الكتاب: حول الشعر التعليمي المؤلف: صالح آدم بيلو الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد من المجلة] ---------- حول الشعر التعليمي صالح آدم بيلو الكتاب: حول الشعر التعليمي المؤلف: صالح آدم بيلو الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد من المجلة] حول الشعر التعليمي-1- للدكتور صالح آدم بيلو الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية بالجامعة تعريفه : هو هذا اللون من الشعر الذي يهدف به الشعراء إلى تعليم الناس شئون دنياهم وأخراهم، وتزويدهم بالحقائق والمعلومات المتعلقة بحياة الفرد والجماعة، وأسرار الطبيعة وما وراء الطبيعة.. 1- فهو يعالج الأخلاق والعقيدة والعبادة، ويتناول الخير والشر، والفضيلة والرذيلة، وما ينبغي الإنسان أن يكون عليه، وما يجب أن يتحاشاه ويتباعد عنه … يسلك الشاعر في ذلك أساليب الترهيب والترغيب والنصح والعظة.. 2- ويتناول التاريخ والسير: فيقرر ويبين الأنساب والأصول والفروع، وتسلسل الحوادث وترتيبها، ويبحث العلل والأسباب، ويربط النتائج بمقدماتها … 3- ويعرض للعلوم والفنون والصناعات، فيقرر الحقائق المتعلقة بشأنها، ويضع لها القواعد ويستنبط لها القوانين. يقوم الشاعر بكل أولئك ليقدمها لقمة سائغة لمن يريد تعليمه، فتعيها ذاكرته، وتسجلها حافظته، فيسهل عليه استدعاؤها واستحضارها في الوقت المناسب. وبهذا ترى أن الميادين التي يعمل فيها هذا اللون من الأدب، أو الشعر الذي نسميه (تعليميا) ثلاثة ميادين: الجزء: 52 ¦ الصفحة: 206 (1) أصول الأخلاق والعقائد. (2) السير والتاريخ. (3) الحقائق والمعارف المتعلقة بالعلوم والفنون والصناعات. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 207 عند اليونان : عرفت اليونان هذا اللون من الأدب عند جماعة من شعرائها القدامى، ومن أشهرهم (هزيود) في القرن الثامن قبل الميلاد، وكان من أهم الأعمال المنسوبة إليه قصيدتان: أولاهما التي تتناول موضوعي الأخلاق والعقائد، والمعارف والحقائق المتعلقة بالفنون والصناعات. فهي تتحدث عن الجانب الخلقي وتوجه مجموعة نصائح وعظات بصدد العدالة، والظلم والقناعة والجشع، وعناصر كلٍّ منها، وأصوله ونتائجه بضرب الأمثال والحقائق التاريخية والسماوية والأرضية … كما تعرض أعمال الحقل وما يتصل بها، فيبين فصول السنة وما يلائمها من ضروب الزراعة، وما تحتاج إليه من أداة وفن ... والقصيدة الثانية هي: (التيوجونيا) .. أو أنساب الآلهة، وتعرض للآلهة، فتبين نشأتهم وأنسابهم وأصولهم وشعبهم، وتترجم لكل منهم، فتفصل وظائفه وأعماله وتاريخ حياته 1.   (1) الأدب اليوناني القديم للدكتور علي عبد الواحد وافي-دار المعارف ص99. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 207 و عند الهنود : وعرف الهنود أيضا هذا الضرب من الشعر، فراحوا ينظمون به جملة من المعارف والعلوم التطبيقية، مما دفع (البيروني) إلى الشكوى من أنهم كانوا يعمدون إلى نظم قواعد الرياضيات والفلك، لأن ذلك يخرجهم أحياناً عن ضبط القواعد وما يستلزمه من دقة في التعبير لا تتسنى في النظم1.   (1) تحقيق ما للهند من مقولة ص71 وضحى الإسلام ج1/246. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 207 لدى العرب : أما بالنسبة للأدب العربي؛ فيذهب الذاهبون إلى أن العرب لم يعرفوا هذا اللوّن من الأدب إلاّ في وقت متأخر نتيجة اتصالهم بالفكر الوافدِ فهناك من يرى أن هذا التأثير ناشئ عن الثقافة الهندية التي اتصل بها العرب في العصر العباسي، ومن هؤلاء الأستاذ أحمد الجزء: 52 ¦ الصفحة: 207 أمين 1 وشكري فيصل2، ويرى آخرون أن ذلك من مكتسبات الثقافة اليونانية3. على أن الدكتور طه حسين يرى أن أبان بن عبد الحميد اللاحقي هو مبتكر هذا الفن في الأدب العربي، إذ يقول: " ... يظهر أن أبان هو أول من عني بهذا الفن4 ... ". ويقول عنه في موضع آخر" ... فهو إمام طائفة عظيمة من الناظمين، نعني أنه ابتكر في الأدب العربي فنّاً لم يتعاطه أحد من قبله، وهو فن الشعر التعليمي"5. ويذهب شوقي ضيف إلى رأيين متناقضين كلّ التناقض، متعارضين التعارض كلّه، ولا ندري على أيهما استقر رأيه النهائي بإزاء المسألة!.. ففي كتابه: العصر العباسي الأول، يرى أنه " فن استحدثه الشعراء العباسيون، ولم تكن له أصول قديمة، ونقصد فن الشعر التعليمي الذي دفع إليه رقى الحياة العقلية في العصر، فإذا نفر من الشعراء ينظمون بعض المعارف أو بعض السير والأخبار"6 … بينما يذهب الدكتور شوقي ضيف في كتابه الآخر (التطور والتجديد في الشعر الأموي) مذهباً آخر يوشك- في رأينا- أن يكون صائباً، ولكنه لم يسر فيه إلى آخر الشوط، كما سنرى بعد … فهو يذهب ههنا إلى أن الشعر التعليمي ذو نشأة عربية خالصة في آخر القرن الأول الهجري وأول الثاني، أو قل في أواخر دولة الأمويين.. إذ أن أراجيز الرُّجاز وبخاصة رؤبة والعجاج قد كانت متوناً لغوية، وبالتالي فهو النواة والبذرة التي انبنى عليها الشعر التعليمي في جانب الكلام المنظوم، وتطور في جانب النثر فكانت المقامات ... ويقول الكاتب: "ونحن نؤمن بأن هؤلاء الرّجاز-وفي مقدمتهم رؤبة- هم الذين أعدوا شعراء العصر العباسي لا للشعر التعليمي فحسب، بل لاقتباسهم للغريب في أشعارهم، فالغريب أصبح جزءا هاما في مادة الشعر عند الشعراء الممتازين من أمثال بشار وأبي نواس وأبي تمام ... " 7 ويقول عن رؤبة وعن أبيه العجاج: "والإنسان لا يلم بديوانيهما حتى يقطع بأنهما كانا يؤلفان أراجيزهما قبل كل شيء من أجل الرواة، ومن اجل أن يمداهم بكل غريب، وكل أسلوب شاذ، ومن هنا كنا نسمي هذه الأراجيز متونا لغوية، وقد بلغت هذه المتون صورها المثالية عند رؤبة، فهو النمو الأخير لهذا العمل التعليمي الذي أرادته المدرسة اللغوية   (1) ضحى الإسلام ج1/ 246. (2) ناهج الدراسة الأدبية ط دار العلم للملايين ص 108 وانظر اتجاهات الشعر في القرن الثاني للدكتور هدارة ص355. (3) الشعر في بغداد في القرن الثالث الهجري للدكتور أحمد عبد الستار الجواري –دار الكشاف بيروت ص250. (4) من حديث الشعر والنثر ص286. (5) حديث الأربعاء ج2/220. (6) العصر العباسي الأول ص190. (7) التطور والتجديد في الشعر الأموي ص352. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 208 من جهة، والذي استجاب له الرجّاز من جهة أخرى. ولعل هذا ما جعل اللغويين يوقرونه أعظم التوقير، فأبو الفرج يقدمه في ترجمته بقوله: "أخذ عنه وجوه أهل اللغة: وكانوا يقتدون به ويحتجون بشعره ويجعلونه إماماً.." 1 ويقول الدكتور ضيف: "والأرجوزة الأموية من هذه الناحية تعد أول شعر تعليمي ظهر في اللغة العربية 002" ويقول: " ... ومهما يكن فقد ألهمت الأرجوزة الأموية الشعراء في العصر العباسي أن يقوموا بنظم شعرهم التعليمي، كما ألهمت أصحاب النثر وضع المقامة"3. وهذا الذي ذهب إليه الكاتب يوشك أن يكون صواباً لولا أنه قصر به قليلا ... ذلك أننا نرى أن هذا اللون من الأدب لم تكن بذرته قد بذرت في هذه المرحلة من العصر الأموي، ولكن البذرة قد نبتت واستوت على سوقها منذ زمن بعيد بعيد!!.   (1) المرجع نفسه ص345. (2) المرجع نفسه ص348. (3) المرجع نفسه ص353. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 209 من أين أتت الخدعة ؟ ونحن نرجح تخطئة الذين ذهبوا إلى أن الشعر التعليمي إنما عرفه الأدب العربي مع ما عرفه من الثقافة الدخيلة، والفكر الوافد- شرقيّة وغربيّة، هنديّة ويونانيّة- أو ابتكر في هذا العصر العباسي ابتكاراً بسبب امتزاج الأفكار والثقافات وتوالدها، أو أن الأرجوزة الأموية هي التي وجهت إليه الشعراء العباسيين!..ِ إن الخطأ قد أتى هؤلاء الكاتبين من جهة (التطبيق) .. فهم يُعَرِّفون الشعر التعليمي تعريفاً نظرياً جيداً، واضح الحدود والمعالم، بيّن القسمات والسمات، وحين تأتي مرحلة التطبيق العملي يجانبهم التوفيق، ولا يجدون إلا بعض الجزئيات أو الأقسام في فترة معينة من الزمان تنطبق عليها هذه النظريات، ومن هنا ينطلقون إلى القول بأن هذا الفن كان عدما فيما مضى ثم أصبح له وجود منذ هذه الفترة التي اسُموها بالعصر العباسي، أو على أحسن الفروض العصر الأموي!.. إن هؤلاء الكتّاب يعرفون الشعر التعليمي بمثل ذلك التعريف الذي صدّرنا به هذا الحديث، ثم يقسمونه ثلاثة أقسام كما رأينا . كل ذلك في أسلوب يخلو في الغالب من المقومات الفنية كالخيال والأسلوب الطلي الجميل بقصد تسهيل الحفظ والتذكر1.   (1) انظر حديث الأربعاء ج2/220 ومن حديث الشعر والنثر ص385 والعصر العباسي الأول ص290 واتجاهات الشعر لهداره ص355 والأدب اليوناني القديم ص88 والشعر في بغداد ص 182. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 209 ثم هم حين يأتون إلى مرحلة النظر في الأدب العربي منذ جاهليته، وهل حوى نماذج من الشعر التعليمي، يذهبون تلك المذاهب التي أشرنا إليها فيما تقدم!. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 210 رأينا : ومع أن ما في الشعر التعليمي- في عمومه- من مآخذ وعيوب أكثر مما فيه من حسنات وفضائل (وأن ما فيه من مثالب ونقائص لا يدعو إلى الدفاع عنه، والتحمس للقول بأن العرب قد عرفوه في أدبهم، نقرر أن الأدب العربي منذ جاهليته قد شارك في هذا اللون من الفن بكل أقسامه التي قدمناها: (1) فبالنسبة للتاريخ وذكر القرون الخالية والأمم البائدة، قد امتلأ الأدب العربي بشعر الشعراء في ذلك، وقد كان ذلك أحد المنطلقات التي انطلق منها جماعة من الشعراء خصوصاً أولئك الذين كانوا على شيء من الثقافة الدينية والعلمية كأمية بن أبي الصلت، وعدي بن زيد … 1 الخ من ذلك قصيدة عدي في منشأ الخلق وقصته خلق آدم وحواء وهبوطهما من الجنة التي يقول فيها: اسمع حديثاً كما يوماً تُّحدثه ... عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا أن كيف أبدى إله الخلق نعمته ... فينا، وعرّفنا آياته الأُولا كانت رياح وماءٌ ذو عرانية ... وظلمة لم تدع فتقاً ولا خللا فأمر الظلمة السوداء فانكشفت ... وعزل الماء عما كان قد سفلا وبسط الأرض بسطاً ثمّ قدّرها ... تحت السماء سواء مثل ما فعلا وجعل الشمس مصراً لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فصلا قضى لستة أيام خليقته ... وكان أخرها أن صوّر الرجلا وعاه آدم صوتاً فاستجاب له ... بنفحة الروح في الجسم الذي جبلا ثم استمر الشاعر يتحدث عن خلق حواء وإسكانها مع زوجها الجنة، ونهيهما عن أكل الشجرة، إلى أن أخذ يتحدث عن العقاب الذي أنزل بالحية جزاء ما أغوت آدم وزوجه، فيقولن: فلاطها الله إذ أغوت خليفته ... طول الليالي ولم يجعل لها أجلا تمشي على بطنها في الدهر ما عمرت ... والترب تأكله حزناً وأن سهلا 2   (1) انظر عدي بن زيد للدكتور محمد علي الهاسمي ص 133-177. (2) الحيوان للجاحظ بتحقيق الأستاذ عبد السلام هارون ج4 ص197-199. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 210 وينظم عدي قصة الزّباء وجذيمة وقصير، تلك القصة التاريخية المشهورة:1 ألا يا أيها المثرى المرجّى ... ألم تسمع بخطب الأولينا دعا بالبقة الأمراء يوماً ... جذيمةُ حين ينجوهم ثبينا فطاوع أمرهم وعصى قصيراً ... وكان يقول- لو تبع- اليقينا ودست في صحيفته إليه ... ليملك بضعها ولأن تدينا فأردته ورغب النفس يرد ... ويبدي للفتى الحَين المبينا وخبّرت العصا الأنباء عنه ... ولم أرمثل فارسها هجينا وقدمت الأديم لراهشيه ... وألفى قولها كذباً ومنينا ومن خدر الملاوم والمخازي ... وهن المنديات لمن منينا أَطفّ لأنفه الموسي قصير ... ليجدعه، وكان به ضنينا فأهواه لمارنه فأضحى ... طلاب الوتر مجدوعاً مشينا وصادفت امرءاً لم تخش منه ... غوائله وما أمنت أمينا 2 وهكذا تسير القصيدة في تصوير الحادثة وقصها ... الخ. (2) فإذا انتقلنا إلى لون آخر من الشعر التعليمي في الجاهلية، وهو ذلك الذي أسموه (حقائق الفنون والعلوم والصناعات) وجدنا له مثالاً صارخاً للشاعر الجاهلي (الأخنس بن شهاب) … وهذه القصيدة يذكر فيها سكنى قبائل نجد قبيلة قبيلة، فهي من هذه الناحية تدخل في علم تقويم البلدان- أو ما يسمى بالجغرافية- فمما جاء في هذه القصيدة:- فمن يكُ أمسى في بلاد مقامه ... يسائل أطلالا بها لا تجاوب فلا بنة حطّان بن قيس منازل ... كما نمّق العنوان في الرّق كاتب لكل أناس من معدِ عمارة ... عروض إليها يلجؤون وجانب لكيز لها البحران والسِّيف دونه ... وإن يأتهم ناس من الهند هارب تطاير من أعجاز حوش كأنها ... جهام أراق ماءه فهو آيب وبكر لها برُّ العراق وإن تخف ... يحل دونها من اليمامة حاجب وصارت تميم بين قفٍ ورملة ... لها من جبال منتأى ومذاهب وكلب لها خبّ، فرملة عالج ... إلى الحرة الرجلاء حيث تحارب   (1) انظر القصة في تاريخ الطبري ج2/31_36 ومروج الذهب للمسعودي طبعة دار التحرير ج2/290 ومجمع الأمثال للميداني، ودائرة المعارف الإسلامية مادة (تدمر) . (2) انظر بقية القصيدة في الشعر والشعراء لابن قتيبة بتحقيق الشيخ أحمد شاكر ص 227. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 211 وغسّان حيّ عزّهم في سواهم ... يجالد عنهم خسّر وكتائب وبهراء حيّ قد علمنا مكانهم ... لهم شرك حول الرصافة لاحب وغارت إياد في السّواد ودونها ... برازيق عجم تبتغي من تحارب ونحن أناس لا حجاز بأرضنا ... مع الغيث ما نلقى ومن هو غالب ترى رائدات الخيل حول بيوتنا ... كمعزى الحجاز أعوزتها الزّرائب 1 فالقصيدة- كما ترى- من الشعر التعليمي دون ريب؛ ذلك لأن المقصود منها هو بيان مساكن هذه القبائل في جزيرة العرب والعراق وما إليهما. (3) أما القسم الثالث من الشعر التعليمي، وهو الذي يتناول العقائد والأخلاق, فهو في الشعر الجاهلي أكثر من أن يحصى عدداً، خصوصاً عند هؤلاء الشعراء من أمثال أمية بن أبي الصلت وعدي، وزهير ... فإذا جئنا إلى العصر الأموي، وجدنا هذا الضرب من الشعر قد تمثل بوضوح في عدة موضوعات، أولها: أنه نظمت به الكيمياء- أو الصنعة كما كانوا يسمونها..-ِ فلقد روى المسعودي أن حكيم آل مروان- خالد بن يزيد بن معاوية الذي اشتهر باهتمامه بالكيمياء قد وضع منظومة في هذه الصناعة، ذكر فيها طريقة تحويل المعدن الخسيس إلى جوهر نفيس، يقول فيها: خذ الطّلْق مع الأشْقِ ... وما يوجد في الطرق وشيئاً يشبه البرقا ... فدبِّره بلا حرق فإن أحببت مولاكا ... فقد سوِّدت في الخلق 2 كما استخدم هذا الشعر في تعليم غريب اللغة كما قدمنا في صدر هذا الحديث عند الكلام عن الأرجوزة الأموية، التي أسهمت في إبراز صورة الشعر التعليمي العباسي، وفي المقامة في جانب النثر فيما بعد.. ولقد وقعت محاولة لاستخدام هذا اللون في شرح فروع الدين - في رأي عبد الملك بن مروان - من أحد شعراء العصر، فوقف عبد الملك في سبيلهِ..وذلك فيما يروى من أن الشاعر الأموي (الراعي النميري) قد أنشد عبد الملك بن مروان قصيدته التي يشكو فيها السعادة وهم يأخذون الزكاة، حتى إذا بلغ قوله: أخليفة الرحمن إنّا معشر ... حنفاء نسجد بكرة وأصيلا   (1) المفضليات للضبي بتحقيق الشيخ أحمد شاكر والأستاذ عبد السلام هارون ص 203 وحماسة أبي تمام طبع سعيد الرافعي ج1/299 ببعض اختلاف. (2) مروج الذهب للمسعودي طبع دار التحرير بالقاهرة ج2/514. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 212 عرب نرى لله في أموالنا ... حق الزكاة منزلا تنزيلا قال عبد الملك: ليس هذا شعراً، هذا شرح إسلام وقراءة آية 1! ... وهكذا استمر الأمر، نرى شيئا من الشعر التعليمي في هذا الموضع أو ذاك، حتى إذا جاء العصر العباسي، رأينا الشعراء ينظمون به في جملة موضوعات ومسائل علمية وتاريخية وقصصية إظهاراً للبراعة، ودلالة على قدرتهم على التجديد والابتكار، وتدليلاً على أنهم قد ألموا بمعارف العصر، وثقافات الأمم الأخرى التي نقلت إلى العربية.. وأنهم قد صاروا على شيء من هضم هذا الذي ترجم، فهم يسهمون بدورهم في نقله وإيصاله إلى الآخرين عن طريق هذا اللون من الشعر!.. ومن أوائل هؤلاء الشعراء الذين أخذوا من هذا الفن بطرف السيد الحميري (105- 173 هـ) الذي كان مفتوناً مغرماً بنظم القصص والمناقب والأخبار التي تروي عن علي وأبنائه. من ذلك ما يروى من أنه سمع محدثاً يذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ساجداً، فركب الحسن والحسين على ظهره، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: " نعم المطيّ مطيكما!.." فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "ولنعم الراكبان هما"!.. فانصرف السيد الحميري من فوره، فقال في ذلك: أتى حسن والحسين النبي ... وقد جلسا حجره يلعبان فغدّاهما، ثم حيّاهما ... وكانا لديه بذاك المكان فراحا وتحتهما عاتقاه ... فنعم المطية والراكبان وليدان أمّهما بَرَّة ... حَصان مطهّرة للحصان وشيخهما ابن أبى طالب ... فنعم الوليدان والوالدان 2 ومن ذلك ما يروى من أن علياً كرم الله وجهه. عزم على الركوب، فلبس ثيابه وأراد لبس خفيه فلبس أحدهما، ثم أهوى إلى الآخر ليأخذه، فانقض عقاب من السماء فأخذ الخف وحلّق به ثم ألقاه، فسقط منه أسود- ثعبان- وانساب فدخل جحراً، فلبس الخف، وحين سمع السيد ذلك قال في سرعة: ألا يا قوم للعجب العجاب ... لخف أبي الحسين وللحباب أتى خفاً له وانساب فيه ... لينهش رجله منه بناب فخرّ من السماء له عقاب ... من العقبان أو شبه العقاب   (1) الموشح للمرزباني بتحقيق الأستاذ البجاوي-لجنة البيان العربي ص249 وانظر خزانة الأدب للبغدادي الطبعة السلفية بالقاهرة ج2/134 وجمهرة أشعار العرب ص172. (2) الأغاني (دار الكتب) ج1/259. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 213 فطار به، فحلق ثم أهوى ... به للأرض من دون السحاب إلى جحر له فانساب فيه ... بعيد القعر لم يرتج بباب كريه الوجه أسود ذو بصيص ... حديد النّاب أزرق ذو لعاب ودفع عن أبي حسن على ... نقيع سمامه بعد السياب1 وسيد هذا الميدان غير مدافع هو أبان بن الحميد اللاحقي المتوفى سنة 200 هـ الذي برع فيه حتى ذهب كثير من الكاتبين إلى أنه مبتدع هذا الفن ومبتكره في الأدب العربي على غير مثال سابق، فنظم في السير والتاريخ الفارسي، إذ نظم سيرة أردشير وسيرة أنو شروان 2 وكتاب بلوهر, وكتاب حكم الهند3، كما نظم القصيدة المسماة (ذات الحلل) في نشأة الخلق وأمر الدنيا وضمنها شيئاً من المنطق. ومن الناس من ينسبها إلى أبي العتاهية، والصحيح أنها لأبان4. وليس بين أيدي الناس من كلّ أولئك الآن شيء- ونظم كذلك في فرائض الصوم والزكاة أرجوزة مزدوجة، ونظم كليلة ودمنة في خمسة آلاف بيت5، أو في أربعة عشر ألف بيت6 ... لم يبق منها إلاّ جزء يسير أورده الصولي في الأوراق, كما أثبت شيئاً من مزدوجة الفرائض.   (1) الأغاني ج7/257. (2) انظر ترجمته في الأوراق للصولي، قسم أخبار الشعراء،والأغاني طبعة الساسي.ج20/70 وطبقات ابن المعتز ص240 والوزراء والكتاب للجهشياري ص211. (3) الفهرست لابن النديم ص119. (4) الأغاني – الساسي ج20/73. (5) طبقات ابن المعتز ص241. (6) الوزراء والكتاب للجهشياري ص211. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 214 يقول أبان في مزدوجة الفرائض شارحاً أحكام الصوم والزكاة: هذا كتاب الصوم وهو جامع ... لكل ما قامت به الشرائع من ذلك المنزل في القرآن ... فضلاً على من كان ذا بيان ومنه ما جاء عن النيِّ ... من عهده المتبع المرضيِّ صلى الإله وعليه سلّما ... كما هدى الله به وعلّما وبعضه على اختلاف الناس ... من أثر ماضٍ ومن قياس والجامع الذي إليه صاروا ... رأي أبي يوسف مما اختاروا قال أبو يوسف: أمّا المفترض ... فرمضان صومه إذا عرض والصوم في كفارة الأيمان ... من حنث ما يجري على اللسان الجزء: 52 ¦ الصفحة: 214 ومعه الحج وفي الظهار ... الصوم لا يدفع بالإنكار وخطأ القتل وحلق المحرم ... لرأسه فيه الصيام فافهم فرمضان شهره معروف ... وصومه مفترض موصوف والصوم في الظهار إن لم يقدر ... مظاهر يوماً على محرر والقتل إن لم يك عمداً قتله ... فإن ذاك في الصيام مثله شهران في العدة كاملانِ ... متصلان لا مفرّقان والحنث في رواية مقبولهْ ... ثلاثه أيامها موصوله ومثلها في عدة الأيام ... لمحرم الحالق في الإحرام ثلاثة يصومها إن طلقا ... لا بأس إن تابعها أو فرّقا1   (1) الأوراق للصولي –قسم أخبار الشعراء ص51. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 215 هذا نموذج من نظمه لكليلة ودمنة ... وهذا أنموذج من نظمه لكليلة ودمنة، يقول في المقدمة: هذا كتاب أدب ومحنه ... وهو الذي يدعى كليل دمنه فيه دلالات وفيه رشد ... وهو كتاب وضعته الهند فوصفوا آداب كل عالم ... حكاية عن ألسَن البهائم فالحكماء يعرفون فضله ... والسخفاء يشتهون هزله وهو على ذاك يسير الحففا ... لذّ على اللسان عند اللفظ يا نفس لا تشاركي الجهّالا ... في حب مذموم كّان قد زالا يا نفس لا تشقي ولا تُعَنيّ ... في طلب الدنيا ولا تمنيِّ ما لم ينله أحد إلا ندِمْ ... إذا تولىّ ذاك عنه وسدم دنياك بالأحباب والإخوان ... كثيرة الآلام والأحزان وهي وإن نيل بها السرور ... آفاتها وغمها كثير ويقول في باب الأسد والثور: وإنّ من كان دنيءَ النّفس ... يرضى من الأرفع بالأخس كمثل الكلب الشقي البائس ... يفرح بالعظم العتيق اليابس وإن أهل الفضل لا يرضيهم ... شيء إذا ما كان لا يغنيهم كالأسد الذي يصيد الأرنبا ... ثم يرى العير المجد هربا الجزء: 52 ¦ الصفحة: 215 فيرسل الأرنب من أظفاره ... ويتبع العير على أدباره والكلب من رقته ترضيه ... بلقمةٍ تقذفها في فيه ويقول في الباب ذاته: وباذل النّصح لمن لا يشكره ... كطارح في سبغ ما يبذره لا خير للعاقل في ذي المنظر ... إن هو لم يحمده عند المخبر وليس في الصديق ذكر الصفاء ... خير إذا لم يك ذا وفاء الرجل العاقل من لا يسكره ... كأس سمو واقتدار يبطره فالجبل الثابت في أصوله ... لا تقدر الريح على تحويله والناقص العقل الذي لا رأي له ... يطغى إذا ما نال أدنى منزله مثل الحشيش أيّما ريح جرت ... مالت به فأقبلت وأدبرت1 وبنظم أبان لهذا الكتاب، ولقيانه المكافأة الجزيلة من البرامكة، وبإقبال الناس عليه، أقبل غيره من الشعراء على نظم هذا الكتاب كذلك، والنّسج على منواله. ومن هنا تدافع الشعراء ينظمون الشعر التعليمي في عدة أبواب من المعارف والعلوم والفنون، فاستخدموه في الصراع العقدي والمذهبي، وفي الحكمة والموعظة، وفي الفلك والنجوم، والسيرة والتاريخ، وفي اللهو والمجون والحب وأصوله وقوانينه! ...   (1) الأوراق ص46 وما بعدها. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 216 ففي ميدان الصراع العقدي والمذهبي : كان بشر بن المعتمر يفيد من هذا اللون الشعري في الصراع المذهبي، وتأييد وجهة نظر الاعتزال، وتابعه جماعة من الشعراء الذين أثارهم بشار بن برد بما ذهب إليه من تفضيل النار على الأرض، وإبليس على آدم في أبياته التي يقول فيها: إبليس أفضل من أبيكم آدم ... فتبينوا يا معشر الأشرار 1 فتصدوا له يردون عليه مبينين أن للأرض الفضل على النار، ذلك لأنها أصل النار، وأنّ النار موجودة فيها (بالقوة) ، وأنّ في الأرض أعاجيب لا تحصى ولا تعد من المعادن والنبات والعناصر الأخرى ...   (1) رسالة الغفران بتحقيق بنت الشاطئ ص310. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 216 فلبشر قصيدتان طويلتان رواهما الجاحظ في الحيوان، أولاهما في ذمّ فرق الإباضية والرافضة والحشوية، وذكر فيها أصنافاً من الحيوان، وتحدث عن أعاجيبها وطبائعها، وما تقتات به، مستدلاً بذلك على قدرة الخالق، وقد بدأها بالحكمة، فقال: الناس دأباً في طلاب الغنى ... وكلهم من شأنه الختر كأذؤب تنهشها أذؤب ... لها عواء ولها زفر تراهم فوضى وأيدي سبا ... كل له في نفسه سحر تبارك الله وسبحانه ... بين يديه النفع والضر من خلقه في رزقه كلهم ... الذيخ والتيتل والعفر ويعدد أصناف الحيوان، وكيف تعيش وتقتات، حتى ينتهي من ذلك إلى قوله: إني وإن كنت ضعيف القوى ... فالله يقضي وله الأجر لست إباضياً غبيّاًولا ... كرافضي غرّه الجفر كما يغرّ الآل في سبب ... سَفْراً، فأودى عنده السفْر كلاهما وسّع في جهل ما ... فعاله عندهما كفر لسًنا من الحشو الجفاة الألى ... عابوا الذي عابوا ولم يدروا 1 والقصيدة الثانية تتحدث عن العالم وما فيه من المخلوقات المختلفة الأجناس، ويعدد الشاعر الحيوان وأوضاعه مستدلاً بذلك على حكمة الله، مستخلصاً من ذلك أن العقل وحده هو الذي ينبغي أن يهتدي به الناس، وألاّ يتخذوا غيره رائداً مرشداً كما يفعل من ضلوا واحتكموا إلى التقليد: أما ترى العالم ذا حشوة ... يقصر عنها عدد القطر أوابد الوحش وأجناسها ... وكل سبع وافر الظفر وبعد أن يعدد أجناساً من الحيوان، يقول: فكم ترى في الخلق من آية ... خفية الحسبان في قعر أبرزها الفكر على فكرة ... يحار فيها واضح الفجر لله در العقل من رائد ... وصاحب في العسر واليسر وحاكم يقضي على غائب ... قضية الشاهد للأمر   (1) الحيوان للجاحظ ج6/84-91. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 217 ثم يعود الشاعر فيعدد الحيوان ويذكر طبائعه، وأنه في طلب رزقه يقلد بعضه بعضا، وعلى مثالهم في هذا أبناء آدم، إلاّ أنهم مختلفون في الدين، ومتفاوتون في الرأي والقدر، وقد تحكمت فيه واستولت عادة الاتباع والتقليد: وكل جنس فله قالب ... وعنصر أعراقه تسري وتصنع السرفة فيهم على ... مثل صنيع الأرض والبذر والأضعف الأصغر أحرى بأن ... يحتال الأكبر بالفكر متى يرى عدوه قاهرا ... أحوجه ذاك إلى المكر كما ترى الذئب إذا لم يطق ... صاح فجاءت رسلاً تجري وكل شيء فعلى قدره ... يحجم أو يقدم أو يجري والخلد كالذئب على خبثه ... والفيل كالأعلم كالوبر والعبد كالحرّ وإن ساءه ... والأبغث الأعثر كالوبر لكنهم في الدّين أيدي سبا ... تفاوتوا في الرأي والقدر قد غمر التقليد أحلامهم ... فناصبوا القياس ذا السَّبر فافهم كلامي واصطبر ساعة ... فإنما النجح مع الصبر وانظر إلى الدنيا بعين امرئ ... يكره أن يجري ولا يدري1 وحين أنشأ بشار قصيدته المتقدم ذكرها في تفضيل النار وإبليس على الأرض وآدم أنشأ صفوان الأنصاري قصيدته المضادة في تفضيل الأرض وآدم، فقال: زعمت بانّ النار أكرم عنصراً ... وفي الأرض تحيا بالحجارة الزند وتخلق في أرحامها وأرومها ... أعاجيب لا تحصى بخط ولا عقد وفي القعر من لج البحار منافع ... من اللؤلؤ المكنون والعنبر الورد وفي قلل الأجبال خلف مقطم ... زبرجد أملاك الورى ساعة الحشد وفي الحرّة الرجلاء تلقي معادن ... لهن مغارات تبجس بالنقد من الذهب الإبريز والفضة التي ... تروق وتصبي ذا القناعة والزهد وكلّ فلزّ من نحاس وآنك ... ومن زئبق حي ونوشادر يسدي وكلّ يواقيت الأنام وحليها ... من الأرض والأحجار فاخرة المجد وفيها مقام الحل والركن والصفا ... ومستلم الحجاج من جنة الخلد 2   (1) الحيوان ج6/291-297. (2) البيان والتبيين ج1/91. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 218 كما شارك في الرد على بشار أيضاً سليمان الأعمى_ أخو مسلم بن الوليد قائلاً: لابدّ للأرض إن طابت وان خبثت ... من أن تحيل إليها كلّ مغروس وتربة الأرض إن جيدت وإن قحطت ... فحملها أبداً في إثر منغوس وبطنها بفلزّ الأرض ذو خبر ... لكل جوهرة في الأرض مرموس وكلّ آنية عمت مرافقها ... وكل منتقد فيها وملبوس وكل ما عونها كالملح مرفقة ... وكلها مضحك من قول إبليس 1   (1) المرجع السابق ج1/41-43. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 219 في ميدان الموعظة والحكمة : ومن أبرز الشعراء الذين استخدموا الشعر التعليمي في الموعظة والحكمة أبو العتاهية الذي كانت له عدة قصائد تعليمية أسهم بها في ميدان نقل العلم والمعرفة للآخرين، و " ... أخذت مكانها في تربية الذوق الإسلامي وتهذيب الناشئين 000" 1 ... ومن أبرز قصائده هذه أرجوزته المعروفة بذات الأمثال التي يقف فيها موقف المعلم من تلاميذه، أو الحكيم الواعظ الذي يوجه الناس ويريهم سبيل الرشاد من منبره ... وهي أرجوزة مزدوجة ينفرد كل بيت فيها بقافية يشترك فيها شطران، ويذكر أبو الفرج أنها طويلة جداً 2. وفيها أربعة آلاف مثل 3 ولكنه لم يثبت منها في أغانيه إلاّ ثلاثة وعشرين بيتاً 4 إلاّ أن جمع ديوانه قد أورد منها ما يقرب من الخمسين بيتاً 5. وأبو العتاهية في ذات الأمثال هذه يأتينا بحكم أخلاقية وأمثال سائرة سجّل فيها خلاصة تجاربه وآرائه في الحياة مصوغة صياغة مضغوطة مركزة في أخصر عبارة بحيث تبدو في صورة الأمثال السائرة- كما هو واضح من اسمها- فتخف على الألسنة، وتعلق بالذاكرة، فيسهل تداولها، ويسرع في الذهن استدعاؤها واستحضارها، ومن هنا يحتسبها من يحتسبها في الشعر التعليمي6، ويضعها من يضعها في أدب الحكمة!.. والقصيدة لا تعرض لموضوع واحد، أو لفكرة واحدة، ولكنها تعرض لعدة موضوعات، ولأفكار شتى، فكلّ بيت يعرض فكرة مستقلة، وقد تشترك عدة أبيات في عرض فكرة،   (1) دراسات في الأدب الإسلامي للأستاذ محمد خلف الله أحمد ص 109 مع ملاحظة أننا نتحفظ تجاه سلبيته وانعزاليته المبالغ في الدعوة إليهما. (2) الأغاني طبعة دار الشعب ص 1251. (3) المرجع السابق ص 1250. (4) المرجع نفسه ص 1250- 1251. (5) ديوانه نشر لويس شيخو ص493- 496. (6) دراسات في الأدب الإسلامي لمحمد خلف الله أحمد ص 109. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 219 ولكن يظل كل بيت وحدة قائمة بذاتها، ترض جانبا مستقلا من جوانب الفكرة العامة 1. يقول أبو العتاهية: حسبك ما تبتغيه القوت ... ما أكثر القوت لمن يموت الفقر فيما جاوز الكفافا ... من اتّقى الله رجا وخافا إن كان لا يغنيك ما يكفيكا ... فكل ما في الأرض لا يغنيكا إن القليل بالقليل يكثر ... إن الصفاء بالقذى يكدّر ومنها: لكل شيء معدن وجوهر ... وأوسط وأصغر وأكبر وكل شيء لاحق بجوهره ... أصغره متصل بأكبره مازالت الدنيا لنا دار أذى ... ممزوجة الصفو بألوان القذى الخير والشر بها أزواج ... لذا نتاج، ولذا نتاج من لك بالمحصن وليس محصن ... يخبث بعض ويطيب بعض لكل إنسان طبيعتان ... خير وشر وهما ضدان والخير والشر إذا ماعدّا ... بينهما بؤن بعيد جدا وهكذا تمضي الأرجوزة التي يتضح فيها تعدد الموضوعات وتشتت الأفكار الذي رّبما كان السبب فيه أنها لم تنظم في وقت واحد، وإنما نظمت في أوقات متباينة متباعدة، كلما خطر للشاعر خاطر، وعنت له فكرة جديرة بالتسجيل أسرع إلى تسجيلها رجزاً وألحقها بدفتره2. ومن شعره هذا مذكراً بالموت وسكراته، لائماً على نسيانه والسهو عنه: حتى متى تصبو ورأسك أشمط ... أحسبت أن الموت في اسمك يغلط أو لست تحسبه عليك مسلّطا ... ويلي، وربك إنه لمسّلط ولقد رأيت الموت يفرس تارة ... جثث الملوك وتارة يتخبط   (1) حياة الشعر في الكوفة للدكتور يوسف خليف ص569. (2) المرجع السابق ص561. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 220 فتألف الخلان مفتقداً لهم ... ستشط عمن تألفن وتشمط وكأنني بك بينهم واهي القوى ... نضواً تقلص بينهم وتبسط وكأنني بك بينهم خفق الحشا ... بالموت في غمراته يتشحظ وكأنني بك في قميص مدرجاً ... في ريطتين ملفف ومخيط لا ريطتين كريطتي متنسم ... روح الحياء ولا القميص مخيط 1 ويمكن النظر في هذه النصوص التي أوردناها من قبل لبشر بن المعتمر، وصفوان الأنصاري، وسليمان الأعمى- باعتبارها نماذج للحكمة والموعظة، بل هي من صميم ذلك دون ريب، كما يمكن اعتبار آداب وأشعار الوعاظ والزهاد من الأدب التعليمي في الصميم!..   (1) ديوان أبي العتاهية ص244. الجزء: 52 ¦ الصفحة: 221 حول الشعر التعليمي للدكتور صالح آدم بيلو الأستاذ المساعد بكلية اللغة العربية بالجامعة -2- في ميدان النحو والفلك : لمحمد بن إبراهيم الفزاري قصيدة مزدوجة في علم الفلك، يقول عنها ((ياقوت الحموي)) إنها تقوم مقام زيجات المنجمين، وهي طويلة يدخل في تفسيرها –هي وشروحها- عشرة أجلاد، أولها: الحمد لله العلي الأعظم ... ذي الفضل والمجد الكريم الأكرم الواحد الفرد الجواد المنعم الخالق السبع العلى طباقا ... والشمس يجلو نورها الأغساقا والبدر يملا نوره الآفاقا الفلك الدائر في المسير ... لأعظم الخطب من الأمور يسير في بحر من البحور فيه النجوم كلها عوامل ... منها مقيم دهره وزايل فطالع منها ومنها نازل الجزء: 53 ¦ الصفحة: 212 وهي هكذا ثلاثة أقفال ثلاثة أقفال1 وفي ميدان النحو استخدم الشعر التعليمي الإلمام به وتحخبيب دراسته، يقول إسحاق بن خلف البهراني: النحو يبسط من لسان الألكن ... والمرء تكرمه إذا لم يلحن وإذا طلبت من العلوم أجلها ... فأجلها منها مقيم الألسن2 ويقول الكسائي ((ت 183 أو 189 هجري)) في المعنى نفسه: إنما النحو قياس يتبع ... وبه في كل أمر ينتفع فإذا ما أبصر النحو فتى ... مرّ في المنطق مرّا فتّسع فاتقاه كل من جالسه ... من جليس ناطق أو مستمع وإذا لم يبصر النحو فتى ... هاب أن ينطق جبنا فانقطع فتراه ينصب الرفع وما ... كان من خفض ومن نصب رفع يقرأ القرآن لا يعرف ما ... حرّف الإعراب فيه وصنع والذي يعرفه يقرؤه ... فإذا ما شكّ في حرف رجع ناظرا فيه وفي إعرابه ... فإذا ما عرف اللحن صدع فهما فيه سواء عندكم ... ليست الألسن فينا كالبدع كم وضيع رفع النحو وكم ... من شريف قد رأيناه وضع3   1 معجم الأدباء بتحقيق مرجايوث ج 2 /268، والوافي والوفيات للصلاح الصفدي المطبعة الهاشمية بدمشق عام 1953 م ج 1 /336. 2 زهر الآداب للحصري بتحقيق زكي مبارك ج 3 /138 والكامل للمبرد مطبعة نهضة مصر ج 2 /23. 3 تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج 11 /412 وبعض الأبيات في كتاب ((الورقة)) لابن الجراح ص 46. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 213 في ميدان اللهو والمجون : وإن تعجب فعجب لما بذله شعراء هذا العصر من جهد لاستخدام الشعر التعليمي في موضوعات اللهو والمجون الذي أصاب جانبا من جوانب ذلك المجتمع متأثرا بأمراض الفكر الوافد، والثقافة الدخيلة وأدوائهما ... فراحوا يضعون للهو والمجون أصولا وقواعد تجب مراعاتها، وقوانين ومراسم ينبغي أن تراعى وتلتزم4. من ذلك أرجوزة الرقاشي المزدوجة التي تحدث عنها ابن المعتز في طبقاته، قائلا عن ناظمها: " .... وهو يزعم كما ترى: أنها تدخر لوقت الموت، مجونا وخلاعة، وأولهما: أوصى الرقاشي إلى خلاّنه ... وصية المحمود في إخوانه   14 وانظر باستفاضة ((التيارات الفكرية الوافدة في العصر العباسي وصداها في الأدب)) للدكتور صالح آدم بيلو ص 223 -250. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 213 وهي مشهورة وموجودة"1 ... ولكن لم يصل منها غير هذا الذي أشار إليه ابن المعتز. كما قام ((حمدان بن أبان اللاحقي)) بوضع أرجوزة طويلة في الحب وحيل المحبين اختار منها أو بكر الصولي ثمانية أبيات ومائة بيت أثبتهما في كتابه ((الأوراق)) بدئت بقوله: ما بال أهل الأدب ... منّا وأهل الكتب قد وضعوا الآدابا ... واتبعوا الأصحابا لكل فن دفتر ... منقط محبر ففرقت أجناسا ... وعلموها الناسا بالحيل الرقيقة ... والفطن الدقيقة فارشدوا الضلالا ... وعلموا الجهالا سوى المحبين فلم ... يرعوا لهم حق الذمم في علم ما قد جهلوا ... وما به قد ابتلوا ويمضي حمدان اللاّحقي إلى أن يقول في آخر منظومته: قد تم مني الوصف ... ولم يخني الرصف وانقضت القصيدة ... محبوبة حميدة والحمد للرحمن ... ذي العزّ والسلطان والذم للشيطان ... ذي الذم والطغيان2 ومن أروع ما جاء في هذا اللون من الشعر التعليمي ما أورده ابن المعتز في أرجوزته الطويلة ((ذم الصبوح)) ... إذ يصور شارب الخمر في أتعس حالاته وأبأس أوضاعه، فيقول في آخر قصيدته: فمن أدام للشقاء هذا ... من فعله والتذه التذاذا لم يلف إلا دنس الأثواب ... مهوّسا مهوّس الأصحاب فازداد سهوا وضنى وسقما ... ولا تراه الدهر إلا فدما ذا شارب وظفر طويل ... ينغص الزاد على الخليل ومقلة مبيضة المآقي ... وأذن كحقة الدباق   1 طبقات ابن المعتز ص 226. 2 الأوراق للصولي –قسم أخبار الشعراء- ص 57 -62. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 214 وجسد عليه جلد من وسخ ... كأنه أشرب نفطا أو لطخ تخال من تحت إبطه إذا عرق ... لحية قاض قد نجا من الغرق وريقه كمثل طوق من أدم ... وليس من ترك السؤال يحتشم في صدره من واكف وقاطر ... كأثر الذرق على الكنادر هذا، كذا، وما تركت أكثر ... فجربوا ما قلته وفكروا1   1 رسائل ابن المعتز بتحقيق الدكتور عبد المنعم خفاجي مطبعة مصطفى الحلبي عام 1946 م ص 107 -114. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 215 في ميدان السير والتاريخ : لعل أهم عملين كبيرين في هذا المجال مزدوجتان: مزدوجة علي بن الجهم2 ومزدوجة عبد الله بن المعتز في السير والتاريخ.. أما ابن الجهم (188 –249 هجري) فله مزدوجة تسمى ((المحبّرة)) شديدة الطول، تقع في ثلاثمائة وثمانية أبيات، ذكر فيها ابتداء الخلق والأنبياء والخلفاء إلى أيامه –أيام الخليفة المستعين العباسي 248 هجري- وبدأ حديثه بحمد الله والصلاة على نبيه، ثم أخذ يجيب من يسأله عن بدء الخليقة: الحمد لله المعيد المبدي ... حمدا كثيرا، وهو أهل الحمد ثم الصلاة أولا وآخرا ... على النبي باطنا وظاهرا يا سائلي عن ابتداء الخلق ... مسألة القاصد قصد الحق أخبرني قوم من الثقات ... أولو علوم وأولو هيئات تقدموا في طلب الآثار ... وعرفوا حقائق الأخبار وفهموا التوراة والإنجيلا ... واحكموا التنزيل والتأويلا أن الذي يفعل ما يشاء ... ومن له العزة والبقاء أنشأ خلق آدم إنشاء ... وقد منه زوجه حواء مبتدئا ذلك يوم الجمعة ... حتى إذا أكمل منه صنعة أسكنه وزوجه الجنانا ... فكان من أمرهما ما كانا وراح يتحدث عن إغراء إبليس آدم وزوجه، واستجابتهما له، وكيف أهبطا من الجنة إلى الأرض في جبل بالهند يسمى ((واسم)) ... واستمر يتحدث عن أبناء آدم وأحفاده، إلى أن جاء إلى نوح عليه السلام، فقال: فأرسل الله إليهم نوحا ... عبدا لمن أرسله نصوحا   1 رسائل ابن المعتز بتحقيق الدكتور عبد المنعم خفاجي مطبعة مصطفى الحلبي عام 1946 م ص 107 -114. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 215 فعاش ألفا غير خمسين سنة ... يدعو إلى الله وتمضى الأزمنة يدعوهم سرا ويدعو جهرا ... فلم يزدهم ذلك إلا كفرا وانهمكوا في الكفر والطغيان ... وأظهروا عبادة الأوثان وهكذا يمضي الشاعر في أرجوزته يتحدث في استفاضة، ودقة متناهية عن قصة أبي البشر الثاني مع قومه، وما أعقب ذلك من أحداث. وتحدث عن الأنبياء والرسل نبيا نبيا، ورسولا رسولا، وعن الأمم والشعوب من عرب وعجم قبل مطلع النور –الإسلام- فيقول: فهذه جملة أخبار الأمم ... منقولة من عرب ومن عجم وكل قوم لهم فكير ... وقلما تحصل الأمور وعميت في الفترة الأخبار ... إلا التي سارت بها الأشعار والفرس والروم لهم أيام ... يمنع من تفخيمها الإسلام وإنما يقنع أهل العقل ... بكتب الله وقول الرسل جاء الإسلام بنوره الوهاج: ثم أزال الظلمة الضياء ... وعاودت جدتها الأشياء ودانت الشعوب والأحياء ... وجاء ما ليس به خفاء أتاهم المنتخب الأوّاه ... محمد صلى عليه الله وانساب الشاعر يصور الأحداث حدثا حدثا، والخلفاء خليفة خليفة إلى أيام المستعين الذي عاصره الشاعر، واختتم أرجوزته قائلا: فنحن في خلافة مباركة ... خلت عن الأضرار والمشاركة فالحمد لله على إنعامه ... جميع هذا الأمر من أحكامه ثم الصلاة أولا وآخرا ... على النبي باطنا وظاهرا1 وبذا يكون علي بن الجهم أول شاعر يقوم بعمل متكامل وصل إلينا كاملا في هذا الباب2. أما عبد الله بن المعتز ((247 -296 هجري)) فقد نظم في أرجوزته حياة الخليفة العباسي المعتضد ((279 -289 هجري)) وسيرته وما قام به من أعمال كبيرة وعظيمة، فرفع من شأن الخلافة بعد اتضاع، وأخذ على يد الأتراك بقدر المستطاع، وشرح الشاعر فيها الحالة   1 راجع القصيدة في ديوانه ص 228 -250. 2 انظر مقدمة محقق الديوان. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 216 الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وفسادها، وتحدث عن القضاء على الثائرين والمتمردين!.. وهذه الأرجوزة يحسبها كثير من النقاد والباحثين مظهرا من مظاهر الشعر القصصي1، ويقول الأستاذ أحمد أمين: " ... هي صورة مصغرة لنمط الملاحم كالإلياذة والشاهنامة سدت بعض النقص في الشعر العربي من هذا النوع"2. يفتتح الشاعر أرجوزته على الطريقة التي سلكتها المتون في الأزهر القديم: باسم الإله الملك الرحمن ... ذي العز والقدرة والسلطان الحمد لله على ألائه ... أحمده والحمد من نعمائه أبدع خلقا لم يكن فكان ... وأظهر الحجة والبرهانا وجعل الخاتم للنبوة ... أحمد ذا الشفاعة المرجوة الصادق المهذب المطهرا ... صلى عليه ربنا فأكثرا مضى وأبقى لبني العباس ... ميراث ملك ثابت الأساس برغم كل حاسد يبغيه ... يهدمه كأنه يبنيه ثم يذكر أنه ألف هذه القصيدة في سيرة أبي العباس المعتضد، ويعرض لحال الخلافة قبله، والفوضى السياسية والاجتماعية التي كانت سائدة، وأعمال أبيه ((الموفق)) والقضاء على فتنة الثائر العلوي 270 هجري، فيقول: قام بأمر الملك لما ضاعا ... وكان نهبا في الورى مضاعا تذللا ليست له مهابة ... يخاف إن طنت به ذبابة وكل يوم ملك مقتول ... أو خائف مروع ذليل أو خالع للعقد كيما يغني ... وذاك أدعى للردى وأدنى وكم أمير كان رأس جيش ... قد نغصوا عليه كل عيش وكل يوم شغب وغصب ... وأنفس مقتولة وحرب وكم فتى قد راح نهبا راكبا ... إما جليس ملك أو كاتبا فوضعوا في رأسه السياطا ... وجعلوا يردونه شطاطا وكم فتاة خرجت من منزل ... فغصبوها نفسها في المحفل وفضحوها عند من يعرفها ... وصدقوا العشيق كي يقرفها وحصل الزوج لضعف حيلته ... على نواحه ونتف لحيته وكل يوم عسكر فعسكرا ... بالكرخ والدور مواتا أحمرا   1 من حديث الشعر والنثر لطه حسين ص 285 وما بعدها. 2 ظهر الإسلام لأحمد أمين ج 1 /25. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 217 كذاك حتى أفقروا الخلافة ... وعودوها الرعب والمخافة فتلك أطلال لهم قفارا ... ترى الشياطين بها نهارا ويصور الشاعر الفظائع التي كانت تنصب على أفراد الأمة من مصادرات لأموالهم بعد انتهاك حرماتهم، فيقول: أجرأ خلق الله ظلما فاحشا ... وأجور الناس عقابا بالوشى يأخذ من هذا الشقي ضيعته ... وذا يريد ماله وحرمته وويل من مات أبوه موسرا ... أليس هذا محكما مشهرا؟! وطال في دار البلاء سجنه ... وقال: من يدري بأنك ابنه؟! فقال جيراني ومن يعرفني ... فنتفوا سباله حتى فنى وأسرفوا في لكمه ودفعه ... وخدرت أكفهم في صفعه ولم يزل في أضيق الحبوس ... حتى رمى إليهم بالكيس وتاجر ذي جوهر ومال ... كان من الله بحسن حال قيل له عندك للسلطان ... ودائع غالية الأثمان فقال: لا والله ما عندي له ... صغيرة من ذا ولا جليلة وإنما أربحت في التجارة ... ولم أكن في المال ذا خسارة فدخنوه بدخان التبن ... وأوقدوه بثفال اللبن حتى إذا مل الحياة وضجر ... وقال ليت المال جمعا في سقر أعطاهم ما طلبوا فأطلقا ... يستعمل المشي ويمشي العنقا1 ثم يأتي إلى تصوير عناية الخليفة المعتضد بالجيش واختياره جنوده، وقيامه بحركة تطهير واسعة في هذا الجيش ونبذ غير اللائقين منهم بكرامة الجندي: واختار من جنوده كل بطل ... مجرب إن حضر الموت قتل ثم نفى كل دخيل قد مرق ... إذا رأى السيف جرى من الفرق حتى إذا صفى خيار الجند ... قال يا حرب اهزلي وجدي   1 إنها لصورة حية للشعوب التيب منيت بالحكم الاشتراكي والماركسي في العصر الحديث المجلة. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 218 سار إلى الموصل ينوي أمرا ... فملأ البر معا والبحرا1 وهكذا يسير ابن المعتز في أرجوزته، أو قل ملحمته التي بلغت نحوا من عشرين وأربعمائة بيت في تاريخ الخليفة المعتضد. ومن هنا: نرى أن الشعر التعليمي قد وجد عند العرب منذ جاهليتهم بكل أقسامه التي عرفت عند اليونان، وقد رأينا لذلك أمثلة عند شعراء جاهليين، كما وجدناه عند الشعراء الأمويين في أخص أقسامه، في أبياته في صناعة الكيمياء.. ووجدناه في الأرجوزة الأموية التي اتخذت وسيلة لتعليم غريب اللغة، مما ألهم المقامة فيما بعد، ودفع بالشعراء في العصر العباسي إلى التوسع في الشعر التعليمي، حتى إذا ولج أبان اللاحقي هذا الميدان، فتح الباب واسعا، فتهافت عليه من تهافت من الشعراء أو النظاميين!.. وبهذا يتضح أن الشعر التعليمي العباسي لم يكن في جملته وتفصيله تقليدا لمثيله عند الأمم الأخرى كالهنود واليونان.. تلك الأمم التي عرفت هذا اللون من الشعر!.. ولكن هل يعني هذا الكلام أننا ننكر أن للثقافة الدخيلة والفكر الوافد أثرا في الشعر التعليمي خلال هذا العصر؟!. كلا!.. نحن لا ننكر هذا التأثير، ولكنا نريد أن نقول: إن التأثير الوافد لم يكن في إنشاء هذا اللون من الشعر في الأدب العربي وإيجاده –فلقد كان ذلك موجودا في العربية منذ زمن طويل كما رأينا- ولكن التأثير كان في تشكيله وإعطائه ملامح نهائية، وسمات بينة، متعاونا مع عوامل أخرى ... إن تأثير الفكر الوافد في الشعر التعليمي لا يعدو أن يكون هو التأثير ذاته أثره في الخمريات وشعر اللهو والمجون، والزهد ... الخ في هذا العصر، وكل أولئك كان موجودا في العصور السابقة لهذا العصر، ولم يعز أحد ابتكارها وابتداعها للعصر العباسي، مع ذلك فلا ينكر أحد أنها في هذا الوقت قد زيدت مساحتها ومدت الرقعة التي تشغلها، وأنه أضيف إلى الصورة أشياء وألوان، حتى لقد ينخدع كثيرون بأن كل ما هناك جديد مبتكر.. والشعر التعليمي لم يكن بدعا في ذلك؛ فهو قد تأثر بالعصر وظروفه وملابساته، وبما كان يموج فيه من فكر وثقافة ومعرفة متعددة المصادر والينابيع.. ولقد بانت في هذا العصر ملامح وحدود كثير من العلوم، واتضحت معالم كثير من المعارف، فأخذ الشعراء منذئذ يتناولون هذه   1 رسائل ابن المعتز بتحقيق الدكتور خفاجي ص 80 -107. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 219 القيمة الفنية للشعر التعليمي : هذا اللون من الشعر من الناحية الفنية ليس على شيء، وليس هو بأكثر من كلام موزون مقفى، لأن الشعر في حقيقته إن هو إلا عاصفة جياشة، وخيال مهوم بديع، وأسلوب جميل، ولفظ أخاذ، يضاف إلى ذلك الموسيقى والتوقيع!.. على أنه ينبغي ألا نندفع ونبالغ في التعميم، فنردد أن الشعر التعليمي – على إطلاقه - إن هو إلا كلام موزون مقفى ... الخ. إن هذا الكلام لا يصدق إلا في بعض ألوان الشعر التعليمي، أو على القسم الذي أسموه ((حقائق الفنون والعلوم والمعارف)) .. على حين لا يكون الأمر كذلك – دائما- في الأقسام الأخرى من الشعر التعليمي، خصوصا النوع الذي يتناول التاريخ وأحداثه، فقد يحور الجزء: 53 ¦ الصفحة: 220 ويتحول عند الشاعر المبدع، والفنان البارع الموهوب إلى شعر قصصي1)) آسر للقلوب كالذي رأيناه في رائعتي ابن المعتز اللتين وقفنا عندهما بقصد توكيد هذه الحقيقة!.. اعتراف بالجميل: ومهما قيل في القيمة الفنية للشعر التعليمي، فإنني أرى –من الإنصاف- عدم تجريده من كل فضيلة، ولا أرى إنكار أنه قد أدى بعض المهمة التي أريد له أن يؤديها ... ذلك أنه قد حفظ كثيرا من تراث هذه الأمة الديني واللغوي والعلمي خصوصا في العصور المتأخرة التي شمل الضعف والتدهور كل جوانب الحياة فيها!!..   1 انظر طه حسين في حديث الأربعاء ج 2 /220 وأحمد أمين في ظهر الإسلام ج 1 /25. الجزء: 53 ¦ الصفحة: 221