادوا بالغنائم حافلات ... وعدنا بالأسارى والسبايا 1   1 النظم الإسلامية ص 301. الجزء: 50 - 51 ¦ الصفحة: 160 وكان العبد أحيانا ينال حريته؛ وذلك إذا أظهر شجاعة فائقة في الحروب والقتال ضد من يعتدي على سيده وعلى قبيلته، ويحفظ لنا التاريخ قصة عنترة المشهورة وعتق وليه وأبوه له، وجعله حُرًّا يتصرف تصرف الأحرار بعد أن كان عبدا يرعى الغنم، وأيضا فقد يكون الإخلاص الشديد سببا في العتق. ومهما يكنا من وجود طريق إلى حرية الرقيق فقد كانت قليلة بل نادرة، وكانت معاملة الرقيق لا تضرج عما كان متبعا في الدول الأخرى. الجزء: 50 - 51 ¦ الصفحة: 161 الرق في الإسلام جاء الإسلام والعالم تتحكم فيه قوتان كبيرتان هما الفرس في أسيا والروم في أوربا، والفوارق الطبقية بلغت مداها، وما يزال الرق منتشرا، والرقيق يعاملون وكأنهم جزء من المتاع لا يملكون من أنفسهم شيئا. جاء الرسول الأعظم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم في الجزيرة العربية بشريعة رب العالمين، فيها سعادة البشر في الدنيا والآخرة، ولم تكن دعوته لقوم دون قوم، أو لطائفة وحدها وإنما هي دعوة لجميع البشر، في أنحاء المعمورة لا تتقيد بمكان أو زمان إلى يوم القيامة: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} (سورة سبأ 38) . وأول ما دعا إليه الإسلام حفظ كرامة المسلم، وتحريره من كل القيود لا فرق بين أسود وأبيض أو غني وفقير أو حاكم ومحكوم، الكل أمام الله سواء. {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُم} (سورة الحجرات 13) . ومما يروى في سبب نزول هذه الآية: ما روي أنها نزلت في أبي هند، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني بياضة أن يزوجوه امرأة منهم، فقالوا يا رسول الله ونزوج بناتنا موالينا فنزلت الآية. ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا فضل لعربي على عجمي ولا لأحمر على أسود إلا بتقوى الله"1.   1 الترغيب والترهيب للمنذري جـ3 ص57. الجزء: 50 - 51 ¦ الصفحة: 161 ولقد عامل الإسلام في أول عهده الرقيق الذين أسلموا- وما يزالون قريبين من العهد الجاهلي- أحسن معاملة، ولم يلغ ما سبق في الجاهلية حتى لا تفسد أمور الناس، وينشغلوا عن أصل الرسالة بأمور جانبية. لقد عاملهم معاملة حسنة، وكان إسلامهم طريقا إلى التخلص من الرق بطريق مشروع؛ كأن يُشتَرى العبد المسلم من سيده ويعتق، كما حصل للعبد بلال بن رباح، فقد أسلم، ولكنه ما يزال عبدا لسيده أمية بن خلف الذي أذاق بلالاً كل أصناف التعذيب، فكان يتركه في حرارة الشمس القاتلة ساعات الظهيرة كي يرجع عن إسلامه، ولكنه كان قوي الإيمان فتحمل العذاب الأليم إلى أن جاء أبو بكر الصديق واشتراه وأعتقه. ولقد وجد الرقيق في الإسلام عزا وكرامة، ووجدوا في أخوة الإسلام ما جعلهم يعيشون أحرارا، يرتقون بهذه الأخوة إلى أسمى الرتب ولنضرب لذلك مثلا بزيد بن حارثة وابنه أسامة الذي ولى قيادة جيش المسلمين، ولما يناهز الثامنة عشرة وقد ولاه الرسول صلى الله عليه وسلم في آخر حياته، ونفذه كبار الصحابة بعد وفاته، ومشى أبو بكر الخليفة رضي الله عنه وهو راكبـ، وكان تحت قيادته الصحابة من أمثال عمر وعلى وغيرهما رضي الله عنهم أجمعين ... ولقد افتخر المسلمون بأن رابع الذين أسلموا كان زيد بن حارثة، فقد أسلم بعد السيدة خديجة زوج الرسول علية الصلاة والسلام وأبى بكر وعلى رضي الله عنهما. الإسلام المنقذ إن من حق الإسلام أن يترك ابتداء، فالإسلام ليس نحلة قوم، ولا نظام وطن، ولكنه منهج إله، ونظام عالم.. ومن حقه أن يتحرك ليحطم الحواجز من الأنظمة والأوضاع التي تغل من حرية الإنسان في الاختيار. وحسبه أنه يهاجم الأفراد ليكرههم على اعتناق عقيدته، إنما يهاجم الأنظمة والأوضاع ليحرر الأفراد من التأثيرات الفاسدة للفطرة، المقيدة لحرية الاختيار. سيد قطب الجزء: 50 - 51 ¦ الصفحة: 162 الرق في الجاهلية والإسلام للشيخ إبراهيم محمد حسن الجمل هل في الإسلام رق ؟ الإسلام لا يبيح أن يسترق مسلم مسلما مهما كانت الدوافع العدائية بينهما، فالمسلم المولود من أبوين حرين لا يجوز استرقاقه في أي حال من الأحوال، فالاسترقاق لا يجوز بين أهل الدين الواحد, بل لقد جاء في القرآن الكريم النهي عن مقاتلة المسلمين بعضهم بعضا. يقول المولى سبحانه وتعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (الحجرات الآية 9) . وكذلك لا يبيح الإسلام للمسلمين استرقاق أهل الكتاب الذين يعيشون بينهم والذين أمنّهم على أنفسهم وأهلهم وأموالهم. وكذلك الذين ليس لهم كتاب كعبدة الأوثان، والذين لم نحاربهم فالصحيح أن استرقاقهم لا يجوز مطلقا. ولقد أغلق الإسلام كل أبواب الرق التي كان السابقون يتخذونها ذريعة إلى الاستعباد والتحكم الأعمى في رقاب بني آدم الذين كرمهم الله وفضلهم على جميع المخلوقات وأَحل لهم الطيبات وجعل فيها رزقهم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء الآية 70) الجزء: 52 ¦ الصفحة: 83 فلا أسر بدون حرب، ولا نهب للناس، ولا استعباد بالدَّيْن أو المراهنة أو القوة أو الاستحسان. ولقد حاول الإسلام جهده أن يلغي ذلك النظام ويحول دون انتشار الرق بشتى الوسائل فقد قال فقهاء الإسلام: "إن كل من أسلم قبل الأسر في الحروب بين المسلمين وغير المسلمين عصم نفسه وماله وإن مجرد دخول العدو المحارب دار الإسلام أمان له من السبي وإذن فالرق الموجود في الإسلام إنما يكون في حالة واحدة هي الحرب التي شرعها الإسلام لحماية الدعوة والدفاع عن أنفس المسلمين كما جاء في قوله تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ، الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ, الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} (الحج الآيات 39- 41) . فهذه الآيات تفيد ما يأتي: أولا: أن تشريع القتال في الإسلام إنما كان لحماية الدعوة، وحماية المؤمنين المضطهدين فهو دفاع لا هجوم ووسيلة لغاية شريفة. ثانيا: أن القتال من هذا النوع هو من باب ما يقال (القتل أنفى للقتل) فالمراد به هو استقرار السلام وضمان الحريات العامة, فالحرب التي يقوم بها المسلمون لحماية دعوتهم تستوجب ظهور الإيمان ونصرة العقيدة، بدون إكراه لغيرهم، فلقد كانت بيوت العبادة لليهود وللنصارى قائمة بجانب المساجد وكانت هناك دائما حرية العبادة للجميع. ثالثا: أن الغاية من حرب الإسلام هي أن يتمكن المسلمون من إقامة شعائر الدين بكل حرية ويأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر. ومعنى ذلك أن يتحقق وجود العالم الأفضل الذي أراده الله لعباده وتستأصل الرذائل والشرور من هذه الأرض 1. فإذا قامت الحرب واشتدت وتعرض الطرفان للقتل والأسر فماذا سيصنع الأعداء بأسرى المسلمين؟   1 التوجيه الاجتماعي ص9 موضوع الرق للأستاذ عبد الله كانون. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 84 لا شك في أنهم سيأخذونهم رقيقا عندهم. فهل يطلق المسلمون الحرية لأسرى أعدائهم بينما المسلمون الأسرى هم عبيد لغيرهم يباعون ويشترون؟. لذلك نجد الإسلام جعل هذه الحالة ضرورة وقتية تزول بزوال أسبابها ودوافعها. وجعل أيضا معاملة العدو بمثل معاملته، وحيث أنه لم تكن هناك قوانين عامة تحمي أسرى الحرب من الاسترقاق، فليس هناك وسيلة للضغط على العدو من أجل تحسين معاملة الأسرى الذين يقعون في يده ومحاولة استخلاصهم من الرق. والإسلام لم يوجب هذا الاسترقاق الذي جاء عن طريق الحرب، بل أباح الخيار بين أن يقبل الفداء من أسرى العدو أو يمن عليهم بإطلاق سراحهم بدون فداء، وهذا ما صرحت به الآية الكريمة. فقال تعالى: {حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا} (محمد الآية 4) . ولقد تأسى الخلفاء الراشدون والصالحون من بعدهم بما جاء به القرآن الكريم وما فعله الرسول الأمين، فكثيرا ما كانوا يمنون على الأعداء المقاتلين بالفداء أو بدونه ويتركونهم ابتغاء وجه الله وكثيرا ما كانت هذه المعاملة الحسنة تأسر قلوبهم. ولقد وجدنا البطل المغوار صلاح الدين الأيوبي قائد الحروب ضد الصليبيين يطلق آلاف الأسرى من أعداء الإسلام الذين أتوا من أوروبا يقصدون الاستيلاء على البلاد وإهلاك العباد والذين هاجموا بلاد المسلمين وكبدوها من الخسائر في النفوس والأموال الكثير 1. ولن ينس التاريخ ما فعله الرسول الأعظم بأسرى غزوة بدر فقد جعل المفاداة لهم بالمال أو بأسرى مسلمين أو بالقيام بعمل شريف نبيل كتعليم العلم فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم فداء كل أسير تعليم عشرة من صبيان المسلمين القراءة والكتابة. وتغنى شعراء المسلمين بالمن على الأسرى وإطلاق سراحهم وجعله من أكرم الصفات وأنبل الأفعال إذ يقول شاعرهم: ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم ... إذا أثقل الأعناق حمل المغارم   1 التوجيه الاجتماعي مقال ((الرق)) للأستاذ عبد الله كانون. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 85 الإسلام يدعو لتحرير الرقيق : اعتبر الإسلام الرق عارضا حتى قال العقاد رحمه الله: "شرع الإسلام العتق ولم يشرع الرق؛ إذ كان الرق مشروعا قبل الإسلام في القوانين الوضعية والدينية بجميع أنواعه: رق الأسر في الحروب، ورق السبي في غارات القبائل بعضها على بعض، ورق الاستدانة أو الوفاء بالدين" 1 وغير ذلك مما كان القوم يستحدثونه. ولهذا شرع الإسلام وسائل كثيرة إن حصل رق في حرب وذلك مساعدة للأرقاء على استرداد حريتهم، واستقلالهم، فأوصى الله سبحانه وتعالى بالأرقاء وبالدعوة إلى إطلاق سراحهم. وكما أوصد الإسلام كل أبواب الرق المحرمة فإنه فتح أبواب التحرير على مصاريعها لأنه يدعو إلى الحرية ورفع نير الاستعباد والاضطهاد وإزالة كل وسائل الامتهان والاحتقار والسخرية والازدراء، وبهذا ألغى جميع صور ومصادر الرق الأخرى المبنية على الظلم والجور والحيف والتعسف واعتبرها محرمة شرعا لا تحل بحال. دعا الإسلام إلى مكاتبة الأرقاء، وندب إلى إعتاقهم وحث على ذلك فقال تعالى في كتابه العزيز: {وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} (النور الآية 33) . ومما ورد في سبب نزولها ما أخرجه ابن السكن في معرفة الصحابة عن عبد الله بن صبيح عن أبيه قال: "كنت مملوكا لحويطب بن عبد العزى فسألته الكتاب فأبى فنزلت الآية" 2. بل لقد نهى الشرع الحكيم عن استخدام الرقيق فيما حرم الله: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} (النور الآية 33) . ومما ورد في سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس بسند صحيح قال: " كانت لعبد الله بن أبيّ جارية تزني في الجاهلية فلما حُرّم الزنا قالت: لا والله لا أزني أبدا فنزلت" 3. وجعل الشرع الحكيم وسائل فردية تحرى فيها الإسلام العتق وتعجيل فكاك الأسرى ومن ذلك جعله العتق كفارة عن كثير من الذنوب كالقتل الخطأ فقال تعالى: {وَمَنْ قَتَلَ   1 حقائق الإسلام للعقاد ص209. 2 أسباب النزول للسيوطي سورة النور. 3 أسباب النزول للسيوطي سورة النور. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 86 مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} (النساء الآية 93) . فمما ورد في سبب نزول هذه الآية أن الحارث بن يزيد من بني عامر بن لؤي كان يعذب عياش بن أبي ربيعة مع أبي جهل ثم خرج الحارث مهاجرا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقيه عياش بالحرة فعلاه بالسيف وهو يحسب أنه كافر ثم جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فنزلت الآية.1. كذلك إذا حنث المسلم بيمينه فإن كفارته أيضا عتق رقبة قال تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} (المائدة الآية89) . وكذلك الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} (المجادلة الآية3) . روت عائشة قالت: "تبارك الله الذي وسع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة، ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتقول: يا رسول الله أكل شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك فما برحت حتى نزل جبريل بهؤلاء الآيات {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} " 2. أيضا يحسب من الرذائل المأخوذة على الإنسان السيئ أنه لا يقتحم هذه العقبة أو لا ينهض بهذه الفدية المؤكدة, إنها سبيل إلى رحمة الله، وطريق إلا جنته: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} (البلد الآيات 11- 15) وأيضا فقد جعل الشرع الحكيم للإعتاق بابا من أبواب الزكاة، وقسمها سبحانه وتعالى بنفسه وجعل فيها سهما مفروضا لتحرير الرقاب.   1 أسباب النزول للسيوطي سورة النساء. 2 أسباب النزول للسيوطي سورة المجادلة. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 87 قال تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} (التوبة الآية 60) . ففي الرقاب إنما يكون العتق. وبجانب القرآن نجد السنة توضح وتبين أسبابا للعتق فمن أوجب على نفسه تحرير رقبة بالنذر وجب عليه الوفاء به متى تحقق له مقصوده وتم له مراده. قال صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه". كذلك من أعتق نصيبه من مملوك عتق عليه كله بالسراية وسلَّم قيمته لشركائه إن كان موسرا، فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: "من أعتق شقصا من مملوك فعليه خلاصه كله في ماله فإن لم يكن له مال قوم المملوك قيمة عدل ثم استسعى العبد غير مشقوق عليه". وكذلك من ملك ذا رحم محرم عليه كأبيه وأخيه وعمه وخاله، وأمه وعمته وخالته عتق عليه قهرا لقوله صلى الله عليه وسلم: "من ملك ذا رحم محرم فهو حر" رواه أهل السنن. أيضا من جرح مملوكه عتق عليه، فقد جاء في الحديث: أن رجلا جدع أنف غلامه فقال صلى الله عليه وسلم: "اذهب فأنت حر" فقال: يا رسول الله فمولى من أنا؟ قال صلى الله عليه وسلم: "مولى الله ورسوله". وأيضا التدبير وهو تعليق عتق الرقيق بموت مالكه روى جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: "دبر رجل من الأنصار غلاما له وفى لفظ بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن رجلا من أصحابه أعتق غلاما له عن دبر لم يكن له مال غيره فباعه رسول الله صلى الله عليه وسلم بثمانمائة درهم ثم أرسل بثمنه إليه". وإذا وطئ حر أمته فأتت منه بولد صارت أم ولد له تعتق بموته لحديث ابن عباس يرفعه: "من وطئ أمته فولدت فهي معتقة عن دبر عنه" رواه أحمد وابن ماجه. القول يتبعه العمل: لقد ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم المثل لنقتدي به فكثيرا ما كان يحث الصحابة على حسن معاملة الرقيق وهي القلة الباقية ثم حضهم على العتق والحرية. فعن واصل الأحدب قال: سمعت المعمور بن سويد قال: "رأيت أبا ذر الغفاري وعليه حلة وعلى غلامه حلة فسألناه عن ذلك فقال: ساببت رجلا فشكاني إلى رسول الله صلى الله الجزء: 52 ¦ الصفحة: 88 عليه وسلم فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: أعيرته بأمه؟! ثم قال: إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل وليلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم". وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين ... ". وعن ابن مسعود قال: "بينما أنا أضرب غلاما لي إذ سمعت صوتا من خلفي: إعلم يا ابن مسعود مرتين فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم فألقيت السوط من يدي فقال: والله لَلّه أقدر عليك منك على هذا". وبلغ من رحمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان لا يطيق أحدا أن يقول: كان عبدي وأمتي وأنه أمر المسلمين أن يكفوا عن ذلك، وأن يقولوا فتاي وفتاتي. وكان لهذه التربية أحسن الأثر في تحرير الأرقاء ونشر المساواة بين المسلمين. وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلا على دابة وغلامه يسعى خلفه فقال: "يا عبد الله احمله خلفك فإنما هو أخوك روحه مثل روحك فحمله". وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما مؤمن أعتق مؤمنا في الدنيا أعتق الله تعالى بكل عضو منه عضوا من النار". وعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: "أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صاحب لنا قد أوجب، فقال صلى الله عليه وسلم: اعتقوا عنه يعتق الله تعالى بكل عضو منه عضوا من النار". وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله علمني عملا يدخلني الجنة فقال صلى الله عليه وسلم: اعتق النسمة، وفك الرقبة فقال: أو ليسا واحدا؟ قال صلى الله عليه وسلم: لا، عتق النسمة أن تنفرد بعتقها، وفك الرقبة: أن تعين على فكاكها". ولعل ما عبر عنه القرآن الكريم في سورة البلد فيه خير كثير، فقد منّ الله على عباده بالنعم التي أنعم بها عليهم فقال سبحانه وتعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ. وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ. وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} ثم قال بعد ذلك جل وعلا: {فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ. وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ. فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ. أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} (البلد الآيات 11- 16) . الجزء: 52 ¦ الصفحة: 89 ولقد ضرب لنا الصحابة المثل الأعلى في معاملة أرقائهم، فساووهم بأنفسهم بل أحيانا كان يفضل الواحد منهم عبده على نفسه. فقد روي أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه قال: "إني لأستحي أن أستعبد إنسانا يقول ربي الله". ومما روي عن علي أنه أعطى غلاما دراهم ليشتري بها ثوبين متفاوتي القيمة، فلما أحضرهما أعطاه أَرقهما نسيجا وأغلاهما قيمة وحفظ لنفسه الآخر وقال له: "أنت أحق مني بأجودهما لأنك شاب وتميل نفسك للتجمل أما أنا فقد كبرت". ولقد عني الإسلام بنفسية الأسير والرقيق عناية خاصة فقال سبحانه وتعالى يطيب خاطرهم ويفتح باب الأمل في المغفرة وحسن الجزاء {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (الأنفال الآية 70) . ولقد أثنى على الإسلام ومعاملته للرقيق كثير من المنصفين من الأوروبيين والمستشرقين، فقد وصف المستشرق (فان دنبرغ) معاملة الإسلام للرقيق في هذه العبارة: "لقد وضع للرقيق في الإسلام قواعد كثيرة تدل على ما كان ينطوي عليه محمد وأتباعه نحوهم من الشعور الإنساني النبيل ففيها تجد من محامد الإسلام ما يناقض كل المناقضة الأساليب التي كانت تتخذها إلى عهد قريب شعوب تدعي أنها تسير في طليعة الحضارة". نعم إن الإسلام لم يلغ الرق الذي كان شائعا في العالم، ولكنه عمل على كثير من إصلاح حاله، وأبقى حكم الأسير ولكنه أمر بالرفق. يقول جوستاف لوبون: "إن الرق عند المسلمين غيره عند النصارى فيما مضى، وإن حالة الأرقاء في الشرق أفضل من حال الخدم في أوروبا، فالأرقاء يؤلفون جزءاً من الأسرة ويستطيعون الزواج ببنات سادتهم أحيانا- أي بعد أن يُعتقوا- ويقدرون أن يتسنموا أعلى الرتب، وفى الشرق لا يرون في الرقيق عارا، والرقيق فيه أكثر صلة لسيده من الأجير في بلادنا" 1. لماذا لم يبدأ الإسلام بإلغاء الرق؟ إن الإسلام قد وضع الأساس الأول لإلغاء الرقيق منذ خمسة عشر قرنا من الزمن، ولم يحاول أن يلغيه كما يقولون: بجرة قلم؛ لأن الإسلام دين إصلاح لا هدم، ولو دعا إلى   1 حضارة الإسلام لجوستاف لوبون ص459. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 90 تحرير كل العبيد لاهتز كيان العالم وفسدت المصالح وتعطلت حاجات الناس، وما استطاعوا في ذلك الوقت أن يأخذوا سيرهم في الحياة، فكانت الظروف الاجتماعية التي كانت موجودة عند ظهور الإسلام تحتم على كل مشرع حكيم أن يقر الرق في صورة ما، وتجعل محاولة إلغائه تصاب بالفشل والإخفاق. وأيضا فإن الإسلام لم يقر الرق إلاّ في صورة تؤدي نفسها إلى القضاء عليه بالتدريج. يقول الأستاذ د. علي عبد الواحد وافي: "ظهر الإسلام في عصر كان نظام الرق فيه دعامة ترتكز عليهما جميع نواحي الحياة الاقتصادية، وتعتمد عليها جميع فروع الإنتاج في مختلف أمم العالم، فلم يكن من الإصلاح الاجتماعي في شيء أن يحاول مُشرّع تحريمه تحريما باتا لأول وهلة؛ لأن محاولة كهذه كان من شأنها أن تعرض أوامر المشرع للمخالفة والامتهان, وإذا أتيح لهذا المشروع من وسائل القوة والقهر ما يكفل به إرغام العالم على تنفيذ ما أمر به فإنه بذلك يعرض الحياة الاجتماعية والاقتصادية لهزة عنيفة، ويؤدي تشريعه إلى أضرار بالغة لا تقل في سوء مغبتها عما تتعرض له حياتنا في العصر الحاضر إذا الغي بشكل مفاجىء نظام البنوك أو الشركات المساهمة فيكون ضررها أكثر بكثير من نفعها" 1. ولقد استخدم الإسلام في بعض الأحيان طريق التدرج في تحريم الخمر، وقد كان العرب من أكثر الناس تناولا لها، فلو حرمت مرة واحدة لأدى ذلك إلا تفكك المجتمع وتمسك البعض بها. فبين الشارع الحكيم ضررها أولا ولم يحرمها في بادئ الأمر ثم حرمها عند إرادة الصلاة {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ} (النساء الآية 43) . وفي المرتين امتنع بعض الناس عن تناولها ثم بعد ذلك حرمها مطلقا. {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنْصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة الآية 90) . ثم يقول الأستاذ د. عبد الواحد وافي: "وبذلك كفل الإسلام القضاء على الرق في صورة سليمة هادئة وأتاح للعالم فترة للانتقال يتخلص فيها شيئا فشيئا من هذا النظام"2.   1 حقوق الإنسان في الإسلام ص140. 2 حقوق الإنسان ص 141. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 91 أثر الرق في الإسلام : كان سبب الرق في الإسلام وقوع الكافر أَسيرا في يد المسلمين عند الحرب، فإذا حارب المسلمين الكفارُ فمن وقع أسيرا في يد المسلمين عند الحرب جاز للإمام أن يسترقه الجزء: 52 ¦ الصفحة: 91 رجالا كانوا أو نساء وكان الأرقاء يوزعون على المسلمين غنائم حرب كما نص عليه الشرع الحكيم وكما جاء في القرآن الكريم: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الأنفال الآية 41) . ولما كان الإسلام يستبيح الرق في حالة الحرب، وقد انتصر في المعارك التي خاضها في أول العهد بالدعوة فقد كثر الأسرى والرقيق، وكان وجودهم مع العرب بالكيفية التي حث الإسلام على اتباعها معهم له أكبر الأثر في عملية المزج بين العرب وغير العرب حيث فتحت بلاد كثيرة من غير العرب في الشام والعراق وبلاد فارس ومصر وشمال إفريقيا على مر العصور والأزمنة. ووجد العرب في الإماء والرقيق خير عون على الحياة، وتزوج كثير من الأرقاء- بعد عتقهم- بالعربيات، ولم يروا في ذلك عيباً ولا غبار عليه، وبالتالي تسرى وتزوج كثير من العرب بالإماء من غير العرب وحصل مزج كان له أكبر الأثر في الحياة العقلية، ودخل البيت العربي عناصر فارسية، ورومانية، وسورية، ومصرية، وبربرية، وبطريق التناسل اختلط الدم العربي بغيره من الدماء، فأنتج أعظم العقول المفكرة. يقول الزمخشري في كتابه ربيع الأبرار: "إن الصحابة رضي الله عنهم لما أتوا المدينة بسبي فارس في خلافة عمر بن الخطاب كان فيهم ثلاث بنات ليزدجرد ملك الفرس، فباعوا السبايا وأمر عمر ببيع بنات يزدجرد أيضا، فقال له علي بن أبي طالب: إن بنات الملوك لا يعاملن معاملة غيرهن, فقال: كيف الطريق إلى العمل معهن؟ قال يُقَوّمن, ومهما بلغ ثمنهن قام به من يختارهن، فقوّمن فأخذهن علي بن أبي طالب فدفع واحدة لعبد الله بن عمر وأخرى لولده الحسين وأخرى لمحمد بن أبي بكر الصديق فأولد عبد الله بن عمر ولده سالما وأولد الحسين زين العابدين وأولد محمد ولده القاسم فهؤلاء الثلاثة بنو خالة وأمهاتهم بنات يزدجرد" 1. ويقول المبرد في كتابه الكامل: "وكان أهل المدينة يكرهون اتخاذ أمهات الأولاد حتى نشأ فيهم علي بن الحسين وقاسم بن محمد وسالم بن عبد الله ففاقوا أهل المدينة فقها وورعا فرغب الناس في السراري" 2 ويقول أحمد أمين رحمه الله: "هؤلاء الأرقاء والموالي أنجبوا في الجيل الثاني لعهد   1 فجر الإسلام ص108،الطبعة الحادية عشر. النهضة. 2 فجر الإسلام ص109،الطبعة الحادية عشر. النهضة. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 92 الفتح عددا عديدا، يعد من بعد، من سادات التابعين وخيرة المسلمين، ومن حملة لواء العلم في الإسلام" 1ولما كان عدد الزوجات في الإسلام مقيدا بالأربع وليس مقيدا بالنسبة للإماء، فقد عاشر المسلمون كثيرا من الإماء، وأنجبوا كثيرا من الأولاد والبنات وكثيرا ما كان العرب ينجبون لأنهم يفتخرون بكثرة الأولاد وبذلك اختفى النظام القبلي الذي كان أساس المجتمع العربي من القديم، ولم يقيموا وزنا للدم العربي، ولم يعد لانتقاء الزوجة العربية أي أثر، ووصل بعد ذلك الذين أمهاتهم من الرقيق إلى الخلافة مثل يزيد الثالث في الخلافة الأموية فإن أمه غير عربية، فقد كانت فارسية أسرها القائد قتيبة في الصغد ثم أهداها إلى الوليد فولدت له يزيد. وكذلك العباسيون فالمنصور ابن أمة من البربر والمأمون ابن أمة فارسية، ومثله الواثق والمهتدي، وكانت أم المنتصر يونانية أو حبشية، وأم المستعين صقلية وأم المكتفي والمقتدر كانتا تركيتين وأم المستضئ أرمنية، وكانت الخيزران نفسها أم الرشيد أجنبية وهي أول امرأة اضطلعت بسلطة واسعة في شئون الدولة العباسية 2. ولقد أثر الرقيق في حياة الدولة في جميع مناحي الحياة السياسية والدينية والعلمية والأدبية، توصل بعضهم إلى الوزارة والكتابة إلا أن الدولة اتجهت بالرقيق غير الاتجاه الإسلامي الصحيح فدخلوا في سوق النخاسين يشترون العبيد المخطوفين والمنهوبين، والذين يؤتى بهم بطريق غير شرعي، فاشتروا كثيرا من العبيد من أوروبا وأطلقوا عليهم المماليك، ووصل إليهم الكثير من بلاد الروم وغيرها من الصرب والممالك المجاورة ومن بلاد فارس، واتخذوا منهم العسكر والجيوش التي يحاربون بها بعضهم بعضا أو يحاربون بها الأعداء إلا أنهم في النهاية يقتلون الأسياد والخلفاء ويستولون على الحكم كما حصل في أواخر الدولة العباسية. ولا يحتج بهم على التشريع للرق في الإسلام لأن أعمالهم وعمل من أتى من بعدهم ليست من الإسلام والإسلام بريء منها لأن معظم الرقيق والجواري لم يكونوا عن طريق حرب إسلامية يدافع فيها المسلمون عن عقيدتهم، وإنما كان عن طريق شراء المخطوفين والمخطوفات والراغبين والراغبات وغير ذلك مما يتبرأ منه الإسلام والمسلمون.   1 فجر الإسلام ص108، 109 الطبعة الحادية عشرة _النهضة. 2 تاريخ العرب فيليب حتى ص 409. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 93