الكتاب: الرسائل الحربية في عصر الدولة الأيوبية المؤلف: محمد نغش الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد من المجلة] ---------- الرسائل الحربية في عصر الدولة الأيوبية محمد نغش الكتاب: الرسائل الحربية في عصر الدولة الأيوبية المؤلف: محمد نغش الناشر: مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، ورقم الجزء هو رقم العدد من المجلة] مدخل ... الرسائل الحربية في عصر الدولة الأيوبية للدكتور محمد نغش أستاذ مساعد بكلية الشريعة بالجامعة -1- الرسائل الحربية في عصر الدولة الأيوبية تلقي الضوء على تاريخ أمتنا الإسلامية في فترة من فترات كفاحها المجيد ضد الصليبيين المعتدين، وتلك الحقبة تماثل ما نعانيه في عصرنا الحالي من الاحتلال لأراضينا المقدسة، وما سوف نخوضه إن شاء الله تعالى من جهاد مقدس من أجل تحرير الأرض الإسلامية من أيدي هؤلاء الكفرة الفجرة. وقد قسمت البحث إلى ثلاثة أبواب: الباب الأول: عن الدواوين وثيقة الصلة بالجيش الأيوبي، وهي: ديوان الإنشاء، وديوان الجيش وديوان الأسطول. وديوان الأسرى، وديوان البريد. وقد ذكرت السمات الواجب توافرها في رؤساء الدواوين، والأعمال التي يباشرونها. والباب الثاني: عن الرسائل الحربية في عصر مؤسس الدولة الأيوبية الملك المظفر صلاح الدين الأيوبي وابنه الملك العزيز، ثم الملك المعظم توران شاه، ثم الملك الصالح نجم الدين أيوب. وقد ذكرت الأسلوب الذي صيغت به تلك الرسائل في إيجاز، وطريقة إعداد الرسائل وتصديرها. والباب الثالث: عقدت فيه موازنة بين الرسائل الحربية والشعر المعاصر لها، في تنافسهما في التعبير عن مشاعر المسلمين وفرحتهم بنصر الله المبين بفتح القدس وتطهيره من المغتصبين. والله أسال أن يحقق النصر للمؤمنين، وأن يستردوا أرضهم السليبة من أيدي الصهاينة الآثمين. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 186 الباب الأول: الدواوين وثيقة الصلة بالجيش الأيوبي الدواوين وثيقة الصلة بالجيش الأيوبي ... الباب الأول: الدواوين وثيقة الصلة بالجيش الأيوبي كانت الدولة الأيوبية دولة عسكرية، نشأت وترعرعت إبان الحروب الصليبية، وخاضت المعارك الحربية الواحدة تلو الأخرى في بسالة. وبرز في هذه الدولة ديوانان كبيران هما ديوان الإنشاء وديوان الجيوش، وكان عليهما المعول الأكبر في سياسة الدولة كلها في الداخل والخارج، يساعدهما في التنفيذ باقي الدواوين، وكان يضم هذه الدواوين جميعا دار الوزارة. ديوان الإنشاء: ظل ديوان الإنشاء طول عصر الحروب الصليبية رفيع المكانة، معنياً به أشد العناية، فهو ديوان عظيم المقدار، وهو خزانة الأسرار، شريف بمراسلة السلطان1. كان ديوان الإنشاء يومئذ رأس الدولة المفكر، ووسيلة اتصال الحكومة بفروعها في داخل البلاد، وبغيرها من الحكومات في خارج حدودها، وقد استطاع النثر أن يفي بحاجة الأمة وأن يعبر عن مشاعرها وإحساساتها2، وقد أدرك صاحب صبح الأعشى قيمة ما يسجله ديوان الإنشاء، فقال: "إنه لو جمعت بعض دفاتره لاجتمع منها تاريخ كامل"3. وكان العاملون في ديوان الإنشاء في غاية الصيانة والنزاهة وقلة الخلطة بالناس، وأتفق أن الصاحب زين الدين يعقوب بن الزبير كان من جملتهم، فسمع الملك الصالح نجم الدين أيوب عنه أنه يحضر في السماعات4، فصرفه من ديوان لا يحتمل مثل هذا5. ديوان الجيش: أشرف ديوان الجيش في عهد الأيوبيين على شئون الجيش، من تجنيد وعتاد وخلافة، وكان يطلق عليه أيضا ديوان الإقطاع6 وتسمية ديوان الجيش بديوان الإقطاع   1 النابلسي: لمع القوانين ص18. 2 الدكتور أحمد بدوي، الحياة الأدبية في عصر الحروب الصليبية ص 334. 3 صبح الأعشى جـ 1ص135. 4 السماع: الغناء والسماعات هنا أي أماكن الطرب واللهو، والظاهر أن الملك الصالح نجم الدين أيوب كان لا يسمح للعاملين بديوان الإنشاء بالتردد على أماكن اللهو والمجون، حفاظا على مهابة هذا الديوان العظيم. 5 الخطط المقريزية جـ 3ص158. 6 ابن فضل الله، التعريف ص 89. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 187 يدل في صورة قاطعة على مبلغ اعتماد النظام الحربي الأيوبي أو معظمه على الأقل على التوزيع الإقطاعي1، فمن الطبيعي أن ينقل صلاح الدين عن مخدومه نور الدين نظام الإقطاع الحربي الوراثي والشخصي إلى مصر، غداة أن استتب له الأمر فيها، بعد وفاة العاضد سنة (567 هـ= 1172 م) 2. وكتب ابن مماتي فصلا في المقرر عن ميرة الإقطاعات في دولة صلاح الدين، مرتبة قيمتها حسب درجات الأجناد وجنسياتهم. فالأجناد من الأتراك والأكراد والتركمان دينارهم الإقطاعي دينار واحد كامل جنديا.. الكتابة والعاقلة من العربان ومن يجري مجراهم على عادة الأجناد المصريين، دينارهم نصف دينار ... والغزاة والقواد ومن هم في معناهم، دينارهم ربع دينار.. السعر الناقص عن كل دينار جندي ... والمأمور بالحوالة به عن كل دينار واحد جندي أردب واحد الثلثان قمح والثلث شعير، والحوالة علا بيت المال في مستحق الأجناد، كل جندي ربع دينار عنباً على سبيل المصالحة. على أن المراجع الأيوبية - فيما يعلم الباحث - خلت من ذكر تفصيلات عن تقييم تلك الطوائف إلى أقسام أصغر منها، ليعرف كل أمير وجندي رتبته ومركزه في الجيش3. وفي صبح الأعشى صورة لما كان عليه ديوان الجيش في عهد الفاطميين، وأعتقد أن الصورة العامة في عصر الأيوبيين لم تتغير كثيرا من الناحية الإدارية، فتقسيم هذا الديوان إلى ثلاثة أقسام أولها خاص بالشئون الحربية العامة، والثاني خاص بالرواتب. والثالث خاص بالإقطاعات. فديوان الجيش مثلا في العصرين الفاطمي والأيوبي لا يكون صاحبه إلا مسلما، وله الرتبة الجليلة والمكانة الرفيعة، وبين يديه حاجب، وإليه عرض الأجناد وخيولهم، وذكر حلاهم ومعدات خيولهم. وكان من شرط هذا الديوان عندهم ألا يثبت لأحد من الأجناد إلا الفرس الجيد دون البغال والبراذين، وليس له تغيير أحد من الأجناد، ولا شيء من إقطاعهم إلا بمرسوم. وبين يدي صاحب هذا الديوان نقباء الأمراء، يعرفونه أحوال الأجناد من الحياة والموت والغيبة والحضور وغير ذلك، وكان قد فسح للأجناد في المقايضة بالإقطاعات لما لهم   1 دكتور نظير حسان سعداوي: التاريخ الحربي ص 174. 2 دكتور نظير حسان سعداوي: التاريخ الحربي ص 27. 3 دكتور نظير حسان سعداوي: جيش مصر ص 29. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 188 في ذلك من المصالح بتوقيعات من صاحب ديوان المجلس من غير علامة، ومن هذا الديوان كان يعمل أوراق أرباب الجرايات، وله خازنان. وإدارة الرواتب تشتمل على اسم كل مرتزق في الدولة وجار وجراية، والتعريفات واردة عليه من كل عمل باستمرار من هو مستمر. ومباشرة من أستجد، وموت من مات، وأما إدارة الإقطاع فقد كانت مختصة عندهم بما هو مقطع للأجناد1. ديوان الأسطول: وشرع صلاح الدين بعد وصوله القاهرة في النظر في الشئون البحرية والأسطول، وربما كان سر اهتمامه بالأمور البحرية مباشرة بعد إزالة الدولة الفاطمية، أنه كان يخشى مجيء حملة بحرية من ناحية أفريقية من المغاربة أو من ناحية الصليبيين وأحلافهم من البيزنطيين والصقليين، كما حدث قبلا، بحجة التدخل لإعادة الدولة الفاطمية، أو أنه رأى البحرية الفاطمية ودور الصناعة في حال تدعو إلى العناية، بعد أن نزل بها ما نزلت بسبب إحراق شاور الفسطاط ودور الصناعة بها غداة وصول حملة أمورى الثالثة في سنة 563 هـ = 1168 م أو أنه أخذ في ترتيب شئونه الحربية عامة بمجرد أن صار صاحب الأمر في مصر بعد وفاة العاضد، وهذا الاحتمال الثالث هو الأرجح، بدليل اهتمامه بالجيش في السنة نفسها2. وولى صلاح الدين نظر ذلك الديوان وقتذاك صديقا من أصدقائه، لم تذكر المراجع اسمه أو شيئا عنه ماعدا أن صلاح الدين أفرد له إقطاعاً مخصوصاً وديواناً مفرداً هو ديوان الأسطول، وأنه كتب إلى جميع الأعمال المصرية والشامية يؤكد عليهم وجوب تلبية طلبات صاحب الأسطول، كلما وصلت إليهم، من حيث جمع الرجال الذين يأخذهم ناظر ديوان الأسطول للخدمة في السفن الأيوبية3. ويقول المقريزي: لما كان زوال الدولة الفاطمية على يد السلطان صلاح الدين يوسف ابن أيوب اعتنى أيضا بأمر الأسطول، وأفرد له ديوانا عرف بديوان الأسطول، وعين لهذا الديوان الفيوم بأعمالها والحبس الجيوش في البرين الشرقي والغربي، وهو من البر الشرقي بهتين والأميرية والمنية، ومن البر الغربي ناحية سفط ونهيا ووسيم والبساتين خارج القاهرة، وعين له أيضا الخراج، وهو أشجار من سنط لا تحصى كثرة البهناوية وسفط ريشين   1 القلقشندي: صبح الأعشى جـ 3 ص 488:489. 2 الدكتور نظير حسان سعداوي: التاريخ الحربي ص 24. 3 دكتور حسنين محمد ربيع: النظم المالية في مصر ص 71. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 189 والأشمونين والأسيوطية والأخميمية والقوصية، لم تزل بهذه النواحي لا يقطع منها إلا ما تدعو الحاجة إليه، وكان فيها ما تبلغ قيمة العود الواحد منه مائة دينار. وعين له أيضا النطرون وكان قد بلغ ضمانه ثمانية آلاف دينار، ثم أفرد لديوان الأسطول مع ذكر الزكاة التي كانت تجبى بمصر، وبلغت في سنة زيادة على خمسين ألف دينار، وأفرد له المراكب الديوانية وناحية أشناق وطنبوى، وسلم هذا الديوان لأخيه الملك العادل أبي بكر محمد بن أيوب1. فأقام في مباشرته وعمالته صفي الدين عبد الله بن شكر، وتقرر ديوان الأسطول الذي ينفق في رجاله نصف وربع دينار بعد ما كان نصف وثمن دينار، فلما مات السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب استمر الحال في الأسطول قليلا، ثم قل الاهتمام به وصار لا يفكر في أمره إلا عند الحاجة إليه، ثم لما انقرضت دولة بني أيوب وتملك الأتراك المماليك مصر أهملوا أمر الأسطول، إلى أن كانت أيام السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداوى فنظر فما أمر الشوافي الحربية، وأستدعى رجال الأسطول، وكان الأمراء قد استعملوها في الحراريق وغيرها، وندبهم للسفر، وأمر بمد الشوافي. وقطع الأخشاب لعمارتها وإقامتها على ما كانت عليه، في أيام الملك الصالح نجم الدين أيوب2! وأسماء المراكب الحربية في أسطول الدولة الأيوبية كما ذكرها ابن مماتي هي: (طريدة، حمالة، شيني، مسطح، حراقة، مركوس، شلندي، أعزازي) 3. وكان في مصر حتى آخر القرن السادس للهجرة ثلاث دور للصناعة مشهورة ذكرها ابن مماتي صاحب قوانين الدواوين فقال: صناعة العمائر فيها تنشأ المراكب المذكورة، ولها مستخدمون يستدعون ما يحتاج إليه، ويطلق لهم المال والأصناف ويسترفع منهم الحسبانات وفيها يباع من حطام وغيره، وترد حساباتهم، والصناعات الآن ثلاثة، بمصر، والإسكندرية، ودمياط4. ديوان الأسرى: قال القاضي محي الدين عبد الله بن عبد الظاهر في كتاب الدر النظيم في أوصاف القاضي الفاضل عبد الرحيم، ومن جمله بنائه دار التمر بمصر المحروسة، ولها دخل عظيم   1 ذكر المقريزي في السلوك جـ1 ق 1 ص 107 أن تسليم أمر الأسطول للملك العادل كان في عام 587هـ=1192م. 2 الخطط المقريزية جـ3 ص110،111 3 ابن مماتي: قوانين الدواوين ص 339. 4 ابن مماتي: قوانين الدواوين ص 340. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 190 يجمع ويشترى به الأسرى من بلاد الفرنج، وذلك مستمر إلى هذا الوقت، وفي كل وقت يحضر بالأسارى فيلبسون ويطوفون ويدعون له، وسمعتهم مرارا يقولون: يا الله يارحيم أرحم القاضي الفاضل عبد الرحيم. وقال القاضي جمال الدين بن شيث: كان للقاضي الفاضل ريع عظيم يؤجره بمبلغ كبير فلما عزم على الحج ركب ومر به ووقف عليه. وقال: اللهم إنك تعلم أن هذا الخان ليس شيء أحب إلي منه، أو قال أعز علىّ منه، اللهم فاشهد أني وقفته على فكاك الأسرى من بلاد الفرنج1. ديوان البريد: من الترتيبات العسكرية العامة التي قررها السلطان صلاح الدين سنة 567 هـ= 1171 م استخدم البريد الحربي، نقلا عن مخدومه نور الدين، ورتب لذلك في كل ثغر رجالا، ومعهم حمام المدينة التي تجاورهم، فإذا رأوا أو سمعوا أمراً كتبوه لوقته وعلقوه على الطائر وسرحوه إلى المدينة التي هو منها في ساعته، فتنتقل الرقعة من الطائر إلى طائر آخر من البلد الذي يجاورهم، وهكذا إلى أن تصل الأخبار إليه2. ويشرح القاضي الفاضل في إحدى رسائله ما كان يؤديه به الحمام من دور فعال في هذا الشأن. ومما قاله في هذه الرسالة: "سرحت لإنزال أجنحتها محملة البطائق أجنحة، وتجهيز جيوش القاصد والأقلام أسلحة، وتحمل من الأخبار ما تحمله الضمائر، وتطوي الأرض إذا نشرت الجناح الطائر، وتزوي به الأرض ما يبلغه ملك هذه الأمة، وتضرب من السماء حتى ترى ما لا يبلغه ولا همه وقد أخذت عهود الأمانة في رقابها أطواقا، وصارت خوافي من وراء الخوافي، وغطت سرحها المودع بكتمان سحبت عليه ذيول ريشها الضوافي، ترغم أنف النوى بتقريب العهود، وتكاد العيون بملاحظتها تلاحظ أنجم السعود، وهي أنبياء الطير لكثرة ما تأتي به من الأنباء، وخطباؤها لأنها تقوم على الأغصان مقام الخطباء"3.   1 الخطط المقريزية جـ3 ص 11. 2 الدكتور نظير حسان سعداوي، نظام البريد في الدولة الإسلامية ص 112: 115. 3 الدكتور نظير حسان سعداوي، نظام البريد في الدولة الإسلامية ص 112: 115. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 191 رؤساء الدواوين : إذا كان التنظيم الإداري بمفهومه العلمي الحديث هو تحديد المسئوليات والسلطات والعلاقات بين الأفراد في الجهد الجماعي بقصد تحقيق أهداف محددة، فالدواوين الأيوبية كانت تنهج هذا السبيل في تحديد المسئوليات للعاملين، وتنظيم العلاقات بينهم وبين رؤسائهم. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 191 وعندما نستعرض الهيكل الوظيفي في عصر الدولة الأيوبية، ندرك أنه يوجد نظام إداري يتسم بالإحكام والتخطيط السليم. فالدولة يحكمها السلطان عن طريق وزير يمثل قمة السلطنة التنفيذية، ويلي الوزير في المرتبة رؤساء الدواوين المختلفة، وفي كل ديوان العاملون به، وهم على درجات عليا ودنيا، إذن فهم يتبعون التسلسل الإداري في السلطة. ولكل موظف اختصاصات محددة يسير على هداها، وصفات معينة يلزم توافرها فيه، وكانت هناك نظرية الإنابة في العمل فهذا الموظف يحل مكان فلان في وظيفته في حالة غيابه. وإذا نظرنا للتقسيمات الوظيفية بالمصطلح الحديث من وظائف إدارية أو قيادية، ووظائف فنية أو كتابية، ودرجات عمالية، وجدنا هذا النمط معمولا به في تلك الحقبة من الزمن. فنحن نعرف أن مصر بلد زراعي، وأن بها بعض الصناعات اللازمة لمواجهة الحروب الصليبية، وكانت بها دار الضرب المصرية لصك النقود. إذن كانت الوظائف بها أغلبها خاص إما بالزراعة أو بالصناعات الحربية مثل بناء السفن وغيرها، أو بالعمل في صك النقود، وماعدا ذلك فيتعلق بالشئون الاجتماعية العامة. الوزير: لم يرد تعريف للوزير في الكتب التي أرخت للدولة الأيوبية على رغم أن هذه الوظيفة كانت موجودة ومسندة إلى رئيس ديوان الإنشاء كالقاضي الفاضل، أو إلى وزير كصفي الدين بن شكر، وبين أيدينا تعريف لهذه الوظيفة، والصفات الواجب توافرها فيمن تسند إليه، كما جاء ذلك في كتاب صدر في عصر الدولة الفاطمية، إذ يقول مؤلفه1: "يجب أن يكون الوزير قيما بجميع أنواع الكتابة وأقسامها، عالما بشروطها وأحكامها، لأن كل ناظر في فن من فنونها إليه يرفع ما ينظر فيه، فلا يجوز أن يكون جاهلا بشيء منه، وأن يكون نافذا في علوم الدين، لأن الدين أساس الملك الذي يبنى عليه أمره". ويشترط أبن خلف أن يتحلى لوزير بحميد الأخلاق، وأن يتسم بنبيل الصفات، وأن يظهر في سعة المنزل والطعام، والفرش والثياب، وما إلى ذلك، مما يليق بمقامه الخطير.   1 أبو الحسن علي بن خلف: مواد البيان ق 23. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 192 كما يشترط أن يكون خبيرا محنكا في جميع ما يخص السلطان والرعية، فيقول: "يجب أن يكون الوزير متجنباً للغضب، قليل اللهو والطرب، مداوماً للتجارب، ملابساً للنوائب، عارفاً بتصرف الأحوال، عالماً بوجوه الأموال، ومصالح الأعمال، مستوفياً لحقوق السلطان، من غير حيف على معاملته ورعيته، معتمداً للإنصاف لهم والإنصاف منهم، مقدماً أهل الفضيلة والدين والغنى، مستكفياً للكفاة، عارفاً لذوي البيوتات والرتب أَقدارهم ومنازلهم، منزلاً لهم بحيث ما يستحقون منها، بصيراً بمكايد الحروب، ومعاجمة الخطوب، وتدبير الدولة، وسياسة الرعية، عارفاً بما يعتمد كل طبقة منها من عسف ولطف، وخشونة ولين، وما يصلح عليه من السير المتضادة، لا يشغله كبير أمر عن صغيره، مقدماً للحزم، عاملاً بالعزم، ناظراً في العواقب"1.   1 مواد البيان ق 23. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 193 نظار الدواوين : ونظار الدواوين في الدولة الأيوبية، كانوا يمثلون السلطة الإدارية العليا، وكانت تسند إليه من قبل الوزارة الأعمال الهامة الخاصة بشئون الدولة الداخلية والخارجية. ويسمى الناظر أَحياناً بصاحب الديوان أو بوالي الديوان وكان يطلق على ناظر ديوان الإنشاء صاحب الدست، وفى هذه التسميات دلالة على مدى السلطات الممنوحة له في مجال اختصاصه. ومن الصفات العامة لأعمال الناظر. أنه رأَس الديوان ويلزمه ضبط جميع جهات الديوان استخراجاً وخرجاً، وإقامة الجرائد بالجهات وخدمتها بما يستأدى منها لأنه يكتب على العمل الجامع لها، ويعين ما ينساق من الباقي في المعاملات2. ويقول ابن مماتى: "ليس لأحد مستخدميه أَن ينفرد عنه بشيء من علم المنظور فيه، ومن لوازمه أن يكون علمه محوطا بضبطه، محفوظا بخطه، وإن كان ناظر مشارف، كتب خطه على ما يرفع من الحساب، ويخرج من الوصولات، وهو مخاطب على كل ما يتم في معاملته من خلل"3. ناظر ديوان الإنشاء: ونقرأ شروط النابلسي في ناظر ديوان الإنشاء نثراً وشعراً إذ يقول: "يشترط أن   2 ابن شيث: معالم الكتابة ص 29. 3 قوانين الدواوين ص 298. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 193 يكون الناظر فيه مضطلعاً من العلوم لاسيما الأدب، له قدرة على صعود ذروتي النظم والنثر بل على ارتقاء درج البلاغة، إلى طبقة حل المنظوم ونظم المنثور والإستشهاد بما يحتاج إليه من الكتاب العزيز بآيات في المعنى الذي رسم له. وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، وسير الخلفاء وأخبار الملوك، وتواريخ العجم، وأيام العرب، ووقائعها وأمثالها، إلى غير ذلك من الفنون التي يطول شرحها ووصفها، وهو باب متسع، وعر المسلك، عزيز الوجود جداً". والظاهر أن وظيفة رئيس ديوان الإنشاء، وما ينبغي أن يكون حاصلاً عنده من العلوم والمعارف والأخلاق، قد حظيت بعناية كبيرة في العصر الفاطمي، وقد دون ابن منجب الصيرفي ذلك في كتابه قانون ديوان الرسائل، ولما كان كتاب الدواوين في العصر الأيوبي قد أشاروا إلى هذه الوظيفة في كلمات مقتضبة، إلا أنها تدل على خطورة مكانة صاحبها، وأهمية الدور الذي يؤديه في الجهاز الحكومي للدولة الأيوبية، فقد رأينا أن نذكر الشروط الأساسية الواجب توافرها في رئيس ديوان الإنشاء التي تعتبر من وجهة نظرنا قواعد عامة سارت عليها الدولة الأيوبية فيمن يتولون العمل بهذا الديوان، خاصة وأن القاضي الفاضل وزير السلطان صلاح الدين ورئيس ديوان الإنشاء في عصره، تربى في الدولة الفاطمية، وتولى رئاسة الديوان في أيام العاضد آخر خلفائها، واستمر في عمله حنى نهاية عمره في عهد الدولة الأيوبية. فهو إذن امتداد طبيعي لهذه الوظيفة التي يقول عنها ابن منجب الصيرفي ما فحواه: "أن يكون ذا دين وورع وأمانة، ونزاهة نفس، ويجب أن يكون دينه الإسلام، لأنه من الملك بمنزلة الوزير، وأن يكون متمذهباً بالمذهب الذي عليه الملك، ويجب أن يكون من يختار لهذه المرتبة ممكنا من عقله، ويجب أن يكون أصيلاً في قومه، رفيعا في حسبه، ويجب أن يكون صبيح الوجه، فصيح الألفاظ، طلق اللسان، ويجب أن يكون وقورا حليما، مؤثرا للجد على الهزل، محبا للشغل أكثر من محبته للفراغ، مقسما للزمان على أشغاله، كثير الأناة، قليل العجلة والحذق، نزر الضحك، مهيب المجلس، ساكن الظل، وقور النادي، حسن اللقاء، لطيف الإجابة، شديد الذكاء، متوقد الفهم، حسن الكلام إذا حدث، حسن الإصغاء إذا حُدث، سريع الرضا، بطيء الغضب، رؤوفا بأهل الدين ساعيا في مصالحهم محبا لذوي العلم والأدب، راغبا في نفعهم، يغلب هوى الملك على هواه ورضاه على رضاه، ما لم ير في ذلك خللا على المملكة، فإنه يجب أن يهدي النصيحة للملك، من غير أن يوجد أن فيما تقدم من رأيه فسادا أو نقصا، ولكن يتحيل لنقص ذلك وتهجينه في نفسه، الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 194 وإيضاح الواجب فيه بأحسن تأن وأفضل تلطف، ويكون من كتمان السر بمنزلة لا يدانيه فيها أحد"1. ما ذكرناه هو مجمل الصفات الشخصية الواجب توافرها في متولي هذا الديوان، فما هو نوع الثقافة اللازمة له؟ نجد أن العناصر الأساسية لهذا العمل أن يكون صاحب الديوان مثقفا، وأول ما يجب أن يعتني به حفظ كتاب الله تعالى. فهو أحوج الناس إلى الإستشهاد به في أثناء محاوراته، وفصول مكاتباته، والتمثل بنواهيه وأوامره، والذكر لقوارعه وزواجره، ويجب أن يكون من البلاغة والفصاحة في أعلى مرتبة وأسنى منزلة، بحيث لا يوجد أحد في عصره يفوقه في هذا الفن، وينبغي أن يكون مظطلعا بفنون الكتابة، عالما بأصولها وفصولها، مستقلا بأعبائها، يفوق في النهضة جميع المستخدمين معه والمعينين له. ويكون حافظا لأخبار الرسول والأئمة، راويا لأخبار الملوك وأيام العرب ووقائعهم، وأخبار العجم وسائر الأمم، وما جرى في أيام الملوك الماضين، وما حدث من وزرائهم وكتابهم وقوادهم وأخبارهم. ويجب أن يكون لديه شيء من معرفة الحلال والحرام، ليكون واجدا له متى دفع إلى أن يسأل عنه، ويجب أن يكون حافظا للأشعار راويا للكثير منها، ويجب أن يكون قد قرأ من العربية والتصريف واللغة أكثرها2. وأخيراً نتحدث عن مجمل صفاته السلوكية تجاه الملك كما جاء في كتاب قانون ديوان الرسائل، وهو أن ينحل الملك صائب الآراء، ولا ينتحلها عليه، ومهما حدث من رأي صائب أو فعل جميل، أو تدبير حميد أشاعه وأذاعه وعظمه وفخمه وكرر ذكره، وأوجب على الناس حمده وشكره، وإذا قال الملك قولا في مجلسه أو بحضرة جماعة ممن يخدمه، فلم يره موافقا للصواب فلا يجبهه بالرد عليه واستهجان ما أتى به، فإن ذلك خطأ كبير بل يصبر لحين الخلوة ويداخل في أثناء كلامه ما يوضح به نهج الصواب من غير تلق برد، ولا يتبجح بما عنده، ويكون متابعا للملك على أخلاقه الفاضلة وطباعه الشريفة. وإن أحس منه بخلة تنافي هذه الخلال، وفعلة تخالف هذه الأفعال، نقله عنها بألطف سعي وأحسن تدريج، ولم يدع ممكنا في تبيين متجهها وإيضاح رداءة عاقبتها،   1 ابن منجب الصيرفي: قانون ديوان الرسائل ص 104: 105. 2 ابن منجب الصيرفي: قانون ديوان الرسائل ص 95: 103. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 195 وفضيلة مخالفتها إلا بينه وأوضحه، إلى أن يعيده إلى الفضائل، التي هي بالملوك النبلاء أليق. ثم يعقد ابن منجب الصيرفي فصلا فيما يختص متولي ديوان الرسائل بالنظر فيه من الأعمال التي لا يقوم بها غيره، وهو: أن يلازم مجلس الملك ما كان جالساً ليتأس به سائر المستخدمين معه، ولا يجدوا رخصة في الغيبة عن الديوان، ثم تأمل الكتب الواردة على الملك وتسليمها إلى أوثق كتابه، وأمنهم في نفسه، ليخرجها في ظاهرها، ثم يعيدها إليه، فيقابل بها، فإن وجده أخل بشيء منها، أضافه بخطه، وأنكر عليه إهمالها ليتنبه في المستأنف، وإن لم يكن فيها خلل عرضها على الملك، واستخرج فيها أمره، وسطر تحت كل فصل منها، ما يجب أن يكون جوابا عنه، على أحسن الوجوه وأفضلها، ثم سلمها إلى من يكتب الجواب عنها، ممن يعرف اضطلاعه بذلك، ثم قابل الجواب بالتخريج، وما وقع تحته، فإن وجد فيها خللا سده، أو مهملا ذكره، أو سهواً أصلحه، وإن علم أنه قد كتبها على أفضل الوجوه وأسدها، وأنه لم يغادر معنى، ولم يزد إلا ألفاظاً، ينمق بها كتابته، ويؤكد بها قوله، عرضها على الملك ليعلم ما فيها، ثم استدعى من يتولى الإلصاق فألصقها بحضرته، وجعل على كل منها بطاقة، يشير فيها إلى مضمونه، لئلا يسأل عنه بعد إلصاقه، فلا يعلم ما هو، ثم يسلمها إلى من يتولى تنفيذها، إلى حيث أهلت له، ويأخذ خطه بعدتها، منسوبا كل منها إلى من كتب إليه، ومشاراً إلى مضمونه، ويسلم النسخ المخرجة الملخصة إلى من يؤهله لحفظها وترتيبها. ويلزمه أن يتصفح ما يكتب من السجلات والمناشير والأمانات، وجميع ما يقع عليه اسم الإنشاء تصفحاً تاماً، يأمن معه أن يدخل على شيء مما يكتب من ديوانه زيغ ولا زلل ولا تحريف. ويلزمه أن يقيم حاجباً لديوانه، لا يمكن أحداً من سائر الناس أن يدخل إليه، ما خلا المستخدمين فيه1. ثم يفصل بعد ذلك كيفية مباشرته لأعماله بقوله: "يوقع فيما أمكنه التوقيع فيه من رقاع المتظلمين، مما جرت العادة بمثله، وما كان لابد له من عرضه على السلطان واستطلاع رأيه فيه، سلمه إلى متولي ديوانه ليحضر به المجلس، ويستخرج فيه الأمر، أو يحضر الكاتب نفسه فيقرأ المهمات منها، ويستأذن عليها، ويوقع بما يؤمر فيها، فقد تحدث فيها الرقعة المهمة التي تنتفع الدولة بها، ويستضر بتأخير النظر فيها، ويفهم من على هذه الرقاع من جور   1 ابن منجب الصيرفي: قانون ديوان الرسائل ص 106: 115. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 196 بعض الولاة والمستخدمين، وامتداد أيديهم ما توجب السياسة صرفهم عما ولوه منها، وما كان منها مما يسأل السلطان في صحته، ندب من يثق فيه لكشفه مع رافعه، فإن صح قوله أنصف من خصمه، وإن بان تمحله قوبل بما يردع أمثاله على الكذب والتخرص، فيكون ذلك كافاً لمن يهم بشكوى أحد على سبيل المحال وقول الزور فيه"1. ناظر ديوان الجيوش: ولما كانت الدولة الأيوبية تتبع نظام الإقطاع الحربي في توزيع الأرض على الأمراء والأجناد، فإنه نشأت وظيفة ناظر ديوان الجيوش لرعاية مصالح هذه الإقطاعات، ويوضح النابلسي الأعمال التي يباشرها صاحب هذا الديوان، فيقول: "إنه يسترفع كل سنة نسخة قوانين ري البلاد، ليعلم ما نقص وما زاد، وكذلك نسخ السجلات من البلاد ليعلم ما ترجح من ارتفاعها، وما هي عليه من أوضاعها، وما انتقل من مدن العين إلى الغلة، ومن الغلة إلى العين، ومن صنف إلى صنف، وما عمر فيها من الخراب الذي لا يعلوه النيل وغير ذلك. وترفع إليه أوراق زيادة النيل بعد انتهاء الزيادة، ليعلم بها قوانين الري ما روى من البلاد، ومن صفات الناظر في هذا الديوان، أن يكون كبير القدر في نفسه وعند سلطانه، له جلالة ووجاهة، فإن أمراء الدولة مع جلالة أقدارهم، يحتاجون إلى مخاطبته والتلطف لأجل إقطاعاتهم وأجنادهم وجلب مصالحهم، ودفع مضارهم"2. وأما الصفات اللازمة له في أثناء الحرب، حتى يكون ناجحاً في تأدية مهمته القتالية على أحسن وجه، أن يأخذ لضعيفها من قويها، ويقيم الحدود فيها على من وجبت عليه، ويقوي يد ديوانها على استخراج الأموال، وتمشية الأشغال، وحفظ السبل إلى عمله من كل جهة، هي داخلة في حد عمله. ويحتاج أيضاً إلى أن يكون ذا سياسة ورياسة، وعقل رصين ونزاهة، وعفة فرج ويد ولسان، وحسن تدبير، وصدق لهجة، ويقظة وعزم، وتحل بهمة وعزم3. ولما كانت المهمة المنوطة بناظر ديوان الجيش ذات أهمية بالغة في عصر الحروب الصليبية، أردنا أن نستعين بالصورة التي رسمها علي بن خلف في عصر الدولة الفاطمية،   1 ابن منجب الصيرفي: قانون ديوان الرسائل ص 153: 155. 2 لمع القوانين ق 17: 18. 3 النابلسي: لمع القوانين ق 17. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 197 ففيها شيء من التفصيل، بخلاف ما عثرنا عليه في كتب الدواوين الأيوبية، خاصة وأن ظروف العمل الحربي ضد الصليبيين في العصرين واحدة. إذ يقول: "أن منزلته بمقتضى خطر ما ينظر فيه من أمور الرجال الذين هم أعضاء السلطان وأعوانه، وهو يحتاج إلى الإستقلال بجرد كثير من الحساب، وإلى معرفة صفات الخيل، والمعرفة بالأسلحة وأنواعها، والسيوف وجواهرها ومياهها، والرماح وأجناسها والمختار منها، والقسي والسهام والدروع وما يجاريها من الآلات وأن يطالب الأجناد بتحصيلها وعرضها في كل وقت، كما تعرض الخيول التي يثبت شياتها في ديوانه، ولا يفتح لأحد منهم في الإستبدال من جيد برديء، ولا من عيق بهجين، ولا من أسل بذقى1، ومن غير شيئاً ألزمه بتعويض ما غيره، ولذلك أوقع حزمه الملوك الوسوم على الخيول والعلامات على الأسلحة، ولا بأس بأن يكون قد تأدب بالفروسية، وأخذ بطرف من العمل بالسلاح"2. وكعادة كتاب الدواوين يذيل ابن خلف كتاباته بذكر الصفات الحميدة التي يجب أن يتحلى بها القائم بهذه الوظيفة الخطيرة، فيقول: "يجب أن يكون فيه حسن مداراة، وجميل ملقى، وصبر على أمر أخلاق من عامله، فإنه مدفوع إلى سياسة طوائف عدة من أهل الحمية وعزة النفس، وهو محتاج إلى رياضتهم، وحسن السيرة في معاملتهم، ليتمكن من حملهم على الحق، وأن يبني أمره على النزاهة عن الطمع، ليعتذر بذلك عما يرومه من تركهم منازلهم، وليحذر وضع الأعلى، ورفع الناقص وليأخذ بالحزم والأمانة"3. صاحب ديوان الإقطاع: أما صاحب ديوان الإقطاع، فمرتبته دون صاحب ديوان الجيش، وإن اشتركا في العمل، ويلزمه ما يلزم ذلك من أحوال الأجناد والإحاطة بهاء وأن يكون درباً بعبرة البلاد وحواصلها وأسمائها وأثقالها. ويشترط فيه أن يكون حاضر الحس في الجمع درباً فيه، بحيث إذا سئل عن جملة مفصلة أجاب عنها في الزمن القريب. وصاحب الجيش يكتب على يمنة الورقة ليثبت في ديوان النظر على الجيوش المنصورة إن شاء الله تعالى، ويقول صاحب ديوان الإقطاع في الجانب الآخر: في ديوان الإقطاع العمراني إن شاء الله4.   1 الأسل: تستحب في الفرس الأسالة، وهي دليل الكرم، والذقي: رخو الأذن والأنف، ولعل ذلك دليل على رداءته (اللسان) . 2 علي بن خلف: مواد البيان ق 26. 3 علي بن خلف: مواد البيان ق 26. 4 ابن شيث: معالم الكتابة ص 26: 27. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 198 الباب الثاني: الرسائل الحربية منشور بخصوص كسر السلطان صلاح الدين عساكر حلب وحماة ... الباب الثاني: الرسائل الحربية هذه الرسائل كانت تحرر بقلم رئيس ديوان الإنشاء، إما عن لسان السلطان أو الملك. أو تكتب تعبيرا عما يقصده رئيس الديوان لنفسه. وقد ازدهرت وكثرت في عهد السلطان صلاح الدين، الذي أسس الدولة الأيوبية في مصر، ووصفت المعارك الحربية وصفا تفصيليا، في أسلوب يمتاز بالقوة والجزالة فيناسب المعارك وضراوتها، والإنتصارات والفرحة بها. وهذه الرسائل تعد من الناحية التاريخية وثائق بالغة الأهمية، وتعد من الناحية الإعلامية سلاحا رادعا يساعد على النصر ويؤازره، كما أنه يبث الرعب في نفوس الأعداء ويرهبهم، بل هو من العوامل الهامة في قهرهم والإطاحة بهم. فقد خاضت الجيوش العربية حروبا شرسة ضد الحشود الصليبية، وتم في هذه اللقاءات انتصارات حربية رائعة، توجتها معركة حطين، التي تطهر فيها بيت المقدس من دنس المغتصبين له. وتقل الرسائل الحربية في الفترة التي تلى حكم السلطان صلاح الدين إلى نهاية الدولة الأيوبية، حيث قامت المنازعات ببن أفراد الأسرة الحاكمة، كما أنه لم يكن لأحد ممن خلف السلطان صلاح الدين في الملك قوة في الشخصية مثلما كان له، وبالاختصار يعد عصر السلطان صلاح الدين العصر الذهبي في حكم هذه الأسرة، وهو أطولها مدة، وأدعمها قوة. منشور بخصوص كسر السلطان صلاح الدين عساكر حلب وحماة: هذا المنشور بقلم القاضي الفاضل، يبدأه بشكر الله سبحانه وتعالى على نعمه السابغة هكذا: "لله سبحانه وتعالى عندنا عوائد نعم، قد صارت كالأمر المعروف والواقع المألوف، والضياء اللازم للصباح، والعرف المتضوع مع الرياح، لا تستغرب غرائبها وإن كانت بديعة. ولا تبهر عجائبها وإن كانت وسيعة وشيعة"1. ثم يأتي مباشرة إلى هدفه، وهو أن الحلبيين قد صاروا بنيانا مرصوصا في الخلاف، وعقدا واحدا في واحدا في الإنشقاق والانحراف فعندما علم السلطان صلاح الدين بمسير عسكر المواصلة   1 من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 102. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 199 والحلبيين لقصد حماة، وهو وقتذاك بحمص، بعث إليهم في طلب الصلح، يشترط أن يسلم لهم حمص وحماة وبعلبك وجميع الحصون التي فتحها، مقابل اعترافهم بجنوب الشام، فأبوا عليه ذلك تحت ضغط غازي الطامع أن يخلف نور الدين في الشام كله والجزيرة كذلك1. ولذا لم يجد صلاح الدين بدا من السير إلى قرون حماة وهناك عاود الكتابة إليهم دون جدوى، فاستعد حينئذ للحرب، ولقيهم في يوم 19 رمضان سنة 570 هـ = 13 أبريل 1175 م2. واستطاع السلطان صلاح الدين أن يحمل على العدو، ويزيلهم عن مواقفهم، ويجتاز معسكرهم، وهم يعدون أمامه صوب حلب، تاركين غنائم كبيرة وآلة وسلاحا عظيما، ودواب كثيرة، ولحق بهم السلطان صلاح الدين في حلب وحاصرها للمرة الثانية، وأشتد على الحلبيين الحصار وطال، فراسلوه في الصلح على أن يكون له ما بيده من بلاد الشام، مضافا إليه المعرة وكفر طاب، وبارين، ولهم ما بأيديهم منها، واشترطوا كذلك أن يكون الدعاء للسلطان الطفل في جميع منابر البلاد التي تحت يد السلطان صلاح الدين وولاية أصحابها، وأن تكون السكة باسمه، وأن ينجد السلطان صلاح الدين بنفسه وجيشه السلطان إسماعيل عسكريا إذا قصده العدو. فأجابهم صلاح الدين إلى جميع ما طلبوه سياسيا وعسكريا، وأنتظم الصلح، ثم رحل السلطان صلاح الدين عائدا إلى حماة. والجانب الإعلامي من إذاعة هذا المنشور، هو تفهيم الناس أن السلطان صلاح الدين، لم يقصد في محاربته أحدا من المسلمين ألبتة، بل أراد توحيد كلمتهم بالتفاهم الودي والإتفاق السياسي أولا، حتى إذا أخفق في الإتفاق بالمفاوضة عمد إلى القتال في غير هوادة. وفيه يصف السلطان صلاح الدين هذا الفتح بأنه كان لفتوحه أميرا، وكان لبعده من سعادات الأيام بشيرا.   1 الدكتور سعداوي: التاريخ الحربي ص 65. 2 أبو شامة: الروضتين جـ 1 ص 250. الجزء: 55 - 56 ¦ الصفحة: 200 الرسائل الحربية في عصر الدولة الأيوبية للدكتور محمد نغش أستاذ مساعد بكلية الشريعة بالجامعة-2- كتاب بشأن الحصن الذي استجده الفرنج وهدمه السلطان صلاح الدين. أرسل القاضي الفاضل إلى بغداد رسالة عن هدم هذا الحصن الحصين، وقدم لها مقدمة طويلة تشمل- كالعادة- تمجيداً للخليفة العباسي، والدعاء له، ومما جاء فيها: "الدولة العباسية الإمامية المستضيئة، يرفع الله منارها، ويعمر قلوب البشر من بشائرها الموجبة لاستبشارها، ويحرز لها من الفتوحات التي تتدارك لها خواطر القنوط، وتمد الرجاء بعد تقلص ظله المبسوط، وتمضي لها من عزائم الأولياء، وتذل بها من أعناق الأعداء، ويظهر من دلائل العنايات بأمرها، ويرسل ملائكة سمائية إلى أرضه لنصرها ويقشع من ظلمات الخطوب برايتها السوداء ويدها البيضاء، ونعمتها الخضراء، وبحور أنعامها الزرقاء، وسيوف انتقامها التي تخرق الآجال برايتها الحمراء1. استدعى السلطان صلاح الدين أخيار البلاد الشامية وعشائرهم، وكتائب من التركمان، وحمل إليهم الأموال وآلات القتال، ومن بينها المنجنيقات وعددها، وسلاليم لمرمى القلاع ومصعدها. وسار بهذا الجيش الجرار إلى المخاضة في يوم السبت 19 ربيع الأول سنة 575 هـ – 25 أغسطس 1179 م. وهنا يصف القاضي الفاضل الحصن الحصين. فهو مبني على تلال وعرة عالية. وأبراجه مرتفعة متينة، وقد عرض حائطه إلى أن زاد على عشرة أذع، وبني من حجارة صلدة، توعز للحديد بأنه من الصعب هدمه.   1-من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 75. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 137 وبداخل الحصن ما يزيد على أَلف وخمسمائة رجل، ولديهم الجروخ1 الوثيقة، "وقد نصبت عليه مجانيق يروع خاطر الجسارة منظرها، وتلتهم الحصون فكيف الخيام حجرها؟، ويسري إلى الأجساد خبرها، وحفر له خندق أحاط بالمدينة سرادقه، وفتحت أبوابها ثقة بما صانته مغالقه، وقد بنوه حتى لا تنهار حروفه، ووسعت حتى لا تنجار جروفه2. ثم ركب السلطان صلاح الدين ثاني يوم الأحد إلى صفد، فقطع منها قضب الكروم والأخشاب، فأما الكروم فليجعلها ستائر للمنجنيقات للتمويه على العدو مثلما تفعل الجيوش المحاربة في العصر الحاضر، وأما الخشب ونشارته فبغرض إيقاد النار في أسوار الحصن بعد نقبها. وعاد السلطان صلاح الدين في نفس اليوم إلى المخاضة، واستقر رأيه على قتال الحصن بطريقتين، وهما القتال زحفا مع نقب الأسوار في آن واحد. ونقف قليلاً أمام هذه العبارة "وعلم- أي صلاح الدين- أن أمراً أَوله الاستخارة، وأوسطه الاستشارة، وخاتمته الجسارة، فإن الجامع بينها لا يندم3". ففيها رغم إيجازها وصف كامل للحالة النفسية للمقاتلين الذين يستعينون بالله على محاربة عدوهم، ثم يليها استشارة القائد ضباطه لأخذ آرائهم، ثم الشجاعة والجرأة التي تنجم عن تعبئة روحية عالية، تكون النتيجة الظفر على الأعداء بإذن الله. ثم يلي ذلك وصف المعركة، ومنه: "وفي الحال أَطافت بالحصن المقاتلة من جميع أقطاره، ولبوا تلبية الحجيج، وكل يرمي جمرة سهم، وعبرت الآجال المسماة على قناطر القسي المحنية، وقدحت زنودها البيض شرار جمر المنية، فصارت الأبرجة كأنها مستلئمة   1 الجرخ (GARKH) مأخوذ عن الفارسية (تشرخTCHARKH) وهو نوع من القوس الرامي، ترمي عنه النشاط أو النفط، هكذا تصفه النصوص وهكذا وصفه دوزي بأنه: (UNEARBOLETE AVEC LA QELLE ON LANCAIT, SOIT DE FLECHES LE NAPHTE) وقد ذكر مرضي بن علي في تبصرة أبصار الألباب ص 6، 8 (أربعة أنواع للقوس الرامي الذي يشبه المنجنيق، وهو قوس الزياد، قوس العقاد، قوس الرجل، ويقال للذي يرمي عن قوسه السهام أو النفط ((الجرخي)) ، ويقابله بالفرنسية (ARBALETRIER) والجمع ((الجرخية)) ، وقد عقد الحسن بن عبد الله في كتابه آثار الأول ص 60 فصلا عن صفة القسي والنشاب، أضاف إليه فيه معلومات قيمة عن الشعوب التي تؤثر استعمال الجرخ، والقوس العقاد، وأين يستعمل كل منهما؟. لأن القوس الجرخ يصنع من القرن، والعقاد يصنع من الخشب.. الخ. 2 من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 77. 3 من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 78. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 138 بسلاحها، أو كأنها لكثرة ريش السهام طائرة بجناحها، أو كأنها صدور قد أظهرت حسك1 الضغائن، أَو كأن أبرجتها لازدحام السهام بها كتائن2، فنجدد عليهم حصر بان في البيوت بعد الحصر في المدينة، وضاق مجال اليد عن أنجاد خواطرها اللعينة المبينة، وفي الحال هجم الأولياء على الحوش، وحازوا الخندق وأطلقوا النيران فتبسطت خطواتها، وتسلطت سطواتها، وأحاطت بالأعداء خطياتها"3. ولم ير الصليبيون بداً من النجاة بأنفسهم إلى أسوار الحصن ليحموا أنفسهم وحصنهم حتى يأتي إليهم المدد من طبرية، غير أن المسلمين ألحوا في القتال رغبة في الوصول إلى نتيجة حاسمة قبل وصول المدد، وأدرك الليل قبل أن تتضح النتيجة فأمر السلطان صلاح الدين بالمبيت في الباشورة إلى الغد، وفي الصباح باشر النقابون تنقيبهم في أسوار الحصن وهي بالغة الفخامة. حتى بلغ طول النقب ثلاثين ذراعا في عرض ثلاثة أذرع، وحشى النقب بالحطب، وأشعلت فيه النيران فلم يسقط أيضاً. ولذا أمر السلطان صلاح الدين بإطفاء النار ليتم نقبه، وعاد النقابون إلى عملهم حتى خرَقوا السير وعمقوا الخرق، ثم حشوه بالقش والحطب وأشعلوا النار، فسقط السور يوم الخميس 24 ربيع الأول سنة 575 هـ= 30 أغسطس 1179 م. وكان الصليبيون قد جمعوا وراءه حطباً، فلما وقع السور دخلت الرياح فردت النار على من به، وأحرقت بيوتهم وطائفة منهم، واجتمع الباقون إلى الجانب البعيد من النار وطلبوا الأمان فأمنهم صلاح الدين. وغنم المسلمون مائة ألف قطعة من الحديد من جميع أنواع الأسلحة، عدا ألف زردية، فضلا عما كان في الحصن من أقوات كان الصليبيون قد اختزنوها استعدادا لمقاومة طويلة. ووجد السلطان صلاح الدين بداخل الحصن من أسرى المسلمين ما يزيد على مائة رجل، فأمر بنزع القيود من أرجلهم، ووضعها في أرجل الصليبيين المأسورين البالغ عددهم نحو السبعمائة. وتقدم السلطان صلاح الدين فاقتلع بيده الأحجار من أسها، ومحا حروف البنيان من طرسها، وطم جب الماء الذي حفره الصليبيون وسط الحصن، بأن ألقى فيه القتلى من الصليبيين والمحترق من دوابهم، واستمر مقامه ثلاثة أيام، إلى أن دمر ما كانوا يصنعون. وأعز الله الإسلام، وأمر أمره، ونصر الإيمان، وكان حقاً على الله نصره.   1 الحسك: أداة من أدوات الحرب. 2 الكتائن: مفردها كتانة: جعبة صغيرة من أدم للنبل. 3 من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 89. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 139 ثم سار صلاح الدين إلى أعماق طبرية وصور وبيروت، وأنزل بالصليبيين الذين احتلوها الهلاك وبحصونها الدمار، وثل عروشها. وأحل بالكفار الهزيمة المنكرة في ثلاثة أيام وهو في طريقه إلى دمشق. وعاد السلطان صلاح الدين إلى دمشق في يوم الخميس 19 ربيع الآخر سنة 575 هـ= 29 سبتمبر 1180 م بالنصر الظاهر. والظفر الباهر. فمدحه عدة من الأمراء والشعراء وهنأوه بالفتح1. والقاضي الفاضل يشيد بهذا الفتح الذي يعد فتوحا، قد ضاعف الله بها بهاء الإسلام والملة، وأن هذا الفتح كليلة القدر جمالا وبهاء وقدسية، وأنه قام مقام تجديد شباب الإسلام بل مقام مولده. ثم يعرج إلى مدح الخليفة العباسي من خلال تمجيده لهذا الفتح، فمن ذلك قوله: "وقد تخير الله له- أي الفتح- أفضل زمان، وتخير للزمن أفضل قائم، واشتملت أيامه على فتوحات يوصل منها كل خال بتال، ويتجدد منها كل قديم بقادم2. ويحسن القاضي الفاضل الانتقال إلى. موضوع قلج أرسلان إذ يقول: "وسقط جوده الفائض غرس إحسانه، بأعذب وأطهر من سلالة الغمائم، فلا يزال ذلك الغرس مستثمراً لا تخلف دلالته، وذلك الصفو جمالاً ينزف زلالته، غير أن الشوائب لا يخلو منها دهر، والعوارض لا يصفو منها صدر3". فقد كان قلج أرسلان سلطان السلاجقة بالروم، وأولياؤه بآسيا الصغرى ممن يكرهون قيام دولة كبيرة على أنقاض الدولة النورية4. فبينما كان السلطان صلاح الدين مشغولا بالصليبيين، تحرك قلج أرسلان نحو حلب، وحاصر حصن رعبان مدعياً أن نور الدين اغتصبه منه، وأن السلطان الصالح إسماعيل أمر برده إليه، ولم يقم صلاح الدين وزنا لهذا الادعاء، فكلف ابن أخيه تقي الدين عمر والأمير سيف الدين مشطوب بصده، وقد نجحا في مهمتهما، وقضيا على مطامعه التوسعية في تلك الجهة5.   1- ابن الأثير: الكامل جـ 11ص 301، 303، أبو شامة: الروضتين جـ 2 ص 11، 13، ابن واصل مفرج الكروب جـ 2 ص 83، 85، المقريزي جـ 1 قسم 1 ص 69، والعين جـ 21 قسم 3 ص 614. Lane. Poob: saladin p. 159. 2 من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 83. 3 نفس المرجع السابق. 4 الدكتور نظير حسان سعداوي: التاريخ الحربي المصري ص 51. 5 أبو شامة: الروضتين جـ 2ص8، 9، ابن كثير: البداية والنهاية جـ 12ص 2. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 140 ويوضح القاضي الفاضل أن السلطان صلاح الدين قضى بذلك على تطرف قلج أَرسلان وتطرفه في ادعائه المذكور، وأنه قطع عروة تعلقه بالفساد وبدد أحلامه التوسعية. ولم يكن أمام السلطان صلاح الدين غير هذا السبيل، فقد أتى قلج أرسلان بكبيرة يحل بها قتاله، وأقدم على عظيمة يجب بها استئصاله. وتوجب الضرورة حينئذ موادعة الكفار ليكون الذرع خاليا لأمره، والأمر مصروفاً عنانه إلى عقره، والرمح مسدداً سنانه إلى عقره1. والقاضي الفاضل يستكثر من قلج أرسلان أن يهاجم سلطنة صلاح الدين القاهرة، التي لم تجد خصما يقهرها، وينزل بأرضها. ولذا فقد قرر السلطان صلاح الدين أن يمهل العدو الصليبي، إلى أن يؤدب هذا المعتدي الباغي، الذي يشق عصا الطاعة على الإسلام بتعديه وظلمه. وقبل أن تنتهي هذه الرسالة يرد ذكر قاض كريم الخلال قائم بتبليغ هذه البشارة، ولكن لم يذكر اسمه، وإن كانت قد تحددت المهمة المنوطة به، فهو نائب عن السلطان صلاح الدين يشرح بلسانه ما جاء في الرسالة، والتعليق على بنودها من عنده. وعليه أن يؤدي تحية الخلافة والثناء للخليفة. وتختم هذه الرسالة بالدعاء هكذا: ((لازال المجلس السامي معان2 الأماني ومأواها. وموئل الرغبات ومثواها، ومجتبي ثمرات السعود ومجتلاها، وملقي رحال الندى ومبتداها إن شاء الله3. رسالة عن فتح آمد: وهذه الرسالة الطويلة كباقي الرسائل من هذا النوع، الذي يرسله القاضي الفاضل إلى الخلافة العباسية، كتذكرة بالأمجاد التي يؤديها السلطان صلاح الدين. ويطلب في أثنائها مجازاته بتقليده ما يفتحه من البلاد. وهو في مقدمتها يمدح الخليفة العباسي، الذي امتد نفوذه، واشتد سلطانه فالأخبار تتوالى عنده مبشرة بانتصار أوليائه. ثم يصف القاضي الفاضل شعور السلطان صلاح الدين عند ورود التقليد إليه بولاية آمد. فقد فرح به وتناوله وكأنه كتاب أنزل من السماء أو نور يمشي به بين الناس، وسار   1 من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 84. 2 في الأصل مغان، ولعل الصواب ما أثبتناه، فالمعاني يراد بها الصفات المحمودة. 3 من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 85. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 141 من توه لفتح آمد (بلاد بكر الحالية) ، فوصلها في يوم الأربعاء17 ذي الحجة سنة 578هـ= أبريل سنة 1183 م. ونرى القاضي الفاضل يسجل ما حدث قبيل الحرب في أمدا وينتقل بعدها لوصف المعركة نفسها، وما انتهت إليه. فقد أمر السلطان صلاح الدين أن تكتب الرقاع للآمديين يعدهم بالخير والإحسان إن أطاعوه، ويتهددهم إن قاتلوه، وانتظر ثلاثة أيام، وفي اليوم الرابع، أخذ في ردم أسوارها، إذ أرسل النقابين لنقبها، فما زالوا بها حتى نقبوها من عدة نواح، فضلاً عن رميها بالمجانيق. وهنا يتفنن القاضي الفاضل في تشخيص المعركة في أسلوب تشعر من خلاله بمدى ضراوتها، فهي كجهنم وقودها الناس والحجارة، وقد أزالت معالم المدينة، مثلما يزال جلد الشاة، والمنجنيقات تسقي الموت لأبرجتها ويعجز أهلها عن الذود عنها، والنقابون ينقبونها فيهتكون حجابها، فهو يصور في بلاغة، قوة البطش بها وبمن بداخلها. ثم تسلم السلطان صلاح الدين آمد بأموالها وذخائرها، ورفع أعلامه على أسوارها يوم 14 محرم 579 هـ= 6 مايو 1183 م، فقد فضل الآمديون التسليم على المقاومة. ويفتخر القاضي الفاضل بهذا الفتح المبين، وما تم بعد إحراز النصر المؤزر، فيقول: وهذه مدينة آمد، فهي مدينة ذكرها بين العالم متعالم، وطالما صادم جانبها من تقادم، فرجع عنها مفدوغا أنفه، وإن كان محلاً، وقرعها مزيداً بهجة، وإن استصحب حفلاً، ورأى حجرها فقد رأته لا يقال له حجر وسوادها فحسب أنه لا يتوشحه فجر، وحمية أنف أنفها فاعتقد أنه لا يستجيب لزجر، من ملوك كلهم طوى صدره على العليل إلى موردها، ووقف بها وقفة المحب المائد فلم يفز بما أمل من جواب معهدها1. ثم وهب السلطان صلاح الدين البلد بما فيه لنور الدين محمد بن قرج أرسلان2 وقد وعده بها من قبل3. وقضى السلطان صلاح الدين على الحلف الذي تزعم عز الدين مسعود صاحب الموصل، واشترك فيه إيغلازي بن ألبي بن تمرتاش صاحب ماردين، ومغيث الدين طغول شاه بن قلج أرسلان، صاحب أرزن، وغيرهم.   1- من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 71. 2 صاحب حصد كيفا، توفي سنة 581هـ = 1186م (النجوم الزاهرة جـ6ص98) . (3) Lane –Pool: saladin P. 170. ابن الأثير: الكامل جـ11ص320، أبو شامة جـ2ص41. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 142 ويطلب السلطان صلاح الدين في هذه الرسالة التقليد لا بالموصل وما علق به أهل الموصل، ذاكراً أن في ذلك خيرا كثيرا للدولة العباسية، حيث أنه لا يوجد بين ولاتها من له مثل فضله وأمجاده،. فيقول: ((هذه آمد لما أرسل إليه مفتاحها، وهو التقليد، فتحها، وهزه الموصل لما تأخر عنه المفتاح منعها وما منحها، ولو أعين به لعظمت على الإسلام عائدته، وظهر في رفع مناره فائدته. لأن اليد كانت تكون به على عدو الحق واحدة، والهمة لآلات النصر واجدة 1. ثم يبين للخليفة أن ذلك هو السبيل الوحيد إلى توحيد الأمة الإسلامية، والقضاء على الحروب الصليبية، والظفر بالمسجد الأقصى. وهو أغلى أمنية، فالسلطان صلاح الدين أبر أولياء الخليفة، وأشدهم على أعدائه، وأثبتهم رأياً وروية. ويعود إلى الدعاء ولكن في هذه المرة للدين، إذ يقول: أعاد الله يا أمير المؤمنين هدى الدين إلى معالم حقه، وأطال يد سلطانه الطولى إلى أن أخذ الأمور مأخذها2. وهو يريد أن يعود إلى الإسلام مجده التليد. ويختم رسالته هَكذا: (وللآراء علوها إن شاء الله 3". الأمة الإسلامية يقول لينين: (يمكن أن تتحول كل أمة إلى الشيوعية إلا الأمة الإسلامية، لذلك يجب العمل على تجريد المسلمين من إيمانهم أولاً..) . من كتاب (من الرق إلى السيادة) (لسامحة أي ويردي: التركية)   1- من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 72، 73. 2 من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 73. 3 نفس المرجع السابق اللوحة 73. الجزء: 57 ¦ الصفحة: 143 الرَّسَائِلُ الحَرْبيَّة في عصْر الّدوْلة الأيوبيَّة ثلاث رسائل إلى الملك العادل عن انتصار الأسطول المصري في البحر الأحمر : أرسل السلطان صلاح الدين رسالة بقلم القاضي الفاضل إلى أخيه الملك العادل أبي بكر, بشأن انتصار الأطول المصري بقيادة أميره حسام الدين لؤلؤ على الأسطول الصليبي , الذي جرؤ فعبر مياه البحر الأحمر , قاصدا مهاجمة مدينتي مكة والمدينة , وذلك في شوال سنة 578 هـ = فبراير 1183 م. تبتدأ هذه الرسالة هكذا: " وصل كتابك المؤرخ بخامس ذي القعدة المسفر عن المسفر من الأخبار , المتبسم عن المتبسم من الآثار , وهي نعمة تضمنت نعما , ونصرة جعلت الحرم حرما , وكفاية ما كان الله ليؤخر معجزة نبيه _ صلى الله عليه وسلم _ بتأخيرها , وعجيبة من عجائب البحر التي يتحدث عن تسييرها وتسخيرها " 1. وقد راعى القاضي الفاضل في هذه المقدمة الالتزام بالجناس والسجع كعادته. ثم يقول: " وما كان لؤلؤ فيها إلا سهما أصاب وحمد مسدده , وسيفا قطع وشكر مجرده … ركب السبيلين: براً وبحراً , وامتطى السابقين: مركبا وظهرا , وخطا فأوسع الخطو , وغزا فأنجح الغزو 2" وهو يبدى إعجابه بالبسالة الحربية والتضحية المالية التي بذلها المسلمون. ثم يتحدث عما يفعله مع الأسارى في هذه المعركة , فيقول: " وأما هؤلاء الأسارى فقد ظهروا على عورة الإسلام وكشفوها , وتطرقوا بلاد القبلة وتطوفوها , ولا بد من تطهير الأرض   1 أبو شامة: الروضتين جـ 2 ص 36 2 أبو شامة: الروضتين جـ 2 ص 36 الجزء: 58 ¦ الصفحة: 173 من أرجاسهم , والهواء من انفاسهم , بحيث لا يعود منهم مخبر يدل الكفار على عورات المسلمين"1 وفي هذه الرسالة يحذر المسلمين بعد هذا الانتصار الباهر من مكر الصليبيين وغدرهم , وهنا يحل حديثنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو: " لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين ".. ويقول: " ان اللدغة الأولى تكفي لمن له في النظر تفقه ". ثم يرسل إليه كتاباً ثانياً , والذي بين أيدينا منه قطعة فيها تهنئة بالظفر , ثم يأمره بالإسراع بقتل الأسارى , ليتعظ غيرهم بما نالهم , فليس في قتل هؤلاء الكفار مراجعة , ولا للشرع في إبقائهم فسحة , ولا في استبقاء واحد منهم مصلحة 2. فالله قد أباح قتلهم لغدرهم , أن الغرض من ذلك تهديد غيرهم , فالجرم الذي اقترفوه كبير , لولا لطف الله العلي القدير. ويلحق هذا الكتاب بثالث , ويستعجله فيه بضرورة القضاء عليهم ونصه " قد تكرر القول في معنى أسارى بحر الحجاز , فلا تذر على الأرض من الكافرين ديارا 3, ولا توردهم بعد ماء البحر إلا نارا , فأقلهم إذا بقى جنى الأمر الأصعب ’, ومتى لم تعجل الراحة منهم , وعدت العاقبة بالأشق الأتعب "4 وتنفيذ لأوامر السلطان صلاح الدين , تولى الصوفية والفقهاء قتلهم 5 جميعا, وهذه الرسائل الثلاث في قصرها تشبه البرقيات في عصرنا الحالي , كما أنها تدل على حنكة عسكرية من السلطان صلاح الدين القائد المظفر , إذ يرى ضرورة القضاء على هؤلاء الأسارى ’ شارحا في إيجار الدواعي التي من أجلها يأمر بالقضاء عليهم , وألا يستثنى من هذا الحكم أحدا منهم. وقد اهتم المؤرخون بالاحتفاظ بالرسالة الأولى كاملة تقريباً , أما الرسالتان التاليتان , فقد احتفظوا بقطعتين منهما. وكان لهذه السرعة وهذا الإيجار أثرهما في أسلوب هذه الرسائل , فالمقدمة في الكتاب الأول قصيرة , وأرجح أن مقدمة الكتابين التاليين كانت تنهج نفس السبيل , ولم تسهب الرسالة الأولى في وصف سير المعركة , وكذلك بالنسبة لوصف الأسارى والانتصار عليهم , وطلب السلطان صلاح الدين القضاء عليهم.   1 نفس المرجع السابق. 2 أبو شامة: الروضتين جـ 2 ص 36. 3 سورة نوح آية 26. 4 أبو شامة: الروضتين جـ 2 ص 36 , 37. 5 أبو شامة: الروضتين جـ 2 ص 35 الجزء: 58 ¦ الصفحة: 174 وفي الكتابين التاليين في القطعتين الباقيتين عبارات قصيرة. تنصب كلها على الهدف المباشر وهو التخلص من الا ساري في كلمات قليلة واضحة. ولم تلجا القاضي الفاضل فيها إلى إستعارة أو كناية. فالوقت لا يسمح بذلك. هذا تخلاف ما سنجده في كتبه إلى الخليفة في هذا الموضوع. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 175 كتابان إلى الخليفة في بغداد بشأن الموقعة السابقة : في كتاب الروضتين قطعتان من رسالتين. أرسلهما السلطان صلاح الدين إلى الخليفة في بغداد. بشان انتصار الأسطول المصري في البحر الأحمر.سنة 578هـ=1183م. والذي قد سبق أن كاتب أخاه العادل عنه. في القطعة الأولى: يذكر السلطان صلاح الدين للخليفة تفصيلات المعركة الحربية. ويكشف عن مخططات العدو الغادر. وما لحقه من هزيمة منكرة: (كان الفرنج قد ركبوا من الأمر تكراً، وافتضوا من البحر بكراً. وعمروا مراكب حربية شحنوها بالمقاتلة والأسلحة والأزواد، وضربوا بها سواحل اليمن والحجاز. واثخنوا وأوغلوا في البلاد) فقد قطع ارناط غابات إقليم الكرك وأكثر نخيل العريش. وحمله إلى حصن الكرك. وعهد إلى دير الرهبان بصنع بعض المراكب 2. كما عهد إلى صليبي عسقلان بصنع البعض الآخر، حتى توافر لديه خمس سفن حربية كبيرة. وعدد كبير من المراكب الخفيفة. ونقلها جميعها مفككة على جمال البدويين إلى الساحل بعد أن أغراهم بالمال 3. ثم ركب المراكب ودهنها باللون الأسود وشحنها بالرجال وآلات القتال 4 وأقف منها مركبين على جزيرة قلعة أيلية، تمنع أهلها استقاء الماء ومضى الباقون في مراكبهم إلى عيذاب 5. وفي لبر سير ارناط عسكره إلى تبوك ليحول دون وصول أي مدد عسكري يطلبه نائب القلعة من الشام أو مصر واتخذ أرناط سبيله في البحر سلباً ونهباً حتى وصل إلى عيذاب. وربما وصلت حملته جنوباً إلى باب المندب حتى عدن 6.   1 أبو شامة: الروضتين جـ ص 37. 2 ابن فضل الله: التعريف ص 193. والمقريزي: السلوك جـ 2 ص 74. 3 Lane poole: Saladin. p. 175 , Fuller: Deeisive Bettles. p. 2349 4 Lemb: The Flame of Islam. p. 59. 5 Lemb: Op. cit. p. 59. 6 المقريزي: السلوك جـ 1 ص 88. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 175 واشتدت مخافة المسلمين على مقدساتهم الدينية. خاصةً لما أحدثه الصليبيون في طريقهم من حوادث شنيعة. فقد أحرق الصليبيون نحو ستة عشر مركباً للمسلمين. وأذوا عند عيذاب مركباً يأتي بالحجاج من جدة، ومركبين آخرين كانا مقبلين بتجار وبضائع من اليمن، وأحرقوا أطعمة كثيرة على ساحل عيذاب. كانت معدة لمسيرة مكة والمدينة، هذا فضلاً عن حوادث القتل والأسر والتنكيل والإرهاب التي ارتكبوها في البر والبحر 1. وكان الأخ سيف الدين بمصر، قد عمر مراكب، وفرقها على الفرقتين، وأمرها ان تطوى وراءهم الشقتين 2 فقد بعث السلطان صلاح الدين إلى أخيه ونائبه بصر الملك العادل ابي بكر بن أيوب بتعمير الأسطول في مصر والإسكندرية. وقام العادل على تنفيذ تعليمات السلطان صلاح الدين خير مقام. فسافر إلى السويس بعد أن عهد إلى قائد الأسطول الشيخ حسام الدين لؤلؤ بحل المراكب مفككة على الجمال إلى تلك المدينة. وهناك أشرف على تركيبها في رمضان 578 هـ= يناير سنة1183 م وتعميرها بالرجال ذوي التجربة في شئون البحر وبخاصة المغاربة منهم. ثم يأتي وصف المعركة، فقد فرق لؤلؤ الأسطول إلى فرقتين. فصارت الأولى إلى قلعة أيلة’ واسولت على مراكب العدو برمتها، وقتلت اكثر مقاتلاتها إلا من تعلق بهضبة من الهضاب، أو دخل في شعب من الشعاب، وأولئك اقتفى العربان آثارهم، والتزموا إحضارهم، فلم ينج منهم الا القليل. أما الفرقة الثانية فذهبت إلى عيذاب، وأطلقت المأسورين من المسلمين، وردت عليهم ما سلب منهم، ولم تجد الصليبيين هناك، ثم رجع لؤلؤ إلى رابغ، وأدرك بعض الصليبيين معتصمين بساحل الحوراء 3, وكان عددهم ثلاثمائة ونيف رجل , انضم إليهم عدة من العربان , وعندما لحقهم لؤلؤ فرت العربان خوفا من سطوته , والتجأ الصليبيون إلى رأس جبل صعب المرتقى , وركب عشرة من المسلمين ورائهم خيل العرب 4, يقتنصونهم أسرى وقتلى.   1 المقريزى: الخطط جـ 4 ص 139. والسلوك جـ 1 ص 78. 2 أبو شامة: الروضتين جـ 2 ص 37. 3 أبو شامة: الروضتين جـ 2 ص 35. ابن خلدون: جـ 5 ص 219. 4 ابن ابيك: درر التيجان تحت أحداث سنة 578 هـ. والخطط المقريزية جـ 3 ص 118. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 176 وما زال لؤلؤ وأتباعه يتبعونه ليل نهار , حتى أدركهم بعد خمسة أيام على مسافة يوم من المدينة فأسلموا أنفسهم له , وعاد بهم لؤلؤ إلى مصر وفي أرجلهم القيود1. وتدور القطعة الثانية حول وصف سير المعركة الحربية , وتنقلها من بلد إلى بلد , وهي تتعقب الأسطول الصليبي , موقعة به الهزيمة الواحدة تلو الأخرى. تمتاز المكتبات إلى الخليفة بالطول بخلاف مكاتباته في هذا الشأن لأخيه الملك العادل , فالقطعتان اللتان بين أيدينا يجنح فيهما القاضي الفاضل إلى تفصيل الأمور , ويلجأ إلى المحسنات البديعية وعلى قمتها الاستعارة والكناية. ويحلل كذلك الناحية النفسية للمسلمين تجاه هذه الحملة الغادرة , فيقول: " واشتدت مخافة أهل تلك الجوانب بل أهل القبلة لما أومض إليهم من خلل العواقب , وما ظن المسلمون إلا أنها الساعة , وقد نشر مطوى منشور بساطها. وانتظر غضب الله لفناء بيته المحرم , ومقام خليله الأكرم , وتراث أنبيائه الأقدم , وضريح نبيه الأعظم _ صلى الله عليه وسلم _ ورجو أن تشحذ البصائر آية كآية هذا البيت , إذ قصده أصحاب الفيل , ووكلوا إلى الله الأمر , وكان حسبهم ونعم الوكيل "2. وهو كما نرى يلجأ إلى القران الكريم وإلى الصور الدينية ليرسم لنا انتصار المسلمين بعون الله في معاركهم الحربية , وهاهو يختم هذه الفقرة بقوله تعالى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَراً} (الزمر: آية 71) . يكنى بذلك عن قهر المسلمين لأعدائهم الصليبيين قتلا وأسراً.   1 الخطط المقريزية جـ 3 ص 139. 2 أبو شامة: الروضتين جـ 2 ص 37. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 177 رسالة تهنئة بفتح عسقلان 1: أرسل القاضي الفاضل هذه الرسالة إلى حسام الدين بن لاجين 2, وهو يستهل الرسالة بآية يشكر فيها ربه 0, على ما أنعم به من فتح هذه المدينة , وعلى أنها خلت من مشركيها وكفارها , الذين كانوا يحتلونها , فقد نصبت أعلام الإسلام على أبراجها وأسوارها,   1 عسقلان مدينة واقعة على ساحل فلسطين جنوبا (ياقوت: معجم البلدان جـ 2 ص 174) . 2 حسام الدين ابن لاجين: محمد بن عمر بن لاجين , توفي سنة 587 هـ =1192 م , والدته ست الشام بنت الأمير ناصر الدين محمد , صاحب حمى (ابن تغرى بردى: النجوم الزاهرة جـ 6 ص 246) . الجزء: 58 ¦ الصفحة: 177 وكبر المكبرون والمؤذنون في أقطار أرجائها , وزالت سمة الصلبان عن جهاتها وأنحائها , ورحل الناقوس عن فنائها , وعوض جامعها منها بمنبره 1. فقد اجتمع السلطان صلاح الدين بأخيه الملك العادل وولده العزيز عثمان على عسقلان في 16 جمادى الآخرة 583 هـ = 1187 م , وضرب عليها الحصار , حتى سلمت يوم 25 جمادى الآخر = 7 سبتمبر , وخرج أهلها بأموالهم سالمين إلى بيت المقدس , بعد حصار دام أربعة عشر يوما 2. ويشبه القاضي الفاضل فتحها على يد السلطان صلاح الدين , بفتحها على يد عمر بن الخطاب أمير المؤمنين , فإنه لما دنت منها جيوش الإسلام الناصرية , فر الصليبيون فرار النمل خوفا وفزعا , ولجأوا إلى الانحصار خلف الجدار , فماذا حدث؟ ويقول: نصبنا عليهم حينئذ آلات القتال , وأذقناهم من طعم الطعن الشديد الوبال , وأنزلنا عليهم غاشية3 من عذاب الله لا تسترك ولا تستقال.4 ثم أخذت جنود الملمين تثقب في عقبتها حتى هدمت وانمحت , وخربت الأبراج , واستباحت الحصن الذي كان حصينا , وطالما أعجز الأيام والأنام قهره. وهنا يلجأ الصليبيون إلى المصالحة وطلب الأمان , ويقبل المسلمون الصلح صيانة للمدينة من تخريب الناهبين , وحفظا لأبناء المسلمين. وكعادة القاضي الفاضل في رسائله عن الانتصارات الحربية يمدح الإسلام والمسلمين المنتصرين , ويذم الكفر والصليبيين المنهزمين , ويجنح إلى الاستعارة كقوله: " فما زالت سهامها تركع , وأحجارها تسجد " 5. كما أنه يلجأ إلى إثبات تواريخ تحرك الجيش والانتصارات التي يحرزها مثل قوله: " وجملة الأمر أن النزول عليها كان عشية الأحد السادس عشرة جمادى الآخرة. ونصبت الآلات يوم الثلاثاء ثامن عشرة , ووقوع نقوب الباشورة الكبرى يوم الأربعاء تاسع عشرة. وتسلم المدينة ونصب الأعلام عليها يوم السبت التاسع والعشرين 6 منها ". وهذا يضيف إلى الرسالة أهمية تاريخية , ونلاحظ أنه تخلى عن السجع ليثبت هذه التواريخ.   1 من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 70. 2 الحنبلي: شفاء القاضي ص 34. King: The KNIGHTS Hospitallenp. 130. 3 الغاشية: العقوبة. 4 من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 91 5 من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 91. 6 نفس المرجع السابق. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 178 وبعد هذا يقول: {هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} 1. وهو يقتبس من القران الكريم ليضفي على رسالته قوة الإيمان وجمال الأسلوب.   1 سورة النمل آية 40. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 179 الرسائل عن فتح القدس : صدرت الرسائل عن فتح القدس , سواء قبل الفتح أو بعده، إذ أن المعركة التي خاضها المسلمون لفتح القدس , والتي تعرف بموقعة حطين المشهورة , تعد الموقعة الفاصلة , التي انتصر فيها السلطان صلاح الدين على الصليبيين. وقد أرسل السلطان صلاح الدين إلى بعض إخوانه , وهو يجمع الجموع , ويحشد الحشود في سنة 582 هـ = 1187 م , استعداد لهذه الموقعة , جاء فيها: " كتبت هذه المكاتبة من جسر الخشب ظاهر دمشق , وقد زود السلطان أعز الله أنصاره للغزاة إلى بلاد الكفر , في عسكر فيه عساكر , وفي جمع البادي فيه كأنه حاضر , وفي حشد يتجاوز أن يحمله الناظر , إلى أن يحمله الخاطر , وقد نهضت به همة لا يرجى غير الله لانهاضها , وحجبت به عزمة الله المسؤول في حسم عوارض اعتراضها , وباع الله نفسا يستمتع أهل افسلم بصفتها , ويذهب الله الشرك بهيبتها "1. هذه الرسالة لم تصلنا كاملة , وهذه القطعة التي بين أيدينا جاء في نهايتها دعاء للقاضي الفاضل بأن تكون موقعة القدس الفاصلة في المعارك الدائرة بين المسلمين والصليبيين , وأن يستريح النفوس بهذا النصر. ويرسل السلطان صلاح الدين في سنة 583 هـ = 1188 م رسالى إلى الخليفة العباسي الناصر لدين الله يبشره بهذا الانتصار الرائع. وهذه الرسالة تعد أهم الرسائل الديوانية في عصر الدولة الأيوبية , لأنها تحمل البشرى إلى الخليفة العباسي بفتح القدس , الذي كان لفتحه رنة فرح في العالم الإسلامي كله. ولفتت هذه الرسالة نظر الباحثين في العصر الحديث , فاستشهدوا بها في كتاباتهم عن العصر الأيوبي , وعن أساليب الكتابة فيه , فمنهم الدكتور شوقي ضيف الذي يصف هذه   1 أبو شامة: الروضتين جـ 2 ص 75. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 179 الرسالة بأنها أروع أثر أدبي عنى القاضي الفاضل به وبتدبيجه 1. ومنهم الدكتور عبد اللطيف حمزة الذي تناول موضوع الرسالة بالتفصيل وركز تحليله بأنها تشتمل على وصف الحرب وآلاته وخاصة المنجنيقات , ثم ما ترتب عن هذه الموقعة من آثار , كما أنه اهتم بإظهار الصور البلاغية فيها 2, وكذلك ركز الأستاذ أنيس المقدسي على شرح أسلوب القاضي الفاضل من الناحية البلاغية3. يصف القاضي الفاضل العدو في هذه الرسالة بأنه في خوف وفزع , وسلاحه أصبح بلا جدوى , سيفه كالعصا , وصرعت عدده وكان الأكثر عددا وحصى , وكلت حملاته , وعثرت قدمه , والقاضي الفاضل يشخص ضعف أسلحته , فالسيف قد نام جفنه , والرماح جدعت أنوفها , فتطهرت الأرض المقدسة من رجسهم , وأصبحت بيوت المشركين متهدمة , وأصبحت نيوبهم متكسرة , وقد أجمعت جيوشهم على تسليم البلاد , وأذعنوا لكل ما طمع المسلمون فيه من شروط , فلم تنجهم سيوفهم , ولا وسعتهم دورهم وأفنيتهم , وضربت عليهم الذلة والمسكنة. ويصف لقاء صلاح الدين الأعداء ونصر الله له , فقد أمكنه من تقتيلهم وأسر بعضهم , والاستيلاء على أسلحتهم , ففي هذه المعركة أصابت سيوف المسلمين التفلق , والرماح تكسرت , وانطلقت السهام من أقواسها لتنهش فرسان المشركين وشجعانهم. وأسر ملكهم ومعه صليب الصلبوت , الذي كانوا يقاتلون تحته أصلب قتال وأصدقه , ويرونه ميثاقا يبنون عليه أشد عقد وأوثقه. وكذلك أسر المسلمون ساداتهم , ولم يفلت منهم إلا القومص بحيلته ومكره , ولكن أدركته المنية بعد أيام من هربه. ثم يلي هذا اللقاء الذي انكسرت فيه شوكة الأعداء , أن تسقط البلاد في يد السلطان صلاح الدين بلدا بلدا , ويرتفع الراية العباسية خفاقة عالية , وتبدل المذابح منائر والكنائس مساجد. ويبقى القدس وقد اجتمع منهم وبعيد , وظنوا أنها من الله مانعتهم , وأن كنيستها إلى الله شافعتهم.   1 الفن ومذاهبه في النشر العربي ص 371. 2 الأدب المصري ص 181 , 185. 3 تطور الأساليب النثرية ص 293 , 294. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 180 وبالرغم من استماتة الأعداء في القتال وتكاثرهم , واتخاذهم الأسوار المنيعة والأبرجة المنيفة , والودية العميقة , والأماكن الوعرة الحصينة , فقد نفذ السلطان برجاله إليهم , وأحاط بهم , فأخذوا يراسلونه بقصد مراوضته حتى تصلهم النجدة , ولكنه كشف حيلتهم , وأنزل الهزيمة الساحقة بهم , إذ أخذت المنجنيقات تضرب في جوانب السور , كما انطلقت سهامها تتخلل شرفاته كما يتخلل السواك ثنايا الفم , وكان المنجنيق في أثناء ذلك كله يعلو في السماء حينا , وينخفض إلى الأرض حينا كأنه النسر , واستطاع المنجنيق كذلك أن يشق فتحات الأبراج التي تتخلل السوار جميعها من الناس , كما خلا ميدان القتال نفسه من الجند , أما النقابون فقد استطاعوا أن يكشفوا النقاب عن هذه الحرب الزبون , يدكوا هذه الحصون حنى عادت سيرتها الأولى من الطوب والحجارة , ثم عاد المنجنيق إلى تلك الصخور التي أمامه بمعوله طحنا , وما زال يضربها ضربا حتى لم يعد لها أثر. وسمعت الصخرة الشريف لتلك الصخور أنينها واستغاثتها وحنينها , فرقت لها , وعجبت لخرابها , وعاد النقابون ففتحوا أبوابا أخرى في السور أيأست العدو من النجاة , وصاح الكاتب عندها: واحسرتاه 1.   1 الدكتور عبد اللطيف حمزة _ الأدب المصري ص 184 , 185. الجزء: 58 ¦ الصفحة: 181 رسائل بشأن حصنى الكرك والشوبك في عهد الملك عبد العزيز ... الرَّسَائِلُ الحَرْبِيِّة في عصر الدّوْلة الأيوبيَّة للدكتور محمد نغش أستاذ مساعد بكلية الشريعة بالجامعة رسائل بشأن حصني الكرك والشوبك في عهد الملك العزيز: وكما كتب القاضي الفاضل عن الكرك والشوبك في عهد السلطان صلاح الدين فكذلك نراه يكتب في عهد الملك العزيز ثلاث رسائل الأولى عن الكرك والثانية عن الشوبك والثالثة يرسلها عن طريق أحد العاملين في الديوان. فأما الأولى فيستهلها بدعاء طويل يستغرق نصف الرسالة تقريباً، ثم يزف إليه بشرى دنو النصر وينتقل بعدها إلى الغرض من الرسالة وهو وصف المعركة الحربية. فالمنجنيقات تهدم الأبراج المشيدة، وتدمر الأسوار الغليظة التي يشبهها بالسكارى في انهيارها، فقد أعطتها المنجنيقات بكفها الخمر التي فيها هلاكها، فلم تبق الحجارة الطائرة من هذه المنجنيقات حجارة قائمة في هذا الحصن، فقد انهدمت قواعده وأركانه. ثم يصف السبب الذي من أجله فتح الحصن فيقول: ولولا الخندق الذي … هو واد من الأودية واسع عميق لما تعذر الزحف إليهم والهجوم عليهم، ونرجو من الله الكريم تسهيل هذا الحصن العظيم، فتحه إنه جواد كريم 1. وأما رسالة الشوبك فالظاهر أنها قد تلت رسالة الكرك، إذ أنها تعد مكملة لها، ولذا لم تستهل بالدعاء كسالفتها، واستفتحت هكذا: " قد صدرت هذه المكاتبة إلى الحضرة دالة على ما نحن فيه من نعم الله تعالى مغتبطون وإنا بحمد الله مستظهرون وبنصره مستبشرون ولآلائه حامدون ولأعدائه مجاهدون، فأعمالنا لله بنيات خالصة وعزائمنا في سبيله مقدمه غير ناكصة " 2. ثم يعود ثانية إلى وصف الحصن الذي يحاصرونه فقد هدموه وقتلوا الكثير ممن فيه إلا أنه يبقى أمامهم عملية ردم الخندق الذي كانوا يلجأون إليه وتسويته بالأرض حتى يمكن الأخذ من العدو بالمخنق.   1 من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 34. 2 ناكصة: محجمة، يقال نكص على عقبيه أي رجع. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 162 ويختتم الرسالة بتصوير نهائي للموقف من القتال، فيقول: "فإن أبطأ العدو عن النجدة فالنصر سريع، والحصن ومن فيه صريع، والقلوب وارفة بحصول النجح، وقد علم كل منا أن متجره قد فاز بالربح، فما يسمع منا بحمد الله ملل ولا ضجر، ولا تسفر هذه النوبة إلا عن نجح وظفر1. يبدأ القاضي الفاضل رسالته الثالثة بمقدمة قصيرة، وهى:"أدام الله أيام المجلس، ولازالت مناقبه لزهر السماء مخجلة، ومكارمه في درجات المحامد متوغلة، وفواضله على أوليائه مفضلة، وسطواته بأعدائه منكلة "2. ثم يصف عمل المجانيق في الحصن في أسلوب من الجناس هكذا:"هدمت وهدت، وشدخت وسدت، ورضخت ورضت، وقوضت وأفضت، وقدحت وفدحت، ومحقت ومحت "3. ويضيف وصفا تفصيلياً لما أصاب الأعداء في أثناء تهدم الحصن، إذ يقول:"قد جمعت الحجارة في الإسقاط بين رؤوس الأبراج، ورؤوس الأعلاج، فرمت الشرار في الواقفين عليها لحمايتها، وأرت الفرنج باهتدائها إلى إرادتها غاية غوايتها، فما أخرج أحد منهم رأساً إلا دخل في عينه نصل، وما هجر قراب الإسلام سيف إلا وله مع رقاب الكفر عند قطعها وصل، وما على الحجر في الإسراف والتبذير حجر، والكل ليله من نقع الحوافر من سناء الأسنة فجر، ولقد أخذنا من القوم بالمخنق، وشرعنا في طم الخندق4. والنصر أشهر من نار على علم ... والحرب أقوم من ساق على قدم والقلعة سماء تمطر بحجارتها، وترمى شياطينها رجوم قوارير5 النفط بشرارها6. لم ترد الرسائل السالفة في المصادر التاريخية التي بين أيدينا، ولذا لم نستطع تحديد تاريخ حدوثها، كما أن القاضي الفاضل لم يشر إلى تواريخها كما يفعل في بعض رسائله من هذا النوع.   1 من ترسل القاضي الفاضل اللوحة 35. 2 نفس المرجع السابق. 3 نفس المرجع السابق. 4 طم الخندق: ردمه وتسويته بالأرض. 5 القوارير: الأوعية. 6 من ترسل القاضي اللوحة 35. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 163 ونلاحظ أن مقدمات الرسائل تختلف من حيث الطول والقصر طبقاً للمناسبة التي ترد فيها، فالقاضي الفاضل يطيل الدعاء في رسالته الأولى بينما لا يذكره في الثانية، وفي الثالثة يأتي به كلمات مقتضبة. والرسائل الثلاث تكمل بعضها حتى تكاد تكون رسالة واحدة ذات هدف واحد، وتتسم رسائل التهنئة في عهد الملك العزيز بقوة العبارة، واستخدام المحسنات البديعية، وعلى قمتها الجناس والاستعارة والسجع، كما أن الألفاظ منتقاة، فيها جزالة وفخامة تناسب موقف النصر وجو المعارك الحربية، وهى لا تختلف عن الرسائل التي كتبت للتهنئة في عهد السلطان صلاح الدين، فالكاتب واحد والأسلوب لم يتغير. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 164 كتاب المعظم توران شاه إلى جمال الدين يغمور نائب الشام بعد هزيمة الفرنج لدى المنصور سنة 684 هـ: 1251 م: جاء في هذا الكتاب: {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} 1 {وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ} 2. {وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ, بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ} 3. {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} 4. {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا} 5. نبشر المجلس السامي الجمالي، بل نبشر الإسلام كافة، بما من الله به على المسلمين، من الظفر بعدو الدين، فإنه كان قد استفحل أمره، واستحكم شره، ويئس العباد من البلاد، والأهل والأولاد، فنودوا: {لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} 6. ولما كان يوم الأربعاء مستهل السنة المباركة، تم الله على الإسلام بركتها، فتحنا الخزائن وبذلنا الأموال، وفرقنا السلاح، وجمعنا العربان والمطوعة، واجتمع خلق لا يحصيهم إلا الله تعالى، فجاءوا من كل فج عميق، ومن كل مكان بعيد سحيق. ولما رأى العدو ذلك أرسل يطلب الصلح على ما وقع عليه الإتفاق بينهم وبين الملك العادل أبى بكرة، فأبينا، ولما كان في الليل تركوا خيامهم وأثقالهم وأموالهم، وقصدوا دمياط   1 سورة فاطر آية 34. 2سورة الأنفال آية 10. 3 سورة الروم آية 4،5. 4سورة الضحى آية 11. 5سورة إبراهيم آية 34. 6سوره يوسف آية 87. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 164 هاربين، فسرنا في آثارهم طالبين، ومازال السيف يعمل فيهم عامة الليل، ويدخل فيهم الخزي والعار. فلما أصبحنا نهار الأربعاء قتلنا منهم ثلاثين ألفاً، غير من ألقى نفسه في اللجج. وأما الأسرى فحدث عن البحر ولا حرج، والتجأ الفرنسيس إلى المنية، وطلب الأمان فأمناه، وأخذناه، وأكرمناه، وتسلمنا دمياط بعونه وقوته وجلاله وعظمته1. هذا الكتاب هو آخر كتب التهنئة التي بين أيدينا عن العصر الأيوبي، والظاهر أنه كتب بقلم الملك المعظم، ولم يلتزم فيه السجع ولا المحسنات البديعية، ولكنه اقتبس من القرآن الكريم في افتتاح كتابه، حيث ذكر خمس آيات متتاليات، وكذلك ذكر آية سادسة في ثنايا كتابه، وتمتاز هذه الرسالة بأنها تسرد الوقائع في أسلوب تاريخي، الغرض الأول منه هو إثبات الحقائق في سهولة ويسر. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 165 كتب الإستغاثة: كتب السلطان صلاح الدين إلى الخليفة الموحدي بالمغرب: أرسل السلطان صلاح الدين إلى المنصور يعقوب بن يوسف بن عبد المؤمن، الخليفة الموحدي بالمغرب، ثلاث رسائل المقصود منها جميعها، استنجاد صلاح الدين بجيوش الخليفة في الحرب ضد الصليبيين، وفي أثناء قتاله معهم حول عكا. اثنتان من هذه الرسائل بقلم القاضي الفاضل، الأولى منها سنة ست وثمانين وخمسمائةْ (1191 م) ، ثم أرسل الرسالة الثالثة في نفس السنة، ولكن هذه المرة لم تكن برأي القاضي الفاضل مما جعله يحرر رسالة إلى السلطان صلاح الدين بشأنها، ويبين ما لا يرتضيه فيها. ويعقب هذه الرسائل رسالة بقلم القاضي الفاضل، مرسلة من السلطان صلاح الدين إلى شمس الدولة بن منقذ، سفيره إلى الخليفة الموحدي بالمغرب ينهى إليه أخبار القتال حول عكا.   1ابن تغري بردى: النجوم الزاهرة جـ 6،367. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 165 الرسالة الأولى : يبدأ القاضي الفاضل الرسالة بالدعاء للخليفة الموحدي، وينعته بسيدنا أمير المؤمنين، وسيد العالمين، وقسيم الدنيا والدين. ثم يبين السلطان صلاح الدين غرضه منها، وهو أن يشترك الخليفة الموحدي معه في الجهاد، ويفتخر بأمجاده في تطهير الأرضين المصرية واليمنية من الضلالة وكذلك تطهيره بيت المقدس من الصليبيين الذين كانوا يحتلونه، ويدنسون أرضه. فهناك غلب الشرك، وأنقلب صاغراً، واستجاش كافر من أهله كافراً، واستغضب أنفاره النافرة، واستصرخ نصرانيته المتناصرة1. فهم يجودون بأنفسهم وأولادهم، ويمدون الحملة الصليبية بأموالهم، كل خرج متطوعاً، وأهطع مسرعاً، وأتى متبرعاً، ودعا نفسه قبل أن يستدعى، وسعى إلى حتفها قبل أن يستسعى، حتى ظننا أن في البحر طريقاً يبساً، وحتى تيقنا أن ما وراء البحر قد خلا وعسا2. وهنا يهجم عليهم جيش السلطان صلاح الدين ويفتك بهم، ويضطرهم إلى اللجوء إلى الخنادق، وإلى نصب الستائر، ولكنه كل ما قتل منهم مائة، وصلت النجدة بألف. ثم يصف السلطان صلاح الدين خوفه من تكاثر الإمدادات لهم من البلاد الغربية، فيقول: " لا يؤمن على ثغور المسلمين أن يتطرق العدو إليهم وإليها، ويفرغ لها ويتسلط عليها والله من ورائهم محيط. وإذا قسمت القوة على تلقى القادم وتوقى المقيم، فربما أضر بالإسلام انقسامها، وثلمه والعياذ بالله انثلامها "3. وهو يمجد قوة المغرب البحرية، فمن ذلك قوله: "فلو بزقت فيهم بازقة غربية لأغرقهم طوفانها، ولو طلعت عليهم جارية بحرية، لنعقت فيهم بالشتات غربانها "4. وفي نهاية هذه الرسالة يمجد السلطان صلاح الدين الخليفة المغربي، ويستثير العاطفة الدينية فيه، ويعقد مقارنة بين أسطول المسلمين وأسطول الصليبيين، وهو يخشى أن ينتصر الكفر على الإسلام، ويدعو الله أن ينصر المسلمين بما يمدهم الخليفة المغربي من أسطوله البحري، ومدده العسكري.   1 القلقشندي: صبح الأعشى جـ 6ص 526. 2 نفس المرجع ص 527. 3 انثلامها: انكسارها (القاموس المحيط) . 4 القلقشندي: صبح الأعشى جـ6 ص 526، 530. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 166 الرسالة الثانية : يكرر القول فيها عن أمجاده السالفة الذكر، ولكن ببعض الإسهاب من أول وصوله إلى مصر، وإقامة الجمعة وعقد الجماعة فيها، وغزواته في مصر، التي كانت مقدمة لملك الشام الإسلامي باجتماع الكلمة عليه، ومقدمة لملك الشام الفرنجي بانقياد المسلمين له، واتفاق الملوك المجاورين على طاعته، وكذلك تفصيل غزواته ضد الفرنج وكسرهم الكسرة الكبرى في بيت المقدس، إلى غير ذلك من أخذ الثغور، وافتتاح البلاد، وإثخان القتل فيهم والأسر لهم. ثم يصف خروج النجدات الصليبية في كثرتها وقوتها ومنعتها، وغناها ومسارعتها ومبادرتها، وأنه لا يمضي يوم إلا مع قوة تتجدد، وميرة تصل، وأموال واسعة تخرج، ومعونات كثيرة تحمل. ويشير إلى أنهم حفروا خندقاً حول معسكرهم من البحر إلى البحر، وأداروا حولهم ومن وراء الخندق سوراً مستوراً بالستائر، ورتبوا على أبواب هذا السور جماعات مزودة بأدوات الحصار التي أخرجوها من مراكبهم1. وأنهم اغتنموا أوقاتاً لم تكن العساكر فيها مجموعة وارتادوا ساعات لم تكن الأُهُبُ فيها مأخوذة2، فقد انتقل معظم الجيش الصلاحي إلى الخروبة في 3 رمضان سنة 585 هـ= 15 أكتوبر 1189م بقصد إعادة ترتيب الجيش وتنظيمه وتقويته، أو لحلول رمضان شهر الصيام، أو لمجيء الشتاء بأمطاره وبرده! أو لغيبة الملك العادل بعساكره المصرية، أو للحمى التي أصابت السلطان صلاح الدين3 ثم يحكي للخليفة الموحدي أن أمر العدو قد تطاول، وأن خطبه قد تمادى لوصول النجدات المستمرة إليه، ومنها الحملة التي وفد على رأسها ملك الألمان في حشود كبيرة وأموال كثيرة. وبعدها يبين له حاجته إليه في تطويق العدو والقضاء عليه فيقول:"إن هذا العدو لو أرسل الله عليه أسطولاً قوياً مستعداً يقطع بحره، ويمنع ملكه لأخذنا العدو إما بالجوع والحصر، أو برز فأخذناه بيد الله تعالى التي بها النصر"4. والسلطان صلاح الدين يطلب منه المساعدة إما بالرجال أو بالمال إذا تعذرت المساعدة بالأسطول فيقول: " وإن كانت دون الأسطول موانع: إما من قلة عدة، أو من شغل هناك   1 العماد الأصفهاني: الفيح القسي في الفتح القدسي ص 179. 2 أبو شامة: الروضتين جـ2 ص 170. 3 العماد الأصفهاني: الفيح القسي في الفتح القدسي ص 179. 4 أبو شامة: الروضتين: جـ2 ص 171. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 167 بمهمة، أو بمباشرة عدو، ماتحصن منه العورة أو قد لاحت منه الفرصة، فالمعونة ما طريقها واحدة، ولا سبيلها مسدودة، ولا أنواعها، محصورة تكون تارة بالرجال وتارة بالمال1. ويلي ذلك تمجيد للخليفة الموحدي ويستثير فيه حمية الإسلام، ويعقد مقارنة بين الكفار في حربهم لنصرة الكفر، والمسلمين في حربهم لنصرة الإسلام، وأن أهل الجنة أولى بقتال أهل النار، وأنه يطلب نجدة مغربية بحرية، لما للمغاربة في البحر من قوة ضاربة. وتختلف الرسالة الثانية عن الأولى في أن السلطان صلاح الدين يريد أن يزيل أسباب التوتر في العلاقات بين المغاربة والدولة الصلاحية، وهو يوصى رسوله بأن يشرح للخليفة الموحدي براعه الدولة الصلاحية مما نسب إليها، وقد سبق الإشارة إليه في الكلام عن الوصايا. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 168 الرسالة الثالثة : جاء فيها بعد التحية التي زاد فيها السلطان صلاح الدين وأفاض، تحديد ما فتحه من بلاد الشام، كما حدد الباقي منها في يد الصليبيين وهى: ثغر طرابلس، وصور، ومدينة أنطاكية، وهو يرجو الله أن يفك أسرها. ثم يشير إلى النجدات التي لبت صرخة الصليبيين في الشام، فأخرت فتح بقية البلاد التي في أيديهم، ويذكر مجيء ملك الألمان إليهم في البر والبحر بأعداد مهولة. ويقول:" إن عدة الأعداء مائة ألف أو يزيدون، وأنه حاربهم بأصدق عزيمة، حتى أصبحوا لا يستطيعون قتال الثغر، لأنهم محصورون أشد الحصر، غير أنهم خندقوا أو سوروا ". وخرج ملك الألمان قاصداً الشام، فبعث إليه صلاح الدين من يلقاه، ويضطره إلى تغيير مساره، سالكاً مسلكاً وعراً، فأدركه الموت غرقاً، وبقي له ولد هو الآن المقدم والمؤخر، وقائد الجمع المكسر، فيعود إلى عكا في البحر تهيباً أن يسلك البر. وقبل أن ينهى صلاح الدين رسالته يقول: "كان المتوقع من تلك الدولة العالمية، والعزمة الفادية، مع القدرة الوافية، والهمة المهدية الهادية، أن يمد غرب الإسلام المسلمين بأكثر مما أمد به غرب الكفار الكافرين فيملأها عليهم جواري كالأعلام، ومدنا في اللجج سوائر كأنها الليالي مقلعة بالأيام، تطلع علينا معشر الإسلام آمالاً، وتطبع على الكفار آجالاً ".   1 نفس المرجع السابق. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 168 وكان سفير السلطان صلاح الدين، أو الممثل الشخصي له على حد قولنا الآن إلى ملك المغرب، هو الأمير أبو العزم عبد الرحمن بن منقذ، وقد ورددت في الرسالة كلمة تشيد بمكانته، وعلو منزلته، مما سبق الإشارة إليه في الوصايا، وصحبت هذه الرسالة هدية، وفصلت محتوياتها1. وتختم هذه الرسالة بخاتمة طويلة لم نعهد مثلها فيما قبل سواء في المكاتبات المرسلة إلى الخليفة العباسي أو الخليفة المغربي، ونصها: "والسلام الصادر عن القلب السليم، والود الصميم والعهد الكريم، على حضرة الكرم العلية، وشدة السيادة الجلية، سلام مودة ما وفد الغرب قبلها مثلها، ورسالة ما خطرت إلى أن نفذت وراءها المحبة رسلها، وليصل السلام ورحمة الله وبركاته، ورضوانه وتحياته، إن شاء الله تعالى2. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 169 رسالة إلى سفير السلطان صلاح الدين في المغرب : أرسل القاضي الفاضل عن السلطان صلاح الدين إلى شمس الدين ابن منقذ في المغرب ينهى إليه أخبار القتال حول عكا. فيخبره أن عدة من قتل على عكا من الفرنج تجاوز الخمسين ألفاً، وأن ملكي فرنسا وإنجلترا وملوكا آخرين أسرعوا لنجدة الصليبيين في قوة هائلة، فيها سفن الواحدة كأنها مدينة وفيها الخيول والخيالة. ويصور له ثبات المقاتلين المسلمين أمام هذه الجيوش الكبيرة فيقول:" فما وهنَّا لما أصابنا في سبيل الله وما ضعفنا، ولا رجعنا وراءنا ولا انصرفنا، بل نحن بمكاننا ننتظر أن يبرزوا فنبارزهم، ويخرجوا فنناجزهم، وينشروا فنطويهم، وينبثوا فنزويهم، وأقمنا على طرفهم، وخيمنا على مخنقهم، وأخذنا بأطراف خندقهم "3 ولكنه يريد منه أن يبلغ المغاربة أن الجيوش العربية في المشرق العربي في حاجة إلى نجدتهم، حتى يقفوا في مواجهة هذه الدول المجتمعة على حربهم، الراغبة في الاستيلاء على بلادهم. ثم يقول في نهاية رسالته: "والأمير يبلغ ما بلغه من خطب الإسلام وخطوبه، ويقوم في البلاغ يوم الجمعة مقام خطيبه"4.   1 أبوا شامة: الروضتين جـ 2 ص 171،173. 2 أبوا شامة: الروضتين جـ 2 ص 173. 3 أبوا شامة: الروضتين جـ 2 ص 188. 4 أبوا شامة: الروضتين جـ 2 ص 189. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 169 وهذه العبارة تدل على أن الدولة الأيوبية كانت تتبع أسلوب الإذاعة لقضاياها ليس في داخل البلاد فحسب، بل على المستوى الخارجي، وذلك بغرض الحصول على تأييد مادي ومعنوي من الشعوب الأخرى، وعلى الصعيد الشعبي في خطبة يوم الجمعة. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 170 رسالة إلى الخليفة العباسي بشأن ملك الألمان : يبدأ القاضي الفاضل الرسالة بالدعاء كعادته، وهو دعاء قصير، جاء في نهايته: "ولا زالت رايته السوداء بيضاء الخبر، محمرة المخبر في العداة، مسودة الأثر"1 والراية السوداء كما نعرف كانت شعار الخلافة العباسية، وهو هنا يطابق بين هذه الكلمة وكلمة بيضاء، ويكنى في العبارة التالية عن الإنتصار على الأعداء وينتقل إلى وصف كتاب الخليفة فيشبهه بالقرآن الكريم، وأن السلطان يتقبله بالخشوع، ويتلوه على أعوانه مسترهفاً به لعزائمهم. مستجزلاً به لمغانمهم، فهو بمثابة النور لهم يهديهم يوم نزال عدوهم، ويشبه تأثيره بثلاث جمل مترادفة تؤدي معنى واحداً، فأثر الكتاب فيهم، كالإقتداح في الزند، وكالإنبجاس من الصلد، وكالإستدلال من الغمد2 ويعود إلى التشبيه ثانية فيقول: "وكأنما أعطوا كتاباً من الدهر بالأمان، أو سمعوا منادياً ينادي للإيمان"3. ثم يتبع ذلك بعدة استعارات وكنايات مترادفة يبين فيها مكانة أتباع السلطان في الجهاد في سبيل الله ورسوله وخليفته العباسي وفي آخر هذا الوصف يقول: "وإذا رموا فأصابوا قالوا: ولكن الله رمى"4. محللاً بذلك لآية من القرآن الكريم. ثم هو يشكو للخليفة على لسان السلطان صلاح الدين من طول المدة والكلف الثقيلة التي يتكبدونها في قتالهم الشرس المرير، ويكنى عن ذلك بهذه العبارات:" فالبرك قد أفضوه، والسلاح قد أخفوه، والدرهم قد أفنوه"5. ويستنجد بالخليفة فيقول: " والخادم يناشد الله المناشدة النبوية في الصيحة البدرية، اللهم إن تهلك هذه العصابة، ويخلص الدعاء، ويرجو على يد أمير المؤمنين الإجابة"6.   1القلقشندي صبح الأعشى جـ 7 ص 127. 2القلقشندي صبح الأعشى جـ 7 ص 127.. 3 نفس المرجع السابق. 4القلقشندي صبح الأعشى جـ 7 ص 128.. 5 نفس المرجع السابق. 6القلقشندي صبح الأعشى جـ 7 ص 127.. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 170 ونرى القاضي الفاضل يحل حديثاً نبوياً، ليزيد عبارته حسناً في الأداء، وجمالاً في تأدية المطلوب، بعقد مقارنة لطيفة بين دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، ودعاء السلطان صلاح الدين. ثم يصف الكاتب موقف المسلمين تجاه هذا الحشد الجامع فيقول:"هذا والساحل قد تماسك، وما تهالك، وتجلد، وما تبلد، وشجعته مواعد النجدة الخارجية، وأسلته عن مصارع العدة الدارجة، فكيف به إذا خرج داعية الألمان، وملوك الصلبان، وجموع ما وراء البحر، وحشود أجناس الكفرة. وقد حرم باباهم- لعنة الله عليهم وعليه- كل مباح، واستخرج منهم كل مذخور، وأغلق دونهم الكنائس، ولبس وألبسهم الحداد، وحكم عليهم أن لا يزالوا كذلك أو يستخلصوا المقبرة، ويعيدوا القمامة أو {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ} 1. ويستمر القاضي الفاضل في استخدام الكناية عن ثبات أتباعه، ثم يعرج على وصف خروج ملك الألمان وملوك الصلبان ومن تبعهم، وجمعهم الأموال الجمة في مظاهرة صليبية ذات صبغة دينية، وهنا يقتبس القاضي الفاضل آية من القرآن الكريم ينهي بها هذه الفقرة، وهى تدل على حسن الاختيار. ويعقب بالدعاء على ملك الألمان بأن يخذله الله، وأن ينصر المسلمين وما النصر إلا من عند الله، وأن لا يكشف عجزهم أمام عدوهم اللعين. وإزاء هذا الموقف يعود القاضي الفاضل ثانية ليسهب فيه، فهذه الحملة الصليبية جاءت طامعة في حشود كثيرة، مما يستفرغ عزائم المسلمين، ويستنفذ خزائنهم، وأن من واجب الخليفة بصفته الدينية أن يحفظ على الأمة الإسلامية قبلتها، وأن ينزل بالصليب الهزيمة وأنه لولا اتخاذ الخليفة الكلام على محمل التجريح لأفاض القاضي الفاضل فقال: "ما يبكي العيون، وينكي القلوب، وتنشق له المرائر، وتشق له الجيوب"2. وهو يشير بذلك إلى الحالة السيئة التي آل إليها الأمر، والتي تستوجب إثارة النزعة الدينية لدى الخليفة العباسي. ثم يصف موقف السلطان صلاح الدين البطولي هو وأخيه وأولاده، وأنه يفوض أمره إلى الله، ثم يعود إلى طلب النجدة من الخليفة، فيقول:"إن لم يشتك الدين إلى ناصره والحق إلى من قام بأوله والى اليوم الآخر يقوم بآخره، فإلى من يشتكى البث، وعند من   1 سورة الأنفال آية 48، والفقرة عن القلقشندي: صبح الأعشى جـ 7ص 128. 2 القلقشندي: صبح الأعشى جـ 7 ص 129. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 171 يتفرج بالنفث؟. ومنفعة الغوث قبل العطب، والنجاة قبل أن يصل الحزام (الطبيين) والبلاغ يقبل أن يصل السيل الزبي "1. وفي نهاية هذه الفقرة يستخدم القاضي الفاضل مثلين معروفين لتوضيح كلامه. وقبل أن يختم رسالته يخبر السلطان الخليفة أنه كان يود أن يأتي له، ولكنه خاف أن يقول عنه عدو الله: أنه فر، ولذا يريد من الخليفة أن يعده قد حضر بنفسه، وكأنه قد وقف بباب الخليفة ضارعاً، وناجي بالقول صادعاً. والسلطان صلاح الدين على الرغم من عض الزمان له، لا يزال قائماً حتى ينصر أو يعذر، وأنه لا يصل العدو إلى حرم ذرية أحمد صلى الله عليه وسلم، ومن ذرية أيوب وأحد يذكر. ويختم القاضي الفاضل رسالته بالدعاء للخليفة هكذا:"أنجز الله. لأمير المؤمنين مواعد نصره: وتم مساعدة دهره: وأصفى موارد إحسانه وأرسى قواعد سلطانه! وحفظه وحفظ به. فهو خير حافظاً، ونصره ونصر على يديه. فهو أقوى ناصراً. إن شاء الله "2. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 172 مكاتبات من القاضي الفاضل إلى الملك العادل بدمشق في الجهاد في سبيل الله : في سنة 593 هـ: 1197 م أرسل القاضي الفاضل رسالة إلى الملك العادل بدمشق يحثه على قتال الفرنج، ويشكره على ما هو بصدده من محاربتهم، وحفظ حوزة الإسلام، فمن ذلك قوله في بعض تلك الكتب: "هذه الأوقات التي أنتم فيها عرائس الأعمار، وهذه النفقات التي تجري على أيديكم مهور الحور في دار القرار، وما أسعد من أودع يد الله ما في يديه، فتلك نعم الله عليه، وتوفيقه الذي ما كل من طلبه وصل إليه، وسواد العجاج في هذه المواقف بباطن ما سودته الذنوب من الصحائف، فما أسعد تلك الوقفات، وما أعود بالطمأنينة تلك الرجعات". وكتب أيضاً في تلك السنة:" أدام الله ذلك الاسم تاجاً على مفارق المنابر والطروس، وحياة للدنيا وما فيها من الأجساد والنفوس، وعرف الملوك من الأمر الذي اقتضته المشاهدة، وجرت به المعاقبة في سرور". ولو كان فيها تدبير لكان مولانا سبق إليه، ومن قلم من الإصبع ظفراً فقد جلب بنعله نفعاً، ودفع عنه ضرراً، وتجشم المكروه ليس بضائر، إذا كان ما جلبه سبباً إلى المحمود وآخر سنوه أول كل غزوة، فلا يسأم مولانا نية الرباط وفعلها وتجشم الكلف وعملها، فهو إذا   1 القلقشندي: صبح الأعشى جـ 7 ص 129. 2 القلقشندي: صبح الأعشى جـ 7 ص 130. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 172 صرف وجهه أوجه واحد، وهو وجه الله، صرف الوجوه إليه كلها {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} 1 2. صدرت المكاتبتان المذكورتان في عهد الملك العزيز بن السلطان صلاح الدين، وهو يستنجد بالملك العادل الذي تولى حكم الشام سنة 592 هـ: 1196 م، والقاضي الفاضل يذكره بالثواب العظيم في الدنيا والآخرة، فالجهاد هو مهور الحور في دار القرار، وفي الدنيا نتيجته محمودة وخيره عميم، فالمجاهد إذا قصد وجه الله الواحد، فوجوه البرية تتجه إليه بأسرها. ويختم كتابه الثاني بآية من القرآن الكريم تناسب ما ورد في المكاتبتين " بل إن هذه الآية وحدها، فيها إشارة إلى كل ما جاء في الرسالتين. إندونيسيا في أرقام * يبلغ عدد سكانها: 139 مليون، منهم 90%مسلمون 6%نصارى 4%هنادكة وبوذيون ووثنيون. * مساحتها: 735.000 ميلاً مربعاً، وعدد جزرها: 13.577 جزيرة منها 6000جزيرة عامرة بالسكان. * دخلها الإسلام في القرن الأول الهجري على يد التجار.. * عاشت في ظل الإسلام حوالي عشرة قرون، ثم خضعت للاستعمار الهولندي (350) عاماً وتحررت منه عام 1945م * عاصمتها جاكرتا، وأهم جزرها سومطرة، جاوه، كاليمنتان، ولاويسي، ايريان، ونظام الحكم فيها جمهوري. * في جاكرتا 1354مسجداً بالإضافة إلى 4000مصلى عدا 2898مجلساً تعليمياً و200مكتبة إسلامية. * يبلغ عدد المساجد في اندونيسيا 92007 مسجداً و312565 مصلى. * فيها 10069 كنيسة 27424مبشراً بالإضافة إلى مئات المدارس والمؤسسات التبشيرية.   1 سورة العنكبوت:69. 2 ابن كثير: البداية والنهاية جـ 13 ص 14. الجزء: 59 ¦ الصفحة: 173