الكتاب: مفهوم الأسماء والصفات المؤلف: سعد بن عبد الرحمن ندا الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد من المجلة] ---------- مفهوم الأسماء والصفات سعد بن عبد الرحمن ندا الكتاب: مفهوم الأسماء والصفات المؤلف: سعد بن عبد الرحمن ندا الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد من المجلة] مدخل ... مفهوم الأسماء والصفات الحلقة الأولى فضيلة الشيخ/ سعد ندا المدرس بالجامعة الإسلامية أسلفت القول في أنني أهتم أعظم الاهتمام بقضايا العقيدة الإسلامية. وهكذا ينبغي أن يكون شأن كل مسلم- ذلك بأن العقيدة هي الركيزة التي يقوم عليها ديننا الإسلام، فمن أفسدها، أو جحدها، أو كفر بها، بطل عمله مهما أكثر منه وحسبه صالحا، وحتى لو كان قد أقر قبل بالشهادتين، فإن إقراره يعتبر منقوضا بما ارتكب مما ينافي مقتضاهما مثله كمثل المتوضئ الذي يحدث ثم يصلي، فإن صلاته تكون - لنقضه وضوءه - بلا ريب باطلة شاء أم أبى. فكذلك مفسد العقيدة، أو الجاحد لها، أو الكافر بها- بمسلكه الشركي أو الكفري - أعماله باطلة شاء أم أبى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأنعام آية 88) ، {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} (المائدة: آية 5) إن العقيدة بمثابة الروح للبدن، وهل تجد نبضة من حياة في بدن فاضت منه روحه؟. إننا إذا جلنا جولات خاطفة متبصرة في المجتمعات الإسلامية، لألفيناها- إلا من رحم الله وحمى منها- أبداناً وهياكل لا روح فيها، لا تقيم للعقيدة الصحيحة وزنا، ولا تتبين معاني التوحيد والشرك، والسنة والبدعة، والحق والباطل، إذ اضطربت في أذهان أفرادها معالم الشريعة، ففقدوا بذلك الفرقان الذي يميز الخبيث من الطيب، ومن ثم لم يعنوا بالتعرف على الله، والتجرد له، واستهانوا بمراقبته وتقواه، وهل يوجد الفرقان في قلب المؤمن إلا بتقوى الله؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً} (الأنفال آية 29) . وبهذا اختلت الموازين لدى من ينتسبون إلى الإسلام، فلم يميزوا بين ما يضرهم وبين ما ينفعهم، ولا بين عدوهم وبين حبيبهم، ولا بين من يقدم لهم طعاماً وبين من يجعلهم له طعاماً، وبين من يمد إليهم يده مصافحا، وبين من يمدها إليهم طاعناً، وأخذوا يسمعون لكل ناعق،.. ويجرون وراء كل داع، فعميت عليهم الأنباء، وأصبحوا في أمر مريج،.. وانتهى مطافهم إلى أن دب الخلاف فيما بينهم، وانكبوا على الدنيا وشهواتها يتنافسون..، فهزلت شخصياتهم..، وبهتت الجزء: 45 ¦ الصفحة: 75 ألوانهم، وخفتت أصوات الحق فيهم- إلا من رحم الله ووفق-، ونظر إليهم أعداؤهم- أعداء الله - فوجدوهم هكذا غثاء كغثاء السيل، رغم بلوغ عددهم ما يقارب ألفا من الملايين، فما خشوا بأسهم واستهانوا بهم، وأخذوا يخططون لضرب وحدتهم أولا، فلما فرقوهم سهل عليهم التهامهم أمة تلو أمة ثانيا، ثم أخذ أعداء الله الدنيا بقوة، وأصلحوا فيها أمرهم، فبلغوا من التقدم ما حطوا به على سطح القمر وغيره من الكواكب- وصار ميزان العالم كفتين: كفة يشغلها ملاحدة شيوعيون، تقابلها كفة أخرى يشغلها صهاينة جشعون، يعاونهم صليبيون حاقدون. وكل من القوتين الباغيتين لا تحب الإسلام ولا ترضى عن المسلمين طالما أنهم مسلمون، وقد قرر الله تعالى هذه الحقيقة في قوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُم} (البقرة آية 120) ، ثم بين سبحانه طريق الحق وحذر من اتباع أهواء هؤلاء المتخبطين فقال: {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} (البقرة آية 120) - والملاحدة الشيوعيون أولى أن لا يرضوا عن المسلمين حتى ينسلخوا من دينهم ويتبعوا إلحادهم - ولا ينبغي أن نغمض أعيننا عن واقع المسلمين، ونهيم في ملذات الحياة الدينا غافلين، إنما يجب علينا أن نرفع غشاوة أعيننا، ونشحدآذاننا، ونفتح مغاليق قلوبنا، ثم نتدبر ونفكر كيف نسير لصد هذا الموج الإجرامي العنيف. لنلق نظرةَ على إخواننا المسلمين في الفلبين، وبورما، وتايلاند، وأفغانستان، وفلسطين المحتلة، وإريتريا، والصومال- لنرى ما يمارسه العتاة المجرمون أعداء الله مع المسلمين في تلك الأمم من حرب الإبادة ابتغاء طمس معالم الإسلام فيها، ومحاولة تحويلها- لا قدر الله- إلى بلاد كفر وإلحاد. ونشحذ آذاننا، ونفتح مغاليق قلوبنا، ثم نتدبر، ونفكر كيف نسير لصد هذا الموج الإجرامي العنيف. لنلق نظرة على إخواننا المسلمين الفلبين، وبورما، وتايلاند، وأفغانستان، وفلسطين، وأريتريا والصومال - لنرى ما يمارسه العتاة المجرمون أعداء الله مع المسلمين في تلك الأمم من حرب الإبادة ابتغاء طمس معالم الإسلام فيها، ومحاولة تحويلها - لا قدر الله - إلى بلاد كفر وغلحاد. ألا تتقطع نياط القلوب المؤمنة حين تترامى تلك الأنباء المفجعة بمحاولات وغدر أولئك الباغين الذين قتلوا وشردوا إخوتنا في الله بغير ذنب إلا أن يقولوا ربنا الله؟. ألا تتمزق الصدور التي شرحها الله بالإسلام حين تحمل إذاعات العالم بيان ضاري المعارك التي يستميت فيها أبناء الإسلام المستضعفين في محاولة لحماية حماه؟ إن الدول الإسلامية مهما اختلفت مواقعها واتجاهاتها الخاصة إنما هي بحكم الله أمة واحدة فلماذا ندعها تتمزق وتتقطع أواصرها؟ أليس الله تعالى يقول: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} (الأنبياء آية 92) . فأين تطبيق هذا بين المسلمين؟، وأين تطبيق قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى" (البخاري) ؟ وأين تطبيق قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ؟ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} (الصف آية 11) وأين الجهاد في سبيل الله لإنقاذ المسلمين الذين أحيط بهم؟ وسامهم المجرمون الغادرون ألوان العذاب؟ لا بالنفس نرى جهادا ولا بالمال- إلا من رحم الله- نجد بذلا؟ فلماذا؟ {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ؟ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ. إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (التوبة آية 28، 29) {يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً؟ أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ؟ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي؟} (طه: آية 86) . هل هذا التخاذل عن الجهاد بالنفس خشية القتل؟ الجزء: 45 ¦ الصفحة: 76 أليس الله تعالى يقول؟ {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ. قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ؟ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ} (التوبة آية 51، 52) . فنتيجة الجهاد بالنفس: إما نصر يحمل الخير ويرفع كلمة الله، وإما استشهاد لا موت معه بل حياة به عند الله - وهل هذا التخاذل من الأكثرين عن الجهاد بالمال خشية نفاذه؟ أليس الله تعالى قد ضمن الرزق لكل من خلق. وأنت ممن خلق- فطمأنك وأكد لك وقال لك: {وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} (الذاريات آية 22، 23) - ثم زاد اطمئنانك فبين أن ما لديه غير قابل للنفاذ إطلاقا فقال سبحانه: {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} - (ص آية 54) . أين عدة المسلمين الموحدة التي أمرهم الله تعالى بإعدادها لدحر أعداء الإسلام بأي اسم كانوا وعلى أي أرض وجدوا؟ أين تنفيذ أمره تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُم} (الأنفال آية 60) . لم هذا التباطؤ والانكباب على هذه الحياة المترفة التي حولت أغلب لبنات الأمم الإسلامية - إلا من رحم الله - إلى لبنات هشة ناعمة لا تقوى على مجابهات أعداء الله وصد شراستهم في تحركات غادرة بغية محو كيان المجتمع الإسلامي من خارطة العالم، وإذا في مجتمعاتهم الصارخة بالإلحاد والكفر- إن كل مؤمن يملأ قلبه أمل عريض، وضراعة إلى الله صادقة، أن يجمع شتات الأمم الإسلامية ويوحد فرقتها، ويبدد الخلافات بينها، ويجعلها أمة واحدة، معبودها رب واحد، وقدوتها إمام واحد، ونهجها كتاب واحد، ووجهتها قبلة واحدة، وغايتها- بإعلاء كلمة الله- واحدة. إنه مما لا شك فيه أن اجتماع الأمم الإسلامية- وخاصة إذا دعمها الإيمان - يرهب أعداء الله، ويملأ قلوبهم رعبا وفزعا؛ ثم إن يد الله دائما على الجماعة المؤمنة، وهذا يستتبع نصره لها {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} (غافر آية 51) لما ينصرف أكثر المسلمين عن هدى الله ويصبحون إمَعات؟ إن أحسن الناس أحسنوا تقليدا غير بصير على نهجهم؟ وإن أساءوا أساءوا تقليدا غير بصير كذلك على دربهم؟ إنني أتصور أن الذي صرف أكثر هؤلاء المسلمين عن الله إنما هو جهلهم بالله، ومن جهل الله جهل ما قال، وكما يقال: "من جهل شيئا عاداه". ومن ثم لما جهلوا الله عادوه، ولجئوا إلى غيره فأشركوا فحبطت أعمالهم، ولما جهلوا قول الله تعالى عادوه كَذلكَ، ولجئوا إلى قول غيره، فضلوا وتخبطوا، واستشرى فسادهم، وعم شقاؤهم. وصدق الله جل وعلا حين قال: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكا} (طه آية 124) . فلابد إذن للمسلم أن يتعرف على الله تعالى حتى يعبد إلها يعرفه، فتسلم له عباداته- وقد ذكر بعض العلماء فوائد معرفة صفات الله وأسمائه، وأفعاله وتقديسه عن النقائص، ونجمل هذه الفوائد - لعظيم أهميتها- فيما يلي: 1- أن معرفة الله تعالى هي من أشرف العلوم وأجلها على الجزء: 45 ¦ الصفحة: 77 الإطلاق، إذ الاشتغال بفهمها والبحث التام عنها هو اشتغال بأعلى المطالب، وحصوله للعبد هو من أشرف المواهب. 2- أن معرفة الله تعالى تدعو إلى محبته، وخشيته، وخوفه، ورجائه، وإخلاص العمل له، وهذا هو عين سعادة العبد. ولا يمكن معرفة الله إلا بمعرفة أسمائه وصفاته وفهم معانيها؛ وقد اشتمل القرآن الكريم من تفصيلها، وبيان تعرف الله بها إلى عباده، وتعريفهم لنفسه كي يعرفوه ما لم يشتمل عليه غيره من بيان. 3- أن معرفة الله تعالى هي أحد أركان الإيمان، بل أفضلها وأصلها، وليس الإيمان مجرد قوله: "آمنت بالله" من غير معرفته بربه، بل إن حقيقة الإيمان أن يعرف الرب الذي يؤمن به، بل ويجب عليه أن يبذل جهده في معرفة أسمائه وصفاته حتى يبلغ درجة اليقين، وبحسب معرفة العبد بربه تكون درجة إيمانه، فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه، وكلما نقصت معرفته نقص إيمانه، وأقرب طريق يوصل إلى معرفة الله تعالى تدبر أسمائه وصفاته من نصوص القرآن والسنة، فإذا مر به اسم من أسماء الله تعالى أثبت له معناه، وما يتضمنه من صفات كمال مطلقة، ومع ذلك ينزهه سبحانه عما يضاد كماله. 4- أن الله تعالى خلق الخلق ليعبدوه، فيقول تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات آية 36) ، ولا يمكن أن يعبدوه دون أن يعرفوه، فلا بد من معرفتهم له سبحانه ليحققوا الغاية المطلوبة منهم والحكمة من خلقهم، والاشتغال بمعرفته سبحانه هو اشتغال العبد بما خلق له، وتركه وتضييعه إهمال لما خلق له، وقبيح بعبد لم تزل نعم الله عليه متواترة، وفضله عليه عظيم متوال من كل وجه، أن يكون جاهلا بربه، معرضا عن معرفته. 5- أن معرفة الله تعالى هي أصل الأشياء كلها، حتى أن العارف به سبحانه حق المعرفة يستدل بما عرف من صفاته، وأفعاله على ما يفعله، وعلى ما يشرعه من الأحكام، لأنه سبحانه لا يفعل إلا ما هو مقتضى أسمائه وصفاته، فأفعاله دائرة بين العدل والفضل والحكمة، وكذلك لا يشرع ما يشرعه من أحكام إلا حسب ما يقتضيه حمده وحكمته، وفضله وعدله. فأخباره كلها حق وصدق، وأوامره ونواهيه كلها عدل وحكمة1. مما سلف يتبين أن معرفة الله تعالى لها من الأهمية العظمى للعبد ما لا يتصور استغناؤه عنه، لأنها الركيزة التي يقوم عليها حكمة إيجاده وهي عبادة الله تعالى وحده لا شريك له. لهذا بدأت في محاولة لتنبيه من غفل من المسلمين إلى أهمية العقيدة الإسلامية- أساس هذا الدين- ليجعلوا منطلق أعمالهم منها، حتى تصح لهم بالبناء عليها جميع الأعمال، وعلى الله بعد ذلك في قبولها تنعقد الآمال. ولقد تبلْور في فهمي ما أردت بيانه في بابين:   1 تيسير الكريم الرحمن الجزء الأول ص 10،11 بتصرف الجزء: 45 ¦ الصفحة: 78 الباب الأول: باب (التعرف على الله تعالى) مدخل ... الباب الأول: باب (التعرف على الله تعالى) : وهذا الباب يشمل بدوره قضيتين: إحداهما: (مفهوم الربوبية) وقد أسلفت بيانها تحت عنوان: (مفهوم الربوبية) في أربع حلقات مضَيْنَ. وثانيهما: ( مفهوم الأسماء والصفات ) وهي موضوع حلقاتي التي تبدأ بحلقتنا هذه، وأسأل الله أن يريني الحق حقا ويرزقني اتباعه، وحسن بيانه للناس. وهذا الباب يشمل بدوره قضيتين كذلك: إحداهما: (مفهوم الإلهية) . وثانيتهما: (مفهوم التشريع) وذلك انطلاقا من قوله جل وعلا: {إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} (يوسف آية 40) حقا إن أكثر الناس لا يعلمون أن الحكم لله وحده، وأن العبادة كذلك لله وحده سبحانه. وإلى هذا المقام، أجدني قد اقتربت من مدخل الموضوع الذي أريد أن أعالجه، وهو القضية الثانية من باب (التعرف على الله تعالى) وهي:- مفهوم الأسماء والصفات الجزء: 45 ¦ الصفحة: 79 مفهوم الأسماء والصفات أسماء الله الحسنى ... (مفهوم الأسماء والصفات) نقسم هذا الموضوع إلى مبحثين: المبحث الأول: أسماء الله تعالى. المبحث الثاني: صفات الله تعالى. أولا أسماء الله تعالى (الأسماء الحسنى) معنى الأسماءِ: أسماء جمع اسم، والاسم: معناه لغة هو ما يعرف به الشيء ويستدل عليه. وعند النحاة: هو ما دل على معنى في نفسه غير مقترن بزمن. والاسم الأعظم: هو الاسم الجامع لمعاني صفات الله عز وجل. واسم الجلالة: أو لفظ الجلالة: هو الله، وهو اسمه سبحانه وتعالى. واصطلاحاَ: إذا قيل: أسماء الله تعالى، أو أسماء الله تعالى وصفاته، أو الأسماء والصفات، كان معنى الأسماء أسماء الله تعالى الحسنى التي تسمى بها سبحانه، واستأثر بها لنفسه جل وعلا. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 79 لم سميت أسماء الله تعالى بالأسماء الحسنى؟ وردت تسمية الأسماء الحسنى في قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف آية 180) وفي قوله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (طه آية 8) . وسميت الأسماء الحسنى، لأنها حسن في الأسماع والقلوب، وتدل على توحيده، وكرمه وجوده، ورحمته، وأفضاله 1 كما أنها تدل على أحسن مسمى، وأشرف مدلول. وكل اسم يدل على صفة كمال عظيمة، وبذلك كانت أسماء الله تعالى جميعا حسنى، فهي ليست أعلاماً محضة، إذ لو كانت كذلك ولم تتضمن صفات الكمال لم تكن حسنى، وكذلك لو دلت على صافات ليست بصفات كمال: كصفات نقص، أو صفات منقسمة إلى المدح.. والقدح لم تكن حسنى 2. فكل اسم من أسمائه تعالى دال على جميع الصفة التي اشتق منها لجميع معناها، وذلك نحو اسم الدال (العليم) الدال على أن له علما محيطاً عاما لجميع الأشياء، فلا يخرج عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء. واسم (الرحيم) الدال عَلى أن له رحمة عظمية واسعة لكل شيء. واسم (القدير) الدال على أن له قدرة عامة لا يعجزها شيء - ونحو ذلك. ومن تمام كونها حسنى أنه لا يدعى إلا بها، ولذلك قال تعالى: {فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف آية 180) 3.. ما سبب نزول آية {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} ؟ قال مقاتل وغيره من المفسرين: "نزلت هذه الآية في رجل من المسلمين كان يقول في صلاته: يا رحمن يا رحيم، فقال رجل من مشركي مكة: أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو ربين اثنين فأنزل الله تعالى الآية"4. هل حصرت الأسماء الحسنى بعدد معين؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال وسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن لله تسعا وتسعين اسما مائة إلا واحد من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر" أخرجاه في الصحيحين، والبخاري، وأخرجه الترمذي عن شعيب فذكره بسنده مثله، وزاد بعد قوله: "يحب الوتر": "هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن، الرحيم، الملك، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار، المتكبر، الخالق، البارئ، المصور، الغفار، القهار، الوهاب، الرزاق، الفتاح، العليم، القابض، الباسط، الخافض، الرافع، المعز، المذل، السميع، البصير، الحكم، العدل، اللطيف،   1 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جزء 7 ص 325 2 الاسم الذي يدل على صفة تنقسم إلى مدح وقدح (أي ذم) مثل الماكر والخادع والكايد لهذا لم يسم الله تعالى نفسه بمثل هذه الأسماء ولم يجعلها وأمثالها من أسمائه الحسنى سبحانه وتعالى. 3 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي جزء 3 ص 59،60. 4 الجامع لأحكام القرآن للقرطبي جزء 7 ص 325. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 80 الخبير، الحليم، العظيم، الغفور، الشكور، العلي، الكبير، الحفيظ، المقيت، الحسيب، الجليل، الكريم، الرقيب، المجيب، الواسع، الحكيم، الودود، المجيد، الباعث، الشهيد، الحق، الوكيل، القوي، المتين، الولي، الحميد، المحصي، المبدئ، المعيد، المحيي، المميت، الحي، القيوم، الواجد، الماجد، الواحد، الأحد، الفرد، الصمد، القادر، المقتدر، المقدم، المؤخر، الأول، الآخر، الظاهر، الباطن، الوالي المتعالي، البر، التواب، المنتقم، العفو، الرؤوف، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام، المقسط، الجامع، الغني، المغني، المانع، الضار، النافع، النور، الهادي، البديع، الباقي، الوارث، الرشيد، الصبور" ثم قال الترمذي: "هذا حديث غريب، وقد روي من غير وجه أبي هريرة، ولا نعلم في كثير من الروايات ذكر الأسماء إلا في هذا الحديث"، ورواه ابن حبان في صحيحه من طريق صفوان به1. ومعنى إحصاء الأسماء الحسنى المشار إليه في الحديث عند قوله صلى الله عليه سلم: "من أحصاها دخل الجنة"؛ هو: عدها، وحفظها، وفهم معانيها، ودعاء الله بها دعاء عبادة ودعاء مسألة. والأسماء الحسنى ليست محصورة بعدد معين، ودليل ذلك: ما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ما أصاب أحدا قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتكَ، ناصيتي بيدك، ماض فيّ حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحدا من خلْقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعلَ القران العظيم ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله حزنه وهمًه، وأبدل مكانه فرجا" فقيل: يا رسول الله، أفلا نتعلمها؟ فقال: "بلى ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها". فقوله صلى الله عليه وسلم: "أو استأثرت به في علم الغيب عندك" دليل على أن الله تعالى سمى نفسه بأسماء لم ينزلها في كتابه، ولم يعلمها أحدا من خلقه، وإنما استأثر بها في علم الغيب عنده سبحانه، ومن ثم كان هذا دليلا على أن أسماء الله جل وعلا لم تحصر بعدد معين. هل يجب الاقتصار على أسماء الله تعالى الواردة؟ لا شك أن أسماء الله تعالى توقيفية، بمعنى أنه ينبغي علينا أن نقف في تسمية الله تعالى على ما ورد في الكتاب والسنة، لأننا لا نستطيع البتة أن نعرف الأسماء التي سمى الله بها نفسه بآرائنا، وباجتهاد من عند أنفسنا، لأن أسماءه تبارك وتعالى من الغيب الذي لا مجال لنا في بلوغه إلا أن يصلنا عن طريق الوحي الذي نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم. بأي الأسماء ندعو الله تعالى؟ ذكرت آنفا أن الله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف آية 180) ويقول: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (طه آية 8) .   1 تيسير العلي القدير المجلد الثاني ص 151، 152. (وأقول في استطرادة مفيد إن شاء الله، بهذه المناسبة ألفت أخوتي المسلمين إلى قول الرسول صلى الله عليه وسلم الرؤوف الرحيم بأمته حين سئل عن تعلم هذه التضرعات في دعاء إذهاب الحزن والهم: "بلى ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها " فما أكثر ما يصيب الإنسان في حياته بين حين وآخر من الهم والحزن ما يملك عليه نفسه ويتمنى عجلا أن يزال ويبدل فرجا. فما أحوجنا جميعا إلى تعلم هذا الدعاء العظيم ودعاء الله تعالى به في ضراعة وإخلاص ليفرج الله عنا ما يلم بنا من أحزان وهموم) .. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 81 فلما تسمى الله جل شأنه بأسماء كلها حسنى، أمرنا جل وعلا أن ندعوه بها لأنه هو وحده سبحانه الذي يعلم ما يستحق أن يسمى به من الأسماء التي تليق بجلاله وعظمته، وبما ينبغي أن يدعى به سبحانه. ولدقة هذا الأمر ذكر كثير من أهل العلم أن الداعي ينبغي عليه أن يدعو الله بالاسم الذي يناسب مسألته: فيقول مثلا: يا رحمن ارحمني، يا غفار اغفر لي، يا تواب تب علي، يا رزاق ارزقني، يا حفيظ احفظني، يا كريم أكرمني- وهكذا - ولا يصح أن يدعو باسم لا يناسب مسألته كأن يقول يا غفار ارزقني، أو يا رزاق اغفر لي، أو يا حفيظ تب علي، وهكذا. بل ذكر البعض أنه لا ينبغي أن ندعو الله سبحانه بالأسماء التي تبدو في ظاهرها أنها تحمل معنى الإضرار فقط بالعبد مثل: المانع، والضار، والمذل، والقابض، والخافض، والمميت. وذلك حتى لا يتصور متصور- بإفراد هذه الأسماء - أن أسماء الله تعالى من شأنها: أنها تحمل الضرر فحسب. ومن ثم ينبغي إذا ذكرت هذه الأسماء أن تذكر مع الأسماء المقابلة لها، مثل أن يقال: المعطى المانع، النافع الضار، المعز المذل، الباسط القابض، الرافع الخافض، المحيي المميت- وهكذا. ويسمي العلماء هذه الأسماء (بالأسماء المزدوجة) . لأنه يذكر مع كل أسم منها ما يقابله في معناه مما يجعلهما زوجا. الأسماء الحسنى تتضمن صفات الكمال العليا لله تعالى: إن كل اسم من أسماء الله تعالى يتضمن صفة تناسبه بما يليق بجلال الله سبحانه وعظيم شأنه. مثال ذلك: اسم (الرحمن) يتضمن ثبوت صفة الرحمة الذاتية لله سبحانه، واسم (الرحيم) يتضمن ثبوت صفة الرحمة الفعلية لله سبحانه، واسم (السميع) يتضمن ثبوت صفة السمع لله سبحانه، واسم (البصير) يتضمن ثبوت صفة البصر لله سبحانه، واسم (الرزاق) يتضمن ثبوت صفة الرزق لله سبحانه. وهكذا نجد أن كل الأسماء الحسنى تتضمن صفات الكمال العليا لله جل وعلا. ليست كل صفة من صفات الله تعالى تشتق منها أسماء له سبحانه: من الأمور الخطيرة التي يجب أن ننتبه إليها أنه: ليست كل صفة لله تعالى يمكن أن نشتق منها اسما له سبحانه، ذلك لأن أسماء الله تعالى - كما سبق أن أسلفت - توقيفية يجب أن نقف عند ما ورد بها النص في الكتاب والسنة، ولا نزيد عليها باجتهاداتنا، لأن ذلك أمرَ من الغيب الذي لا مدخل لنا إليه. وبيان ذلك أن الله تعالى يقول: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُم} (النساء آية 142) ويقول: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (آل عمران آية 54) . ويقول: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} (الأنفال أية 20) . ويقول: {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرا} (يونس آية 21) . ويقول: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} (النمل آية.3) . ويقول: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُف} (يوسف آية 76) ويقول: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً وَأَكِيدُ كَيْداً} (الطارق آية ك 15، 16) . الجزء: 45 ¦ الصفحة: 82 ويقول: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ. اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} (البقرة آية 14، 15) . ويقول: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} (محمد آية 22، 24) . ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ} (البقرة آية 159) . ويقول: {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلاَّ قَلِيلاً} (النساء آية 46) ، ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} (النساء آية 47) ، ويقول: {أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً} (النساء آية 52) . ويقول: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (المجادلة آية 14) . ويقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِم} (الممتحنة آية 13) . ويقول: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَاناً وَظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً} (النساء آية 30) . ويقول: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً} (النساء آية 56) . ويقول: {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاء} (الأنعام آية 133) . ويقول: {وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ} (هود آية 57) . ويقول: {وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنَا} (الأعراف آية 64) . ويقول: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} (الشعراء آية 66 والصافات آية 82) . ويقول: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (التوبة آية 79) . ويقول: {لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ} (المائدة آية 80) . ويقول: {فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا} (الأعراف آية 51) . ويقول: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (التوبة آية 67) . ويقول: {فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُم} (السجدة آية 14) . ويقول: {وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا} (الجاثية آية 34) . ويقول: {وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ} (الأعراف آية 137) . ويقول: {فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً} (الإسراء آية 16) . ويقول: {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} (الشعراء آية172) ، ويقول: {فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ} (النمل آية 51) ، ويقول: {دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} (محمد آية 10) . ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ينزل ربنا إلى السماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يسألني فأعطيه؟ من يستغفرني فأغفر له؟ " (متفق عليه) . ويقول: " لله أشد فرحا بتوبة عبده المؤمن من رجل بأرض فلاة دوية مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه، فنزل عنها فنام- وراحلته عند رأسه، فاستيقظ وقد ذهبت، فذهب في طلبها فلم يقدر عليها حتى أدركه الموت من العطش، فقال: والله لأرجعن فلأموتن حيث كان الجزء: 45 ¦ الصفحة: 83 رحلي، فرجع فنام، فاستيقظ. فإذا راحلته عند رأسه فقال: اللهم أنت عبدي وأنا ربك، أخطأ من شدة الفرح" (رواه البخاري) . ويقول: "يضحك الله إلى رجلين يقتل أحدهما الآخر كلاهما يدخل الجنة" (متفق عليه) . في الآيات والأحاديث التي أوردتها، نجد أفعالا لربنا سبحانه وتعالى وهي: على حسب ترتيب الأحاديث كما يلي: أفعال: الخداع، المكر، الكيد، الاستهزاء، الإصمام، والإعماء، اللعن، الغضب، الإصلاء، الاستخلاف، الإغراق، السخرية، السخط، النسيان، التدمير، النزول، الفرح، الضحك. فهل يمكن أن نشتق من هذه الأفعال- وأمثالها- أسماء لله تعالى فنسميه جل وعلا بالأسماء الآتية؟: الخادع أو المخادع، الماكر، الكايد، المستهزئ، المصم، المعمي، اللاعن، الغاضب، المُصْلي، المستخلف، المُغرق، الساخر، الساخط، الناسي، المدمر، النازل الفرح، الضاحك؟ لا ينبغي أن نسمي الله بهذه الأسماء، ونقرنها بالأسماء الحسنى كالرحمن، والرحيم، والغفور، والودود، واللطيف، والعلي، والكبير، والسميع، والبصير، ونحو ذلك مما سمى الله تعالى به نفسه من أسمى وأجل وأعظم الأسماء. والسبب في أنه لا ينبغي ولا يشرع لنا أن نسمي الله سبحانه بمثل تلك الأسماء كالخادع وما ماثل ذلك أمران: الأمر الأول: أنه لم يرد بها النص في الكتاب أو السنة. الأمر الثاني: أن من هذه الأسماء (كالخادع أو المخادع، والماكر، والكايد، والمستهزئ، والغاضب، والناسي، والمدمر وما ماثلها) ليست ممدوحة على إطلاقها، بل تمدح في مواضع، وتذم في مواضع أخرى1، ومن ثم لا يجوز أن تطلق أفعالها على الله مطلقا، فلا ينبغي أن يقال بإطلاق: إن الله تعالى يخادع أو يستهزئ، أو يغضب؛ أو ينسى، أو يدبر، كما لا ينبغي أن يشتق منها أسماء يسمى بها سبحانه، وذلك لأن الله جل وعلا لم يصف نفسه بالخداع، والمكر، والكيد، والاستهزاء، والغضب، النسيان، والتدمير، وما ماثل ذلك، إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، أو استحق أن يجازى به بحق على فعله- والجزاء إنما يكون من جنس العمل، فمن خدع يستحق أن يخدع، ومن مكر يستحق أن يمكر به، ومن نسي الله يستحق أن ينساه الله، ومن فسق استحق أن يدمر، وهكذا لا يجازى الله جل وعلا إلا من يستحق المجازاة بالحق والعدل. إن المخادع حين يخادع بباطل وظلم، أو الماكر حين يمكر بباطل وظلم، أو الكايد حين يكيد بباطل وظلم، أو المستهزئ حين يستهزئ بباطل وظلم، والناسي حين ينسى بباطل وظلم، والفاسق حين يرتكب فسقه بباطل وظلم، يكون أكمل الحكمة من الله تعالى حين يخادعه، أو يمكر به، أو يكيده، أو يستهزئ به، أو ينساه، أو يدمره بالحق والعدل. ومن ثم فلا يشرع أن يوصف الله تعالى بتلك الأفعال المذكورة ولا أن يسمى بأسماء تشتق منها على وجه الإطلاق، لأن الله   1 مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة للإمام ابن القيم الجزء الثاني ص 32 وما بعدها الجزء: 45 ¦ الصفحة: 84 تعالى لم يصف بمثل أفعال الخداع، والمكر، والكيد، والاستهزاء، والنسيان، والتدمير، وما ماثل ذلك مطلقاً، ولا أدخل ذلك في أسمائه الحسنى. "ومن ظن من الجهال المصنفين في شرح الأسماء الحسنى أن من أسمائه الماكر، المخادع، المستهزئ، الكائد، فقد فاه بأمر عظيم تقشعر منه الجلود، وتكاد الأسماع تصم عند سماعه. وغر هذا الجاهل أنه سبحانه وتعالى أطلق على نفسه هذه الأفعال، فاشتق له منها أسماء، وأسماؤه كلها حسنى، فأدخلها في الأسماء الحسنى، وأدخلها وقرنها بالرحيم، الودود، الحكيم، الكريم - وهذا جهل عظيم- فإن هذه الأفعال ليست ممدوحة مطلقا، بل تمدح في موضع وتذم في موضع، فلا يجوز إطلاق أفعالها على الله مطلقا، فلا يقال إنه تعالى يمكر ويخادع يستهزئ ويكيد، فكذلك بطريق الأولى لا يشتق له منها أسماء يسمى بها، بل إذا كان لم يأت في أسمائه الحسنى المريد، ولا المتكلم، ولا الفاعل، ولا الصانع، لأن مسمياتها تنقسم إلى ممدوح ومذموم، وإنما يوصف بالأنواع المحمودة منها كالحليم، والحكيم، والعزيز، والفعال لما يريد، فكيف يكون منها الماكر، المخادع، المستهزئ؟ ثم يلزم هذا الغالط أن يجعل من أسمائه الحسنى: الداعي، وآلاتي، والجائي، والذاهب، والقادم، والرائد، والناسي، والقاسم، والساخط، والغضبان، واللاعن، إلى أضعاف أضعاف ذلك من الأسماء التي أطلقت على نفسه أفعالها في القرآن - وهذا لا يقوله مسلم ولا عاقل. والمقصود أن الله سبحانه لم يصف نفسه بالكيد، والمكر، والخداع إلا على وجه الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، وقد علم أن المجازاة على ذلك حسنة من المخلوق، فكيف من الخالق سبحانه؟ " 1 وإني لأستحسن أن أسوق هنا المثل الذي ذكره الإمام ابن القيم في بيان كيف كاد الله تعالى ليوسف عليه السلام مجازاة لإخوته على ما فعلوه، وذلك في عباراته الآتية:- "إن جزاء المسيء بمثل إساءته جائز في جميع الملل، مستحسن في جميع العقول، لهذا كاد سبحانه ليوسف (عليه السلام) حين أظهر لإخوته ما أبطن خلافه جزاء لهم على كيدهم له مع أبيه، حيث أظهروا له أمرا وأبطنوا خلافه، فكان هذا من أعدل الكيد الذي قال فيه تعالى: {كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (يوسف آية 76) فإن إخوته فعلوا به مثل ذلك حتى فرقوا بينه وببن أبيه وادعوا أن الذئب أكله، ففرق بينهم وبين أخيهم بإظهار أنه سرق الصواع، ولم يكن ظالما لهم بذلك الكيد حيث كان مقابلة ومجازاة، ولم يكن أيضا ظالما لأخيه الذي لم يكده ... بل كان إحسانا إليه وإكراما له في الباطن، وإن كان طريقة ذلك مستهجنة، لكن لما ظهر بالآخرة براءته ونزاهته مما قذفه به، وكان ذلك سببا إلى اتصاله بيوسف واختصاصه به، لم يكن في ذلك ضرر عليه، يبقى أن يقال: وقد تضمن هذا الكيد إيذاء أبيه وتعريضه لألم الحزن على حزنه السابق، فأي مصلحة كانت ليعقوب (عليه السلام) في ذلك؟ فيقال: هذا من امتحان الله تعالى له، ويوسف إنما فعل ذلك بالوحي، والله تعالى لما أراد كرامته، كمل له مرتبة المحنة والبلوى ليصبر فينال الدرجة التي لا يصل إليها إلا على حسب الابتلاء، ولو لم يكن في ذلك إلا تكميل فرحه وسروره باجتماع شمله بحبيبه بعد الفراق، وهذا من كمال إحسان الرب تعالى، أن يذيق عبده مرارة الكسر قبل حلاوة   1 مختصر الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة الجزء الثاني ص 34 الجزء: 45 ¦ الصفحة: 85 الجبر، ويعرفه قدر نعمته عليه بأن يبتليه بضدها"1 ثم قال: "فعلم أنه لا يجوز ذم هذه الأفعال على الإطلاق، كما لا تمدح على الإطلاق، والمكر والكيد والخداع لا يذم من جهة العلم، ولا من جهة القدرة، فإن العلم والقدرة من صفات الكمال، وإنما يذم من جهة سوء القصد، وفساد الإرادة، وهو أن الماكر المخادع يجور، ويظلم بفعل ما ليس له فعله، أو ترك ما يجب عليه فعله"2. وقال في موضع آخر: "والصواب أن معانيها- (أي معاني هذه الألفاظ) تنقسم إلى محمود، ومذموم، فالمذموم، منها: يرجع إلى الظلم والكذب، فما يذم منها إنما يذم لكونه متضمنا للكذب، أو الظلم، أوْ لَهماَ جميعاً. وهذا هو الذي ذمه الله تعالى كما في قوله سبحانه: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم} (البقرة آية 9) ، فإنه ذكر هذا عقيب قوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} (البقرة آية 8) . فكان هذا القول منهم كذبا وظلما في حق التوحيد والإيمان بالرسول واتباعه، وكذلك قوله: {أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الأََرْض} (النمل آية 45) ، وقوله: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ} (فاطر آية 43) ، وقوله: {وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ. فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ} (النمل آية 50، 51) . ثم قال على هذه الألفاظ: "أنها منقسمة إلى محمود ومذموم، فما كان منها متضمنا للكذب والظلم فهو مذموم، وما كان منها بحق وعدل ومجازاة على القبيح فهو حسن محمود"3.   1 المرجع السابق ص 32،33 2 المرجع السابق ص 33 3 المرجع السابق ص 32،31 4 تفسير أسماء الله الحسنى لأبي إسحاق الزجاج ص 10 وما بعدها بتصرف 5 التيسير السابق ذكره المجلد الأول ص 12 الجزء: 45 ¦ الصفحة: 86 بيان الأسماء الحسنى التي وردت النصوص بها في الكتاب والسنة ما ورد في القرآن الكريم (سورة الفاتحة) ... بيان الأسماء الحسنى التي وردت النصوص بها في الكتاب والسنة: أولا: ما ورد في القرآن الكريم بحسب ترتيب السور4: سورة الفاتحة: وردت فيها الأسماء الآتية: الله- الرب- الرحمن- الرحيم- المالك. الله: هو اسم الجلالة. وهو علم على الرب أي اسم للرب تبارك وتعالى- ويقال إنه الاسم الأعظم، لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ. هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ. هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَّسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأََرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الحشر آية 22، 23، 24) 5.   5 التيسير السابق ذكره المجلد الأول ص 12 الجزء: 45 ¦ الصفحة: 86 وقد ورد ذكر اسم (الله) في القران الكريم في مواضع متفرقة ثمانين وتسعمائة مرة 1. وهذا التكرار العديد لهذا الاسم يدل على مدى عظمته وأهميته. واختلف في: هل هو مشتق؟ أو غير مشتق؟ (أي جامد) ؟ : فقال البعض: إنه جامد لم يشتق من غيره، ذلك لأن اسمه تعالى أزلي، والأزلي في سبقه لم يؤخذ من غيره، ومن ثم فهو اسم علم محْض كسائر الأعلام المحْضة التي لا تتضمن صفات تقوم بمسمياتها. وقال البعض: إنه مشتق: واختلفوا في اشتقاقه: فقال فريق: إنه مشتق من أله الذي مضارعها: يأله، ومصدرها: الآلهة، وألوهةَ، وألوهيةَ ومعنى أَله: عبد. وهذا الرأي هو الراجح. وقال فريق آخر: إنه مشتق من أَله الذي مضارعها: يأله، ومصدرها: أَلَهاً. ومعنى أله: تحير. وهذا الرأي مرجوح. وقال القرطبي في تفسيره الجزء الأول ص 102: "روى سيبويه عن الخليل أن أصله (ألاَه) مثل فعال، فأدخلت الألف واللام بدلا من الهمزة. قال سيبويه: مثل الناس أصله: أناس. وقيل أصل الكلمة (لاه) وعليه دخلت الألف واللام للتعظيم، وهذا اختيار سيبويه". وقال الشوكاني في تفسيره الجزء الأول ص 18: "أصل اسم (الله) إله: حذفت الهمزة وعوضت عنها أداة التعريف فلزمت". ومعنى اسم الجلالة (الله) : أنه المعبود وحده، الذي لا يستحق العبادة بجميع أنواعها سواه، ولهذا كانت الحكمة في خلقه للثقلين أن يحققوا هذه العبادة مجردة له وحده سبحانه، وهذا ما أشار إليه في قوله جل وعلا: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات آية 56) . هل يشرع ذكر الله باسم الجلالة (الله) مفردا؟ وأجد من المناسب وأنا أتكلم عن اسم الجلالة، أن أشير إلى ما يلجأ إليه بعض الجاهلين من المسلمين من ذكر الله باسم الجلالة مفردا- ذلك أننا نرى البعض منهم يجعل له وردا يردد فيه اسم الجلالة (الله) مرات عديدة كألف مرة، أو ألفين أو أكثر أو أقل؛ بل وقد تجتمع مجموعة من الناس يرددون اسم الجلالة (الله) رافعين أصواتهم، ويبدءون بقولهم: الله، الله الله، وهم جالسون مغمضي أعينهم، أو هم واقفون يتمايلون ذات اليمين وذات اليسار، ويقفزون بين الحين والآخر إلى أعلى، يتوسطهم قائد، يصفق بيديه، وبجواره أحيانا امرأة تتمايل كذلك تنشدهم أناشيد كفرية ماجنة، تدق على طبل بيدها، يلاصقها خليع يتمايل وهو يؤدى نغمات مزمار هي صفير يتسق مع الطبل والتصفيق، حتى يصير جو هذا الجمع كأنه ماخور حفته الشياطين من كل جانب، يتصاعد منه لهيب الإثم كأنما فتح على أبواب جهنم والعياذ بالله، ثم يدعى أولئك المخبولون أنهم بهذا الراقص الداعر، وهذه الوقاحة المتَردّية التي لا يليق صدورها من عاقل، وهذه الأصوات المنكرة التي لا تميز منها سوى (أه، أه، أه) - (حع، حع، حع) أو (هو، هو، هو) أنهم يذكرون الله.   1 المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 87 فمن قال إن الله قد شرع أن يذكر باسمه مفردا؟ ومن قال إن من أسماء الله: أه..؟ أو حع..؟ أو هو..؟ ومن قال إن الاختلاط بين الرجال والنساء الأجنبيات- فضلا عن التصاقهم بهن في تمايلهم الفاجر- قد شرعه الله؟ ومن قال إن الذكر جماعة له سند من الشرع الحنيف؟ ومن قال إن الذكر بهذه الأصوات المنكرة المزعجة قد جاءت به النصوص؟ ومن ثم فإنني أوجز بيان الحق في هذا الموضع كما جاءت به الأدلة الصحيحة فيما يلي: أولا: أنه لم يشرع أن يذكر الله باسمه مفردا: فما ذكر الرسول صلى الله عليه وسلم قط ربه باسمه مفردا، إذ لم يرد نص واحد يدل على أنه ذكر باسم (الله) أو (حي) أو (هو) أو (لطيف) أو (قدوس) ، بل إن كل ذكره صلى الله عليه وسلم كان جملا تفيد معاني كاملة، ومما ثبت عنه قوله: "خير ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير" بل ويعلمنا صلى الله عليه وسلم الذكر المشروع في مثل ما يأتي: 1- قوله: "من قال لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير في يوم مائة مرة، كانت له عدل عشر رقاب، وكتبت له مائة حسنة، ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له حرزا من الشيطان يومه ذلك حتى يمس، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء إلا رجل عمل أكثر منه " أخرجه البخاري ومسلم. 2- وقوله: "من قال سبحان الله وبحمده في يوم مائة مرة، حطت عنه خطاياه وإن كانت مثل زبد البحر" أخرجه البخاري ومسلم. 3- وقوله: "كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان، حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم" أخرجه الصحيحان. 4- وقوله: "لأن أقول سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، أحب إلي مما طلعت عليه الشمس" أخرجه مسلم. 5- وقوله "أحب الكلام إلى الله تعالى أربع، لا يضرك بأيهن بدأت، سبحان الله، والحمد الله، ولا إله إلا الله، والله أكبر" أخرجه مسلم. 6- وقوله: "من قال حين يصبح وحين يمسي: سبحان الله وبحمده، مائة مرة لم يأت أحد يوم القيامة بأفضل مما جاء به إلا أحد قال مثل ما قال، أو زاد عليه" أخرجه مسلم. 7- وقوله: " سيد الاستغفار: اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بكَ من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي، وأبوء بذنبي، فأغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها حين يمسي فمات من ليلته، دخل الجنة، ومن قالها حين يصبح فمات من يومه، دخل الجنة" أخرجه البخاري. 8- وقوله: "ما من عبد يقول في صباح كل يوم، ومساء كل ليلة، بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء، وهو السميع العليم، ثلاث، لم يضره شيء" قال الترمذي: "حديث حسن صحيح". 9- وقوله: "إذا أتيت مضجعك فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضجع على شقك الأيمن، وقل: اللهم أسلمت نفسي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت. فإن متَ من ليلتك مت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تقول" متفق عليه. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 88 10- وقوله: " دعوة ذي النون إذ دعا بها في بطن الحوت: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين لم يدع بها رجل مسلم في شيء قط إلا استجاب الله له" أخرجه الترمذي. هذه أمثلة الذكر المشروع الذي أمرنا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكله جمل مفيدة، وليس هناك حديث واحد صحيح يفيد الذكر بالاسم المفرد. وإن لم يقبل الضائعون هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فليأتوني بأثارة من علم تؤيد زعمهم إن كانوا صادقين. ثانيا: أما أن يكون هناك أسماء لله تعالى هي (أه) أو (حع) أو (هو) ، فذلك ما لا يعقل، فضلا عن أنه لم يرد بمثل هذا أي نص، ولا يقر إنسان في رأسه ذرة من عقل أن هذه أسماء لله تعالى، ذلك بأن أسماءه كلها حسنى، ليس منها اسم قبيح أو ناب في لفظه أو في معناه. والله تعالى يقول: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (الأعراف آية 180) ثالثا: وأما الاختلاط بين الرجال والنساء الأجنبيات، فذلك ما لم يشرعه ديننا الإسلام، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "ما خلا رجل وامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" فضلا عن أن ما ينتج من الاختلاط المحرم من التصاق وتمايل وخلاعة ومجون، وطبل وزمر ورقص باسم ذكر الله، كلها من المنكرات الفاحشة التي حرمها الإسلام، واعتبرها وسائل مؤدية إلى الزنا، وهو قد سد كل ذريعة توصل إلى محرم، فقال تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} فعبر القرآن الكريم بقوله: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى} ولم يقل: "ولا تزنوا". وذلك لأن التعبير الأول يحرم الاقتراب من كل ذريعة تؤدي إلى الزنا من: نظر، واختلاط، والتصاق، ومجالسة، وكل ما يفضي إلى الزنا، وجعل كل ذريعة تفضي إلى المحرم محرمة. رابعا: وأما الذكر جماعة، فلم يرد نص إطلاقا على مشروعيته، ولذلك فإن الذكر بصورة جماعية إنما هو بدعة غير مشروعة، لم يفعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا صحابته الكرام رضوان الله عليهم، وما لم يشرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يكون بعده مشروعا، لذلك وضع لنا الأساس في ذلك في قوله: "من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد" وفي قوله: " من أحدث في أمرنا ما هذا ما ليس منه فهو رد". خامسا: وأما رفع الصوت بالذكر فلم ترد بها النصوص، بل إنها وردت بخلافه، فقد قال تعالى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} (الأعراف آية 55) ، وقال: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي الجزء: 45 ¦ الصفحة: 89 نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ} (الأعراف آية 205) . ولما رفع بعض الصحابة أصواتهم بالذكر- ولا شك أنهم ما عرفوا سوى الذكر المشروع- وسمعهم الرسول صلى الله عليه وسلم قال لهم: "أيها الناس اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا، إنما تدعون سميعا بصيرا قريبا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته" - متفق عليه- ومن ثم فإن ما تعارف عليه أولئك الجاهلون من الذكر المفرد والجماعي والجهري، إنما هو وحي الشيطان الذي أوقعهم به في شركه، بل وألقى هذا الرجيم في روع أوليائه أن الذكر بالألفاظ الأعجمية مثل: آهيا، شراهيا، أصباؤت آل شداى، آج أهوج، جلجلوت، إنما هو ذكر شرعي كذلك بزعم أن هذه الألفاظ هي أسماء الله تعالى باللغة العبرانية أو السوريانية1. أليس في القران الكريم والسنة المشرفة وما ضماه من أسماء الله الحسنى وبيان الذكر المشروع بها غنية عما سواهما لأولئك الدجالين فيما يأفكون؟ ألا قتل الخراصون، الذين هم في غمرة ساهون، والذين يلحدون في أسماء الله تعالى، إنهم سيجزون ما كانوا يعملون. احتجاج الجاهلين بقوله تعالى: {قُلِ اللَّهُ} على الذكر المفرد: وقد يحتج بعض الجاهلين بقول الله تعالى: {قُلِ اللَّهُ} في الآية رقم 91 من سورة الأنعام على مشروعية الذكر المفرد. وردا على هذا الاحتجاج أحيل أولئك الجاهلين على هذه الآية ليقرأوها كاملة، حتى يعلموا أن المراد بهذا الأمر من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم ليس أمرا بالذكر (بالاسم المفرد) كما يزعمون، وإنما هو جواب لمن أنكر أن الله لم ينزل وحيا على بشر. ولا أتركهم يبحثون عن الآية المذكورة، فلعلهم لا يهتدون إلى مكانها في المصحف فأضعها أمام ناظرهم ومن كان منهم يحمل في رأسه عقلا، فإنه سوف يدرك الحق فيها إن كان منصفا. أما الآية فهي قوله جل وعلا: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ؟ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} (الأنعام آية 91) . ويبين لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد أن الآية يوجز معناها فيما يلي: أن اليهود والمشركين نفوا الرسالة، وزعموا أن الله ما أنزل على بشر من شيء، أي من الرسالة، فمن قال هذا فما قدر الله حق قدره، ولا عظمه حق عظمته، إذ هذا قدح في حكمته، وزعم أنه يترك عباده هملا لا يأمرهم ولا ينهاهم، ونفي لأعظم منة امْتن الله بها على عباده وهي الرسالة التي لا طريق للعباد إلى نيل السعادة والكرامة والفلاح إلا بها، ولما بين الله حال هؤلاء المنكرين، أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول لهم كلمتين: الأولى سؤال: وهي: {قُلْ: مَنْ أَنْزَلَ   1 صيحة الحق للشيخ أبي الوفاء محمد درويش الطبعة السادسة ص 287،286 بتصرف الجزء: 45 ¦ الصفحة: 90 الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ؟} والثانية: جواب: وهي {قُل اللَّهُ} أي أن الله جلت حكمته هو الذي أنزل الكتاب على موسى عليه السلام: ثم أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك أولئك المكذبين يخوضوا ويلعبوا حتى يلاقوا يومهم الذي يوعدون 1. فأين إذن هذا الذكر بالاسم المفرد؟ الذكر يزعمه أولئك الذين أغرقهم أئمة الضلال، وباعدوا بينهم وبين الحق كما تباعد المشرق عن المغرب، حتى صار هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا؟ الرب: هو اسم من أسماء الله تعالى، التي تضمنتها نصوص القرآن الكريم. ولا يقال في غيره إلا بالإضافة. وقد قالوه في الجاهلية للملك. وقال في الكشاف: "الرب المالك. ومنه قول صفوان لأبى سفيان: لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن". وقال القرطبي في تفسيره: والرب السيد ومنه قوله تعالى: {اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّك} وفي الحديث "أن تلد الأمة ربتها.." والرب: المصلح، والمدبر، والجابر، والقائم. قال: والرب المعبود- ومنه قول الشاعر: أربَ يبول الثعلبان برأسه ... لقد هان من بالت عليه الثعالب2 وقد ذكر ابن كثير: أن الرب: هو المالك المتصرف. ولا يقال (الرب) معرفا بالألف واللام إلا لله تعالى، ولا يجوز استعمال كلمة الرب لغير الله إلا بالإضافة فنقول: رب الدار، ورب السيف. وأما الرب. فلا يقال إلا لله عز وجل3. ومعنى كلمة الرب لغة: هو السيد المربي واصطلاحا: هو المالك، الخالق، البارئ، المصور، المعطي المانع، النافع الضار، الرافع الخافض، الباسط القابض، المحيي المميت، المدبر لأمر هذا الكون. (وهذا على ما فصلت القول فيه في حلقات (مفهوم الربوبية) بهذه المجلة في سنتها الحادية عشرة) 4 فليرجع إليها من شاء. والرب هو المربي لجميع العالمين، وهم من سوى الله: بخلقه لهم، وتسخير ما يصلح لحياتهم، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة التي لو فقدوها لم يمكن لهم البقاء. فما بهم من نعمة فمنه تعالى. وتربيته سبحانه لخلقه نوعان: عامة وخاصة. فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، ورزقهم وهدايتهم لما فيه مصالحهم التي فيها بقاؤهم في الدنيا. والخاصة: تربيته لأوليائه، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكملهم، ويدفع عنهم   1 تيسير الكريم الرحمن الجزء الثاني ص 201 تصرف. 2 فتح القدير للشوكاني الجزء الأول ص 21. 3 تيسير العلي القدير المذكور المجلد الأول ص 12. 4 مجلة الجامعة الإسلامية السنة الحادية عشرة العدد الأول (حلقات مفهوم الربوبية لكاتبها: سعد ندا) . الجزء: 45 ¦ الصفحة: 91 الصوارف والعوائق الحائلة بينهم وبينه: وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة من كل شر، ولعل هذا المعنى هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب1، فإن مطالبهم كلها تحت ربوبيتة الخاصة2. وقد ورد ذكر هذا الاسم بصيغ مختلفة في القرآن الكريم تسعمائة مرة على النحو التالي: رب: ذكرت أربعا وثمانين مرة. ربا: ذكرت مرة واحدة. ربك: ذكرت أربعين ومائتي مرة. ربكم: ذكرت ثماني عشرة ومائة مرة. ربكما: ذكرت ثلاثا وثلاثين مرة. ربنا: ذكرت إحدى عشرة ومائة مرة. ربه: ذكرت ستا وسبعين مرة. ربها: ذكرت تسع مرات. ربهم: ذكرت خمسا وعشرين ومائة مرة. ربهما: ذكرت ثلاث مرات. ربي: ذكرت مائة مرة3. وتكرار هذا الاسم على هذا النحو المتعدد بصيغ مختلفة يدل على مدى عظمة وأهميته. الرحمن: هو اسم الله تعالى مشتق من الرحمة على وجه المبالغة، وهو على وزن فعلان، (وفعلان تفيد الامتلاء) . والرحمن أشد مبالغة من الرحيم. والرحمن مشتق بخلاف من قال وزعم أنه غير مشتق: ودليل ذلك ما أخرجه الترمذي وصححه عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "قال تعالى: أنا الرحمن، خلقت الرحم، شققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته". قال: "هذا نص في الاشتقاق، فلا معنى للمخالفة والشقاق"4. وهذا الاسم (الرحمن) يختص بالله سبحانه وتعالى، ولا يجوز إطلاقه على غيره. وقال بعض أهل التفسير: "الرحمن الذي رحم كافة خلقه، بأن خلقهم وأوسع عليهم في رزقهم"5. واسم الرحمن دال على الصفة القائمة به سبحانه، فهو دال على أن الرحمة صفة ذات له سبحانه6.   1 مجلة الجامعة المذكورة العدد الثاني. 2 تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان للسعدي الجزء الأول ص 15،14 3 المعجم المفهرس السابق ذكره. 4 تيسير العلي القدير المذكور المجلد الأول ص 13. 5 مرجع الزجاج السابق ذكره ص 28, 6 بدائع الفوائد لابن القيم الجزء الأول ص 24. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 92 وروى ابن جرير بسنده عن العزرمي يقول: " (الرحمن الرحيم) قال (الرحمن) لجميع الخلق، و (الرحيم) قال بالمؤمنين. قالوا: ولهذا قال: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَن} (الفرقان آية 59) ، وقال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (طه آية 5) ، فذكر الاستواء باسمه (الرحمن) ليعم جميع خلقه برحمته. وقال: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب آية 43) فخصهم باسمه (الرحيم) . قالوا: فدل على أن (الرحمن) أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين"1. وقد ذكر البعض: أن (الرحمن) يرحم أهل الدنيا والآخرة، و (الرحيم) خاص بالمؤمنين يوم القيامة، إذ أن الله يرحم المؤمنين والكافرين في الدنيا على السواء وذلك من نواحي أمورهم المعيشية، وأسباب حياتهم، وما يكفل لهم حياتهم الدنيا، فرحمته هنا (أي رحمة الرحمن) عامة، وإذا لم تكن الرحمة هذه عامة، لا تتكامل أسباب التكليف من الإنعام عليهم بنعمة العقل الذي بواسطته يعرفون الحق من الباطل، ونعمة تسخير ما في الكون ليستفيد منها أهل الأرض من الإنس والجن {هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعا} . فتكامل أسباب التكليف في الدنيا سيكون عليه في الآخرة مدار الحساب. وأما ما جاء في الدعاء المأثور "يا رحمن الدنيا والآخرة ورحيمها" فقوله: "رحيمها" محمول على معنى أنه يرحم المؤمنين في الدنيا فيما أطاعوه من الإيمان به، وتنفيذ أوامره، واجتناب نواهيه، وتسهيل سبل ذلك لهم؛ ويرحمهم في الآخرة بإدخالهم الجنة جزاء ما أسلفوا من إيمان وطاعة، فطاعتهم له في الدنيا رحمة منه تعالى، وجزاؤهم بالجنة رحمة منه تعالى، وهذا معنى قوله ورحيمها والله أعلم2. واسم (الرحمن) يختص به الله جل جلاله وحده، ولا ينبغي أن يتسمى به واحد من خلقه، شأن كل أسمائه الحسنى جميعا كما سبق أن أسلفنا، ولكن شخصا كان قد تسمى بالرحمن هو: مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذاب أبو ثمامة، من أهل اليمامة، لذا عرف برحمن اليمامة، وكان قد قوي أمره في اليمامة وظهر جدا بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، وقارعه خالد بن الوليد في خلافة أبي بكر الصديق وانتصر عليه. وقد زعم لقومه أنه أشرك في الأمر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعل يسجع لهم الأساجيع، ويقول لهم فيما يقول مضاهاة للقرآن: (لقد أنعم الله على الحبلى، أخرج منها نسمة تسعى، من بين صفاق وحشا) وأحل لهم الخمر، والزنى ووضع عنهم الصلاة. واجتمعت معه حنيفة على ذلك. وقد كتب إلى رسول الله كتابا يقول فيه: "من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله، سلام عليك، أما بعد، فإني قد أشركت في الأمر معك، وإن لنا نصف الأرض، ولقريش نصف الأرض، ولكن قريشا قوم يعتدون؛ وحمل رسولان هذا الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما: "فما تقولان أنتما" قالا: "نقول كما قال" فقال: "أما والله لولا أن الرسل لا تقتل لضربت أعناقكما" ثم كتب إلى مسيلمة "بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى مسيلمة   1 تيسير العلي القدير السابق ذكره المجلد الأول ص 13. 2 المرجع السابق المجلد الأول هامش ص 13. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 93 الكذاب، السلام على من اتبع الهدى أما بعد، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين". وكان ذلك في آخر سنة عشر من الهجرة 1. وقد بين الله جهل العرب لاسم الرحمن في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا: وَمَا الرَّحْمَنُ؟ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا؟ وَزَادَهُمْ نُفُوراً} (الفرقان آية 60) وقال المفسرون: "إنهم قالوا: ما نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة؛ يعنون مسيلمة" 2. وقد ذكر مقاتل وغيره من المفسرين أن رجلا من المسلمين كان يقول في صلاته: "يا رحمن يا رحيم" فقال له رجل من المشركين: "أليس يزعم محمد وأصحابه أنهم يعبدون ربا واحدا، فما بال هذا يدعو ربين اثنين؟ " فأنزل الله تعالى {وَلِلَّهِ الأََسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف آية 180) . حكى ذلك القرطبي3 وقد ذكر اسم (الرحمن) في القرآن الكريم في مواضع مختلفة سبعا وخمسين مرة4. الرحيم: هو اسم لله مشتق من الرحمة كذلك، وهو على وزن فعيل وهو من صيغ المبالغة. وقد سبق أن ذكرنا أن اسم (الرحمن) لما يتضمنه من صفة الرحمة التي تعم كافة خلقه بأن خلقهم وأوسع عليهم في أرزاقهم، فإنه أشد مبالغة من اسم (الرحيم) الذي يتضمن صفة الرحمة التي تعم عباده المؤمنين فحسب بأن هداهم إلى الإيمان في الدنيا، وهو يثيبهم في الآخرة الثواب الدائم الذي لا ينقطع، إذ يقول سبحانه: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب آية 43) . وقد قال الإمام ابن القيم: وأما الجمع بين الرحمن والرحيم، ففيه معنى بديع، وهو أن (الرحمن) دال على الصفة القائمة به سبحانه، و (الرحيم) دال على تعلقها بالمرحوم، فكان الأول للوصف، والثاني للفعل، فالأول دال على أن الرحمة صفة (أي: صفة ذات له سبحانه، والثاني دال على أنه يرحم خلقه برحمته (أي: صفة فعل له سبحانه) وإذا أردت فهم هذا فتأمل قوله تعالى: {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} (الأحزاب آية 43) ، {إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة آية 117) ، ولم يجيء قط رحمة بهم، فعلم أن (رحمن) هو الموصوف بالرحمة، و (رحيم) هو الراحم برحمته5.   1 تهذيب سيرة ابن هشام طبعة ثالثة ص 67، 371،351،ومرجع الزجاج ص 29. 2 فتح القدير الجزء الرابع ص 84. 3 المرجع السابق الجزء الثاني ص 268. 4 المعجم المفهرس السابق ذكره. 5 مرجع الزجاج ص 28 وبدائع الفوائد لابن القيم الجزء الأول ص 24. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 94 وقد نسب القرطبي إلى عبد الله بن عباس رضى الله عنهما قوله: "الرحمن الرحيم اسمان رقيقان وأحدهما أرق من الآخر". وقد استشكل الخطابي هذا القول، ونقله عنه القرطبي في الجزء الأول ص 106، إذ قال الخطابي في استشكاله المذكور: "وهذا مشكل، لأن الرقة لا مدخل لها في شيء من صفات الله سبحانه". وقال الحسين بن الفضل البجلي: "هذا وهم من الراوي لأن الرقة ليست من صفات الله تعالى في شيء، وإنما: هما اسمان رفيقات أحدهما أرفق من الآخر، والرفق من صفات الله عز وجل. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله رفيق يحب الرفق، ويعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف" 1. والحقيقة أنني أعجبت كثيرا بهذا الاستشكال، ولذلك ألفت إخواني المؤمنين إليه. وأما قرن الرحمن بالرحيم مع أن كلا منهما مشتق من الرحمة، فإنه يجوز تكرير الاسمين إذا اختلف اشتقاقهما على جهة التوكيد، كما يقال: جاد ومجد2. وقال القرطبي: "وصف نفسه تعالى بعد: رب العالمين بأنه: الرحمن الرحيم، لأنه لما كان في اتصافه: برب العالمين ترهيب، قرنه بالرحمن الرحيم لما تضمن من الترغيب، ليجمع في صفاته بين: الرهبة منه، والرغبة إليه، فيكون أعون على طاعته وأمنع، كما قال تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ، وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} (الحجر آية 49، 50) ، وقال: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ} (غافر آية 2) . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من جنته أحد" 3. أسماء الله تعالى وصفاته منطلق لتوحيد ألهيته: وبمناسبة كلامي على اقتران (الرحمن الرحيم) يهمني أن ألفت إخواني المؤمنين إلى أن الله تعالى جعل أسماءه الحسنى وصفته العليا دليلاً على توحيد إلاهيته، بمعنى أنه يجعل أسماءه وصفاته منطلقا إلى توحيد إلاهيته، وذلك على نحو ما ذكرنا في توحيد الربوبية الذي يجعله سبيلا إلى توحيد إلالهية4. مثال ذلك: قوله جل وعلا: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة آية 163) فجعل   1 مرجع الزجاج ص 28 2 نفس المرجع السابق ص 28 3 تيسير العلي القدير المجلد الأول ص 14 وفتح القدير الجزء الأول 21. 4 راجع حلقات (مفهوم الربوبية) في أعداد هذه المجلة لسنتها الحادية عشرة لكاتبها سعد ندا. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 95 اسميه الرحمن والرحيم اللذين يتضمنان صفة الرحمة العامة والخاصة دليلا على أنه الإله الواحد الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، فالعبادة لا ينبغي أن تجرد إلا لمن كان كاملا على الإطلاق في أسمائه وصفاته، ومنزها عن كل نقص أو عيب. ومثال ذلك أيضا: قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّوم} (آل عمران آية 2) . فالاسمان: الحي، والقيوم، تضمنا صفتين لله تعالى: الأولى صفة الحياة، وهي تشمل جميع صفات كماله الذاتية، والثانية صفة القيومية وهي تشمل جميع صفات كماله الفعلية، حتى ورد أن الحي القيوم هما اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى وإذا دعي به أجاب هذان الاسمان جعلهما الله بما شملاه من هاتين الصفتين دليلا على توحيد الإلهيته، فقال قبلهما {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} . والذي يستقرئ القرآن الكريم، يجد من الآيات التي يستدل فيها بتوحيد الأسماء والصفات على توحيد الإلهية. وكذلك السنة المشرفة لا تخلوا من النصوص التي توضح ذلك. ولنا إن شاء الله تعالى في هذا المبحث فضل بيان في المكان الذي يناسبه. المالك (والملك والمليك) : وكلها أسماء الله جل وعلا. واسم (الملك) يدل على أن الله وحده يملك هذا الكون، إذ هو سبحانه الخالق له وحده. وإذا كان الناس يملكون في هذه الحياة شيئا من أعراضها، ثم هم ينسبون ملكيته إلى أنفسهم فيقول قائلهم: هذه داري، وهذا بستاني، وهؤلاء أولادي، وهذه أموالي، فما كل أولئك إلا ودائع استخلفهم الله تعالى مالكها الأصيل عليها فترة من الزمن لتعمر الأرض بذلك، ثم هم لا بد ملاقوا ربهم، وتاركوا كل ودائعهم التي استخلفهم الله تعالى عليها لمالكها الأصلي رب العالمين. لذا يقول تبارك وتعالى: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (آل عمران آية 180) ، ويقول تعالى: {وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ} (الحجر آية 23) ، ويقول سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} (مريم آية 40) ويقول جل شأنه: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ} (القصص آية 58) ، ويقول عز وجل: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} (الحديد آية 10) . فلا بد من أن ترد الودائع وأهلها حتما لخالقها وخالق كل شيء سبحانه، وفي هذا يصدق قول من قال: وما المال والأهلون إلا ودائع ... ولا بد يوما أن ترد الودائع والمالك: هو من اتصف بصفة الملك من آثارها أن يأمر، وينهى، ويثيب، ويعاقب، ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات، وأصناف الملك1. وقد ورد اسم المالك سبحانه في سورة الفاتحة في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (سورة الفاتحة آية 3)   1 تيسير الكريم الرحمن الجزء الأول ص 15. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 96 وقد قرىء مالك، وقرىء ملك، وكلا القراءتين صحيح متواتر في السبع، وليس تخصيص الملْك بيوم الدين الإخبار بأنه تعالى رب العالمين، وذلك عام في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف اسم (مالك) إلى يوم الدين لأنه لا يدعى هناك أحد غيره، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه كما قال تعالى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفّاً لا يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَاباً} (النبأ آية 38) - قال الضحاك عن ابن عباس: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} يقول لا يملك من أحد في ذلك اليوم كملكهم في الدنيا بأن يقول أحد - تجوّزَا - هذا ملكي، هذا مالي، أما يوم القيامة فليس لأحد ملك ولا مال"1. وقد اختلف العلماء في أي الاسمين أبلغ: مالك أو ملك؟ فقال أبو عبيد والمبرد ورجح قولهما الزمخشرى: "إن (ملك) أعم وأبلغ من (مالك) إذ كل ملك مالك، وليس كل مالك ملكاً" ولأن أمر الملك نافذ في ملكه، فلا يستطيع أن يتصرف إلا بتدبير الملك. وقال آخرون: إن (مالك) أبلغ من ملك، لأن (المالك) يكون مالكاً للناس وغيرهم، فالمالك أبلغ تصرفا وأعظم. وقال أبو حاتم: "إن (المالك) أبلغ في مدح الخالق من ملك، و (الملك) أبلغ في مدح المخلوقين من (المالك) ، لأن (المالك) من المخلوقين قد يكون غير ملك، وإذا كان الله تعالى مالكاً كان ملكاً". وقد اختار هذا القول أبو بكر بن العربي. وقال الإمام الشوكاني: "والحق: أن كل واحد من الوصفين نوع أخصية لا يوجد في الآخر، (فالمالك) يقدر على ما لا يقدر عليه الملك من التصرفات بما هو مالك له بالبيع، والهبة، والعتق، ونحوها؛ و (الملك) يقدر على ما لا يقدر عليه (المالك) من التصرفات العائدة إلى تدبير الملك وحياطته، ورعاية مصالح الرعية، (فالمالك) أقوى من (الملك) في بعض الأمور، و (الملك) أقوى من (المالك) في بعض الأمور. والفرق بين الوصفين بالنسبة إلى الرب سبحانه: أن (الملك) صفة لذاته، و (المالك) صفة لفعله.."2 وقد ورد اسم (المالك) في القرآن الكريم مرتين: في قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (الفاتحة آية 4) ، وفي قوله: {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ} (آل عمران آية 26) . وقد ورد اسم (الملك) في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ} (الحشر آية 23) وقد جاء في معنى (الملك) : أنه المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة3. وقيل: إنه المالك لجميع الممالك، فالعالم العلوي والسفلي وأهله الجميع مماليك لله فقراء مدبرون4. وقيل: إنه الله ملك الملوك، وهو مالك يوم الدين5.   1 تيسير العلي القدير المجلد الأول ص 14 بتصرف 2 فتح القدير الجزء الأول ص 22 بتصرف قلت:" و (الملك) ليس صفة وإنما هو اسم الله تعالى يدل على صفة الملكية التي هي صفة لذاته سبحانه و (المالك) ليس صفة كذلك، وإنما هو اسم الله تعالى يدل على صفة الملكية التي هي صفة لفعله سبحانه". 3 تيسير العلي القدير المجلد الرابع ص 215. 4 تيسير الكريم الرحمن الجزء الثامن ص 107 5 مرجع الزجاج ص 30. الجزء: 45 ¦ الصفحة: 97 وقد ورد اسم (ملك) في القرآن الكريم خمس مرات: في قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه آية 114) . وفي قوله: {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} (المؤمنون آيه116) وفي قوله: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} (الحشر آية 23) وفي قوله: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الجمعة آية1) وفي قوله: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ، النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ} 1 (الناس آية 1، 2) . كما ورد اسم (المليك) في القرآن الكريم مرة واحدة في قوله: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ، فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} 2 (القمر آية54، 55) وقد قيل في معنى (المليك) أنه الملك العظيم الخالق3. هذه الأسماء الخمسة السالف ذكرها - سوى الملك والمليك - هي أسماء الله تعالى التي وردت في سورة الفاتحة.   1 المعجم المفهرس المذكور. 2 المرجع السابق 3 تيسير العلي القدير المجلد الرابع ص 149 الجزء: 45 ¦ الصفحة: 98 مدخل ... مفهوم الأسماء والصفات فضيلة الشيخ / سعد ندا المدرس بالجامعة الإسلامية (الحلقة الثانية) أسلفت في الحلقة الأولى ما يتضمن أن معرفة الله جل وعلا هي المنطلق الذي تصح منه العبادة، إذ لو أنها قد انبعثت من غيره، لما انبسطت لها قاعدة ترتكز عليها، فلا يلبث صاحبها حتى يجدها تهوي به في مكان سحيق، وتستحيل هباءًَ منثورا، وكيف يعرض الإنسان عن معرفة خالقه وهو سبحانه يوالي عليه نعمه كل لحظة منذ ولادته حتى مماته؟ وكيف ينصرف عن التعرف على الحي القيوم الذي بيده مقاليد كل شيء، والذي لا يستغني عنه طرفة عين، ويسعى إلى التعرف على أفراد من البشر أمثاله، وهم لا يملكون له -فضلا عن أنفسهم- ضرّاً، ولا نفعاً، ولا يملكون موتاً، ولا حياةً ولا نشوراً؟ إن أول ما يجب على العبد أن يتعرف على ربه سبحانه، ليستطيع أن يحقق الغاية التي من أجلها خلق، وهي التي ذكر الله عز وجل في قوله: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات آية 56) ، إذ لا سبيل إلى تحقيق العبادة إلا عن طريق البدء بمعرفة الله تعالى، ولا يمكن للعبد أن يعبد من يجهله، وإلا كان تخبطا وضربا في تيه بيداء مهلكة. ومن ثم بدأت أساهم - بقدر ما ييسر الله تعالى لي- في الكتابة في باب التعرف على الله تعالى باعتباره نقطة البدء في حياة المسلم، بادئا ببيان مفهوم الربوبية في أربع حلقات سابقة، ثم ثنيت ببيان مفهوم أسماء الله تعالى وصفاته في حلقة أولى مضت، وانتهيت فيها من بيان أسماء الله تعالى التي تضمنتها سورة الفاتحة. وفي هذه الحلقة أعرض -بحول الله وقوته- بيان أسماء الله تعالى التي تضمنتها سور القرآن الكريم، مشيرا إلى ما تكرر من الأسماء في مختلف سور القرآن الكريم، بالصيغة ذاتها، أو بصيغ مختلفة. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 56 وسوف أحاول إن شاء الله تعالى -حسبما ييسر لي سبحانه- إلقاء بعض الضوء على هذه الأسماء الكريمة التي تضمنتها سور القرآن الكريم، ابتداء من سورة البقرة حتى سورة الناس، وذلك على الوجه التالي: الجزء: 46 ¦ الصفحة: 57 المحيط : هو اسم من أسماء الله تعالى، ورد في القرآن الكريم ثماني مرات منها ست مرات1 بلفظ (محيطٌ) بالرفع فيما يأتي: في قوله تعالى: {وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ} (البقرة آية 19) ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (آل عمران آية 120) ، وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (الأنفال آية 47) ، وقوله: {إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (هود آية 92) ، وقوله: {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} (فصلت آية 54) ، وقوله: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} (البروج آية 20) . ومنها مرتان2 بلفظ (محيطاً) بالنصب، فيما يأتي: في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} (النساء آية 108) ، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطاً} (النساء آية 126) . وإحاطة الله تعالى بالشيء معناها: حصره إياه من جميع جوانبه، مع العلم المطلق بكل دقائقه، بحيث لا يتصور أن تفلت منه ذرة، أو ما فوقها، أو ما دونها، علما أو إيجادا، أو إعداما. ففي مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} (البروج آية 20) ، تمثيل لعدم نجاة المكذبين الكافرين بعدم فوت المحاط به على المحيط3، ذلك بأنه سبحانه هو الذي خلق كل شيء وملَكَه، واستأثر بالتصرف فيه عن قدرة تامة، وعلم مطلق، لذا يقول سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} (الطلاق آية 12) .   1 المعجم المفهرس. 2 المعجم المفهرس. 3 فتح القدير الجزء الخامس ص414، بتصرف. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 57 القدير : ( القادر ، المقتدر) القدير: هو اسم من أسماء الله تعالى، ورد في القرآن الكريم خمسا وأربعين مرة4،منها تسع وثلاثون مرة ورد فيها بلفظ (قديرٌ) بالرفع في مثل قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ   1 المعجم المفهرس. 2 المعجم المفهرس. 3 فتح القدير الجزء الخامس ص414، بتصرف. 4 المعجم المفهرس. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 57 القادر : هو اسم من أسماء الله تعالى؛ ورد في القرآن الكريم اثنتي عشرة مرة2 ج منها أربع مرات (3) (قادرٌ) : بالرفع، في قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً} (الأنعام آية 37) ، وقوله: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً} (الأنعام آية 65) ، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} (الإسراء آية 99) ، وقوله: {إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ} (الطارق آية 8) . ومنها ثلاث مرات بالجر بلفظ (قادرٍ) في قوله تعالى: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ} (يس آية 81) ، وقوله: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (الأحقاف آية 33) ، وقوله: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} (القيامة آية 40) . ومنها أربع مرات بصيغة الجمع بلفظ (قادرون) بالرفع في قوله تعالى: {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} (المؤمنون آية 18) ، وقوله: {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} (المؤمنون آية 95) ، وقوله: {فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} (المعارج آية 40) ، وقوله: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} (المرسلات آية 23) . ومنها مرة واحدة بصيغة الجمع بلفظ (قادرين) بالنصب في قوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ}   2 المعجم المفهرس. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 58 المقتدر : هو اسم من أسماء الله تعالى، ورد1 في القرآن الكريم أربع مرات، منها مرتان بلفظ (مقتدرٍ) بالجر، في قوله تعالى: {فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ} (القمر آية 42) ، وقوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ} (القمر آية 55) . ومنها مرة واحدة بلفظ (مقتدراً) بالنصب في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِراً} (الكهف آية 45) . ومنها مرة واحدة بصيغة الجمع بلفظ (مقتدرون) بالرفع، في قوله تعالى: {فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} (الزخرف آية 42) . واسم (قادر) على وزن (فاعل) ، واسم (قدير) على وزن (فعيل) وهي صيغة مبالغة، واسم (مقتدر) على وزن (مفتعل) ، وفي اللغة العربية زيادة المبنى تدل على زيادة المعنى. وهذه الأسماء الثلاثة تتضمن جميعها أن الله سبحانه يستطيع أن يفعل كل ما يشاء، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وأمره -عندما يريد شيئا- إنما هي كلمة كن: فيكون ما يريد في الحال. وفي هذا يقول سبحانه: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (النحل آية 40) ، وقوله: {سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (مريم آية 35) ، وقوله: {سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (يس آية 82) ، وقوله: {فَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} (غافر آية 68) ، وقوله: {وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} (القمر آية 50) . وليس أدل على كمال القدرة المطلقة للقادر، القدير، المقتدر، من أن يوجد سبحانه ما يريده بكلمة كن فيكون ما يريد كلمح البصر.   1 المعجم المفهرس. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 59 العليم : ( العالم - العلام) : هو اسم من أسماء الله تعالى بصيغة المبالغة على وزن فعيل، ورد في القرآن الكريم اثنتين وخمسين ومائة مرة2، منها أربعون ومائة مرة بلفظ (عليمٌ) 3 بالرفع، في مثل قوله تعالى: {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (البقرة آية 29) ، وقوله: {وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ} (البقرة آية 95) ، وقوله: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة آية 115) . ومنها اثنتان وعشرون مرة4 بلفظ (عليماً) بالنصب، في مثل قوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء آية 11) ، وقوله: {ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً} (النساء آية 70) ، وقوله: {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً} (النساء آية 127) .   2 المعجم المفهرس. 3 المعجم المفهرس. 4 المعجم المفهرس. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 59 العالم : هو اسم من أسماء الله تعالى.. على وزن (فاعل) ، وقد ورد في القرآن خمس عشرة مرة1 منها سبع مرات بلفظ (عالمُ) بالرفع2، في مثل قوله تعالى: {وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (الأنعام آية 73) ، وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (الرعد آية 9) ، وقوله: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (السجدة آية 6) . ومنها مرة واحدة بلفظ (عالمَ) بالنصب3، في مثل قوله تعالى: {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} (الزمر آية 46) . ومنها خمس مرات بلفظ (عالمِ) بالجر4، في مثل قوله تعالى: {ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة آية 94، الجمعة آية 8) ، وقوله: {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (التوبة آية 105) . ومنها مرتان بصيغة الجمع بلفظ (عالمين) بالنصب5، في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} (الأنبياء آية 51) ، وقوله: {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} (الأنبياء آية 81) .   1 المعجم المفهرس. 2 المعجم المفهرس. 3 المعجم المفهرس. 4 المعجم المفهرس. 5 المعجم المفهرس. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 60 العَلاَّم: هو اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فعّال) ، وهو صيغة مبالغة، يدل على سعة العلم وعظمته، وقد ورد في القرآن الكريم أربع مرات، في قوله تعالى: {قَالُوا لا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} (المائدة آية 109) ، وقوله: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} (المائدة آية 116) ، وقوله: {أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ} (التوبة آية 78) ، وقوله: {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ} (سبأ آية 48) . وعلم الله تعالى أزلي، وهو صفة من صفاته الذاتية سبحانه، يقتضي علمه بالظواهر والسرائر، وإحاطته بكل شيء، فلا يغيب عنه ولا يعْزُب مثقال ذرة في السموات والأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر6، فيعلم ما يصلح للعباد وما يدبرهم عليه7.   6 تيسير الكريم الرحمن الجزء 1 ص33. 7 المرجع السابق الجزء 3 ص32. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 60 والله العليم سبحانه قد كمل في علمه، يعلم ما يلج في الأرض، وما يخرج منها، وما ينزل من السماء، وما يعرج فيها، ويعلم ما في السموات والأرض، وهو تعالى بكل شيء عليم. وأن العبد إذا استشعر عظمة علم الله، وسعته، وشموله لكل ما خلق الله جل وعلا، فإنه يعيش دائما يراقب الله الذي يعلم السر وأخفى، ويطلب منه دائما أن يزيده من بالعلم الذي ينفعه في دينه ودنياه تنفيذا لقوله تعالى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه آية 114) . الجزء: 46 ¦ الصفحة: 61 الحكيم : هو اسم من أسماء الله تعالى، بصيغة المبالغة على وزن (فعيل) ، ورد في القرآن الكريم سبعا وتسعين مرة1، منها إحدى وثمانون مرة بلفظ (حكيم) بالرفع، في مثل قوله تعالى: {قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (البقرة آية 32) ، وفي قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة آية 129) ، وقوله: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران آية 6) ، وقوله: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} (الأنعام آية 18) ومنها ست عشرة مرة2، بلفظ (حكيما) بالنصب في مثل قوله تعالى: {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} (النساء آية 11) ، وقوله: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً} (الفتح آية 4) ، وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً} (الإنسان آية 30) . والحكمة هي وضع الشيء في موضعه اللائق به، فالله تعالى الحكيم الذي له الحكمة التامة التي لا يخرج عنها مخلوق، ولا يشذ عنها مأمور، فما خلق سبحانه شيئا إلا لحكمة، ولا أمر بشيء إلا لحكمة فالله الحكيم سبحانه حكيم في خلقه، وأمره، وتعليمه ما يشاء، ومنعه ما يشاء. وحكيم بمعنى مُحْكِم، والله تعالى مُحكِم للأشياء، متقن لها، كما قال سبحانه: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} (النحل آية 88) 3.   1 المعجم المفهرس. 2 المعجم المفهرس. 3 المعجم المفهرس. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 61 التوّاب: هو اسم من أسماء الله تعالى، بصيغة المبالغة على وزن (فعَّال) ، ورد في القرآن الكريم إحدى عشرة مرة4، منها ثماني مرات بلفظ (توّابٌ) بالرفع، في مثل قوله تعالى: {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (البقرة آية 37) ، وقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} (التوبة آية 118) ، وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ} (الحجرات آية 12) .   1 المعجم المفهرس. 2 المعجم المفهرس. 3 المعجم المفهرس. 4 مرجع الزجاج ص52. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 61 البارئ : هو اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فاعل) ، ورد في القرآن الكريم ثلاث مرات2، في قوله تعالى: {إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ} (البقرة آية 54) ، وقوله: {فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} (البقرة آية 54) ، وقوله: {هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} (الحشر آية 24) . والبارئ: هو المنشئ المخترع للأشياء الموجد لها، وقيل: المميز لبعضها عن بعض3، والبارئ من البَرء. والبَرْء: هو تنفيذ وإبراز ما قدره وقرره الله تعالى إلى عالم الوجود 4. والبرء: كذلك هو خلق على صفة، فكل مبروء مخلوق، لأن البرء من تبرئة الشيء من الشيء، من قولهم: برأت من المرض، وبرئت من الدين أبرأ منه، فبعض الخلق إذا فُصل من بعض سمي فاعله بارئا، وفي الأيمان: "لا والذي خلق الحبّة، وبرأ النسمة" 5. وقال أبو علي: هو المعنى الذي به انفصلت الصور بعضها عن بعض، فصورة زيد مفارقة لصورة عمرو، وصورة حمار مفارقة لصورة فرس، فتبارك الله خالقا بارئا 6. ومعرفة اسم الباري تجعل العبد يؤمن بأنه سبحانه هو الموجد لكل الأشياء من العدم فلا ييأس على ما فاته ولا يفرح بما آتاه، وقد قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} (الحديد آية 22-23) .   2 المعجم المفهرس. 3 فتح القدير الجزء الخامس ص208. 4 تيسير العلي القدير - المجلد الرابع ص59. 5 من حديث البخاري 6/116، باب فكاك الأسير. 6 مرجع الزجاج ص37. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 62 البصير : هو اسم من أسماء الله تعالى بصيغة مبالغة على وزن (فعيل) ، ورد في القرآن الكريم اثنتين وأربعين مرة1، منها إحدى وثلاثون مرة2 بلفظ (بصيرٌ) بالرفع، في مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ} (البقرة آية 96) ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (البقرة آية 110) ، وقوله: {وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} (آل عمران آية 15) ، وقوله: {وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (المجادلة آية 1) ، وقوله: {مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ} (الملك آية 19) . ومنها تسع مرات3 بلفظ (بصيرا) بالنصب، في مثل قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء آية 58) ، وقوله: {وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً} (الإسراء آية 17) ، وقوله: {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيراً} (طه آية 35) ، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً} (الفتح آية 24) . والبصير بمعنى مبصر، فهو سبحانه يرى كل شيء من خلقه دقَّ أو جلَّ، ظهر أو خفي، لا تحجب رؤيته الحواجب التي تحجب عن خلقه الرؤية، إذ يبصر سبحانه النملة السوداء تدب على الصخرة الصماء في الليلة الظلماء، فلا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض. وإذا استشعر العبد أن ربه البصير يراه ولا يحجب عنه أي شيء من خلقه، فإنه يراقب ربه، ولا يكون دائما إلا في الموضع الذي يجب أن يراه فيه.   1 المعجم المفهرس. 2 المعجم المفهرس. 3 المعجم المفهرس. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 63 الواسع، (الموسع) : (الواسع) : اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فاعل) ، ورد في القرآن الكريم تسع مرات4 منها ثماني مرات5 بلفظ (واسعٌ) بالرفع في قوله تعالى: {فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة آية 115) ، وقوله: {وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة آية 261) ، وقوله: {وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلاً وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (البقرة آية 268) ، وقوله: {قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (آل عمران آية 73) ، وقوله: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (المائدة آية 54) ، وقوله: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ} (النور آية 32) ، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} (النجم آية 32) . ومنها مرة واحدة بلفظ (واسعاً) بالنصب في قوله تعالى: {وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} (النساء آية 130) .   4 المعجم المفهرس. 5 المعجم المفهرس. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 63 ويلاحظ أن اسم (الواسع) اقترن في سبع آيات -من التسع- التي ورد فيها باسم (العليم) ولعل هذا يشير إلى أن الله سبحانه يعطي من فضله الواسع من يشاء عن كمال العلم بمن يستحق هذا العطاء، سواء أكان هذا العطاء رحمة، أو مغفرة، أو ملكا، أو مالا، أو علما، أو أي نوع من أنواع العطاء، وعطاؤه سبحانه -فضلا عن كونه عن كمال العلم- فهو مع كمال الحكمة، وسعة المغفرة، وفي هذا نجد أن اسمه (الواسع) سبحانه جاء مضافا إلى المغفرة مرة واحدة {إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ} وجاء مقترنا باسمه (الحكيم) مرة واحدة كذلك {وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً} . ومعنى (الواسع) الذي يوسع على عباده في دينهم، ولا يكلفهم ما ليس في وسعهم. وقيل: بمعنى أنه يسع علمه كل شيء كما قال تعالى: {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً} 1 (طه آية 98) . وقال الفراء الواسع: الجواد الذي يسع عطاؤه كل شيء2. وقيل: الواسع: واسع الفضل يوسع على من يشاء من عباده 3. وقيل: الواسع: الذي يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال. وقيل الواسع: واسع الفضل والصفات وعظيمهما، ومن سعته وعلمه وسع لكم الأمر، وقبل منكم المأمور4. و (الموسع) : اسم من أسماء الله تعالى على وزن (مُفْعِل) ورد في القرآن الكريم مرة واحدة بصيغة الجمع، بالرفع، في قوله تعالى: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} (الذاريات آية 47) . ومعنى (الموسع) : ذو الوسع والسعة، وقيل الموسعون القادرون، فالموسع أي القادر 5. وقيل الموسع: أي لأرجاء السماء وأنحائها، وأيضا الموسع على عباده بالرزق الذي ما ترك دابة في مهامه القفار، ولجج البحار، وأقطار العالم العلوي والسفلي، إلا وأوصل إليه من الرزق ما يكفيها، وساق إليها من الإحسان ما يغنيها، فسبحان من عم بجوده جميع المخلوقات، وتبارك الذي وسعت رحمته جميع البريات6. وقيل: الواسع: المحيط بكل شيء، من قولهم: "وسع كل شيء علما" أي أحاط به7.   1 فتح القدير الجزء الأول ص131- 132. 2 المرجع السابق ص265. 3 تيسير العلي القدير الجزء الأول ص96. 4 تيسير الكريم الرحمن الجزء الأول ص62. 5 فتح القدير الجزء الخامس ص91. 6 تيسير الكريم المنان الجزء الثامن ص28. 7 مرجع الزجاج ص51. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 64 السميع (و المستمع ) : هو اسم من أسماء الله تعالى، بصيغة المبالغة على وزن (فَعِيل) بمعنى (فاعل) أي سامع1. وقد ورد في القرآن الكريم خمسا وأربعين مرة2. منها اثنتان وأربعون3 بصيغة (سميعُ) بالرفع في مثل قوله: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة آية 127) . وقوله: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (البقرة آية 137) . وقوله: {لا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} (الأنعام آية 115) ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (لقمان آية 28) ، وقوله: {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} (سبأ آية 50) . ومنها ثلاث مرات4 بصيغة (سميعاً) بالضم في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء آية 58) . وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً} (النساء آية 134) ، وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً} (النساء آية 148) . ويلاحظ أن اسم (السميع) سبحانه ورد مقترنا باسم (الحليم) اثنتين وثلاثين مرة5 وتسع مرات6 مقترنا باسم (البصير) . ومرة واحدة7 باسم (القريب) . وورد مرتين8 مضاف إلى (الدعاء) في قوله: {إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ} (آل عمران آية 38) . وقوله: {إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ} (إبراهيم آية 39) . ويجلِّي لنا تمام سمعه -سبحانه- بكل شيء، ما رواه الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت: "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} إلى آخر الآية. والمجادلة هي: خولة بنت ثعلبة، وكان زوجها أوس بن الصامت، وكان امرءا به لمم، وكان إذا أخذه لممه واشتد به يظاهر من امرأته". وكذلك في رواية أخرى لابن أبي حاتم عن عائشة أنها قالت: "تبارك الله الذي أوعى سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى علي بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهى تقول يا رسول الله: أكل مالي، وأفنى شبابي، ونثرت له بطني، حتى إذا كبرت سني، وانقطع ولدي، ظاهر مني. اللهم إني أشكو إليك. قالت: فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا} 9". أما اقتران اسم (السميع) سبحانه باسم (العليم) واسم (البصير) فإن سمعه مع علمه محيط بهم   1 مرجع الزجاج ص42. 2 المعجم المفهرس. 3 المعجم المفهرس. 4 المعجم المفهرس. 5 المعجم المفهرس. 6 المعجم المفهرس. 7 المعجم المفهرس. 8 المعجم المفهرس. 9 تيسير العلي القدير المجلد الرابع ص191. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 65 وبصره نافذ فيهم. فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء1. وأما اقتران اسم (السميع) سبحانه باسم (القريب) ، وإضافته إلى الدعاء، فإنه سبحانه وهو فوق عرشه يسمع كل حركة وسكنة ولفظة من خلقه. وكل دعاء من عباده، فيجيب من يدعوه لشدة قربه منهم، فهو عليٌّ في قربه قريب في علوه. كما قال تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} (البقرة آية 186) ، وكما قال: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق آية 16) ، وكما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ".   1 المرجع السابق ص195. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 66 المستمع : وهو اسم من أسماء الله تعالى على وزن (مفتعل) . وقد ورد في القرآن الكريم مرة واحدة2 بصيغة الجمع بلفظ (مستمعون) بالرفع، في قوله تعالى: {قَالَ كَلاَّ فَاذْهَبَا بِآياتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ} (الشعراء آية 15) . ومعنى (مستمع) أي سامع لموسى وهارون عليهما السلام -وسامع لكل خلقه بلا ريب- وذلك كقوله لهما: {لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} (طه آية 46) أي أنه يسمعهما -وهو فوق عرشه- ماذا يقولان لفرعون ويراهما وهما تحت حفظه وتأييده3. وقد قيل إن (سمع) تأتي بمعنى أجاب، وذلك في مثل ما يقول المصلي عند رفعه من الركوع: "سمع الله لمن حمده" أي استجاب4.   2 المعجم المفهرس. 3 تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص202. 4 مرجع الزجاج ص42. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 66 العزيز : هو اسم من اسماء الله تعالى على وزن (فعيل) ، وقد ورد في القرآن الكريم تسعا وثمانين مرة5 منها اثنتان وثمانون6 بلفظ (العزيز) أو (عزيز) بالرفع، في مثل قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (البقرة آية 129) ، وقوله: {لا إِلَهَ إِلا َّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (آل عمران آية 18) . وقوله: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (المائدة آية 38) ، وقوله: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ} (هود آية 66) . وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (إبراهيم آية 47) . وقوله: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} (الشعراء آية 9) ، وقوله: {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر آية 28) . ومنها ست مرات7 بلفظ (عزيزا) بالنصب من قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء آية 56) . وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (النساء آية 158) . وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} (الأحزاب آية 25) . وقوله: {وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً} (الفتح آية 19) .   6 المعجم المفهرس. 7 المعجم المفهرس. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 66 الرءوف : هو اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فعول) ، وهو صيغة مبالغة يدل على عظيم رأفته سبحانه بخلقه. وقد ورد في القرآن الكريم عشر مرات5 في مثل قوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (البقرة آية 143) ، وقوله: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة آية 207) . وقوله: {ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (التوبة آية 117) ، وقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ} (الحديد آية 9) . ومعنى الرءوف كثير الرأفة، وهى أشد من الرحمة. قال أبو عمرو بن العلاء: "الرأفة أكبر من الرحمة والمعنى متقارب"6 فالرأفة هي المنزلة الثانية، فإذا اشتدت الرحمة كانت رأفة 7. وقد اقترن اسم (الرءوف) باسم (الرحيم) سبحانه في تسع آيات من العشر المشار إليها، وعدي بالباء إلى العباد في آيتين في قوله تعالى: {وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ} (البقرة آية 207، وآل عمران آية 30) . ورأفة الله تعالى ورحمته بعباده لا يعدلها رأفة أو رحمة. في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها، فجعلت كلما وجدت صبيا من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها، فلما وجدته ضمته إليها وألقمته ثديها. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه" قالوا: "لا يا رسول الله". قال: "الله أرحم بعباده من هذه بولدها" 8.   5 المعجم المفهرس. 6 فتح القدير الجزء الأول ص151. 7 مرجع الزجاج ص62. 8 تيسير العلي القدير المجلد الأول ص119. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 69 الشاكر، و (الشكور) : (الشاكر) اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فاعل) ، وقد ورد في القرآن الكريم مرتين1؛ مرة بلفظ (شاكرٌ) بالرفع، في قوله تعالى: {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ} (البقرة آية 158) ، ومرة بلفظ (شاكراً) بالنصب، في قوله تعالى: {وَكَانَ اللَّهُ شَاكِراً عَلِيماً} (النساء آية 147) . (والشكور) اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فعول) بصيغة المبالغة، وقد ورد في القرآن الكريم أربع مرات2، في قوله تعالى: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر آية 30) ، وفي قوله: {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر آية 34) ، وفي قوله: {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} (الشورى آية 23) ، وفي قوله: {وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (التغابن آية 17) . ومعنى (الشاكر والشكور) : الذي يشكر القليل من العمل ويغفر الكثير من الزلل. ويضاعف للمخلصين أعمالهم بغير حساب. ويشكر الشاكرين، ويذكر من ذكره، ومن تقرب إليه بشيء من الأعمال الصالحة تقرب الله منه أكثر3. وقيل (الشكور) من أسماء الله عز وجل - وكذلك الشاكر- معناه: أنه يزكو عنده القليل من الأعمال، فيضاعف لهم به الجزاء وكأن الشكر من الله تعالى هو إثابته الشاكر على شكره، فجعل ثوابه للشكر وقبوله للطاعة شكرا على طريقة المقابلة كما قال عز اسمه: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} 4 (البقرة آية 194) . ونلاحظ أن اسم (الشاكر) قد اقترن باسم (العليم) سبحانه واقترانه به يفيد أنه تعالى شاكر أي يثيب على القليل بالكثير، مع علمه التام المحيط بقدر الجزاء، فلا يبخس أحدا ثوابه 5. كما نلاحظ أن اسم (الشكور) قد اقترن ثلاث مرات باسم (الغفور) واقترانه به يفيد أنه غفور لمن عصاه، وشكور لمن أطاعه6 وقيل: إنه غفور لذنوبهم. شكور للقليل من أعمالهم وقال قتادة: كان مطرف رحمه الله إذا قرأ هذه الآية (أي آية فاطر) يقول: "هذه آية القراء"7 أقول: وحُقَّ لمطرف رحمه الله أن يقول هذه القولة. إذ ختم بها قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ. لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر آية 29-30) .   1 المعجم المفهرس. 2 المعجم المفهرس. 3 تيسير الكريم الرحمن الجزء الخامس ص304. 4 مرجع الزجاج ص 47. 5 تيسر العلي القدير المجلد الأول ص127. 6 فتح القدير الجزء الرابع ص351. 7 تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص428. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 70 وقال ابن عباس رضي الله عنهما: في قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} : غفر لهم الكثير من السيئات، وشكر لهم اليسير من الحسنات1. وقيل (غفور شكور) : أي يغفر الكثير من السيئات، ويكثر القليل من الحسنات. فيستر ويغفر ويضاعف فيشكر2. واقترن اسم (الشكور) باسم (الحليم) مرة واحدة3 في قوله تعالى {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ} (التغابن آية 17) واقترانه به يفيد أنه (شكور) يثيب من أطاعه بأضعاف مضاعفة، (حليم) لا يعاجل من عصاه بالعقوبة 4، بل يمهله ولا يهمله5. وقيل (شكور) أي يجزي على القليل بالكثير، (حليم) أي يصفح ويتجاوز عن الذنوب والسيئات6.   1 تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص430. 2 المرجع السابق المجلد الثالث ص572. 3 المعجم المفهرس. 4 فتح القدير الجزء الخامس ص239. 5 تيسير الكريم الرحمن الجزء الثامن ص137. 6 تيسير العلي القدير المجلد الرابع ص252. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 71 الواحد و (الأَحد) : (الواحد) : هو اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فاعل) ، وقد ورد في القرآن الكريم ست مرات 7 في قوله تعالى: {أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (يوسف آية 39) ، وقوله: {قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (الرعد آية 16) . وقوله: {وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (إبراهيم آية 48) ، وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (ص آية 65) ، وقوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} (الزمر آية 4) ، وقوله: {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} (غافر آية 16) . وقد ورد موصوفا به الإله ثلاث عشرة مرة8، في مثل قوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} (البقرة آية 163) ، وقوله: {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (المائدة آية 73) ، وقوله: {أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} (الأنبياء آية 108) . و (الأحد) اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فَعَل) . وقد ورد في القرآن الكريم مرة واحدة 9، في قوله تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} (الإخلاص آية 1) . وقيل: إن الفرق بين الواحد وأحد: أن الواحد يفيد وحدة الذات فقط، والأحد: يفيده بالذات والمعاني10.   7 المعجم المفهرس. 8 المعجم المفهرس. 9 المعجم المفهرس. 10 مرجع الزجاج ص58. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 71 قيل: وهمزة أحد بدل من الواو وأصله وحد، وقال أبو البقاء: همزة أحد أصل بنفسها غير مقلوبة، وذكر أن (أحد) يفيد العموم دون (واحد) . ومما يفيد الفرق بين (أحد) و (واحد) ما قاله الأزهري: أنه لا يوصف بالأحدية غير الله. تعالى، فلا يقال رجل أحد، ولا درهم أحد، بل يقال: رجل واحد، ودرهم واحد1. وقيل: الأحد الذي لا نظير له، ولا وزير له، ولا نديد له، ولا شبيه، ولا عديل، ولا يطلق هذا اللفظ إلا على الله عز وجل، لأنه الكامل في جميع صفاته. وأفعاله2. وقيل (أحد) : أي انحصرت فيه تعالى الأحدية، فهو الأحد المنفرد بالكمال الذي به الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا. الذي لا نظير له، ولا مثيل. وقيل الواحد الأحد: هو الذي توحد بجميع الكمالات بحيث لا يشاركه فيها مشارك، ويجب على العبيد توحيده عقدا، وقولا، وعملا بأن يعترفوا بكماله المطلق. ويفردوه بالوحدانية. ويفردوه بأنواع العبادة.   1 فتح القدير الجزء الخامس ص515. 2 تيسير العلي القدير المجلد الرابع ص442. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 72 الغفور و (الغفَّار والغافر) الغفور: هو اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فعول) بصيغة المبالغة، بما يدل على، كثرة الغفر لذنوب عباده التائبين- وقد ورد في القرآن الكريم إحدى وتسعين مرة3 منها إحدى وسبعون مرة4 بصيغة (غفورٌ) بالرفع، في مثل قوله تعالى: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة آية 173) ، وقوله: {يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (آل عمران آية 129) ، وقوله: {عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (المائدة آية 101) وقوله: {بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} (سبأ آية 15) ، وقوله: {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} (فاطر آية 30) . ومنها عشرون مرة5 بصيغة (غفوراً) بالنصب في مثل قوله تعالى: {دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء آية 96) . وقوله: {إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً} (الإسراء آية 25) ، وقوله: {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً} (الأحزاب آية 73) . وقوله: {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً} (فاطر آية 41) ، ومعنى الغفور: العظيم الغفر لعباده الذين يرجعون إليه ويتوبون من ذنوبهم، ونلاحظ أن اسم (الغفور) سبحانه قد اقترن بأسماء أخرى له عز وجل: فقد اقترن باسم (الرحيم) أربعا وسبعين مرة6، واقترانه به يفيد أنه سبحانه يغفر   3 المعجم المفهرس. 4 المعجم المفهرس. 5 المعجم المفهرس. 6 المعجم المفهرس. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 72 للمستغفرين والتائبين لأنه واسع الرحمة. بمعنى أنه يغفر لمن تاب إليه وأناب رحمة منه لهذا العبد، لأنه لو لم يرحمه ويتداركه بمغفرته لهلك وخسر. ولهذا يشير قوله تعالى: {قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (الأعراف آية 23) وقوله: {وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (هود آية 47) . ومن ثم لما سأل الصديق أبو بكر رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعلمه دعاء يدعو به في صلاته دله على صيغة تتضمن طلب المغفرة والرحمة من الله الغفور الرحيم ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أن أبا بكر رضي الله عنه قال: "يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي". فقال: "قل: اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم". وروى البخاري عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: "سيد الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبي، فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة، ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة". واقترن اسم (الغفور) كذلك باسم (الحليم) ست مرات1، واقترانه به يفيد أن الله سبحانه لا يعاجل بالعقوبة عبده الذي يعصيه، بل يمهله، فإن استمر على كفره وعناده أخذه أخذ عزيز مقتدر. وقد جاء في الصحيحين: أن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} (هود آية 102) . وأما إذا أقلع العبد عما هو فيه من كفر وعصيان، ورجع إلى الله وتاب، فإن الله تعالى يتوب عليه، لذا يقول تعالى: {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً} (النساء آية 110) . واقترن اسم (الغفور) كذلك باسم (الشكور) ثلاث مرات2 واقترانه به يفيد - كما أسلفت في بيان اسم (الشكور) سبحانه أنه جل وعلا يغفر لعباده الكثير من السيئات، ويشكر لهم اليسير من الحسنات، وهذا من أعظم الفضل وأوسع الرحمة لعباده، إنه - عز وجل- بهم رءووف رحيم. واقترن اسم (الغفور) كذلك باسم (العفوّ) أربع مرات3 واقترانه به يفيد أنه سبحانه يعفو كثيرا عما قصر فيه عباده من أوامره وما ارتكبوه من المعاصي إذا رجعوا إليه - سبحانه وأنابوا، وتابوا مما وقعوا فيه، ويغفر لهم ذنوبهم حسبما قال تعالى: {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الزمر آية 53) .   1 المعجم المفهرس. 2 المعجم المفهرس. 3 المعجم المفهرس. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 73 واقترن اسم (الغفور) كذلك باسم (العزيز) مرة واحدة1 هي قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} (الملك آية 2) . واقترانه به يفيد أنه سبحانه العزيز الذي بعزته يستطيع أن ينتقم من العاصي آن عصيانه، فهو العزيز المنيع الجناب عز وجل، ومع ذلك هو- سبحانه- غفور لمن تاب إليه وأناب بعد أن عصاه وخالف أمره. واقترن اسم (الغفور) كذلك باسم (الودود) مرة واحدة2 هي قوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} (البروج آية 14) . واقترانه به يفيد أنه جل وعلا عظيم الغفر لمن تاب إليه وأناب. فيستر ذنوبهم ولا يفضحهم بها، كما أنه سبحانه ودود أي يحب عباده المؤمنين أبلغ المحبة، لإنابتهم إليه دائما. ورد كل أمورهم إليه في كل حال، وكذلك هو سبحانه ودود بمعنى أنه محبوب يحبه عباده المؤمنون لدوام تفضله عز وجل وإنعامه عليهم في كل آن.   1 المعجم المفهرس. 2 المعجم المفهرس. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 74 والغفار : اسم من أسماء، الله تعالى على وزن (فعَّال) بصيغة المبالغة، بما يدل على كثرة غفره لعباده التائبين، وقد ورد في القرآن الكريم خمس مرات3، منها أربع مرات بالرفع4، في قوله تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى} (طه آية 82) ، وقوله: {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (ص آية 66) . وقوله: {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمّىً أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} (الزمر آية 5) ، وقوله: {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} (غافر آية 42) . وورد مرة واحدة 5 بالنصب في قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} (نوح آية 10) . وقد اقترن اسم (الغفار) سبحانه باسم (العزيز) ثلاث مرات6، ويفيد اقترانه به أنه تعالى الغالب الذي يقوى بلا ممانع على معاقبة مخالف أمره، لكنه تعالى يمهله، فإذا تاب ستر ذنوبه وغفر سيئاته، وإن لم يتب واستمر في عصيانه أخذه أخذ عزيز مقتدر.   3 المعجم المفهرس. 4 المعجم المفهرس. 5 المعجم المفهرس. 6 المعجم المفهرس. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 74 والغافر : اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فاعل) ، وقد ورد في القرآن الكريم مرة واحدة 7. مضافا إلى التوب، ومعطوفا عليها (قابل التوب) في قوله سبحانه: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} (غافر آية 3) ومعنى هذا أنه يغفر ما سلف من الذنب. ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه وخضع له. ثم يأتي بعد قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} قوله سبحانه: {شَدِيدِ الْعِقَابِ} أي لمن تمرد وطغى. كقوله تعالى: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} (الحجر آية49،50) وكثيرا ما يقرن سبحانه هذين الوصفين في مواضع عديدة من القرآن الكريم وسبب ذلك أن يبقى العبد دائما بين الرجاء والخوف.   7 المعجم المفهرس. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 74 القريب : هو اسم من أسماء الله تعالى ورد في القرآن ثلاث مرات2، في قوله تعالى: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} (البقرة آية 186) ، وقوله: {فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ} (هود آية 61) . وقوله: {وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} (سبأ آية.5) . ومعنى القريب أنه سبحانه ليس قريبا من عبده قرب ذات وإنما قرب صفات، فهو قريب جدا من عبده قرب سمع وبصر وعلم وإحاطة وقهر ونصر وغير ذلك من صفات كماله تعالى، ويشير إلى هذا القرب قوله سبحانه: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} (ق آية 16) . وحبل الوريد هو حبل العاتق، وهو ممتد من ناحية الحلق إلى العاتق، وهما وريدان عن يمين وشمال، وقال الحسن: الوريد الوتين، وهو عرق معلق بالقلب، وهو تمثيل للقرب بقرب ذلك العرق من الإنسان: أي نحن أقرب إليه من حبل وريده، والإضافة بيانية: أي حبل هو الوريد- وقيل الحبل هو نفس الوريد3 كما يشير تعالى إلى قربه من عبده بقوله: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ} (الواقعة آية 85) أي أقرب سبحانه من خلقه إلى عبده بعلمه وقدرته ورؤيته، ولكن عباده لا يدركون ذلك لجهلهم فإن الله تعالى أقرب إلى عبده من حبل الوريد4.   2 تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص522. 3 فتح القدير الجزء الخامس ص75. 4 المرجع السابق ص161. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 75 وقد اقترن اسمه (القريب) سبحانه باسمه "المجيب" مرة1، كما اقترن باسمه (السميع) مرة واحدة2، واقترانه بالمجيب مرة ثم بالسميع مرة أخرى يفيد أنه سبحانه وتعالى يسمع وهو فوق عرشه كل شيء من خلقه سواء أعلن أم أخفى، جهر به أم أسر، لأنه قريب جدا منهم قرب سمع ورؤية وعلم وإحاطة وقدرة وقهر ونصر، قريب بصفاته تعالى من خلقه، وهو سبحانه قريب الإجابة لمن دعاه. وقد قال ابن أبي حاتم بسنده عن معاوية بن حيدة القشيري أن أعرابيا قال: "يا رسول الله أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه"، فسكت النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية (البقرة آية 186) ، إذا أمرتهم أن يدعوني فدعوني استجيب، وروى الإمام أحمد عن أبي موسى الأشعري قال: "كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة، فجعلنا لا نصعد شرفا، ولا نعلو شرفا، ولا نهبط واديا إلا رفعنا صوتنا بالتكبير"، قال: "فدنا منا"، فقال: "يا أيها الناس، أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصما ولا غائبا، إنما تدعون سميعا بصيرا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته، يا عبد الله بن قيس، ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله" أخرجاه في الصحيحين وبقية الجماعة. وروى مالك عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي" أخرجاه في الصحيحين. من حديث مالك به. وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يزال العبد بخير ما لم يستعجل" قالوا: "وكيف يستعجل؟ " قال: "يقول قد دعوت ربي فلم يستجب لي" رواه الإمام أحمد. وروى ابن مردويه عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس حدثني جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ: {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} الآية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أمرت بالدعاء، وتوكلت بالإجابة، لبيك اللهم لبيك، لا شريك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك لك، أشهد أنك فرد، أحد، صمد، لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد، وأشهد أن وعدك حق، ولقاءك حق، والجنة حق، والنار حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأنت تبعث من في القبور" 3. وقد ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من مسلم يدعو الله بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم، إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال: إما أن يعجل له دعوته، وإما أن يدخر له في الآخرة، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها". وثبت في الصحيح أيضا من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " يستجاب لأحدكم ما لم يعجل، يقول: دعوت فلم يستجب لي".   1 المعجم المفهرس. 2 المعجم المفهرس. 3 تيسير العلي القدير المجلد الأول ص145-146. الجزء: 46 ¦ الصفحة: 76 وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل، "قيل يا رسول الله ما الاستعجال؟ " قال: "يقول: قد دعوت فلم أر يستجب لي، فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء" رواه مسلم، وقد ورد في الأحاديث الصحيحة بيان بعض الأشخاص الذين تستجاب دعوتهم، من ذلك ما يأتي: 1- دعوة المظلوم: فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا دعوة المظلوم فإنها تصعد إلى السماء كأنها شرار" حديث صحيح أخرجه الحاكم، وعن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اتقوا دعوة المظلوم وإن كان كافرا فإنه ليس دونها حجاب" حديث حسن رواه أحمد. 2- دعوة المسافر: إذا كان سفر طاعة وخير كالسفر في سبيل الله للدعوة أو للعبادة أو لطلب العلم الذي يتقرب به إلى الله، ولعل سرَّ استجابة دعوة المسافر كونه غريبا، وبعيدا عن أهله وأحبائه، فيشمله الله تعالى برحمته ورعايته، وتكون استجابة دعوته من آثار رحمة الله عز وجل به، وفضله عليه. فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " ثلاث دعوات مستجابات لا شك فيهن، دعوة المظلوم، ودعوة المسافر، ودعوة الوالد على ولده" حديث صحيح رواه الترمذي. 2- دعوه الوالد على ولده: وهذا يظهر من الحديث الآنف الذكر، فالوالد إذا دعا بالخير لولده أو بالشر على ولده، استجاب الله له. 4، 5، 6- دعوة الحاج والغازي والمعتمر: وسبب استجابة دعوة هؤلاء الثلاثة أنهم لبوا نداء الله تعالى، واستجابوا لدعوته، فكافأهم تعالى استجابة دعوتهم، فعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "الغازي في سبيل الله، والحاج، والمعتمر، وفد الله دعاهم فأجابوه وسألوه فأعطاهم" حديث صحيح رواه ابن ماجة. 7- دعاء الأخ المسلم لأخيه بظهر الغيب: فعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من عبد مسلم يدعو لأخيه بظهر الغيب إلا قال الملك: ولك بمثل " رواه مسلم. وعن صفوان بن عبد الله قال: "قدمت الشام فأتيت أبا الدرداء في منزله فلم أجده، ووجدت أم الدرداء" فقالت: "أتريد الحج العام؟ " فقلت: "نعم"، قالت: "فادع الله لنا بخير، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: " دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل" رواه مسلم. ولا شك أن المجتمع الذي تكون صفته أن كل أخ يدعو لأخيه بظهر الغيب، يكون مجتمعا يشيع فيه الخير، وتعم فيه الأخوة الصادقة التي ترقى بأفراده وتسمو بهم في مدارج الإيمان. (يتبع) الجزء: 46 ¦ الصفحة: 77 مدخل ... مفهوم الأسماء والصفات (الحلقة الثالثة) سعد ندا المدرس بالجامعة الإسلامية أسلفت في حلقتين سابقتين ذكر اثنين وثلاثين اسما من أسماء الله الحسنى، وألقيت الضوء على بعض معانيها، وأشرت إلى عدد المرات التي تكررت فيها هذه الأسماء، وقد بلغت في مجموعها خمس عشرة وسبعمائة وألفي مرة (2715) في مواضع مختلفة من القرآن الكريم، فضلا عن السنة المطهرة، عدا ما سيأتي من الأسماء الحسنى في الحلقات القادمة إن شاء الله تعالى. وكان أكثر هذه الأسماء تكرارا هو لفظ الجلالة (الله) جل جلاله؛ إذ قد تكرر في القرآن الكريم ثمانين وتسعمائة (980) مرة. والذي أودّ أن أبرزه أن إيرادي لتلك الأعداد التي تكررت فيها أسماء الله الحسنى ليس من باب التسلية، أو السرد غير الهادف، أو الإحصاء العشوائي، وإنما هدفت من ورائه إلى أن أؤكد حقيقة غاية في الأهمية، تلك الحقيقة هي أن الله تعالى لم يضمن القرآن الكريم هذا الحشد الضخم من أسمائه المباركة إلا لأنه أراد سبحانه أن يلفتنا إلى مدى ضرورة معرفة أسمائه الحسنى التي ذكرها لنا ووردت بها النصوص، ودعانا إلى تعلمها وإحصائها ودعائه بها، وذلك في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا} (الأعراف آية 180) ، وفيما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن لله تسعة وتعين اسما إلا واحدا، من أحصاها دخل الجنة، وهو وتر يحب الوتر"، (متفق عليه) . أعود فأكد أن تكرار أسماء الله الحسنى بهذا العدد الوفير في القرآن الكريم والسنة المشرفة لهو أقطع دليل على بالغ أهمية تعرف العباد عليها؛ ليدعو الله تعالى بها، وليقفوا على ما تتضمنه من صفات الله عز وجل وليتعبدوا الله تعالى بها أحق ما تكون العبادة. ولو أن العبد علم الأسماء الحسنى - جل وعلا - وعرف معنى كل اسم من هذه الأسماء وما يتضمنه من المعاني السامية، وملأ بها قلبه؛ لاستغنى بهذه الأسماء الكريمة عن التوجه إلى غير الله تعالى يستجديه ويلتمس عنده قضاء ما لا يقوى عليه إلا الله عز وجل، ولصار الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 55 الناس جميعا – أمام ناظريه – سواء كأسنان المشط، لا لفضل لعربي منهم على عجمي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى؛ إذ هم مثله جميعا عبيد لله رب العالمين. ومن ثم رأيت أن أتم ما بدأت ذكره مما ورد به النص من أسماء الله الحسنى، ملقيا بعض الأضواء على شيء من معانيها بقدر ما ييسر الله تعالى لي، وذلك فيما يلي: الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 56 الحي ّ: هو اسم من أسماء الله جل وعلا، يتضمن تفرده بصفة الحياة الأبدية التي لا تنتهي، والتي تشمل جميع صفات كمالاته الذاتية؛ بمعنى أن اسم (الحي) يفيد دوام الحياة لله سبحانه، وأنه تعالى الحي في نفسه الذي لا يموت أبدا1، وقيل: الحي معناه: الباقي، وقيل: الذي لا يزول ولا يحول، وقيل: المصرف للأمور والمقدر للأشياء، وقال الطبري عن قوم أنه يقال: حي كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه2، وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم في قوله (الحي) أي حي لا يموت3. وقد ذكر شيخ الإسلام فخر الدين الرازي: واعلم أنه تعالى إنما تمدح بكونه حيا، لأن مراده منه كونه حياً لا يموت، ألا ترى أن الحي الذي يجوز عليه الموت حكم عليه بأنه ميت؟ قال تعالى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (الزمر آية 30) 4. أقول: وتسمية نفسه سبحانه باسم (الحي) يفهم منه - وهو جل وعلا دائم الحياة وآثار حيلته منبثة في كل ما خلق - أنه تعالى مصدر حياة كل كائن حي، فهو سبحانه يبدؤها له من حين يشاء، وينهيها منه حين يشاء. وما دام أنه تعالى مصدر حياتنا، فقد لفتنا أن نربط به وحده هذه الحياة، ولا نكل أي أمر من أمورها إلا إليه وحده؛ لأنه هو وحده دائم الحياة، فيدوم تدبيره لأمورنا، فقال تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} (الفرقان لآية 58) ، ولم يقل (وتوكل على الحي)   1 تيسير العلي القدير المجلد الأول ص 218. 2 فتح القدير الجزء الأول ص 271. 3 المرجع السابق ص 273. 4 شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص 303. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 56 فقط، لأن المخلوقين أحياء ولكنهم سيموتون، فإذا توكل بعضهم على بعض، تبددت مصالح المتوكلين بموت المتوكل عليهم، لذا علمنا عز وجل أن يكون توكلنا على {الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} وهو الله وحده سبحانه وتعالى. وقد ذكر الإمام الشوكاني - رحمه الله - أن الله تعالى أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتوكل عليه في دفع المضار وجلب المنافع فقال: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} ، وخص صفة الحياة إشارة إلى أن الحي هو الذي يوثق به في المصالح، ولا حياة على الدوام إلا لله سبحانه، دون الأحياء المنقطعة حياتهم، فإنهم إذا ماتوا ضاع من يتوكل عليهم. والتوكل هو اعتماد القلب على الله في كل الأمور1. وقد ورد اسم (الحي) في القرآن خمس مرات وذلك على ما يلي: 1- في قوله تعال: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} (البقرة آية 255) . 2- وفي قوله تعالى: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (آل عمران آية 1، 2) . أقول: وقد ورد اسم (الحي) في الآيتين المذكورتين مقترنا باسم (القيوم) بعد إقرار وتجريد توحيد الألوهية لله تعالى سبحانه. 3- وفي قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} (طه آية 111) . أقول: وقد ورد اسم (الحي) في الآية المذكورة مقترنا باسم (القيوم) كذلك، مع بيان أن وجوه الخلائق ذلت وخضعت لجبارها (الحي) الذي لا يموت، القيوم الذي لا ينام، وهو قيم على كل شيء، ولا قوام لشيء إلا به2، وكذلك مع بيان أنه من يلقى ربه (الحي القيوم) على شيء من الظلم - وهو الشرك - فإنه يكون خائبا خاسرا 2. 4- وفي قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} (الفرقان آية 58) . أقول: وقد أسلفت - قبل قليل - بيان لِمَ لَفَتَنا الله جل وعلا إلى أن يكون توكلنا عليه وحده لأنه {الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ} ؛ فلا أرى داعيا لتكراره.   1 فتح القدير الجزء الرابع ص 83، 84. 2 تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 26. 2 فتح القدير الجزء الثالث ص 387 – بتصرف. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 57 5- وفي قوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (غافر آية 56) . أقول: وقد ورد اسم (الحي) في هذه الآية مع إقرار تجريد توحيد الألوهية لله تعالى سبحانه، مع أمرنا أن ندعوه وحده مخلصين له قلوبنا في كل دعائنا. وقد ذكر الإمام ابن كثير - رحمه الله - في قوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أي: هو الأول والآخر والظاهر والباطن، الذي لا معبود إلا هو سبحانه. وذكر في قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي: موحدين له مقرين بألوهيته وربوبيته، كما ذكر أنه روي عن ابن عباس قوله: من قال لا إله إلا الله فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين، وذلك قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} 3. وذكر الإمام الشوكاني في قوله تعالى: {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ} أي الباقي الذي لا يفنى، المنفرد بالألوهية، وفي قوله تعالى: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي الطاعة والعبادة. وذكر أنه أخرج ابن جرير وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الأسماء والصفات عن ابن عباس قال: من قال: لا إله إلا الله فليقل على إثرها: الحمد لله رب العالمين، وذلك قوله: {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} .1 وقد ذكر الإمام الشوكاني معنى {ادْعُونِي} في قوله تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} (غافر آية 60) : قال أكثر المفسرين: (والمعنى: وحدوني واعبدوني، أتقبّل عبادتكم وأغفر لكم. وقيل: المراد بالدعاء السؤال بجلب النفع ودفع الضر، قيل: الأول أولى، لأن الدعاء في أكثر استعمالات الكتاب العزيز هو العبادة. قلت: بل الثاني أولى، لأن معنى الدعاء حقيقة وشرعا هو الطلب، فإن استعمل في غير ذلك فهو مجاز، على أن الدعاء في نفسه باعتبار معناه الحقيقي هو العبادة، بل مخ العبادة، كما ورد بذلك الحديث الصحيح، فالله سبحانه قد أمر عباده بدعائه، ووعدهم بالإجابة، ووعده الحق، وما يبدل القول لديه، ولا يخلف الميعاد، ثم صرح سبحانه بأن الدعاء - باعتبار معناه الحقيقي وهو الطلب - هو من عبادته فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي ذليلين   3 تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 539. 1 فتح القدير الجزء الرابع ص 499. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 58 صاغرين، وهذا وعيد شديد لمن استكبر عن دعاء الله، وفيه لطف بعباده عظيم، وإحسان إليهم جليل حيث توعد من ترك طلب الخير منه واستدفاع الشر به بهذا الوعيد البالغ، وعاقبه بهذه العقوبة العظيمة، فيا عباد الله وجهوا رغباتكم، وعولوا في كل طلباتكم على من أمركم بتوجيهها إليه، وأرشدكم إلى التعويل عليه، وكفل لكم الإجابة به بإعطاء الطلبة، فهو الكريم المطلق الذي يجيب دعوة الداعي إذا دعاه، ويغضب على من لم يطلب من فضله العظيم وملكه الواسع ما يحتاجه من أمور الدنيا والدين2. أقول: ومن ثم فإن اسم (الحي) - وهو من أسماء الله تعالى الحسنى - يتضمن معنى تفرد الله - عز وجل - بالبقاء الدائم الذي لا فناء معه على الإطلاق، فمن علم أنه هكذا، وأنه يتضمن جميع صفات الكمال الذاتية، وآمن أن الله تعالى وحده هو مصدر كل حياة؛ فإنه لابد أن يجعل اللجأ إليه وحده سبحانه، ضارعا إليه أن يرزقه الحياة الطيبة التي يحس فيها بسعادة العيش، حياة الجسم المعافى من كل داء، وحياة القلب المعافى من كل سوء. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 59 القيوم : هو من أسماء الله تعالى، ورد بصيغة المبالغة على وزن (فيعول) من قام، يقوم بمعنى يدوم، والقيوم: الدائم، وكان من قراءة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} 3. يقول الرازي: إن القيوم مبالغة من القيام، وكمال المبالغة إنما عند الاستغناء به عن كل ما سواه، وافتقار كل ما سواه إليه؛ فثبت بهذا البرهان أنه سبحانه هو (القيوم) الحق بالنسبة إلى كل الموجودات1. ويقول: إن تأثيره - سبحانه - في غيره بالإيجاد، والموجد بالقصد والاختيار لابد وأن يكون متصورا ماهية ذلك الشيء الذي يقصد إلى إيجاده، فثبت أن المؤثر في العالم فعال درّاك، ولا معنى للحي إلا ذاك، فثبت أنه سبحانه حي، فلهذا قال: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، دل بقوله: {الْحَيُّ} على كونه عالما، وبقوله: {الْقَيُّومُ} على كونه قائما بذاته، مقوما لغيره، ومن هذين الأصلين تتشعب جميع المسائل المعتبرة في علم التوحيد2.   2 فتح القدير الجزء الرابع ص 498. 3 مرجع الزجاج ص 56 – وقال أبو إسحاق الزجاج في هامش هذه الصفحة: قال أبو حيان في البحر المحيط 2/277: قرأ الجمهور (القيوم) على وزن (فيعول) ، وقرأ ابن مسعود وابن عمر وعلقمة والنخعي والأعمش (القيام) ، وفي زاد المسير 1/302: وبه قرأ عمر بن الخطاب وابن مسعود وابن أبي عبلة والأعمش. 1 شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص 305 2 المرجع السابق ص 305. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 59 ويقول: واعلم أنه لما ثبت كونه سبحانه قيوما، فهذه القيومية لها لوازم، ويجملها في خمس، أوجزها فيما يلي: اللازمة الأولى: أن واجب الوجود واحد، وهو الله تعالى، بمعنى أن ماهيته غير مركبة من الأجزاء، إذ لو كانت كذلك لافتقرت إلى كل جزء منها، وكل جزء غيره سبحانه، والمركب متقوم بغيره، فلا يكون إذا متقوما بذاته، ولا مقوما لسواه، ومن ثم لا يكون على الإطلاق قيوما. اللازمة الثانية: أن لا يكون سبحانه في محل، فيكون حالا، والحال مفتقر إلى المحل، وإذا كان مفتقرا فلا يكون على الإطلاق قيوما. اللازمة الثالثة: ما دام أنه سبحانه قيوم، فهو قائم بنفسه، عالم بذاته، وذاته مؤثرة في غيره، وهذا يقتضي علمه بكل الموجودات، فكان قيوما عليها. اللازمة الرابعة: ما دام أنه سبحانه قيوم على كل ما سواه، فكل ما سواه متقوم به، أي موجود بإيجاده. اللازمة الخامسة: وما دام أنه سبحانه قيوم بالنسبة إلى كل الممكنات، استند كل الممكنات إليه. وإذا عرفت هذا، فالقيوم من حيث إنه يدل على تقومه بذاته يدل على وجوده الخاص به، ويدل على استغنائه عن غيره3. أقول: يخلص من كلام الرازي أن اسم (القيوم) يعني تفرد الله جل وعلا بذاته وقيوميته على كل ما سواه، بحيث تكون جميعها متقومة به، ومفتقرة افتقارا كاملا دائما إليه سبحانه، فضلا عن أنه متقوما بذاته، وغني غنى كاملا عمن سواه. وقد ورد اسم (القيوم) في القرآن الكريم ثلاث مرات4، على النحو التالي: 1- في قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} (البقرة آية 255) .   3 المرجع السابق ص 305- 307 بتصرف. 4 المعجم المفهرس ص 580. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 60 وقد ذكر الإمام ابن كثير في هذه الآية أن معنى (القيوم) : القيم لغيره، ولا قوم للموجودات بدون أمره1. وذكر الإمام الشوكاني في الآية المذكورة أن (القيوم) : القائم على كل نفس بما كسبت، وقيل: القائم بذاته المقيم لغيره. وقيل: القائم بتدبير الخلق وحفظه. وقيل: هو الذي لا ينام. وقيل: الذي لا بديل له2. 1- وفي قوله تعالى: {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} (آل عمران آية 1، 2) . وقد ذكر الإمام الشوكاني في هذه الآية أن ابن جرير وابن أبي حاتم أخرجا في معنى (القيوم) : القائم الذي لا بديل له، كما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وأبو الشيخ والبيهقي عن مجاهد في قوله (القيوم) : القائم على كل شيء. وأخرج ابن أبي حاتم عن الحسن قال: القيوم الذي لا زوال له3. 2- وفي قوله تعالى: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً} (طه آية 111) . وقد ذكر الإمام ابن كثير في هذه الآية أن (القيوم) هو الذي لا ينام، وهو قيم على كل شيء، ولا قوام لشيء إلا به4. أقول: وقد اقترن اسم (القيوم) في هذه الآيات الثلاث باسم (الحي) واقترانهما له دلالة عظيمة، ذلك أن اسم (الحي) يشمل جميع صفات الكمال الذاتية لله عز وجل، واسم (القيوم) يشمل جميع صفات الكمال الفعلية له سبحانه، وجمع النوعين من صفات الكمال الذاتية والفعلية، جمع لكل صفات الكمال المطلقة بصورها المتعددة؛ لهذا كان من دعاء الله جل وعلا بهذين الاسمين (الحي القيوم) له من الأهمية البالغة ما لو علمه العبد لما انقطع من الدعاء بها البتة؛ فقد ذكر الإمام ابن كثير عن أبي أمامة مرفوعا: (اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: البقرة، وآل عمران، وطه) 5.   1 تيسير العلي القدير المجلد الأول ص 218. 2 فتح القدير الجزء الأول ص 271. 3 المرجع السابق ص 273. 4 تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 26. 5 المرجع السابق ص 218. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 61 وذكر الإمام الرازي أنه روي عن ابن عباس أنه كان يقول: (أعظم أسماء الله: الحي القيوم) 6. وأخرج أبو داود والترمذي وصححه من حديث أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: (سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآتين - {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، و {الم اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} - إن فيهما اسم الله الأعظم) 1. كما ذكر الإمام الرازي أن قوله تعالى: {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} كالينبوع لجميع مباحث العلم الإلهي، فلا جرم بلغت الآيات المشتملة على هذين اللفظين في الشرف إلى المقصد الأقصى2. وقد ورد الاسمان الكريمان (الحي القيوم) أول ما وردا في كتاب الله العزيز في أعظم آية منه، فقد روى الإمام أحمد بن حنبل عن أبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله: "أي آية في كتاب الله أعظم"؟ قال: الله ورسوله أعلم، فرددها مرارا، ثم قال: "آية الكرسي"، قال: "ليهنك العلم أبا المنذر؛ والذي نفسي بيده، إن لها لسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش"، وقد رواه الإمام مسلم، وليس عنده زيادة "والذي نفسي بيده.."3. وروى الإمام أحمد عن أبي ذر جندب بن جنادة – في بعض حديث له: ( ... قلت: يا رسول الله، أي ما أنزل عليك أعظم؟ قال: "آية الكرسي": {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ) ، ورواه النسائي4. وأخرج الإمام البخاري في تاريخه، والطبراني، وأبو نعيم في المعرفة بسند رجاله ثقات عن ابن الأسقع البكر (أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءهم في صفة المهاجرين ... فسأله إنسان: أي آية في القرآن أعظم؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ} ، حتى انفضت الآية) . وأخرج ابن مردويه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أعظم آية في كتاب الله: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ".   6 شرح أسماء الله الحسنى ص 307. 1 فتح القدير الجزء الأول ص 274. 2 المرجع السابق ص 307. 3 تيسير العلي القدير المجلد الأول ص 217 – وفتح القدير الجزء الأول ص 273. 4 تيسير العلي القدير المجلد الأول ص 217. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 62 وأخرج سعيد بن منصور والحاكم والبيهقي في الشعب عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن، لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه؛ آية الكرسي"، قال الحاكم: صحيح الإسناد5. وأخرج البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال: (وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال ولي حاجة شديدة. قال: فخليت عنه، فأصبحت فقال النبي صلى اله عليه وسلم: "يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة؟ " قال: قلت: يا رسول الله! شكا حاجة شديدة وعيالا؛ فرحمته وخليت سبيله، قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود"، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى اله عليه وسلم إنه سيعود؛ فرصدته، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعلي عيال لا أعود، فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى اله عليه وسلم: "يا أبا هريرة! ما فعل أسيرك البارحة؟ " قلت: يا رسول الله! شكا حاجة وعيالا؛ فرحمته وخليت سبيله، قال: "أما إنه قد كذبك وسيعود"، فرصدته الثالثة، فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت: لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا آخر ثلاث مرات، إنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود؛ فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها! قلت: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} .. حتى تختم الآية؛ فإنك لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح؛ فخليت سبيله، فأصبحت؛ فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما فعل أسيرك البارحة؟ " قلت: يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها؛ فخليت سبيله، قال: "وما هي؟ "، قلت: قال لي: إذا أويت إلى فراشك، فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} ، وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص الناس على الخير؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إنه صدقك وهو كذوب، تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ " قلت: لا، قال: "ذاك شيطان"1. أقول: يخلص مما سبق أن الاسمين الكريمين - (الحي) و (القيوم) - قد وردا في القرآن الكريم مقترنين في مواضع ثلاث من سور البقرة، وآل عمران، وطه؛ ليفيدا   5 فتح القدير الجزء الأول ص 274. 1 صحيح البخاري. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 63 اتصاف الله جل وعلا - وهما كلمتان فحسب - بصفتي الحياة والقيومية؛ فالأولى تثبت له تعالى جميع صفات الكمال الفعلية المطلقة، ومن ثم وصفها الرسول صلى الله عليه وسلم بأنهما يعبران عن اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى، وإذا دعي به أجاب، فنسألك اللهم (يا حي يا قيوم) أن ترينا الحق حقا وترزقنا اتباعه، وأن ترينا الباطل باطلا وترزقنا اجتنابه، وأن لا تزيغ قلوبنا بعد إذ هديتنا، وأن تثبت قلوبنا على دينك، وأن تصرفها على طاعتك، وأن تختم لنا بخاتمة الإيمان. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 64 العلي : هم اسم من أسماء الله تعالى، وهو على وزن (فعيل) بمعنى فاعل، أي العالي، هو الذي ليس فوقه شيء2. أقول: وصفة العلو لله تعالى التي تؤخذ من اسمه (العلي) سبحانه، ثابتة بالكتاب والسنة، ومفهومها - على ما سأبين إن شاء الله تعالى عند بيان صفات الله سبحانه - أنه جل وعلا عال فوق عرشه، فهو مستو سبحانه بذاته استواء يليق به، بائن عن جميع خلقه، والعرش واحد من خلقه، وهو رغم ذلك مع خلقه، وأقرب ما يكون إليهم بعلمه، وإحاطته، وقدرته، وقهره، وسمعه، وبصره، وباقي صفاته المطلقة في الكمال، فهو سبحانه قريب في علوه، عال في دنوه، فضلا عن ذلك فالله - جل وعلا - علي في ذاته، وعلي في أسمائه، وعلي في صفاته، وعلي في أفعاله. وقد ورد اسم (العلي) في القرآن الكريم ثماني مرات1 على النحو التالي: ورد مرتين2 مقترنا باسم (العظيم) ، وذلك في قوله تعالى: 1- {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة آية 255) . 2- وفي قوله: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (الشورى آية 4) . أقول: وفي هاتين الآيتين نجد أن اسم (العلي) بما يتضمنه من صفة العلو في   2 مرجع الزجاج ص 48- بتصرف. 1 المعجم المفهرس. 2 المرجع المذكور. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 64 الذات، والأسماء، والصفات، والأفعال، الأمر الذي يدل على انفراده سبحانه بالكمال المطلق، وقد اقترن باسم (العظيم) بما يتضمنه من صفة العظمة في الذات والأسماء، والصفات، والأفعال، الأمر الذي يدل عل انفراده - سبحانه - بالقدرة المطلقة، اقتران بلغت العقول والقلوب إلى أن الله - عز وجل - في علاه فوق عرشه بما لا يطلع عليه أحد من خلقه في هذه الحياة الدنيا البتة، عظيم عظمة تتضمن القدرة على كل شيء، وتذل أمامها الخلائق فتنصاع صاغرة لعظمة الله (العلي العظيم) ؛ إذ إنه خالق ومالك ما في السموات وما في الأرض. وقد ورد اسم (العلي) في القرآن الكريم مقترنا باسم (الكبير) خمس مرات 3، على النحو التالي: 1- في قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (الحج آية 62) . أقول: في هذه الآية سبق الاسمان الكريمان (العلي الكبير) بإقرار قضية التوحيد لعظيم أهميتها، فقررت أن الله تعالى هو الإله الحق الذي لا ينبغي أن تصرف أي عبادة إلا له وحده، إذ إن صرف أي شيء منها، ودعاء غيره سبحانه هو الباطل الذي يجب أن ينأى عنه المسلم، ثم تقرر الآية أن الإله الحق الواجب تجريد العبادة له هو الله العلي الكبير. ويقول الإمام ابن كثير في تفسير هذه الآية: إن الله هو الإله الذي لا تنبغي العبادة إلا له، وأن كل ما عبد من دونه فهو باطل، لأنه لا يملك ضرا ولا نفعا، وأن الله هو العلي الذي لا أعلى منه، الكبير الذي لا أكبر منه، تعالى وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون المعتدون علوا كبيرا4. ويقول الإمام الشوكاني في تفسيرها: أي هو سبحانه ذو الحق؛ فدينه حق، وعبادته حق، ونصره لأوليائه على أعدائه حق، ووعده حق، فهو عز وجل في نفسه وأفعاله وصفاته حق، وأن الذين يدعونه إلها من الأصنام1 هو الباطل الذي لا ثبوت له، ولا لكونه إلها،   3 المعجم المفهرس. 4 تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 97. 1 أقول: أو غيرها من الطواغيت، سواء أكانت جبابرة أحياء، أو موتى، أو حيوانات، أو جمادات ينزل عندها الجاهلون الضالون، ويخشونها كخشية الله أو أشد خشية. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 65 وأن الله هو العالي على كل شيء بقدرته، المتقدس على الأشباه والأنداد، المتنزه عما يقول الظالمون من الصفات، وأنه سبحانه ذو الكبرياء، وهو عبارة عن كمال ذاته، وتفرده بالإلهية2. 1- وفي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (لقمان آية 30) . أقول: وما أقوله عن هذه الآية الكريمة من اقتران اسم (العلي) باسم (الكبير) ، ومن تصدر الآية بإقرار توحيد الله وتجريد العبادة له سبحانه، هو ما أقوله في هذه الآية، لتماثلها مع الآية السابقة. 2- وفي قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (سبا آية 23) . وهنا ترى الاسمين الكريمين (العلي الكبير) سُبقا بما بين الله جل وعلا من أن الملائكة حين يزول فَزَع قلوبهم من سماعهم كلام الله تعالى بالوحي يتساءلون عن قول الله عز وجل، فيقول بعضهم لبعض الحق الذي قال، وأقروا بأن الله هو العلي الكبير، فلا قول بعد قوله سبحانه. وقد ذكر ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية: أنه إذا خلي عن قلوبهم، وزال الفزع عنها، سأل بعضهم: ماذا قال ربكم؟ فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ثم للذين يلونهم لمن تحتهم، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا، ولهذا قال تعالى: {قَالُوا الْحَقَّ} أي أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 3. وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قضى الأمر ضربت الملائكة بأجنحتها خضعانا لقوله كأنه سلسلة على صفوان يَنْفُذُهم ذلك، حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ، فيسمعها مسترق السمع - ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض؛ وَصَفَه سفيان بكفه: فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه، فيكذب معها مائة كذبة، فقال: أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا، كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء" 1.   2 فتح القدير الجزء الثالث ص 465. 3 تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 407. 1 أخرجه الإمام البخاري. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 66 وروى ابن أبي حاتم - بسنده - عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا أراد الله تعالى أن يوحي بالأمر، تكلم بالوحي أخَذَت السموات منه رجفة - أو قال رعدة - شديدة؛ خوفا من الله عز وجل، فإذا سمع ذلك أهل السموات صعقوا وخروا لله سجدا، فيكون أول من يرفع رأسه جبريل، فيكلمه الله من وحيه بما أراد، ثم يمر جبريل على الملائكة، كلما مر بسماء سأله ملائكتها: ماذا قال ربنا يا جبريل؟ فيقول جبريل: قال الحق وهو العلي الكبير، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله عز وجل من السماء والأرض". 1- وفي قوله تعالى: {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} (غافر آية 12) . أقول: في هذه الآية الكريمة، نجد أنه قد ورد قبل الاسمين الكريمين (العلي الكبير) تقرير وتأكيد لأهمية توحيد الله عز وجل، وتوبيخ لأصحاب النار الذين يطلبون من ربهم أن يعيدهم إلى الدنيا ليعملوا صالحا غير الذي كانوا يعملون، لأنهم لم يقبلوا توحيد الله عز وجل في الدنيا، بل كانوا إذا دعوا إلى توحيده يكفرون، وإن يشرك به تعالى يؤمنون، فكان الحكم القاطع بعدم إجابتهم من الله العلي الذي ليس أعلى منه أحد، الكبير الذي ليس أكبر منه أحد، ومن ثم فلا حكم بعد حكمه سبحانه. وقد ذكر الإمام الشوكاني في هذه الآية أن الله سبحانه بين لهم السبب الباعث على عد إجابتهم إلى الخروج من النار، وهو ما كانوا فيه من ترك توحيد الله وإشراك غيره به في العبادة التي رأسها الدعاء، ثم ذكر في قوله تعالى: {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ} أي أنه وحده دون غيره، وهو الذي حكم عليهم بالخلود في النار وعدم الخروج منها، وفي قوله: (العلي) أنه المتعالي عن أن يكون له مماثل في ذاته ولا صفاته، وفي قوله: (الكبير) الذي كبر عن أن يكون له مثل، أو صاحبة، أو ولد، أو شريك2. أقول: ومن هنا يبين لنا أن الآية تدور حول بيان مدى أهمية قضية توحيد الله عز وجل، وجزاء من رفض توحيده سبحانه وأن الله (العلي الكبير) إذا حكم فلا معقب لحكمه.   2 فتح القدير الجزء 4 ص 484. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 67 1- وفي قوله تعالى: {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} (النساء آية 34) . أقول: في هذه الآية الكريمة نجد أن الاسمين الكريمين في قوله تعالى: {عَلِيّاً كَبِيراً} قد سبقا بقضية من القضايا الاجتماعية الخطيرة، وهي قضية قوامة الرجل على المرأة وحقه في تأديبها عند خوف نشوزها؛ فقررت الآية للرجل القوامة الكاملة على المرأة، لأنه هو الذي يتولى الذب عنها، والإنفاق عليها، وذلك بسبب تفضيله بما فضله الله تعالى بأن جعل منه الخليفة، والسلطان، والحاكم، والأمير، والغازي، والقاضي، وغير ذلك من الأمور التي خص الله عز وجل بها الرجل، ثم ذكرت الآية أن الزوجات الصالحات قانتات أي مطيعات لله بتأدية حقوقه وحقوق أزواجهن، وأنهن حافظات لأنفسهن ومال أزواجهن في غيبتهم بحفظ الله. ثم عالجت الآية قضية خوف نشوز المرأة، فحددت للرجل خطوات علاج لابد له أن يتبعها مع زوجته، وذلك أولا: بأن يعظها، ثانيا: بأن يهجرها في المضجع إن لم يثمر وعظها، وثالثا: بأن يضربها ضربا - غير مبرح كما بينت السنة المشرفة - إن لم يثمر هجرها، فإن أطاعت، فليس له أن يتعرض لها بسوء من قول أو فعل، فإن تعرض لها رغم طاعتها، فإن الله (العلي الكبير) يجازيه بعمله. وقد ذكر الإمام الشوكاني في قوله تعالى في هذه الآية: {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً} أن هذا إشارة إلى الأزواج بخفض الجناح ولين الجانب - أي في حالة طاعتهن - أي: وإن كانوا يقدرون عليهن، فليذكروا قدرة الله عليهم، فإنها فوق كل قدرة، والله بالمرصاد لهم1. وفضلا عما ذكرت، فقد ورد اسم (العلي) سبحانه مقترنا باسم (الحكيم) في القرآن الكريم مرة واحدة2 في قوله تعالى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (الشورى آية 51) .   1 فتح القدير – الجزء الأول ص 461 بتصرف - وأقول في إيجاز: والخطوة الرابعة في علاج الزوجة إن لم تثمر الثالثة هي بعث حكم من أهله وحكم من أهلها، إن يريدا إصلاحا يوفق الله بينهما، والخطوة الخامسة الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ويكون الطلاق رجعيا في طهر لم يمسها فيه، فإن طلقها بعد المرتين فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره. 2 المعجم المفهرس. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 68 أقول: في هذه الآية الكريمة نجد أن الاسمين الكريمين (العلي الحكيم) قد سُبقا ببيان الطريق الذي ينزل به وحي الله على من يختارهم من عباده، وذلك بإحدى طرق ثلاث: أولا: إما بالنفث في القلب، ثانيا: أو بالكلام من وراء حجاب دون أن يرى سبحانه، ثالثا: أو بإرسال ملك بالوحي الذي يريد سبحانه. وذلك لأنه (علي حكيم) بمعنى أنه متعال عن صفات النقص، وحكيم في كل أحكامه3. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 69 المتعالي : هو اسم من أسماء الله تعالى، على وزن (متفاعل) ، وهو من العلو، والله تعالى عال، ومتعال، وعلي1. وقد ورد هذا الاسم في القرآن الكريم مرة واحدة 2 في قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ} (الرعد آية 9) . أقول: وقد سبق الاسمان الكريمان (الكبير المتعال) في هذه الآية بإفراد الله - عز وجل - بعلم ما غُيِّب عن العباد وما لم يُغَيَّب عنهم، مما يدل على استئثاره سبحانه بهذا العلم. وقد ذكر الإمام ابن كثير عن هذين الاسمين (الكبير المتعال) في الآية المذكورة أن (الكبير) هو الذي أكبر من كل شيء، وأن (المتعال) هو المتعالي على كل شيء3. وقال الإمام الشوكاني في تفسيرها إن معنى (الكبير) العظيم الذي كل شيء دونه، ومعنى (المتعال) المتعالي عما يقوله المشركون، أو المستعلي على كل شيء بقدرته وعظمته وقهره4.   3 فتح القدير الجزء الرابع ص 544/ 545 بتصرف. 1 مرجع الزجاج ص 61. 2 المعجم المفهرس. 3 تيسير العلي القدير المجلد الثاني ص 205. 4 فتح القدير الجزء الثالث ص 68. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 69 الأعلى : هو اسم من أسماء الله تعالى، على وزن (أفعل) وهي بصيغة المبالغة، واسم (الأعلى) بالتعريف يفهم منه أنه تعالى هو وحده الأعلى في ذاته، وفي أسمائه، وفي أفعاله، ولا يوجد من هو أعلى منه في أي شيء على الإطلاق. وقد ورد اسم (الأعلى) في القرآن الكريم مرتين5: 1- في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} (الأعلى آية 1) . أقول: وقد سبق اسم (الأعلى) في هذه الآية الكريمة أمر من الله عز وجل أن نسبح اسمه، وهنا يثور التساؤل: هل التسبيح - وهو التنزيه عن كل ما لا يليق - للرب أو لاسمه تعالى؟ ذهب العلماء إلى رأيين: الأول: أن التسبيح إنما هو للرب جل وعلا، ومن ثم يكون (اسم) مقحما، وفي هذا يقول الإمام الشوكاني: المعنى: سبح ربك الأعلى. الثاني: أن التسبيح لاسم الرب جل وعلا، ومن ثم فلا يكون (اسم) مقحما، وفي هذا يقول الإمام ابن جرير: المعنى: نزه اسم ربك أن يسمى به أحد سواه. وقيل: المعنى: نزه تسمية ربك وذكرك إياه أن تذكره إلا وأنت خاشع معظم، ولذكره محترم. وقال الحسن: معنى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} صلِّ له. وقيل: المعنى: صلِّ بأسماء الله لا كما يصلي المشركون بالمكاء والتصدية. وقيل: المعنى: ارفع صوتك بذكر ربك. ثم هناك تساؤل آخر: هل الأعلى صفة للرب أو صفة الاسم؟ ذكر الإمام الشوكاني أنه قيل: إنه صفة للرب، ويرى أن هذا الرأي هو أولى. وقيل: إنه صفة للاسم1. وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم يحب سورة الأعلى؛ فقد روى الإمام أحمد عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب هذه السورة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ) ، تفرد به أحمد. كما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في أكثر من مناسبة؛ فقد روى الإمام أحمد عن النعمان بن بشير أن رسول الله صلى 5 المعجم المفهرس.   1 فتح القدير الجزء الخامس ص 423. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 70 الله عليه وسلم قرأ في العيدين بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ، وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا) ، ولفظ الإمام مسلم وأهل السنن: (كان يقرأ في العيدين ويوم الجمعة بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، و {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ} ، وربما اجتمعا في يوم واحد فقرأهما) . وروى الإمام أحمد عن كعب وعبد الله بن عباس وعبد الرحمن بن أبزى وعائشة أم المؤمنين (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في الوتر بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} و {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ} و {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} ، وزادت عائشة: والمعوذتين) . بل ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث على الصلاة بسورة الأعلى؛ فقد جاء في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ: "هلا صلَّيت بـ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى} ، {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} ، {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} ) . أقول: مما أسلفت يتبين أن اسم (الأعلى) - وقد سبق بالأمر بتنزيه ربنا تعالى أو اسمه، بمعنى الإقرار بجميع صفات كماله، وإبعاده عن جميع صفات النقص - يدل على أهمية قضية توحيد الله عز وجل في مناسبات عديدة في مواضع مختلفة من القرآن الكريم. 1- وفي قوله تعالى: {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} (الليل آية 19، 20) . أقول: وقد سبق اسم (الأعلى) في هذه الآية بيان أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه ما كان يبذل ماله ليكافئ من أسدى إليه معروفا، فيكون إعطاؤه إياه مقابل معروفه، وإنما كان بذله ابتغاء وجه ربه الأعلى، طاعة له ليزكي نفسه وماله؛ بمعنى أنه - رضي الله عنه - إنما كان يتصدق مبتغيا بصدقته وجه الله تعالى خالصا، لا ليجازي بصدقته صاحب نعمة عليه. ومن هذا يتبين لنا أن اسم (الأعلى) قد سبق بإقرار قضية التوحيد بإخلاص العمل لله تعالى وحده، دون أن يكون لأي من البشر فيه نصيب. وقد ذكر الإمام الشوكاني في معنى الآية المذكورة: أنه ليس لأحد من الناس عنده نعمة من شأنها أن يجازي عليها حتى يقصد بإيتاء ما يؤتي من ماله مجازاتها، وإنما لا يؤتي إلا لابتغاء وجه ربه لا لمكافأة نعمة1.   1 فتح القدير الجزء الخامس ص 454. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 71 وقد ذكر غير واحد من المفسرين أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، حتى إن بعضهم حكى الإجماع من المفسرين على ذلك. ولا شك أنه داخل فيها، وأولى الأمة بعمومها، فإن لفظها لفظ العموم، وهو قوله تعالى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى} (الليل آية 17- 18) . ولكنه مقدم الأمة وسابقهم في جميع هذه الصفات، وسائر الأوصاف الحميدة، فإنه كان صديقا، تقيا، كريما، جوادا، بذالا لأمواله في طاعة مولاه، ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، رضي الله عنه وأرضاه2. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 72 العظيم : هو اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فعيل) بصيغة المبالغة، بما يدل على منتهى العظمة لله تعالى، بحيث لا تعلوها عظمة مخلوق. وبهذا الاسم الكريم أثبت الله جل جلاله لنفسه العظمة المطلقة في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله. وقد ورد اسم (العظيم) في القرآن الكريم ست مرات3 على النحو التالي: 1- في قوله تعالى: {وَلا يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (البقرة آية 255) . أقول: وقد سبق أن أشرت إلى اقتران الاسمين الكريمين (العلي العظيم) عند الكلام على اسم (العلي) . وأضيف هنا أن اسم (العظيم) وقبله (العلي) قد سبقا في هذه الآية الكريمة ببيان القدرة المطلقة لله تعالى، التي من مظاهرها حفظ السموات والأرض، ولا يثقله - سبحانه – هذا الحفظ أدنى ثقالة، وإثبات كمال القدرة لله تعالى، وهي من باب إثبات أسمائه - جل وعلا - وصفاته، وهو قسم من أقسام توحيد الله عز وجل. 2- وفي قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} (الشورى آية 4) .   2 تيسير العلي القدير المجلد الرابع ص 399 3 المعجم المفهرس. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 72 أقول: وقد سبق الاسمان الكريمان (العلي العظيم) في هذه الآية الكريمة ببيان تجريد الربوبية لله سبحانه - التي من مظاهرها بأنه هو وحده الملك للسموات والأرض وما فيهن، وتجريد الربوبية له تعالى قسم من أقسام توحيد الله عز وجل. 1- وفي قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الواقعة آية 74) . أقول: وقد سبق الاسم الكريم (العظيم) في هذه الآية بالأمر بالتسبيح باسم ربنا تعالى، ومعنى هذا الأمر: أن ننزهه عما لا يليق بشأنه كما يذكر الإمام الشوكاني1. وتنزيهه سبحانه على هذا الوجه معناه إثبات كل صفات الكمال له تعالى، وهذا الأمر من مباحث توحيد الله عز وجل. 2- وفي قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الواقعة آية 96) . أقول: وما ذكرته في الآية السابقة هو ما أقرره في هذه الآية؛ لأن الأمر فيهما واحد. 3- وفي قوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} (الحاقة آية 33) . أقول: وقد سبق الاسم الكريم (العظيم) في هذه الآية بذكر حال الذي يؤتى كتابه بشماله - يوم تعرض الخلائق على الله - فيدخل في سلسلة طولها سبعون ذراعا ثم يرمى في الجحيم، وبيان أنه ما كان يؤمن بالله (العظيم) فلم يطعه، ولم يؤيد ما أوجبه تعالى عليه من حقوق سبحانه، فضلا عن حقوق العباد، والإيمان بالله يترتب عليه الائتمار بما أمر، والانتهاء عما نهى، وهذا الإيمان إنما يعني توحيد الله عز وجل. 4- وفي قوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} (الحاقة آية 52) . أقول: وقد سبق الاسم الكريم (العظيم) في هذه الآية بالأمر بتنزيه الله تعالى عما لا يليق، إذ إنه لا يأتي منه إلا بكل خير، والقرآن الكريم جاء من عنده تعالى، لذلك كان حق اليقين؛ فجاءت الآية السابقة (وإنه لحق اليقين) أي: أن القرآن لأنه من عند الله؛ فهو حق لا يحول حوله ريب، ولا يتطرق إليه شك، والقرآن هو كلام الله تعالى، وكلامه سبحانه صفة من صفاته، والصفات من مباحث توحيد الله عز وجل.   1 فتح القدير الجزء الخامس ص 162. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 73 ومن ثم يبدو أن أسماء الله تبارك وتعالى غالبا ما تأتي بعد قضية توحيد الله جل وعلا، وتجريد العبادات له سبحانه. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 74 الغني : هم اسم من أسماء الله تعالى، يتضمن أن الله جل وعلا غني غنى مطلقا عن جميع خلقه، فليس محتاجا إلى أي منهم، لأنه سبحانه هو خالق الخلق، ومالكه، ومدبر أمره، وخزائن كل شيء عنده وحده، يمد منها خلقه بقدر معلوم حسب مشيئته هو سبحانه كما قال: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (لحجر آية 21) ومن كانت صفاته بهذه المثابة، فلا يمكن أن يحتاج البتة إلى واحد من خلقه، إذ إن الذي يحتاج إلى غيره لا يصلح أن يكون إلها، ومن ثم إلهنا العظيم هو (الغني) على الإطلاق. وقد ورد هذا الاسم الكريم (الغني) في القرآن الكريم ثماني عشرة مرة1، على النحو التالي: ورد عشر مرات 2 مقترنا باسم (الحميد) سبحانه، وذلك على مثل ما يلي: 1- في قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (البقرة آية 267) . أقول: وقد سبق الاسمان الكريمان (الغني الحميد) في هذه الآية الكريمة بأمر الله تعالى لنا بأن نعلم أن الله تعالى (غني حميد) ، فهو المتصف بالغنى المطلق، والمستحق للحمد المطلق، وذلك بعد أن أمر المؤمنين - في الآية ذاتها - أن ينفقوا من طيبات ما كسبوا ومما أخرج الله تعالى لهم من الأرض، وأن لا ينفقوا من الخبيث، إذ إنهم لا يقبلون أخذه إلا تساهلا وتجاوزا عن بعض حقوقهم، ومع أمر الله لهم إلا بالإنفاق من الطيبات، فالله غني - على الإطلاق - عن إنفاقهم، ومستحق للحمد على كل ما أمر وفعل. وقد ذكر الإمام ابن كثير في معنى قوله {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} أن الله تعالى وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها، فهو غني عنها، وما ذلك إلا ليساوي الغني الفقير، كقوله تعالى: {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} ، وهو غني عن جميع خلقه،   1 المعجم المفهرس. 2 المعجم المفهرس. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 74 وجميع الخلق فقراء إليه، وهو واسع الفضل، لا ينفذ ما لديه، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب، فليعلم أن الله غني واسع العطاء، كريم جواد، وسيجزيه بها، ويضاعفها له أضعافا كثيرة، فالذي يقرضه غير عديم ولا ظلوم. وهو سبحانه الحميد أي المحمود في جميع أفعاله، وأقواله، وشرعه، وقدره، لا إله إلا هو، ولا رب سواه3. أقول: ولو أن العبد علم أن من أسماء الله تعالى (الغني) ، وأن خزائنه ملأى لا تنقص ولا تنفذ، لجرد كل اعتماده عليه سبحانه، ولما طلب مددا من غيره جل شأنه، ولما لجأ إلى ما يزين له الشيطان من الاستمداد من الأحياء، والموتى، بل ومن الجمادات، لأن الله - وحده - هو الذي يملك أن يمد بكل أنواع الإمدادات، وقد أشار سبحانه إلى هذا في قوله: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَاراً وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَاراً} (نوح آية 10- 12) 2- وفي قوله تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} (إبراهيم آية 8) . أقول: وقد سبق الاسمان الكريمان (الغني الحميد) ببيان قول رسول الله موسى عليه السلام - وهو من أولي العزم من الرسل - أنه لو كفر قومه وهم بنو إسرائيل، وكفر الناس جميعا؛ فإن كفرهم لن يضر الله شيئا، فهو سبحانه الغني غنى مطلقا عن خلقه جميعا، المحمود على كل أوامره وأفعاله. وقد قال الإمام ابن كثير في بيان هذه الآية الكريمة: إن الله تعالى هو غني عن شكر عباده، وهو الحميد المحمود وإن كفره من كفره كقوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ..} الآية، فسبحانه وتعالى الغني الحميد1. وقد قال الإمام الشوكاني في بيان الآية ذاتها: أي إن تكفروا نعمته تعالى أنتم وجميع الخلق ولم تشكروها، فإن الله سبحانه {الْغَنِيُّ} عن شكركم لا يحتاج إليه، ولا يلحقه بذلك نقص {الْحَمِيدُ} أي مستوجب للحمد لذاته لكثرة إنعامه، وإن لم تشكروه، أو يحمده غيركم من الملائكة2.   3 تيسير العلي القدير المجلد الأول ص 230- 231. 1 تيسير العلي القدير المجلد الثاني ص 426. 2 فتح القدير الجزء الثالث ص 96. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 75 1- وفي قوله تعالى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (الحج آية 64) . أقول: وقد سُبق الاسمان الكريمان (الغني الحميد) في هذه الآية الكريمة ببيان ملك الله عز وجل لكل ما في السموات وما في الأرض، فهو خالق كل شيء وحده، ومالك كل شيء وحده، ومدبر أمر كل شيء وحده، وهذا يدل على كمال ربوبيته وكمال غناه عن خلقه سبحانه. وقد قال الإمام ابن كثير في بيان هذه الآية الكريمة: إن كل شيء في السموات والأرض ملكه وحده لا شريك له سبحانه، وهو (الغني الحميد) أي المستغني عما سواه، المستوجب الحمد من عباده في كل حال3. وقال الإمام الشوكاني في بيان الآية ذاتها: إن الله تعالى {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} خلقا وملكا وتصرفا، وكلهم محتاجون إلى رزقه، {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ} فلا يحتاج إلى شيء، {الْحَمِيدُ} المستوجب للحمد في كل حال4. 4- وفي قوله تعالى: {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (لقمان آية 26) أقول: وما ذكرته في الآية الثالثة يصدق على هذه الآية؛ لتضمنها تقريبا المعنى نفسه. 1- وفي قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (لقمان آية 12) . أقول: وقد سبق الاسمان الكريمان (الغني الحميد) في هذه الآية الكريمة ببيان أن الله تعالى أعطاه الحكمة وأمره أن يشكر وحده على ما أنعم به عليه، إذ إن الشكر ينفع الشاكر وحده، والذي يجحد النعم ولا يشكرها فلن يضر الله بكفره؛ لأنه سبحانه ليس في حاجة إلى شكر شاكر، فهو الغني المستحق لكافة أنواع الحمد. ويفهم من هذا أن المنعم وحده هو الله تعالى، وهذا من كمال ربوبيته، وبهذا يستحق الشكر وحده، فهو المستغني عن كل خلقه، الواجب الحمد منهم على كل حال.   3 تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 98. 4 فتح القدير الجزء الثالث ص 466. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 76 وقد قال الإمام ابن كثير في معنى هذه الآية الكريمة: إن الله تعالى آتى لقمان1 الفهم، والعلم والتعبير، والفقه في الإسلام، ولم يكن نبيا ولم يوح إليه، وأمره بشكره على ما آتاه من الفضل الذي خصصه به عمن سواه من أبناء جنسه وأهل زمانه، وأن الشكر يعود نفعه على الشاكرين، أما الله تعالى فليس بحاجة إلى العباد، ولا يتضرر ولو كفر أهل الأرض جميعا، فإنه الغني عما سواه، فلا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه2. مما سبق يتبين أن اسم (الغني) جاء في أغلب الآيات بعد إقرار قضية توحيد الله عز وجل. وقد ورد اسم (الغني) مقترنا باسم (الحليم) سبحانه مرة واحدة 3: في قوله تعالى: {قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذىً وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} (البقرة آية 263) . أقول: واقتران الغني بالحليم أفهم منه أنه سبحانه مع غناه المطلق الذي لا يحتاج به إلى أحد من خلقه؛ فإنه حليم عليهم حين يعصونه، والمعهود في عرف الناس أن الغني منهم - وغناه محدود - لا يحلم على عبده لو عصاه، لكن الله جل وعلا - وله المثل الأعلى - مع غناه المطلق حليم بعباده العاملين. وقد سبق هذان الاسمان الكريمان ببيان أن المنفق إذا أتبع صدقته بالقول الطيب والغفران - لأنه ينفق ابتغاء وجه الله الذي لا توجه العبادة إلا له وحده سبحانه - فإن ذلك يكون خيرا له من اتباعه إنفاقه بما يؤذي من أعطاه، ولا يتأتى القول الطيب والمغفرة إلا من المنفق المؤمن الموحد الذي يؤمن بأن الذي أعطاه ما ينفق منه إنما هو ربه (الغني) الذي لا ينفد عطاؤه، ومن ثم خرج كلامه طيبا، من قلب طيب، عل لسان طيب. ورغم ذلك فإن صدر منه خطأ - وكل بني آدم خطاء – وجد أن الله (الغني) هو سبحانه (الحليم) الذي يتجاوز عن مثل خطئه لدوام رجوعه إلى ربه وتوبته. وقد ذكر الإمام ابن كثير في قوله تعالى: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} - في هذه الآية - أن الله غني عن خلقه يحلم ويغفر ويصفح4. وقد ورد اسم (الغني) مقترنا باسم (الكريم) سبحانه مرة واحدة 5: في قوله تعالى: {وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} (النمل آية 40) .   1 اختلف السلف في لقمان: هل كان نبيا أو عبدا صالحا من غير نبوة؟ على قولين: فالأكثرون على الثاني، وعن ابن عباس أنه كان عبدا حبشيا نجارا، وعن جابر بن عبد الله قال: كان قصير أفطس الأنف من النوبة، وعن سعيد بن المسيب قال: كان لقمان من سودان مصر، أعطاه الحكمة ومنعه النبوة. (تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 325) . 2 المرجع السابق ص 326. 3 المعجم المفهرس. 4 تيسير الكريم الرحمن المجلد الأول ص 228. 5 المعجم المفهرس. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 77 أقول: واقتران (الغني بالكريم) أفهم منه أنه سبحانه مع غناه المطلق عن خلقه، فهو الكريم كرما مطلقا لا يسلب عباده الذين يعصونه نعمه التي تفضل بها عليهم إلا بعد أن يذكروا ويوعظوا ويبين لهم، فإذا نسوا ما ذكروا به بعد توالي نعمه سلبهم ما أعطاهم بأخذه بغتة كما يقول تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} (النعام آية 44) . والمعهود في عرف الناس أن الغني منهم إذا عصاه عبده سلب منه ما أعطاه عاجلا؛ إذ يضيق صدره بعصيان عبده إياه، فيرى في لحظة عصيانه أنه لا يستحق خيره وعطاءه، فيسارع إلى استعادة ما أعطاه، لكن الله جل وعلا - وله المثل الأعلى - في غناه المطلق، واسع الكرم لا يسلب عباده العاصين بمجرد عصيانهم نعمه، بل يمهلهم - دون إهمال - بل قد يزيد في الإنعام عليهم، فإذا ما ظلوا في غيهم سادرين أخذهم أخذ عزيز مقتدر. وقد ذكر الإمام ابن كثير في بيان قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} أي هو غني عن العباد وعبادتهم، كريم في نفسه وإن لم يعبدوه، فإن عظمته ليست مفتقرة إلى أحد، وهذا كما قال موسى عليه السلام: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} 1. وذكر الإمام الشوكاني أن الشكر لا ينفع إلا الشاكر، {وَمَنْ كَفَرَ} بترك الشكر {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} عن شكره، {كَرِيمٌ} في ترك المعاجلة بالعقوبة بنزع نعمه عنه وسلبه ما أعطاه منها2. أقول: وبهذه المناسبة أود أن أذكر أن الله (الغني) سبحانه، يحتاج إليه كل خلقه صغر أم كبر، إنسيا أم جنيا، طيرا أم زاحفا، وحشا أم مستأنسا، فالكل فقير في أمس الحاجة إلى فضل ربهم (الغني) سبحانه وتعالى. وقد أخرج ابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال: (خرج سليمان بن داود يستسقي بالناس، فمر على نملة مستلقية على قفاها رافعة قوائمها إلى السماء، وهي تقول: اللهم إنا خلق من خلقك، ليس بنا غنى عن رزقك، فإما أن تستقينا، وإما أن تهلكنا؛ فقال سليمان للناس: ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم) .   1 تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 239. 2 فتح القدير الجزء الرابع ص 139. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 78 فهذه نملة هداها الله إلى أن تدعوه وتقول: ليس بنا غنى عن رزقك. فاستجاب الله تعالى لدعائها، وسقى قوم سليمان بدعاء النملة كما ذكر سليمان لهم: (ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم) . أقول: فلو أن الإنسان - الذي كرمه الله تعالى وفضله على كثير ممن خلق تفضيلا - علم أن خالقه سبحانه هو الغني الذي بيده وحده كل الخير، وواسع الفضل، وآمن بأنه لا يدعى ولا تطلب النعم إلا منه جل وعلا، لاطمأن قلبه من فزع الجوع وخوف الفقر، ولسلب أموره التي فوضها للعباد، وأدعيته التي وضعها بين أيديهم، ليضعها في يد خالقه الغني رب العالمين، الذي يقدر وحده أن يمده بما شاء من فضله، إذ إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم. وقد ورد اسم (الغني) مقترنا بما وصف به نفسه تعالى بقوله {ذُو الرَّحْمَةِ} مرة واحدة 1 في القرآن الكريم: في قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ} (الأنعام آية 133) . أقول: واقتران اسم (الغني) في هذه الآية بقوله تعالى: {ذُو الرَّحْمَةِ} أفهم منه أنه تعالى مع غناه المطلق الذي لا يحتاج به إلى واحد من خلقه، والذي به ينعم بما يشاء من النعم على خلقه، فهو تعالى رحيم بمن عصاه من خلقه، لا يعاجلهم بعقوبته فور عصيانهم، كما نرى المعهود بين الناس - ولله المثل الأعلى - فالغني منهم إذا عصاه عبده سرعان ما يوقع به عقوبته، محاولا أن يجعلها تناسب جرمه، لكن الله جل وعلا واسع الرحمة يمهل عباده العاصين لعلهم يرجعون إليه ويتوبون، وفي هذا يقول سبحانه: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} (النحل آية 61) . وقد ذكر الإمام ابن كثير في بيان قوله تعالى: {وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ} إلى قوله {قَوْمٍ آخَرِينَ} أنه الغني عما سواه، المفتقر إليه كل ما عداه، وهو مع ذلك رحيم بهم، فإن شاء أذهبهم إذا خالفوا أمره، ويستخلف من بعدهم ما يشاء من قوم آخرين يطيعونه، كما أذهب   1 المعجم المفهرس. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 79 القرون الأولى وأتى بمن بعدها، كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بغيرهم، كما قال تعالى: {وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} 2. وقال الإمام الشوكاني في بيان الآية ذاتها: وربك الغني عن خلقه لا يحتاج إليهم ولا إلى عبادتهم، لا ينفعه إيمانهم ولا يضره كفرهم، ومع كونه غنيا عنهم؛ فهو ذو رحمة بهم لا يكون غناه مانعا من رحمته لهم. وما أحسن هذا الكلام الرباني وأبلغه، وما أقوى الاقتران بين الغنى والرحمة في هذا المقام، فإن الرحمة لهم مع الغنى عنهم، هي غاية التفضل والتطوّل، إذ لو شاء لاستأصل العصاة بالعذاب المفضي إلى الهلاك، ويستخلف من بعد إهلاكهم ما يشاء من خلقه ممن هو أطوع له وأسرع إلى امتثال أحكامه منهم؛ مثل ما استخلف غيرهم الذين أنشأهم من ذرية قوم آخرين أهلكهم - قيل: هم أهل سفينة نوح - ولكنه سبحانه لم يشأ ذلك فلم يهلكهم، ولا استخلف غيرهم رحمة لهم، ولطفا بهم3. وقد ورد اسم (الغني) سبحانه في القرآن الكريم دون أن يقترن بغيره من أسماء الله تعالى الحسنى خمس مرات 1: على ما يلي: 1- في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (آل عمران آية 97) . أقول: وقد سبق اسم (الغني) سبحانه في هذه الآية الكريمة ببيان وجوب أداء حج بيت الله الحرام لكل من يستطيع السبيل لبلوغه، وإبراز أن الحج إنما هو لله وحده، واعتبر المستطيع الذي يتقاعس عن أداء هذا الركن من أركان الإسلام كافرا، وكفره عليه، فلن يضر الله به شيئا، إذ إن الله غني عنه وعن عبادته وعن العالمين جميعا، وتجريد العبادة لله وحده هو من توحيده سبحانه. وقد قال الإمام ابن كثير في بيان قوله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} : إن من جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه. وروى سعيد بن منصور عن عكرمة قال: لما نزلت: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ} قالت اليهود: فنحن مسلمون، قال الله عز وجل: فأخصمهم فحجهم، يعني فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله فرض على المسلمين حجّ البيت من استطاع إليه سبيلا"، فقالوا: لم يكتب علينا وأبوا أن يحجوا، قال الله تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} 2.   2 تيسير العلي القدير المجلد لثاني ص 58- بتصرف قليل. 3 فتح القدير الجزء الثاني ص 164- بتصرف قليل. 1 المعجم المفهرس. 2 تيسير العلي القدير المجلد الأول ص 295- 296. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 80 وقال الإمام الشوكاني في بيان الآية ذاتها: قيل إنه عبر بلفظ الكفر عن ترك الحج تأكيدا لوجوبه وتشديدا على تاركه، وقيل المعنى: ومن كفر بفرض الحج ولم يره واجبا، وقيل: إن من ترك الحج وهو قادر عليه فهو كافر، وما شرع الله تعالى لعباده هذه الشرائع إلا لنفعهم ومصلحتهم، وهو - تعالى شأنه وتقدس سلطانه - غني لا تعود إليه طاعات عباده بأسرها بنفع3. 1- وفي قوله تعالى: {وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} (العنكبوت آية 6) . أقول: وقد سبق اسم (الغني) سبحانه في هذه الآية ببيان أن جهاد الإنسان - وهو عبادة عدت ذروة سنام الإسلام – لا ينفع سواه، وهكذا شأن كل أعماله، ولا ينفع الله شيئا، فهو سبحانه غني عن كل العالمين، ويتبين أن ذكر العبادة التي تجرد لله تعالى - وهذا من توحيده - سبق ذكرها اسمه (الغني) سبحانه وتعالى. وقد ذكر الإمام ابن كثير في بيان هذه الآية الكريمة: أن من جاهد فإنما يعود جهاده على نفسه، فإن الله غني عن أفعال العباد، ولو كانوا على أتقى قلب رجل منهم ما زاد ذلك في ملكه شيء4. وقال الإمام الشوكاني في بيان الآية نفسها: أن من جاهد الكفار وجاهد نفسه بالصبر على الطاعات فإنما يجاهد لنفسه، أي ثواب ذلك له لا لغيره، ولا يرجع إلى الله سبحانه من نفع ذلك شيء، فلا يحتاج إلى طاعة العالمين كما لا تضره معاصيهم1. 2- وفي قوله تعالى: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} (الزمر آية 7) . أقول: إن اسمه الكريم (غني) ذكر معه بيان أن عدم توجيه العبادات لله تعالى لعدم الإيمان به لا يضر الله شيئا، بل ضرره على صاحبه لعدم توحيده، ورغم هذا فالله تعالى لا يرضى لعباده أن يكفروا، ولكنه يرضى لهم أن يشكروا. ويتبين من هذا ومما سبق من الآيات أن الأسماء الحسنى تذكر غالبا مقترنة مع بيان توحيد الله عز وجل، مما يؤكد أهمية توحيد صاحب هذه الأسماء الكريمة.   3 فتح القدير الجزء الأول ص 363- بتصرف قليل. 4 تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 284. 1 فتح القدير الجزء الرابع ص 193. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 81 وقد قال الإمام ابن كثير في بيان هذه الآية الكريمة: إن الله تعالى يخبر عن نفسه تبارك وتعالى أنه الغني عما سواه كما قال موسى عليه السلام: {إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، وكما جاء في صحيح مسلم: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا"، ومع ذلك فالله لا يحب الكفر لعباده ولا يأمر به، ولكن يحب لهم أن يشكروا ويزيدهم من فضله2. وقال الإمام الشوكاني في بيان الآية ذاتها: إنه تعالى غير محتاج إليكم، ولا إلى إيمانكم، ولا إلى عبادتكم له، فإنه الغني المطلق، ومع كون كفر الكافر لا يضره كما أنه لا ينفعه إيمان المؤمن فهو سبحانه لا يرضى لأحد من عباده الكفر، ولا يحبه، ولا يأمر به. وقد اختلف المفسرون في قوله تعالى: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} هل هي عامة أم خاصة؟ فذهب فريق إلى أنها عامة لعباد الله جميعا؛ فالكفر غير مرضي لله سبحانه على كل حال كما هو الظاهر؛ فقد أخرج عبد بن حميد عن قتادة قال: والله ما رضي الله لعبد ضلالة، ولا أمره بها، ولا دعا إليها، ولكن رضي لكم طاعته، وأمركم بها، ونهاكم عن معصيته. وذهب فريق - منهم ابن عباس رضي الله عنهما، على ما أخرجه عنه ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات في قوله: {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} - أنهم عباده المخلصون الذين قال عنهم: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} ؛ فألزمهم شهادة أن لا إله إلا الله وحببها إليهم، وأخرج عبد بن حميد عن عكرمة أن المعنى: لا يرضى لعباده المسلمين الكفر3. 1- وفي قوله تعالى: {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (يونس آية 68) . أقول: إن من لديه أدنى ذرة من عقل يعلم يقينا أن الله سبحانه لا يمكن أن يتخذ ولدا، لأن اتخاذ الولد مظهر من مظاهر الحاجة، إذ إن المعهود في الإنسان أنه يتخذ الولد لحاجته إليه ليحمل اسمه ويبقى ذكره بعد موته، وليعينه في حياته إذا عجز أو كبر،   2 تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 497. 3 فتح القدير الجزء الرابع ص 453- 454. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 82 وليمده بما يقتات به إذا افتقر، والله تعالى - وله المثل الأعلى - لا يتصور عاقل أن يتخذ له ولدا، لأن اتخاذ الولد دليل على حاجة متخذه إليه، والمحتاج إلى غيره لا يصلح أن يكون إلها، فسبحان الله العلي الكبير أن يحتاج لغيره، فهو (الغني) عن خلقه جميعا، وآية ذلك أنه خالق السموات والأرض وما فيها وما بينهما، ومالك الخلق جميعا ومدبر أمره وحده سبحانه وتعالى. وتجريد الربوبية لله تعالى على هذه الصورة لينبني عليه توحيد الألوهية ثم توحيد الأسماء والصفات أكمل تجريد لتوحيد الله عز وجل؛ ومن ثم نرى أن أسماء الله تعالى تذكر غالبا بإقرار قضية توحيد الله تبارك وتعالى لعظيم أهميته في صحة الأعمال. وقد ذكر الإمام ابن كثير في بيان هذه الآية الكريمة أن الله تعالى ينكر على من ادعى أن له ولدا، {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} أي تنزه عن أن يكون له ولد، بل هو الغني عن كل ما سواه، إذ كيفي كون له ولد مما خلق وكل شيء مملوك وعبد له؟ 1. وذكر الإمام الشوكاني في بيان الآية نفسها: أن هذا نوع آخر من أباطيل المشركين التي كانوا يتكلمون بها، وهو زعمهم بأن الله سبحانه اتخذ ولدا، فرد ذلك عليهم بقوله: {سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ} ؛ فتنزه جل وعلا عما نسبوه إليه من هذا الباطل البين، وبين أنه غني عن ذلك، وأن الولد إنما يطلب للحاجة، والغني المطلق لا حاجة له حتى يكون له ولد يقضيها، وإذا انتفت الحاجة انتفى لولد، وأيضا إنما يحتاج إلى الولد من يكون بصدد الانقراض ليقوم الولد مقامه، والأزلي القديم لا يفتقر إلى ذلك، ثم بالغ في الرد عليهم بما هو كالبرهان فقال: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} وإذا كان الكل له وفي ملكه فلا يصح أن يكون شيء مما فيها ولدا؛ للمنافاة بين الملك والبنوة والأبوة2. 1- وفي قوله تعالى: {هَا أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ} (محمد آية 38) . أقول: وقد سُبق اسم (الغني) سبحانه في هذه الآية الكريمة ببيان نوع من أنواع العبادة وهو الإنفاق، وأنه لا يكون مقبولا إلا إذا جرد لله تعالى وحده، وأن الذي لا يكون موحدا بالله ومؤمنا بأسمائه الحسنى وصفات كماله العليا - ومنها أنه الغني وغناه مطلق لأنها نهاية له - فيبخل بالإنفاق خالصا لوجهه تعالى، فإنما يقع ضرر ذلك عليه وحده، ولا يضر الله شيئا، لأنه سبحانه هو الغني وخلقه هو الفقراء إليه، وإن استمروا على عدم توحيدهم مدبرين   1 تيسير العلي القدير المجلد الثاني ص 309. 2 فتح القدير لجزء الثاني ص 460. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 83 فإن الله قادر على أن يذهبهم ويأت بأقوام غيرهم آخرين يعرفون الله تعالى ويخلصون له توحيده وأعمالهم. وهذا يستفاد منه أن توحيد الله عز وجل في غاية الأهمية، وفاقده على خطر عظيم. وقد قال الإمام ابن كثير في بيان الآية الكريمة: إن من يبخل أضاع على نفسه الأجر وعود الوبال عليه، والله الغني عما سواه، وفقير إليه ما عداه، ولذا قال تعالى: {وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} أي بالذات إليه فوصفه بالغنى، ووصف الخلق بالفقر لازم لهم لا ينفكون عنه، كما ذكر تعالى أنهم إن تولوا عن طاعته واتباع شرعه استبدل قوما غيرهم ثم لا يكونوا أمثالهم، ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره1. وقال الإمام الشوكاني في بيان الآية ذاتها: إنكم أيها المؤمنون تدعون لتنفقوا في الجهاد وفي طريق الخير فمنكم من يبخل بما يطلب منه ويدعى إليه من الإنفاق في سبيل الله، وإذا كان منكم من يبخل باليسير من المال فكيف لا تبخلون بالكثير وهو جميع الأموال، ثم بين سبحانه أن ضرر البخل عائد على النفس بمنعها الأجر والثواب ببخله، فإن الله هو الغني المطلق المتنزه عن الحاجة إلى أموالهم، وأنتم الفقراء إلى الله وإلى ما عنده من الخير والرحمة، وأنكم إن تعرضوا عن الإيمان والتقوى يستبدل قوما آخرين يكونون مكانكم أطوع لله منكم ثم لا يكونوا أمثالكم في التولي عن الإيمان والتقوى2. أقول: وهذا يستفاد منه أن الإيمان بالله تعالى وحده وتجريد الأعمال جميعا له في غاية الأهمية، وفاقد ذلك على خطر عظيم. نسألك اللهم أن تثبت قلوبنا على دينك، وأن ترسخ في قلوبنا عقيدة التوحيد، وأن ترزقنا العمل بما تقتضيه، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة، إنك أنت الوهاب.   1 تيسير العلي القدير المجلد الرابع ص 67. 2 فتح القدير ص 42. الجزء: 47 - 48 ¦ الصفحة: 84 مدخل ... مفهوم الأسماء والصفات فضيلة الشيخ/ سعد ندا المدرس بالجامعة الإسلامية الحلقة الرابعة في حلقات ثلاثٍ مَضَيْن، ذكرت تسعا وثلاثين اسما من أسماء الله الحسنى، وألقيتُ أضواء على بعض معانيها بحسب ما يسَّر الله عز وجل لي من فهم، وأشرتُ إلى أن تلك الأسماء وردت في القرآن الكريم مرات بلغ مجموعها (2758) ثماني وخمسين وسبعمائة وألفي مرة في مواضع مختلفة. والذي يهمني أن أؤكده في كل حلقة من هذه الحلقات: أن تكرار أسماء الله الحسنى في القرآن الكريم -فضلا عن السنة المشرفة- بهذه الأعداد الضخمة، لم يأت عبثاً، ولم يكن أمراً عشوائياً، وإنما هو لَفْتٌ إلى عِظَمِ أهمية هذه الأسماء، وضرورة تعرف المسلم عليها، لأن كل اسم منها يتضمن صفة كمال لله تبارك وتعالى، وصفات كماله -جلَّ وعلا- يتحتم على كل مسلم أن يعرفها، إذ لا يمكن أن يعبد إلهاً يجهله، وسبيل معرفته –سبحانه- لا تكون إلا بمعرفة أسمائه الحسنى، وصفات كماله العُلى. ومن ثمَّ تتضح الضرورة الملحَّة للمسلم التي تلزمه بمعرفة أسماء الله تعالى وصفاته، إذ هي سبيله إلى توحيده سبحانه، وتوحيده هو الوسيلة الوحيدة لتصحيح عمله وقبوله. وإتماماً لما بدأت في الحلقات الثلاثة السابقة، أعرض -بحول الله وقوته- بعضاً آخر من الأسماء الحسنى، محاولاً إلقاء بعض الأضواء -حسبما ييسِّر الله تعالى لي- على شيء من معانيها فيما يلي:- الجزء: 49 ¦ الصفحة: 43 المولى - الولي ّ: المولى: هو اسم من أسماء الله تعالى الحسنى. ويطلق لفظ المولى في اللغة على: المعتِق، وعلى المعتَق، وعلى الناصر، وعلى الجار، وعلى ابن العم، وعلى الحليف، وعلى القيِّم بالأمر. والقدر المشترك في هذه الاطلاقات هو القرب. وحين يطلق (المولى) على الله عز وجل، فإن معناه: القريب من عباده1. * وقد ورد اسم (المولى) سبحانه في القرآن الكريم اثنتي عشرة مرة2 ثلاث مرات3 بلفظ (المولى) : في قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الأنفال آية 40) (وإن تولوا) أي أعرضوا عن الإيمان ولم ينتهوا. (فاعلموا أن الله مولاكم) أي ناصركم ومعينكم، فثقوا بولايته ونصرته. (نعم المولى) فلا يضيع من تولاه، (ونعم النصير) فلا يغلب من نصره4. ومعنى المولى هنا: سيدكم وناصركم على أعدائكم فمن والاه فاز، ومن نصره غلب5. وفي قوله تعالى: {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} (الحج آية 78) أي وإذا خصكم بهذه الكرامة والأثرة، فاعبدوه وانفقوا مما آتاكم بالإحسان إلى الفقراء والمساكين، وثقوا به، ولا تطلبوا النصرة ولا الولاية إلا منه، فهو خير مولى وناصر6. ومعنى المولى هنا: أي حافظكم وناصركم على أعدائكم والمتولي أموركم دقيقها وجليلها، وهو سبحانه لا مماثل له في الولاية لأموركم والنصرة على أعدائكم7.   1 شرح أسماء الله الحسنى للرازي ص 298. 2 المعجم المفهرس. 3 المرجع السابق. 4 محاسن التأويل للقاسمي الجزء الثامن ص 2297. 5 تيسير العلى القدير المجلد الثاني ص 186، وفتح القدير الجزء الثاني ص 308. 6 المرجع السابق الجزء الثاني عشر ص 4282. 7 تيسر العلى القدير المجلد الثالث ص 103، وفتح القدير الجزء الثالث ص 471. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 44 أقول: لهذا أمر سبحانه تعالى المؤمنين أن يعتصموا به جل وعلا فقال: {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} أي تمسكوا بدين الله وثقوا به تعالى، فلا رجاء ناجح إلا أن يكون رجاءه وحده سبحانه. وقد جاءت هذه الآية الكريمة عقب قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (الأنفال آية 39) . والمعنى: أي يا معشر المؤمنين قاتلوا أعدائكم المشركين حتى لا يكون شرك ولا يبعد إلا الله وحده. قال ابن عباس: الفتنة: الشرك، أي حتى لا يبقى مشرك على وجه الأرض. وقال ابن جريج: حتى لا بفتن مؤمن عن دينه1 ومعنى {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُهُ لِلَّهِ} أي تضمحل الأديان الباطلة ولا يبقى إلا دين الإسلام. واضمحلالها: يكون إما بهلاك أهلها جميعا، أو برجوعهم عنها خشية القتل2. أقول: ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإن قالوها عصموا مني دمائهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله" 3. ومعنى قوله تعالى {فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي فإن انتهوا عن الكفر وأسلموا فإن الله مطلع على قلوبهم، يثيبهم على توبتهم وإسلامهم، {وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ} أي وإن لم ينتهوا عن كفرهم وأعرضوا عن الإيمان فاعلموا يا معشر المؤمنين أن الله ناصركم ومعينكم عليهم، فثقوا بنصرته وولايته ولا تبالوا بمعاداتهم لكم. {نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} أي نعم الله أن يكون مولاكم، فإنه لا يضيع من تولاه، ونعم النصير لكم، فإنه لا يغلب من نصره الله4. وفي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} (محمد آية 11) . ومعنى المولى هنا: أي ناصر المؤمنين5.   1 الطبري جزء 13 ص 538. 2 روح المعاني للألوسي جزء 9 ص 207. 3 صحيح مسلم الجزء الأول ص. 4 صفوة التفاسير الجزء الأول ص 504. 5 المرجع السابق –الجزء الخامس ص 32. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 45 أقول: فبينت هذه الآية الكريمة أن المؤمنين مولاهم الله تبارك وتعالى يدافع عنهم وينصرهم على أعدائهم، وأما الكافرون فليس لهم من يدافع عنهم ولا من ينصرهم لأنهم على باطل، وأهل الباطل لا يستأهلون نصرا، ولا يظهرهم الله عز وجل على أهل الحق. * ومنها أربع مرات بلفظ (مولاكم) : وذلك في قوله تعالى {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} (آل عمران آية 150) . وذلك بعد قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ} (آل عمران آية 149) . والمعنى: أن الله تعالى يحذر عباده المؤمنين طاعة الكافرين والمنافقين، فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة، وأمرهم سبحانه بطاعته وموالاته والاستعانة به والتوكل عليه لأنه هو معينهم ناصرهم ومتولي أمورهم، ومن ثم فهو خير من يحقق لهم النصر المبين1. وكذلك في مثل قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (التحريم آية 2) . ومعنى مولاكم هنا: أي وليكم وناصركم، والمتولي لأموركم2. وقد ذكر القاسمي في تفسيره أن المقصود بقوله: {بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ} أي فأطيعوه {وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ} أي فينصركم خيرا ممن نصروكم لو نصروكم، وكيف لا يكون خير الناصرين، وهو ينصركم بغير قتال كما وعد بقوله {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} أي الذي يمنعهم من الهجوم عليكم والإقدام على حربكم {بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ} أي بكونه إلها متصفا بصفاته ومستحقا للعبادة {سُلْطَاناً} أي حجة قاطعة تنبني عليها الاعتقادات {وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ} هي المثوى والمقر، والمأوى والمقام3 -والعياذ بالله-. وقد أفادت الآية أن ذلك الرعب بسبب ما في قلوبهم من الشرك بالله، وعلى قدر الشرك يكون الرعب. وقد قال القاشانيّ: جعل إلقاء الرعب في قلوب الكفار مسببا عن شركهم، لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس لتنورها بنور التوحيد، فلا تكون تامة إلا للموحد الموقن في توحيده، وأما المشرك فلأنه محجوب عن منبع القدرة بما أشرك بالله من الوجود المشوب بالعدم الذي لم يكن له بحسب نفسه قوة، ولم ينزل الله بوجوده حجة، فليس إلا العجز والجبن، وجميع الرذائل.   1 تيسير العلى القدير المجلد الأول ص 318. 2 فتح القدير الجزء الخامس ص 250. 3 محاسن التأويل الجزء الرابع ص 993. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 46 وقال القفال: كأنه قيل: أنه وإن وقعت لكم هذه الواقعة في يوم أُحُد، إلا أن الله تعالى سيلقى الرعب منكم بعد ذلك في قلوب الكافرين حتى يقهر الكفار، ويظهر دينكم على سائر الأديان، وقد فعل الله ذلك حتى صار دين الإسلام قاهراً لجميع الأديان والملل.. وفي حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "أعطيتُ خمساً لم يعطهنَّ أحدٌ من الأنبياء قبلي: نُصرتُ بالرعب مسيرة شهر، وجُعلتْ لي الأرض مسجداً وطهوراً، وأيما رجلٍ من أمتي أدركته الصلاة فليصلِّ، وأُحِلَّتْ لي الغنائم، وكان النبيُّ يُبعثُ إلى قومه خاصةً وبُعثتُ إلى الناس كافةً، وأعطيتُ الشفاعة" 1. ثم أخبر أنه صدقهم وعده في النصر على عدوه، وهو الصادق الوعد، وأنهم لو استمروا على الطاعة، ولزموا أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، لاستمرت نصرتهم، ولكن انخلعوا عن الطاعة، وفارقوا مركزهم، ففارقهم النصر على عدوهم عقوبةً وابتلاءً، وتعريفاً لهم بسوء عواقب المعصية، وحسن عاقبة الطاعة، بقوله {وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ} 2. وفي قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} (محمد آية 11) . ومعنى مولاهم: أن هو سبحانه الذي يتولاهم فيدافع عنهم وينصرهم على أعدائهم. وقد جاءت الآية المذكورة بعد قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا} (محمد آية 10) . والآيتان مرتبطتان، ومعناهما: أفلم يَسِرْ المشركون بالله المكذبون لرسوله فينظروا كيف عاقب الله الذين من قبلهم بتكذيبهم وكفرهم ونجى المؤمنين من بين أظهرهم، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين يوم فرغوا من وقفة أحد أن يجيبوا أبا سفيان لما قال لهم: لنا العزى ولا عزى لكم فيقولون: "الله مولانا ولا مولى لكم"3. وقال الإمام الشوكاني في معنى الآيتين: أي ألم يسيروا في أرض عاد وثمود وقوم لوط وغيرهم ليعتبروا، فينظروا كيف كان آخر أمر الكافرين قبلهم، فإن آثار العذاب في ديارهم باقية، إذ أهلكهم الله واستأصلهم، ثم توعد سبحانه مشركي مكة بأن لهؤلاء الكافرين أمثال عاقبة من قبلهم من الأمم الكافرين، وذلك سببه أنه تعالى ناصر المؤمنين، وأن الكافرين لا ناصر يدفع عنهم.   1 صحيح البخاري الجزء الثامن كتاب الصلاة ص 56. 2 المرجع السابق ص 994. 3 تيسير العلى القدير المجلد الأول ص 58، 59. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 47 ثم بين سبحانه وتعالى مظهر ولايته للمؤمنين يوم القيامة في قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَار} (محمد آية/12) وبين في مقابلة ذلك عدم ولايته للكافرين ومظهر ذلك في الدنيا والآخرة في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ} (محمد آية 12) أي أن الكفار ليس لهم همٌ في دنياهم إلا الانكباب على الأكل والتمتع في الدنيا، لا هم لهم إلا ذلك، ولهذا ثبت في الصحيح قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "المؤمن يأكل في معًى واحد، والكافر يأكل في سبعة أمعاء" أي كأن له سبعة أمعاء كناية على كثرة أكله. ويوم القيامة النار تكون جزاء لهم1. وذكر الإمام الشوكاني في معنى الجزء الأول من الآية الخاصة بالمؤمنين أنه مسوق لبيان ولاية الله تعالى لهم: وذلك بإدخالهم جنات تجري من تحتها الأنهار، وفي بيان معنى الجزء الخاص بالكافرين أنهم يتمتعون بمتاع الدنيا وينتفعون به كأنهم أنعام ليس لهم همٌ إلا بطونهم وفروجهم، ساهون عن العاقبة، لاهون بما هم فيه، والنار مقام لهم يقيمون به، ومنزل ينزلونه ويستقرون فيه2. أقول: أن لا شك أن ولاية الله تعالى لعباده المؤمنين تسعدهم بالحياة الطيبة في الدنيا، وبدار الكرامة جنات عدن في الآخرة. فهنيئًا لمن بلغ هذه الدرجة الرفيعة فكان الله مولاه. * ومنها مرتان بلفظ (مولانا) : وذلك في قوله تعالى: {أَنْتَ مَوْلانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (البقرة آية 286) . أي أنت وليُّنا وناصرنا، وعليك توكلنا وأنت المستعان وعليك التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بك، فانصرنا على القوم الكافرين الذين جحدوا دينك، وأنكروا وحدانيتك، ورسالة نبيك، وعبدوا غيرك، فانصرنا عليهم، واجعل لنا العاقبة عليهم في الدنيا والآخرة. قال الله: "نعم". وفي الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس: قال الله: "قد فعلت"3. وقال الإمام الشوكاني في معنى قوله تعالى: (أنت مولانا) : أي ولينا وناصرنا، وخرج هذا مخرج التعليم كيف يدعون. وقيل معناه: أنت سيدنا ونحن عبيدك. وذكر في معنى قوله: {فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} : أي من حق المولى أن ينصر عبيده، وأن المراد عامة الكفرة، وأن في هذا إشارة إلى إعلاء كلمة الله في الجهاد في سبيله4.   1 تيسير العلى القدير المجلد الأول ص 59. 2 فتح القدير الجزء الخامس ص 32. 3 تيسير العلى القدير المجلد الأول ص 249. 4 فتح القدير الجزء الأول ص 308. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 48 أقول: وبمناسبة ذكر آخر آية من سورة البقرة، أود أن أذكر بأن هناك عددا من الأحاديث نصت على الآيتين الأخيرتين من سورة البقرة، منها ما أخرجه الإمامان مسلم. والنسائي واللفظ له عن ابن عباس قال: "بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعنده جبريل، إذ سمع نقيضا، فرفع جبريل بصره فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك. فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفاً منهما إلا أوتيته". وأخرج الحاكم وصححه البيهقي في الشعب عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الله ختم سورة البقرة بآيتين أعطانيهما من كنزه تحت العرش. فتعلموهما، وعلموهما نسائكم وأبنائكم، فإنهما صلاة وقرآن ودعاء". وروى الشيخان وأهل السنن وغيرهم عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه" 1. وكذلك في قوله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} (التوبة آية 51) . وذلك بعد قوله تعالى: {إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ} (التوبة 50) . ومعنى الآيتين: أن الله تعالى يُعْلِمُ رسوله محمدا صلى الله عليم وآله وسلم بعداوة هؤلاء له لأن أيَّ حسنة تصيبه هو وأصحابه تسوؤهم، وأن أيَّ مصيبة تصيبه يقولون لقد احترزنا من متابعته من قبل هذا، ويتولون وهم فرحون بما أصابه. فأرشد الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم بأن يقول لهم: إننا تحت مشيئة الله تعالى وقدره، فما يصبنا كله مقدر علينا، فهو سبحانه مولانا أي سيدنا وملجؤنا، ونحن متوكلون عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل2. * ومنها مرة بلفظ (مولاه) وذلك في قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} (التحريم آية 4) والخطاب في هذه الآية الكريمة موجه إلى أميّ المؤمنين عائشة وحفصة رضي الله عنهما، أي إن تتوبا إلى الله تعالى مما تظاهرتما به على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد مالت قلوبكما إلى الحق. وقد روى الإمام مسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "لما اعتزل نبي الله صلى الله عليه وسلم نساءه دخلتُ المسجدَ فإذا الناس   1 فتح القدير الجزء الأول ص 309، 310. 2 تيسير العلى القدير المجلد الثاني ص 237، 238. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 49 ينكتون بالحصى، ويقولون: طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه، وذلك قبل أن يأمر بالحجاب، فقلت: لأعلمنَّ ذلك اليوم، فذكر الحديث في دخوله على عائشة وحفصة ووعظه إياهما إلى أن قال: فدخلت فإذا أنا برباح غلام رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسكفة المشربة، فناديت، فقلت: يا رباح استأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، إلى أن قال: فقلت: يا رسول الله ما يشق عليك من أمر النساء، فإن كنت طلقتهن فإن الله معك، وملائكته، وجبريل، وميكال، وأنا، وأبو بكر، والمؤمنون معك. وقلما تكلمت –وأحمدُ الله- بكلام إلا رجوتُ أن يكون الله يُصدقُ قولي، فنزلت هذه الآية: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنّ} {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} فقلت: أطلقتهن؟ قال: "لا"، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي: لم يطلق نساءه، ونزلت هذه الآية: {وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُم} النساء/141. فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر. وقال الإمام الشوكاني في معنى قوله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ ... } الآية: أي إن تتوبا إلى الله فقد وجد منكما ما يوجب التوبة، ومعنى "صَغَتْ" عدلت ومالت عن الحق أو زاغت وأثمت، وهو أنهما أحبتا ما كره رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو إفشاء الحديث، وقيل المعنى: إن تتوبا إلى الله فقد مالت قلوبكما إلى التوبة، ومعنى {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} وإن تظاهرا بمعنى تتعاضدا وتتعاونا، والمعنى: وإن تتعاضدا وتعاونا في الغيرة عليه منكما وإفشاء سره، فإن الله يتولى نصره، وكذلك جبريل، ومن صلح من عباده المؤمنين والمقصود أبو بكر وعمر، فلن يعدم ناصرا ينصره، إذ بعد نصر الله له، وجبريل، وصالح المؤمنين، فإن الملائكة أعوان يظاهرونه2. * ومنها مرتان بلفظ (مولاهم) : ذلك في قوله تعالى {ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} (الأنعام آية 62) . وقد جاءت هذه الآية بعد قوله تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} (الأنعام آية 61) . ومعنى الآيتين الكريمتين: أن الله تعالى فوق عرشه الذي قهر كل شيء وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء يرسل ملائكته يحفظون عباده، حتى إذا حان أجل   1 تيسير العلى القدير المجلد الرابع ص 265، 266. 2 فح القدير الجزء الخامس ص 250، 251، 253. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 50 أحدهم توفته الملائكة الموكلون بذلك، ولا يجاوزون الحد فيما أمروا به من الإكرام والإهانة، فإن كان من الأبرار ففي عليين، وإن كان من الفجار ففي سجين. ثم بعد الحشر ترد الخلائق إلى الله مولاهم الحق أي مالكهم الذي يلي أمورهم فيحكم فيهم بعدله، وهو أسرع الحاسبين لكونه لا يحتاج إلى ما يحتاجون إليه من الفكر الروية والتدبر1. وفي قوله تعالى: {هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} (يونس آية 30) . ومعنى هذه الآية الكريمة أنه في موقف الحساب يوم القيامة تخبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها خيرا كان أو شرا، ورجعوا في جميع أمورهم إلى الله مولاهم الحكم العدل ففصلها، وأدخل أهل الجنةِ الجنةَ، وأهل النارِ النارَ، وتخلى عن المشركين ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه، سبحانه عما يشركون2. وقال الإمام الشوكاني في معنى هذه الآية الكريمة: أنه في ذلك المكان وفي ذلك الموقف تبلو أي تذوق وتختبر كل نفس جزاء ما أسلفت من العمل، وعلى قراءة (نبلو) بالنون، أن الله تعالى يبتلي كل نفس ويختبرها، بمعنى أنه يعاملها معاملة من يختبرها ويتفقد أحوالها، ورد المشركين بعد ذلك إلى الله مولاهم الحق أي إلى ربهم الصادق الربوبية دون ما اتخذوه من المعبودات الباطلة، وضاع وبطل ما كانوا يفترون، من أن الآلهة التي لهم حقيقة بالعبادة لتشفع لهم إلى الله وتقربهم إليه. ثم قال الإمام الشوكاني: وأخرج أبو الشيخ عن السدّي في قوله: {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ} قال: نسخها قوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ} محمد/ 113. أقول: وقد اعتز رسول الله صلى الله عليه وسلم بمولاه سبحانه وتعالى في أعصب المواقف، وعلم ذلك أصحابه رضي الله عنهم، ليكون لنا في ذلك أعظم قدوة. وبيانا لذلك أسوق من الحديث الذي رواه الإمام البخاري في صحيحه: بسنده. عن البراء رضي الله عنه قوله في شأن غزوة أحد: "فأصيب سبعون قتيلا، وأشرف أبو سفيان، فقال أفي القوم محمد؟ فقال: "لا تجيبوه" فقال: أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال: "لا تجيبوه"، فقال: أفي القوم   1 تيسير العلي القدير المجلد الثاني ص 20، 21، وفتح القدير الجزء الثاني ص 124، 125. 2 تيسير العلي القدير المجلد الثاني ص 297، 298. 3 فتح القدير الجزء الثاني ص 440. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 51 ابن الخطاب: فقال إن هؤلاء قتلوا، فلو كانوا أحياءً لأجابوا. فلم يملك عمر نفسه، فقال: كذبت يا عدو الله، أبقى الله عليك ما يخزيك. قال أبو سفيان: أعْلُ هُبَلْ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجيبوه" قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله أعلى وأجل"، قال أبو سفيان: لنا العزى ولا عُزَّى لكم. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أجيبوه" قالوا: ما نقول؟ قال: "قولوا: الله مولانا ولا مولى لكم". وهذه إجابة تحمل عظيم الاعتزاز بالله تعالى مولى المؤمنين الذي يتولى أمرهم، ويدبر شؤونهم، ويظهرهم بالنصر على أعدائهم، في مقابلة أن أولئك الأعداء لا مولى لهم يدبر أمرهم، وينصرهم إلا ما يعبدون من العزى الساقطة التي لا تملك لهم -فضلا عن نفسها- نفعا ولا ضرا. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 52 الولي : هو اسم من أسماء الله تعالى الحسنى. ومعنى الولي الناصر، وهو على وزن فعيل على صيغة المبالغة بمعنى فاعل، أي إنه عظيم النصر لعباده المؤمنين. * وقد ورد هذا الاسم الكريم في القرآن الكريم أربع عشرة مرة1. * منها خمس مرات بلفظ "وليِّ" بالرفع، وذلك في قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة آية 257) . والوليّ هنا هو الناصر لمن وليهم وهم المؤمنون ومعنى الآية الكريمة أنه سبحانه يهدي المؤمنين الذين اتبعوا رضوانه سبل السلام، ويخرجهم من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي السهل، وأما الكافرون فوليهم الشيطان يزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات، ويخرجهم ويحيد بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك، فكانوا من أصحاب النار هم فيها خالدون. ولهذا وحَّدَ الله تعالى لفظ "النور" لأن الحق واحد، وجمع "الظلمات" لأن الكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة2. وقال الإمام الشوكاني في معنى قوله تعالى {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} أن الوليّ فعيل بمعنى الفاعل وهو الناصر، وأن قوله {يُخْرِجُهُمْ} تفسير للولاية.   1 المعجم المفهرس. 2 تيسر العلي القدير المجلد الأول ص 222. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 52 أقول: أي أنه سبحانه لما ولي أمر المؤمنين كان من مظاهر ولايته لهم أنه يتولى إخراجهم من الظلمات إلى النور. ويقول الإمام الشوكاني: أن المراد بقوله {الَّذِينَ آمَنُوا} أي أرادوا الإيمان، لأن من وقع منه الإيمان قد خرج من الظلمات إلى النور، إلا أن يراد بإخراج المؤمنين من الظلمات إخراجهم من الشُبه التي تعرض لهم، فلا يحتاج إلى تقدير الإرادة. ثم قال الشوكاني أن المراد بالنور في قوله {وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ} ما جاء به أنبياء الله من الدعوة إلى الدين، فإن ذلك نور للكفار أخرجهم أولياؤهم عنه إلى ظلمة الكفر: أي قررهم أولياؤهم على ما هم عليه من الكفر بسبب صرفهم عن إجابة الداعي إلى الله من الأنبياء، ثم قال: وقيل: المراد بالذين كفروا هنا: الذين ثبت في علمه تعالى كفرهم يخرجهم أولياؤهم من الشياطين ورؤوس الظلال من النور الذي هو فطرة الله تعالى التي فطر الناس عليها إلى ظلمات الكفر التي وقعوا فيها بسبب ذلك الإخراج1. ومثل قوله تعالى: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} (آل عمران آية 68) . ومعنى أن الله ولي المؤمنين، أي أنه يتولى أمر المؤمنين جميعا بما فيهم أنبياؤه ورسله2. أقول: ومن ثم فكل مؤمن لا ولي له إلا الله جل جلاله، يفوض له كل أمره، ليصرفه سبحانه بما يصلح لعبده المؤمن. ومعنى هذه الآية الكريمة: أن أحق الناس بإبراهيم عليه السلام أولئك الذين اتبعوه على دينه في حينه. وكذلك النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وصحابته الذين تبعوهم بإحسان. وقد روى سعيد بن منصور -بسنده- عن ابن مسعود رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لكل نبي ولاة من النبيين، وإن ولي منهم أبي وخليل ربي عز وجل إبراهيم عليه السلام". ثم قرأ: {إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ ... } 3. ومثل قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (الشورى آية 9) . والوليّ هنا معناه: أنه متولي شؤون خلقه، فهو وحده القادر على إحياء الموتى: وهو   1 فتح القدير الجزء الأول ص 276. 2 تيسر العلي القدير المجلد الأول ص 281. 3 المرجع السابق المجلد الثالث ص 573. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 53 كذلك القادر على كل شيء، فإذا أراد شيئا كان قوله له: كن، فيكون، ولا يملك ذلك إلا هو سبحانه وتعالى. ومعنى هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى ينكر على المشركين اتخاذهم آلهة من دون الله، ويخبر أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده، فإنه القادر على إحياء الموتى، وهو على كل شيء قدير1. ويقول الإمام الشوكاني في معنى قوله تعالى: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} أي بل اتخذ الكافرون من دون الله أولياء من الأصنام يعبدونها؟ وذلك تقدير لانتفاء كون للظالمين ولياً ونصيراً. وفي قوله تعالى: {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} أي هو الحقيق بأن يتخذوه ولياً، فإنه الخالق، الرّازق، الضار، النافع. وقال: وقبل: الفاء جواب شرط محذوف: أي إن أرادوا أن يتخذوا وليا في الحقيقة فالله هو الوليّ، وفي قوله تعالى: {وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي ومن شأنه تعالى أنه يحي الموتى، ويقدر على كل مقدور، فهو الحقيق بتخصيصه بالألوهية، وإفراده بالعبادة2. ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي في معنى الآية ذاتها: أن الظالمين لأنهم لا يصلحون لصالح، فقد حرموا من الرحمة، فما لهم من دون الله من ولي يتولاهم فيحصل لهم المحبوب، ولا نصير يدفع عنهم المكروه. وأن الذين اتخذوا من دونه أولياء يتولونهم بعبادتهم إياهم فقد غلطوا أقبح غلط، فالله هو الولي الذي يتولاه عبده بعبادته وطاعته والتقرب إليه بما أمكن من أنواع التقربات، ويتولى عباده عموما بتدبيره ونفوذ القدر فيهم، ويتولى عباده المؤمنين خصوصاً بإخراجهم من الظلمات إلى النور، وتربيتهم بلطفه، وإعانتهم في جميع أمورهم3. ومثل قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (الشورى آية 28) . ومعنى الولي الحميد هنا: المتصرف وحده بخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدر ويفعله.   1 تيسير العلي القدير المجلد الثالث ص 565. 2 فتح القدير -الجزء الرابع ص 527. 3 تيسير الكريم الرحمن الجزء السابع ص 94. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 54 ومعنى هذه الآية الكريمة: أن الله تعالى ينزل المطر من بعد يأس الناس من نزوله، وينزل عليهم وقت حاجتهم كقول عز وجل: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} (الروم/ 49) وإنزاله سبحانه المطر رحمة يعم بها من ينزل عليهم، ذلك بأنه جل وعلا هو وحده المتصرف بخلقه بكل ما ينفعهم في دنياهم وأخراهم وهو المستحق الحمد في كل أقداره وأفعاله1. (يتبع)   1 المرجع السابق المجلد الثالث ص 573. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 55 مفهوم الأسماء والصفات (الحلقة الخامسة) سعد ندا المدرس بالجامعة الإسلامية من الأسماء الحسنى التي ذكرتها في الحلقة الرابعة- إضافة لما ذكرت من أسماء- أسم (المولى- والولي) سبحانه وتعالى، وبينت بعضا من معاني اسم (المولى) . وأسلفت أنه ورد في القرآن الكريم اثنتي عشرة مرة. ثم بدأت في بيان بعض معاني اسم (الولي) سبحانه. وذكرت أنه ورد في القرآن الكريم ست عشرة مرة. ومن ثم يكون عدد أسماء الله الحسنى التي سقتها في الحلقات الأربع الماضية إحدى وأربعين اسما، تكرر ذكرها في مواضع مختلفة من القرآن الكريم. فضلا عن السنة المشرفة مرات بلغت (3786) ستا وثمانين وسبع مائة وألفي مرة، وأعود فأؤكد ما سبق إلى تأكيده في الحلقات السابقة أن تكرار أسماء الله الحسنى في القرآن الكريم بهذا الحشد الوفير له مفهومه ومغزاه، وهو أن هذه الأسماء لها من خطورة الأمر، وأهمية الذكر، ما يحتم على كل مسلم ضرورة معرفتها؛ ليعرف منها صفات الله جلى وعلا، ومن ثم يستطيع أن يعبد إلها يعرفه بأسمائه الحسنى وصفات كماله العلياء؛ فيستطيع توحيده، وتجريد العبادات له جميعا؛ لتتحقق لها شروط القبول لدى الله عز وجل. وبالنظر إلى أن اسم (المولى) سبحانه لم يفرغ ما يسر الله إلى من بحث فيما يدور حول معانيه. فإنني أستعين بالله تعالى- بحوله وقوته- وأشرع في إتمام ذلك البحث فيما يلي:- الجزء: 50 - 51 ¦ الصفحة: 104 وورد اسم المولى كذلك في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} (الجاثية آية 19) . وقد جاءت هذه الآية عقب قوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} (الجاثية آية 18) . ومعنى الآيتين فيما يقوله الإمام ابن كثير: اتبع ما أنزل إليك من ربك يا محمد، وأعرض عن المشركين، فإنهم لا يغنون عنك بل ولا عن بعضهم شيئاً ولا يزيدون أنفسهم إلا خساراً ودماراً وهلكاً، والله ولى المتقين، أما الكفار فلا مولى لهم إلا الطواغيت الذين يخرجونهم من النور إلى الظلمات. ويقول الإمام الشوكاني: الشريعة في اللغة: المذهب، والملة، والمنهاج، ويقال: لمشرعة الماء وهي: مورد شاربيه شريعة، ومنه الشارع لأنه طريق إلى المقصد. فالمراد بالشريعة هنا: هو ما شرعه الله لعباده من الدين، والجمع شرائع- أي جعلناك يا محمد على منهاج واضح من أمر الدين يوصلك إلى الحق، فاعمل بأحكامها في أمتك، ولا تتبع أهواء الذين لا يعلمون توحيد الله وشرائعه لعباده، وهم كفار قريش ومن وافقهم. فهم لا يدفعون عنك شيئا مما أراده الله إن اتبعت أهواءهم، إذ أن الظالمين أنصار ينصر بعضهم بعضا، والله ناصر المتقين وهو وليهم، لأنهم الذين اتقوا الشرك والمعاصي1. ويقول الشيخ عبد الرحمن السعدي: المعنى: شرعنا لك شريعة كاملة تدعو إلى كل خير وتنهى عن كل شر من أمرنا الشرعي. فاتبعها فإن في اتباعها السعادة الأبدية والصلاح والفلاح. ولا تتبع أهواء الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم ولا ماشية خلفه، وكل من خالف هواه وإرادته شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فإنه من أهواء الذين لا يعلمون. فهؤلاء لا ينفعونك عند الله فيحصلوا لك الخير ويدفعوا عنك الشر، إن اتبعتهم على أهوائهم، ولا يصلح أن توافقهم وتواليهم فإنك وإياهم متباينون، ولذلك كان الظالمون بعضهم أولياء بعض. والله ولي المتقين يخرجهم من الظلمات إلى النور بسبب تقواهم وعملهم بطاعته2. ويقول صاحب صفوة التفاسير: في معنى الآيتين: المعنى جعلنك يا محمد على طريقة3 واضحة. ومنهاج سديد رشيد من أمر الدين، فاتبع ما أوحى إليك ربك من الدين القيم ولا تتَّبع ضلالات المشركين؛ أي: آراء الجهال التابعة للشهوات وهم رؤساء قريش حيث   1فتح القدير الجزء الخامس ص 8.بقليل تصرف. 2تيسير الكريم الرحمن الجزء السابع ص144 الجزء: 50 - 51 ¦ الصفحة: 105 قالوا: ارجع إلى دين آبائك. فهم لن يدفعوا عنك شيئا من العذاب إن سايرتهم على ضلالهم. وإن الظالمين يتولى بعضهم بعضا في الدنيا ولا ولي لهم في الآخرة، والله ولى المتقين أي ناصر ومعينٌ المؤمنين المتقين في الدنيا والآخرة 1. وأقول: إن أعظم شريعة، وأوسع شريعة، وأكمل شريعة عالجت كلّ جوانب الحياة في الدنيا والآخرة، والتي تولى الله سبحانه وتعالى تشريعها تفضلاً، ورحمةً، وهدايةً لأقوم طريق، وأنجى سبيل، خاتمةً للشرائع التي أنزلها الله تعالى إنما هي شريعة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم. ومن ثم كان أمره تعالى إليه بقوله: {فَاتَّبِعْهَا} بمعنى أن يلتزمها ويأخذ بها نفسه. ثم يدعو إليها الناس جميعا، ليلتزموها ويأخذوا بها أنفسهم كذلك منهجا لكل نواحي حياتهم لينالوا فوز الدارين. ومن ثم يبين لنا أنه لا نجاة للبشرية من حمأة الضلال، ودركات الفسق ووهدة الإلحاد، إلا باطّراح ما شرع البشر من قوانين صماء عمياء لا تبصر ما يصلح للإنسان، وما يهيئ له الحياة الطيبة، والانطلاق سريعا إلى اتباع الله تعالى الذي يعلم من خلق وما يُصلِحُ حياته، وهو اللطيف الخبير. ذلك بأن الله جل وعلا يتولى أمر المتقين الذين يجعلون بينهم وبين غضب الله وقاية تقيهم عذابه فهو سبحانه وليهم، وناصرهم بالحق على الباطل وأعوانه، وأما الظالمون فقد وكلهم سبحانه إلى أنفسهم يتولى بعضهم أمر بعض، فضاعوا وخسروا في الدنيا والآخرة. وإنني حين تدبرت قوله تعالى: {فَاتَّبِعْهَا وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} بما تحمله من إثبات ونفي: الإثبات بالأمر باتباع ما أوحاه الله سبحانه من شرع، والنفي بالنهى عن اتباع أهواء الجهال المارقين عن أمر الله، حين تدبرت ذلك جال بخاطري قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} وما ماثلها من الآيات بما تحمله كذلك من نفى وإثبات: النفي بأن يُكفَر بالطواغيت أيا كان نوعها من البشر، وما يشرعون من مناهج هابطة، ومن الجبابرة منهم والطغاة، ومن الموتى وما يتوهم المتوهمون من تأثيرهم في حياة الخلق وتصريفها وتدبير أمرها. والإثبات بأن يُخلَص الإيمان بالله إلها واحدا، تُجَرَّد له الأعمال وحده جميعا. فالنفي والإثبات في معنى (لا إله إلا الله) هو أساس الإيمان: نفى العبودية لغير الله سبحانه عبادة وتشريعا واثبات العبودية له سبحانه عبادة وتشريعا. وذلك على أساس   صفوة التفاسير المجلد الثالث ص 185 الجزء: 50 - 51 ¦ الصفحة: 106 الاعتقاد الجازم بأن الله هو وحده يتولى شأن كلّ من وحَّده، ويُصَرِّف أمره على أحسن وجه، ولهذا أمره تعالى بتوحيده ونهاه عن الإشراك به؛ لأنه سبيل إحباط كل عمل، كما أمره بإتباع شرعه وحده، ونهاه عن إتباع أي شرع يصدر عن غير الله الكبير المتعال؛ لأنه لا حياة طيبة للإنسان، ولا سعادة له، ولا فوز في الدارين إلا بإتباع منهج الله الذي ضمَّنهُ شرعه. قالَ اللهُ تعَالى: {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} . (البقرة: من الآية256 - 257) الجزء: 50 - 51 ¦ الصفحة: 107 مفهوم الأسماء والصفات سعد ندر المدرس بالجامعة الإسلامية في الحلقات الخمس الماضية يسر الله لي معالجة شيء من المعاني المتعلقة ببعض أسماء الله الحسنى في محاولة لفهم جوانب من مضامينها؛ وكان آخر ما شملته هذه المحاولة هو اسمي (المولى-والوليّ) . ولما بدا لي ا، أستكمل بحثي في هذه الحلقة، ذكرت دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم الجامع لهذين الاسمين في آن معا حين يضرع إلى ربه قائلا: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها". وهذا الدعاء الرائع يشمل خيري الدنيا والآخرة، إذ أنه لو جمع الإنسان أن يبعد عن نفسه فجورها، وأن تحقق لها بقواها، لكان كل ما يأتيه مراقباً فيه لله تعالى طامعاً في ثوابه، حاذراً من عقابه، وكذلك لو جمع للإنسان أن تجنب نفسه تدسيتها، وتُحصلَّ لها تزكيتها، لكان كل ما يصدر عنه نقياً طاهراً. وما دام أن عمل الإنسان قد خلص لله جل وعلا، ونقي من كل شائبة، فإنه يكون سبباً في خيره وفلاحه في دنياه وآخرته. ومن ذا الذي يخلص النفس من فجورها وتدسيتها؟ ومن ذا الذي يحقق لها تقواها وزكاتها؟ إنه الله القدير سبحانه، قلوبنا بين إصبعين من إصبعه يقلبها كيف يشاء، ذلك بأنه-جل وعلا- يتولى أمر عبده المؤمن، ويوليه رعايته وتوفيقه، فيعيش في كنفه، ويحظى بالأمن في رحابه. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 53 ومن أسعد ممن يرعاه حبيبه، ويتولاه مولاه؟ ويأخذ بناصيته إلى برّ النجاة؟ وبالتأمل في كتاب الله العزيز، نجد تلك المعاني في مثل قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس آية 6-10) . ومعنى قوله تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا} : أي خلقها سويةً مستقيمة على الفطر القويمة كما قال سبحانه: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} 1. أو بمعنى: سوَّاها: خلقها وأنشأها وسوى أعصابه2. ومعنى قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} : أي بيّن لها الخير والشر، أو ألهمهما الخير والشر، أو جعل فيها فجورها وتقواها 3. أو بمعنى: عرَّفها وأفهمها حالهما (أي حال التقوى والفجور) وما فيهما من الحسن والقبح. أو عرفها طريق الفجور والتقوى، والمعصية والطاعة. أو: عرفها طريق الخير وطريق الشر كما قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} . وقد حكى الإمام بن كثير قول محمد بن كعب: "إذا أراد الله بعبده خيراً ألهمه الخير فعمل به، وإذا أراد به الشر ألهمه الشر فعمل به". كما حكى قول ابن زيد: جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى، وخذلانه إياها للفجور. واختار الزجاج هذا القول، وحمل الإلهام على التوفيق والخذلان. وقال الواحدي: وهذا هو الوجه لتفسير الإلهام، فإن التبيين والتعليم والتعريف دون الإلهام، والإلهام أن يوقع في قلبه ويجعل فيه، وإذا أوقع الله في قلب عبد شيئا ألزمه ذلك الشيء وهذا صريح في أن الله خلق في المؤمن تقواه، وفى الكافر فجوره4. وجاء في معنى قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان عندما يقرأ هذه الآية يقول: " اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل، والهرم والجبن والبخل وعذاب القبر، اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، وعلم لا ينفع، ودعوة لا يستجاب لها" رواه الإمام أحمد- بسنده- عن زيد بن أرقم الذي قال عن هذه الدعوات:   1 تفسير القرآن العظيم لابن كثير الجزء 4ص515. 2 فتح القدير للشوكاني الجزء 5 ص 449. 3 تفسير القرآن العظيم الجزء 4 ص 516. 4 فتح القدير للشوكاني الجزء5ص449. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 54 "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعلمْناهنّ ونحن نعلمكُموهنّ". ورواه الإمام مسلم – بسنده- كذلك عن زيد بن أرقم 1. وقيل في معنى {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} أنه عرفها الفجور والتقوى، وما تميز به رشدها وضلالها- قال ابن عباس: "بين لها الخير والشر والطاعة والمعصية، وعرفها ما تأتي وما تتقي" 2. أقول: وقد تظهر شبهة عند بعض الذين لا يعلمون، فيرى أن هناك تعارضاً بين الآية المذكورة وهي قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} وبين آيات أخرى تضاد معناها من مثل قوله تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} (البقرة آية 16) ، وقوله تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} (فصلت آية 17) ، وقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف آية 39) ، وقوله تعالى: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (إبراهيم آية 33) ، وقوله تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً} (الفرقان آية 37، 38) ، وقوله تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} (الأحزاب آية 67) . وقوله تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} (الحشر آية 16) . إلى غير ذلك من كثير الآيات التي يفهم منها أن فجور العبد وضلاله إنما هو بكامل اختياره ومشيئته دون تدخل لأي إرادة أو مشيئة أخرى سواه. في حين أن قوله تعالى: {فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا} يفهم منه أن الله هو الذي يضع الفجور أو التقوى بالإلهام في قلب عبده. وخلص هؤلاء إلى أن هناك تعارضا بين نوعي الآيات، وأخذوا يؤولون ويخبطون، ونشأت اتجاهات شاذة حملتها الفرق الضالة كالقَدرية الذين نفوا قدرة الله القدير سبحانه   1 تفسير القرآن العظيم الجزء 4 ص 515، 516. 2 صفوة التفاسير الجزء 3 ص 566. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 55 فزعموا أن العبد هو الذي يخلق عمله استقلالا، ولهذا سّموا (مجوس هذه الأمة) ، وذلك لمشابهتهم المجوس في قولهم بالأصلين: النور والظلمة؛ ويعنون بذلك أن هناك إلهين: إله النور ويصدر عنه كل خير، وإله الظلمة ويصدر عنه كل شر. كذلك القدرية يقولون إن الله خالق العباد، وأن العباد خالقين لأفعالهم. وبهذا كان عند القدرية- كما يعتقد المجوس- خالقان. ومن ثم عطلوا صفة (القدرة) التي يتصف بها الله جل وعلا، وكذبوه فيما سمى به نفسه سبحانه من اسم (القادر، والقدير) كما عطلوا صفة المشيئة أو الإرادة التي وصف بها نفسه تبارك وتعالى، في مثل قوله تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الكهف آية 33، 34) . وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} (الحج آية 14) . ومن الفرق الضالة كذلك الجَبْرِيًة الذين زعموا أن فاعل جميع الأفعال هو الله تعالى، ونفوا أن العبد يفعل شيئا، ونتج عن اتجاههم هذا: القولُ بأن العبد مجبور على فعله لأنه بإتيانه ما يفعل ليس إلا كريشة في مهب الرياح تتقاذفها تارة يمنةً وتارة يسرةً، ومن ثم فلا مشيئة له ولا إرادة، وهو في أفعاله مسير تسييرا كاملا لا اختيار له في أي عمل. وهؤلاء كذبوا الله تعالى فيما أثبته للعبد من مشيئة في مثل قوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} (الكهف آية 29) ، وافتروا عليه الكذب سبحانه في أنه يجبر العبد على مالا يريد فعله ومالا يقدم عليه بمحض اختياره. وبهذا الاتجاه الضال انتشرت بين الناس مقالة أن العبد مُسَيرٌ لا مخير. وهذا زعم كاذب، وخبْط في التيه، بلا برهان من الله. ومثل هاتين الفرقتين القدرية والجبرية قد فرطت أولاهما فنفت ما أثبته الله لنفسه سبحانه من صفات وأفرطت الثانية فأثبتت للعبد ما لم يثبته له الله، وكلا الفرقتين مكذب لله تعالى فيما أخبر من إثبات مشيئة له سبحانه وإثبات مشيئة للعبد في مثل قوله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (الإنسان الآية 30) وفيما أخبر من خلقه للعبد ولعمله في مثل قوله تعالى: {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} (الصافات الآية 96) . ومن ثم فالعبد له مشيئة، وهو مخير تمام التخيير في جميع التكليفات، وتتميز بأنها تتم بعمله واختياره، كالصلاة والصيام والزكاة وسائر التكاليف، وهو مُسَير تسييرا كاملا فيما وراء التكاليف كالرزق، والأجل، وإنجاب الأولاد أو العقم وما ماثل ذلك، وتتميز هذه الأمور بأنه لا يد له فيها البتة. وهذا ما توسط به أهل السنة والجماعة. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 56 وتحقيق هذه المسألة يرجع إليها في مظانها لأن المقام يضيق هنا عن تفصيلها, فأحيل القارئ الكريم على تلك المظان من كتب العقيدة. ومعنى قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} : قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله وطهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل. أو أن المعنى: قد أفلح من زكى الله نفسه1 وقد ذكر الإمام الشوكاني في معنى هذه الآية: أنه قد فاز من زكى نفسه وأنماها وأعلاها بالتقوى بكل مطلوب، وظفر بكل محبوب 2. وذُكر في تيسير الكريم الرحمن أن معنى هذه الآية: أنه طهر نفسه من الذنوب، ونقاها من العيوب، ورقّاها بطاعة الله وعلاّها بالعلم النافع، والعمل الصالح 3. وجاء في صفوة التفاسير أن معنى هذه الآية: أنه فاز وأفلح من زكى نفسه بطاعة الله، وطهرها من دنس المعاصي والآثام 4. ومعنى قوله تعالى: {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} أنه خاب من دسَّسَ نفسه أي أخملها ووضع منها، وذلك بخذلانه إياها عن الهدى حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عز وجل. أو أن المعنى: قد خاب من دسّ الله نفسه 5. وذكر الإمام الشوكاني في معنى {وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} : أي خسر من أضلها وأغواها, أو أخفاها وأخملها ولم يشهرها بالطاعة والعمل الصالح، أو أنه دسَّ نفسه في جملة الصالحين وليس منهم6. وجاء في تيسير الكريم الرحمن في معنى هذه الآية أنه أخفى نفسه الكريمة التي ليست حقيقةً بقمعها وإخفائها بالتدنس بالرذائل والدنو من العيوب والذنوب، وترك ما يكملها وينميها، واستعمال ما يشينها ويدسيها 7. وجاء في صفوة التفاسير أن معنى هذه الآية أنه قد خسر وخاب من حقَّر نفسه بالكفر والمعاصي، وأوردها موارد الهلكة. فإن من طاوع هواه، وعصى أمر مولاه، فقد نقص من عداد العقلاء، والتحق بالجهلة الأغبياء 8.   1 تفسير القرآن العظيم الجزء 4ص 516. 2 فتح القدير ص 449. 3 تيسير الكريم الرحمن 8 ص 246. 4 صفوة التفاسير الجزء 3 ص566. 5 تفسير القرآن العظيم الجزء 4ص 516. 6 فتح القدير للشوكاني الجزء 5ص 449. 7 تيسير الكريم الرحمن الجزء 8ص 246. 8 صفوة التفاسير الجزء 3 ص 566. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 57 أقول: وإذا كان إلهام النفس وإتيانها تقواها، هو تعريفها دروب الخير وإلهامها سلوكها وتوفيقها إلى التزامها، وإذا كانت زكاة النفس هو تطهيرها من كل دنس، والسمو بها –بطاعة الله عز وجل- إلى مراقي الفوز والفلاح، إذا كانت تقوى النفس وتزكيتها بهذه المثابة، فقد حُقّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يلجأ في ضراعة لمولاه الذي يتولاه ويتولى المؤمنين، فيقول: "اللهم آت نفسي تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها". وحين يستجاب هذا الدعاء العظيم، يتحقق للنفس من خيري الدنيا والآخرة، ما تسعد به سعادة لم تشهد قبل لها مثيلا. ومن ثم كان مقتضى معرفة معنى اسم (المولى- والوليّ) ،أن ينزع المؤمن من قلبه كل ولاية لغير الله تعالى، فيستبعد كل ولاية زائفة, ويحطم كل ولاية لعديد الجبابرة من طواغيت الأحياء أيا كانت سطواتهم ومهما بلغ سلطانهم، ولحشود المقبورين من طواغيت الأموات أيا كانت شخصياتهم ومهما سمت مرتباتهم، وأن يجرد الولاية لله الحق في الحياة الدنيا والآخرة، لينعم بإكرام الله تعالى له بالنصر والفوز في الدارين. أسألك اللهم ربي ومولاي، أن تثبت قلبي- مع اخوتي على درب الإيمان-على دينك، وأن تصرفه على طاعتك، وأن تجعل ولايته خالصة لك," أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلما وألحقني بالصالحين". قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ} (سورة الروم آية 43) . الجزء: 52 ¦ الصفحة: 58 مفهوم الأسماء والصفات سعد ندا المدرس بالجامعة الإسلامية في الحلقات الست الماضية يسر الله تعالى لي الكتابة في بعض ما وفقني إليه من معاني مجموعة من الأسماء الحسنى بلغت إحدى وأربعين اسما. وفي هذه الحلقة أبدا في بيان ما أرجو الله سبحانه أن يلهمني فيه رشدي من توضيح مفهوم اسم (الحميد) جل ذكره. الحميد: هو اسم من أسماء الله تعالى على وزن (فعيل) وهو صيغة مبالغة تدل على المبالغة في الحمد والكثرة فيه. و (الحميد) بمعنى (المحمود) . فهو سبحانه المستحق للحمد بكل أنواعه، لا مستحق له سواه. والحمد: هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري على وجه التعظيم والتبجيل، وهو يقترن بتعظيم المنعم لإنعامه على الحامد وعلى غيره والألف واللام للاستغراق، ومعناه أن جميع أنواع المحامد لله تعالى. ومن أسمائه تعالى (الحميد) أي المحمود. ومن قول الإمام ابن القيم في نونيته: الجزء: 53 ¦ الصفحة: 78 وهو الحميد فكل حمد واقع ... أو كان مفروضا مدى الأزمان ملأ الوجود جميعه ونظيره ... من غير ما عد ولا حسبان هو أهله سبحانه وبحمده ... كل المحامد وصف ذي الإحسان وإثبات الحمد الكامل له يقتضي ثبوت كل ما يحمد عليه من صفات كماله، ونعوت جلاله، إذ من عُدم صفات الكمال فليس بمحمود على الإطلاق. وغايته أنه محمود من كل وجه، ولا يكون محموداً من كل وجه وبكل اعتبار بجميع أنواع الحمد إلا من استولى على صفات الكمال جميعها، فلو عدم منها صفة واحدة لنقص من حمده بحسبه. والحمد نوعان: حمد على إحسانه إلى عباده، وهو من الشكر، وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كماله. وهو لا يكون إلا ما هو في نفسه مستحق للحمد، وإنما يستحق ذلك من هو متصف بصفات الكمال. وهي أمور وجودية، فإن الأمور العدمية المحضة لا مدح فيها ولا خير ولا كمال. ومعلوم أن كل ما يحمد فإنما يحمد على ما له من صفات الكمال، فكل ما يحمد به الخلق فهو من الخالق، والذي منه ما يحمد عليه هو أحق بالحمد. فثبت أنه المستحق للمحامد الكاملة، وهو أحق من كل محمود. وأهل التوحيد الذين يعبدون الله مخلصين له الدين، ما في قلوبهم من محبة الله لا يماثل فيها غيرها، ولهذا فإن الرب محمود أولا حمدا مطلقا على كل أفعاله، وحمده تعالى على أفعاله أشير إليه في مثل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّور} (الأنعام آية 1) ، وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} (فاطر آية 1) ، وهو سبحانه محمود ثانيا على إحسانه إلى الحامد، وهذا حمد الشكر، وقد أشير إليه في مثل قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} (الأعراف آية 43) ، وقوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} (المؤمنون آية 28) . والحمد ضد الذم، والحمد خبر بمحاسن المحمود مقرون بمحبته، ولا يكون حمد المحمود إلا مع محبته، ولا ذم المذموم إلا مع بغضه. والله سبحانه له الحمد في الأولى والآخرة. ولا تكون عبادة إلا إذا اقترنت بحب المعبود، ولا يكون حمد إلا إذا اقترن بحب المحمود. والله جل وعلا هو المعبود، وهو المحمود ولهذا كانت الخطب في الجمع والأعياد الجزء: 53 ¦ الصفحة: 79 وغير ذلك مشتملة على هذين الأصلين: تحميده، وتوحيده، وكان أفضل الذكر لا إله إلا الله وأفضل الدعاء الحمد لله1. وقد ورد اسم (الحميد) سبحانه في القرآن الكريم سبع عشر مرة: منها عشر مرات اقترن باسم (الغنيّ) سبحانه2. وذلك في مثل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} (البقرة آية267) . ومعنى الآية على ما ذكره الحافظ ابن كثير عن ابن عباس: أن الله أمر المؤمنين بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه، ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثه فإن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، ونهاهم أن يقصدوا الإنفاق من الخبيث الذي لو أعطوه ما أخذوه إلا أن يتغاضوا فيه، فالله غني عن إنفاقهم، وغني عن جميع خلقه، واسع العطاء، وهو الحميد أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره، لا إله إلا هو ولا رب سواه3. والمعنى على ما ذكره الإمام الشوكاني: أن الله أمر المؤمنين أن ينفقوا من جيد كسبهم ومختاره، وهو الحلال، وكذلك من طيبات ما أخرج سبحانه لهم من الأرض من نباتات ومعادن وركاز، ولا يقصدوا المال الرديء الخبيث لينفقوا منه، فهم أنفسهم يرفضون قبوله في تعاملهم، إلا تساهلا ورضى ببعض الحق4، فالله غني عن جميع المخلوقين، وهو الغني عن نفقات المنفقين وعن طاعات الطائعين، وإنما أمرهم بها وحثهم عليها لنفعهم ومحض فضله وكرمه عليهم، ومع كمال غناه وسعة عطاياه، فهو (الحميد) فيما يشرعه لعباده من الأحكام الموصلة لهم إلى دار السلام، والحميد في أفعاله التي لا تخرج عن الفضل والعدل والحكمة، والحميد في صفاته لأن صفاته كلها محاسن وكمالات لا يبلغ العباد كنهها ولا يدركون وصفها5. والمعنى على قول صاحب صفوة التفاسير أن الله سبحانه غني عن نفقاتهم حميد يجازي المحسن أفضل الجزاء6.   1 الكواشف الجلية: ص11، 12 ببعض تصرف. 2 المعجم المفهرس. 3 تفسير القرآن الكريم الجزء الأول ص320، 321 4 فتح القدير الجزء الأول ص289 5 تيسير الكريم الرحمن الجزء الأول ص159 6 صفوة التفاسير الجزء الأول ص 170 الجزء: 53 ¦ الصفحة: 80 واقترن اسم (الحميد) باسم الغني (الغني) سبحانه كذلك في مثل قوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} (النساء آية131) . ومعنى هذه الآية: على ما ذكره الحافظ ابن كثير أن الله تعالى مالك السماوات والأرض، وأنه الحاكم فيهما، وأنه وصى المؤمنين، بما وصى به الذين أوتوا الكتاب من قبلهم من تقوى الله تعالى بعبادته وحده لا شريك له، وأنهم لم كفروا فإنه سبحانه غني عن عباده، حميد أي محمود في جميع ما يقدره ويشرعه1. والمعنى عند الإمام الشوكاني تقرير كمال سعته سبحانه وشمول قدرته، وقد أمر الذين أوتوا الكتاب والمؤمنين فيما أنزل عليهم من الكتب بأن يتقوا الله، فإنهم إن يكفروا فإن الله غني عنهم إن يشأ يذهبهم ويأت بقوم آخرين لا يكونون أمثالهم، والله سبحانه غني عن خلقه، حميد أي مستحمد إليهم2. وقد ساق الشيخ السعدي (رحمه الله) للآية معاني نفيسة، فذكر أن الله تعالى يخبر عن عموم ملكه العظيم الواسع المستلزم تدبيره بجميع أنواع التدبير، وتصرفه بأنواع التصريف قدرا وشرعا. فتصرفه الشرعي أن وصى الأولين والآخرين أهل الكتب السابقة واللاحقة بالتقوى المتضمنة للأمر والنهي، وتشريع الأحكام والمجازاة لمن قام بهذه الوصية بالثواب والمعاقبة لمن أهملها وضيعها بأليم العذاب. ولهذا قال: {وَإِنْ تَكْفُرُوا} بأن تتركوا تقوى الله وتشركوا بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا، فإنكم لا تضرون بذلك إلا أنفسكم، ولا تضرون الله شيئا، ولا تنقصون ملكه، وله عبيد خير منكم وأعظم وأكثر، مطيعون له، خاضعون لأمره، ولهذا رتب على ذلك قوله: {وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيّاً حَمِيداً} له الجود الكامل، والإحسان الشامل، الصادر من خزائن رحمته التي لا ينقصها الإنفاق، ولا يغيضها نفقة، سحّاء الليل والنهار، لو اجتمع أهل السماوات وأهل الأرض أولهم وآخرهم فسأل كل واحد منهم ما بلغت أمانيه، ما نقص من ملكه شيئا، ذلك بأنه جواد واجد ماجد،   1 تفسير القرآن الكريم الجزء الأول ص564 2 فتح القدير الجزء الأول ص523. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 81 عطاؤه كلام، وعذابه كلام، إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول له كن فيكون. ومن تمام غناه أنه كامل الأوصاف، إذ لم كان فيه نقص بوجه من الوجوه لكان فيه نوع افتقار إلى ذلك الكمال، بل له كل صفة كمال، ومن تلك الصفة كمالها، ومن تمام غناه أنه لم يتخذ صاحبة، ولا ولدا، ولا شريكا في ملكه، ولا ظهيرا، ولا معاونا له على شيء من تدابير ملكه. ومن كمال غناه افتقار العالم العلوي والسفلي في جميع أحوالهم وشئونهم إليه، وسؤالهم إياه جميع حوائجهم الدقيقة والجليلة، فقام تعالى بتلك المطالب والأسئلة، وأغناهم، ومنّ عليهم بلطفه وهداهم. وأما (الحميد) فهو من أسماء الله تعالى الجليلة، الدال على أنه المستحق لكل حمد، ومحبة، وثناء، وإكرام، وذلك لما اتصف به من صفات الحمد التي هي صفة الجمال والجلال، ولما أنعم به على خلقه من النعم الجزال، فهو المحمود على كل حال. وما أحسن اقتران هذين الاسمين الكريمين (الغني الحميد) ، فإنه غني محمود، فله كمال من غناه، وله كمال من حمده، وله كمال من اقتران أحدهما بالآخر1. وذكر صاحب صفوة التفاسير أن المعنى هو أن {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي ملكا وخلقا وعبيدا، وأنه سبحانه وصى الأولين والآخرين وأمرهم أجمعين بامتثال الأمر والطاعة، ووصاهم جميعا بتقوى الله وطاعته، وإن يكفروا فلا يضره تعالى كفرهم، لأنه مستغن عن العباد، وهو المالك لما في السماوات والأرض، فهو غني عن خلقه، محمود في ذاته، لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين 2. فالحمد لله أولا وآخر، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.   1 تيسير الكريم الرحمن –الجزء الثاني ص89 2 صفوة التفاسير المجلد الأول ص309 الجزء: 53 ¦ الصفحة: 82 مفهوم الأسماء والصفات (الحلقة الثامنة) ... مفهوم الأسماء والصفات سعد ندا المدرس بالجامعة الإسلامية أحمد الله تبارك وتعالى، وأثني عليه الخير كله، لا أحصي ثناء عليه هو كما أثنى على نفسه، وأسأل الله ربي أن يديم علينا نعمة عقيدة التوحيد، وأن يثبت قلوبنا عليها، وأن يختم لنا بها ختام الإيمان. وإتماما للحلقات السمع الماضية، أواصل -بحول الله وقوته- بحثي في محاولة لبيان ما يوفقني الله تعالى إلى فهمه من معاني أسمائه الحسنى. * وقد كان البحث في الحلقات السابقة في اسم (الحميد) سبحانه، وأنه قد اقترن باسم (الغني) سبحانه عشر مرات، ذكرتُ منها بعضا، أضيفُ إليه قولهُ تعالى: {وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ} (إبراهيم:8) . والمعنى أنه سبحانه غني عن شكر عباده، وهو الحميد المحمود وإنْ كفره من كفره، كقوله: {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} الآية، وقوله: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} ، وفى صحيح مسلم عن أبي ذر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: "يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجلاِ واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أن أَولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أَفجر قلب رجل واحدٍ منكم ما نقص ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي لو أَن أولكم وأخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ فسألوني فأعطيتُ كل إنسان مسألته، ما نقص ذلك من ملكي شيئا إلا كما ينقص المخيط إذا دخل البحر" فسبحانه وتعالى الغني الحميد1. وقد جاء في جامع البيان أن معنى الآية أَن الله غني عن خلقه وشكرهم، وهو سبحانه مستحق للحمد في ذاته، وإن لم يحمده الحامدون2.   1 تفسير ابن كثير جـ 2 ص 525. 2 جامع البيان في تفسير القرآن للإبجي جـ 1 ص 357. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 124 وذكر الإمام الشوكاني أن معنى الآية أَن الله تعالى غني عن شكركم، لا يحتاج إليه ولا يلحقه بذلك نقص، وهو سبحانه مستوجبٌ للحمد لذاته، لكثرة إنعامه وإن لم تشكروه أو يحمده غيركم من الملائكة1. وجاء في تيسير الكريم الرحمن أن المعنى أن الطاعات لا تزيد في ملكه والمعاصي لا تنقص، وهو كامل الغنى، حميد في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، ليست له من الصفات إلا كل صفة حمد وكمال، ولا من الأسماء إلا كل اسم حسن، ولا من الأفعال إلا كل فعل جميل2. وجاء في صفوة التفاسير أن معنى الآية أنه سبحانه غني عن شكر عباده، مستحق للحمد في ذاته، وهو المحمود وإن كفره من كفره3. أقول: واقتران اسم (الحميد) سبحانه باسم (الغني) جل وعلا، أفهم منه أنه تبارك وتعالى هو الغني غنىً مطلقا، وجميع خزائن أنواع الخير لديه، بَيْدَ أنه لا يُنزل منها على عباده إلا بمقادير معينة بحكمة تامة، كما يقول تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ} (الحجرات آية 21) ، ومن ثم فهو سبحانه لا يحتاج إلى واحد من خلقه مهما علا قدره وامتد سلطانه، إذ الحاجة مظهر من مظاهر الضعف، والضعيف المحتاج إلى غيره لا يصلح أَن يكون إلهاً، ولما كان الله عز وجل من صفاته الغنى المطلق عن كل ما خلق، فإنه الجدير حقاً بأن يكون رباً وإلهاً لجميع ما خلق، وأنَّ كل خلقه محتاجون إليه أعظم احتياج، ومدينون له بكافة أنواع الحمد، لأنه مصدر كافة أنواع النعم، وفي هذا يقول عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} (فاطر آية 15) . وقد اقترن اسم (الحميد) سبحانه باسمه (العزيز) ثلاث مرات4 وذلك في قوله تعالى: {الر، كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (إبراهيم آية 1) . وتقتضي الفائدة- ولو أن موضعها في هذا المقام استطرد أرجو أن يكون نافعاً إن شاء   1 فتح القدير جـ 3 ص 96. 2 تيسير الكريم الرحمن جـ 4 ص 62. 3 صفوة التفاسير المجلد 2 ص 91. 4 المعجم المفهرس. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 125 الله- أن أوجز ما قيل في الحروف المقطعة في أوائل بعض سور القرآن الكريم بمناسبة ذكر آية مفتتح سورة إبراهيم (عليه السلام) ، وذلك على الوجه التالي: تبلغ الحروف في أوائل السور- بحذف المكرر منها أربعة عشر حرفاً، وهي (أ-ل-م-ص-ر-ك-هـ- ع- ي- ط- س-ح-ق- ن) يجمعها قولك (نَص حَكِيمٌ قَاطِعٌ له سر) وهي نصف حروف الهجاء عدداً- وهذه الحروف الأربعة عشر مشتملة قال عنها الزمخشري إنها على أصناف أجناس الحروف يعني: من المهموسة والمجهورة، ومن الرخوة والشديدة، ومن المطبقة والمفتوحة ومن المستعلية والمنخفضة. ومن حروف القلقلة، ثم قال: وقد جاء منها على حرف واحد مثل (ص-ن-ق) ، وعلى حرفين مثل (حم) ، وعلى ثلاثة أحرف مثل (الم) ، وعلى أربعة مثل (المر- المص) ، وعلى خمسة أحرف مثل (كهعيص- حم عسق) لأن أساليب كلامهم على هذا من الكلمات ما هو على حرف، وعلى حرفين، وعلى ثلاثة. وعلى أربعة، وعلى خمسة لا أكثر. وقد اتجه المفسرون في الحروف المقطعة إتجاهين: الإتجاه الأول: أنها مما استأثر الله بعلمه، فردوا علمها إلى الله ولم يفسروها. والإتجاه الثاني: فسروها واختلفوا في معناها، فقيل: إنها أسماء للسور، وذلك لما ورد في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الصبح يوم الجمعة الم السجدة، وهل أتى على الإنسان". وقيل: إنها اسم من أسماء الله تعالى- فقد روى ابن جرير عن بندار عن ابن مهدي عن شعبة قال (سألت السدي عن حم وطس وألم فقال: قال ابن عباس هي اسم الله الأعظم) . وأما عن الحكمة التي اقتضت إيراد هذه الحروف في أوائل السور فقد ذكرت أقوال لعل أصحها أنها وردت بياناً لإعجاز القرآن، وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله، هذا مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها. وقد حكى هذا القول الرازي عن المبرد وجمع من المحققينْ، والقرطبي عن الفراء وقطرب، وحكاه الزمخشري في كشافه ونصره أتم نصر، وذهب إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وحكاه عنه الحافظ أبو الحجاج المزي. وقد ذهب إلى هذا الرأي الحافظ ابن كثير وقال: ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الانتصار للقرآن وبيان إعجازه وعظمته، وهذا معلوم بالاستقراء، وهو الواقع في تسع وعشرين سورة، ولهذا يقول تعالى: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} (البقرة آية 1. 2) ، {الم، اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 126 بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْه} (آل عمران آية 1. 2. 3) ، {المص كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ} (الأعراف آية 1. 2) ، {الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} (إبراهيم آية 1) ، {الم تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (السجدة آية 1، 2) ، {حم عسق كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الشورى آية 1، 2، 3) ، وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أمعن النظر، والله أعلم1. هذا ما يتعلق بالحروف المقطعة. أما آية مفتتح سورة إبراهيم فمعناها- بعد الحروف المقطعة- أن هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد وهو القرآن العظيم الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء على أشرف رسول بعثه الله في الأرض إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم، لتخرج به الناس مما هم فيه من الضلال والغي إلى الهدى والرشد، بإذن ربهم لأنه هو الهادي لمن قدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره، يهديهم إلى صراط العزيز الذي لا يمانَع ولا يغالَب، بل هو القاهر لكل ما سواه، الحميد أي المحمود في جميع أفعاله، وأقواله، وشرعه، وأمره، ونهيه، الصادق في خبره2. وقال الإمام الشوكاني إن معنى الآية المذكورة أننا أنزلنا الكتاب إليك يا محمد، لتخرج الناس من ظلمات الكفر والجهل والضلالة إلى نور الإيمان والعلم والهداية، جعل الكفر بمنزلة الظلمات، والإيمان بمنزلة النور، واللام في: لتخرج للغرض والغاية، والتعريف في الناس للجنس. والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم يخرج الناس بالكتاب المشتمل على ما شرعه الله لهم من الشرائع مما كانوا فيه من الظلمات إلى ما صاروا إليه من النور، وذلك بإذن ربهم إلى صراط العزيز القادر الغالب، الحميد الكامل في استحقاق الحمد3. ومعنى الآية في جامع البيان: أنه كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس بدعوتك إياهم إلى ما فيه من أنواع الضلال إلى الهدى بأمر الله وتوفيقه إلى صراط العزيز الغالب، الحميد المستحق للحمد4. ومعنى الآية في تفسير الكريم الرحمن: أنه تعالى نزل كتابه على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم لنفع الخلق، ليخرج الناس من ظلمات الجهل، والكفر، والأخلاق السيئة،   1 تفسير الحافظ ابن كثير الجزء الأول ص 36-39. 2 تفسير ابن كثير الجزء 3 ص 523 بقليل تصرف. 3 فتح القدير الجزء 3 ص 93 بقليل تصرف. 4 جامع البيان في تفسير القرآن ص 356. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 127 وأنوع المعاصي إلى نور العلم والإيمان، والأخلاق الحسنة، ولا يحصل منهم المراد المحبوب لله إلا بإرادة من الله ومعونة، ففيه حث للعباد على الإستعانة بربهم. ثم فسر النور الذي يهديهم إليه هذا الكتاب فقال: إلى صراط العزيز الحميد، أي الموصل إليه، وإلى دار كرامته، المشتمل على العلم بالحق والعمل به. وفى ذكر العزيز الحميد بعد ذكر الصراط المتصل إليه إشارة إلى أن من سلكه فهو عزيز بعزة الله، قوي ولو لم يكن له أنصار إلا الله، محمود في أموره، حسن العاقبة، وليدل ذلك على أن صراط الله من أكبر الأدلة على ما لله من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وأن الذي نصبه لعباده عزيز السلطان، حميد في أقواله، وأفعاله، وأحكامه، وأنه مألوه معبود بالعبادات التي هي منازل الصراط المستقيم1. ومعنى الآية في صفوة التفاسير: أن هذا الكتاب المعجز مؤلف من جنس هذه الحروف المقطعة، فأتوا بمثله إن استطعتم، وقد أنزلناه عليك يا محمد لم تنشئه أنت، وإنما أوحيناه إليك، لتخرج البشرية من ظلمات الجهل والضلال إلى نور العلم والإيمان، بأمر الله وتوفيقه، إلى طريق الله العزيز الذي لا يغالب، المحمود بكل لسان، الممجد في كل مكان2. أقول: واقتران اسم (الحميد) سبحانه باسم (العزيز) جل وعلا، أفهم منه أنه تبارك وتعالى هو العزيز بعظمته وجلاله وقدرته وقهره وغلبته وسلطانه على كل ما خلق، وأن العزة صفة من صفات كماله، فمن أرادها فليهرع إلى مالكها لينقذه من ذلته، ويعزه سبحانه بعزته، كما أمرنا تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً} (فاطر آية 10) ، ومع ذلك فلو نال العبد العزة من خالقه سبحانه، فإن عزته محدودةٌ بحدود تناسب بشريته وما جبلها الله عليه من طاقات وقُدرْات، لكن عزة الله ذي الجلال مطْلقَةٌ لاَ نِهَايَةَ لها تًناسب عظمته وجلاله. ورغم أنه جل وعلا العزيز القوي، الغالب، القاهر، فهو كذلك المحبوب، (الحميد) سبحانه، بمعنى المحمود المستحق أن يحمد بجميع أنوع المحامد، حتى ولو لم يحمده بعض العُمي المتخبطين ممن جحدوا نعمه وفضله وكماله وجلاله، إذ هو الجدير بكافة ألوان الحمد، والأهل لها، على وجه الثبات والاستمرار، ذلك بأن صفات كماله سبحانه – ومنها صفة العزة وصفة الحمد- ملازمة له لا تنفك عنه لحظةً ما، فمن أراد كذلك أن يحَمد على قوله، وعلى فعله، فليلتزمْ نهجَ (الحميد) سبحانه، ولنا في رسولنا الكريم محمد صلى   1 تيسير الكريم الرحمن الجزء 4 ص 60. 2 صفوة التفاسير المجلد 2 ص 90. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 128 الله عليه وسلم أسوة حسنة، إذ أنه حين التزم نهج الله (الحميد) كان مما وعده تعالى به يوم القيامة أن يبعثه مقاماً يحمد فيه وذلك في قوله عز وجل: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَحْمُوداً} (الإسراء آية 79) . وعاب الله على أولئك الذين ساءت أفعالهم، ورغم ذلك يحبون أن يحمدهم الناس على تمسكهم بالحق وهم على ضلال، ثم توعدهم سبحانه بالعذاب الأليم، فقال جل وعلا: {لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران آية 188) . والذي ألفه الناس فيما يتعاملون به بينهم، أن الشخص إذا كان قوياً متسلطاً على غيره، غالباً قاهراً لمن دونه، أن يكون مثل هذا الشخص مكروها غير محبوب ولا ممدوح، لكن الله عز وجل-ولله المثل الأعلى- رغم سلطانه وقوته، وقهره وغلبته، وهيمنته وعزته، فإنه تعالى هو المحبوب غاية الحب لكمال نعمه على خلقه، وهو الحميد المحمود غاية الحمد لكمال صفاته التي تغاير تماماً صفات خلقه، وإن اشتركت أحياناً ألفاظ هذه الصفات، ذلك بأنه سبحانه لا يمَاثِلُهُ واحدٌ من خلقه، ولا يماثِلُ واحداً من خلقه، فهو تعالى كما وصف نفسه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى آية 11) . أي ليس له تعالى مثيل ولا نظير، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد. وقال القرطبي: والذي يعتَقَدُ في هذا الباب أن الله -جلّ أسمه- لا يشبه شيئاً من مخلوقاته. ولا يشبَّه به أحد، وما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي، إذ صفات الخالق -عزَّ وجلَّ- بخلاف صفات المخلوقات، وإذْ صفاتهم لا تنفكُّ عن الأعراض والأغراض، وهو تعالى منزهُ عن ذلك، وقد قال بعض المحققين: التوحيد إثبات ذاتٍ غير مشبهةٍ للذوات، ولا معطَلةٍ من الصفات، إذ ليس كذاته -سبحانه- ذات، ولا كأسمائه أسماء، ولا كأفعاله أفعال -وهذا هو مذهب أهل الحق، أهل السنة والجماعة1. والموضع الثاني الذي اقترن به اسم (الحميد) سبحانه باسم (العزيز) هو قوله تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} (سبأ آية 6) . ومعنى هذه الآية أن المؤمنين بما أنزل على الرسل إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار بالذي كانوا قد علموه من كتب الله تعالى في الدنيا، رأوه حينئذ عين اليقين، وأن هذا الحق هو وحده الذي يهدي إلى صراط العزيز المنيع   1 تفسير القرطبي الجزء 16 ص 8 بقليل تصرف. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 129 الجناب، الذي لا يًغَالبَ ولا يًمَانَع، بل قهر كل شيء وغلبه، وهو الحميد في جميع أقواله، وأفعاله، وشرعه، وقدره، وهو المحمود في ذلك كله جل وعلا1. ومعنى الآية في جامع البيان أن الذين أوتوا العلم كمؤمني أهل الكتاب أو كالصحابة ومن تبعهم يرون -عند مجيء الساعة- أن القرآن هو الحق عياناً كما علموه الآن برهاناً وهو يهدي إلى صراط العزيز الحميد وهو دين الإسلام. وذكر الشوكاني معنى قوله تعالى: {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} ، أنه يهدي إلى طريق العزيز في ملكه، الحميد عند خلقه، والمراد أنه يهدي إلى دين الله وهو التوحيد2. ومعنى الآية في صفوة التفاسير أن القرآن يرشد من تمسك به إلى طريق الله العزيز أي الغالب الذي لا يقهر، الحميد أي المحمود في ذاته وصفاته وأفعاله3. والموضع الثالث الذي اقترن به اسم (الحميد) سبحانه باسم (العزيز) قوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} . ومعنى هذه الآية أنه ما كان لهم عندهم ذنب إلا إيمانهم بالله (العزيز) الذي لا يضام من لاذ بجنابه المنيع. (الحميد) في جميع أقواله، وأفعاله، وشرعه، وقدره، وإن كان قد قدر على عباده هؤلاء هذا الذي وقع بهم بأيدي الكفار به، فهو العزيز الحميد وإن خفي سبب ذلك على كثير من الناس4.   1 تفسير ابن كثير الجزء 3 ص 526 بقليل تصرف. 2 فتح القدير الجزء 4 ص 313. 3 صفوة التفاسير المجلد 2 ص 546 4 تفسير ابن كثير الجزء 4 ص 493. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 130 مفهوم الأسماء والصفات سعد نداالمدرس بالجامعة الإسلامية أحمد الله ربي حمداً كثراً طيباً مباركاً فيه كما يحب - سبحانه- ويرضى على توفيقي إلى الدخول في شيء من بيان بعض معاني أسماء الله الحسنى، وأسأله- جل وعلا- أن يديم عليّ توفيقه حتى أكمل ما بدأت من بيان- هو جهد المقلّ- الذي أضرع إلى الله- عز وجل- أن يجعله خالصاً لوجهه الكريم. وقد بدأتُ في الحلقة الثامنة ببيان بعض معاني الاسم الثاني والأربعين، وهو اسم (الحميد) سبحانه، وانتهيتُ فيها ببيان اقترانه باسم (العزيز) عز وجل. وإتماما للفائدة أَضيف في هذه الحلقة أن اسم (الحميد) قد اقترن كذلك باسم (المجيد) في القرآن الكريم مرة واحدة 1 في قوله تعالى {قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} (هود الآية 73) . ومعنى هذه الآية: أن امرأة إبراهيم عليه السلام لما بشرتها الملائكة بإسحاق ومن ورائه يعقوب عجبتْ لقيام مانعيْن من وجود الولد وهما: أنها عجوزٌ لا تلد، وأن زوجها شيخ لا تحمل من مثله النساء، فقالت لها الملائكة إنكاراً لتعجبها، لا تعجبي من أمر الله فإنه إذا أراد شيئاً أن يقول له: كُنْ فيكون. فلا تعجبي من هذا وإن كنت عجوزاً عقيماً وبعلك شيخاً كبيراً، فإن الله على ما يشاء قدير، وهو سبحانه الحميد في جميع أفعاله وأقواله، المحمود الممَجد في صفاته وذاته، ولهذا ثبت في الصحيحين أنهم قالوا: قد علمنا السلام عليك، فكيف الصلاة عليك يا رسول الله؟ قال: " قولوا: اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد" 2.   المعجم المفهرس. 2 تفسير الإمام ابن كثير الجزء الثاني ص453 ـ بقليل تصرف ـ. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 65 ومعنى الآية المذكورة عند الإمام الشوكاني: أن الملائكة قالت لامرأة إبراهيم عليه السلام إنكارا لتعجبها: كيف تعجبين من قضاء الله وقدره، وهو لا يستحيل عليه شيء؟ وقد كان إنكارهم عليها - مع كون ما تعجبت منه من خوارق العادة- لأنها من بيت النبوة، ولا يخفى على مثلها أن هذا من مقدوراته سبحانه، ولهذا قالوا: {رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ} أَي الرحمة التي وسعت كل شيء، أو النبوة والبركات وهي النمو والزيادة، أو الأسباط من بنى إسرائيل لما فيهم من الأنبياء. ومعنى {إِنَّهُ حَمِيدٌ} أي بفعل موجبات حمده من عباده على سبيل الكثرة، ومعنى {مَجِيدٌ} أي كثير الإحسان إلى عباده بما يفيضه عليهم من الخيرات 1. والمعنى في تيسير الكريم الرحمن: أن الملائكة قالت لامرأة إبراهيم عليه السلام لا تعجبي من أمر الله، فإن أمره لا عجب فيه لنفوذ مشيئته التامة في كل شيء، فلا يستغرب على قدرته شيء، وخصوصاً فيما يدبّره ويمضيه لأهل هذا البيت المبارك، ولا تزال رحمته وإحسانه وبركاته عليكم أهل البيت، (إنه حميدٌ) أى حميد الصفات لأن صفاته صفات كمال، حميد الأفعال لأن أفعاله إحسان، وجودٌ، وبرّ، وحكمة، وعدلٌ، وقسط، وهو سبحانه (مجيد) أَي عظيم الصفات واسعها، فله صفات الكمال، وله من كل صفة كمال أكملها وأتمها وأَعمها 2. * أقول: والذي يبين لي من اقتران اسم (الحميد) سبحانه باسم (المجيد) جل وعلا، أَنه عز وجل قد عظمت ذاته وتمجدت على وجه مطلق، وتمجدت كذلك أَسماؤه الحسنى التي اختارها سبحانه لنفسه، والتي تضمنت جميع صفاته الكمال المطلق، ومن ثم فإن أفعال هذا الإله العظيم (المجيد) إنما هي جميعها أفعال عظيمة مجيدة في اختيارها، وتقديرها، وإنفاذها، ويستحق سبحانه على كل فعل منها كمال الحمد الذي لا يستحقه أحد غيره، سواءٌ حَمِدَهُ بالفعل عبادهُ، أم أعرضوا عن حمده، فهو جل وعلا- وحده- المستحقُ لكافة أنواع الحمد رغم أنوف كل الجاحدين المعرضين. . وقد اقترن اسم (الحميد) كذلك باسم (الحكيم) في القران الكريم مرة واحدة 3 في قوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت آية 42) .   1- فتح القدير الجزء الثاني ص511 ـ بقليل تصرف ـ. 2 تيسير الكريم المنان الجزء الثالث ص208 ـ بقليل تصرف ـ. 3 المعجم المفهرس. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 66 وهذه الآية جاءت بعد قوله تعالى: {وَإنهُ لكِتَابٌ عزيز} (فصلت آية 41) والمعنى أن القرآن الكريم كتاب منيع الجناب لا يُرَام أن يأتي أحدٌ بمثله، وليس للبطلان إليه سبيل لأنه منزلٌ من رب العالمين، الحكيم في أقواله وأفعاله، الحميد بمعنى المحمود في جميع ما يأمر به عبادَه وينهاهم عنه، المحمودة عواقبه وغاياته 1. والمعنى في جامع البيان في تفسير القرآن أن القرآن الكريم أعزه الله، ليس للبطلان إليه سبيل، أو لا يبطله الكتب المتقدمة، ولا يأتيه كتاب بعده يبطله، فهو تنزيلٌ من حكيم حميد في ذاته وإن لم يحمده الحامدون 2. والمعنى في تيسير الكريم الرحمن أنه كتاب جامع لأوصاف الكمال، (عزيز) أي منيع من كل من أراده بتحريف أو سوء، ولهذا قال تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} أي لا يقربه شيطانٌ من شياطين الإنس والجن لا بسرقة، ولا بإدخال ما ليس منه به، ولا بزيادة ولا بنقص، فهو محفوظ في تنزيله، محفوظة ألفاظه ومعانيه، قد تكفل مَنْ أنزله بحفظه كما قال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} ، وهو {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ} في خلقه وأمره، يضع كل شيء في موضعه وينزله منازله، (حميد) على ما له من صفات الكمال، ونعوت الجلال، وعلى ما له من العدل والأفضال، لهذا كان كتاباً مشتملاً على تمام الحكمة وعلى تحصيل المصالح والمنافع، ودفع المفاسد والمضار التي يحمد عليها (المحمود) عز وجل 3. * أقول: ويظهر لي من اقتران اسم (الحميد) سبحانه باسم (الحكيم) أن الله جل وعلا- ومن صفاته الحكمة على وجه مطلق - قد وضع كل شيء في وضعه المناسب، فأنزل الكتاب الحق المهيمن على الكتب السابقة على خير خلقه وخاتم أنبيائه ورسله وأفضلهم، وصاحب الدين الحق المهيمن على سائر الأديان السابقة. وقد حفظ الله عز وجل هذا الكتاب بهيمنته على مدى الزمن، لأنه لا كتاب بعده، وضمَّنه الحق والهدف الذي إن تمسك به الناس فلن يضلوا أبداً، فضلاً عن أنه سبحانه خلق كل شيء على الوجه المناسب له، وأعطى كل شيء خلقه ثم هدى- وهذه كلها أفعال تتم بحكمة الحكيم سبحانه، وكلها تستأهل أن يحمد عز وجل عليها الحمد كله. . كذلك اقترن اسم (الحميد) سبحانه باسم (الولي) في القرآن الكريم مرة   1 تفسير الإمام ابن كثير الجزء الرابع ص103 ـ بقليل تصرف ـ. 2 جامع البيان في تفسير القرآن للإيجي الجزء الثاني ص250. 3 تيسير الكريم الرحمن الجزء السابع ص88 ـ بقليل تصرف ـ. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 67 واحدة 1. في قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} (الشورى آية 28) . ومعنى الآية أنه بعد إياس الناس من نزول المطر ينزله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه، كقوله عز وجل {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ} وقوله جل جلاله {وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ} أي يعم بها الوجود على أهل ذلك القطر وتلك الناحية - قال قتادة: ذكر لنا أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: يا أمير المؤمنين قحط المطر وقنط الناس، فقال عمر رضي الله عنه: مُطِرْتُمْ، ثم قرأ {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} أي هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم، وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله 2. ومعنى الآية عند الإمام الشوكاني: أن الله تعالى ينزل المطر الذي هو أنفع أنواع الرزق، وأعمها فائدةً، وأكثرها مصلحةً من بعد ما أيِسَ الناسُ عن ذلك، فيعرفون بهذا الإنزال للمطر بعد القنوط مقدار رحمة الله تعالى لهم، ويشكرون له ما يجب الشكر عليه، وهو سبحانه (الوليُّ) للصالحين من عباده بالإحسان إليهم، وجلب المنافع لهم، ودفع الشرور عنهم، (الحميد) أي المستحق للحمد منهم على إنعامه خصوصا وعموما 3. والمعنى في تيسير الكريم الرحمن: أن الله تعالى ينزل المطر الغزير الذي به يغيث البلاد والعباد من بعد ما انقطع عنهم مدةً ظنوا أنه لا يأتيهم، وأيسُوا وعملوا لذلك الجدب أعمالاً، فينزل الله الغيثَ، وينشر به رحمتَه من إخراج الأقوات للآدميين وبهائمهم، فيقع عندهم موقعاً عظيماً، ويستبشرون بذلك ويفرحون، (وهو الوليُّ) الذي يتولى عبادَه بأنواع التدبير، ويتولى القيام بمصالح دينهم ودنياهم، وهو (الحميد) أي المحمود في ولايته وتدبيره، والمحمود على ما له من الكمال، وما أوصله إلى خلقه من أنواع الأفضال 4. - أقول: ومن اقتران اسم (الحميد) سبحانه باسم (الولي) جل وعلا قبله، يبدو لي أنه تبارك وتعالى يتولى أمر عباده بصفة عامة بخلقهم، وإبرائهم، وتصويرهم، ورَزْقِهِم، وتدبير أمورهم وتصريفها جميعاً، ويتولى كذلك أمرَ عباده المؤمنين بصفة خاصة بتوفيقهم دائما للخير والهدى، وتوجيه قلوبهم إلى التزام الحق والوقوف عند حدود الله، والبعد عن محارمه، وكل هذه الولاية من الله عز وجل- وهي أمر لا يقوى عليه سواه، ولو لم توفر   1 المعجم المفهرس. 2 تفسير ابن كثير الجزء الرابع ص116 3 فتح القدير الجزء الرابع ص535 ـ بقليل تصرف ـ. 4 تيسير الكريم الرحمن الجزء السابع ص106. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 68 للخلق لضاعوا وهلكوا- تؤكد لنا أن الله تعالى هو (الحميد) أي المحمود حقَّا في ذاته، وفي أسمائه، وفي صفاته، وفي أفعاله جميعاً. فسبحانه من إله عظيم تفرَّدَ بكل صفات الكمال على وجه الإطلاق. . وقد ورد اسم (الحميد) في القرآن الكريم غير مقترن بأي اسم من أسماء الله تعالى، مرة واحدة 1 في قوله تعالى: {وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراطِ الحميدِ} (الحج آية 34) - ويعود الضمير في قوله (وهدوا) على المؤمنين في الآية السابقة، وهى قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} (الحج آية 33) . ومعنى الآيتين: أن المؤمنين الذين عملوا الصالحات يدخلون جناتٍ تتخرق الأنهار في أكنافها، وأرجائها، وجوانبها، وتحت أشجارها وقصورها، يصرفونها حيث شاءوا وأين أرادوا، يحلَّوْنَ فيها من الحِلية في أيديهم أساورَ من ذهبٍ ولؤلؤاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: "تبلغ الحليةُ من المؤمن حيث يبلغُ الوضوء "، {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} استبرقه وسندسه، كما قال تعالى: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً، إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً} . (ولباسهْمْ فيها حريرٌ) وفي الصحيح: "لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا، فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة". ومعنى (وهدوا إلى الطيب من القول) أي هدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلامَ الطيبَ، كقوله تعالى: {وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} ، وقوله: {وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ, سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} وقوله: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً, إِلا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} . {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} : أي وهدوا إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على ما أحسن إليهم وأنعم به وأسداه إليهم، كما جاء في الحديث الصحيح: "إنهم يلهمون التسبيح، والتحميد، كما يلهمون النفس". وقيل: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْل} : القرآن، وقيل: لا إله إلا الله، وقيل: الأذكار المشروعة.   1 المعجم المفهرس. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 69 {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي الطريق المستقيم في الدنيا، وكل هذا لا ينافى ما ذكر قبله 1. ويقول الإمام الشوكاني في معنى قوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْل} أي أرشدوا إليه، قيل: هو لا إله إلا الله وقيل: الحمد لله، وقيل: القرآن، وقيل: هو ما يأتيهم من الله سبحانه من البشارات. وقد ورد في القرآن ما يدل على هذا القول المجمل هنا، وهو قوله سبحانه: الحمد لله الذي صدقنا وعده- الحمد لله الذي هدانا لهذا- الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن. وقال في معنى قوله تعالى: {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أنهم أرشِدوا إلى الصراط المحمود وهو طريق الجنة، أو صراط الله الذي هو دينه القويم، وهو الإسلام 2. ومعنى {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْل} في تيسير الكريم الرحمن: أنهم هدوا إلى الطيب من القول الذي أفضله كلمة الإخلاص ثم سائر الأقوال الطيبة التي فيها ذكر الله أو إحسان إلى عباد الله. ومعنى {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي الصراط المحمود، وذلك لأن جميع الشرع كله محتوٍ على الحكمة وحسن المأمور به وقبح المنهي عنه، وهو الدين الذي لا إفراط فيه ولا تفريط، المشتمل على العلم النافع والعمل الصالح- أو وهدوا إلى صراطِ الله الحميدِ، لأن الله كثيرا ما يضيف الصراط إليه لأنه يوصل صاحبه إلى الله. وفي ذكر (الحميد) هنا بيان أنهم نالوا الهداية بحمد ربهم، ومنَّته عليهم، ولهذا يقولون في الجنة {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ} 3. * أقول: وإفراد اسم (الحميد) سبحانه في هذه الآية دون أن يقرن باسم آخر من أسماء الله الحسنى كما ذكرت في الآيات التي سبق أن أوردتها، أفهم منه أن اسم (الحميد) استقلَّ بنفسه، كما استقلَّ اسم (الرحمن) في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُوراً} (الفرقان آية 60) . ويبدو لي أن اسم (الرحمن) سبحانه كما يتضمن صفة الرحمة التي بها يرْحَم جميع من خلق الله تعالى، بمعنى أنها صفةٌ ذاتيةٌ لله عز وجل لا تنفك عنه البتة، وتظهر آثارها باستمرار على الخلق في كل لحظة، فإن اسم (الحميد) سبحانه يتضمن كذلك صفة   1 تفسير ابن كثير الجزء الثالث ص214 ـ بقليل تصرف ـ. 2 فتح القدير الجزء ص445. 3 تيسير الكريم الرحمن الجزء الخامس ص141. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 70 الحمد بكل أنواعه، فهي صفة ذاتية لله عز وجل لا تنفك عنه، وتظهر آثارها باستمرار في كل لحظة. ومعناها أنه سبحانه مستحق لكل أنواع الحمد لأنه المحمود في ذاته، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وليس ذلك لأحد سواه سبحانه. كما يبدو لي أن العبد لابد أن يسلك في حياته سلوكاً يحمد عليه، لأن أعماله جميعاً يجب أن تُجرّد (للحميد) سبحانه، و (الحميد) لا يقبل إلا العملَ الحميدَ، كما أن (الطيبَ) لا يقبل إلا العملَ (الطيبَ) . ولو أن كل فرد تحرى أن يكون عمله حميداً، لصلح أمر الناس في الدنيا والآخرة، ولاختفت المنازعات والخصومات فيما بينهم، ولعاشوا جميعا إخوةً في الله متحابين. {أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ. وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ. وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ. أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ. إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ. لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ} سورة النحل. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 71 مَفهُومُ الأسمَاء والصِّفات سَعد نَدَا المدرس بالجامعة الإسلامية الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله ومن تبع هديه ووالاه، وبعد: فإذا توهم بعض الناس أن الكتابة في أسماء الله عز وجل أمر لا أهمية له وزعموا أنهم جميعاً يعرفون الله تعالى، ولا حاجة لهم إلى مثل هذه الموضوعات. فأقول: وهل يعرف ربه من يجهل ربه بأسمائه الحسنى وصفات كماله العليا التي اختارها هو سبحانه لنفسه وجعلها لنا سبيلاً إلى التعرف عليه جل وعلا؟ وهل يستطيع أن يعبد ربه ويجرد له عبادته من لم يتعرف على ربه ولم يعلم له اسما ولا صفة؟ وإلا فليدلني أولئك الزاعمون: ممن يطلب الواحد منهم الرزق مثلاً إن لم يكن يعرف أن من أسماء ربه سبحانه: الرزاق، ومن صفاته صفة الرزق؟ وممن يطلب المغفرة إن لم يكن يعرف أن من أسماء ربه سبحانه: الغافر والغفار، ومن صفاته صفة المغفرة؟ وهكذا. إن معرفة العبد أسماء ربه الحسنى وصفات كماله العليا له شأن عظيم، ومن روائع ما ذكره الإمام ابن القيم- رحمه الله- في أهمية التعرف على الله تعالى بأسمائه وصفاته وأفعاله قوله: "لا حياة للقلوب، ولا سرور، ولا لذة، ولا نعيم، ولا أمان، إلا بأن تعرف ربها، ومعبودها، وفاطرها، بأسمائه وصفاته، وأفعاله، ويكون ذلك أحب إليها مما سواه، ويكون سعيها فيما يقربها إليه. ومن المحال أن تستقل العقول البشرية بإدراك ذلك على التفصيل، فاقتضت حكمةُ العزيز العليم بأن بعث الرسل به مُعَرِّفين، وإليه داعين، ولمن أجابهم مبشرين، ولمن خالفهم منذرين، وجعل مفتاحَ دعوتهم وزبدةَ الجزء: 57 ¦ الصفحة: 73 رسالتهم معرفةَ المعبود سبحانه بأسمائه، وصفاته، وأفعاله. وعلى هذه المعرفة تنبني مطالبُ الرسالة جميعها، فإن الخوفَ والرجاء، والمحبة والطاعةَ والعبوديةَ تابعةٌ لمعرفة المرجُوّ، المخّوف، المحبوب، المُطاع، المعبُود. ولما كان مفتاحُ الدعوة معرفةَ الربِّ تعالى، قال أفضلُ الداعين إليه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل، وقد أرسله إلى اليمن: "إنك تأتى قوماً من أهل الكتاب، فليكنْ أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فإذا عرفوا الله، فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة ... الحديث". وهو في الصحيحين- واللفظ لمسلم1 0 ثم قال الإمام ابن القيم- رحمه الله-: " والمقصود أن الله تعالى أكمل للرسول ولأمته به دينهم، وأتم عليهم به نعمته. ومحال مع هذا أن يَدَعَ ما خُلِقَ له الخلقُ، وأُرسلت به الرسلُ، وأُنزِلت به الكتبُ، ونُصِبَتْ عليه القِبْلةُ، وأسِّسَتْ عليه المِلَّةُ، وهو باب الإيمان بالله، ومعرفته ومعرفة أسمائه، وصفاته، وأفعاله ملتبساً مشتبِهاً حقُّهُ بباطله، لم يتكلم فيه بما هو الحق بل تكلم بما هو الباطل، وأن الحق في إخراجه عن ظاهره. فكيف يكون أفضل الرسلِ وأجلُّ الكتب غيرَ وافٍ بتعريف ذلك على أتم الوجوه؟ مبين له بأكمل البيان؟ موضح له غاية الإيضاح؟ مع شِدَّة حاجة النفوس إلى معرفته، وهو أفضل ما اكتسبته النفوس، وأجلُّ ما حصلته القلوب؟ 2 ". بعد هذا التقديم، أعود إلى إتمام ما بدأته من الكلام على أسماء الله الحسنى، سائلا الله عز وجل أن يلهمني الرشاد. فأقول: المؤمن: هو اسم من أسماء الله عز وجل. وهو من (آمن) عباده من أن يظلمهم. وأصل (آمَنَ) : (أأمَنَ) بهمزتين لُيِّنت الثانية3.   1مختصر الصواعق المرسلة جـ اص 4، 5. 2المرجع السابق ص 7. 3مختار الصحاح في مادة (أون) .. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 74 وقيل: المؤمن: هو الذي يَصْدُق عبادَه وعْدَه: فهو من الإيمان: التصديق، أو يؤمنهم في القيامة من عذابه، فهو من الأمان، والأمْن ضد الخوف1 0 . وقد ورد اسم (المؤمن) جل وعلا في القرآن الكريم مرة واحدة فقط2. في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ ... } [الحشر آية 23] - وقد قيل في معنى (المؤمن) في هذه الآية: أنه سبحانه الذي يؤمن خلقه من ظلمه. المصدِّق الموقن: بمعنى أن الناس آمنوا بربهم فسماهم مؤمنين، وآمن الربّ الكريمُ لهم بإيمانهم. صدقهم3. - وقيل المؤمن: هو واهب الأمن4. - وقيل: المؤمن: فيه ستة أقوال: ا- أنه- سبحانه- الذي أمن الناسُ ظلمَه، وأَمِنَ مَنْ آمَنَ به عذابَه. قاله ابن عباس ومقاتل. 2- أنه المجير- قاله القرظي. 3- أنه الذي يُصَدِّق المؤمنين إذا وحدوه- قاله ابن زيد. 4- أنه الذي يصدِّق عباده وعدَه- قاله ابن قتيبة. 5- أنه الذي وحَّد نفسه لقوله تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} [آل عمران آية 118]- قاله الزجاج. 6- أنه الذي يُصدِّق ظُنون عباده المؤمنين ولا يُخيب آمالهم، كقول النبي صلى الله عليه وسلم "أنا عند حسن ظن عبدي بي" - حكاه الخطابي- وهذا الحديث جزء من حديث قدسي رواه كل من البخاري ومسلم في صحيحهما بتمامه ولفظه عند البخاري بتمامه عن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "يقول الله تعالى: أنا عند حسن ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإنْ ذكرني في ملإ ذكرته في ملأ خير منهم،   1النهاية لابن الأثير- الجزء الأول ص 69. 2المعجم المفهرس ص 90. 3جامع البيان عن تأويل آي القرآن- للطبري- جزء28 ص 54. 4الكشاف- للزمخشري- جزء4 ص 87. وجامع البيان للِإيجي- جزء2 ص 350. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 75 وإن تقرب إلىَّ شبراً تقربتُ إليه ذراعاً، وإنْ تقرب إلىَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن أتاني يمشي أتيتُه هرولة". والحديث يرشد إلى تحسين الظن بالله عز وجل، وهذا لا يكوِن إلا لمن تاب، وندم، وأقلع، وأَتبع السيئة الحسنةَ، واستقبل بقية عمره بوسائل النجاة فمَن فعل ذلك ثم أحسن الظن، فقد أحسن وحلَّ محلَّه، وأما مَنْ أساء وأصر على الكبائر، فوَحْشَةُ المعاصي لا يجامِعها إِحسان الظنِّ بالله تعالى1. - وقيل: المؤمن: هو المُصَدِّقُ لرسله بإظهار معجزاته عليهم، ومصدِّق الكافرين ما أوعدهم من العقاب2. أو هو الذي يؤمِّن أولياء من عذابه، ويؤمِّن عبادَه من ظلمه، فيقال: آمنه من الأمان الذي هو ضد الخوف، كما قال تعالى {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ} [قريش آية 4] ، فهو سبحانه المؤمن3. - وقيل: المؤمن: أمن خلقه من أن يظلمهم- قال الضحاك عن ابن عباس. أو: أنه صدَّق عباده المؤمنين في إيمانهم به- قاله ابن زيد4. - وقيل: المؤمن هو المصدق لنفسه ولرسله عليهم السلام فيما بلغوه عنه سبحانه، أو بخلق المعجزة. أو: هو واهب عباده الأمن من الفزع الأكبر. أو: هو مؤمنهم منه إِما بخلق الطمأنينة في قلوبهم، أو بإخبارهم بأنهم لا خوفٌ عليهم. أو: أنه المصدق للمؤمنين أنهم آمنوا- قاله ثعلب. أو: أنه المصدق للمؤمنين في شهادتهم على الناس يوم القيامة5.   1زاد المسير في علم التفسير لأبى الفرج ابن الجوزى- ص 225- بقليل تصرف-. 2الجامع لأحكام القرآن- للقرطبي- جزء18 ص 46- بقليل تصرف- وفتح القدير- جزء5 ص 207-. 3الجامع لأحكام القرآن- للقرطبي- جزء18- ص 46- بقليل تصرف-.. 4تفسير ابن كثير- جزء4 ص 344. 5روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثانى- للألوسى جزء28- ص 63-. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 76 وقيل: المؤمن هو الطاهر الذي لا تعلق به شائبة. ومنه سمي المؤمن مؤمناً1. وقيل: المؤمن الذي أثنى على نفسه بصفات الكمال، وبكمال الجلال، وبكمال الجلال والجمال، الذي أرسل رسله وأنزل كتبه بالآيات والبراهين، وصدق رسله بكل آيةٍ وبرهانٍ يدل على صدقهم وصحة ما جاءوا به2. أقول: "وإذا كان علماء التفسير- على مدى العصور- قد ذكروا تلك المعاني السامية الرائعة لاسم (المؤمن) سبحانه، فإنه يبدوا لي أن هذا الاسم الكريم يعنى- بإِجمال هذه المعاني- أنه- جل وعلا- الطاهر الذي لا تعلق به شائبة ولا نقيصة، لأنه الكامل في كل صفاته كمالا مطلقا، وهو الذي يهب الأمن لعباده، فيؤمنهم جميعاً من الظلم لأنه سبحانه يتنزه عنه، ويؤمن قلوب المرسلين والمؤمنين بهم بما أنزل من الحق، ثم يؤمنهم من عذابه، لأنهم أولياؤه الذين آمنوا به ووحدوه وجردوا له العبادة، ويؤمنهم في الدنيا من كل خوف وحزن، كما قال تعالى: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} ] يونس آية 62 [، ويؤمنهم في الآخرة من الفزع الأكبر كما قال سبحانه: {لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} ] الأنبياء آية 103 [بل سيجعلهم شهداء على الناس ويجعل الرسول صلى الله عليه وسلم شهيداً عليهم يوم القيامة، كما قال تعالى: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} ] الحج آية 178 [0" فاسم (المؤمن) - سبحانه- يشمل كل حسن وجمال وخير، يشيع أثره في هذا الكون: أنظر إلى الأمن الذي يغشى الناس في أسرابها، والطيور في أوكارها، والأسماك والحيتان في بحارها، والزواحف في جحورها، وأسراب النمل في شقوقها، وجماعات النحل في بيوتها: حين تأكل، وحين تشرب، وحين تنام، وحين تتزاوج، وحين تتوالد. أنظر إلى الأمن السائد في كل المخلوقات، والطمأنينة المبسوطة على كل الكائنات، لتجد أن ذلك كله من آثار اسم (المؤمن) جل جلاله، الذي يهب الحياة لخلقه، ويهب الأمن للأحياء.   1التفسير القرآني للقرآن- جزء28 ص 883. 2تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان- للسعدي- جزء5- 301-. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 77 ومن ثم ينبغي عليك- أيها الإنسان- أن تكون مؤمناً (بالمؤمن) سبحانه، وأن تجرد له أعمالك جميعاًَ، ليطمئن به قلبك وتأمن به نفسك، وينتشر الأمن في كل كائن من حولك، وحينئذ ستشعر بلذة الحياة الآمنة الوادعة الطيبة التي تختفي فيها المعاصي ومشكلاتها، وتبرز فيها الطاعات وثمراتها، ويكون الله ورسوله فيها أحب إليك مما سواهما، والحب سبيل الطاعة، والطاعة سبيل الفوز العظيم في الدنيا والآخرة {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} ] الأحزاب آية 71 [. المُهَيْمِنُ: هو اسم من أسماء الله عز وجل. وهو الرقيب. وقيل: الشاهد. وقيل: المُؤتَمَن. وقيل: القائم بأمور الخلق. - وقيل أصله: مؤتَمِن، فأبدلت الهاء من الهمزة، وهو مُفَيعِلٌ من الأمانة1. . وقد ورد اسم (المهيمن) جل وعلا في القرآن الكريم مرة واحدة فقط2، في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ ... } ] الحشر آية 23 [. - وقد قيل في معنى (المُهَيمنُ) في هذه الآية: الشهيد أو الأمين. قاله ابن عباس رضي الله عنهما. أو المصدِّق لكل ما حدث، قاله ابن زيد ثم قرأ {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} 3 وقال:" فالقرآن مصدِّق على ما قبله من الكتب، والله مصدِّق في كل ما حدث عما مضى في الدنيا، وما بقي، وما يحدث في الآخرة"4. - وقيل: (المُهيمن) الرقيب على كل شيء الحافظ له. مُفَيْعِل من الأمن إلا أَن همزته قلبت هاء.5 - وقيل (المُهَيْمنُ) : فيه أربعة أقوال: ا- أنه الشهيد: قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة والكسائى. قال الخطابي: ومنه   1النهاية لابن الأثير- الجزء الخامس- ص 275-. 2المعجم المفهرس- ص 739-. 3يقصد قوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} ] المائدة آية 48 [0 4جامع البيان للطبري- جزء28- ص 54. 5الكشاف للزمخشرى- جزء4- ص 87-. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 78 قوله تعالى: {وَمُهَيْمِناً عَلَيْه} ] المائدة 48 [- فالله تعالى: الشاهد على خلقه بما يكون منهم من قول أو فعل. 2- أنه الأمين: قاله الضحاك. وقال الخطابي: وأصله: مُؤَيْمنٌ، فقُلبت الهمزة هاء، لأن الهاء أخف عليهم من الهمزة- ولم يأت: مُفَيعِل في غير التصغير إلا في ثلاثة أحرف: (مُسَيْطِر- ومُبَيْطِر- ومهَيمِن) وقد ذكر في سورة الطور آية 37 عن أبى عبيدة أنها خمسة أحرف: في قوله تعالى {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ} إنه لم يأت في كلام العرب اسم على مُفَيْعِل إلا خمسة أسماء: مهَيْمِن- ومجيمر- ومُسَيْطِر- ومُبَيْطِر- ومُبَيْقِر. فالمهيمن: الله الناظر، المحصى، الذي لا يفوته شيء- ومجيمر: جبل- ومسيطر: مسلَّط- ومبيطر: بَيْطار- ومبيقر: الذي يخرج من أرض إلى أرض يقال: بَيْقَر إذا خرج من بلد إلى بلد. 3- أنه المُصدِّق فيما أخبر- قاله ابن زيد. 4- أنه الرقيب على الشيء، والحافظ له،- قاله الخليل والخطابي. وقال بعض أهل اللغة: الهيمنة: القيام على الشيء، والرعاية له ثم قال: ألا إن خير الناس بعد نبيه مُهَيْمِنُهُ التاليه في العرف والنكر يريد القائم على الناس بعده بالرعاية لهم1 0 وقيل: (المُهَيْمنُ) : الشاهد على خلقه بأعمالهم، بمعنى هو رقيب عليهم كقوله: {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وقوله {ْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} وقوله {أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} - قاله ابن عباس رضي الله عنهما وغيره-2 0 - وقيل: (المُهَيْمِن) : الرقيب المطلع على السرائر3 0 - وقيل: (المُهَيْمنُ) : الشهيد على عباده بأعمالهم، الرقيب عليهم- قاله مجاهد وقتادة ومقاتل.   1زاد المسير- جزء8- ص225-. 2تفسير ابن كثير- حزء4 ص 344-. 3جامع البيان- للإيجي- جزء2 ص 350-. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 79 يقال: هَيْمَن يُهَيْمن فهو مُهَيْمن: إذا كان رقيباً على الشيء. وقال الواحدي:" وذهب كثير من المفسرين إلى أن أصله مؤَيمن من آمن يؤمن، فيكون بمعنى المؤمن- والأول أولى"1. - وقيل: (المهيمن) : الرقيب الحافظ لكل شيء. مُفَيْعِل من الأمن بقلب همزته هاءً2 0 - وقيل: (المُهَيْمِن) : الرقيب الحافظ لكل شيء. مُفَيْعِل بقلب همزته هاء ً، وإليه ذهب غير واحد- وتحقيقه كما في الكشف: أن أَيْمَنَ على فَيْعَل مبالغة أمن العدو للزيادة في البناء- وإذا قلت: أمن الراعي الذئب على الغنم مثلاً، دل ذلك على كمال حفظه ورقبته. فالله تعالى أمن كل شيء سواه سبحانه على خلقه وملكه، لإحاطة علمه، وكمال قدرته عز وجل، ثم استعمل مجرد الدلالة بمعنى الرقيب والحفيظ على الشيء في غير ذكر المفعول بلا واسطة للمبالغة في كمال الحفظ. كما قال تعالى {وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} وجعله من ذلك أولى من جعله من الأمانة، نظراً إلى أن الأمين على الشيء حافظ له، إذ لا ينبىء عن المبالغة ولا عن شمول العلم والقدرة. وجعله في الصحاح اسم فاعل من: آمنه الخوف على الأصل، فأبدلت الهمزة الأصلية باء كراهة اجتماع الهمزتين، وقلبت الأولى هاءًَ كما في هراق الماء. وظاهر كلام الكشف: أنه ليس من التصغير في شيء. وقال المبرد:" إنه مُصَغَّر- وقد أخطأ في ذلك، فإنه لا يجوز تصغير أسماء الله عز وجل3 0 - وقيل: (المهيمن) : القائم على الوجود، المسيطر على كل ذرة فيه4 . أقول:" في اسم: (المهيمن) سبحانه، ذكر المفسرون المعاني التي عرضت جانبا منها، وأجملها في أن المراد بمعنى (المُهَيْمِن) جل وعلا: القائم بأمور الخلق- الرقيب الحافظ لكل شيء، الشهيد على عباده، المطلع على أعمالهم وأسرارهم، الأمين، المصدق فيما أخبر ولكل ما حدث.   1فتح القدير- جزء5- ص 208-. 2تفسير أبى السعود- جزء7- ص 234-. 3روح المعاني- جزء28- ص 63-. 4التفسير القرآني للقرآن- جزء28- ص 883-. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 80 والذي يبدو لي أن اسم (المُهَيْمِن) جل جلاله، يتضمن معناه شمول الهيمنة بمعنى السيطرِة المطلقة لله عز وجل على كل كائن في هذا الكون، إيجاداً وإعداماً، وتحريكاً، وتسكيناًَ، بعلمٍ محيطٍ، وعدلٍ مطلقٍ، وقدرةٍ شاملةٍ، ومشيئةٍ نافذةٍ، وقدرٍ سابقٍ، فلا راد لمشيئته، ولا معقب لقدره، ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون في ملكه إلا ما يريد. وما أراد وقوعه في كونه سبحانه- وما دونه في اللوح المحفوظ غيبَه عن خلقه، واستأثر بعلمه وحده، وهذا الاستئثار أثر من آثار هيمنته سبحانه. ومن أمثلته قوله عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} ] الأنعام آية 59 [. ثم أنه سبحانه مع هذه الهيمنة التي من مقتضاها قهر عباده سبحانه: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} ] الأنعام آية 18 [، لم يهمل عباده بل يراقبهم، ويشهد كل أقوالهم وأعمالهم، بل ويطلع على أسرارهم وما تُكِن صدورهم، ويوالى إمدادهم بكل ما يحتاجون لعمارة هذه الأرض، وما يصلح لهم في دنياهم وأخراهم، ويرسل إليهم ملائكة حفظة لهم بإذن الله طول حياتهم حتى تنتهي آجالهم، كما قال سبحانه: {لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} ] الرعد آية 11 [، وكما قال تعالى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} ] الأنعام آية 61 [. ومن آثار هيمنته سبحانه أنه يملك أن يتصرف في خلقه كيف يشاء، لأنهم في ملكه، والمالك من حقه أن يتصرف في ملكه بكافة أنواع التصرفات. ومن نماذج هذه التصرفات ما ذكره الله تعالى تنبيهاً لنا وتذكيراً باستمرار وشمول هيمنته على خلقه سبحانه قوله: {قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ. قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ. قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} ] الأنعام آية 63- 65 [. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 81 وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ. قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ} ] الأنعام آية 46، 47 [. وقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ. فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ. وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ. وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} ] الأنعام آية 95- 99 [0 وقوله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ. وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ} ] الرعد آية 12، 13 [. وقوله تعالى: {وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ. وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ. إِلا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ. وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ. وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ. وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ. وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ. وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ. وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ. وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ} ] الحجر آية 16-25 [. وقِوله تعالى: {وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ. وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ. وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ. وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ} ] النحل آية 5-8 [. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 82 وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً. ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً. وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاساً وَالنَّوْمَ سُبَاتاً وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُوراً، وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً، لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً} ] الفرقان آية 45-49 [. وقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَحْجُوراً. وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً} ] الفرقان آية 53-54 [0 وقوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ. قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَداً إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} ] القصص آية 71- 73 [0 وقوله تعالى: {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ. أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ. ِ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ. نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ. عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ. وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ. أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ. أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ. لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ. إِنَّا لَمُغْرَمُونَ. بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ. أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ. لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ. أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ. أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ. نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ. فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} ] الواقعة آية 57- 74 [0 سبحانك ربَّنا العظيم، ما أعظم سلطانك، وما أكمل هيمنتك المطلقة على كل شيء في هذا الوجود، لا يفتك منها أي مخلوق صغر أم كبر، دقَّ أم عظم. ننزهك ربَّنَا العظيم عن كل ما لا يليق بجلالك وسلطانِك، ونُقِر لَكَ وحدَكَ بسموِّ أسمائِكَ وكمالِ صِفاتِكَ، ونعترفُ لكَ بجليل فضلِكَ وإِحسانِكَ وكرمِكَ، بقلوبِنا وألسنتنا وجوارِحنَا، ونشهدُ بأنَّكَ وحدَك المستحق ِلأن تُشْكَرَ فلا تُكْفَر، وتُذْكر فلا تنسى، وتُطاع فَلا تُعْصَى. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 83 ونَكِلُ أمورنا إليكَ وحدَكَ، فَأنتَ ملاذُنا وحدَكَ في الدنيا، ومَرِجعُنَا إليك وحدَكَ في الأخرى، أنت مولانا المهيمنُ علينا حَقَّا، ونحنُ عَبيدكَ الخاضعُون لَكَ صِدْقاً، {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً. لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم آية 93- 95] . أسأل الله جل وعلا أن يثبت قلوبنا على دينه، وأن يصرفها على طاعته، وأن يختم لنا بعقيدة التوحيد ختام الإيمان. وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله الكريم محمدٍ وعلى آله وصحبه. حلاوة الإيمان عن أنس بن مالك رضي الله عنه (في الصحيحين) قال: " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان في قلبه: (1) من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. (2) ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا الله. (3) ومن كان يكره أن يرجع في الكفر، بعد إذ أنقذه الله منه، كما يكره أن يلقى في النار ". وعن العباس بن عبد المطلب رضي الله عنه (في صحيح مسلم) قال: "قال صلى الله عليه وسلم: " ذاق طعم الإيمان من رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً". الجزء: 57 ¦ الصفحة: 84 مفهوم الأسماء والصفات يقول الله عز وجل: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَأن اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . تشمل الآيات الكريمات على ستة عشر اسما من أسماء الله الحسنى، هي: الله - العالم - الرحمن - الرحيم - الملك - القدوس - السلام - المؤمن - المهيمن - العزيز - الجبار - المتكبر - الخالق - البارئ - المصور - الحكيم. وقد أسلفت الكتابة في حلقات سابقة بما يسر الله لي ون بعض أسمائه: الله - العالم - الرحمن - الرحيم - الملك - العزيز - البارئ - الحكيم.. وأحاول بحول الله وقوته - أن اكتب في هذه الحلقة شيئاً مما ييسر الله تعالى لي فهمه من معأني باقي الأسماء في الآيات الشريفات المذكورات. وقبل أن ادخل في هذا البحث أود أن أشير إلى أول كلمة في هذه الآيات وهي قوله تعالى: (هو) ذلك أن بعض الذين شرحوا أسماء الله الحسنى، ذكروا أن هذه الكلمة أنما هي اسم من أسماء الله الحسنى، وهذا مسلك عجبت له كثيرا، لهذا أردت أن أبين خطأ هذا الفهم لقيامه على غير دليل. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 115 (هو) ليس اسماً من أسماء الله الحسنى: من الذين قالوا أن (هو) اسم من أسماء الله الحسنى أبو القاسم عبد الكريم القشيري 1في كتابه (شرح أسماء الله الحسنى) 2. وكأن نص ما قاله ما يأتي: أعلم أن (هو) اسم موضوع للإشارة، وهو عند الصوفية إخبار عند نهاية التحقيق، وهو يحتاج عند أهل الظاهر3 إلى صلة تعينه ليكون الكلام مفيداً، لأنك إذا قلت: هو ثم سكتَّ, فلا يكون الكلام مفيداً حتى تقول: هو قائم أو قاعد، أو هو حي أو هو ميت وما أشبه ذلك. فأما عند القوم4فإذا قلت هو، فلا يسبق إلى قلوبهم غي ذكر الحق فيكتفون عن كل بيأن يتلونه لاستهلاكهم في حقائق القرب باستيلاء ذكر الله على أسرارهم وأنمحائهم عن شواهدهم فضلاً عن إحساسهم بمن سواه5، وكأن الإمام أبو بكر بن فروك رضي الله عنه يقول: هو حرفأن هاء وواو فالهاء تخرج من آخر الحلق وهو آخر المخارج والواو تخرج من الشفة وهو اول المخارج، فكأنه يشير إلى ابتداء كل حادث منه وأنتهاء كل حادث إليه وليس له ابتداء ولا أنتهاء، وهو معنى قوله سبحأنه (هو الأول والآخر) ،فقوله: (هو الأول) : إخبار عن قدمه، وقوله (الآخر) إخبار عن استحالة عدمه".6   1 هو أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري الملقب بجمال الدين. إمام التصوف في عصره المولود عام 376هـ والمتوفى عام 465هـ. 2 حققه وشرحه الأستاذ عبد المنعم عبد السلام الحلواني. 3 أقول يشير القشيري بقوله: أهل الظاهر: إلى عقيدة أهل التصوف الذين يقولون إن الإسلام له وجهان: وجه ظاهر، ووجه باطن: فالوجه الظاهر هو النصوص ويسمونه الشريعة، ويسمون الذين يتمسكون بالنصوص أهل الظاهر وأهل الشريعة، والوجه الباطن هو المعاني البعيدة الخفية للنصوص التي لا يعلمها أهل الظاهر، ويسمون هذا الباطن الحقيقة، ويسمون الذين يعرفونها أهل الحقيقة وهم في نظرهم الصوفية وهذا كلام باطل لأن الإسلام ليس له ظاهر وباطن، بل إن ظاهره كباطنه، يشير إلى هذا قول الرسول الله صلى الله عليه وسلم: "تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك". 4 أقول: يقصد بالقوم: الصوفية. 5 أقول: يقصد أنهم يغيبون عن عالم الشهادة، وهذه هي عقيدة الفناء في الله، وهي من عقائد الصوفية الخبيثة الباطلة. 6 أقول: هذا كلام خبط لا سند له، فكم من الكلمات أولها يخرج من أقصى الحلق وآخرها يخرج من الشفتين ولا يشير إلى ابتداء ولا انتهاء مثل (هُبْ) ، و (هُفْ) وما شكل ذلك، فليس لمخارج الكلمات مُعَوَّل في المعنى، إضافة إلى ذلك فإن كلمة (هو) إنما هي ضمير يدل على الغائب, وليس اسماً، فضلاً عن أن يكون اسماً لله تعالى - ويجب أن يعلم أن أسماء الله تعالى توقيفية يوقف فيها عندما ورد النص به ولا مجال للاجتهاد فيها - ولم يرد نص في الكتاب والسنة على أن (هو) اسم من أسماء الله تعالى، وإنما ذلك من تلبيسات إبليس الني أوحى بها إلى أعوانه فيما سول لهم وأملى لهم. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 116 ثم قال القشيري: "وقد حكى عن بعضهم أنه قال: رأيت بعض الوالهين، فقلت ما اسمك؟ فقال: هو، قلت من أنت؟ فقال: هو، قلت: من أين جئت؟ فقال: هو، قلت: من تعني بقولك: هو؟ فقال: هو، فما سألته عن شيء إلا قال: هو. فقلت: لعلك تريد الله، قال: فصاح وخرجت روحه1"ثم قال القشيري: "وقال أهل الإشارة2: أن الله تعالى كاشف الأسرار بقوله: هو، وكاشف القلوب بما عداه من الأسماء، وقيل كاشف المحبين بقوله: هو، وكاشف المُتَيَّمينَ بقوله: الله، وكاشف العلماء بقوله: أحد، وكاشف العقلاء بقوله: الصمد، وكاشف العوام بقوله: {لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} ، وقيل: كاشف الخواص بإلهيته، وكاشف خاصة الخاصة بهويته … الخ "3. هذا ما قاله القشيري في معنى (هو) 4. وأعجب مما كتبه القشيري، ما كتبه محقق وشارح كتابه في هامشه، إذ قال: "هو: اسم من أسماء الله، له هيبة وجلال عند أرباب الطريق والمكاشفات وأهل المشاهدة 5. ومخرجه من باطن القلب، وله حرارة تزكي الجسد والروح،   1 أقول: وهذه الحكاية فضلاً عن نسبتها إلى مجهولين بدون إسناد، فإنها نوع من خيال المبتدعة المبطلين الذين يعيشون مع الأوهام التي تنسجها لهم الشياطين. 2 أقول: يقصد بأهل الإشارة: الصوفية. 3 أقول: قوله كاشف بقوله (هو) ليس دليلا على أن اسمه سبحانه (هو) . بل إن (هو) ضمير يدل عليه سبحانه كما يقول تعالى: {إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} . فهل قال أحد بأن كلمة (أنا) اسم من أسماء الله تعالى؟ ما قال بذلك أحد، بل قال الجميع: إن هذه الكلمة ضمير يدل على المتكلم - فما الفرق إذن بين الضمير المتكلم (أنا) والضمير الغائب (هو) ؟ لا إله إلا الله إله إلا الله إله إلا الله فرق بينهما في كون كل منهما ضميراً، وليس واحد منهما اسماً من أسماء الله تعالى على الإطلاق. ودليلنا في هذا عدم ورود النص في الكتاب والسنة بشيء من ذلك. والله سبحانه أعلم. 4 شرح أسماء الله الحسنى للقشيري ص 121، 122، 123. 5 أقول: يقصد المحقق الشارح بأرباب الطريق والمكاشفات وأهل المشاهد: أهل الطرق الصوفية. ذلك بأن عقيدة هؤلء الضالة الباطلة أن غاية التصوف: إنما هو الكشف والمشاهدة، بمعنى أن يكشف لأحدهم اللوح المحفظ فيقرأ فيه ما كان وما سيكون، وأن يشاهد الله تعالى فيراه رأي العين. ويقرر الغزالي في كتابه إحياء علوم الدين جزء 2 ص166 أن المشاهدة تتم أثناء الخلوة إذ يقول: "الخلوة لا تكون إلا في بيت مظلم، فإن لم يكن له مكان مظلم، فيلف رأسه بجيبه أو يدثر بكساء أو ازار، ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق، ويشاهد جلال الحضرة الربوبية" - وعقيدة المشاهدة باطلة. والحق فيها ما اعتقده أهل السنة والجماعة من أن الله تعالى ادخر رؤيته سبحانه للمؤمنين في الجنة. فتكون هذه الرؤية لهم في وضوحها كما يرون القمر ليلة البدر. وتكون أعظم ما ينالون. بل أعظم من الجنة. وذلك في قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (يونس26) .والحسنى هي الجنة. والزيادة هي النظر إلى وجه الله عز وجل. ومن ثم فرؤية الله في الدنيا لم يمكن عباده منها بل ادخرها للمؤمنين في الجنة. ومن هذا يتضح بطلان عقيدة الصوفية في المشاهدة في الدنيا. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 117 ومعناه حاضر لا يغيب، لا يشتمل عليه زمأن، ولا يحويه مكأن، منزه عن مشابهة الحوادث، قريب من عبده في أي زمأن ومكأن، الإله هو ولا إله إلا هو، إلى أن قال: هو مصدر الجلال والجمال لأهل النور الذاتي والمعنوي1 - ثم قال: هو هو، ولا مشهود غيره 2. ثم قال: وهو الضمير الدال على اسم الله، تبارك اسم ربك ذي الجلال والإكرام"3. وهكذا يبين لنا مما كتب أولئك الصوفية، أنهم يزعمون أن ضمير الغائب (هو) هو اسم من أسماء الله الحسنى، ولذلك ينادونه سبحأنه بقولهم: (يا هو) كقول قائلهم: (فيا هو قل أنتَ أنا ... ويا أنا قل أنت هو) كما تجد أولئك القوم يذكرون الله تعالى في أذكارهم وحضراتهم بهذا الضمير على أنه أحد أسمائه الحسنى سبحأنه، فنسمعهم يقولون: (هُو -هُو -هُو -هُو) ويرددون هذه الكلمة مئات المرات زاعمين أنهم يذكرون الله باسم من أسمائه الحسنى. وقد كذبوا على الله تعالى، وسمَّوه بما لم يسمِّ به نفسه، وشرعوا له ما لم يشرعه سبحأنه، وقالوا عليه بغير علم، والله تعالى حرم ذلك فقال جل وعلا: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (الأعراف آية 33) .   1 أقول: يقصد الشارع عقيدة المشاهدة الباطلة. 2 أقول: يشير الشارح إلى عقيدة أخرى من عقائد الصوفية الزائغة وهي عقيدة وحدة الوجود. ويعنون بها أن الله حل في كل شيء. فأصبحت الموجودات كلها لا حقيقة لوجودها غير الله فكل شيء هو الله. وذلك يظهر من قول قائل الصوفية: فيا هو قل أنت أنا ... ويا أنا قل أنت هو ما في الوجود غيرنا ... أنا وهو وهو وهو وقوله: وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه عينه وقول الزنديق محيى الدين بن عربي: الربٌ عبدٌ والعبد ربٌ ... يا ليت شعري من المكلف؟ إن قلت عبدٌ فذاك ربٌ ... أو قلت ربٌ أنَّي يكلف؟ وقوله كذلك: وما الكلب والخنزير إلا إلهنا ... وما الله إلا راهب في كنيسة وهذا الهراء معناه أن الله جَلَّ في العبد، وفي الكلب، وفي الخنزير، وفي كل شيء، وصار كل شيء في الوجود هو الله … تعالى الله عما يقول أولئك المجرمون عُلُوّا كبيراً. 3 الرجع السابق ص 121، 122، 123. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 118 وأهل السنة يؤمنون بأسماء الله الحسنى التي وردت بها نصوص الكتاب والسنة، فهي توقيفية يُوقَفُ عند ما نص عليه، وقد خلصت له الأسماء السنية، فكأنت واقعة في قديم الأزل بصدق الحقائق، لم يستحدث تعالى صفة كأن منها خليا، ولا اسماً كأن منه بريّاً، تبارك وتعالى1. ومن ثم فليس لأحد - كائناً من كأن - أن يسمى الله تعالى بما لم يسمَّ به نفسه، أو يشرع غير ما شرع الله. بعد أن أنتهت من هذا المبحث، أدخل الأن في إتمام عرض ما ييسر الله تعال لي من معأني باقي الأسماء في الآية التي صدرت بها هذه الحلقة، وذلك فيما يلي: القُدُّس: هو اسم من أسماء الله عز وجل. وهو بضم القاف (قُدُّس) على وزن (فُعُّل) وهو صيغة مبالغة من (القُدْس) وهو الطهارة. ولكن سيبويه كأن يرى أنه بالفتح (قَدُّس) على وزن (فَعُّل) لأنه ليس عنده في الكلام (فُعُّل) أصلاً. وقال ثعلب: كل اسم على (فُعُّل) فهو مفتوح الأول مثل سَفُّد وكَلُّب وسمُّ وشَبُّط وتَنُّور إلا السُّبُّح والقُدُّوس فغن الضم فيهما أكثر، وقد يُفتحأن2. واسم (القُدُّس) سبحأنه متضمن لكمال طهارته من جميع صفات النقص والعيب. * وقد ورد اسم (القُدُّس) جل وعلا في القرأن الكريم مرتين فقط3: مرة في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} (الحشر آية23) ،ومرة في قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ} (الجمعة آية 1) . وقد ذكر الإمام ابن كثير في معنى (القُدُّس) قوله: قال وهب بن منبه: الطاهر، وقال مجاهد وقتادة: المبارك، وقال ابن جريج: تُقَدِّسه الملائكة الكرام.4   1 الفتوى الحموية الكبرى لشيخ الإسلام ابن تيمية ص 42. 2 مختار الصحاح في مادة (ق د س) . 3 المعجم المفهرس ص 538. 4 تفسير ابن كثير الجزء 4 ص 344. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 119 وقال صاحب جامع البيان في معنى (القُدُّوس) : الطاهر البليغ في النزاهة عن كل نقصأن1. وقال الإمام الشوكأني في معنى (القُدُّوس) : الطاهر من كل عيب المنزه عن كل نقص. والقُدُّوس بالتحريك في لغة أهل الحجاز السطل لأنه يتطهر به، ومنه القادوس لواحد الأوأني التي يُستخرج بها الماء، وقرأ الجمهور (القُدُّوس) بضم القاف، وقرأ، وقرأ أبو ذر وأبو السماك بفتحها، وكأن سيبويه يقول (سَبُّح قَدُّوس) بفتح أولهما.2 وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي في معنى (القُدُّوس) : المقدس من كل عيب ونقص المعظم الممجد، لأن (القُدُّوس) يدل على التنزيه من كل نقص والتعظيم لله في أوصافه وجلاله 3. * أقول: واسم (القُدُّوس) أفهم منه أنه من أسماء الله الحسنى الذي يدل على ابلغ الطهارة المطلقة من كافة صفات النقص لله عز وجل، إذ قد تنزه سبحأنه عن جميع النقائص ونفاها عن نفسه، فوجب على المؤمن أن ينزه خالقه جل وعلا عن كل عيب ونقص، ولا سبيل له إلى ذلك إلا بأن يثبت لله تعالى ما أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأسماء الحسنى وصفات الكمال العليا، دون تحريف ولا تعطيل، ولا تكييف، ولا تمثيل، ولا تشبيه، وأن ينفي عن الله جل وعلا عن نفسه، وما نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات النقص، كما أثبت السلف الصالح رضوأن الله عليهم ونفوا إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، أنطلاقاً من قوله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الشورى آية 11) السُّبُوح: وهو اسم من أسماء الله عز وجل على صيغة (فُعُّول) وهو صيغة مبالغة - ولم يرد ذكر هذا الاسم في القرأن الكريم، وأنما ورد في السنة المشرفة: فقد روى الإمام مسلم في صحيحه - بسنده - عن مُطرِّف بن عبد الله بن الشِخِّير أن عائشة (رضي الله عنها) نبأته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول في ركوعه وسجوده "سُّبُوح قُدُّوس ربُّ الملائكةِ والرُّوح".   1 جامع البيان الجزء 2 ص 350. 2 فتح القدير الجزء 5 ص 207. 3 تيسير الكلام الرحمن الجزء 8 ص 107. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 120 وقد ذكر الإمام النووي أن قوله (سُّبُوح قُدُّوسٌ) بضم السين والقاف وبفتحهما والضم أفصح وأكثر، وأن المراد بالسُّبُوح القُدُّوس: المُسبُّح القُدُّس فكأنه قال: مُسَبَّح مُقَدَّسٌ رب الملائكة والروح، ومعنى سُّبُوح: المبرأ من النقائص والشريك وكل ما لا يليق، قُدُّوس: المُطهر من كل ما لا يليق بالخالق. وقال القاضي عياض أنه قيل فيه: "سُّبُوحاً قُدُّوساً على تقدير أُسِبِّح سُبُّحاً، أو أذكر، أو أعظم، أو أعبد. وأن قوله: ربُّ الملائكةِ والرُّوحِ قيل: الروح ملك عظيم، وقيل: يحتمل أن يكون جبريل عليه السلام وقيل: خلق لا تراهم الملائكة كما لا نرى نحن الملائكة والله سبحأن وتعالى أعلم"1. * أقول واسم (السبوح) أفهم منه أن الله عز وجل هو المستحق وحده أن ينزه عن جميع النقائص والعيوب، إذ أنه تبارك وتعالى وحده صاحب صفات الكمال، ونعوت الجلال المطلقة التي لا حدود لها. وعلى المؤمن أن يؤمن بذلك إيمأناً كاملاً ولو أن المؤمن آمن بأن الله سبحانه هو (السُّبُوح القُدُّوسٌ) واستقر ذلك الإيمان خالصاً في قلبه، وبدا أثره على لسانه وجوارحه، لما فتر عن تسبيح خالقه وتنزيهه تنزيهاً كاملاً عن النقائص جميعاً، ولحرص على تطهير قلبه من الأرجاس والشركيات والدنايا، والتزم توحيد الله عز وجل، ولما صدر عن قلبه إلا العمل الخالص الطاهر، لن الأناء لا ينضح إلا بما فيه، ومن ثم يقبل الله عمله، ويدخله في رحمته ورضوانه. السَّلاَم: هو اسم من أسماء الله تعالى، وهو وصدر كالسلامة من سَلمَ أي بريء من العيوب 0 * وقد ورد اسم (السَّلاَم) في القرأن الكريم مرة واحدة، في قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ} (الحشر آية 23) . وقد ذكر أبو إسحاق الزجاج في معنى (السَّلاَم) : أنه هو الذي سلم من عذابه من لا يستحقه2. وذكر الإمام ابن كثير في معنى (السَّلاَم) : أي من جميع العيوب والنقائص لكمالها في ذاته وصفاته وأفعاله 3.   1 صحيح مسلم بشرح النووي - الجزء 4 ص 203 - 205. 2 المعجم الفهرس ص 356. 3 تفسير أسماء الله الحسنى للزجاج ص31. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 121 وذكر صاحب جامع البيأن في معنى (السَّلاَم) : أي ذو السلامة من كل نقص 1. وذكر الإمام الشوكأني في معنى (السَّلاَم) : أي الذي سلم من كل نقص وعيب، وقيل المسِّلم على عباده في الجنة كما قال تعالى: {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} ، وقيل: الذي سلم الخلق من ظلمه، وبه قال: المسلم لعباده. وهو مصدر وصف به للمبالغة 2. أقول واسم (السَّلاَم) سبحأنه أفهم منه أنه جل وعلا سالم من جميع صفات النقص، ومتصف بجميع صفات الكمال - وقد سلَّم (السلام) عز وجل أولياءه من المرسلين وغيرهم من العيوب، فسلَّ المرسلين منها في قوله (وسلام على المرسلين) أي أنه سبحأنه سلَّم رسله في أقوالهم: فلا يقولون على الله إلا الحق، ولا يُبَلِّغون أممهم إلا بالحق، وسلَّمهم كذلك في أعمالهم: فلا يشكرون بالله شيئاً. وكذلك يسلِّم (السَّلاَم) أولياءه غير المرسلين، فقال تعالى: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ} . (النمل آية 59) ، فتسلم أقوالهم وأعمالهم من كل عيب وشرك، ولهذا وصف الرسول الله صلى الله عليه وسلم المسلم بما يعني ذلك: فقد أخرج الإمام مسلم بسنده - عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي المسلمين خير؟ قال: "مَنْ سلم المسلمون من لسأنه ويده" 3, وسلامة اللسأن واليد آية على طهارة القلب، إذ أن القلب هو المحرم، وبصلاحه يصلح الجسد كله - كما أن (السَّلاَم) سبحأنه يهدي عباده المؤمنين سبل السلام، فقال تعالى: {جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ} (المائدة آية 16) ، ويجعل تحيتهم يوم لقائه، فقال تعالى: {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} (الأحزاب آية 44) . ويدخلهم الجنة التي سماها دار السلام، فقال تعالى: {لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ} (الأنعام آية 127) ، ويجعل دخولهم فيها بسَلاَم، فقال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ} (الحجر آية 46) ، ويجعل تحيتهم فيها السَّلاَم، فقال تعالى: {دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ} (يونس آية 10) ، وطَيَّب لهم الإقامة فيها فلا يسمعون فيها إلا السَّلام، فقال تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً إِلا قِيلاً سَلاماً سَلاماً} (الواقعة آية 26) .   1 تفسير ابن كثير - الجزء 4 ص 344. 2 جامع البيان - الجزء 2 ص 350. 3 صحيح مسلم. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 122 ولا يبلغ أحد الجنة إلا إذا أسلم وجهه لله وحده، وأسلم قلبه لله دون غيره، واستمر على ذلك حتىيلقاه سبحأنه، ونجد معنى ذلك في قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} (لقمأن أية 22) ، وقوله: {يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} (الشعراء آية 89) ، وقوله: {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} (الحج آية 34) وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} (آل عمرأن آية 102) . وتحقيقاً لهذه السلامة - فوق ما تضمنته هذه الآيات الكريمات وغيرها - فقد جعلها الرسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكره - المتضمن لطلبها من ربه سبحأنه - دبر كل صلاة - فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه - بسنده - عن ثوبان قال: كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنصرف من صلاته استغفر ثلاثاً وقال: "اللهمَّ أنت السَّلاَم ومنك السَّلاَم تباركتَ ذا الجلال والإكرام" وفي رواية: (ياذا الجلال والإكرام) . اسأل الله جل وعلا أن يخلص أعمالنا لوجهه، وأن يسلم قلوبنا إليه، وأن يُثَبِّتها على دينه، وأن يختم لنا بعقيدة التوحيد ختام الإيمان. (يتبع) الجزء: 58 ¦ الصفحة: 123 خرافة يجب تكذيبها لسماحة الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز اطلعت على ما نشرته جريدة عكاظ في عددها (رقم: 5977) الصادر في يوم الاثنين الموافق 24/12/1402 هـ- ص (20) نقلا من صحيفة السياسة الكويتية عن الرجل المدعو محمد المصري الذي يزعم أنه أغمي عليه يوم الأربعاء وظن أنه ميت ودفن يوم الأربعاء وأخرج من قبره يوم الجمعة وما أرى من العجائب والغرائب.. الخ.. ونظرا إلى كون هذه الحكاية قد تروج على بعض الناس صحتها رأيت التنبيه على بطلانها وأنها خرافة لا تروج على عاقل بل هي كذب بحت زورها من سمى نفسه محمد المصري أو غيره لأغراض خسيسة حملته على ذلك ومن المعلوم أن من يسمع كلام أهله وكلام الطبيب وكلام المشيعين لجنازته لا تخفى حياته لا على الطبيب ولا على غيره ممن ينظر إليه ويقلبه ثم كيف يكون مغمى عليه وهو يعي ويحفظ كل ما دار حوله ومن المعلوم أيضا أن سنة الله في عباده أن من جعل في محل مكتوم ضيق لا يعيش مثل هذه المدة من المعلوم شرعا أن ملكي القبر لا يأتيان إلى الحي إذا وضع في القبر وإنما يأتيان إلى الميت والله سبحانه يعلم الأحياء والأموات وهو الذي يرسل الملكين إلى الميت لسؤاله ثم هذا الرجل الكذاب وصف الملكين بما يدل على أنهما رجلان لا ملكان ثم الملكان لا يخبران الميت لا بحسناته ولا بسيئاته وإنما يسألانه عن ربه ودينه ونبيه فإن أجاب جواباً صحيحاً فاز بالنعيم وإن أجاب بالشك عذب ثم ما ذكره بعد ذلك من المناظر الغريبة إنما قصد بذلك ترويج باطله وايهام الناس أنه من الناجين حتى يعطفوا عليه ويساعدوه بما طلب منهم أو يعطفوا عليه بدون طلب وقد يكون من قصده الشهرة بين الناس حتى يطلب في كل مكان ليسأل عما رأى ويحصل له بعض ما يريد ومن جهله قوله (وتشاء الصدف أن كان أهلي قد جاؤا لزيارة قبري) ومثل هذا الكلام لا يجوز والصواب أن يقال (ويشاء الله) لأن الصدف لا مشيئة لها. والخلاصة أن هذه الحكاية موضوعة مكذوبة لا أساس لها من الصحة كما يتضح ذلك من سياقها وواقعها ولا ينبغي لصحفنا ولا للصحف التي تحترم نفسها أن تنشر مثل هذه الخرافات ونسأل الله أن يطهر صحفنا وصحف المسلمين من كل باطل وأن يكبت الخداعين والماكرين ويفضحهم ويكفي المسلمين شرهم وأن يوفق جميع المسلمين للفقه في دينه والثبات عليه إنه سبحانه خير مسؤول. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 124