الكتاب: قوة العقيدة سبيل النصر في غزوة بدر الكبرى المؤلف: محمد عبد المقصود جاب الله الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد من المجلة] ---------- قوة العقيدة سبيل النصر في غزوة بدر الكبرى محمد عبد المقصود جاب الله الكتاب: قوة العقيدة سبيل النصر في غزوة بدر الكبرى المؤلف: محمد عبد المقصود جاب الله الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد من المجلة] مدخل ... قوة العقيدة سبيل النصر في غزوة بدر الكبرى د/ محمد عبد المقصود جاب الله المدرس في كلية الدعوة بالجامعة الحلقة الأولى الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد بن عبد الله خير خلق الله، اللهم صل وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن والاه، ومن اهتدى بهديه وسار على سنته وشريعته إلى يوم الدين. وبعد: فإن الأمة الإسلامية من أقصاها إلى أقصاها مستنفرة الآن للدفاع عن حقوقها ضد أعدائها الذين يتربصون بها، ويتكالبون عليها تكالب الأكلة على قصاعها. ولن يدفع هؤلاء الأعداء عنها، ويصدهم عن سبيلها، إلا إعلان الجهاد المقدس، ورفع رايته تلك الدعوة التي وجهها سمو ولي عهد المملكة العربية السعودية الأمير فهد بن عبد العزيز، فكان لها صدى عميق في جميع الأقطار الإسلامية، واستجابت لها بالتأييد والدعم، وباركتها قلوب الملايين من المسلمين. ولابد من بيان المثل والقدوة في رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأسلافنا الأوائل في جهادهم وقتالهم لأعدائهم لنترسم طريقهم، ونمشي على منوالهم، وأمثل طريق للإقتداء هو غزوة بدر الكبرى تلك الغزوة التي انتصر فيها المسلمون بقوة عقيدتهم، وتفانيهم في الذود عن الإسلام، والدفاع عن حياضه ضد المشركين، وأعداء الدين. هذه الموقعة الفاصلة في تاريخ الإسلام والمسلمين، بل في تاريخ البشرية كلها إلى يوم الدين، هذه الموقعة التي قدر المسلمون أن تكون غايتها غنيمة أموال المشركين، وقدَّر ربُّ العالمين أن تكون فيصلاً بين الحق والباطل، وأن تكون مفرق الطريق في تاريخ الإسلام، ومن ثمَّ تكون مفرق الطريق في خط سير التاريخ الإنساني العام، والتي ظهرت فيها الآماد الجزء: 49 ¦ الصفحة: 201 البعيدة بين تدبير البشر لأنفسهم فيما يحسبونه الخير، وتدبير ربِّ البشر لهم ولو كرهوه في أول الأمر. والباطل مهما طال أمده، وقريت شوكته، لابد له -على كثرة أنصاره وقوة عوده- من يوم يخر فيه صريعاً أمام روعة الحق، وقوة الإيمان {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ} (الرعد آية 17) . وليست غزوة بدر الكبرى التي قام بها المسلمون في السنة الثانية من الهجرة وفي رمضان المبارك إلا تطبيقاً عملياً لهذه السُّنَّة التي وضعها الله سبحانه وتعالى في صراع الحق للباطل، وهي من السنن التي لا تتبدل ولا تتغير، وليس الحديث عنها حديثاً عن مجرد معركة قامت بين فريقين اختصما على بعير أو قطعة من الأرض، أو على قتل نفس بريئة فانتصر أحدهما على الآخر، وإنما هو حديث كيف يصرع الحقُّ بجلاله الباطل بعدته. والصراع بين الحق والباطل ليس صراع وقت دون وقت، ولا مكان دون مكان، وإنما هو شأن بشريٌّ عام ما دام الإنسان، وما دام في الإنسان إيمان ورحمة، وتقى وصلاح، وفيه كفر وقسوة، وفجور وانحراف. وتلك طبيعة الإنسان لم يخلقه الله حين خلقه إلا كان من جنده قوى الخير تدفعه إلى الإيمان وإلى الكفاح في سبيله، وكان من جنده قوى الشر تدفعه إلى الطغيان وإلى الكفاح في سبيله قال الله سبحانه وتعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} (الشمس آية 7-10) . وقال سبحانه وتعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} (الإنسان آية 2-3) وسأتناول الحديث عنها في النقاط الآتية: 1- مقدمة الغزوة. 2- سبب الغزوة ووصف المعركة وفضل الله على المسلمين فيها. 3- تسجيل لمواقف الخزي والعار بالنسبة لقريش ورجالها. 4- أسباب النصر وعوامله. 5- الأسرى وموقف الرسول صلى الله عليه وسلم منهم. 6- الخاتمة. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 202 أولاً: مقدمة الغزوة : مكث النبي صلى الله عليه وسلم بضع عشرة سنة ينذر بالدعوة من غير قتال صابراً على شدة إيذاء العرب بمكة المكرمة واليهود بالمدينة المنورة، فكان يأتيه أصحابه ما بين مضروب ومجروح. يشكون إليه حالهم، ويطلبون منه السماح لرد العدوان بالمثل، فيقول لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "اصبروا لأنيِّ لم أومر بالقتال"، حتى أن بعض أصحابه قتل من جراء العذاب، منهم سمية أم عمار بن ياسر، وزوجها ياسر، عذَّبهما المغيرة على إسلامهما ليرجعا عنه وماتا تحت العذاب1. ثم تطورت الأحداث بعد ذلك، وتفنن المشركون في إيذاء المسلمين حتى أجمعوا أمرهم على قتل النبي صلى الله عليه وسلم فلما علم بقصدهم هاجر إلى المدينة المنورة، حيث استقبله أهلها بالترحاب وبايعوه على الإسلام. ولم يكتف المشركون بمحاولتهم قتل النبي صلى اله عليه وسلم، بل ألبوا عليه القبائل الجاهلية لإبطال دعوته والقضاء عليها. ومنع المستضعفون من المسلمين من الهجرة إلى المدينة فراراً بدينهم وانضماماً إلى إخوانهم. فكان أمام هذه المحاولات أن أذن للنبي صلى الله عليه وسلم بالقتال من قبل الله سبحانه وتعالى. وإذا أمعنا النظر في النصوص القرآنية التي أمر الرسول فيها بالقتال رأيناها تعترف بأن الحرب وسيلة لدفع العدوان. اعترفت بها لأن طبيعة البشر كثيراً ما تقتضي إلى التنازع والبغي، والاعتداء على الحريات. وإلى هذا يشير القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} (الحج آية 39-40) . ففي هاتين الآيتين إذنٌ بالقتال، وتعليل له بما مني به المسلمون من الظلم والاعتداء، وما أكرهوا عليه من الإخراج من الديار والأوطان بغير حق، ويقول الله سبحانه وتعالى: {وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ   1 سيرة ابن هشام القسم الأول ص 320 الطبعة الثانية مطبعة الحلبي 1375-1955. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 203 يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيّاً وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً} (النساء آية 75) . يلفت الله سبحانه وتعالى إلى أن الحرب في الإسلام ليست للتحكم في الرقاب ولإذلال العباد، بل هي في سبيل الله، وفي سبيل المستضعفين من المؤمنين الساكنين في مكة، الذين استذلوا ومنعوا من الهجرة ليفتنوهم عن دينهم. فالإسلام في جهادٍ دائم لا ينقطع أبداً لتحيقيق كلمة الله في الأرض ولرفع الظلم عن الأفراد والجماعات في أقطار الأرض. ومكة التي أكره الرسول صلى الله عليه وسلم على الهجرة منها فراراً بدينه، والتي ترك المسلمون فيها أموالهم وديارهم، تَعْتَمِد في معيشتها على التجارة. وعمل قريش الأول هو التجارة مع الشام، وطريق التجارة إلى الشام محفوف بالخطر، فالمسلمون في طريقه، ولقد أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم أهمية القضاء على قوة العدو الاقتصادية ووضعها في المقام الأول، لأن القضاء عليها قضاءً على القوة العسكرية. واهتمام الرسول عليه الصلاة والسلام بذلك يظهر من الغزوات الأولى والسرايا التي بعث بها الرسول عليه الصلاة والسلام قبل بدر، فقد كان هدفه الأول منها القضاء على تجارة قريش ومنع قوافلها من الخروج إلى الشام. ونحن في عصرنا هذا نسمع عن الحرب الاقتصادية والحصار الاقتصادي وهما ذات السلاح الذي استخدمه الرسول صلى الله عليه وسلم. وكانت هذه الغزوات والسرايا التي قام الرسول -صلى الله عليه وسلم- بنفسه بقيادة بعضها، بمثابة الاستكشاف والاستطلاع لمعرفة قوة عدوه، والوقوف على ما يدبره القرشيون من المكايد له صلى الله عليه وسلم، وللمسلمين في المدينة .... ولقد ظن الكثيرون أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يهدف بتلك السرايا والغزوات إلى جر قريش إلى الحرب. والواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يرمي إلى غرضين نبيلين هما: 1- رغبته في أن تشعر قريش أن المسلمين في المدينة المنورة قوة، وأن في استطاعتهم قطع طريق القوافل إلى الشام وأن هذا معناه ضرورة إعادة النظر في موقف قريش من محمد صلى الله عليه وسلم ورجاله، وأن على قريش أن تفكر جدِّياً في أن مصلحتها تقتضي التفاهم مع المسلمين، فتكفل لهم حرية الدعوة إلى الدين في نظير سلامة تجارتهم وقوافلهم. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 204 وكان هذا بمثابة إنذار لقريش وبيان عقبى طيشها، فقد حاربت الإسلام ولا تزال تحاربه، ونكلت بالمسلمين في مكة ثم ظلت ماضية في غيِّها لا تسمح لأحد من أهل مكة أن يدخل في دين الله، ولا تسمح لهذا الدين أن يجد قراراً في بقعة أخرى من الأرض. فأحب الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشعر زعماء مكة بأن هذه الخطة الجائرة ستلحقُ الأضرار الفادحة بهم، وأنه قد مضى إلى غير عودة ذلك العصر الذي يعتدون فيه على المؤمنين، وهم بمأمن من القصاص، لأن المؤمنين قد تخلصوا من ضعفهم القديم. ذلك الضعف الذي مكن قريشاً من مصادرة حرياتهم، واغتصاب دورهم وأموالهم. ومن حق المسلمين أن يُعْنَوا بهذه المظاهرات العسكرية على ضآلة شأنها، فإن المتربصين بالإسلام كثروا ولن يصدهم عن النيل منهم إلا الخوف وحده. وهذا تفسير قوله سبحانه وتعالى: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} (الأنفال آية 60) . وهذا ما عرفته الجيوش الحديثة باسم المناورات العسكرية، والاستعراضات التي تقوم بها بين الحين والحين. 2- والغرض الثاني رغبته صلى الله عليه وسلم في أن يعقد الصلح والمعاهدات مع القبائل التي تقطن بجوار المدينة، وسيظهر ذلك في خلال الحديث عن هذه السرايا والغزوات التي سأكتفي بذكر بعضها ... 1- في صفر من السنة الثانية من الهجرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه بعد أن جمع جموعه من المهاجرين دون الأنصار بعد أن علم أن تجارة لقريش ستمر بطريق الشام، ومضى بجيشه حتى بلغ ودَّان1. إلا أن عير قريش كانت قد مرت من قبله، فلم يحدث اشتباك، وصالح بني ضمرة وحالفها، وكان بينه وبينها كتاب جاء فيه "بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد رسول الله لبني ضمرة بأنهم آمنوا على أموالهم وأنفسهم، وأن لهم النصرة على من رامهم إلا أن يحاربوا في دين الله ما بل بحر صوفة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إذا دعاهم إلى لنصره أجابوه. عليهم بذلك ذمة الله، وذمة رسوله".   1 ودّان: قرية جامعة من أمهات القرى من عمل الفرع، وقيل: واد على الطريق يقطعه المصعدون من حجاج المدينة. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 205 وكانت هذه الغزوة أول غزوة للرسول صلى الله عليه وسلم غاب فيها عن المدينة خمس عشرة ليلة1. 2- وفي العام الثاني من الهجرة وفي شهر رجب بعث الرسول صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحشً الأسدي، ومعه جماعة من المهاجرين. وقال الرسول صلى الله عليه وسلم عند ما بعثه على رأس السرية: "لأبعثن إليكم رجلا أصبركم على الجوع والعطش" وأطلق عليه الرسول صلى الله عليه وسلم لقب أمير المؤمنين، فكان أول من تسمى به في الإسلام. ودفع إليه بكتاب وأمره ألا ينظر فيه إلا بعد يومين من مسيره، فإذا نظر فيه ووعى ما كلفه الرسول به، مضى في تنفيذه غير مستكرهٍ أحداً من أصحابه. فسار عبد الله ثم قرأ الكتاب بعد يومين فإذا فيه: امض حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشاً وتعلم لنا أخبارهم. فقال عبد الله: "سماع وطاعة" وأطلع أصحابه على كتاب الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: إنه نهاني أن أستكره أحدا منكم فمن كان يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق معي، ومن كره ذلك فليرجع، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم. فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف منهم أحد، إلاَّ أن سعد بن أبي وقاص، وعتبة بن غزوان ذهبا يبحثان عن بعير كانا يعقبانه وكان قد ندَّ فأسرتهما قريش ... ومضى عبد الله برفاقه حتى نزل أرض نخلة. فمرت عير قريش، فهاجهما عبد الله ومن معه، فقتل في هذه المعركة عمرو بن الخضرمي، وأسر اثنان من المشركين، وعاد عبد الله إلى المدينة ومعه العير والأسيران. وهكذا عرف الرسول صلى الله عليه وسلم أن السَّرِّية فيها النصر والغلبةُ على الأعداء. وقد وقع هذا القتال في آخر شهر رجب أي في الشهر الحرام، فلما قدم عبد الله وأصحابه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ما أمرتكم بقتال في الشهر الحرام" ووقف التصرف في العير والأسيرين، ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حرم الله وكثر في ذلك القيل والقال حتى نزل الوحي حاسماً هذه الأقاويل، ومؤيداً مسلك عبد الله تجاه المشركين2.   1 السيرة لابن هشام القسم الأول ص 591، أبو الفداء 3/ 243، فتح الباري 7/ 279. 2 السيرة لابن هشام 1/ 601-605، أبو الفداء 3/ 248-252، فتح الباري 7/280. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 206 فقال سبحانه وتعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} (البقرة آية 217) . وبنزول هذه الآية سعد المسلمون وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم قضاء عبد الله في الغنيمة، وقبض على الأسيرين وهما عثمان بن عبد الله، والحكم بن كيسان، فبعثت قريش تطلب فداءهما فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا نفديكموهما حتى يقدم صاحبانا فإنا نخشاكم عليهما -يعني سعدا وعتبة- فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم". وقدم سعد وعتبة، فسلم النبي عليه الصلاة والسلام الأسيرين، وأعلن أحدهما وهو الحكم بن كيسان إسلامه وبقي بالمدينة، ومات شهيداً في مؤتة. أما عثمان بن عبد الله فقد عاد إلى مكة ومات بها كافراً. وهذه الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام واضطهاد أهله فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة. ألم يكن المسلمين مقيمين بالبلد الحرام حين قرر المشركون قتل نبيهم وسلب أموالهم. لكن بعض الناس يرفع القوانين إلى السماء عندما تكون في مصلحته فإذا رأى هذه المصلحة مهددة بما ينتقصها هدم القوانين والدساتير جميعاً. ولقد زكَّى القرآن عمل عبد الله وصحبه رضي الله عنه فقد نفذوا أوامر الرسول بأمانة وشجاعة، وتوغلوا في أرض العدوِّ مسافاتٍ شاسعة متعرضين للقتل في سيبل الله، متطوعين لذلك من غير إكراه أو حرج فكيف يجزون على هذا بالتقريع والتخويف. كيف وقد قال الله سبحانه وتعالى فيهم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (البقرة آية 218) . والمستشرقون الأوربيون ينظرون إلى هذه السرايا كأنها ضرب من قطع الطريق، وهذه النظرية صورة للحقد الذي يعمي عن الحقائق، ويتيح للهوى أن يتكلم، ويحكم كيف شاء، وهذا الاستشراق المغرض يذكرنا بما حدث عند قمع الإنجليز لثورة الأهلين في إفريقيا الوسطى "كينيا" وهم يطلبون الحرية لوطنهم ويحاولون إجلاء الأجانب عنه. إذ قال جندي الجزء: 49 ¦ الصفحة: 207 إنجليزي لآخر -يصف هؤلاء الإفريقيين- إنهم وحوش تصور أن أحدهم عضني وأنا أقتله1. إن هذه الأضحوكة صورة من تفكير المستشرقين في إنصاف أهل مكة والنَّعي على الإسلام وأهله ... ولقد حققت هذه السرايا أهدافها ووصلت إلى غرضها -ولم يكن ذلك إلا بقوة الإيمان وثبات العقيدة.   1 فقه السيرة ص 225. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 208 ثانيا: سبب الغزوة، ووصف المعركة، وفضل الله على المسلمين فيها : كان الرسول عليه الصلاة والسلام يرمي إلى القضاء على اقتصاديات قريش كما بينت، وكان يرى في ذلك إضعافاً لقوتها العسكرية. وكان قد علم بخروج قافلة كبيرة لقريش قيل أنها جمعت جميع أموالها حتى أنه لم يبق بمكة قرشي ولا قريشة يملك مثقالاً فصاعداً إلا بعث به في تلك القافلة ... وقدرت أموالها بخمسين ألف دينار، وحملت تجارتها على ألف بعير يقودها أبو سفيان ومعه سبعة وعشرون رجلاً وفي رواية أخرى تسعة وثلاثون منهم مخرمة بن نوفل، وعمرو بن العاص، ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم أن القضاء على هذه القافلة فيه هدم لاقتصاديات قريش بالإضافة إلى إضعاف مركزها العسكري، وما ينتج عن ذلك من زيادة قوة المسلمين، ورفع روحهم المعنوية. وبهذا سار الرسول صلى الله عليه وسلم إلى العشيرة. إلا أن القافلة كانت قد مرت فرأى عليه الصلاة والسلام أن ينتظر عودتها، وبعث الرسول عليه الصلاة والسلام طلحة بن عبيد الله، وسعيد بن زيد ينتظران عودة القافلة فنزل على كشد الجهني بالحوراء، وأقاما عنده في خباء حتى مرت العير، فأسرعا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم يفيضان إليه بأمرها، وما رأيا منها. ولم ينتظر الرسول صلى الله عليه وسلم عودة رسوليه إلى الحوراء، فقد كان يخشى أن تفوته في عودتها كما فاتته في ذهابها إلى الشام. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 208 ولهذا دعا المسلمين وقال لهم: "هذه عير قريش فيها أموالهم فاخرجوا إليها لعلَّ الله ينفلكموها" 1. ولم يعزم الرسول صلى الله عليه وسلم على أحد بالخروج، ولم يستحث متخلفاً فخف بعضهم وثقل بعضهم2. ثم سار الرسول صلى الله عليه وسلم بمن أمكنه الخروج، وكان الذين صحبوا الرسول هذه المرة يحسبون أن مضيهم في هذا الوجه لن يعدوَ ما ألفوا في السرايا الماضية، ولم يدر بخلد واحد منهم أنه مقبل على يوم من أخطر أيام الإسلام، ولو علموا لاتخذوا أهبتهم كاملة، ولتسابقوا في الخروج ولم يبق منهم أحد ... وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز يتحسس الأخبار، فعلم من بعض الركبان أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك. واستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري فبعثه إلى أهل مكة، وأمره أن يأتي قريشاً فيستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو مسرعاً إلى مكة3. وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه، وكان عددهم 313 ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلاً، ثلاثة وسبعين من المهاجرين، ومائتان وأربعون من الأنصار وكان خروجهم من المدينة في رمضان، وجعل عمرو بن أم مكتوم ليصلي بالناس، واستعمل عليها أبا لبابة الأنصاري، وارتفعت أمام المسلمين رايتان سوداوان وكانت إبلهم سبعين بعيراً يتبادلون ركوبها، كل ثلاثة أو أربعة يتعاقبون بعيراً، وكان حظ الرسول صلى الله عليه وسلم كحظ سائر أصحابه فكان هو وعلي، ومرثد بن أبي مرثد الغنوي يتعاقبون بعيراً، وكان رفيقا الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوانه ليركب ويقولان له: "اركب حتى نمشي معك" فكان يرفض منهما هذه الدعوة ويقول: "ما أنتما بأقوى مني على المشي، وما أنا بأغنى عن الأجر منكما" 4 ولم يقبل أن يتميز عليهما.   1 السيرة النبوية لابن هشام 1/ 607. 2 فتح الباري 7/ 285-286، ابن هشام 1/ 607، أبو الفداء 3/ 256. 3 المصدر السابق، أبو الفداء 3/ 257. 4 أبو الفداء 3/ 261. الجزء: 49 ¦ الصفحة: 209 وأسرع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه خوفاً من أن يفلت أبو سفيان منهم هذه المرة. ونزل المسلمون في وادي ذَفْران، وهناك علموا بخروج قريش بأجمعها لتحمي قافلتها في أثناء عودتها. وكانت قريش ترى في استيلاء محمد على القافلة هزيمة منكرة لها وتثبيتاً لمركزه وتأكيداً لصدق دعوته؛ ولهذا قررت أن تحاربه وتناضله، لتحمي قافلتها؛ ولتقضي على قوته فلا يعود ثانية إلى الوقوف في وجه قوافلها. (يتبع) الجزء: 49 ¦ الصفحة: 210 قوة العقيدة سبيل المصر في غزوة بدر الكبرى ... قوة العقيدة سبيل النصر في غزوة بدر الكبرى -3- د. محمد عبد المقصود جاب الله المدرس في كلية الدعوة بالجامعة وانطلق سواد مكة وهو يغلي يمتطي الصعب والذلول فكانوا تسعمائة وخمسين مقاتلاً معهم مائتا فرس يقودونها، وسبعمائة بعير ومعهم القيان يضربن بالدفوف ويغنين بشعر فيه ذم للمسلمين. وزين الشيطان للمشركين أعمالهم، وأوحى إليهم بأحلام النصر، وماذا على الشيطان لو انهزموا سوى أن يتركهم وخزيهم. {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (الأنفال آية 48) . ولكن أبا سفيان استطاع أن ينجو من الخطر المحدق به بتعديل سيره عن طريق ساحل البحر تاركا بدراً إلى يساره، ورأى أبو سفيان أنه أحرز القافلة فأرسل إلى قريش يقول: إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ورحالكم وأموالكم وقد نجاها الله، فارجعوا. فقال أبو جهل: "والله لا نرجع حتى نرد بدراً فنقيم فيها ثلاثا ننحر الجزور، ونطعم الطعام، ونسقي الخمر، وتعزف علينا القيان، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا أبداً"1.   1 أبو الفداء عن ابن إسحاق 3/266، ابن هشام 1/618-619. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 154 وهذا الذي عالن به أبو جهل هو ما كان يحاذره الرسول صلى الله عليه وسلم فإن دعم مكانة قريش، وامتداد سطوتها في هذه البقاع بعد أن فعلت بالمسلمين ما فعلت يعتبر خطراً على الإسلام ووقفا لنفوذه؛ لذلك لم يلتفت الرسول صلى الله عليه وسلم لفرار القافلة التفاته لضرورة التجوال المسلح في هذه الأنحاء إعلاءً لكلمة الله وتوهينا لكلمة الشرك، وإظهاراً لعبدة الأصنام بمظهر الذي لا يملك نفعا ولا ضراً. ومضت قريش في سيرها مستجيبة لرأي أبي جهل حتى نزلت بالعدوة القصوى من وادي بدر. وكان المسلمون قد انتهوا من رحيلهم المضني إلى العدوة الدنيا بعد أن قطعوا في مسيرهم مسافة تربو على مائةٍ وستين كيلومتراً (160) وهكذا اقترب كلا الفريقين من الآخر وهو لا يدري ما وراء هذا اللقاء الرهيب. وهبط الليل فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم عليا، والزبير، وسعداً يتحسسون الأحوال ويلتمسون الأخبار، فأصابوا غلامين لقريش كانا يَمدّانِهم بالماء. فأتوا بهما وسألوهما- ورسول الله قائم يصلي- فقالا نحن سقاة قريش بعثونا نسقيهم الماء، فكره القوم هذا الخبر، ورَجوْا أن يكونا لأبي سفيان- لا تزال في نفوسهم بقايا أمل للاستيلاء على القافلة- فضربوهما ضربا موجعا حتى اضطر الغلامان أن يقولا نحن لأبي سفيان فتركوهما، ولما فرغ الرسول عليه الصلاة والسلام من صلاته قال: "إذا صدقاكم ضربتموهما وإذا كذباكم تركتموهما1 صدقا والله إنهما لقريش" وناقشهما الرسول عليه الصلاة والسلام حتى استنتج عدد القوم وهو ما بين التسعمائة والألف وعرف مكانهم، وعرف أن أشراف قريش قد خرجوا جميعا. فأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال: "هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها" 2 وانكشف وجه الجد في الأمر. إن اللقاء المرتقب سوف يكون مُرً المذاق. لقد أقبلت قريش تخب في خيلائها تريد أن تعمل العمل الذي يرويه القصيد، وتذرع المطايا به البطاح، وتحسم به صراع خمسة عشر عاما مع الإسلام؛ لتنفرد بعدها الوثنية بالحكم النافذ.   1 صحيح مسلم بشرح النووي 12/125، مسند أحمد رقم 948، ابن هشام 1/618،أبو الفداء 3/265. 2 ابن هشام1/618، أبو الفداء 3/265. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 155 ونظر الرسول صلى الله عليه وسلم حوله، فوجد أولئك المؤمنين بين مهاجر باع في سبيل الله نفسه وماله، وأنصاري ربط مصيره، وحاضره بهذا الدين الذي افتداه وآوى أصحابه. فأحب أن يشعر القوم بحقيقة الموقف، حتى يبصروا على ضوئه ما يفعلون. والمسلمون الذين خرجوا لأمر يسير ما لبثوا أن ألفوا أنفسهم أمام امتحان شاق، تيقظت له مشاعرهم، فشرعوا يقلبون الأمر على عجل، تكاليفه ونتائجه، وثار منطق اليقين القديم فأهاج القوم إلى الخطة الفذة التي لا محيص عنها لمؤمن. استشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال وأحسن، ثم قام المقداد بن عمرو رضي الله عنه فقال: يا رسول الله امض لما أمرك الله فنحن معك. والله لا نقول لك ما قال بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون مادامت عين تطرف- فوالذي بعثك بالحق- لو سرت بنا إلى برك الغماد (مدينة بالحبشة) لجالدنا معك من دونه حتى نبلغه فقال له الرسول: "خيرا ودعا له". وروي أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضحك وأشرق وجهه عندما سمع مقالة المقداد وبايعه الناس جميعا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: "أشيروا علَّي أيها الناس؟ " فقال عمر رضى الله عنه: "يا رسول الله إنها قريش وعزُّها والله ما ذلت منذ عزت، ولا آمنت منذ كفرت والله لتقاتلنك فتأهبْ لذلك أهبته، وأعد لذلك عدته". وأعاد الرسول صلى الله عليه وسلم بعد أن فرغ عمر من قوله سؤاله قائلاً: "أشيروا علي أيها الناس"؟ ففهم الأنصار أن الرسول عليه الصلاة والسلام يقصدهم، فهم كانوا قد بايعوه يوم العقبة على أن يمنعوه مما يمنعون منه أبناءهم ونساءهم، ولم يبايعوه على اعتداء يقع خارج مدينتهم، فلما أحسوا أنه يريدهم قام سعد بن معاذ سيد الأوس وقال: "لعلك تريدنا معاشر الأنصار يا رسول الله؟ " فقال عليه الصلاة والسلام: "أجل" قال سعد رضي الله عنه: "قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة، ولعلك يا رسول الله تخشى أن تكون الأنصار ترى عليها أن لا ينصروك إلا في ديارهم، وإني أقول عن الأنصار وأجيب عنهم، فاطعن حيث شئت، وصل حبل من شئت، واقطع حبل من شئت، وسالم من شئت، وعادِ من شئت، وخذ من أموالنا ما شئت، وما أخذت منَّا كان أحب إلينا مما تركت، وما أمرت فينا من أمر فامرنا نتّبِع الجزء: 52 ¦ الصفحة: 156 أمرك. فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك والذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا، وإنا لصُبُرٌ في الحرب صدُق عند اللقاء، لعلّ الله يريك منَّا ما تقر به عينك فسر بنا على بركة الله تعالى فنحن عن يمينك وشمالك وبين يديك ومن خلفك". فسُرَّ الرسول صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه، ثم قال: "سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين فوالله لكأني أنظر إلى مصارع القوم"1. ولكن هذا الذي قاله المقداد والذي قاله سعد- رضي الله عنهما- لم يكن هو مقالة جميع الذين خرجوا من المدينة مع الرسول- صلى الله عليه وسلم. فلقد كره بعضهم القتال، وعارض فيه، لأنهم لم يستعدوا لقتال، إنَّما خرجوا لمقابلة الفئة الضعيفة التي تحرس البعير، فلما علموا أن قريشا قد نفرت بخيلها ورجلها وشجعانها، وفرسانها وركبانها, كرهوا لقاءها كراهية شديدة حتى قال أحد الحاضرين: إلى مذبحة تقودنا يا محمد. روي عن أبي أيوب الأنصاري- رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- ونحن بالمدينة-: "إني أخبرت عن عير أبي سفيان أنها مقبلة فهل لكم أن نخرج قبل هذه العير لعل الله أن يغنمناها؟ " فقلنا: نعم. فخرج وخرجنا، فلما سرنا يوما أو يومين قال لنا: " ما ترون في قتال القوم؟ إنهم أخبروا بخروجكم" , فقلنا: لا والله مالنا طاقة بقتال العدو، ولكنا أردنا العير. ثم قال: "ما ترون في قتال القوم؟ " فقلنا: مثل ذلك. فقال المقداد بن عمرو: "إذن لا نقول لك يا رسول الله كما قال قوم موسى لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ". قال: فتمنينا معشر الأنصار أن لو قلنا كما قال المقداد أحب إلينا من أن يكون لنا مال عظيم. قال: فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} 2 (الأنفال آية 5) . فهذا ما حاك في نفوس فريق من المؤمنين يومئذ وما كرهوا من أجله القتال حتى ليقول عنهم القرآن الكريم: {كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ} (الأنفال آية 6) .   1 ابن هشام 1/614 – 615،أبو الفداء 3/ 264،فتح الباري7/287. 2 فتح الباري 7/278-288. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 157 وذلك بعد ما تبين الحق وعلموا أن الله وعدهم إحدى الطائفتين وأنه لم يبق لهم خيار، وأن عليهم أن يلقوا الطائفة التي قدر الله لهم لقاءها كائنة ما كانت. كانت العير أو كانت النفير. كانت الضعيفة التي لا شوك لها. أم كانت القوية ذات الشوكة والمنعة. ولقد بقي المسلمون يودون أن لو كانت غير ذات الشوكة هي التي كتب الله عليهم لقاءها: {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ} (الأنفال آية7) 1. هذا ما أراده المسلمون لأنفسهم يومذاك. أما ما أراده الله لهم فكان أمرا آخر {وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ، لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ} (الأنفال آية 7،8) . أراد الله أن تكون ملحمة لا غنيمة وأن تكون موقعة بين الحق والباطل، ليحق الحق ويثبته، ويبطل الباطل ويزهقه. نعم أراد الله للفئة المؤمنة أن تصبح أمة وأن تصبح دولة، وأن يصبح لها سلطان وقوة، وأراد لها أن تقيس قوتها الحقيقية إلى قوة أعدائها فترجح ببعض قوتها على قوة أعدائها، وأن تعلم أن النصر ليس بالعدد، وليس بالمال والخيل والزاد، وليس بالعدة، وإنما هو بمقدار اتصالها بالقوة الكبرى التي لا تقف لها في الأرض قوة، وأن يكون هذا عن تجربة واقعية لا كلاماً واعتقادا، لتزود الفئة المؤمنة من هذه التجربة لواقعها كله. بعد أن استشار النبي صلى الله عليه وسلم- أصحابه وعرف مقدار استعدادهم للقاء عدوهم. وجد أنه يجب على المسلمين- مهما كان الثمن- أن يسبقوا إلى آبار بدر فاخذوا في السير حتى وصلوا إِلى أعلى الوادي، وكان الوادي من الجدب بحيث لم يجدوا فيه قطرة ماء- ونَفِدَ ما كان مع المسلمين من الماء، فلما كان الغد بلغ بهم الظمأ حداً أليماً من العذاب، وانتهز الشيطان هذه الفرصة فوسوس إليهم: "انظروا إلى ما قادكم إِليه ذلكم الذي يزعم أنه رسول الله القادر. هاهم أولاء الأعداء لا يحصيهم العَدُّ يحيطون بكم، ولا ينتظرون إلا أن تخور قواكم من شدة الظمأ، فليلتهموكم التهام الفريسة السهلة التي لا تجد من يحميها"، وأخذت وسوسة الشيطان تدور برءوسهم، ومن حسن الحظ أن تعودهم على الظمأ في صيام شهر رمضان قوّى من صبرهم، وفي الوقت الذي بلغت فيه الحرارة أشُدَها، وأرسلت الشمس شعاعها كشواظ من   1 أبو الفداء 3/264. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 158 نار وكاد ينفد الصبر، أرسل الله سبحانه وتعالى إليهم السحب تتوج القمم والآكام، وتفجرت عن الغيث المنعش، حتى سال الوادي، فشرب المؤمنون وملأوا الأسقية، وسقوا الركاب، واغتسلوا من الجنابة فجعل الله في ذلك طهوراً وثبت به الأقدام، وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة، فبعث الله المطار فضربها حتى اشتدت، وثبتت عليها الأقدام، ولم تمنعهم من السير {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} (الأنفال آية 11) . وعلى العكس كانت هذه العاصفة ضرراً على المشركين فقد أصابهم منها ما أعجزهم 1 عن التحول فقد كانوا في أرض سبخة، وكانت إبلهم تنزلق، وتخر على الأرض وأرجلها الطويلة ممدودة وراءها في صورة تبعث على الضحك، وكانت قوائم الخيل تغوص في الأرض، وتَعْجِزُ عن إخراجها، ويحاول الفارس تخليصها من الأرض فترتمي عليه الفرس. وساد الاضطراب وعمت الفوضى، وعرقل كل ذلك من سيرهم2. والمدد على هذا النحو مدد مزدوج مادي وروحي فالماء في الصحراء مادة الحياة فضلاً عن أن يكون أداة النصر، والجيش الذي يفقد الماء في الصحراء يفقد أعصابه قبل أن يفقد حياته، والتحرج من أداء الصلاة على غير طهور بالماء لعدم وجود الماء، ولم يكن قد رخص لهم بعد في التيمم، ويدخل الشيطان من باب الإيمان، ليزيد حرج النفوس ووجل القلوب، والنفوس التي تدخل المعركة في مثل هذا الحرج وفي مثل هذا القلق تدخلها مزعزعة مهزومة من داخلها. وهنا يجيء المدد والنجدة {وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ} (الأنفال آية،11) . ذلك أن فوق ما أوحى الله سبحانه وتعالى إلى الملائكة؛ ليثبتوا الذين أمنوا فوق وعدهم بإلقاء الرعب في قلوب الكفار. وكان النوم قد جافى عيون المؤمنين من شدة الخوف حينما بلغهم أنهم سيقاتلون جيشاً يزيد على عددهم ثلاثة أضعاف سيحاربهم غداً وهو أشد منهم قوة وأعظم عدة، فكان من مقتضى العادة أن يناموا على بساط الأرق والسهاد ويضربون أخماسا في أسداس، ويفكرون فيما سيلاقونه في غدهم من الشدة والبأس، ولكن الله رحمهم بما أنزل عليهم من النعاس،   1 الروض الآنف 5/97، فقه السيرة ص 236، أبو الفداء 3/266. 2 الروض الآنف 5/97، فقه السيرة ص 236، أبو الفداء 3/266. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 159 غشيهم فناموا واثقين بالله تعالى مطمئنين لوعده، وأصبحوا على همة ونشاط في لقاء عدوهم وعدوه. ولكن محمداً صلى الله عليه وسلم بقي متيقظا مستغرقا في الصلاة {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ ..... } (الأنفال آية 11) . وجاءت الساعة التي سيتقرر فيها مصير الإسلام، وكان ذلك يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان، وكان الحباب بن المنذر مشهوراً بجودة الرأي وإخلاص النصيحة، فخاطب الرسول عليه الصلاة والسلام قائلاً: "يا رسول الله أرأيت هذا المنزل أمنزلاً أنزلكه الله أم هو الرأي والحرب والمكيدة؟ ". فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا بل هو الرأي والحرب والمكيدة"، فقال: يا رسول الله، فإن هذا ليس بمنزل. امض بالناس حتى تأتي أدنى ماء من القوم فننزله، ثم نغوِّر (نطمس ونردم) ما وراءه من القلب (الآبار) ثم نبني عليه حوضا فنملؤه ماء ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أشرت بالرأي" ثم أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم ينفذ النصيحة خطوة فخطوة، فلم يجئ نصف الليل1 حتى تحولوا كما رأى الحباب وامتلكوا مواقع الماء ..... وتحدد بذلك مكان الموقعة، فسيضطَرُّ المشركون بلا شك إلى الحضور، لينازعوا المسلمين على الماء فليس في الوادي غيره. وبنى المسلمون عريشا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ ليجلس فيه بناءً على اقتراح سعد ابن معاذ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتفقد الرجال، وينظم الصفوف، ويُسْدِي النصائح، ويذكر بالله والدار الآخرة، ثم يعود إلى العريش الذي هيء له، فيستغرق في الدعاء الخاشع، ويستغيث بأمداد الرحمن ..... ووقف أبو بكر بجوار الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يكثر الابتهال والتضرع بعد أن شاهد قوة المشركين وكثرة عددهم، وينشد الله ما وعده به، وأخذ يردد "اللهم هذه قريش قد أتت بخيلائها تحاول أن تكذب رسولك. اللهم فنصرك الذي وعدتني. اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد بعدها في الأرض". وما زال يدعو ربه حتى سقط رداؤه, وجاء أبو بكر يرد الرداء على منكبيه ويقول له: "يا نبي الله بعض مناشدتك ربك، فإن الله منجز لك ما وعدك" 2.   1 ابن هشام 1/620، أبو الفداء 3/267 عن ابن إسحاق. 2 أبو الفداء 3/272، 275. فتح الباري 7/278، الروض الأنف 5/98-130. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 160 والتقى الجمعان، وبدأ الهجوم من قبل المشركين إِذ برز الأسود المخزومي وكان معجبا بقوته، وصرخ بحيث يسمعه المسلمون والمشركون قائلاً: "وحق اللات والعزى لأشربن من حوضهم أو لأهْدِمَنَّه، أو لأموتن دونه". وخرج له من صفوف المسلمين حمزة بن عبد المطلب فلما التقيا ضربه حمزة ضربةً أطاحت بنصف ساقه، ووقع على ظهره والدم يسيل من رجله، ثم حبا إلى الحوض في مهارة مدهشة، وأسرع نحوه يريد أن يشرب منه، ولكن حمزة أدركه فقضى عليه. وخرج عتبة بن ربيعة بين أخيه شيبة وابنه الوليد فدعا للمبارزة فخرج له ثلاثة إخوة من الأنصار هم: معوذ ومعاذ وعوف. فقال لهم عتبة: من أنتم؟ فقالوا: رهط من الأنصار, فقال لهم: مالنا بكم حاجة نريد قومنا، يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا. وقيل: إِن الرسول صلى الله عليه وسلم نفسه هو الذي استرجع أولئك الأنصار رغبة منه أن تكون عشيرته أول من يواجه العدو في مثل هذا الموقف. فقال: "قم يا عبيدة بن الحارث، وقم يا حمزة بن عبد المطلب، وقم يا علي بن أبي طالب ,قوموا يا بني هاشم فقاتلوا بحقكم الذي بعث به نبيكم إِذ جاءوا ببطلانهم؛ ليطفئوا نور الله..". فبارز عبيدة عتبة، وحمزة شيبة وعلي الوليد. فأما حمزة فلم يمهل شيبة أن قتله، وكذلك فعل علي مع خصمه، وأما عبيدة وعتبة فقد جرح كلاهما الآخر فكرَّ حمزة وعلي على عتبة فأجهزا عليه، واحتملا صاحبهما فجاءوا به إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأفرشه الرسول عليه الصلاة والسلام قدمه، فوضع خده على قدمه الشريفة، وقال يا رسول الله: لو رآني أبو طالب لعلم أني أحق بقوله: ونسلمه حتى نصرع دونه ... ونذهل عن أًبنائنا والحلائل فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: "أشهد أنك شهيد" ثم أسلم الروح1. بعد هذه المبارزة الفردية التي أثارت العواطف الحربية بين جوانح المحاربين لا يمكن أن يطول انتظار الغزاة، وأخذ الرسول صلى الله عليه وسلم يعدل جيشه كتفا بكتف في صفوف متلاصقة كالبنيان المرصوص. وأخذ يكبح شكيمة هؤلاء المتعجلين الذين يريدون أن يتقدموا الجميع إلى القتال فيلاقوا مصرعهم دون فائدة تعود على المسلمين، ومن هؤلاء سواد بن غزيَّة، فقد برز من صفه فضربه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقدح (سهم) كان في يده   1 أبو الفداء 3/279،الروض الأنف 5/103، فقه السيرة ص 237. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 161 وقال: "استو يا سواد". فقال: يا رسول الله أوجعتني وقد بعثك الله بالحق والعدل فَأقِدْني, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقتصً مني" فقال سواد كيف وقد ضربتني على بطني العريان. - وهنا يتجلى حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على إقامة العدل بين أمته، ليبين أنه لا فرق بين حاكم ومحكوم ولا بين الرسول صلى الله عليه وسلم وواحد من قومه في ميزان العدل لنأخذ منه عليه الصلاة والسلام الأسوة الحسنة: فيكشف له الرسول صلى الله عليه وسلم عن بطنه ويقول: "استقد يا سواد"؟ فاعتنقه سواد فقبل بطنه. فقال صلى الله عليه وسلم: "ما حملك على هذا يا سواد"؟ فقال: يا رسول الله حضر ما ترى فأردت أن يكون آخر العهد بك أن يمس جلدي جلدك" فدعا له رسول الله بخير 1. واستشاط الكفار غضبا للبداية السيئة التي صادفتهم فأمطروا المسلمين وابلاً من سهامهم ثم حمي الوطيس، وتهاوت السيوف وتصايح المسلمون أحد أحدٌ. وأمرهم الرسول صلى الله عليه وسلم أن يكسروا هجمات المشركين وهم يرابطون في مواقعهم وقال: "إن اكتنفكم القوم فانضحوهم عنكم بالنّبل ولا تحملوا عليهم حتى تؤذنوا". فلما اتسع نطاق المعركة واقتربت من قمتها كان المسلمون قد استنفدوا جهد أعدائهم وألحقوا بهم خسائر جسيمة. والنبي صلى الله عليه وسلم في عريشه يدعو الله سبحانه وتعالى، ويرقب بطولة رجاله وجلدهم قال ابن إسحاق: "خفق النبي خفقة في العريش ثم انتبه فقال: أبشر يا أبا بكر أتاك نصر الله، هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده على ثنايا النقع" 2. لقد انعقد الغبار فوق رءوس المقاتلين وهم بين كرٍّ وفرٍّ، جند الحق يستبسلون لنصرة الرحمن، وجند الباطل قد ملكهم الغرور، فأغراهم أن يغالبوا القدر. فلا عجب إِذا نزلت ملائكة الخير تنفث في قلوب المسلمين روحَ اليقين وتحضهم على الثبات والإقدام.   1 أيو الفداء3/271،الروض الأنف 5/104. 2 ابو الفداء 3/276.فقه السيرة ص238، الروض الأنف 5/105. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 162 ونزل قول الله تعالى: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} (الأنفال آية 13) . وخرج رسول الله- صلى الله عليه وسلم- من مكانه إِلى الناس فحرضهم قائلاً: "والذي نفس محمد بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابراً محتسباً إِلا أدخله الله الجنة". وأخذ الرسول- صلى الله عليه وسلم- حفنة من حصباء فرمى بها في وجوه القوم وقال: "شاهت الوجوه". ثم قال لأصحابه: "شدُّوا" 1, فشدُّوا فنزل قول الله تعالى: {فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى} (الأنفال آية 17) . ولما دنا المشركون قال الرسول صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض" والتأميل في الآخرة هو بضاعة الأنبياء. وهل لأصحاب العقائد، وفداء الحق من راحة إلا هناك، وعمل هذا التحريض عمله في القلوب المؤمنة. فقال عمير بن الحمام الأنصاري: "لا يا رسول الله جنة عرضها السموات والأرض: قال: "نعم". قال: بخ بخ. قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: ما يحملك على قول: بخ بخ، قال: لا والله يا رسول الله إلاّ رجاء أن أكون من أهلها؟. فقال الرسول- صلى الله عليه وسلم-: "فِإنك من أهلها". فأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن. ثم قال: "لئن أًنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إِنها حياة طويلة، فرمى ما كان معه من التمر ثم قاتلهم وهو يقول رضي الله عنه: ركضا إلى الله بغير زاد ... إلا التقى وعمل المعاد والصبر في الله على الجهاد ... وكل زاد عرضة النفاد غير التقى والبر والرشاد2 ... فما زال حتى قتل رحمه الله3. واشتد القتال، وقتل سادات قريش، لأن المسلمين كان هَمُّهم الأكبر هو استئصال سادات قريش، فقد عذبوهم بمكة، وصدوهم عن المسجد الحرام. وقُتل من قُتل، وفرّ من   1 أبو الفداء 3/284. 2 أبو الفداء 3/277، الروض الأنف 5/105-106،فقه السيرة ص239. 3 أبو الفداء3/277. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 163 فر, وانتصر جيش المسلمين وكانت معركة بدر في صالح محمد- صلى الله عليه وسلم- ورجاله وولى أهل مكة الأدبار كاسفا بالهم، خاشعة من الذل أبصارهم لا يكاد أحدهم يلتقي بنظر صاحبه حتى يواري وجهه خجلاً من سوء ما حل بهم جميعا. ثالثا: تسجيل لمواقف الخزي والعار بالنسبة لقريش ورجالها قال الله سبحانه وتعالى: {إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} (الأنفال آية 19) . حينما خرج المشركون من مكة إلى بدر- أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله قائلين: "اللهم انصر أعلى الجندين، وأكرم الفئتين وخير القبيلتين". وروي أن أبا جهل قال يوم بدر "اللهم أينا كان أقطع للرحم وآتانا بما لا نعرف فاحنه الغداة". وأنه قال عندما التقى الجمعان في ذلك اليوم: "اللهم ربً ديننا القديم ودين محمد الحديث فأي الدينين كان أحب إليك وأرضى عندك فانصر أهله اليوم"1. وتحقق طلب قريش وأبي جهل، فجعل الله الدائرة عليهم تصديقاً لاستفتاحهم؛ لأنهم طلبوا من الله أن يفتح عليهم وأن يهلك الضالين, وهذه حقيقة فقد دارت الدائرة على الفريق الضال الصاد عن سبيل الله وهزموا هزيمة منكرة. وهذا نموذج للإجابة لا يسر ولا يشجع على إعادة الاستفتاح من جديد. ولقد كان أبو جهل أشد المشركين عداوة للإسلام ولما وجد سيل الهزيمة النازل بقومه من المشركين- أقبل يصرخ فيهم، وغباوة الغرور لا تزال ضاربة على عينيه "واللات والعزى لا نرجع حتى نفرِّقهم في الجبال ... خذوهم أخذاً"2. ولقد كان أبو جهل تمثالاً للطيش والعناد إلى آخر رمق، وكان يقاتل في شراسة وغضب وهو يقول: بازل عامين حديث سني ... ما تنقم الحرب الشموس مني لمثل هذا ولدتني أمي ...   1 أبو الفداء 3/282-283. 2 أبو الفداء 3/283. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 164 وكان المسلمون يعلمون أن أبا جهل هو المحرك لكل المؤامرات التي تحاك ضد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فاخذوا يبحثون عنه، وتمكن معاذُ بن عمرو من الوصول إِليه وضربه ضربةً أطارت قدمه بنصف ساقه، وأسرع عكرمة بن أبي جهل لإنقاذ أبيه، فضرب معاذاً على عاتقه فطوحت يده .... ثم مر بأبي جهل فتيان من الأنصار وهما ولدا عفراء وهو على فرسه فطعناه حتى هوى عن فرسه واهتم الرسول- صلى الله عليه وسلم- بالبحث عن مصير أبي جهل وأمر أن يلتمس في القتلى فذهب عبد الله بن مسعود للبحث عنه فوجده بآخر رمق، فوضع رجله على عنقه كما يضع الإنسان رجله على أفعى يريد أن يقضي عليه، وتحرك أبو جهل يسأل عن الدائرة اليوم؟. قال: "لله ورسوله", ثم استتلى عبد الله قائلا له: "هل أخزاك الله يا عدو الله؟ " قال: وبماذا أخزاني هل أعمد من رجل قتله قومه؟ وتفرس في عبد الله ثم قال له: "لقد ارتقيت مرتقى صعبا يا رويعي الغنم"، فجعل عبد الله يهوي عليه بسيفه حتى خمد. وجزّ رأسه وجاء بها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وحينما رأى رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وجه عدوه الدامي قال: "الله الذي لا إله غيره" ثم قال: "هذا فرعون هذه الأمة" 1. ولقي مثل هذا المصير المفجع أمية بن خلف وغيره من صناديد قريش حتى بلغوا سبعين صنديداً من رؤوس الكفر بمكة دارت عليهم الدائرة، وتجرعوا كؤوس الردى صاغرين, وسقط في الأسر سبعون كذلك, وفر بقية التسعمائة والخمسين يرددون لمن خلفهم أن الظلم مرتعه وخيم، وأن البطر يجر في أعقابه الخزي والعار، وهذا جزاؤهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ويقال لهم: {ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ} (الأنفال آية 14) . وانتصرت القلة المؤمنة على الكثرة الكافرة، والقلة الضعيفة على الكثرة القوية المستعدة. وسيحدث ذلك في كل معركة بين الحق والباطل، بين الكفر والإيمان، لأن الله مع المؤمنين بمعونته وولايته وتوفيقه فمن ذا الذي ينتصر على من كان الله معينه وناصره؟ من يهزم جمعا معه الله. الجواب على هذا لا أحد إن شاء الله {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد آية7) .   1 أبو الفداء3/287-290 ورواه أبو داود والنسائي بإسنادهما والبخاري ومسلم عن أنس بن مالك. الروض الأنف 5/113-115 142-145. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 165 رابعا: أسباب النصر وعوامله مدخل ... قوة العقيدة سبيل النصر في غزوة بدر الكبرى د. محمد عبد المقصود جاب الله المدرس في كلية الدعوة بالجامعة رابعا: أسباب النصر وعوامله: فتح المسلمون عيونهم على بشاشة الفوز تضحك لهم خلال الأرض والسماء، لأن هذا الظفر المتاح لهم ردّ عليهم الحياة والأمل والكرامة، وخلصهم من أغلال ثقال {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (آل عمران آية 123) . وكانت عدة من استشهد منهم أربعة عشر رجلا استأثرت بهم رحمة الله فذهبوا إلى عليين ثبت عن أنس بن مالك. أن حارثة بن سراقة قتل يوم بدر وكان في النظّارة أصابه سهم طائش فقتله فجاءت أمه فقالت: يا رسول الله أخبرني عن حارثة فإن كان في الجنة صبرت، وإلا فليرين الله ما أصنع - تعني النياحة - وكانت لم تحرم بعد ... فقال لها الرسول عليه الصلاة والسلام: "ويحك أوهبلت إنها جنان ثمان وإن ابنك أصاب الفردوس الأعلى"1. فإن كان هذا جزاء النظارة الذين اختطفتهم سهام طائشة، فكيف بمن خاض إلى المنايا الغمرات2 الصعاب. ولقد كان نصر الله للمؤمنين في بدر بالقوة المعنوية وحدها، فالتدبير تدبير الله، والنصر بيد الله، والكثرة العددية ليست هي التي تكفل النصر، والعدة المادية ليست هي التي تقرر مصير المعركة.   1 أبو الفداء 3/317،328-329 والبخاري. 2 غمرات الموت: شدائده. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 182 ولقد وضع الله للمؤمنين الموادّ في دستور هذه القوة التي لا يستغني عنها جيش يحرص على الفوز، وأرشدهم إلى طريق النصر وقانونه. قال الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} (الأنفال آية 45-47) . هذه عوامل النصر الحقيقية: الثبات عند لقاء العدو، والاتصال بالله بالذكر الكثير، والطاعة لله والرسول، واطراح النزاع والشقاق، والصبر على تكاليف المعركة، وعدم البطر والبغي والعدوان. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 183 أولا: الثبات عند لقاء العدو : إن الثبات هو المادة الأولى في قانون النصر، لأنه بدء الطريق إليه فأثبت الفريقين أغلبهما، وما يدري المؤمنين أن عدوهم يعاني أشد مما يعانون، وأنهم لو ثبتوا للحظة فسينهار عدوهم، وينخذل، وما الذي يزلزل أقدام المؤمنين، وهم واثقون من إحدى الحسنين: الشهادة أو النصر. والثبات محله القلب ولا يتأتى إلا بقوة العقيدة ورساخة الإيمان، وهي لازمة للمؤمنين في ميدان القتال، وفي كل ميدان فتقابل فيه قوة إيمانية، وأية قوة أخرى من قوى الأرض، وفي كل مجال ينازل فيه خصما، وهو الثبات على العقيدة مهما فتن، وعلى الطريقة مهما لاقى، وعلى الكيد مهما يدبر الكائدون. وما وقفه الشعب الأفغاني المسلم أمام قوى الكفر والطغيان، وجحافل الشيوعية الباغية التي احتلت أرضه ودنست ثراه ولا تريد أن تعترف بحقه في تصريف أموره، وتقرير ما يراه مما يتناسب مع تاريخه وعراقة إيمانه. إلا ثبات في المعركة. لقد واجه العدوان في صلابة واستبسال، وصبر وإيمان لا يعرف الخور ولا الهوان، فنراه في القرى والمدن وفوق قمم الجبال يقابل الطائرات المغيرة بوحشية وضراوة أعزل من السلاح. ولكنه بإيمانه بحقه ويقينه بالله وقف في وجههم وكأنه يملك الصواريخ المضادة لها وسينتصر الشعب الأفغاني بثباته وبيقينه بوعد الله الذي ينصر المؤمنين الواثقين بنصره، والعاملين بكتابه. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 183 وهل ما يفعله الشعب الفلسطيني المجاهد، والشعب الإريتري المكافح والشعب الصومالي الصامد من ثبات في المعركة ووقوف صلب في وجه العدوان ومجابهة لقوى البغي والطغيان من الصهيونية والصليبية والشيوعية إلا تمسكا بهذا المبدأ الذي وضعه الله سبحانه وتعالى من فوق سبع سماوات وستنتصر الشعوب المسلمة المكافحة بعون الله وسيخذل أعداؤهم ويرجعون مدحورين أذيال الخزي والعار، ويبوءون بالبوار والخسران. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 184 ثانيا: الإكثار من ذكر الله : والإكثار من ذكر الله في ميدان القتال هو المادة الثانية:؛ لأنه الاتصال بالقوة الكبرى، والاستعانة بالله سبحانه وتعالى ذي الجبروت، والثقة بالله الذي ينصر الحق، واستحضار حقيقة المعركة، لإعلاء كلمة الله، لا للسيطرة ولا للجاه، ولا للمغانم، ولا للشهوة أو النزوة وإنما كانت لله، وفي سبيل الله. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 184 ثالثا: طاعة الله ورسوله : وطاعة الله وطاعة رسوله هو المادة الثالثة في هذا القانون، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم هو القائد العام، فليدخل المؤمنون المعركة، وقد أدوا فرائضهم وقدموا واجبهم، وأسلموا أمرهم لله ورسوله ثقة منهم بحكمة تدبيره، وبصدق رسوله، فيتم النظام الذي لا بد منه لكل جيش، بتوحد القوى وسرعة التحرك، ودقة التنفيذ للخطط. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 184 رابعا: اتقاء النزاع : واتقاء النزاع هو المادة الرابعة في قانون النصر، لأنه في زمن الحرب تتنازع الهيئات أو الأحزاب أو الأفراد، فنهوا عن التنازع {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} ومن ثم وجب أن ينهوا عنه ولو اقتضى الأمر وقف العمل بمبدأ الشورى. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 184 خامسا: الصبر عند لقاء العدو : الصبر عند لقاء العدو هو خامس المواد في قانون النصر، إذ للحرب ضروراتها التي لا تسيغها النفوس كإعلان الحكم العسكري الذي يقيد بعض الحريات، والمقاطعة الاقتصادية التي تسبب شيئا من الضيق، ونقص الأسلحة الذي قد يوقع في الحرج، وتفوق العدو الذي قد يدفع إلى القلق، وهي ضرورات لا بد لمن يريد النصر أن يصبر عليها راضيا بها. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 184 سابعا: اتقاء البطر والرياء ... سادسا: اتقاء البطر والرياء: قد يحسن المؤمنون الاستعداد للحرب، فيشعرون بأنهم أهل، لأن ينصروا بقوتهم فيحملهم هذا على الاستعلاء والفخر، فيخرجون متبطرين طاغيين يتعاجبون بقوتهم، ويستخدمون نعمة القوة التي أعطاها الله في غير ما أرادها الله حرصا على ثناء الناس وإعجابهم فيفتوهم في هذه الحال النصر، لأن قانونه يهيب بهم في قوة {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ} ومن هنا اعتبر اتقاء البطر والرياء سادس المواد في قانون النصر. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 185 سابعا: التوكل على الله : ويقتضيهم الإيمان مع الثبات وذكر الله وطاعة القائد، وتجنب أسباب النزاع والصبر والإخلاص لله مادة سابعة هي التوكل على الله، وهو روح المواد الست وقوامها إذ لا بد منه باعثا على كل منها ونتيجة لكل منها على أنه يعني الاستعداد التام قبل المعركة والاطمئنان التام للنصر من بعد، ولن يحرم النصر جيش أحسن الاستعداد للحرب وامتلأ ثقة بالله فكيف إذا جمع إلى هذه المادة سائر المواد في قانون النصر. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 185 خامسا: الأسرى وموقف الرسول منهم خامسا: الأسرى وموقف الرسول منهم ... خامسا: الأسرى وموقف الرسول منهم: كان عدد الأسرى سبعين كعدد الذين قتلوا، وكانوا ينتسبون في الأغلب – إلى أكبر أسر المشركين - وبعد أن وزعهم الرسول صلى الله عليه وسلم على أصحابه قال لهم: "استوصوا بالأسارى خيرا"1. ولم يكن هناك نظام ثابت لمعاملة الأسرى حتى بعد غزوة بدر إلا أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - شرع نظاما معينا للأسرى ينحصر في أمور ثلاث: 1_ الافتداء 2_والاسترقاق. 3_والقتل. ولم يلجأ الرسول – صلى الله عليه وسلم - إلى القتل إلا إذا كان الأسير أحد هؤلاء الذين اشتدوا في الإيذاء له، وإيذاء أهله، وأصحابه وكان خطرا على دعوته وعلى رسالته، ومن أمثلة ذلك قصة الأسيرين: النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط فقد وقعا معا في الأسر وكان الاثنان شرا مستطيرا على المسلمين أثناء وجودهم في مكة، وكانا يبحثان في أفضع الوسائل لتعذيب محمد وقومه، ولهذا ارتعد النضر عندما نظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم أثناء استعراضه للأسرى، وصدر ذلك في قوله لرجل إلى جانبه: "محمد والله قاتلي لقد نظر إليّ بعينين فيهما الموت" فقال له الرجل الذي بجانبه: "ما هذا والله منك إلا رعب".   1 أبو الفداء 3 /306. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 185 سادسا: الخاتمة الخاتمة ... سابعا: الخاتمة: وبعد فهذه غزوة بدر الكبرى التي انتصر فيها المسلمون، وزلزل المشركون، وأنجز الله وعده، وأعز جنده، وأسعد من حضرها من المسلمين فهو عند الله من الأبرار. ولقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: "لعل الله اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد وجبت لكم الجنة"1. وبهذه الغزوة، وبهذا الانتصار استقر أمر المسلمين في بلاد العرب جميعا، وكانت هذه الغزوة مقدمة وبداية للدولة الإسلامية المترامية الأطراف، ولا عجب أن سماها الله سبحانه وتعالى فرقانا حيث يقول: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَان} (الأنفال آية 41) ، لأنها فرقت بين الحق والباطل، وبين الهدى والضلال، والنور والظلام. ورغم أن بدرا تعد أول غزوة من غزوات جيش الإسلام ورغم أنها المرة الأولى التي يقف فيها الرسول الكريم موقف المحارب فإننا نستطيع أن نستخلص منها دروسا لها قيمتها ومبادئ خطيرة لها شأنها في سير المعارك. وهذه الدروس لم تتغير ولم تتبدل رغم اختلاف العصر الذي نعيش فيه والعصر الذي تمت فيه غزوة بدر. ومن أهمها: 1_ أهمية القضاء على قوة العدو الاقتصادية، ووضعها في المقام الأول، لأن في القضاء عليها قضاء على القوة العسكرية. 2_ الشورى وما لها من أهمية كبرى في الميدان ووقت الحرب، فالقائد الحكيم هو الذي يستشير خبراءه ليعرف منهم الخطة السليمة الصحيحة. 3_ أهمية القوى المعنوية للمحاربين والقوة المعنوية هي العامل الأول الذي دفع بالمسلمين إلى النصر رغم قلة عددهم وكثرة عدوهم. 4_ الاهتمام بالاستكشاف والاستطلاع قبل إبان المعركة، ولذلك نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم خرج بنفسه لذلك أو كان يختار من يثق بهم. 5_ تكتيك الحرب الذي يبدو واضحا في السرية التامة في التحركات وخاصة خلال العمليات. فاحتلال المسلمين لمواقع المياه تنفيذا لرأي الحباب بن المنذر ثم في منتصف الليل حتى لا يشعر بهم العدو.   1 انظر البخاري ومسلم وأبو داود، أبو الفداء 3/329. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 188 والرسول صلى الله عليه وسلم كان يأمر جنده بأن يظلوا في أماكنهم لا يتحركون أو يتحدثون أو يأتون بما يثير انتباه أعدائهم، وكانون بذلك يتركون العدو يتقدم ويتقدم ويظل في تقدمه، حتى إذا أصبح في مرمى النبال ألقوها عليهم، فتصيب منه العدد الكبير فوق ما تحدثه المفاجأة في نفسه، فيرتبك ويضطرب وتكثر إصابته ويزيد عدد قتلاه. 6_ضرورة تغلغل العقيدة في نفوس المحاربين، فإن العقيدة المتغلغلة في نفوس المسلمين بلغت منهم منزلة تسمو على صلات الرحم والقرابة. فكان الرجل منهم يقتل أباه أو أخاه أو عمه أو قريبه من المشركين لا تأخذه فيه شفقة أو رحمة. فها هو ذا عبد الرحمن بن أبي بكر يقول لأبيه بعد إسلامه – وكان يقاتل في صف المشركين يوم بدر-: "يا أبت لقد أهدفت لي يوم بدر مرارا فصدفت عنك " فقال أبو بكر رضي الله عنه: "لو كنت أهدفت لي أنت ما صدفت عنك"1. وهذا أبو حذيفة بن عتبة ينظر إليه الرسول صلى الله عليه وسلم يوم بدر وقد سحبت جثة أبيه عتبة لتلقى في القليب فألفاه كئيبا قد تغير لونه فقال: "لعلك يا أبا حذيفة قد دخلك من شأن أبيك شيء" فقال أبو حذيفة: "لا والله ما شككت في أبي ولا في مصرعه، ولكني كنت أعرف من أبي رأيا وحلما وفضلا فكنت أرجو أن يهديه ذلك إلى الإسلام، فلما رأيت ما أصابه وذكرت ما كان عليه من الكفر بعد الذي كنت أرجو له أحزنني أمره" فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بخير وقال له خير2. 7_ معاملة الأسرى معاملة كريمة فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قبل الفداء، وفوق هذا أطلق سراح الأسير الفقير الذي لا مال له ولا شيء عنده يفتدي به نفسه. وفي الختام فهذه غزوة بدر وتلك أسبابها ونهايتها وهي صفحة بيضاء مشرقة من صفحات تاريخنا دونها بإخلاصهم وإيمانهم آباؤنا الأولون. وليس لنا من سبيل إلى ما وصلوا إليه من عر ومجد، إلا أن نستن سنتهم، وأن نسير على طريقتهم وأن ننسج على منوالهم، وعندئذ يكون لنا بوعد الله ما كان لهم من عزة ومجد وكرامة، أرجو وآمل إن شاء الله، وما النصر إلا من عند الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم.   1 الروض الأنف للإمام السهيلي 6/181 دار الكتب الحديثة تفسير بن كثير 4 /329. 2 أبو الفداء 3/294 عن ابن إسحاق، السيرة لابن هشام 1/640-641. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 189