الكتاب: مختصر معارج القبول المؤلف: أبو عاصم هشام بن عبد القادر بن محمد آل عقدة الناشر: مكتبة الكوثر - الرياض الطبعة: الخامسة، 1418 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي] ---------- مختصر معارج القبول هشام آل عقدة الكتاب: مختصر معارج القبول المؤلف: أبو عاصم هشام بن عبد القادر بن محمد آل عقدة الناشر: مكتبة الكوثر - الرياض الطبعة: الخامسة، 1418 هـ عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي] ـ[مختصر معارج القبول]ـ المؤلف: أبو عاصم هشام بن عبد القادر بن محمد آل عقدة الناشر: مكتبة الكوثر - الرياض الطبعة: الخامسة، 1418 هـ عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع، وهو مذيل بالحواشي] مقدمة مختصر معارج القبول إن الْحَمْدُ للَّه نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ باللَّه من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّه فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هادي لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّه وَحْدَهُ لا شريك له وأشهد أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الفَه حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون) (1) (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالًا كثيرا ونساء واتقوا اللَّه الذي تساءلون به والأرحام إن اللَّه كان عليكم رقيبًا) (2) . (يا أيها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّه وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّه وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) (3) . أما بعد: فإن كتاب مَعَارِجَ الْقَبُولِ بِشَرْحِ سُلَّمِ الْوُصُولِ إِلَى عِلْمِ الأصول في التوحيد من الكتب العظيمة النافعة في أمر العقيدة الصحيحة، عقيدة السلف الصالح رضوان اللَّه عليهم، وهو من الكتب المحببة إلى نفسي، وكذا مؤلفه الشيخ الفاضل حافظ بن أحمد حكمي رحمه اللَّه رحمة واسعة، فقد كنت أشعر أثناء قراءتي لهذا الكتاب القيم أنني أقرأ لعالم من علماء السلف الأولين، وطريقة التصنيف وما فيها من الحشد الهائل للنصوص والآثار توحيِ بذلك، فجزى اللَّه الشيخ خير الجزاء وجعل عمله ذلك في ميزان حسناته.   (1) آل عمران: 102. (2) النساء: 1. (3) الأحزاب: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وقد كنت أثناء دراستي لهذا الكتاب أقوم بتلخيصه، حتى اكتمل عندي ملخص له، ثم قدر اللَّه عز وجل أن اطَّلع عليه بعض إخواني في اللَّه فأعجبهم وحثوني على طبعه ونشره ليكون فيه تقريب للأصل (معارج القبول) لعدد أكبر من المسلمين في هذا العصر، فعزمت على ذلك متوكلًا على اللَّه عز وجل، وقمت بإعادة كتابة ذلك التلخيص بصورة أفضل وراعيت فيه الأمور التالية إتمامًا للفائدة: - حرصت على أن يكون ما في هذا المختصر من أَحَادِيثِ رَسُولِ اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من الأحاديث المقبولة، فما عزاه المؤلف للصحيحين- صحيحي البخاري ومسلم- أو أحدهما اكتفيت فيه بمراجعة مكتب التحقيق العلمي بدار الصفوة بالقاهرة للحديث فيهما فما كان من استدراك أُشِير إليه في الهامشة، وما عزاه لغيرهما أو لم يذكر تخريجه اكتفيت ببيان العلماء لدرجته من الصحة، وإن وجدته في الصحيحين أو أحدهما اكتفيت بنسبته إليهما مع بيان موضعه، وفي أغلب التحقيقات كنت أنقل كلام المحدث الفاضل الشيخ الألباني حفظه اللَّه لسهولة الأخذ من كتبه ولتوفر كثير منها بين يدي. وكان هدفي في هذا المحتصر بالنسبة للأحاديث بيان درجتها من الصحة، ولم أقم بتخريجها خشية الإطالة التي قد لا تتناسب مع هذا المختصر. - أضفت قليلاً من التعليقات لبعض العلماء في بعض المواضع لما فيها من الفائدة التي يحتاج إليها، وبينت معاني بعض الكلمات حيث دعت الحاجة إلى ذلك، وضبطت بعضها بالشكل. - حرصت على الإبقاء على أسلوب المؤلف وعباراته- في الغالب- ليكون أبعد لي عن الخطأ والافتئات عليه رحمه اللَّه، ولما كنت غير ملتزم بشرح أبيات المتن جعلت الأبيات في آخر كل موضوع أو عدد من الموضوعات كشواهد لما سبق. ولم أكن ملتزمًا في تقسيم الموضوعات بنفس طريقة الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 - ذيلت كل موضوع أو عدد من الموضوعات ببعض الأسئلة لإعانة القارئ أو الدارس على مراجعة استيعابه وتحصيله وتركيز معلوماته (1) . هذا وأوصي من يقرأ هذا المختصر أن لا يهمل الأصل أعني كتاب معارج القبول فهو أشمل وأغزر في مادته العلمية ولتكن فائدة المختصر التمهيد لقراءة الأصل واستيعاب ما فيه، وإني لأعلم أنه ما من كتاب إلا وفيه نقص أو عليه استدراك ولذا فأنتظر من أساتذتنا وعلمائنا المحبين لعقيدة السلف أي تنبيه أو نصيحة أو تصحيح لخطأ، كما أنتظر ذلك أيضًا من إخواني طلبة العلم، ويرسل ذلك على عنوان الناشر ليمكن تداركه فيما يجدّ من طبعات إن شاء اللَّه عز وجل. وختامًا أسأل اللَّه عز وجل أن يكون هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن ينفع به كاتبه وقارئه يوم يقوم الناس لرب العالمين، وأن يُجري علي ثوابه بعد موتي، وأن يجزي كل من ساعدني من الإخوة الأحباب على إتمامه خير الجزاء، وأن يجزل الثواب لوالديّ اللذين حببا إليّ الدين في طفولتي، وللدعاة الذين حببوا إليّ العلم وعقيدة السلف الصالح وربّوني على منهج أهل السنة والجماعة منذ الصبا. (ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) (2) . وصلى اللَّه وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أبو عاصم دمنهور/ في: مساء الجمعة 21 رجب 1410 هـ 16 فبراير 1990 م   (1) أما ما كان من تعليقات مكتب التحقيق فقد أشير إليها بـ (مكتب) أو (م) . (2) إبراهيم: 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 بسم الله الرحمن الرحيم (مقدمة) مقدمة كتاب معارج القبول هذه المقدمة تضمنت عدة مسائل وهي: أ-أن الله تعالى خلق الخلق لعبادته : والأدلة على ذلك كثيرة، منها: 1- قوله تَعَالَى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (1) . 2- أن ذلك مقتضى حكمته سبحانه وتعالى، فمحال أن يخلق هذا الخلق ويزوده بالروح والعقل عبثاً دون عمل ودون بعث وحساب على ذلك العمل، قال تعالى: {أفحسبتم أنما خلقنانكم عبثاً .... } (2) . ب-أنه سبحانه وتعالى سيبعث هؤلاء الخلق بعد الموت ليحاسبهم بمقتضى تلك العبادة: فذلك بمقتضى عدله، قال تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ ساء ما يحكمون * وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نفس بما كسبت وهم لا يظلمون} (3) ، {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا من النار * أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} .   (1) الذاريات:56. (2) المؤمنون: 115. (3) الجاثية: 21، 22 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 ج-تعريف الْعِبَادَةَ: اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ ويرضاه من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة (1) . وَجُمَّاعُ الْعِبَادَةِ كَمَالُ الْحُبِّ مَعَ كَمَالِ الذُّلِّ (2) . د-أخذ الله تعالى على بني آدم ثلاثة مواثيق: 1- الميثاق الأول: الذي أخذه الله عَلَيْهِمْ حِينَ أَخْرَجَهُمْ مِنْ ظَهْرِ أَبِيهِمْ آدَمَ ثم من ظهور بعضهم بعضاً، وهو المذكور فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى شهدنا} (3) . أو {..قالوا بلى} وتكون كلمة {شهدنا} من كلام الله تعالى، بمعنى أنه سبحانه شهد عليهم وملائكته {شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عن هذا غافلين} . 2- ميثاق الفطرة: أَنَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَطَرَهُمْ شَاهِدِينَ بِمَا أَخَذَهُ عَلَيْهِمْ فِي الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا * فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} (4) وهو الثابت في الصحيحين فِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ) ، وَفِي رِوَايَةٍ: (عَلَى هَذِهِ الْمِلَّةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُولَدُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تحسون فيها من جدعاء) وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: إِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فَجَاءَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ) .   (1) وذلك كما عرفها شيخ الإسلام ابن تيمية. (2) فالعبادة من حيث أنواعها وأفرادها اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ وَيَرْضَاهُ من الأقوال والأعمال الظاهرة والباطنة. ومن حيث معناها وأدائها هي الطاعة المقرونة بكمال الحب وكمال الذل لله تعالى. والله أعلم. (3) الأعراف: 172. (4) الروم: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 3- الميثاق الثالث: وهو مَا جَاءَتْ بِهِ الرُّسُلُ وَأُنْزِلَتْ بِهِ الْكُتُبُ تَجْدِيدًا لِلْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ، وَتَذْكِيرًا بِهِ {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بعد الرسل} (1) ، فالحجة قائمة على بني آدم بإرسال الرسل الذين ذكروا بذلك الميثاق لا بالميثاق نفسه إذ ذاك فهم لا يذكرونه، فكيف يحتج سبحانه على أحد بشيء لا يذكره. وقد أيد الله رسله بالمعجزات والبراهين على صدقهم فَمَنْ أَدْرَكَ هَذَا الْمِيثَاقَ وَهُوَ بَاقٍ عَلَى فطرته قبله وقام به دون تردد، ومن كان قد انحرف عن فطرته فتلك المعجزات والبراهين مع الرسل، وما لديهم من إقناع فيها الحجة الكافية عليهم إن لم يؤمنوا، فمن وفى بالميثاق دخل الجنة وإلاّ فالنار أولى به. وأما من لم يدرك الْمِيثَاقَ بِأَنْ مَاتَ صَغِيرًا قَبْلَ التَّكْلِيفِ مَاتَ عَلَى الْمِيثَاقِ الْأَوَّلِ عَلَى الْفِطْرَةِ فَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُسْلِمِينَ فَهُمْ مَعَ آبَائِهِمْ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانَ عَامِلًا لَوْ أَدْرَكَهُ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَوْلَادِ الْمُشْرِكِينَ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اللَّهُ تَعَالَى إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كانوا عاملين) (2) .   (1) النساء: 165. (2) اعلم أن من لم يدرك هذا الميثاق فهو أحد خمسة أنواع: أصم أو هرم أو أحمق أو من أهل الفترة أو طفل مات صغيراً. فأما الأربعة الأولون فحكمهم مبين في حديث الأسود بن سريع وأبي هريرة: (أربعة يجتجون يوم القيامة: رجل أصم لا يسمع شيئاً، ورجل أحمق، ورجل هرم، ورجل مات في فترة. فأما الأصم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً، وأما الأحمق فيقول: رب جاء الإسلام وما أعقل شيئاً والصبيان يحذفونني بالبعر، وأما الهرم فيقول: رب لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً، وأما الذي مات في الفترة فيقول: رب ما أتاني لك رسول فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار، فمن دخلها كانت عليه برداً وسلاماً، ومن لم يدخلها سحب إليها) رواه أحمد وابن حبان. وصححه الألباني، انظر صحيح الجامع الصغير، الطبعة الأولى رقم 894. وأما الطفل، فإن كان من أولاد المسلمين فمن أهل الجنة بغير خلاف لأنه مات على الفطرة وقد رآهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجنة، ول يرد ما يعكر على ذلك إلا ما ذكر في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قلت يا رسول الله طوبى لهذا، لم يعمل شرًا ولم يدر به، (أو: لم يدرِه) فقال: (أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ خلق الجنة وخلق لها أهلاً، وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم، وخلق النار وخلق لها أهلاً وخلقها لهم وهم في أصلاب آبائهم) فهذا الحديث رواه أبو داود، ورواه الإمام أحمد وطعن فيه وقال: من يشك أن أولاد المسلمين في الجنة، وقال أيضاً: إنهم لا اختلاف فيهم، وأما مسلم فأورده في صحيحه وقال النووي: أجمع من يعتد به علماء المسلمين أن من مات من أطفال المسلمين فهو من أهل الجنة لأنه ليس مكلفاً، وتوقف بعض من لا يعتد به لحديث عائشة هذا، وأجاب العلماء بأنه لعلّه نهاها عن المسارعة إلى القطع من غير أن يكون عندها دليل قاطع، ويحتمل أنه - صلى الله عليه وسلم - قال هذا قبل أن يعلم أن أطفال المسلمين في هذه الجنة. اهـ. = وأما إن كان الطفل من أطفال المشركين ففيه ثمانية أقوال، ذكرها ابن القيم رحمه الله ورجح أنهم يمتحنون في الآخرة فمن أطاع منهم أدخله الله الجنة ومن عصى عذبه، واستأنس لهذا بما سبق أن ذكرنا من حديث الأسود وأبي هريرة في الأربعة الذين يحتجون يوم القيامة، قال: وهي أحاديث يشد بعضها بعضاً. *وهناك قول آخر من تلك الأقوال - ولعلّه الصواب والله أعلم- وهو أنهم في الجنة. قال النووي: وهو الصحيح الذي ذهب إليه المحققون، واحتج هؤلاء بقوله تعالى: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولاً} [الإسراء:15] ، وبحديث سمرة الصريح الذي رواه البخاري في الرؤيا التي رآها عليه الصلاة والسلام، وفي آخره: (وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم - على نبينا وعليه الصلاة والسلام - وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة) . قال: فقال بعض المسلمين: يا رسول الله، وأولاد المشركين؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (وأولاد المشركين) وأجابوا عن حديث: سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الدار من المشركين يبيتون فيصيبون من نسائهم وذراريهم، فقال (هو منهم) - والحديث في الصحيحين، وفي لفظ لهما: (هم من آبائهم) - قالوا: هذا ليس فيه أنهم في النار، وإنما فيه أنهم تبع لآبائهم في الحكم، وأنهم إذا أصيبوا في البيات - لا على الانفراد - لم يضمنوا بدية ولا كفارة. وأما قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين: (الله أعلم بما كانوا عاملين) فلعله قال ذلك قبل أن يعرفه الله حكمهم- كما قالوا في حديث عائشة والله أعلم -. وأما حديث خديجة الذي سألت فيه عن أولادها الذين ماتوا قبل الإسلام فقال لها: (إن شئت أسمعتك تضاغيهم في النار) . فحديث باطل لا يصح، وقال ابن تيمية: موضوع. انظر شرح ابن قيم الجوزية على سنن أبي داود الجزء الثاني عشر من عون المعبود ص483-493. وقد صحح بعض العلماء حديث: (أطفال المشركين خدم أهل الجنة) . انظر صحيح الجامع الصغير / الطبعة الأولى / حديث 1035. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 هذا وقد خص النبيون بميثاق رابع، وهو المذكور في قَوْلَهُ تَعَالَى {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم} (1) . وهو ميثاق أخذ عليهم بعد إرسالهم، وهو يتضمن ثلاثة أشياء: 1- إقامة دينه تعالى وإبلاغ رسالته. 2- أن يؤمن كل نبي بمن بعده ولا يمنعه مكانه وما معه من الكتاب والحكمة من الإيمان بمن بعده ونصرته. 3- الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - إن أدركوه، ووصية أمتهم بالإيمان به إن أدركوه. وهذا الميثاق هو نفسه المذكور في قوله تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه ... ) (2) . *** وفيما يلي الأبيات المتعلقة بما سبق من منظومة "سلم الوصول إلى مباحث علم الأصول" للشيخ حافظ بن أحمد حكمي - رحمه الله -: أَبْدَأُ بِاسْمِ اللَّهِ مُسْتَعِينَا ... راض به مدبر مُعِينَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ كَمَا هَدَانَا ... إِلَى سَبِيلِ الْحَقِّ وَاجْتَبَانَا أَحْمَدُهُ سُبْحَانَهُ وَأَشْكُرُهْ ... وَمِنْ مَسَاوِي عَمَلِي أَسْتَغْفِرُهْ وَأَسْتَعِينُهُ عَلَى نَيْلِ الرِّضَا ... وَأَسْتَمِدُّ لُطْفَهُ فِي مَا قَضَى وَبَعْدُ: إِنِّي بِالْيَقِينِ أَشْهَدُ ... شَهَادَةَ الْإِخْلَاصِ أَنْ لَا يُعْبَدُ   (1) الأحزاب: 7. (2) آل عمران: 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 بِالْحَقِّ مَأْلُوهٌ سِوَى الرَّحْمَنِ ... مَنْ جَلَّ عَنْ عَيْبٍ وَعَنْ نُقْصَانِ وَأَنَّ خَيْرَ خَلْقِهِ مُحَمَّدَا ... مَنْ جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى رَسُولُهُ إِلَى جَمِيعِ الْخَلْقِ ... بِالنُّورِ وَالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ صَلَّى عَلَيْهِ رَبُّنَا وَمَجَّدَا ... وَالْآلِ وَالصَّحْبِ دَوَامًا سَرْمَدَا وَبَعْدُ هَذَا النَّظْمُ فِي الْأُصُولِ ... لِمَنْ أَرَادَ مَنْهَجَ الرَّسُولِ سَأَلَنِي إِيَّاهُ مَنْ لَا بُدَّ لِي ... مِنِ امْتِثَالِ سُؤْلِهِ الْمُمْتَثَلِ فَقُلْتُ مَعْ عَجْزِي وَمَعْ إِشْفَاقِي ... مُعْتَمِدًا عَلَى الْقَدِيرِ الْبَاقِي: تُعَرِّفُ الْعَبْدَ بِمَا خُلِقَ لَهُ, وَبِأَوَّلِ مَا فَرَضَ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَبِمَا أَخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِ بِهِ الْمِيثَاقَ فِي ظَهْرِ أَبِيهِ آدَمَ, وَبِمَا هُوَ صَائِرٌ إِلَيْهِ اعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَلَا ... لَمْ يَتْرُكِ الْخَلْقَ سُدًى وَهَمَلَا بَلْ خَلَقَ الْخَلْقَ لِيَعْبُدُوهُ ... وَبِالْإِلَهِيَّةِ يُفْرِدُوهُ أَخْرَجَ فِيمَا قَدْ مَضَى مِنْ ظَهْرِ ... آدَمَ ذُرِّيَّتَهُ كَالذَّرِّ وَأَخَذَ الْعَهْدَ عَلَيْهِمْ أَنَّهُ ... لَا رَبَّ مَعْبُودٌ بِحُقٍّ غَيْرَهُ وَبَعْدَ هَذَا رُسْلَهُ قَدْ أَرْسَلَا ... لَهُمْ وَبِالْحَقِّ الْكِتَابَ أَنْزَلَا لِكَيْ بِذَا الْعَهْدِ يُذَكِّرُوهُمْ ... وَيُنْذِرُوهُمْ وَيُبَشِّرُوهُمْ كَيْ لَا يَكُونَ حُجَّةٌ لِلنَّاسِ بَلْ ... لِلَّهِ أَعْلَى حُجَّةٍ عَزَّ وَجَلْ فَمَنْ يُصَدِّقْهُمْ بِلَا شِقَاقِ ... فَقَدْ وَفَى بِذَلِكَ الْمِيثَاقِ وَذَاكَ نَاجٍ مِنْ عَذَابِ النَّارِ ... وَذَلِكَ الْوَارِثُ عُقْبَى الدَّارِ وَمَنْ بِهِمْ وَبِالْكِتَابِ كَذَّبَا ... وَلَازَمَ الْإِعْرَاضَ عَنْهُ وَالْإِبَا فَذَاكَ نَاقِضٌ كِلَا الْعَهْدَيْنِ ... مُسْتَوْجِبٌ لِلْخِزْيِ فِي الدَّارَيْنِ • أسئلة : 1- لماذا خلق اللَّه الخلق، وما مصيرهم بعد موتهم، مع الأدلة؟ 2- اذكر تعريف العبادة؟ 3- ما هي المواثيق التي أخذها اللَّه على بني آدم؟ *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 (الباب الأول) التوحيد وأقسامه يقسم التوحيد تقسيمين (أي بطريقتين) : الطريقة الأولى: 1- توحيد الربوبية. 2-توحيد الألوهية. 3-توحيد الأسماء والصفات. الطريقة الثانية: 1- توحيد المعرفة والإثبات: ويتضمن: أ-توحيد الربوبية. ب-توحيد الأسماء والصفات. وهو المسمى التوحيد العلمي الخبري الاعتقادي. 2- توحيد الطلب والقصد: وهو توحيد الألوهية (1) أو التوحيد الطلبي القصدي الإرادي (2) . وقد اعتمد الشيخ رحمه الله التقسيم الثاني. وقبل أن نأخذ في تفصيل القول في أقسام التوحيد لابد من التنويه بما للتوحيد من شأن عظيم ومكانة رفيعة في دين الله عز وجل ونذكر في ذلك أمرين: 1- أن الرسل لم تدع إِلَى شَيْءٍ قَبْلَهُ وَلَمْ تَنْهَ عَنْ شَيْءٍ قبل ضده، وجعله الله عز وجل شرط دخول الجنة (3) . والعتق من النار.   (1) أو توحيد العبادة. (2) إذ أن الموحد لا يريد بعبادته غير وجهه تعالى، فإرادته وقصده وطلبه كل ذلك لله وحده. (3) قال تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عليه الجنة} [المائدة:72] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 2- أن القرآن كله في تقرير التوحيد بأنواعه، لأنه: أ-إِمَّا خَبَرٌ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَا يَجِبُ أَنْ يُوصَفَ بِهِ، وَمَا يَجِبُ أَنْ يُنَزَّهَ عَنْهُ، وَهُوَ التَّوْحِيدُ الْعِلْمِيُّ الْخَبَرِيُّ الِاعْتِقَادِيُّ. ب-وَإِمَّا دَعْوَةٌ إِلَى عِبَادَتِهِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ له وخلع ما يعبد من دونه، وهو التوحيد الطلبي الإرادي. جـ-وَإِمَّا أَمْرٌ وَنَهْيٌ وَإِلْزَامٌ بِطَاعَتِهِ فَذَلِكَ مِنْ حقوق التوحيد ومكملاته. د-وَإِمَّا خَبَرٌ عَنْ إِكْرَامِهِ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَمَا يُكْرِمُهُمْ بِهِ فِي الْآخِرَةِ، وَهُوَ جَزَاءُ توحيده، أو خَبَرٌ عَنْ أَهْلِ الشِّرْكِ وَمَا فَعَلَ بِهِمْ فِي الدُّنْيَا مِنَ النَّكَالِ، وَمَا يَفْعَلُ بِهِمْ فِي الْعُقْبَى مِنَ الْعَذَابِ فَهُوَ جَزَاءُ مَنْ خرج عن حكم توحيده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 (الفصل الأول) القسم الأول من أقسام التوحيد: التوحيد الخبري الاعتقادي (توحيد المعرفة والإثبات) وهو يتضمن أمرين: الأول: إثبات ذاته تعالى (توحيد الربوبية) . الثاني: إثبات أسمائه وصفاته (توحيد الأسماء والصفات) . *أولاً: إثبات ذاته تعالى (البراهين على وجود الله عز وجل) : والقرآن يعالج ذلك بالتوجيه لتدبر آيات الله في الكون والنفس، وفيما يلي بعض البراهين والشواهد على وجود الله عز وجل (1) : 1- أقام الله تعالى الحجة وأفحم الخصم في آية واحدة فقال: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون} (2) ؟ في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِالطُّورِ، فَلَمَّا بَلَغَ هَذِهِ الْآيَةَ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ *أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ ربك أم هم المصيطرون} (3) كاد قلبي أن يطير. 2- الأطوار العجيبة المختلفة التي مر بها الإنسان من تراب إلى نطفة فعلقة فمضغة ثم إنسان سوي ذي روح وعقل، ينشيء المدائن، ويركب متون البحار، ويجمع الأموال، ويحارب ويقاتل، وينشر مبادئ وأفكاراً،   (1) وفي بعضها تصرف في الأسلوب لإيضاح بعض ما ذكره المؤلف وبيان وجه الإعجاز فيه. (2) الطور: 35: 37. (3) الطور: 35-37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 وينظم شعراً ويصيغ أدباً ... الخ فسبحان من أقدره على ذلك!! وهذا فضلاً عن العجائب في خلقه الكائنات الأخرى كالحشرات والحيوانات. 3- خلق زوجين من كل شيء في الكون (1) . 4- بسط الأرض للخلائق، وخلق السماوات والأجرام العلوية، وإمساك كل عن الزوال أو الارتطام بغيره. 5- الليل والنهار وثبات طولها مجموعين معاً، فلم يحدث مرة واحدة أن كان هناك يوم من الأيام (نهاره مع ليله) أقل أو أكثر طولاً من الآخر ولو بجزء من الثانية، فسبحانه من نظم تلك الدورة الفلكية بهذه الدقة. 6- إيداع الماء خاصية حمل الأخشاب والأجسام ذات الكثافة الخفيفة فبذلك سهلت حياة البشر باستخدام الفلك التي تجري في البحر (2) . 7- إقدار الإنسان على كثير من الأمور، وتسخير الكائنات له حتى أن البعير الضخم ليقوده الطفل الصغير. 8- تسخير الرياح تارة للرحمة وتارة للعذاب. 9- اختلاف ألسنة الناس وألوانهم وهيئاتهم حتى ولو وقع التشابه الشديد، فمع أن لكل إنسان عينين وحاجبين وأنفاً واحداً وخدين وغير ذلك فلابد من شيء يميز كل إنسان عن الآخر، فكل إنسان خلقة فريدة بذاته لا يمكن أن تتكرر تماماً، فسبحان من جعل لكل إنسان شخصيته المتميزة، بسمت أو هيئة أو كلام أو لهجة أو ...   (1) حتى أن الذرة التي عرفها العلماء الآن، قالوا: إنها مركبة من زوجين من الجسيمات سالب وموجب. (2) والتي لا تستطيع الطائرات أن تحل محلها في كثير من الأعمال، ناهيك عما في تيسير طيران الطائرات في الجو من الإعجاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 10- خاصية النوم التي خلقها الله تعالى، فهي ضرورية لتجديد طاقة الإنسان ونشاطه وفيها راحة نفسه وأعصابه. 11- إحياء الأرض بالماء فإذا هذه الأرض الهامدة الجامدة تخرج نباتاً مختلفاً ألوانه وطعومه مع أن الكل يسقى بماء واحد، ثم من الذي أودع في الأرض هذه الخاصية وهي الإنبات، ثم من جعل هذا التوافق بين وجود هذه الخاصية في الأرض وخلق البشر المحتاجين إلى ذلك النبات عليها، هذا فضلاً عن الخصائص الأخرى في الأرض والجو التي لا يعيش البشر بدونها. 12- وبعد ذلك وقبله فإن الفطرة نفسها شاهدة بوجود الله تعالى، والنفس لا تستطيع الفرار من تلك الحقيقة، وهي الشعور بوجود الخالق القدير (1) . * بيان أن الاستدلال على وجوده تعالى وربوبيته بمخلوقاته وعظيم ملكه هو منهج الأنبياء والأئمة والعقلاء وأصحاب الفطرة الصافية. ويتبين ذلك من الأمثلة التالية: 1- قول الرسل لأقوامهم: {أفي الله شك فاطر السماوات والأرض} (2) ؟ 2- قول إبراهيم للنمرود: {ربي الذي يحيي ويميت} (3) ، وقوله - على نبينا وعليه الصلاة والسلام -: {فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بها من المغرب} (4) . 3- إجابة موسى عليه السلام على أسئلة فرعون: قال تعالى: {قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ *قال   (1) حتى من ينكره فإنه إما أن يثبت صفة الخلق لغيره من المعبودات الزائفة كما يقول الشيوعيون عن الطبيعة (تخلق كل شيء ولا حد لقدرتها) قبحهم الله، وإما أن ينكر وجوده تعالى استكباراً وعناداً ونفسه تتيقن عكس ذلك. (2) إبراهيم:10. (3) البقرة: 258. (4) البقرة: 258. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ * قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ * قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بينهما إن كنتم تعقلون} (1) . 4- دعوة محمد - صلى الله عليه وسلم - ومخاطبته للناس بهذا القرآن الذي يتجلى فيه هذا المنهج من بدايته إلى ختامه، وهو مملوء بالتوجيه إلى النظر فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ من شيء، وقد مر شيء من ذلك فيما سبق ذكره من الآيات. 5- استدلال الإمام أبي حنيفة بسير الموجودات وفق تدبير ونظام محكم وأن ذلك لا يمكن حدوثه بدون رب قادر مدبر، وضرب لذلك مثلاً بالسفينة التي تسير دون قائد، وتنقل البضائع، هل يعقل ذلك؟ 6- إجابة الإمام مالك لمّا سأله الرشيد مستدلاً باختلاف الأصوات والنغمات واللغات. 7- استدلال الإمام الشافعي بورق التوت تأكله الدود فيخرج من الإبرِيسَم (2) , وَتَأْكُلُهُ النَّحْلُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْعَسَلُ، وَتَأْكُلُهُ الشاء (3) والبقر والأنعام فتلقيه بعرًا وروثاً. 8- استلال الإمام أحمد بخروج الديك من البيضة، وذلك بمقام خروج حيوان ذي سمع وبصر وصوت وشكل حسن من حصن أملس ليس له منفذ، هل يحدث ذلك بلا خالق؟ 9- استدلال الأعرابي بالسماء ذات الأبراج والأرض ذات الفجاج والبحار ذات الأمواج وأن دلالة ذلك على الله عز وجل من باب دلالة الأثر على المؤثر. ومثل لذلك بدلالة الأثر على المسير والبعر على البعير.   (1) الشعراء: 25-28. (2) الحرير، وهي كلمة معربة. (لسان العرب) . (3) جمع شاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 10- خطبة قس بن ساعدة الإيادي (1) وفيها لفت الأنظار لمختلف العجائب في الكون والحياة ليكون ذلك دافعاً للرجوع إلى الله صاحب هذه التقديرات والعجائب. ومن أمثلة الشعر الموافق لهذا المنهج - بغض النظر عن قائله -: تأمل في نبات الْأَرْضِ وَانْظُرْ ... إِلَى آثَارِ مَا صَنَعَ الْمَلِيكُ عيون من لجين شاخصات ... بأحداق هِيَ الذَّهَبُ السَّبِيكُ عَلَى قُضُبِ الزَّبَرْجَدِ شَاهِدَاتٌ ... بأن الله ليس له شريك (2) فَيَا عَجَبًا كَيْفَ يُعْصَى الْإِلَهُ ... أَمْ كَيْفَ يَجْحَدُهُ الْجَاحِدُ وَلِلَّهِ فِي كُلِّ تَحْرِيكَةٍ ... وَفِي كُلِّ تَسْكِينَةٍ شَاهِدُ وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آية ... تدل على أنه واحد (3) * * * وفيما يلي الأبيات المتعلقة بما سبق من منظومة (سلم الوصول) : أَوَّلُ وَاجِبٍ عَلَى الْعَبِيدِ ... مَعْرِفَةُ الرَّحْمَنِ بِالتَّوْحِيدِ إِذْ هُوَ مِنْ كُلِّ الْأَوَامِرِ أَعْظَمُ ... وَهْوَ نَوْعَانِ أَيَا مَنْ يَفْهَمُ إِثْبَاتُ ذَاتِ الرَّبِّ جَلَّ وَعَلَا ... أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى صِفَاتِهِ الْعُلَى • أسئلة : 1- ما هي أقسام التوحيد؟ 2- بين مرتبة التوحيد في دعوة الرسل وفي القرآن الكريم؟ 3- بين منهج القرآن في إثبات ذاته تعالى، واذكر بعض الشواهد الدالة على الله عز وجل؟ 4- بين بالأمثلة أن الاستدلال على وجوده تعالى وربوبيته بمخلوقاته وعظيم ملكه وصنعه هو منهج الأنبياء والأئمة والعقلاء؟   (1) وذلك قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم -. (2) نسبه في الكتاب لأبي نواس. (3) قاله ابن المعتز، ويروى عن أبي العتاهية رحمهما الله. كما ذكر المؤلف رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 ثانياً: أسماء الله الحسنى وصفاته العلى: 1- تعريف أسماء الله الحسنى: هي الأسماء التي أثبتها الله تَعَالَى لِنَفْسِهِ وَأَثْبَتَهَا لَهُ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَآمَنَ بِهَا جَمِيعُ المؤمنين. 2- عددها: لا يعلمه إلاّ الله، ودليل ذلك حديث ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَغَيْرِهِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (ما أصاب أحداً هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ فَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ وَابْنُ عَبْدِكَ وَابْنُ أَمَتِكَ نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، ماضٍ فيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ أَوِ اسْتَأْثَرَتْ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ رَبِيعَ قَلْبِي وَنُورَ صَدْرِي وَجَلَاءَ حُزْنِي وَذَهَابَ هَمِّي إِلَّا أذهب الله حزنه وهمه وأبدله مكانه فرجاً) (1) . 3- فضل من تعلم تسعة وتسعين منها: من أسماء الله الحسنى تسعة وتسعون اسماً من أحصاها دخل الجنة، ففي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ لِلَّهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ اسْمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَهُوَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ) . وقد وردت أحاديث ضعيفة في تحديدها (2) ، وقد حررها الحافظ ابن حجر تسعة وتسعين اسماً من الكتاب العزيز هكذا:   (1) وانظر الحديث في صحيح الكلم الطيب - مع اختلاف يسير في الألفاظ - رقم 105، الطبعة الأولى، المكتب الإسلامي. (2) انظر ضعيف الجامع الصغير 1943، 1944 / الطبعة الثانية. المكتب الإسلامي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 اللَّهُ، الرَّبُّ، الْإِلَهُ، الْوَاحِدُ، الرَّحْمَنُ، الرَّحِيمُ، الْمَلِكُ، القدوس، السلام، المؤمن، المهيمن، العزيز، الجبار المتكبر، الْخَالِقُ، الْبَارِئُ، الْمُصَوِّرُ، الْأَوَّلُ، الْآخِرُ، الظَّاهِرُ، الْبَاطِنُ، الْحَيُّ، الْقَيُّومُ، الْعَلِيُّ، الْعَظِيمُ، التَّوَّابُ، الْحَلِيمُ، الْوَاسِعُ، الْحَكِيمُ، الشَّاكِرُ، الْعَلِيمُ، الْغَنِيُّ، الْكَرِيمُ، الْعَفُوُّ، الْقَدِيرُ، اللَّطِيفُ، الْخَبِيرُ، السَّمِيعُ، الْبَصِيرُ، الْمَوْلَى، النَّصِيرُ، الْقَرِيبُ، الْمُجِيبُ، الرَّقِيبُ، الْحَسِيبُ، الْقَوِيُّ، الشَّهِيدُ، الْحَمِيدُ، الْمَجِيدُ، الْحَفِيظُ، الْحَقُّ، الْمُبِينُ، الْغَفَّارُ، الْقَهَّارُ، الْخَلَّاقُ، الْفَتَّاحُ، الْوَدُودُ، الْغَفُورُ، الرَّءُوفُ، الشَّكُورُ، الْكَبِيرُ، الْمُتَعَالِ، المُقيت، الْمُسْتَعَانُ، الْوَهَّابُ، الْحَفِيُّ، الْوَارِثُ، الْوَلِيُّ، الْقَائِمُ، الْقَادِرُ، الْغَالِبُ، الْقَاهِرُ، الْبَرُّ، الْحَافِظُ، الْأَحَدُ، الصَّمَدُ، الْمَلِيكُ، الْمُقْتَدِرُ، الْوَكِيلُ، الْهَادِي، الْكَفِيلُ، الْكَافِي، الْأَكْرَمُ، الْأَعْلَى، الرزاق، ذو القوة، المتين، غافر الذنب، قابل التوب، شديد العقاب، ذي الطول، رفيع الدرجات، سريع الحساب، فاطر السموات والأرض، بديع السموات والأرض، نور السموات والأرض، مالك الملك، ذو الجلال والإكرام (1) . وقد عدّها غير ابن حجر كسفيان بن عيينة وابن حزم القرطبي وغيرهم. وأسماء الله الحسنى غير منحصرة في التسعة والتسعين كما سبق. 4- معنى الإيمان بما وصف الله تعالى بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - من الأسماء   (1) ولا شك أن هذا اجتهاد من ابن حجر رحمه الله ولا يمكننا القطع بأن هذه هي التسعة والتسعون اسماً المقصودة إذ أنه يمكن لآخر أن يضع فيها مثلاً (ذوالرحمة) ويحذف منها (ذوالقوة) أو غير ذلك، إذ ما الملزم لاعتبار (ذو القوة) من التسعة والتسعين وعدم اعتبار (ذوالرحمة) منها، وكلاهما في القرآن الكريم؟! .. قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذاريات: 58] ، وقال: {وربك الغفور ذو الرحمة} [الكهف: 58] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الحسنى والصفات العلى وإمرارها كما جاءت (1) . *تنبيهان: أ-أسماء الله تعالى توقيفية، أي أنه ليس كل فعل يتعلق بالله يشتق له منه اسم إلا ما أثبته الله تعالى لِنَفْسِهِ وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -. مثال: قوله تعالى: {ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم..} (2) فإنه لا يجوز اشتقاق اسم الذاهب على أنه اسم له تعالى ما دام أن الله لم يذكر ذلك اسماً له في كتابه، ولم يذكره رسوله - صلى الله عليه وسلم -. ب-ورد في القرآن أفعال أطلقها الله على نفسه على سبيل الجزاء والعدل والمقابلة، وهي فيما سيقت له مدح وكمال، ولكن لا تطلق عليه عز وجل مجردة بدون ذكر ما تتعلق به.. مثال قوله تعالى: {ويمكرون ويمكر الله..} (3) ، وقوله تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ..} (4) ، وقوله تعالى: {الله يستهزئ بهم..} (5) فلا يقال أنه سبحانه يمكر ويستهزئ ويخادع، ومن باب أولى لا يقال أن من أسمائه الماكر والمخادع و.. تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، لكن يصح أن يقال أنه تعالى يمكر بالكافرين، ويستهزئ بالمنافقين ... وهكذا في   (1) وليس معنى إمرارها كما جاءت، تركها بدون معرفة معناها، فهذا مذهب المفوضة، وفيه اتهام للرسول - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه أنهم كانوا يقرءون كلاماً لا يفهمونه كما لو كان أعجمياً، ولكن المراد إمرارها كما جاءت بلا كيف مع إثبات الصفة، فقوله تعالى - على سبيل المثال - {وهو السميع البصير} [الشورى:11] معناه مفهوم، وهو إثبات السمع والبصر لله تعالى ولكن دون تكييف. (2) البقرة: 20. (3) الأنفال: 30. (4) النساء: 142. (5) البقرة: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 كل ما ذكره الله تعالى عن نفسه من اسم أو فعل متعلقاً أو مقيداً بشيء، أو مقترناً بمقابله بحيث يوهم ذكره بدونه نقصاً لم يجز إطلاقه عليه تعالى مجرداً دون ذكر متعلقه، ومن ذلك قوله تعالى: {إنا من المجرمين منتقمون} (1) ، وقوله تعالى: {والله عزيز ذو انتقام} (2) ولم يرد إطلاق المنتقم. ومن ذلك المعطي المانع، والضار النافع، فلا يطلق على الله المانع الضار على الانفراد، بل لابد من ازدواجها بمقابلاتها، فإنها لم تطلق على الله في الوحي منفردة. 5- دلالة الأسماء الحسنى في حق الله تعالى: 1- تدل على الذات مطابقة. 2- تدل على الصفات المشتقة تضمناً، وهذه أربعة أقسام: *الأول: الاسم العلم (الله) المتضمن لجميع معاني الأسماء. *الثاني: ما يتضمن صفة ذات كاسمه (السميع) . *الثالث: ما يتضمن صفة فعل كاسمه (الخالق) . *الرابع: ما يتضمن تنزهه تعالى وتقدسه عن النقائص والعيوب، مثل: (القدوس) و (السلام) . 3- تدل على الصفات غير المشتقة التزاماً. مثال: دلالة اسْمِهِ تَعَالَى (الرَّحْمَنِ) عَلَى ذَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ مطابقة، وعلى الرحمة تضمناً، وعلى صفة الحياة وغيرها التزاماً. أما أسماء غيره تعالى فلا تدل على الذات، فقد يسمى الرجل حكيماً وهو جاهل، وعزيزاً وهو حقير، وشجاعاً وهو جبان، وأسداً وحماراً وكلباً وحنظلة   (1) السجدة: 22. (2) آل عمران: 4، المائدة:95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وعلقمة وليس كذلك. أما الله تعالى فلا يُخَالِفُ اسْمٌ لَهُ صِفَتَهُ وَلَا صِفَتُهُ اسْمًا. *تنبيه: أسماء الله تعالى غير مخلوقة، وليست أسماء الله غيره كما يقوله بشر المريسي وابن الثلجي وغيرهما من أهل الضلال حيث زعموا أن أسماء الله تعالى مستعارة مخلوقة ابتدعها البشر لله. وضلال هذا القول ظاهر جداً من وجوه: *الأول: أن كل مخلوق كان معدوماً كما أنه معرض للفناء وهذا يقتضي أنه سبحانه لم يكن القوي ولا الكريم من أسمائه ثم أصبح كذلك، وقد تزول عنه تلك الأسماء مرة أخرى، تعالى الله عن إفكهم وأباطيلهم. *الثاني: أن القول بأن أسماءه غيره يقتضي الشرك، فالله تعالى يقول: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن..} (1) ، فيلزم هؤلاء أن يقولوا إن الله تعالى أجاز عبادته ودعاءه كما أجاز عبادة غيره، تعالى الله عن ذلك، بل الآية تدل على أن أسماءه تعالى ليست غيره. *الثالث: أن الله تعالى ذكر في كتابه ما يفيد أن آدم والملائكة لم يعلموا أسماء المخلوقين حتى علمهم الله من عنده، فكذا أسماؤه تعالى، من أين علمها الخلق قبل تعليمه إياهم ما يفيد أن الله هو الذي علم البشر بأسمائه وأسماء غيره لا أنهم هم الذين ابتدعوا له تلك الأسماء، قال تَعَالَى: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} (2) ، كذلك ورد في حديث الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَدُلُّ عَلَى أن البشر إنما يعلمون أسماء الله من لدنه تعالى لا أنهم هم الذين يسمونه، وذلك في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نفسك أو أنزلته في كتبك أو علمته أحداً من خلقك أو   (1) الإسراء: 110. (2) البقرة: 31، 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 استأثرت به في علم الغيب عندك) (1) . كذا قوله تعالى: {إني أنا الله رب العالمين} (2) ، {إنه أنا الله العزيز الحكيم} (3) فيه تسميته لنفسه بذلك. الرابع: أن المعير أغنى من المستعير، فالذين جعلوا أسماء الله مستعارة جعلوا الله عز وجل مفتقراً إلى البشر محتاجاً إليهم حيث جعلوه مستعيراً - تعالى الله عن ذلك - وجعلوا البشر معيرين. الخامس: أن هذه الدعوى فيها استجهال الخالق سبحانه إذ كان بزعمهم هملاً لا يدري ما اسمه. السادس: قوله تعالى في كتابه: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يوم الدين} (4) فجعل رب العالمين هو الرحمن الرحيم وهو مالك يوم الدين، ولو كانت دعواهم صحيحة لقال: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ الْمُسَمَّى الرَّحْمَنَ الرَّحِيمَ. فأسماؤه تعالى من حيث دلالتها على الذات بمعنى واحد وكلها هي الله، و (الله) هو أحد هذه الأسماء وبأي اسم دعوت فإنك قد دعوت الله نفسه ز قال عثمان بن سعيد الدارمي: (وَلَنْ يَدْخُلَ الْإِيمَانُ قَلْبَ رَجُلٍ حَتَّى يَعْلَمَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ إِلَهًا وَاحِدًا بجميع أسمائه وصفاته لَمْ يَحْدُثْ لَهُ مِنْهَا شَيْءٌ كَمَا لَمْ ينزل وحدانيته) . 6- معنى إحصاء أسماء الله تعالى التسعة والتسعين المؤدي إلى دخول الجنة: معناه القيام بحقها والعمل بمقتضاها جميعها، وهذا المعنى يستلزم معرفتها كلها، والإحاطة بمعانيها.   (1) حديث صحيح رواه أحمد وغيره وقد سبق، وانظر صحيح الكلم الطيب رقم 105. الطبعة الأولى - المكتب الإسلامي. (2) القصص: 30. (3) النمل: 9. (4) الفاتحة: 2-4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 مثال: من عرف عِلم الله الْمُحِيطِ الَّذِي لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ تعبّد بمقتضى ذلك بحراسة أقواله وأفعاله وإراداته عن كل ما يغضب الله إذ كل شيء خفي أم ظهر مكشوف له سبحانه. 7- الإلحاد في الأسماء والصفات: أ-معناه: لغة: الْعُدُولُ عَنِ الْقَصْدِ، وَالْمَيْلُ وَالْجَوْرُ وَالِانْحِرَافُ، وَمِنْهُ اللَّحْدُ فِي الْقَبْرِ لِانْحِرَافِهِ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ عن سمة الحفر. واصطلاحاً: العدول والميل بأسمائه تعالى وصفاته عن معانيها. ب-وأقسامه: 1- إلحاد المشركين المتضمن تنزيل المخلوق منزلة الخالق كتسميتهم أصنامهم آلهة واشتقاقهم أسماء لها من أسماء الله عز وجل، كالعزى من العزيز، ومناة من المنان. 2- إلحاد المشبهة تشبيه الخالق بالمخلوق، وذلك بتكييف صفاته تعالى وتشبيهها بصفات خلقه. 3- إِلْحَادُ النُفَاةِ، وَهُمْ قِسْمَانِ: قِسْمٌ أَثْبَتُوا أَلْفَاظَ أسمائه دُونَ مَا تَضَمَّنَتْهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، فَقَالُوا: رَحْمَنٌ رَحِيمٌ بِلَا رَحْمَةٍ، عَلِيمٌ بِلَا عِلْمٍ، سميع بلا سمع (1) وقسم صرحوا بنفي الأسماء والمعاني (2) . 8- صفات الله العلي: وهي من ناحية تعلقها بأسماء الله تعالى (3) تنقسم إلى نوعين:   (1) وهي عقيدة المعتزلة. (2) وهي عقيدة الجهمية. (3) وقد سبق تقسيمها من ناحية دلالتها في حق الله تعالى وأن منها ما هو صفة ذات، ومنها ما هو صفة فعل. انظر ص:31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 أ-صفات تضمنتها أسماؤه تعالى بالاشتقاق كالعلم من العليم، والبصر من البصير، والسمع من السميع، فكل اسم من هذه الأسماء يجمع اسماً وصفة. ب-صفات أخبر الله تعالى عن نفسه وأخبر بها رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَمْ يَشْتَقَّ منها أسماء، كحبة تعالى للمؤمنين، وكراهته انبعاث المنافقين، ومن ذلك إثبات الوجه ذي الجلال والإكرام، ويديه المبسوطتين بالإنفاق، واليد والعين والقدم .... إلخ. 9- معاني بعض الأسماء والصفات: 1- الرب: المالك الذي لا منازع له، والفعال لما يريد، ذو التصرف التام والتدبير المطلق لكل شيء. 2- ذو الجلال: الْمُتَّصِفُ بِجَمِيعِ نُعُوتِ الْجَلَالِ وَصِفَاتِ الْكَمَالِ، الْمُنَزَّهُ عن النقائص. 3- الكبير: أكبر [من] كل شيء، الذي السموات وَالْأَرْضُ وَمَا فِيهِنَّ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي كَفِّهِ كخردلة في كف أحد عباده، والذي له العظمة المطلقة والكبرياء. 4- الخالق: المقدر لإيجاد الشيء. 5- الباريء: المنشيء للشيء من العدم إلى الوجود، أي المنفذ لما قدره. 6- المصور: الممثل للمخلوقات بالعلامات التي يتميز بها بَعْضُهَا عَنْ بَعْضٍ، أَيِ الَّذِي يُنَفِّذُ مَا يريد إيجاده على الصفة التي يريدها، فأول الأمر الخلق ثم البرء ثم التصوير. 7- الأول: الذي ليس قبله شيء. 8- الآخر: الذي ليس بعده شيء. 9- الظاهر: الذي فوقيته وعلوه فوق كل شيء. 10- الباطن: المحيط بِكُلِّ شَيْءٍ بِحَيْثُ يَكُونُ أَقْرَبَ إِلَيْهِ مِنْ نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 *تنبيه: مدار هذه الأسماء الأربعة (الأول والآخر والظاهر والباطن) على الإحاطة وهي إحاطتان: زمانية (الأول والآخر) ، ومكانية (الظاهر والباطن) ، كذا ذكره ابن القيم رحمه الله. 11- الأحد: الَّذِي لَا ضِدَّ لَهُ وَلَا نِدَّ لَهُ وَلَا شَرِيكَ لَهُ فِي إِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ، وَلَا مُتَصَرِّفَ مَعَهُ فِي ذَرَّةٍ مِنْ مَلَكُوتِهِ، وَلَا شبيه له ولا نظير في شيء من أسمائه وصفاته. 12- الصمد: (لهذا الاسم عدة معان كلها من صفاته تعالى) : أ-الذي لا جوف له (1) ب-السيد الذي يصمد إليه في الحوائج (2) . د-الذي انتهى سؤدده وكمل في أنواع الشرف والسؤدد. هـ- الباقي بعد خلقه. 13- البر: أ-قال ابن عباس: اللطيف. -وفي لسان العرب: العطوف الرحيم اللطيف الكريم.   (1) قال ابن تيمية: وهو قول أكثر السلف وطائفة من أهل اللغة من أعيانهم. مجموع الفتاوى 17/214 - 215. (2) وهو قول طائفة من السلف وأكثر الخلف، وجمهور اللغويين. وهذا القول وسابقه هما القولان المشهوران، وللسلف في اسم الصمد أقوال متعددة قد يظن أنها مختلفة وليست كذلك بل كله صواب. المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ب-وقال الضحاك: الصادق فيما وعد. قال ابن الأثير: البر والبار بمعنى، وإنما جاء في القرآن البر دون البار. 14- الْمُهَيْمِنُ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ وَمُقَاتِلٌ: هُوَ الشَّهِيدُ عَلَى عِبَادِهِ بِأَعْمَالِهِمْ، يُقَالُ: هَيْمَنَ يُهَيْمِنُ فَهُوَ مُهَيْمِنٌ إِذَا كَانَ رَقِيبًا على الشيء. 15- العلي: فكل معاني العلو ثابتة له: أ-علو القهر: فلا مغالب له ولا منازع. ب-علو الشأن: فهو المتعالي عَنْ جَمِيعِ النَّقَائِصِ وَالْعُيُوبِ الْمُنَافِيَةِ لِإِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وأسمائه وصفاته. جـ- علو الذات: وهو فوقيته تعالى مستوياً على عرشه. وهذا النوع الأخير من العلو هو الذي ضل فيه من ضل، أما الأولان فلم يُخَالِفْ فِيهِمَا أَحَدٌ مِمَّنْ يَدَّعِي الْإِسْلَامَ وَيَنْتَسِبُ إليه. * الأدلة على فوقيته سبحانه وتعالى من الكتاب والسنة: علو الذات ثابت عند أهل السنة والجماعة بأدلة كثيرة منها: 1- الأسماء الحسنى الدالة على العلو بكل معانية، كاسمه العلي واسمه الأعلى وغيرهما. 2- التصريح باستوائه تعالى على عرشه في آيات كثيرة (1) وأحاديث متعددة. 3- التصريح بفوقيته تعالى، كما في قوله تعالى: {يخافون ربهم من   (1) ذكر الله تعالى استواءه على عرشه في سبعة مواضع منها قوله تَعَالَى فِي سُورَةِ طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ استوى} آية 5، وقوله: {ثم استوى على العرش} في ستة مواضع الأعراف: 54، يونس: 3، الرعد: 2، الفرقان: 59، السجدة 4، الحديد 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 فوقهم} (1) ، وكما في صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَتْ زَيْنَبُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا تَفْتَخِرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَقُولُ: "زوَّجكن أَهَالِيكُنَّ وَزَوَّجَنِي اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سبع سموات" (2) . 4- التصريح بأنه تعالى في السماء: قال تَعَالَى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ ربكم الأرض فإذا هي تمور} (3) ، وقوله تعالى: {من في السماء} أي: عليها أو فوقها، كما قال تعالى: {فسيحوا في الأرض} (4) أي: عليها. وكما في قوله تعالى حكاية عن فرعون: {ولأصلبنكم في جذوع النخل} (5) أي: عليها. ومن ذلك حديث رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ سأل الجارية: (أَيْنَ اللَّهُ) ؟ قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ. قَالَ: (مَنْ أَنَا) ؟ قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ - اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - فقال لسيدها معاوية بن الحكم: (أَعْتِقْهَا فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ) . أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ والنسائي وغير واحد من الأئمة. 5- التصريح باختصاص بعض الأشياء بأنها عنده كقوله تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادته} (6) ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ اللَّهَ لَمَّا قَضَى الْخَلْقَ كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ إن رحمتي سبقت غضبي) رواه البخاري ومسلم.   (1) النحل: 50. (2) وقد ذكر المصنف رحمه الله قوله - صلى الله عليه وسلم - لسعد (لَقَدْ حَكَمْتَ فِيهِمْ بِحُكْمِ الْمَلِكِ مِنْ فَوْقِ سبعة أرقعة) - أي سماوات - وقال: وأصله في الصحيحين ولكن أخرجاه عن أبي سعيد الخدري دون قوله: (من فوق سبعة أرقعة) فهذا ضعيف ... انظر تعليق الشيخ الألباني على فقه السيرة ص336. (3) الملك: 16. (4) التوبة: 2. (5) طه: 71. (6) الأعراف: 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 6- الرفع والصعود والعروج إليه تبارك وتعالى، فمن ذلك: أ-رفع عيسى عليه السلام كما في قوله تعالى: {بل رفعه الله إليه} (1) . ب-صعود الأعمال إليه، كما في قَوْلِهِ: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يرفعه} (2) . جـ- صعود الأرواح إليه، كما في حديث البراء الطويل الصحيح، وفيه أن الملائكة تصعد بروح المؤمن حتى السماء السابعة فيقول الله تعالى: (أعيدوه ... ) الحديث (3) . د-عروج الملائكة والروح إليه: قال تعالى: {تعرج الملائكة والروح إليه} (4) ، وفي حديث الصحيحين (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل والنهار وَيَجْتَمِعُونَ فِي صَلَاةِ الْعَصْرِ وَصَلَاةِ الْفَجْرِ ثُمَّ يَعْرُجُ الَّذِينَ بَاتُوا فِيكُمْ فَيَسْأَلُهُمْ وَهُوَ أَعْلَمُ بهم ... ) الحديث. هـ-مِعْرَاجُ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ كما ثبت في الأحاديث الصحيحة المشهورة. وسيأتي بيان ذلك في الباب الأخير من الكتاب إن شاء الله تعالى. 7- التَّصْرِيحُ بِنُزُولِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ: (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول: من يدعوني فاستجب لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ له) . 8- تَنَزُّلُ الْمَلَائِكَةِ وَنُزُولُ الْأَمْرِ مِنْ عِنْدِهِ وَتَنْزِيلُ الكتاب من كما في كثير من الآيات.   (1) النساء: 158. (2) فاطر: 10. (3) صححه الألباني. انظر التعليق على شرح الطحاوية ص385، أحكام الجنائز ص156-159، ومختصر العلو حديث 36. (4) المعارج: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 9- رفع الأيدي إليه تعالى في الدعاء: وقد ورد فيه أَكْثَرُ مِنْ مِائَةِ حَدِيثٍ فِي وَقَائِعَ مُتَفَرِّقَةٍ، وكذلك رفع البصر إليه كما في حديث ابن مسعود: (يجمع الله الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم أَرْبَعِينَ سَنَةً شَاخِصَةً أَبْصَارُهُمْ إِلَى السَّمَاءِ يَنْتَظِرُونَ فصل القضاء ... ) الحديث. قال الذهبي: إسناده حسن (1) . وفي حديث ابن عباس عند البخاري فِي خُطْبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ النحر: ثُمَّ رَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: (اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ، اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ) الْحَدِيثَ. 10- النُّصُوصُ الْوَارِدَةُ فِي ذكر العرش وإضافته غالباً إلى خلقه تبارك وتعالى، وأنه تعالى فوقه {رفيع الدرجات ذو العرش} (2) ، {الرحمن على العرش استوى} (3) ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِهِ كُلُّ دَرَجَتَيْنِ مَا بَيْنَهُمَا كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَسَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وأعلى الجنة وفوق عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة". 11- مَا قَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ فِرْعَوْنَ لَعَنَهُ الله في تكذيبه موسى عليه السلام أَنَّ إِلَهَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى، قال تعالى: {وقال فرعون يا هامان ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السموات فأطلع إلى إله موسى} (4) . ففرعون كذب موسى في أن رب السموات وَالْأَرْضِ وَرَبَّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا هُوَ اللَّهُ الَّذِي فِي السَّمَاءِ فَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ مُبَايِنٌ لَهُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ. 12- ما قصه تعالى في قصة تكليمه لموسى حين تجلى للجبل فاندك الجبل.   (1) قال الألباني: هو كما قال أو أعلى. مختصر العلو ص111. (2) غافر: 15. (3) طه: 5. (4) غافر: 36، 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 قال ابن خزيمة: (أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَوْ كَانَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ وَمَعَ كُلِّ بَشَرٍ وَخَلْقٍ كَمَا زَعَمَتِ الْمُعَطِّلَةُ لَكَانَ مُتَجَلِّيًا لِكُلِّ شَيْءٍ، وَكَذَلِكَ جَمِيعُ مَا فِي الْأَرْضِ لَوْ كَانَ اللَّهُ تَعَالَى مُتَجَلِّيًا لِجَمِيعِ أَرْضِهِ سَهْلِهَا وَوَعْرِهَا وَجِبَالِهَا وبراريها ومفاوزها ومدنها وقراها وعمارتها وَخَرَابِهَا وَجَمِيعِ مَا فِيهَا مِنْ نَبَاتٍ وَبِنَاءٍ لَجَعَلَهَا دَكًّا كَمَا جَعَلَ اللَّهُ الْجَبَلَ الَّذِي تجلى له دكأً، قال تَعَالَى: {فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} (1)) . *بيان أن الصحابة كانوا يعرفون أن الله في السماء: 1- قول عمر رضي الله عنه: إنما الأمر من ههنا - وأشار بيده إلى السماء - (2) ، وقوله: ويل لديان الأرض من ديان السماء (3) .. 2- قول ابن مسعود رضي الله عنه: الْعَرْشُ فَوْقَ الْمَاءِ وَاللَّهُ فَوْقَ الْعَرْشِ لَا يخفى عليه شيء من أعمالكم (4) . 3- قول عائشة رضي الله عنها: وَلَكِنْ عَلِمَ اللَّهُ مِنْ فَوْقِ عَرْشِهِ أَنِّي لم أحب قتله (5) - تعني عثمان رضي الله عنه -. 4- قول ابن عباس رضي الله عنهما: الكرسي موضع القدمين، والعرش لا يقدر أحد قدره (6) ، وقوله: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى كَانَ عَلَى عَرْشِهِ قَبْلَ أن يخلق شيئاً (7) ، وقوله لعائشة رضي الله عنها: وأنزل الله براءتك من فوق سبع سماوات (8) .   (1) الأعراف: 143. (2) إسناده صحيح على شرط الشيخين. مختصر العلو ص 103. (3) صححه الألباني حفظه الله. مختصر العلو ص103. (4) صحيح. مختصر العلو ص 103، 104. (5) إسناده صحيح. مختصر العلو ص 104. (6) إسناده صحيح. رجاله كلهم ثقات. مختصر العلو ص 102. (7) صحيح. مختصر العلو ص 95. (8) إسناده صحيح. مختصر العلو ص130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 * بيان أن التابعين كانوا يعرفون أن الله في السماء فوق عرشه: 1- كان مسروق رضي الله عنه إذا حدث عن عائشة - رضي الله عنها - قال حدثتني الصديقة حَبِيبَةُ اللَّهِ الْمُبَرَّأَةُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ. قال الذهبي: إسناده صحيح (1) . 2- قول الضَّحَّاكِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَا يَكُونُ مِنْ نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} (2) : هُوَ فَوْقَ الْعَرْشِ وَعِلْمُهُ مَعَهُمْ أَيْنَمَا كَانُوا. أَخْرَجَهُ الْعَسَّالُ وَابْنُ بَطَّةَ وَابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بإسناد جيد (3) . 3- قول ربيعة بن أبي عبد الرحمن لما سئل عن الاستواء: الِاسْتِوَاءُ غَيْرُ مَجْهُولٍ، وَالْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَمِنَ اللَّهِ الرِّسَالَةُ وَعَلَى الرَّسُولِ الْبَلَاغُ، وَعَلَيْنَا التَّصْدِيقُ (4) . * بيان أن من بعد التابعين كذلك من علماء السلف وفقهاء المذاهب من الأئمة الأربعة وغيرهم كانوا يقولون بأن الله في السماء: 1- قول مالك رحمه الله: اللَّهُ فِي السَّمَاءِ وَعِلْمُهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ لا يخلو منه شيء (5) . وسأله رجل: كيف استوى؟ قَالَ: الْكَيْفُ غَيْرُ مَعْقُولٍ، وَالِاسْتِوَاءُ مِنْهُ غَيْرُ مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وَإِنِّي أَخَافُ أَنْ تَكُونَ ضَالًّا وَأَمَرَ بِهِ فأخرج (6) .   (1) وكذا صححه ابن القيم. مختصر العلو ص128. (2) المجادلة: 8. (3) وانظر أيضاً مختصر العلو ص133. (4) صحيح. مختصر العلو ص 132. (5) سنده صحيح. مختصر العلو ص 140. (6) يتقوى برواية أخرى نحوه وبطريق آخر. انظر مختصر العلو ص 141. وقد أورد المؤلف رحمه الله عن أبي حنيفة رحمه الله ما يوافق عقيدة السلف في ذلك حيث ذكر أن أبا مطيع البلخي سأل أَبَا حَنِيفَةَ عَمَّنْ يَقُولُ: لَا أَعْرِفُ رَبِّي فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ، قَالَ: إِذَا أَنْكَرَ أَنَّهُ فِي السَّمَاءِ أَوْ فِي الْأَرْضِ. فقال أبو حنيفة: قَدْ كَفَرَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {الرَّحْمَنُ على العرش استوى} وعرشه فوق سماواته. قال الألباني في أبي مطيع هذا: (من كبار أصحاب أبي حنيفة وفقهائهم. قال الذهبي في الميزان: كان بصيراً بالرأي علامة كبير في الشأن، ولكنه واه في ضبط الأثر) مختصر العلو ص136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 2- سئل أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ: اللَّهُ فَوْقَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ عَلَى عَرْشِهِ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَقُدْرَتُهُ وَعِلْمُهُ بِكُلِّ مَكَانٍ؟ قَالَ: نَعَمْ، هُوَ عَلَى عَرْشِهِ وَلَا يخلو شيء من علمه (1) . 3- وسئل إسحاق بن راهويه: ما هذه الأحاديث؟ تروون أن الله ينزل إلى السماء الدنيا! قال: نَعَمْ، رَوَاهَا الثِّقَاتُ الَّذِينَ يَرْوُونَ الْأَحْكَامَ فَقَالَ: ينزل ويدع العرش؟ قال: يَقْدِرُ أَنْ يَنْزِلَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَخْلُوَ منه العرش؟ قال: نعم. قال: فلم تتكلم في هذا (2) . 4- وقال رجل لابن الأعرابي: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (3) ؟ قَالَ. هُوَ عَلَى عرشه كما أخبر. فقال الرجل: ليس كذلك إِنَّمَا مَعْنَاهُ اسْتَوْلَى. فَقَالَ: اسْكُتْ مَا يُدْرِيكَ مَا هَذَا، الْعَرَبُ لَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ اسْتَوْلَى عَلَى الشَّيْءِ حَتَّى يَكُونَ لَهُ فِيهِ مُضَادٌّ، فأيهما غلب قيل استولى،   (1) إسناده صحيح. مختصر العلو ص189، 190. وقد ذكر المؤلف رحمه الله عن الشافعي رحمه الله ما يوافق عقيدة السلف في ذلك حيث ذكر عنه أنه قال: الْقَوْلُ فِي السُّنَّةِ الَّتِي أَنَا عَلَيْهَا وَرَأَيْتُ عَلَيْهَا الَّذِينَ رَأَيْتُهُمْ مِثْلَ سُفْيَانَ وَمَالِكٍ وَغَيْرِهِمَا إقرار بشهادة أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأن اللَّهَ تَعَالَى عَلَى عَرْشِهِ فِي سَمَائِهِ يَقْرُبُ مِنْ = = خَلْقِهِ كَيْفَ شَاءَ، وَيَنْزِلُ إِلَى السَّمَاءِ الدنيا كيف شاء. وذكر سائر الاعتقاد. وذكره الذهبي رحمه الله في العلو ولم يعلق الألباني عليه بشيء في المختصر ص 176. (2) إسناده صحيح. مختصر العلو ص192. (3) طه: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 وَاللَّهُ تَعَالَى لَا مُضَادَّ لَهُ وَهُوَ عَلَى عَرْشِهِ كَمَا أَخْبَرَ، ثُمَّ قَالَ: الِاسْتِيلَاءُ بَعْدَ الْمُغَالَبَةِ، قَالَ النَّابِغَةُ: إِلَّا لِمِثْلِكَ أَوْ مَا أَنْتَ سَابِقُهُ ... سَبْقَ الْجَوَادِ إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الأمد *تنبيه: أهل السنة الذين يثبتون الجهة لله تعالى يقصدون إثبات العلو، لكن لم يرد لفظ الجهة في الكتاب ولا في السُّنَّةِ، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الْعُلُوِّ إِثْبَاتُهَا لأن العرش سقف لجميع الْمَخْلُوقَاتِ فَمَا فَوْقَهُ لَا يُسَمَّى جِهَةً، وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ الْعُلُوِّ إِثْبَاتُ الجهة فلازم الحق حق (1) . * بيان أن الله تعالى مع استوائه فوق عرشه فإنه مطلع على أخفى خفايا عباده: وقد جمع الله تعالى بين علوه وعلمه في عدة مواضع تأكيداً لما ذكرنا من عقيدة السلف، فمن ذلك: 1- قوله تَعَالَى فِي سُورَةِ طه: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ استوى} (2) إلى قوله: {وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} (3) . 2- قوله تَعَالَى فِي سُورَةِ الْحَدِيدِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السماوات والأرض في ستة   (1) أما عن نسبة المكان لله تعالى، فقد قال الألباني حفظه الله: نسبة المكان إلى الله تعالى مما لم يرد في الكتاب والسنة، ولا في أقوال الصحابة وسلف الأمة، واللائق بنهجهم أن لا ننسبه إليه تعالى خشية أن يوهم ما لا يليق به عز وجل. وقال أيضاً في الجهة والمكان: لا ينبغي إثباتهما ولا نفيهما مطلقاً وأن ما أثبتهما أراد العلو ولكن لا يلزم من إثباته إثباتهما. مختصر العلو ص74. وعن تفسير الاستواء بالاستقرار قال حفظه الله: هذا مما لم يرد فلا يجوز اعتقاده ونسبته إلى الله - عز وجل -. كما أنكر أيضاً نسبة القعود على العرش لله عز وجل. انظر مختصر العلو ص17، 41، 259. (2) طه: 5. (3) طه: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ معكم أينما كنتم والله بما تعملون بصير} (1) . فهو سبحانه مع علوه أقرب إلى العبد من عنق راحلته ومن حبل الوريد، ويعلم ما توسوس به نفسه، فهو سبحانه قريب في علوه، عليٌّ في دنوه. وحتى عند دنوه تعالى من خلقه آخر الليل أو عشية عرفة يكون تعالى عالياً، فنزوله تعالى على ما يليق بجلاله لا نعلم كيفيته. ومعيته تعالى نوعان: عامة: معناها إحاطته بكل الخلق علماً وقدرة. وخاصة: لأوليائه بِالْإِعَانَةِ وَالرِّعَايَةِ وَالْكِفَايَةِ وَالنَّصْرِ وَالتَّأْيِيدِ وَالْهِدَايَةِ وَالتَّوْفِيقِ والسداد ... إلخ. وكفاك ما في الحديث: (فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وبصره الذي يبصر به ... ) الحديث (2) . أي أن الله تعالى يقربه إليه ويرقيه إِلَى دَرَجَةِ الْإِحْسَانِ فَيَصِيرُ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى الحضور والمراقبة كأنه يراه، فيمتليء قَلْبُهُ بِمَعْرِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَمَحَبَّتِهِ وَعَظَمَتِهِ وَخَوْفِهِ وَمَهَابَتِهِ وَإِجْلَالِهِ وَالْأُنْسِ بِهِ وَالشَّوْقِ إِلَيْهِ حَتَّى يصير هذا الذي في قلبه المعرفة مشاهداً له بعين البصيرة، فمتى امتلأ القلب بعظمة الله لم يَبْقَ لِلْعَبْدِ شَيْءٌ مِنْ نَفْسِهِ وَهَوَاهُ وَلَا إِرَادَةٌ إِلَّا لِمَا يُرِيدُ مِنْهُ مَوْلَاهُ فَحِينَئِذٍ لا يتحرك العبد إِلَّا بِأَمْرِهِ، فَإِنْ نَطَقَ نَطَقَ بِاللَّهِ، وَإِنْ سمع سمع بالله، وَإِنْ نَظَرَ نَظَرَ بِهِ، وَإِنْ بَطَشَ بَطَشَ به، فلا إرادة للعبد فيما يسمعه غير ما أراده مولاه، ولا إرادة ولا هوى فيما يبصره غير إرادة الله فهو فيما شرعه الله عز وجل ولا هوى له فيما خالف ذلك. وفيما يلي الأبيات المتعلقة بما سبق :   (1) الحديد: 4. (2) رواه البخاري في صحيحه: كتاب الرقاق - باب التواضع، وانظر فتح الباري ج11 ص348. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 وَأَنَّهُ الرَّبُّ الْجَلِيلُ الْأَكْبَرُ ... الْخَالِقُ الْبَارِئُ وَالْمُصَوِّرُ بَارِي الْبَرَايَا مُنْشِئُ الْخَلَائِقِ ... مُبْدِعُهُمْ بِلَا مِثَالٍ سَابِقِ الْأَوَّلُ الْمُبْدِي بِلَا ابْتِدَاءِ ... وَالْآخِرُ الْبَاقِي بِلَا انْتِهَاءِ الْأَحَدُ الْفَرْدُ الْقَدِيرُ الْأَزَلِيُّ ... الصَّمَدُ الْبَرُّ الْمُهَيْمِنُ الْعَلِيُّ عُلُوَّ قَهْرٍ وَعُلُوَّ الشَّانِ ... جَلَّ عَنِ الْأَضْدَادِ وَالْأَعْوَانِ كَذَا لَهُ الْعُلُوُّ وَالْفَوْقِيَّهْ ... عَلَى عِبَادِهِ بِلَا كَيْفِيَّهْ وَمَعَ ذَا مُطَّلِعٌ إِلَيْهِمُ ... بِعِلْمِهِ مُهَيْمِنٌ عَلَيْهِمُ وَذِكْرُهُ لِلْقُرْبِ وَالْمَعِيَّهْ ... لَمْ يَنْفِ لِلْعُلُوِّ وَالْفَوْقِيَّهْ فَإِنَّهُ الْعَلِيُّ فِي دُنُوِّهِ ... وَهْوَ الْقَرِيبُ جَلَّ فِي عُلُوِّهِ • أسئلة : 1- ما المراد بأسماء الله الحسنى وصفاته العلى؟ 2- ما عدد الأسماء الحسنى؟ وما فضل من تعلم تسعة وتسعين منها؟ وما المراد بإحصائها المؤدي إلى دخول الجنة؟ 3- ما معنى الإيمان بالأسماء الحسنى، مبينًا المراد بإمرارها كما جاءت، ومعنى كونها توقيفية؟ 4- ما دلالة الأسماء الحسنى في حق الله تعالى؟ 5- ما الرد على المريسي وابن الثلجي وغيرهما ممن زعموا أن أسماء الله مخلوقة مستعارة ابتدعها البشر لله؟ -تعالى الله عن إفكهم-. 6- ما معنى الإلحاد في الأسماء والصفات، وما أقسامه؟ 7- اذكر معاني الأسماء التالية: الرب-الكبير-الخالق-الباريء- المصور-الأول-الآخر-الظاهر-الباطن-الأحد-القدير- الصمد-البر-المهيمن. 8- اذكر الأدلة على علو الذات، مبينًا أن ذلك لا يتعارض مع معيته تعالى لخلقه ونزوله آخر الليل إلى السماء الدنيا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 16- الحي (1) : الذي لا يموت ولم تسبق حياته بالعدم ولم تعقب بالفناء. 17- القيوم: القيوم بنفسه القيوم لِغَيْرِهِ، فَجَمِيعُ الْمَوْجُودَاتِ مُفْتَقِرَةٌ إِلَيْهِ وَهُوَ غَنِيٌّ عَنْهَا وَلَا قِوَامَ لَهَا إِلَّا بِهِ وَلَا قوام لها بدون أمره. وقد جمع الله تَعَالَى بَيْنَ هَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ (الْحَيِّ الْقَيُّومِ) فِي ثَلَاثَةِ مَوَاضِعَ مِنْ كِتَابِهِ: الْأَوَّلُ: آيَةُ الْكُرْسِيِّ في سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الحي القيوم} (2) . الثَّانِي: أَوَّلُ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ {الم *اللَّهُ لا إله إلا هو الحي القوم} (3) . الثَّالِثُ: فِي سُورَةِ طه: {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ القيوم} (4) . وعن أبي أمامة مرفوعاً: (اسْمُ اللَّهِ الْأَعْظَمُ الَّذِي إِذَا دُعِيَ بِهِ أَجَابَ فِي ثَلَاثِ سُوَرٍ: سُورَةِ الْبَقَرَةِ وَآلِ عمران وطه) (5) .   (1) ذكرنا فيما مضى ستة عشر اسماً كان آخرها العلي وأطلنا فيه الكلام كما سنطيل أيضا عند ذكر صفة الكلام إن شاء الله تعالى وذلك لما وقع من الخلاف الكثير فيهما بين أهل السنة وأهل البدع. (2) البقرة: 255. (3) آل عمران: 1، 2. (4) طه: 111. (5) صححه الألباني، صحيح الجامع الصغير 990 وهذه السور تكرر فيها (الحي القيوم) وتكرر فيها أيضاً {الله لا إله إلا هو} ففي سورة طه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الحسنى} آية: 8، وحسن الألباني حديث (اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرحمن الرحيم} وفاتحة آلِ عِمْرَانَ: {الم *اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هو الحي القوم} ) -صحيح الجامع الصغير 991- وكانت دعوة يونس عليه السلام في بطن الحوت {لا إله إلا أنت} ، وصح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (ألا أخبركم بشيء إذا نزل برجل منكم كرب أو بلاء من أمر الدنيا دعا به فرج عنه؟ دعاء ذي النون: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين) صحيح الجامع الصغير 2602/ط الثالثة، وأخرج ابن جرير عن الزهري أن الذي عنده علم من الكتاب الذي أتى بعرش بلقيس لما دعا قال: يا إلهنا وإله كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلا أنت ائتني بعرشها. قال: فمثل بين يديه فعلى المسلم أن يجمع ذلك {الله لا إله إلا هو الحي القوم} في دعائه إن أراد أن يصيب اسم الله الأعظم. = = وقال ابن تيمية رحمه الله في كلامه عن اسم (الحي) : (فالحي نفسه مستلزم لجميع الصفات وهو أصلها ولهذا كان أعظم آية في القرآن: {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وهو الاسم الأعظم) مجموع الفتاوى جـ18 ص311. وقال الدوسري رحمه الله: (ولهذا ورد الحديث النبوي أن اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب وإذا سئل أعطى {الله لا إله إلا هو الحي القيوم} وقد ورد حديث آخر أنه: (وإلهكم إله واحد لا إله إلا هو الرحمن الرحيم، الله لا إله إلا هو الحي القيوم) - صفوة الآثار جـ 3 ص464. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 18- الإرادة: والحديث عن هذه الصفة يتضمن أمرين: الأول: إثبات صفة الإرادة له تعالى. والثاني: أنه لا يكون إلا ما يريد، فهو سبحانه منفرد بالإرادة، فلا مشيئة ولا إرادة بعد مشيئته، والمراد بالإرادة هنا الإرادة الكونية القدرية. فمن أدلة الأول قوله تَعَالَى {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلاً عظيماً * يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفاً} (1) ، وقوله تعالى: {ولو شاء الله لأعنتكم} (2) وقوله تعالى: {نصيب برحمتنا من نشاء} (3) .... وغير ذلك من الآيات. ومن أدلة الثاني قوله تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} (4) ، وقوله   (1) النساء: 26-28. (2) البقرة: 220. (3) يوسف: 56. (4) الإنسان: 30، التكوير: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 {وما يذكرون إلا أن يشاء الله} (1) فَلَا مُرَادَ لِأَحَدٍ مَعَهُ وَلَا إِرَادَةَ لِأَحَدٍ إلا بعد إرادته عز وجل أي الكونية، فالإرادة المثبتة لله تعالى قسمان، كونية لا يمكن أن يحدث خلافها، وشرعية جعل للعبد فيها اختياراً، فهو سبحانه أراد الفسق كوناً وقدراً لم يرده شرعاً، أما الخير فأراده كوناً وشرعاً. وهنا مسألتان تتعلقان بالكلام عن الإرادة: 1- من انفراده تعالى بالإرادة أن يهدي من يريد ويضل من يريد، ولكنه سبحانه لا يظلم أحداً، فهدايته للعبد وإسعاده فضل ورحمة وإضلاله وإبعاده عدل وحكمة، وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ مَحَلُّ الْهِدَايَةِ فَيَهْدِيهِ وَمَنْ هُوَ مَحَلُّ الْإِضْلَالِ فَيُضِلُّهُ وَهُوَ أَحْكَمُ الحاكمين. 2- قد يقول قائل: إذا كان الله يكره السيئات فلم قدر وجودها؟ وهل يأتي المكروه بمحبوب؟ والجواب: أولاً: ينبغي للسائل البحث في غير هذا مما يهم فإن الاعتراض على أفعاله تعالى كالاعتراض على أسمائه وصفاته، فهو سبحانه له صفات الكمال وأفعال الكمال وأفعال الكمال لحكمة بالغة {لا يسأل عما يفعل وهم يسألون} (2) . ثانياً: لو لم يقدر الله السيئات لجبر عباده كلهم على الإيمان، ولما كان هناك فريقان أحدهما يستحق الجنة والآخر يستحق النار، ولانتفت حكمة الله عز وجل من ابتلاء العباد في هذه الحياة، وهو سبحانه لم يرد هذه السيئات شرعاً بل نفر من عنها وإنما شاء وقوعها في الكون مشيئة قدرية يتحقق بها عدل الله تعالى ويكون من ورائها الخير.   (1) المدثر: 56. (2) الأنبياء: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وهنا تأتي الإجابة على السؤال الخير، فنقول نعم، قد تأتي السيئة المكروهة التي قدرها الله بالخير، فإنه سبحانه ليس فيما قدره شر أبداً، وإنما الشر الذي أوجده الله عز وجل هو شر من ناحية إضافته للعبد لا من جهة إضافته لله، فعلى سبيل المثال، قد يترتب على وقوع السيئات من محاب الله ومرضاته ما هو أعلم به فِي حَقِّ فَاعِلِهَا مِنَ التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ وَالْإِذْعَانِ وَالِاعْتِرَافِ بِقُدْرَةِ اللَّهِ عَلَيْهِ وَالْخَوْفِ مِنْ عِقَابِهِ وَرَجَاءِ مَغْفِرَتِهِ وَنَفْيِ الْعَجَبِ الْمُحْبِطِ لِلْحَسَنَاتِ عَنْهُ وَدَوَامِ الذُّلِّ وَالِانْكِسَارِ وَتَمَحُّضِ الِافْتِقَارِ وَمُلَازَمَةِ الِاسْتِغْفَارِ وغير ذلك من الفرائض المحبوبة للرب عز وجل، ولذا جاء في الْحَدِيثِ: (لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَأَتَى اللَّهُ بِقَوْمٍ يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم) (1) ففي فعل هذه الأمور المحبوبة غَايَةُ مَصْلَحَةِ الْعَبْدِ وَسَعَادَتِهِ وَفَلَاحِهِ، وَإِنْ لَمْ يقع من ذَلِكَ فَلِخُبْثِ نَفْسِهِ وَعَدَمِ صَلَاحِيَتِهَا لِلْمَلَأِ الْأَعْلَى ومجاورة المولى وحينئذ يأتي الخير الثاني، وهو ما يترتب من فَرَائِضُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَوْلِيَائِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّتِي هِيَ مِنْ وَظَائِفِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ الَّذِي هُوَ مِنْ أَعْظَمِ فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ الَّذِي هُوَ ذِرْوَةُ سَنَامِ الْإِسْلَامِ وَعَلَيْهِ يَتَرَتَّبُ الخير الثالث، وهو ما يكره الله به أولياءه من الفتح أو الشهادة وغير ذلك كثير من الخير في كل ما قدره الله تعالى، ولكل ذلك لا ينسب الشر إلى الله تعالى وما كان من شر فَمِنْ جِهَةِ إِضَافَتِهِ إِلَى فِعْلِ الْعَبْدِ لِأَنَّهَا معصية مذمومة مكروهة للرب غير محبوبة، ونسبة الخير لله وعدم نسبة الشر إليه معروف في كثير من الآيات والأحاديث ومن ذلك على سبيل المثال ما ذكره الله عز وجل من قول الْجِنِّ {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ في الأرض أم أراد بهم   (1) رواه مسلم في التوبة، باب فضل دوام الذكر والفكر في أمور الآخرة، وانظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ 17 ص 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 ربهم رشدا} (1) فذكروا الرب عند الرشاد والخير فقالوا: {أم أراد بهم ربهم} أما حينما ذكروا الشر قالوا: {أشر أريد بمن في الأرض} ولم يقولوا: (أشر أراده الله بمن في الأرض) ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في دعائه في افتتاح صلاة الليل: (والخير كله في يديك والشر ليس إليك) (2) أي لا يضاف إليه سبحانه لوجه مِنَ الْوُجُوهِ وَإِنْ كَانَ هُوَ خَالِقَهُ (3) ، لِأَنَّهُ ليس شراً من جهة   (1) الجن: 10.. (2) رواه مسلم في صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل. وانظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ6 ص59. (3) كما في قول الله عز وجل {قل كل من عند الله} [النساء: 78] ، أي أنه عز وجل هو الخالق للحسنة والسيئة ومقدر وجودها، أما من ناحية نسبة كل منهما إلى من أرشد إليها ودل عليها فالأمر يختلف، فإن الله عز وجل قال: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أصابك من سيئة فمن نفسك} [النساء: 79] ، أي أن الله عز وجل هو الذي هداك وأرشدك ووفقك للحسنة تفضلاً منه ومنة، أما السيئة فإن نفسك هي التي ساقتك إليها وهواك هو الذي دفعك إليها.. ومن الأمثلة الكثيرة من الآيات التي تبين نسبة الخير إلى الله دون الشر بالإضافة إلى ما ذكر نختار هذه الآيات: 1- قوله تعالى: {صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم} [الفاتحة: 7] . 2- قوله تعالى: {زُيِّن للناس حب الشهوات} [آل عمران: 14] ، وفيما يمتدح قال: {ولكن الله حبب إليكم الإيمان وزينه في قلوبكم} [الحجرات: 7] . = = 3-قوله تعالى: {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى: 30] . 4- قوله تعالى: {أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها} مع قوله: {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً فأراد ربك أن يبلغا أشدهما ويستخرجا كنزهما رحمة من ربك} [الكهف: 79، 82] . 5- قوله تعالى: {الذي خلقني فهو يهدين *والذي هو يطعمني ويسقين *وإذا مرضت فهو يشفين} [الشعراء: 78-80] . 6- قوله تعالى: {ثم أورثنا الكتاب الذي اصطفيناه من عبادنا} ، وقوله {وإن الذين أورثوا الكتاب من بعدهم لفي شك منه مريب} ، وقوله: {فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى} [فاطر: 32، الشورى: 14، الأعراف: 169] . 7- قوله تعالى: {قل أعوذ برب الفلق *من شر ما خلق} [الفلق 1، 2] . فنسب الشر للمخلوق ولم يقل من الشر الذي خلق.. وانظر كلام ابن القيم في التفسير القيم -سورة الفلق -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 إِضَافَتِهِ إِلَيْهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّمَا كَانَ شَرًّا من جهة إضافته إلى العبد. 19، 20 -السمع والبصر : قال تعالى: {إن الله كان سميعاً بصيراً} (1) ،. وَقَالَ تَعَالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البصير} (2) وقال تعالى: {إنني معكما أسمع وأرى} (3) وقال عز وجل: {كلا فاذهبا بآياتنا إنا معكم مستمعون} (4) ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون} (5) ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالوا إن الله فقير   (1) النساء: 58 وذكر الشيخ حافظ رحمه الله حديث أبي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَمِيعًا بَصِيرًا} قَالَ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَضَعُ إِبْهَامَهُ عَلَى أُذُنِهِ وَالَّتِي تَلِيهَا عَلَى عَيْنِهِ، قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقرأها ويضع إصبعيه. قال أبو داود رحمه الله: وهذا رد على الجهمية. قال أبو حجر رحمه الله: (أخرجه أبو داود بسند قوي على شرط مسلم) . وقال: قال البيهقي: وأراد بهذه الإشارة تحقيق إثبات السمع والبصر لله ببيان محلهما من الإنسان، يريد أن له سمعاً وبصراً لا أن المراد يرد بذلك الجارحة فإن الله تعالى منزه عن مشابهة المخلوقين. الفتح 13/385. (2) الشورى: 11. (3) طه: 46. (4) الشعراء: 15. (5) الزخرف: 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ونحن أغنياء} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} (2) ، وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير} (3) فسبحان من وسع سمعه الأصوات، وأحاط بصره بجميع المبصرات، سَمْعٌ لا كسمعنا، وبصر لا كبصرنا، بل له الكمال المطلق الذي يليق به تعالى، فعائشة رضي الله عنها -كما في صحيح البخاري - لا تسمع ما تقوله المجادلة وهي في ناحية البيت والله تعالى يسمعها من فوق عرشه من فوق سبع سماوات. والآيات والأحاديث في هذا كثيرة، ومع ذلك ضلت الجهمية فلم يثبتوا لِلَّهِ تَعَالَى اسْمًا وَلَا صِفَةً مِمَّا سَمَّى مما سمى ووصف به نفسه وَأَثْبَتَهُ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَلَا يُثْبِتُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ البصير، ولا أنه يسمع ويرى بسمع وببصر، فِرَارًا - بِزَعْمِهِمْ - مِنَ التَّشْبِيهِ بِالْمَخْلُوقِينَ، فَنَزَّهُوهُ عَنْ صفات كماله التي وصف نَفْسَهُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِنَفْسِهِ وَبِغَيْرِهِ، وَشَبَّهُوهُ بِالْأَصْنَامِ التي لا تسمع ,لا تبصر، قال تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام: {يا أبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ ولا يغني عنك شيئاً} (4) فالجهمية أثبتت حجة لعباد الأصنام وجواباً لإنكار خليل الرحمن وجميع رسله، فَكَانَ لِلْكُفَّارِ أَنْ يَقُولُوا: وَمَعْبُودُكُمْ أَيْضًا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ، تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُ الكافرون والظالمون عُلُوًّا كَبِيرًا. وَقَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: سَمِيعٌ بِلَا سَمْعٍ، بَصِيرٌ بِلَا بَصَرٍ، وَأَطْرَدُوا جَمِيعَ أَسْمَائِهِ هَكَذَا، فَأَثْبَتُوا أَسْمَاءً وَنَفَوْا مَا تَتَضَمَّنُهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ إِثْبَاتِ الْأَلْفَاظِ دُونَ الْمَعَانِي: وَقَوْلُهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إِلَى قَوْلِ الجهمية، مخالف كل منهما الكتاب والسنة والعقول الصحيحة، فهؤلاء المعتزلة جعلوا أسماء الله بلا   (1) آل عمران: 181. (2) العلق: 14. (3) المجادلة: 1. (4) مريم: 42. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 دلالة كأسماء المخلوقين، فيسمى فلان كريماً وهو بخيل، ويسمى شجاعاً وأسداً وهو جبان وهكذا. 21- العلم: قَالَ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مبين} (1) ، وقال تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرض والله بكل شيء عليم} (2) ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصدور} (3) فأين يذهب الخلق؟! وأين يستترون بمعايبهم، بل أين يستترون بمشاعرهم وأفكارهم..اللهم اغفر لنا وارحمنا وارزقنا التوبة والإنابة يا عليم يا حكيم. 22- الغني: فهو بذاته سبحانه، مستغن عن كل شيء، وكل شيء مفتقر إليه {يا أيها النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الغني الحميد} (4) {والله الغني وأنتم الفقراء} (5) {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يفقهون} (6) {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ المتين} (7) فهو الرزاق الغني وما سواه مرزوق فقير، وهو سبحانه لا ينتفع من خلقه بشيء ولكنه يريد نفعهم، ولا يضره خلقه بشيء وإنما يضرون أنفسهم، ففي الحديث القدسي في صحيح مسلم: (يَا عِبَادِي إِنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضُرِّي فَتَضُرُّونِي، ولن   (1) الأنعام: 59. (2) الحجرات: 16. (3) غافر: 19. (4) فاطر: 15. (5) محمد - صلى الله عليه وسلم -: 38. (6) المنافقون: 7. (7) الذاريات: 56-58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ كَانُوا عَلَى أَتْقَى قلب راجل وَاحِدٍ مِنْكُمْ مَا زَادَ ذَلِكَ فِي مُلْكِي شَيْئًا، يَا عِبَادِي لَوْ أَنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وَإِنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ قَامُوا فِي صعيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي فأعطيت كل واحد مَسْأَلَتَهُ مَا نَقَصَ ذَلِكَ مِمَّا عِنْدِي إِلَّا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا، فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يلومنَّ إلا نفسه) . 23- الكلام: فالله تعالى لم يزل متكلماً بمشيئته وإرادته بما شاء وكيف شاء بكلام حقيقي - كم سيأتي في الحديث أنه ينادي بصوت - ويسمعه من يشاء من خلقه، فكلامه عز وجل قول حقيقة على ما يليق بجلاله وعظمته، وكلامه تعالى صفة من لوازم ذاته أزلية بأزليته، باقية ببقائه ـ ولا تنفد صفة كان متصفاً بها. فكلماته تعالى لا تنفد، وفيما يلي الأدلة على ما ذكرنا: 1- قال تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} (1) . 2- قال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ من كلم الله ورفع بعضهم درجات} (2) . 3- قال تعالى: {قال يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وبكلامي} (3) 4- قال تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لنفذ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جئنا بمثله مدداً} (4) .   (1) النساء: 164. (2) البقرة: 253. (3) الأعراف: 144. (4) الكهف: 109. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 5- قال تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّ مَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عزيز حكيم} (1) . قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: أَيِ وَلَوْ أَنَّ جَمِيعَ أَشْجَارِ الْأَرْضِ جُعِلَتْ أَقْلَامًا، وَجُعِلَ الْبَحْرُ مِدَادًا وَأَمَدَّهُ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَعَهُ وكتبت بِهَا كَلِمَاتُ اللَّهِ تَعَالَى الدَّالَّةُ عَلَى عَظْمَتِهِ وَصِفَاتِهِ وَجَلَالِهِ لَتَكَسَّرَتِ الْأَقْلَامُ وَنَفِدَ مَاءُ الْبَحْرِ ولو جاء أمثالها مدداً. 6- قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: يَا آدَمُ، فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وَسَعْدَيْكَ فَيُنَادِي بِصَوْتٍ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ أَنْ تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار) . رواه البخاري في صحيحه، وَفِيهِ - تَعْلِيقًا عَنْ جَابِرٍ - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُنَيْسٍ-رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (يَحْشُرُ اللَّهُ الْعِبَادَ فَيُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ يَسْمَعُهُ مَنْ بَعُدَ كَمَا يَسْمَعُهُ مَنْ قَرُبَ: أَنَا الْمَلِكُ أنا الديان) . * القرآن كلام الله تعالى منزل غير مخلوق: فالقرآن كلامه تعالى حقيقة، حروفه ومعانية، وليس كَلَامُهُ الْحُرُوفَ دُونَ الْمَعَانِي وَلَا الْمَعَانِيَ دُونَ الحروف، قال تعالى: {فأجره حتى يسمع كلام الله} (2)   (1) لقمان: 27. (2) التوبة: 6، كما نجد دليلاً أيضاً في قوله تعالى: {قل هو الله أحد} ومثلها {قل أعوذ برب الفلق} و {قل أعوذ برب الناس} ففيها دلالة قطعية على أن هذا القرآن بحروفه كلامه تعالى ليس للرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه شيء بل هو مبلغ أمين عن الله عز وجل، ولو كان القرآن من تصرف الرسول - صلى الله عليه وسلم - لقال: (الله أحد) ، (أعوذ برب الفلق) ، (أعوذ برب الناس) ولكن ليست المعاني وحدها من عند الله بل الألفاظ كذلك، ولذا بلغها رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا هي حتى ولو كانت خطاباً له أن يقول كذا أو كذا. مستفاد من كلام ابن القيم في التفسير القيم ص541، 542. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 فالسمع مخلوق والمسموع غير مخلوق، وصوت القارئ مخلوق ولكن المتلو غَيْرُ مَخْلُوقٍ وَالْكِتَابَةُ مَخْلُوقَةٌ وَالْمَكْتُوبُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ. أما قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلٍ شاعر ... } (1) فالمراد من إضافة القول إليه عليه الصلاة والسلام هو التبليغ، لأن من حق الرسول - صلى الله عليه وسلم - أَنْ يُبَلِّغَ عَنِ الْمُرْسِلِ، لَا أَنَّ الْقُرْآنَ كلام الرسول، وقد بين الله تعالى ذلك بقوله بعد ذلك: {تنزيل من رب العالمين} (2) ، ومثل ذلك إضافته إلى جبريل عليه السلام في سورة التكوير: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذي العرش مكين} (3) فهذه الإضافة كذلك باعتبار تبليغه القرآن لمحمد - صلى الله عليه وسلم - وكل عاقل يفهم ذلك فكيف يكون القرآن قول محمد - صلى الله عليه وسلم - ومرة قول جبريل؟! بل هو قوله تعالى خرج منه، وهو قول جبريل ومحمد - صلى الله عليه وسلم - بعد ذلك باعتبار التبليغ. ولأن القرآن خرج منه تعالى فيستحيل أن يكون مخلوقاً، لأنه محالٌ أن يكون شيء منه تعالى مخلوقاً .... فالقرآن كلام الله؛ وكلام الله صفته تعالى غير مخلوقة (4) . * حكم من قال بخلق القرآن: انعقد إجماع سلف الأمة على تكفير من قال بخلق القرآن، فمن قال بذلك استتيب فإن تاب وإلا قتل مرتداً بعد إقامة الحجة عليه. -قال الإمام أحمد: مَنْ قَالَ: الْقُرْآنُ مَخْلُوقٌ، فَهُوَ عِنْدَنَا كَافِرٌ. -وقال ابن المبارك: من قال: القرآن مخلوق، فهو زنديق.   (1) الحاقة: 40، 41. (2) الحاقة: 43. (3) التكوير: 19، 20. (4) وليس أدلة على ذلك من إرشاده - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا أن يقول: (أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خلق) - كما في صحيح مسلم وغيره - فكيف يجوز لعاقل فضلاً عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يستعيذ بمخلوق من شر ما خلق؟! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 -وقال سفيان بن عيينة: من قال: القرآن مَخْلُوقٌ، فَهُوَ كَافِرٌ، وَمَنْ شَكَّ فِي كُفْرِهِ فهو كافر. -وسئل وكيع عن ذبائح الجهمية -وذلك أنهم يقولون بخلق القرآن - فقال: لا تؤكل، هم مرتدون. * أصل القول بخلق القرآن . -مصدر ذلك لَبِيدِ بْنِ الْأَعْصَمِ الْيَهُودِيِّ الَّذِي سَحَرَ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم - (1) ، وأخذ عن هذه الباعة ابن أخته طالوت وعن طالوت بيان بن سمعان وعن بيان الجعد ابن درهم في أيام بني أمية، فطلبه بنو أمية فهرب في الكوفة وسكنها ولقيه هناك الجهم بن صفوان حيث أخذ عنه ذلك ولم يكن له كثير أتباع غيره. -ولم يشتهر القول بخلق القرآن أيام الجعد حيث أن أمير الكوفة خالد بن عبد الله القسري سرعان ما قتله حيث خطب يوم عيد الأضحى بالكوفة ثم قال: أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا تَقَبَّلَ اللَّهُ ضَحَايَاكُمْ فَإِنِّي مُضَحٍّ بِالْجَعْدِ بْنِ دِرْهَمٍ، إِنَّهُ زَعَمَ أَنَّ اللَّهَ لَمْ يَتَّخِذْ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا، وَلَمْ يُكَلِّمْ موسى تكليماً، تعالى الله عما يقول الجعد علواً كبيراً. ثم نزله فذبحه في أصل المنبر، وذلك سنة 124هـ. روى ذلك البخاري في كتاب خلق أفعال العباد. -وَأَوَّلُ مَا اشْتَهَرَ الْقَوْلُ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ فِي آخر عصر التابعين على يد جهم ابن صفوان، وكان ملحداً زنديقاً لا يُثْبِتْ أَنَّ فِي السَّمَاءِ رَبًّا وَلَا يَصِفُ الله بشيء مما وصف به نفسه، وينتهي قول إلى جحود الخالق، ترك الصلاة أربعين يوماً وهو يزعم أنه يرتاد ديناً، ولما ناظره البعض في معبود قال: هُوَ هَذَا الْهَوَاءُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، وَافْتَتَحَ مَرَّةً سُورَةَ طه فَلَمَّا أَتَى عَلَى هَذِهِ الآية: {الرحمن على العرش استوى} (2) قال: لو وجدت السبيل إلى حكمها لحككتها، ثم افتتح   (1) انظر صحيح البخاري: كتاب الطب، وانظر فتح الباري جـ10 ص232. (2) طه: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 سُورَةَ الْقَصَصِ فَلَمَّا أَتَى عَلَى ذِكْرِ مُوسَى جَمَعَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ ثُمَّ رَفَعَ الْمُصْحَفَ ثُمَّ قال: أي شيء هذا ذكره ها هنا فلم يتم ذكره، وذكره ها هنا فلم يتم ذكره ... إلى آخره من هذه الكفريات الدالة على سوء اعتقاده. وذبحه سالم بن أحوذ بأصبهان وقيل بمرو. -وأخذ هذا المذهب عن الجهم: بشرُ بن أبي كريمة المريسي شَيْخُ الْمُعْتَزِلَةِ وَأَحَدُ مَنْ أَضَلَّ الْمَأْمُونَ وَجَدَّدَ الْقَوْلَ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ، وَيُقَالُ: إِنَّ أَبَاهُ كَانَ يهودياً، ومات سنة 128هـ، وعن بشر أخذه قاضي المحنة أحمد بن أبي دُؤاد وأعلن به وَحَمَلَ السُّلْطَانَ عَلَى امْتِحَانِ النَّاسِ بِالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ وَعَلَى أَنَّ اللَّهَ لَا يُرَى فِي الْآخِرَةِ، وَكَانَ بِسَبَبِهِ مَا كَانَ عَلَى أَهْلِ الحديث من الفتنة، ومات سنة 240هـ. * اللفظية وحكمهم: -اللفظية هم الذين يقولون لفظي بالقرآن مخلوق. أما السؤال الذي يسأله البعض: هل لفظي بالقرآن مخلوق أم لا؟ فهذا السؤال بدعة، ولا يجاب عنه بنفي ولا إثبات لأن اللفظ يتركب من شيئين: الأول: الْمَلْفُوظُ بِهِ وَهُوَ الْقُرْآنُ وَهُوَ كَلَامُ اللَّهِ لَيْسَ فِعْلًا لِلْعَبْدِ وَلَا مَقْدُورًا لَهُ. وَالثَّانِي: التلفظ وهو فعل العبد وكسبه وسعيه. -فمن قال لفظي بالقرآن مخلوق جعل كلامه تعالى مخلوقاً لأنه داخل في اللفظ، ومن هنا اشتهر عن السلف كأحمد بن حنبل وجماعة من أهل الحديث أن اللفظية جهمية. ومن قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق، كان مبتدعاً بدعة من بدع الاتحادية (1) حيث أن تلفظ العبد الذي هو فعله داخل في اللفظ، فهذا   (1) هم الذين يقولون بوحدة الوجود كابن عربي وأمثاله ولا يفرقون بين الخالق والمخلوق بل يجعلون الوجود بأسره هو بعينه الله ويجعلون كل كلام في الوجود كلام الله، تعالى الله عن كفرهم وإفكهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 المبتدع خلط المخلوق بالخالق وجعل تلفظ العبد الذي هو فعله غير مخلوق ‍‍‍‍، وَلَوْ كَانَ الصَّوْتُ هُوَ نَفْسَ الْمَتْلُوِّ الْمُؤَدَّى بِهِ كَمَا يَقُولُهُ أَهْلُ الِاتِّحَادِ لَكَانَ كُلُّ مَنْ سَمِعَ الْقُرْآنَ مِنْ أَيِّ تالٍ وَبِأَيِّ صوت كليم الرحمن، فلا مزية لموسى على غيره..‍‍‍..‍‍‍ * الواقفة وحكمهم: الواقفة هم الذين يقولون في القرآن لا نقول هو كلام الله ولا نقول مخلوق. قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يُحْسِنُ الْكَلَامَ فَهُوَ جَهْمِيٌّ - لأنه في حقيقة الأمر لم يؤمن بأن القرآن منزل ومن كلامه - تعالى ومن كان لا يحسنه بل كان جاهلاً بَسِيطًا فَهُوَ تُقَامُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ بِالْبَيَانِ وَالْبُرْهَانِ فإن تاب وآمن بأنه كلام الله تعالى غير مخلوق وإلا فهو شر من الجهمية. * الطوائف المخالفة لأهل السنة في كلام الله تعالى (1) : 1- الاتحادية القائلون بوحدة الوجود: ذهبوا إلى أَنَّ كُلَّ كَلَامٍ فِي الْوُجُودِ كَلَامُ اللَّهِ حقه وباطله، وحسنة وقبيحة، والسب والفحش والشتم وأضداده كله عين كلام الله تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً؟ 2- الفلاسفة: ويقولون أن كلامه تعالى فيض فاض منه على نفس زكية شريفة فَأَوْجَبَ لَهَا ذَلِكَ الْفَيْضُ تَصَوُّرَاتٍ وَتَصْدِيقَاتٍ بِحَسَبِ ما قبلته منه، فتتصور الملائكة تخاطبها وتسمع خطابهم، وَهُوَ عِنْدَهُمْ كَلَامُ اللَّهِ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ وإنما ذلك من القوة الخيالية الوهمية. وهذا كلام الفارابي وابن سينا والطوسي وغيرهم وينسبون ذلك إلى أرسطو. 3- الجهمية: نفاة صفات الرب تعالى، قالوا: إن كلامه مخلوق.   (1) هذه الطوائف تحدث عنها صاحب كتاب معارج القبول رحمه الله في آخر الكلام عن توحيد المعرفة والإثبات وقد قدمتها لمناسبتها للمقام وإتماماً للفائدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 4- الْكُلَّابِيَّةِ أَتْبَاعِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ كلاب: قالوا: إن القرآن معنى قديم لازم بذات ارب كلزوم الحياة والعلم وأنه لا يسمع منه على الحقيقة بل المسموع حروف وأصوات مخلوقة منفصلة عن الرب دالة على ذلك المعنى القديم وهو القرآن وهو غير مخلوق. 5- مذهب الأشاعرة (وهو مذهب الأشعري (1) قبل رجوعه لمذهب أهل السنة) : وهؤلاء عندهم أن القرآن معنى قائم بذات الرب، أما الألفاظ فمخلوقه، وذلك الكلام العربي لم يتكلم الله به ولم يسمع منه، أما المعنى فسمع منه حقيقة، وهذا من عجائبهم وافتراضاتهم المستحيلة إذ أنهم يعقلون إدراك الشيء بالحواس على وجوده، فَكُلُّ وُجُودٍ يَصِحُّ تَعَلُّقُ الْإِدْرَاكَاتِ كُلِّهَا بِهِ لذا يجعلون المعنى مسموعاً حقيقة دون أن يكون هنالك كلام ‍‍‍‍.. وكذلك قولهم في رؤية الله تعالى أن الرؤية هي رؤية لمن ليس في جهة   (1) قال محب الدين الخطيب رحمه الله بهامشه معارج القبول: المعروف من حياة أبي الحسن الأشعري أنه مرت به ثلاث أدوار: الأول: أنه كان مع المعتزلة في البصرة. الثاني: يقظته لفساد مذهبهم، لكنه دخل معهم في جدل طويل بأساليبهم وأقيستهم، وقد استمر على ذلك نحو عشرين سنة ألف فيها أكثر كتبه، ومن هذا الجدل مع المعتزلة ومن هذه الكتب نشأ المذهب المنسوب إليه، وهو الذي اضطر شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم إلى إدحاضه والتنبيه على ما يخالف منه مذهب السلف. أما الدور الثالث من حياة الأشعري: فهو الذي ختم الله به حياته بالحسنى بعد انتقاله من البصرة إلى بغداد واتصاله بأهل الحديث وأتباع الإمام أحمد، وفي هذه الحقبة ألف (مقالات الإسلاميين) و (الإبانة) . ولا شك أن (الإبانة) من آخر مصنفاته إن لم تكن آخرها كما نص عليه مترجموه، ففي هذين الكتابين مذهبه الذي أراد أن يلقى الله عليه. والذي كان عليه في البصرة هو الذي اشتهر عنه وبقي منسوباً إليه وهو بريء من كبراءته من الاعتزال الذي كان من رجاله في صدر حياته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الرَّائِي وَأَنَّهُ يُرَى حَقِيقَةً وَلَيْسَ مُقَابِلًا لِلرَّائِي (1) ‍‍ وَجُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ يَقُولُونَ: إِنَّ تَصَوُّرَ هَذَا الْمَذْهَبِ كاف: إِنَّ تَصَوُّرَ هَذَا الْمَذْهَبِ كَافٍ فِي الْجَزْمِ ببطلانه وهو لا يتصور المستحيلات الممتنعات. 6- مذهب الكرامية (أصحاب أبي عبد الله محمد بن كرام) : وهؤلاء أثبتوا لله كلاماً حقيقة متعلقاً بالمشية والقدرة قائماً بِذَاتِ الرَّبِّ تَعَالَى وَهُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ مَسْمُوعَةٌ إلا أنهم قالوا: هو حَادِثٌ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ فَهُوَ عِنْدَهُمْ مُتَكَلِّمٌ بِقُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ بَعْدَ أَنْ لَمْ يَكُنْ متكلماً تعالى الله عن هذا الباطل. 7- مَذْهَبُ السَّالِمِيَّةِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَئِمَّةِ الأربعة ومن أهل الحديث: وهؤلاء يقولون: إن كلامه تعالى صفة قديمة بذات الرب تعالى لم يزل ولم يزال، ولا يتعلق بمشيئته وقدرته وَمَعَ ذَلِكَ هُوَ حُرُوفٌ وَأَصْوَاتٌ وَسُوَرٌ وَآيَاتٌ سمعه جبريل عليه السلام منه وسمعه موسى عليه السلام منه بلا واسطة ويسمعه سبحانه من يشاء، وَمَعَ ذَلِكَ فَحُرُوفُهُ وَكَلِمَاتُهُ لَا يَسْبِقُ بَعْضُهَا بَعْضًا. بَلْ هِيَ مُقْتَرِنَةٌ الْبَاءُ مَعَ السِّينِ مَعَ الْمِيمِ فِي آنٍ وَاحِدٍ. ثُمَّ لَمْ تَكُنْ مَعْدُومَةً فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ وَلَا تُعْدَمُ بَلْ لَمْ تَزَلْ قَائِمَةً بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ قيام صفة الحياة والسمع والبصر نظراً لما في هذا المذهب المنتشر -حتى بين الفضلاء- من المستحيلات والغرائب التي لا تفهم قال جمهور العقلاء: إن تصوره كافٍ فِي الْجَزْمِ بِبُطْلَانِهِ، وَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْأَدِلَّةُ القطعية شاهدة ببطلان كافٍ فِي الْجَزْمِ بِبُطْلَانِهِ، وَالْبَرَاهِينُ الْعَقْلِيَّةُ وَالْأَدِلَّةُ الْقَطْعِيَّةُ شَاهِدَةٌ بِبُطْلَانِ هَذِهِ الْمَذَاهِبِ كُلِّهَا وَأَنَّهَا مخالفة لصريح العقل والنقل. * تلخيص عقيدة أهل السنة والجماعة في كلامه تعالى: عقيدتهم في ذلك أنه عز وجل لم يزل متكلماً بصوت إذا شاء، فكلامه بمشيئته من لوازم ذاته المقدسة من لوازم ذاته المقدسة، ويُسمَع كلامه منه سبحانه تارة بلا واسطة كما   (1) وقد وقعوا في هذا المأزق بناء على مذهبهم في نفي علوه تعالى وفوقيته على عرشه، والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 سمعه جبريل وموسى -عليها السلام-، وكما يكلم عباده يوم القيامة وكما يكلم أهل الجنة، ويُسمَع تارة عن الْمُبَلِّغُ عَنْهُ، كَمَا سَمِعَ الْأَنْبِيَاءُ الْوَحْيَ مِنْ جبريل عليه السلام تبليغاً عن الحق تبارك وتعالى، وَكَمَا سَمِعَ الصَّحَابَةُ الْقُرْآنَ مِنَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ اللَّهِ فَسَمِعُوا كَلَامَ اللَّهِ بِوَاسِطَةِ الْمُبَلِّغِ وَكَذَلِكَ نَسْمَعُ نَحْنُ بِوَاسِطَةِ التَّالِي، فَإِذَا قِيلَ: الْمَسْمُوعُ مَخْلُوقٌ أَوْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ؟ قِيلَ: إِنْ أَرَدْتَ الْمَسْمُوعَ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَهُوَ كَلَامُهُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَإِنْ أَرَدْتَ الْمَسْمُوعَ مِنَ الْمُبَلِّغِ فَفِيهِ تَفْصِيلٌ: إِنْ سَأَلْتَ عَنِ الصَّوْتِ الَّذِي رُوِيَ بِهِ كَلَامُ اللَّهِ فهو مخلوق، وإن سألت عن الكلام المروي بذلك الصوت فهو غير مخلوق، فالتلفظ الذي هو فعل العبد مخلوق، والملفوظ به كلام الله عز وجل منزل غير مخلوق والله تعالى أعلم. 24- النزول: فمما يَجِبُ الْإِيمَانُ بِهِ وَإِثْبَاتُهُ وَإِمْرَارُهُ كَمَا جَاءَ صفة النزول للرب تعالى كما أتت به الأحاديث الصحيحة من نزوله تعالى للسماء الدنيا في ثلث الليل الآخر من كل يوم وعشية عرفة (1) . ففي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ فَيَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فأستجب لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ له) . فيجب الإيمان بما في هذه الأخبار من ذكر نزوله تعالى مِنْ غَيْرِ أَنْ نَصِفَ الْكَيْفِيَّةَ لِأَنَّ نَبِيَّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَصِفْ كَيْفِيَّةَ نزول خالقنا سبحانه إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا، وَأَعْلَمَنَا أَنَّهُ يَنْزِلُ، وَاللَّهُ جلا وَعَلَا لَمْ يَتْرُكْ - وَلَا نَبِيُّهُ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - بيان ما بالمسلمين   (1) انظر صحيح الجامع الصحيح 1863، 1864، وفي صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبداً من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنوا ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء) . انظر صحيح مسلم بشرح النووي جـ9 ص116، 117. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 إليه حاجة مِنْ أَمْرِ دِينِهِمْ، فَنَحْنُ قَائِلُونَ مُصَدِّقُونَ بِمَا فِي هَذِهِ الْأَخْبَارِ مِنْ ذِكْرِ النُّزُولِ كَمَا يَشَاءُ رَبُّنَا وَعَلَى مَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ وَعَظَمَتِهِ عز وجل غير مكلفين القول بصفته أو بصف الكيفية، بل نقف عند النصوص لا نعدوها ولا نقصر عنها، وقد تكلف جماعة فخاضوا في معنى ذلك، وفي الانتقال أو عدمه وفي خلو العرش منه سبحانه نَفْيًا وَإِثْبَاتًا، وَذَلِكَ تَكَلُّفٌ مِنْهُمْ وَدُخُولٌ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ، وَهُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّكْيِيفِ لَمْ يَأْتِ فِي لَفْظِ النُّصُوصِ وَلَمْ يَسْأَلِ الصَّحَابَةُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ حِينَ حَدَّثَهُمْ بِالنُّزُولِ، فَنَحْنُ نُؤْمِنُ ونصدق به كما آمنوا وصدقوا، فإن قال مُتَنَطِّعٌ: يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ كَذَا كَيْتَ وَكَيْتَ، قُلْنَا لَهُ: أَنْتَ لَا تُلْزِمُنَا نَحْنُ فِيمَا تَدَّعِيهِ وَإِنَّمَا تُلْزِمُ قَائِلَ ذَلِكَ وَهُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ لَازِمًا لِمَا قَالَهُ حَقِيقَةً وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ، إِذْ لَازِمُ الْحَقِّ حَقٌّ، وَإِنْ لَمْ يكن ذَلِكَ لَازِمًا لَهُ فَأَنْتَ مُعْتَرِضٌ عَلَى النَّبِيِّ =ما قَالَهُ حَقِيقَةً وَجَبَ الْإِيمَانُ بِهِ، إِذْ لَازِمُ الحق حق، وإن لم يكن ذَلِكَ لَازِمًا لَهُ فَأَنْتَ مُعْتَرِضٌ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَاذِبٌ عَلَيْهِ مُتَقَدِّمٌ بين يديه، فخير لك عدم الخوض فيما لا تعلمه، ونحن لا نعلم كيفية صفاته تعالى فلا نستطيع أن نجعل لوازمها في حق البشر لازمة في حقه تعالى. ‍ 25- إثبات أنه تعالى يرى في الآخرة الجنة: -قال تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْكُفَّارِ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عن ربهم يومئذ لمحجوبون} (2) ، وقال تعالى {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} (3) والمراد بالزيادة رؤيته تعالى كما سيأتي في الحديث الصحيح إن شاء الله تعالى. -وأما الأدلة من السنة، فمنها ما رواه مُسْلِمٍ عَنْ صُهَيْبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ عز وجل:   (1) القيامة: 22، 23. (2) المطففين: 15. (3) يونس: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون: أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا، أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنْجِنَا مِنَ النَّارِ؟) قَالَ: (فَيُكْشَفُ الْحِجَابُ فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ) ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ {لِلَّذَيْنِ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وزيادة} (1) . وفي الصحيحين عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَظَرَ إِلَى الْقَمَرِ لَيْلَةَ أَرْبَعَ عَشْرَةَ فَقَالَ: (إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عِيَانًا كَمَا تَرَوْنَ هَذَا (2) لَا تُضَامُونَ (3) في رؤيته فإن استطعتم ألا تُغْلَبُوا عَلَى صَلَاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَصَلَاةٍ قبل غروبها فافعلوا) وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن أناساً قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هَلْ تُضَارُّونَ (4) فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ ليلة البدر؟) قالوا: لا، قال: (فإنكم ترونه كذلك) .   (1) قال النووي رحمه الله: (هذا الحديث هكذا رواه الترمذي والنسائي وابن ماجه وغيرهم من رواية حماد بن سلمة عن ثابت عن ابن أبي ليلة عَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ أبو عيسى الترمذي وأبو مسعود الدمشقي وغيرهما: لم يروه هكذا مرفوعاً عن ثابت غير حماد بن سلمة ورواه سليمان بن المغيرة وحماد بن زيد وحماد بن واقد عن ثابت ابن أبي ليلة من قوله ليس فيه ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا ذكر صهيب. وهذا الذي قاله هؤلاء ليس بقادح في صحة الحديث فقد قدمناه في الفصول أن المذهب الصحيح المختار الذي ذهب إليه الفقهاء وأصحاب الأصول والمحققون من المحدثين وصححه الخطيب البغدادي أن الحديث إذا رواه بعض الثقات متصلاً وبعضهم مرسلاً أو بعضهم مرفوعاً حكم المتصل وبالمرفوع لأنهما زيادة ثقة وهي مقبولة عند الجماهير من كل الطوائف والله أعلم) . صحيح مسلم بشرح النووي جـ 3 ص17. (2) هذا من تشبيه الرؤية بالرؤية لا المرئي بالمرئي فليس من التشبيه المنهي عنه. (3) تضامُون وتضامُّون بالتشديد والتخفيف، بالتشديد من الضم ومعناه تُزاحمون، وبالتخفيف من الضَّيم: أي لا يظلم بعضكم بعضاً. انظر لسان العرب ص2629. (4) يُحكى بالتشديد (تضاروُّن) وبالتخفيف (تضارُون) ، وبالتشديد معناه تختلفون وتتجادلون، وبالتخفيف من ضاره يضيره ضيراً: أي ضره. انظر النهاية جـ3 ص82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 وأما المنقول عن الصحابة في ذلك فمنه أن أبا بكر رضي الله عنه قرأ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (1) فَقَالُوا مَا الزِّيَادَةُ يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى (2) . وَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مِنْ تَمَامِ النِّعْمَةِ دُخُولُ الْجَنَّةِ وَالنَّظَرُ إِلَى وَجْهِ الله تبارك وتعالى في جنته. وَقِيلَ لِابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-: كُلُّ مَنْ دَخَلَ الْجَنَّةَ يَرَى رَبَّهُ عَزَّ وَجَلَّ؟ قال: نعم. -وأما المنقول عن التابعين فمنه ما نقل عن سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ وَالْحَسَنُ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبي ليلى وعكرمة ومجاهد وقتادة والسدي وكعب وغيرهم رحمهم الله تعالى أنهم قالوا: الزِّيَادَةُ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. -وأما طبقة الأئمة الأربعة وغيرهم من الأئمة والعلماء فقد نقل عن مالك ابن أنس رحمه الله أنه قال: النَّاسُ يَنْظُرُونَ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَعْيُنِهِمْ وَسُئِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا ناظرة} (3) أَتَنْظُرُ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: نَعَمْ. قال أشهب: إِنَّ أَقْوَامًا يَقُولُونَ: تَنْظُرُ مَا عِنْدَهُ قَالَ: بل تنظر إليه نظراً. وقال الأوزاعي رحمه الله: إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَحْجُبَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ جَهْمًا وَأَصْحَابَهُ عَنْ أَفْضَلِ ثَوَابِهِ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ أَوْلِيَاءَهُ حِينَ يَقُولُ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} فَجَحَدَ جَهْمٌ وَأَصْحَابُهُ أَفْضَلَ ثَوَابِهِ الَّذِي وَعَدَهُ اللَّهُ تَعَالَى أَوْلِيَاءَهُ. وَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: مَنْ لَمْ يَقُلْ إِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ يُرَى فِي الجنة فهو جهمي. وقال الشافعي رحمه الله وَقَدْ جَاءَتْهُ رُقْعَةٌ مِنَ الصَّعِيدِ فِيهَا: مَا تَقُولُ فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَلَّا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} (4) ؟ فقال رحمه الله: لما أن حجب   (1) يونس: 26. (2) صححه الألباني عنه، تخريج السنة 473، 474. (3) القيامة: 22، 23. (4) المطففين: 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 هَؤُلَاءِ فِي السُّخْطِ كَانَ فِي هَذَا دَلِيلٌ على أن أولياءه يرونه في الرضا. وقال المزني: سمعت الشافعي يَقُولُ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} : فِيهَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ يَرَوْنَ رَبَّهُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى يوم القيامة. وسئل أحمد رحمه الله: أَلَيْسَ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى يَرَاهُ أَهْلُ الْجَنَّةِ؟ أَلَيْسَ تَقُولُ بِهَذِهِ الْأَحَادِيثِ؟ قَالَ أَحْمَدُ: صَحِيحٌ. وقال رحمه الله فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وَلَا يَكُونُ حِجَابٌ إِلَّا لِرُؤْيَةٍ، أَخْبَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ من شاء الله ومن أراد أن يراه والكفار لا يرونه. *بيان أنه لا تعارض بين ما ثبت في رؤية الله عز وجل وقوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} (1) أو قوله لموسى {لن تراني} (2) : لا منافاة بين الرؤية المثبتة وبين هاتين الآيتين، فإن الإدراك غير الرؤية، فالإدراك يعني الإحاطة، أما الله تعالى فلا تحيط به الرؤية كما لا يحيط به العلم {ولا يحيطون به علماً} (3) ، وإن كان سبحانه يرى في الجنة. والبعض يجعل قوله تعالى: {لا تدركه الأبصار} بمعنى لا تراه، أي في الدنيا (4) . أما قوله تعالى لموسى لما قَالَ: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تراني} فهذا في الدنيا وإلا   (1) الأنعام: 103. (2) طه: 110. (3) طه: 110. (4) ولعلّ الأول أقرب، إذ أن سياق الآية أقرب إلى تقرير صفة لازمة له سبحانه، بخلاف قوله تعالى لموسى: {لن تراني} ، فلم يقل لن أرى أو لا أرى، كما قال هنا: {لا تدركه الأبصار} وذلك لأن المقصود ليس تقرير أن الله لا يرى وإنما نفى ذلك في الدنيا: والله أعلم. ومن استخدام= = (لن) للنفي في الدنيا قوله تعالى: {ولن يتمنوه أبداً} [البقرة: 95] أي الموت مع أنه عز وجل قال: {ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك} [الزخرف:77] فالمراد نفي ذلك في الدنيا. انظر شرح الواسطية للشيخ محمد خليل هراس ص73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 لقال إني لا أرى (1) ولا يمكن حمل الآية على غير ذلك وإلا ضربنا القرآن بعضه بعض، فقد سبق قَوْلَهُ تَعَالَى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا ناظرة} وقوله عز وجل: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} وتفسير النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته لها بالرؤية وقوله تَعَالَى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} وهذا بالإضافة إلى الأحاديث الصحيحة التي أثبتت الرؤية بعبارات صريحة لا تحتمل التأويل. 26- إثبات كل ما أثبته الله تعالى لنفسه أو أثبته له رسوله - صلى الله عليه وسلم - غير ما سبق كما في الأمثلة التالية من الآيات والأحاديث: 1- قوله تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} (2) ، وقوله: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذو الجلال والإكرام} (3) . 2- قوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا في نفسك إنك أنت علام الغيوب} (4) . 3- قوله تعالى: {ولتصنع على عيني} (5) ، وقوله تعالى: {فاصبر لحكم   (1) ويضاف إلى هذا أن الله عز وجل علق الرؤية على استقرار الجيل {قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فإن استقر مكانه فسوف تراني} والمعلق على الممكن ممكن، أنه تعالى تجلى بالفعل للجبل {فلما تجلى ربه للجبل جعله دكاً} فلا مانع أن يتجلى للإنسان وهو أولى بذلك من الجماد ولكن بعد أن يهيئه الله لذلك في الجنة، ولو كانت رؤية الإنسان لربه مستحيلة ما سألها موسى عليه السلام وهو من الأنبياء الذين هم أعلم الخلق بربهم. انظر شرح محمد خليل هراس حفظه الله للعقيدة الواسطية ص73، وتفصيله في حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح لابن القيم رحمه الله ص196-198.. (2) القصص:88. (3) الرحمن: 26، 27. (4) المائدة: 116. (5) طه: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ربك فإنك بأعيننا} (1) . 4- قوله تَعَالَى: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (2) ، وقوله: {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} (3) . 5- قوله تعالى: {إن الله يحب المتقين} (4) ، وقوله: {والله لا يحب الظالمين} (5) . 6- قوله تعالى: {لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة..} (6) . 7- قوله تعالى: {ولكن كره الله انبعاثهم} (7) . 8- قوله تعالى: {وغضب الله عليه ولعنه} (8) . 9- قوله تَعَالَى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء} (9) ، والذي يبين أن المراد أنه عز وجل كتبها بيده قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ احْتِجَاجِ آدَمَ وَمُوسَى: (فَقَالَ آدَمُ: يَا مُوسَى اصطفاك الله بكلامه وخط له التوراة بيده) متفق عليه. وفي إثبات الكتابة أيضاً قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ بِيَدِهِ عَلَى نَفْسِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.   (1) الطور: 48. (2) ص: 75. (3) المائدة:64. (4) التوبة: 4، 7. (5) آل عمران: 57، 140. (6) الفتح: 18. (7) التوبة: 46. (8) النساء: 93. (9) الأعراف: 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 10- قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قوم يقادون إلى الجنة بالسلاسل) رواه البخاري وأحمد مِنْ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. 11- قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (يَضْحَكُ اللَّهُ إِلَى رَجُلَيْنِ يَقْتُلُ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ كِلَاهُمَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ..) متفق عليه من حديث أبي هريرة. 12- قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا مِنْ قَلْبٍ إِلَّا وَهُوَ بَيْنَ إِصْبَعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ فَإِذَا شَاءَ أَنْ يُقِيمَهُ أَقَامَهُ وَإِذَا شَاءَ أن يزيغه أزاغه) رواه الشيخان وَغَيْرُهُمَا مِنْ حَدِيثِ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا. 13- قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ، وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ ما ظهر منها وما بطن ... ) رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ مِنْ حَدِيثِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ. فكل ما ذكر من الآيات والأحاديث السالفة نثبته ونؤمن به دون تكييف ولا تأويل بل تمر كما جاءت معتقدين معناها ولا نقع في تلك التأويلات الباطلة التي لا يدل عليها دليل وليس للعقل فيها مجال. 10- أمثلة لبعض التأويلات المنحرفة التي لجأت إليها الفرق المخالفة لأهل السنة حين تعرضوا لأسماء الله تعالى وصفاته: 1- سبق الرد على زعمهم أن قوله تعالى: {لاتدركه الأبصار} أي لا تراه العيون في الدنيا ولا في الآخرة، وزعمهم أن قوله تعالى لموسى: {لن تراني} هو لنفي الرؤية في الدنيا والآخرة. 2- كما سبق الرد على تأويلهم {إلى ربها ناظرة} أي إلى ما عنده، وبعضهم أولوه بالانتظار كقوله: {انظرونا نقتبس من نوركم} (1) فيقال لهم: إذا كان كذلك لم يحتج إلى أداة ولكنه سبحانه وتعالى عداه بإلى   (1) الحديد: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 الَّتِي تُفِيدُ الْمُعَايَنَةَ بِالْبَصَرِ عِنْدَ جَمِيعِ أَهْلِ اللغة، ويضاف إلى ذلك أنه عز وجل نسب النظر للوجوه التي فيها الأبصار. 3- كما سبق تأويلهم الاستواء بالاستيلاء والرد عليه. 4 - تأويلهم قوله تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} (1) : قال أحدهم: إن التكليم من موسى عليه السلام وَأَنَّ لَفْظَ الْجَلَالِةِ مَنْصُوبٌ عَلَى الْمَفْعُولِيَّةِ فِرَارًا مِنْ إِثْبَاتِ الْكَلَامِ كَمَا فَعَلَهُ بَعْضُ الْجَهْمِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَقَدْ عُرض ذَلِكَ عَلَى أَبِي بَكْرِ بن عياش فقال: مَا قَرَأَ هَذَا إِلَّا كَافِرٌ، قَرَأْتُ عَلَى الْأَعْمَشِ، وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ عَلَى يَحْيَى بْنِ وَثَّابٍ، وَقَرَأَ يَحْيَى بْنُ وَثَّابٍ عَلَى أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيِّ، وَقَرَأَ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ عَلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، وَقَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} يَعْنِي بِرَفْعِ لَفْظِ الْجَلَالَةِ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَهُوَ مجمع عليه بين القراء. وَرَوَى ابْنُ كَثِيرٍ (2) أَنَّ بَعْضَ الْمُعْتَزِلَةِ قَرَأَ عَلَى بَعْضِ الْمَشَايِخِ {وَكَلَّمَ اللَّهَ مُوسَى تَكْلِيمًا} فقال له: وكيف تَصْنَعُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ} ؟ الْأَعْرَافِ: 143. يَعْنِي أَنَّ هَذَا لَا يقبل التحريف ولا التأويل. 5- تأويلهم نَفْسَهُ تَعَالَى بِالْغَيْرِ وَأَنَّ إِضَافَتَهَا إِلَيْهِ كَإِضَافَةِ ناقة الله وبيت اللَّهِ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {ويحذركم الله نفسه} (3) أي غيره، وقوله تعالى: {كتب ربكم على نفسه الرحمة} (4) أي على غيره، وقوله تعالى: {تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا في نفسك} (5) أي   (1) النساء: 64. (2) انظر تفسير ابن كثير ج1ص504. دار القلم ط الثانية. (3) آل عمران: 28، 30. (4) الأنعام: 54. (5) المائدة: 116. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 ولا أعلم ما في غيرك، وقوله تعالى لموسى عليه السلام: {واصطنعتك لنفسي} (1) أي واصطنعتك لغيري، وهذا لا يقوله عاقل. 6- تأويلهم وجهه تعالى بنفسه مع جحودهم لها كما تقدم، وهذا التناقض يكفي عن الرد عليهم، ولجأ بعضهم إلى القول بأن (وجه الله) من باب المجاز كقولك (وجه الكلام) و (وجه الدار) ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَلَيْسَ الثَّوْبُ وَالدَّارُ وَالْكَلَامُ مَخْلُوقَاتٍ كُلَّهَا، وَقَدْ شَبَّهْتَمْ وَجْهَ اللَّهِ تَعَالَى بِذَلِكَ؟ فأين الفكاك والخلاص. 7 - تأويلهم اليد بالنعمة ، واستشهدوا على ذلك بِقَوْلِ الْعَرَبِ: (لَكَ يَدٌ عِنْدِي) أَيْ نِعْمَةٌ، فَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ يَكُونُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {بَلْ يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} (2) يَعْنِي نِعْمَتَاهُ، فَلَمْ يُثْبِتُوا لِلَّهِ إِلَّا نِعْمَتَيْنِ، والله تعالى يقول: {وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة} (3) ويكون قوله تعالى: {لما خلقت بيدي} أي بنعمتي، فأي فضيلة لآدم عليه السلام على غيره على هذا التأويل؟ ولم يقول له الناس في الموقف حين يطلبون منه أن يشفع لهم عند الله لفصل القضاء: (أَنْتَ آدَمُ أَبُو النَّاسِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ..) والحديث متفق عليه، وَهَلْ مِنْ أَحَدٍ لَمْ يَخْلُقْهُ اللَّهُ بِنِعْمَتِهِ. وماذا يقولون في قوله تعالى: {والسماوات مطويات بيمينه} (4) ؟ هل المراد مَطْوِيَّاتٌ بِنِعْمَتِهِ؟ فَهَلْ يَقُولُ هَذَا عَاقِلٌ؟ وَقَالَ آخَرُونَ مِنْهُمْ: بِقُوَّتِهِ، اسْتِشْهَادًا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالسَّمَاءَ بنيناها بأيد} (5) أَيْ بِقُوَّةٍ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَلَيْسَ كُلُّ مَخْلُوقٍ خَلَقَهُ اللَّهُ بِقُوَّةٍ؟ فَعَلَى هَذَا مَا مَعْنَى قوله عز   (1) طه: 41. (2) المائدة: 64. (3) لقمان: 20. (4) الزمر:27. (5) الذاريات: 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 وَجَلَّ: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) وَأَيُّ فَضْلٍ لِآدَمَ عَلَى إِبْلِيسَ إِذْ كل منهما خلقه الله بقوته؟ كذلك ما معنى قوله: {بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء} ؟ هل معناه قوتان؟!! ...... الخ. 8- تأويلهم أَحَادِيثَ النُّزُولِ إِلَى سَمَاءِ الدُّنْيَا بِأَنَّهُ يَنْزِلُ أَمْرُهُ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَلَيْسَ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى نَازِلًا فِي كُلِّ وَقْتٍ وَحِينٍ؟ فَمَاذَا يَخُصُّ السَّحَرَ بِذَلِكَ؟ وَقَالَ آخَرُونَ: يَنْزِلُ مَلَكٌ بِأَمْرِهِ، فَنَسَبَ النُّزُولَ إِلَيْهِ تَعَالَى مَجَازًا، فَيُقَالُ لَهُمْ: فَهَلْ يَجُوزُ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنْ يُرْسِلَ من يدعي ربوبيته؟ وهل يمكن للملك أن يقول: (مَنْ ذَا الَّذِي يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ ذَا الَّذِي يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ) وَهَلْ قَصُرَتْ عِبَارَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَنْ يَقُولَ: يَنْزِلُ مَلَكٌ بِأَمْرِ اللَّهِ فَيَقُولُ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ لَكُمْ كَذَا أَوْ أَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ لَكُمْ كَذَا حَتَّى جَاءَ بِلَفْظٍ مجمل يوهم ربوبية الملك؟!! . 9- تأويلهم الْمَجِيءَ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بِالْمَجَازِ، فَقَالُوا: يَجِيءُ أَمْرُهُ، وَاسْتَدَلُّوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك} (2) فَقَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أن يأتيهم الله} (3) هذا مِنْ مَجَازِ الْحَذْفِ، وَالتَّقْدِيرُ يَأْتِي أَمْرُ اللَّهِ، فَيُقَالُ لَهُمْ: أَلَيْسَ قَدِ اتَّضَحَ ذَلِكَ غَايَةَ الِاتِّضَاحِ، أَنَّ مَجِيءَ رَبِّنَا عَزَّ وَجَلَّ غَيْرُ مَجِيءِ أَمْرِهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَأَنَّهُ يَجِيءُ حَقِيقَةً وَمَجِيءُ أَمْرِهِ حَقِيقَةٌ، وَمَجِيءُ مَلَائِكَتِهِ حَقِيقَةٌ، وَقَدْ فَصَلَ الله تَعَالَى ذَلِكَ وَقَسَّمَهُ وَنَوَّعَهُ تَنْوِيعًا يَمْتَنِعُ مَعَهُ الْحَمْلُ عَلَى الْمَجَازِ فَذَكَرَ تَعَالَى فِي آيَةِ الْبَقَرَةِ مَجِيئَهُ وَمَجِيءَ الْمَلَائِكَةِ (4) وَكَذَا فِي آيَةٍ الفجر (5) ، وذكر في   (1) ص: 75. (2) النحل: 33. (3) البقرة: 210. (4) قال تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [البقرة 210] . (5) قال تَعَالَى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الْفَجْرِ:22] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 النَّحْلِ مَجِيءَ مَلَائِكَتِهِ وَمَجِيءَ أَمْرِهِ (1) ، وَذَكَرَ فِي آيَةِ الْأَنْعَامِ إِتْيَانَهُ وَإِتْيَانَ مَلَائِكَتِهِ وَإِتْيَانَ بَعْضِ آيَاتِهِ الَّتِي هِيَ مِنْ أَمْرِهِ (2) . ثُمَّ يُقَالُ لهم: مَا الَّذِي يَخُصُّ إِتْيَانَ أَمْرِهِ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ؟ أليس أمره آتياً في كل وقت، ومتنزلاً بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِتَدْبِيرِ أُمُورِ خَلْقِهِ فِي كل نفس ولحظة؟!! . 11- نبذة عن بعض الفرق الملحدة في توحيد المعرفة والإثبات: أ-الجهمية : ينسبون لجهم بن صفوان، ظهرت بدعته بترمذ وقتله سالم بن أحوز المزني بمرو في آخر أيام بني أمية، وهؤلاء يقولون بخلق القرآن، وغلوا في التعطيل حتى نفوا الأسماء والصفات جميعاً ولا يثبتون لله تعالى ذاتاً ولا اسماً ولا صفة، هكذا يقول غلاتهم وقد كان قدماؤهم يتحاشون عن التصريح بذلك ويتسترون منه لكن كان أئمة الحديث يتفرسون فيهم فقالوا: إِنَّمَا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَقُولُوا لَيْسَ فِي السَّمَاءِ إله يعبد. ولم يصرح بأن الإله الذي في السماء ليس بشيء إلا ابن سينا تِلْمِيذُ الْفَارَابِيِّ، وَهُوَ مَنْسُوبٌ إِلَى أَرِسْطُو الْيُونَانِيِّ، وَهُوَ يَرْجِعُ إِلَى مَذْهَبِ الدَّهْرِيَّةِ الطَّبَائِعِيَّةِ (3) فِي الْمَعْنَى وَهُوَ الَّذِي نَصَرَهُ الْمُلْحِدُ الْكَبِيرُ نَصِيرُ الشرك الطوسي وأشباهه.   (1) قال تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أو يأتي أمر بك كذلك فعل الذين من قبلهم} [النحل: 33] . (2) قال تَعَالَى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ او يأتي أمر بك أو يأتي بعض آيات ربك} [الأنعام: 158] . (3) أي إنكار الخالق، وسيأتي في البعث إن شاء الله أن الدهرية ثلاثة أصناف هذا أحدها، والثاني الدهرية الدورية وهم ينكرون أيضاً الخالق والمبدأ والمعاد لكن يقولون إن كل شيء يعود إلى ما كان عليه كل ستة وثلاثين ألف سنة، والثالث الدهرية من مشركي العرب، وأقروا بالخالق والمبدأ وأنكروا المعاد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ب- الحلولية : يَزْعُمُونَ أَنَّ مَعْبُودَهُمْ فِي كُلِّ مَكَانٍ بِذَاتِهِ وينزهونه عن استوائه على العرش وَعُلُوِّهِ عَلَى خَلْقِهِ!! وَلَمْ يَصُونُوهُ عَنْ أَقْبَحِ الأماكن وأقذرها، ويشبهون حلوله في العالم بحلول السمن في اللبن، وهؤلاء قُدَمَاءُ الْجَهْمِيَّةِ الَّذِينَ تَصَدَّى لِلرَّدِّ عَلَيْهِمْ أَئِمَّةُ الحديث كأحمد ابن حنبل وغيره، ولما حار الجهم حين سئل عن ربه قال: هو هذا الهواء في كل مكان. أما غلاة الجهمية بعد ذلك - كما قدمناه - فيقولون: ليس في داخل العالم ولا خارجه وليس على العرش ولا محايثاً ... الخ، أي أنهم يثبتون عدماً ولا يثبتون له ذاتاً، تعالى الله عن باطلهم، أما الجهمية الأوائل فيجعلون له ذاتاً حالة بكل مكان والأولون والآخرون يشتركون في نفي الأسماء والصفات من السمع والبصر والكلام وغير ذلك من الأسماء والصفات. جـ- الاتحادية : وهم القائلون بأن الوجود بأسره هو الحق، وأن جميع الأضداد شيء واحد هو معبودهم وهم طائفة ابن عربي، وأصل هذا المذهب انْتَحَلَهُ ابْنُ سَبْعِينَ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الرقوطي نسبة إلى بلدة تدعى رقوطة، ولد سنة 614هـ وَجَاوَرَ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ بِغَارِ حِرَاءَ يَرْتَجِي الوحي بناء على اعتقاده أن النبوة مكتسبة وأنها فيض من العقل الفعال حيث كان مشتغلاً بالفلسفة، لذا فهذا المذهب متولد من مذهب الفلاسفة، وكان إذا رأى الطائفتين حول البيت يقول كأنهم الحمير حوال الْمَدَارِ، وَأَنَّهُمْ لَوْ طَافُوا بِهِ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ طَوَافِهِمْ بِالْبَيْتِ، فَاللَّهُ يَحْكُمُ فِيهِ وَفِي أمثاله. د-القدرية : وهم نفاة القدر وهم قسمان قسم نفي تقدير الخير والشر بالكلية، وجعل العباد هم الخالقين لأفعالهم خيرها وشرها فأين هؤلاء من إثبات مشيئته وإرادته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 عز وجل وأنه لا يكون في ملكه إلا ما شاءه وقدره، وقسم نفوا تقدير الشر دون الخير، وَهَذَا رَاجِعٌ إِلَى مَذْهَبِ الْمَجُوسِ الثَّنَوِيَّةِ الَّذِينَ أثبتوا خالقين خالقاً للخير وخالقاً للشر، فحبهم الله تعالى. هـ-الجبرية : وهؤلاء يجعلون الإنسان مجبوراً على الخير والشر، فهم في الطرف المضاد للقدرية، وهم لا يثبتون الإرادة الشرعية ويجعلون المعاصي طاعات ويقولون: أطعنا مشيئة الله الكونية فينا، والعجب أن هذا المذهب موروث عن الجهم الذي لا يثبت لله فعلاً، ثم يجعل أفعال العبد هي أفعال الله (1) .   (1) ومن القرق الملحدة في توحيد المعرفة والإثبات: 1 - الفلاسفة : وهم قوم نظروا في كتب فلاسفة اليونان كأرسطو وأفلاطون وأفلوطين وأخذوا خزعبلاتهم ليوفقوا بينها وبين عقائد الدين، فجعلوا الله تعالى موجوداً وجوداً مطلقاً لبلا تعين، أي جعلوا وجوده في الأذهان فقط كأمر تقديري صرف ونفوا جميع الصفات الوجودية. ومن جهة أخرى لا يقرون بتوحيد الربوبية فالله عندهم ليس خالقاً ولا مدبراً لهذا الكون، ولا عالماً بما فيه، وإنما ينسبون كل ذلك إلى ما يسمونه العقل الفعال أو عقل القمر فأثبتوا واسطة في الخلق. 2- المعتزلة : وهؤلاء يثبتون أسماء بلا معاني، فبينما ينكر الجهمية الأسماء ابتداءً فيقولون: ليس بسميع ولا بصير، فينكرون الأسماء والصفات جميعاً - كما قدمنا - فإن هؤلاء المعتزلة يقولون: سميع بلا سمع، بصير بلا بصر، قدير بلا قدرة ... وهكذا ... ويقولون: بخلق القرآن، ولهم ضلالات في نواح متعددة لكن ما نذكره هنا عن هذه الفرق إنما هو فيما يتعلق بتوحيد المعرفة والإثبات. ومنشأ المعتزلة أن تلميذاً لحسن البصري هو واصل بن عطاء اعتزله لسبب ما وعمل له في حلقة في المسجد يقرر فيها آراءه فسمي هو وأصحابه بالمعتزلة، وكانوا يقدسون العقل ويجعلونه المصدر الأول للاعتقاد. 3 - الأشاعرة : (نسبة لأبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري، وقد رجع إلى مذهب أهل السنة في آخر أدوار حياته) : وهؤلاء يثبتون لله سبع صفات يسمونها صفات المعاني، وهي العلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر والكلام، ويأولون بقية الأسماء والصفات، أما قولهم في القرآن فسبق ذكره حيث قالوا: = =المعاني مسموعة حقيقة والألفاظ مخلوقة!! والأشاعرة يجعلون اهتمامهم كله في إثبات انفراد الله بالخلق والاختراع - إثبات الربوبية- ولا يهتمون بتوحيد الألوهية الذي هو أصل بعثة الرسل وقلما يذكرونه في كتبهم، لذا انخرط كثير منهم في بدع الصوفية والطرق الشركية. انظر دعوة التوحيد، الدكتور محمد خليل هراس ص 270، 274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 بقيت فرق أخرى كالمرجئة والخوارج والشيعة والصوفية وغير ذلك وهذه الفرق سيأتي الحديث عن كثير منها إن شاء الله تعالى في موضعها في الكلام على الإيمان وغيره من أبواب الدين وسيأتي مزيد حديث عن الفرق السابق ذكرها، وإنما المقصد مما ذكرناه هنا - كما قلنا - كان فيما يتعلق بتوحيد المعرفة والإثبات وهناك أيضاً أسماء أخرى لفرق ملحدة في توحيد المعرفة والإثبات لكنها ترجع إلى هذه الفرق الكبيرة. وهذه الطوائف التي ذكرناها مرجعها إلى ثلاث: -فالحلولية والاتحادية ومن في معناهما مَرْجِعُهُمْ إِلَى الطَّبَائِعِيَّةِ الدَّهْرِيَّةِ. -وَالْقَدَرِيَّةُ النُّفَاةُ بِجَمِيعِ فرقهم مرجعهم إلى المجوس الثنوية، حيث نفى القدرية أن يكون الله هو المتصرف في ملكوته، وهذا راجع لمذهب المجوس الثنوية الذين أثبتوا خالقين للخير وخارقاً للشر قبحهم الله. -وَالْجَبْرِيَّةُ الْغُلَاةُ مَرْجِعُهُمْ إِلَى النَّزْعَةِ الْجَهْمِيَّةِ الْإِبْلِيسِيَّةِ والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 وفيما يلي الأبيات المتعلقة بما سبق : حَيٌّ وَقَيُّومٌ فَلَا يَنَامُ ... وَجَلَّ أَنْ يُشْبِهَهُ الْأَنَامُ لَا تَبْلُغُ الْأَوْهَامُ كُنْهَ ذَاتِهِ ... وَلَا يُكَيِّفُ الْحِجَا صِفَاتِهِ بَاقٍ فَلَا يَفْنَى وَلَا يَبِيدُ ... وَلَا يَكُونُ غَيْرُ مَا يُرِيدُ مُنْفَرِدٌ بِالْخَلْقِ وَالْإِرَادَهْ ... وَحَاكِمٌ -جَلَّ- بِمَا أَرَادَهْ فَمَنْ يَشَأْ وَفَّقَهُ بِفَضْلِهِ ... وَمَنْ يَشَأْ أَضَلَّهُ بِعَدْلِهِ فَمِنْهُمُ الشَّقِيُّ وَالسَّعِيدُ ... وَذَا مُقَرَّبٌ وَذَا طَرِيدُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ قَضَاهَا ... يَسْتَوْجِبُ الْحَمْدَ عَلَى اقْتِضَاهَا وَهُوَ الَّذِي يَرَى دَبِيبَ الذَرِّ ... فِي الظُّلُمَاتِ فَوْقَ صُمِّ الصَّخْرِ وَسَامِعٌ لِلْجَهْرِ وَالْإِخْفَاتِ ... بِسَمْعِهِ الواسع للأصوات وعمله بِمَا بَدَا وَمَا خَفِيْ ... أَحَاطَ عِلْمًا بِالْجَلِيِّ وَالْخَفِيْ وَهْوَ الْغَنِيُّ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ ... جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَعَالَى شَانُهُ وَكُلُّ شَيْءٍ رِزْقُهُ عَلَيْهِ ... وَكُلُّنَا مُفْتَقِرٌ إِلَيْهِ كَلَّمَ مُوسَى عَبْدَهُ تَكْلِيمَا ... وَلَمْ يَزَلْ بِخَلْقِهِ عَلِيمَا كَلَامُهُ جَلَّ عَنِ الْإِحْصَاءِ ... وَالْحَصْرِ وَالنَّفَادِ وَالْفَنَاءِ لَوْ صَارَ أَقْلَامًا جَمِيعُ الشَّجَرِ ... وَالْبَحْرُ تُلْقَى فِيهِ سَبْعَةُ أَبْحُرِ وَالْخَلْقُ تَكْتُبْهُ بِكُلِ آنِ ... فَنَتْ وَلَيْسَ الْقَوْلُ مِنْهُ فَانِ وَالْقَوْلُ فِي كِتَابِهِ الْمُفَصَّلْ ... بِأَنَّهُ كَلَامُهُ الْمُنَزَّلْ عَلَى الرَّسُولِ الْمُصْطَفَى خَيْرِ الْوَرَى ... لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ وَلَا بِمُفْتَرَى يُحْفَظُ بِالْقَلْبِ وَبِاللِّسَانِ ... يُتْلَى كَمَا يُسْمَعُ بِالْآذَانِ كَذَا بِالَابْصَارِ إِلَيْهِ يُنْظَرُ ... وَبِالْأَيَادِي خَطُّهُ يُسَطَّرُ وَكُلُّ ذِي مَخْلُوقَةٌ حَقِيقَهْ ... دُونَ كَلَامِ بَارِئِ الْخَلِيقَهْ جَلَّتْ صِفَاتُ رَبِّنَا الرَّحْمَنِ ... عَنْ وَصْفِهَا بِالْخَلْقِ وَالْحَدَثَانِ فَالصَّوْتُ وَالْأَلْحَانُ صَوْتُ الْقَارِي ... لَكِنَّمَا الْمَتْلُوُّ قَوْلُ الْبَارِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 مَا قَالَهُ لَا يَقْبَلُ التَّبْدِيلَا ... كَلَّا وَلَا أَصْدَقُ مِنْهُ قِيلًا وَقَدْ رَوَى الثِّقَاتُ عَنْ خَيْرِ الْمَلَا ... بِأَنَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَا فِي ثُلُثِ اللَّيْلِ الْأَخِيرِ يَنْزِلُ ... يَقُولُ هَلْ مِنْ تَائِبٍ فَيُقْبِلُ هَلْ مِنْ مُسِيءٍ طَالِبٍ لِلْمَغْفِرَهْ ... يَجِدْ كَرِيمًا قَابِلًا لِلْمَعْذِرَهْ يَمُنُّ بِالْخَيْرَاتِ وَالْفَضَائِلْ ... وَيَسْتُرُ الْعَيْبَ وَيُعْطِي السَّائِلْ وَأَنَّهُ يَجِيءُ يَوْمَ الْفَصْلِ ... كَمَا يَشَاءُ لِلْقَضَاءِ الْعَدْلِ وَأَنَّهُ يُرَى بِلَا إِنْكَارِ ... فِي جَنَّةِ الْفِرْدَوْسِ بِالْأَبْصَارِ كُلٌّ يَرَاهُ رُؤْيَةَ الْعِيَانِ ... كَمَا أَتَى فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ وَفِي حَدِيثِ سَيِّدِ الْأَنَامِ ... مِنْ غَيْرِ مَا شَكٍّ وَلَا إِبْهَامِ رُؤْيَةَ حَقٍّ لَيْسَ يَمْتَرُونَهَا ... كَالشَّمْسِ صَحْوًا لَا سَحَابَ دُونَهَا وَخُصَّ بِالرُّؤْيَةِ أَوْلِيَاؤُهُ ... فَضِيلَةً وَحُجِبُوا أَعْدَاؤُهُ وَكُلُّ مَا لَهُ مِنَ الصِّفَاتِ ... أَثْبَتَهَا فِي مُحْكَمِ الْآيَاتِ أَوْ صَحَّ فِيمَا قَالَهُ الرَّسُولُ ... فَحَقُّهُ التَّسْلِيمُ وَالْقَبُولُ نُمِرُّهَا صَرِيحَةً كَمَا أَتَتْ ... مَعَ اعْتِقَادِنَا لِمَا لَهُ اقْتَضَتْ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلِ ... وَغَيْرِ تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلِ بَلْ قَوْلُنَا قَوْلُ أَئِمَّةِ الْهُدَى ... طُوبَى لِمَنْ بِهَدْيِهِمْ قَدِ اهْتَدَى وَسَمِّ ذَا النَّوْعَ مِنَ التَّوْحِيدِ ... تَوْحِيدَ إِثْبَاتٍ بِلَا تَرْدِيدِ قَدْ أَفْصَحَ الْوَحْيُ الْمُبِينُ عَنْهُ ... فَالْتَمِسِ الْهُدَى الْمُنِيرَ مِنْهُ لَا تَتَّبِعْ أَقْوَالَ كُلِّ مَارِدِ ... غَاوٍ مُضِلٍّ مَارِقٍ مُعَانِدِ فَلَيْسَ بَعْدَ رَدِّ ذَا التِّبْيَانِ ... مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ • أسئلة : 1- ما معنى الحي القيوم وماذا تعرف عن فضل هذين الاسمين؟ 2- ما جوابك على قول القائل: إذا كان الله يكره السيئات فلم قدر وجودها؟ وهل يأتي المكروه بمحبوب؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 3- اذكر بعض الأدلة على إثبات صفتي السمع والبصر لله عز وجل وماذا يترتب على نفيهما من الباطل؟ 4- ما المراد بإثبات صفة الكلام لله عز وجل وما أدلة أهل السنة والجماعة على ذلك؟ 5- ما عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن؟ وما حكم من قال بخلق القرآن؟ 6- بين أصل القول بخلق القرآن؟ 7- عرف كلاً من اللفظية والواقفة، وما حكم كل منهما؟ 8- اذكر نبذة مختصرة عن الطوائف المخالفة لأهل السنة في كلام الله تعالى؟ 9- ما مذهب أهل السنة في نزوله تبارك وتعالى وما دليلهم على ذلك؟ 10- اذكر بعض الأدلة من الكتاب والسنة وبعض أقوال الصحابة والعلماء في رؤية المؤمنين لله عز وجل في الآخرة؟ 11- اذكر بعض الآيات والأحاديث التي تتضمن نسبة بعض الصفات لله غير ما ذكرنا مشيرًا إلى موضع الشاهد منها؟ 12- اذكر أمثلة للتأويلات المنحرفة التي لجأت إليها الفرق المخالفة لأهل السنة والجماعة حين تعرضوا لأسماء الله تعالى وصفاته. مبينا الرد عليهم؟ 13- اذكر نبذة مختصرة عن هذه الفرق فيما يتعلق بإلحادها في توحيد المعرفة والإثبات: الجهمية-الحلولية-الاتحادية-الفلاسفة-المعتزلة-الأشاعرة-القدرية-الجبرية. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الفصل الثاني في القسم الثاني من أقسام التوحيد: توحيد الطلب والقصد (توحيد الألوهية) وأنه معنى لا إله إلا الله 1- توحيد الإثبات أعظم حجة على توحيد الطلب والقصد: إذا تبين لك أن الله تعالى واحد في ربوبيته وآمنت بذلك وجب عليك على الفور أن توحده وتفرده بالعبادة، فَإِنَّ تَوْحِيدَ الْإِثْبَاتِ هُوَ أَعْظَمُ حُجَّةٍ عَلَى توحيد الطلب والقصد الذي هو توحيد الألوهية، وَبِهِ احْتَجَّ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ فِي غير موضع على وجوب إفراده تعالى بالألوهية لِتَلَازُمِ التَّوْحِيدَيْنِ، فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ إِلَهًا مُسْتَحِقًّا لِلْعِبَادَةِ إِلَّا مَنْ كَانَ خَالِقًا رَازِقًا مَالِكًا مُتَصَرِّفًا مُدَبِّرًا لِجَمِيعِ الْأُمُورِ حَيًّا قَيُّومًا سَمِيعًا بَصِيرًا عَلِيمًا حَكِيمًا مَوْصُوفًا بِكُلِّ كَمَالٍ مُنَزَّهًا لِجَمِيعِ الْأُمُورِ حَيًّا قَيُّومًا سَمِيعًا بَصِيرًا عَلِيمًا حَكِيمًا مَوْصُوفًا بِكُلِّ كَمَالٍ مُنَزَّهًا عَنْ كُلِّ نَقْصٍ، غَنِيًّا عَمَّا سِوَاهُ، مُفْتَقِرًا إِلَيْهِ كُلُّ ما عداه، فاعلاً مختراً لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا رَادَّ لِقَضَائِهِ وَلَا يُعْجِزُهُ شَيْءٌ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ، وَلَا تَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ، وَهَذِهِ صِفَاتُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ، وَلَا يَشْرَكُهُ فِيهَا غَيْرُهُ، فَكَذَلِكَ لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ إِلَّا هُوَ وَلَا تَجُوزُ لِغَيْرِهِ، فَحَيْثُ كَانَ مُتَفَرِّدًا بِالْخَلْقِ وَالْإِنْشَاءِ وَالْبَدْءِ وَالْإِعَادَةِ لَا يَشْرَكُهُ فِي ذَلِكَ أَحَدٌ وَجَبَ إِفْرَادُهُ بِالْعِبَادَةِ دُونَ سِوَاهُ لَا يُشْرَكُ مَعَهُ فِي عِبَادَتِهِ أَحَدٌ كما قال تعالى: {يا أيها النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فراشاً والسماء بناءًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وانتم تعلمون} (1) ، وقال تعالى: {ألم تر أن الله يولج الليل   (1) البقرة: 21، 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) . 2- الإقرار لله بالربوبية لا يكفي وحده للدخول في دين الإسلام: وبيان ذلك أن المشركين كانوا مقرين لله بالربوبية وإنما لم يكونوا مسلمين لعدم إقرارهم له وحده عز وجل بالألوهية بل اتخذوا معه آلهة أخرى صرفوا لها أنواعاً من العبادة. قال تعالى: {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولون الله فأنى يؤفكون} (2) ، وقال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قل فأنى تسحرون} (3) . فالله تعالى في هذه الآيات ينكر على المشركين إعراضهم عن توحيده تعالى بالعبادة مع إقرارهم له بصفات الربوبية، فعبّاد الأوثان يقرون أن الله هو المنفرد بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَالضُّرِّ وَالنَّفْعِ وَالتَّقْدِيرِ وَالتَّدْبِيرِ وَأَنْوَاعِ التَّصَرُّفَاتِ لَيْسَ إِلَيْهِمْ وَلَا إِلَى أَوْثَانِهِمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ بَلْ هُوَ الْخَالِقُ وَمَا عَدَاهُ مَخْلُوقٌ، وَهُوَ الرَّبُّ وَمَا عَدَاهُ مَرْبُوبٌ غَيْرَ أَنَّهُمْ جَعَلُوا لَهُ مِنْ خَلْقِهِ شُرَكَاءَ سَوَّوْهُمْ بِهِ فِي اسْتِحْقَاقِ الْعِبَادَةِ وَأَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ تَفَرَّدَ بِهَا، وَقَالُوا لِمَنْ قَالَ لَهُمْ قُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا واحداً إن هذا لشيء عجاب} (4) ومع ذلك كانوا يوحدون الله في   (1) لقمان: 29، 30. (2) الزخرف: 87. (3) المؤمنون: 84-89. (4) ص: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 الربوبية والإلهية في الشدة. قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إذا هم يشركون} (1) وفي حَدِيثُ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لِأَبِيهِ حُصَيْنٍ قَبْلَ إِسْلَامِهِ: (كَمْ تَعْبُدُ الْيَوْمَ مِنْ إِلَهٍ) ؟ قَالَ: سَبْعَةَ آلِهَةٍ، سِتَّةً فِي الْأَرْضِ وَوَاحِدًا فِي السَّمَاءِ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَمَنْ تُعِدُّ لِرَغْبَتِكَ وَرَهْبَتِكَ) ؟ قَالَ: الذي في السماء) . قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب (2) . 3- تلازم أنواع التوحيد وفساده بفساد أحدها: ما ذكرناه من أن عباد الأوثان مقرون لله بالربوبية وَشَاهِدُونَ بِتَفَرُّدِ اللَّهِ بِذَلِكَ وَأَنَّهُمْ إِنَّمَا أَشْرَكُوا بالله في الإلهية حيث عبدوا معه غيره فهذا في الظاهر، وإلا فأنواع التوحيد متلازمة فمن صرف عبادة كالدعاء لوثن من الأوثان وطلب منه أن يختار له ما فيه مصلحته (يسافر أو لا يسافر، يفعل هذا الأمر أو لا يفعله، هل يضره ذلك الشيء أو لا يضره، ... إلى آخره مما كان يفعله المشركون وينتظرون فيه الجواب من الآلهة المدعاة) فمن فعل ذلك فقد نسب للوثن القدرة وعلم الغيب وما لا يقدر عليه إلا الله، وذلك من خصائص الربوبية، لذا فشركهم هذا في العبادة يتضمن شركاً في الربوبية، وهذا الأمر ظاهر كذلك في عبّاد القبور والأضرحة في كل مكان وزمان يطلبون من معبوداتهم   (1) العنكبوت: 65. (2) وقال ابن القيم رحمه الله: (حديث صحيح، وزاد الحاكم ... وإسناده على شرط الصحيحين) اهـ. الوابل الصيب ص137. وحسنه الأرناؤوط حفظه الله في جامع الأصول ج4 ص342. وأما الألباني حفظه الله فذكره في ضعيف سنن الترمذي رقم 690. وفي سند الحديث شبيب بن شيبة التيمي، صدوق يهم في الحديث. تقريب التهذيب، ش: 13. والحديث في سنن الترمذي، كتاب الدعوات، باب رقم 70 وقال الترمذي: وَقَدْ رُوِيَ هَذَا الْحَدِيثُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حصين من غير هذا الوجه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 أموراً لا يقدر عليها إلا الله فعبادتهم أو دعاؤهم لهم شرك في العبادة وكونهم يسألونهم أموراً لا يسألها إلا من له القدرة المطلقة وعلم الغيب والسمع الذي وسع الأصوات كلها شرك في الربوبية. ولما كان الشرك في العبادة ينظوي على الشرك في الربوبية ولابد كان الاتجاه بالعبادة لا ينبغي إلا لله وكان حقاً له تعالى على عباده، لذلك ورد في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ رَدِيفَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى حِمَارٍ فَقَالَ لِي: (يَا مُعَاذُ أَتَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى الْعِبَادِ وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ؟) قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: (حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَحَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ من لا يشرك به شيئاً ... ) . 4- مكانة توحيد الألوهية وعلاقته بشهادة أن لا إله إلا الله وبيان معنى هذه الكلمة: تظهر المكانة الرفيعة والمنزلة العالية لتوحيد الألوهية أو توحيد العبادة في الأمور التالية: 1- أن الدعوة إلى إفراد الله بالعبادة هي أصل دعوة الرسل جميعهم، فتوحيد الألوهية هو الذي أرسل الله به رسله جميعهم مِنْ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ يَدْعُونَ إِلَيْهِ أَوَّلًا قَبْلَ كُلِّ أَمْرٍ فَلَمْ يَدْعُوا إِلَى شَيْءٍ قَبْلَهُ، فَهُمْ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ شَرَائِعُهُمْ فِي تَحْدِيدِ بَعْضِ الْعِبَادَاتِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي الْأَصْلِ الَّذِي هُوَ إِفْرَادُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ افْتَرَقَتْ أَوِ اتَّفَقَتْ لَا يُشْرَكُ مَعَهُ فِيهَا غَيْرُهُ، كَمَا قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (نَحْنُ مُعَاشِرَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْلَادُ عَلاّت (1) ، دِينُنَا واحد) (2) .   (1) أولاد العلات: الذين أمهاتهم مختلفة وأبوهم واحد، أراد أن إيمانهم واحد وشرائعهم مختلفة. النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، وفي الفتح 6/564.: وقيل المراد أن أزمنتهم مختلفة. (2) رواه البخاري ومسلم وأبو داود وأحمد بنحوه، انظر فتح الباري 6/550، مسلم بشرح النووي 15/119، عون المعبود 12/432، والفتح الرباني: 20/134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ اتِّفَاقِ دعوة الرسل في ذلك فقال سبحانه وتعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فاعبدون} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أمةٍ رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت} (2) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يعبدون} (3) ، وقال تَعَالَى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تتفرقوا فيه} (4) وهؤلاء المذكورون هم أولو العزم من الرسل وبقية الرسل مثلهم في ذلك. 2- أن الدعوة إلى توحيد الله بالعبادة هي الدعوة التي من أجلها جردت سيوف الجهاد ودار الصراع بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان، فقد كلف الله تعالى الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكذا أمته من بعده بقتال من رفض ذلك التوحيد وتولى عنه. قال تعالى: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم فقاتلوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كل مرصد} (5) ، وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عليهم} (6) ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ * وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} (7) ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ الناس حتى   (1) الأنبياء: 25. (2) النحل: 36. (3) الزخرف: 45. (4) الشورى: 13. (5) التوبة: 5. (6) التوبة: 73، التحريم: 9. (7) الأنفال: 38، 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الْإِسْلَامِ وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) الحديث في الصحيح. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي ذَلِكَ إِلَّا قَوْلُ الله تبارك وتعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم} (1) لَكَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ كَافِيَةً فِي نَعْشِ الْقُلُوبِ وَتَهْيِيجِ النُّفُوسِ وَتَشْوِيقِهَا وَحَمْلِهَا عَلَى تِلْكَ الْبَيْعَةِ الرَّابِحَةِ الَّتِي لَا خَطَرَ لَهَا وَلَا يُحَاطُ بعظم فضلها. 3- أن توحيد الألوهية هو معنى ومضمون شهادة أن لا إله إلا الله، لأن معناها لا معبود بحق إلا الله. فالإله هو المألوه أي المعبود الذي يطاع ويتذلل إليه ويتحبب إليه وتتعلق به القلوب رغباً ورهباً (2) ، فظهر بهذا أن هذه الشهادة تقتضي توحديه تعالى - اعتقاداً وقولاً وعملاً - بالألوهية، وأم معناها لا معبود بحق إلا الله، وأما تقدير خبر (لا) المحذوف بموجود   (1) التوبة: 11. (2) قال في لسان العرب: الإله لله عز وجل، وكل ما اتخذ من دونه معبوداً إله عند متخذه. وقال: قال أبو الهيثم: لا يكون إلهاً حتى يكون معبوداً، وحتى يكون لعابده خالقاً ورازقاً ومدبراً، وعليه مقتدراً، فمن لم يكن كذلك فليس بإله - أي حقيقة ولكنه إله عند متخذه حيث يعتقد فيه صفات الإله المذكورة مع خلوه منها فألوهيته باطلة - وإن عبد ظلماً بل هو مخلوق متعبد. قال: وأصل الإله ولاه، فقلبت الواو همزة كما قالوا للوشاح إشاح وللوجاح - هو الستر - إجاح، ومعنى ولاه أن الخلق يَوْلَهُون إليه في حوائجهم، ويضرعون إليه فيما يصيبهم، ويفزعون إليه في كل ما ينوبهم كما يوله الطفل إلى أمه، وقد سمّت العرب الشمس لما عبدوها إلهة. وفي اللسان كذلك: أله يأله إلى كذا أي لجأ إليه: لأنه سبحانه المَفْزَع الذي يُلجأ إليه في كل أمر. وقال: قال ابن سِيدَه: والإلاهة والألوهية العبادة. وقال: والتألّه التنسك والتعبد.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 فَيُفْهَمُ مِنْهُ الِاتِّحَادُ، فَإِنَّ الْإِلَهَ هُوَ الْمَعْبُودُ، فَإِذَا قِيلَ لَا مَعْبُودَ مَوْجُودٌ إِلَّا اللَّهُ لَزِمَ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ مَعْبُودٍ عُبِدَ بِحَقٍّ أَوْ بَاطِلٍ هُوَ اللَّهُ فَيَكُونُ مَا عَبَدَهُ الْمُشْرِكُونَ مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ وَالْأَشْجَارِ وَالْأَحْجَارِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ هِيَ اللَّهُ فَيَكُونُ ذَلِكَ كُلُّهُ تَوْحِيدًا، فَمَا عُبِدَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ إِلَّا اللَّهُ إِذْ هِيَ هُوَ وَهَذَا - وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ - أَعْظَمُ الْكُفْرِ وَأَقْبَحُهُ عَلَى الإطلاق، وفيه تزكية لِكُلِّ كَافِرٍ مِنْ أَنْ يَكُونَ كَافِرًا إِذْ كُلُّ مَا عَبَدَهُ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ هُوَ اللَّهُ فلم يكن عندهم مشركاً بل موحداً، وفي ذلك إِبْطَالٌ لِرِسَالَاتِ جَمِيعِ الرُّسُلِ وَكُفْرٌ بِجَمِيعِ الْكُتُبِ وجحود لجميع الشرائع. فَإِذَا فَهِمْنَا هَذَا فَلَا يَجُوزُ تَقْدِيرُ الْخَبَرِ بموجود إِلَّا أَنْ يُنْعَتَ اسْمُ (لَا) بِحَقٍّ فَلَا بأس ويكون التقدير لا إله حقاً أو بحق موجود إلا الله - وهذا صحيح، فقد عرفنا معنى الإله الحق - فبقيد الاستحقاق ينتفي المحذور الذي ذكرنا. 5- فَضْلُ شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ: كلمة لا إله إلا الله هي سبيل السعادة في الدارين فبالتزامها النجاة من النار وبعدم التزامها البقاء في النار، وبها تثقل الموازين وبدونها تخف الموازين وبها أخذ الله الميثاق {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون} (1) ولأجلها خلقت الدنيا والآخرة والجنة والنار، لذا فقد اجتمعت لهذه الكلمة العظيمة كثير من الفضائل: 1- فهي أَعْظَمُ نِعْمَةٍ أَنْعَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ أَنْ هَدَاهُمْ إِلَيْهَا، وَلِهَذَا ذَكَرَهَا فِي سُورَةِ النَّحْلِ الَّتِي هِيَ سُورَةُ النِّعَمِ فَقَدَّمَهَا أَوَّلًا قَبْلَ كُلِّ نِعْمَةٍ، فَقَالَ تَعَالَى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إله إلا أنا فاتقون} (2) .   (1) الزخرف: 45. (2) النحل: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 2- وهي العروة الوثقى: قال تَعَالَى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لا انفصال لها} (1) . قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالضَّحَّاكُ. 3- وَهِيَ الْعَهْدُ الذي ذكره اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِذْ يَقُولُ: {لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} (2) . قال ابن عباس رضي الله عنهما: شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إِلَّا بِاللَّهِ وَأَنْ لَا يَرْجُوَ إِلَّا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. 4- وَهِيَ الْحُسْنَى التي ذكرها تعالى في قوله: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى} (3) . قَالَهُ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ وَالضَّحَّاكُ، وَرَوَاهُ عطية عن ابن عباس رضي الله عنهما. 5- وَهِيَ كَلِمَةُ الْحَقِّ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وجل إذ يقول: {إلا من شهد بالحق وهم يعلمون} (4) قاله البغوي. 6- وهي كلمة التقوى التي ذكرها تعالى في قوله: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} (5) رواه ابْنُ جَرِيرٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ وَالتِّرْمِذِيُّ. 7- وهي القول الثابت الذي ذكره تعالى في قوله: {يثبت الله الاذين آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرة} (6) وقد ثبت ذلك في الصحيحين عن البراء عن النبي - صلى الله عليه وسلم -.   (1) البقرة: 256. (2) مريم: 78. (3) الليل: 5-7. (4) الزخرف: 86. (5) الفتح: 26. (6) إبراهيم: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 8- وهي الكلمة الطيبة المضروبة مثلاً في قوله تَعَالَى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء} (1) . وهو مروي عن علي بن طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فأصلها ثابت في قلب المؤمن وفروعها الْعَمَلُ الصَّالِحُ فِي السَّمَاءِ صَاعِدٌ إِلَى اللَّهِ عز وجل، وكذا قال الضحاك وابن جبير وعكرمة ومجاهد وغيرهم. 9- وهي سبب النجاة من النار، كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَمِعَ مُؤَذِّنًا يَقُولُ: أَشْهَدُ أن لا إله إلا الله، فقال: (خَرَجْتَ مِنَ النَّارِ) . وَفِيهِ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ النَّارَ) وفي حديث الشفاعة: (أَخْرِجُوا مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ من إيمان) (2) . 10- وهي سبب دخول الجنة، ففي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ، لَا يَلْقَى اللَّهَ بِهِمَا عَبْدٌ غَيْرَ شَاكٍّ فِيهِمَا إِلَّا دَخَلَ الْجَنَّةَ) . 11- وهي أفضل ما ذكر الله به عز وجل كما يقول عليه الصلاة والسلام: (أفضل ما قلته أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله) (3) . 12- وهي أثقل شيء في الميزان كَمَا فِي الْمُسْنَدِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِنَّ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ قال لابنه عند موتهه: آمرك   (1) إبراهيم: 24. (2) حديث الشفاعة في الصحيحين وغيرهما بألفاظ متقاربة، انظر فتح الباري، ج1 ص91، ج11ص424، ج13ص431، شرح النووي على صحيح مسلم ج3 ص17-38 وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني رقم 2091. (3) حسنه الألباني في الصحيحة رقم 1503، صحيح الجامع 1113. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 بِلَا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ فَإِنَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعَ وَالْأَرَضِينَ السَّبْعَ لَوْ وُضِعْنَ فِي كِفَّةٍ وَوُضِعَتْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فِي كِفَّةٍ لَرَجَحَتْ بِهِنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَلَوْ أَنَّ السماوات السبع والأرضين السبع كن حَلْقَةٌ مُبْهَمَةٌ (1) لَفَصَمَتْهُنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ (2) وفي الترمذي والنسائي والمسند عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الهل - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلًّا كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا، أَظْلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فيقول: لا يارب. فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يارب. فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، وَإِنَّهُ لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَيُخْرِجُ بِطَاقَةً فِيهَا أشهد أن لا إله اللَّهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، فَيَقُولُ: احضر وزنك، فيقول: يارب مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ؟ فَقَالَ: فإنك لا تظلم، قال: فتوضع السِّجِلَّاتُ وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ وَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ الله تعالى شيء) (3) . 13- ويكفي في فضلها إِخْبَارُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهَا على جَمِيعِ شُعَبِ الْإِيمَانِ كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ أَوْ بِضْعٌ وَسِتُّونَ شُعْبَةً فَأَفْضَلُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عن الطريق) وهذا لفظ مسلم. فمن قال هذه الكلمة عالماً ومتيقناً معناها وعاملاً بِمُقْتَضَاهَا عَلَى وَفْقِ مَا عَلِمَهُ مِنْهَا وَتَيَقَّنَهُ في   (1) أي مغلقة. لسان العرب ص376. (2) سنده صحيح. قاله الألباني في الصحيحة رقم 134، ولم أذكر حديث: (يا موسى لو أن السموات السبع وعامرهن غيري ... ) الحديث، لضعف سنده. انظر شرح السنة للبغوي بتحقيق الشاويش والأرناؤوط رقم 1273. (3) صحيح الجامع الصغير 1772. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 القول والعمل - قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح - ومات على ذلك دخل الجنة. 6- شروط (لا إله إلا الله) التي لا ينتفع قائلها إلا باستكمالها: 1- الْعِلْمُ: بِمَعْنَاهَا الْمُرَادِ مِنْهَا نَفْيًا وَإِثْبَاتًا الْمُنَافِي لِلْجَهْلِ بِذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَاعْلَمْ أنه لا إله إلا الله} (1) ، وقال تَعَالَى: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (2) أي من شهد بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ بِقُلُوبِهِمْ معنى ما نطقوا به بألسنتهم. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ مَاتَ وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ لَا إله إلا الله دخل الجنة) . 2- اليقين: المنافي للشك وذلك بِأَنْ يَكُونَ قَائِلُهَا مُسْتَيْقِنًا بِمَدْلُولِ هَذِهِ الْكَلِمَةِ يقيناً جازماً. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصادقون} (3) فَاشْتَرَطَ فِي صِدْقِ إِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ كَوْنَهُمْ لَمْ يَرْتَابُوا، أَيْ لَمْ يَشُكُّوا، فَأَمَّا الْمُرْتَابُ فهو من المنافقين - والعياذ بالله - الذي قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فهم في ريبهم يترددون} (4) . وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ حَدِيثٍ طَوِيلٍ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُ بِنَعْلَيْهِ فَقَالَ: (مَنْ لَقِيتَ مِنْ وَرَاءِ هَذَا الْحَائِطِ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهَا قَلْبُهُ فبشره الجنة..) فَاشْتَرَطَ فِي دُخُولِ قَائِلِهَا الْجَنَّةَ أَنْ يَكُونَ مستيقناً بها قلبه غير شاك فيها.   (1) محمد - صلى الله عليه وسلم -: 19. (2) الزخرف: 86. (3) الحجرات: 15. (4) التوبة: 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 3- القبول: - المنافي للرد- لما اقتضته هذه الكلمة بقلبه ولسانه. فالمشركون لم ينفوا ما نفته هذه الكلمة وَلَمْ يُثْبِتُوا مَا أَثْبَتَتْهُ بَلْ قَالُوا إِنْكَارًا وَاسْتِكْبَارًا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لشيء عجاب} (1) ، وقال تعالى فيهم: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لشاعر مجنون} (2) . 4- الانقياد: - لما دلت عليه هذه الكلمة - المنافي للترك. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وأسلموا له} (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وجهه لله وهو محسن} (4) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وهو محسن فقد استمسك بالعروة الوثقى} - أَيْ بِلَا إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ - {وَإِلَى اللَّهِ عاقبة الأمور} (5) ومعنى يسلم وجهه إلى الله وهو محسن ينقاد وهو محسن موحد (6) . وتمام الانقياد وغايته ومعناه تقديم محاب الله وإن خالفت الهوى وبغض ما يبغضه الله وإن مال إليه الهوى. -الصِّدْقُ: فِيهَا الْمُنَافِي لِلْكَذِبِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَهَا صدقاً من قلبه يواطيء قلبه لسانه (7) .   (1) ص: 5 (2) الصافات: 35، 36. (3) أي الاستسلام التام بالقلب واللسان والجوارح. والآية في سورة الزمر: 54. (4) النساء: 125. (5) لقمان: 22. (6) وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النِّسَاءِ: 65] ، وهذا تمام الانقياد حين يجتمع الانقياد بالعمل مع الانقياد بالقلب ويكون هوى العبد تبعاً لشرع الله عز وجل. (7) أما اليقين فمعناه استيقان أنها حق، وقد يستيقن ذلك ولكن لا يريده ولا يحبه كما ذكر الله عن المشركين {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم} [النمل: 14] ، وقد يقولها مع استيقان القلب بها لكن ليس صادقاً في إرادتها ورغبته الذاتية في قولها بل قد يقولها لدافع آخر دون الرغبة في أن يدين بها ويضحي من أجلها ويعمل لها، فالصدق منافٍ للكذب، واليقين منافٍ للشك، وقد يقول رجل كلمة الشهادة برغبته صادقاً في إرادة قولها لكن في قلبه شك منها، فلزم التنبيه على اكتمال جميع هذه المعاني الدقيقة في القلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 قال تعالى: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ قَالُوهَا كَذِبًا: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ واليوم الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمنوا وما يخدعون إلا أنفهسم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} (2) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا مِنْ أَحَدٍ يَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صِدْقًا مِنْ قَلْبِهِ إِلَّا حَرَّمَهُ اللَّهُ عَلَى النَّارِ) . فَاشْتَرَطَ فِي إِنْجَاءِ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْكَلِمَةَ مِنَ النَّارِ أَنْ يَقُولَهَا صِدْقًا مِنْ قلبه فلا ينفعه مجرد التلفظ بدون مواطأة القلب. 6- الْإِخْلَاصُ: وَهُوَ تَصْفِيَةُ الْعَمَلِ بِصَالِحِ النِّيَّةِ عَنْ جميع شوائب الشرك، ولا يكون له من وراء الشهادتين غرض آخر غير قصده لربه، فتارك الإخلاص لم يستكمل شروط لا إله إلا الله ولو كان منقاداً صادقاً مستيقناً. قال تعالى: {ألا لله الدين الخالص} (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدين حنفاء} (4) . وفي الصحيح عن عتبان بن مالك   (1) العنكبوت: 1-3. (2) البقرة: 8-10. (3) الزمر: 3. (4) البينة: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يبتغي بذلك وجه الله عز وجل) . 7- الْمَحَبَّةُ: لِهَذِهِ الْكَلِمَةِ، وَلِمَا اقْتَضَتْهُ وَدَلَّتْ عَلَيْهِ، وَلِأَهْلِهَا الْعَامِلِينَ بِهَا الْمُلْتَزِمِينَ لِشُرُوطِهَا، وَبُغْضٍ مَا نَاقَضَ ذَلِكَ. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لله} (1) . فأخبر اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَشَدُّ حُبًّا لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمْ يُشْرِكُوا مَعَهُ فِي مَحَبَّتِهِ أَحَدًا كَمَا فَعَلَ مُدَّعُو مَحَبَّتِهِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَنْدَادًا يحبونهم كحبه. * علامات محبة العبد لربه: ومحبة العبد لربه لها علامات تعتبر شروطاً في المحبة لا يتصور وجودها مع عدم [وجود] شرط منها، وأظهرها: 1- تقديم محابِّ الله وإن خالفت هواه وبغض ما يبغضه ربه وإن مال إليه هواه. قَالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أفأنت تكون عليه وكيلا} (2) ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وأضله الله على   (1) البقرة: 165، وهذه الآية لها تفسيران، الأول: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي غيره * أي غيره {أنداداً يحبونهم كحب الله} أي كالحب الذي ينبغي أن لا يكون إلا لله {والذين آمنوا أشد حباً لله} أي من حب المشركين لآلهتهم، وذلك أن الحب الذي لا يكون إلا لله درجات. الثاني: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي غيره معه، فيصير المراد: ومن الناس من يتخذ مع الله ... {أنداداً يحبونهم كحب الله} أي يحبون شركاءهم كحبهم لله {والذين آمنوا أشد = = حباً لله} أي من حب المشركين له. وذلك لأن حب المؤمنين لم ينقسم بين شريكين فحبهم كله لله وحده. انظر فتح المجيد ص395، 396 - دار الحديث. (2) الفرقان: 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ... } (1) ، وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْقَذَهُ اللَّهُ مِنْهُ كَمَا يكره أن يقذف في النار) ، وَفِيهِمَا عَنْهُ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - قال: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) . 2- موالاة من والى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ومعاداة من عادى الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. قال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برءاء مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حتى تؤمنوا بالله وحده..} (2) ، وَقَالَ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} (3) . وقال تعالى: {يأيها الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ منهم ... } (4) ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ على الإيمان ومن ييتولهم منكم فأولئك هم الظالمون} (5) ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة وقد كفروا بما جاءكم   (1) الجاثية: 23. (2) الممتحنة: 4. (3) المجادلة: 22. (4) المائدة: 51 (5) التوبة: 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 من الحق..} (1) ، وسبق في حديث (ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الإيمان) : (وَأَنْ يُحِبَّ الْمَرْءَ لَا يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ) ، وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الحب في الله والبغض في الله) (2) ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: مَنْ أَحَبَّ فِي اللَّهِ وَأَبْغَضَ فِي اللَّهِ، وَوَالَى فِي اللَّهِ وَعَادَى فِي اللَّهِ، فَإِنَّمَا تُنال وِلَايَةُ اللَّهِ بِذَلِكَ، وَقَدْ أَصْبَحَ غَالِبُ مُؤَاخَاةِ النَّاسِ الْيَوْمَ عَلَى أَمْرِ الدُّنْيَا وَذَلِكَ لَا يجدي على أهل شيئاً. 3- إتباع الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاقْتِفَاءُ أَثَرِهِ وَقَبُولُ هداه. قال تَعَالَى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ الله لا يحب الكافرين} (3) . قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ مِنَ السَّلَفِ: ادَّعَى قَوْمٌ مَحَبَّةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَابْتَلَاهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ الله لا يحب الكافرين} . وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى) قالوا: يا رسول الله، ومنت يَأْبَى؟ قَالَ: (مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ وَمَنْ عصاني فقد أبى) رواه البخاري. 7- بيان إِنَّ شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تتضمن أو لا تتم إِلَّا بِشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -: وذلك أنه إذا عُلِم أَنَّهُ لَا تَتِمُّ مَحَبَّةُ اللَّهِ عَزَّ وجل التي هي من شروط الشهادة   (1) الممتحنة: 1. (2) حديث حسن: انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 1728. (3) آل عمران: 31، 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 إِلَّا بِمَحَبَّةِ مَا يُحِبُّهُ وَكَرَاهَةِ مَا يَكْرَهُهُ فَلَا طَرِيقَ إِلَى مَعْرِفَةِ مَا يُحِبُّهُ تَعَالَى وَيَرْضَاهُ وَمَا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ إِلَّا بِاتِّبَاعِ مَا أَمَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى عَنْهُ فَصَارَتْ مَحَبَّتُهُ مستلزمة لمحبة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وتصديقه ومتابعته، ولهذا قرن محبته بمحبة الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ كَقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يهدي القوم الفاسقين} (1) . 8- بيان أنه لا تناقض بين أحاديث أن الشهادتين سبب لدخول الجنة، وأحاديث الوعيد بالنار أو تحريم الجنة على من فعل بعض الذنوب، ونحو ذلك من أحاديث الوعد والوعيد: ذكر ابن رجب رحمه الله أن أظهر الأقوال في ذلك (2) أن المراد من الأحاديث الدالة على أن الشهادتين تدخل صاحبهما الجنة (3) وأن (من صلى البردين دخل الجنة) (4) ونحو ذلك أن هذه الأعمال سبب لدخول الجنة ومقتضٍ لذلك، وكذا أحاديث الوعيد، التي مضمونها أن من فعل كذا من الأفعال دخل النار أو لم يدخل الجنة، فالمراد أن ذلك سبب مقتضٍ لدخول   (1) التوبة: 24. (2) وكذا اختاره ابن تيمية رحمه الله في أكثر من موضع في الفتاوى منها على سبيل المثال ج 6 ص:426-428. (3) سبق ذكر بعضها في الكلام على شروط لا إله إلا الله، وفي صحيح الجامع رقم 6310: (مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، نَفَعَتْهُ يوماً من دهره، يصيبه قبل ذلك ما أصابه) . وقد أورده الشيخ رحمه الله في معارج القبول. (4) رواه البخاري في مواقيت الصلاة، باب فضل صلاة الفجر، ومسلم في المساجد، باب فضل صلاتي الصبح والعصر والمحافظة عليهما، انظر الفتح ج2 حديث 574، شرح النووي على صحيح مسلم ج5 ص: 135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 النار، وَلَكِنَّ الْمُقْتَضِي لَا يَعْمَلُ عَمَلَهُ إِلَّا بِاسْتِجْمَاعِ شُرُوطِهِ وَانْتِفَاءِ مَوَانِعِهِ، فَقَدْ يَتَخَلَّفُ عَنْهُ مُقْتَضَاهُ لِفَوَاتِ شَرْطٍ مِنْ شُرُوطِهِ أَوْ لِوُجُودِ مَانِعٍ، وهذا قول الحسن ووهب بن منبه. وقد ذكرنا فيما مضى بالأدلة أن لا إله إلا الله لها شروط لا تصح إلا بها وإنما ينتفع قائلها باستكمالها، وقد يذكر الرسول - صلى الله عليه وسلم - مرة هذا الشرط ومرة أخرى يذكر ذلك الشرط، ومرة يذكر الوعد بالجنة دون الإشارة إلى تلك الشروط فتكون هذه نصوصاً مطلقة لها ما يقيدها في الأحاديث الأخرى، ولذلك لما تخلفت هذه الشروط عن قول المنافقين: لا إله إلا الله لم تنفعهم هذه الكلمة (1) ، وكذلك الأعمال التي وعد عليها الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالجنة مقيدة بأشياء منها ترك الشرك وأعمال الكفر، فقد قال تَعَالَى: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك} (2) ، ولذلك لم ينتفع المنافقون بصلاة البردين، فظهر أن المراد أن هذه الأعمال الممدوحة من الأعمال المؤدية لدخول الجنة مع وجود الشروط وانتفاء الموانع، وقد قال وَهْبُ بْنُ مُنَبِّهٍ لِمَنْ سَأَلَهُ: أَلَيْسَ مِفْتَاحُ الْجَنَّةِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: بَلَى، وَلَكِنْ مَا مِنْ مِفْتَاحٍ إِلَّا لَهُ أَسْنَانٌ، فَإِنْ أَتَيْتَ بِمِفْتَاحٍ لَهُ أَسْنَانٌ فُتِحَ لَكَ وإلا لم يفتح لك (3) . وقال الحسن للفرزدق وهو يدفن امرأته: ماذا أَعْدَدْتَ لِهَذَا الْيَوْمِ؟ قَالَ: شَهَادَةَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُنْذُ سَبْعِينَ سَنَةً. قَالَ الْحَسَنُ: نِعْمَ الْعُدَّةُ لَكِنْ لِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ شُرُوطًا فَإِيَّاكَ وَقَذْفَ الْمُحْصَنَاتِ. وَقِيلَ لِلْحَسَنِ: إِنَّ نَاسًا يَقُولُونَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ دَخَلَ الْجَنَّةَ. فَقَالَ: مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَأَدَّى حَقَّهَا وَفَرْضَهَا دخل الجنة. وقد اشترط رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أحاديث كثيرة أعمالاً أخرى غير الشهادتين   (1) قال تَعَالَى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النار} [النساء: 145] . (2) الزمر: 65. (3) ذكره البخاري في صحيحه. في أول الجنائز، وانظر فتح الباري ج3 ص: 131. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 لدخول الجنة كقوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيحين لمن سأله عن عمل يدخله الجنة: (تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم) والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يتناقض كلامه، فدل هذا على أن الأحاديث التي وعد فيها بالجنة على عمل واحد من الأعمال أو أكثر فالمراد أن هذه الأعمال أسباب لدخول الجنة: (تَعْبُدُ اللَّهَ لَا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا وَتُقِيمُ الصلاة وتؤتي الزكاة وتصل الرحم) والرسول - صلى الله عليه وسلم - لا يتناقض كلامه، فدل هذا على أن الأحاديث التي وعد فيها بالجنة على عمل واحد من الأعمال أو أكثر فالمراد أن هذه الأعمال أسباب لدخول الجنة مع وجود شروطها وانتفاء موانعها، فمثل هذه النصوص المطلقة ينبغي أن تقيد بما ذكر من زيادات في أحاديث أخر، ففي بعض أحاديث الوعد بالجنة على كلمة لا إله إلا الله (مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ الله..) وفي بعضها (مستيقناً) ، وفي هذا وغيره مما ذكرنا سابقاً إشارة إلى العمل بمقتضيات تلك الشهادة وضرورة تحقق القلب بمعناها، وذلك أن لا يأله العبد غير الهه حُبًّا وَرَجَاءً وَخَوْفًا وَطَمَعًا وَتَوَكُّلًا وَاسْتِعَانَةً وَخُضُوعًا وَإِنَابَةً وَطَلَبًا، وَتَحَقُّقُهُ بِشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ لَا يعبد الله بِغَيْرِ مَا شَرَعَهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -. فالمراد إذاً من قول: لا إله إلا الله الإتيان بهذه الكلمة بمقتضياتها وإلا كانت عبثاً، ومن قال هذه الكلمة العظيمة ملتزماً بما تضمنته فلا شك أنه ممن يستحق الوعد بالجنة، وبيان ذلك أَنَّ قَوْلَ الْعَبْدِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يقتضي أن لا إله غيره، والإله هو الذي يطاع هَيْبَةً وَإِجْلَالًا وَمَحَبَّةً وَخَوْفًا وَرَجَاءً وَتَوَكُّلًا عَلَيْهِ وَسُؤَالًا مِنْهُ وَدُعَاءً لَهُ، وَلَا يَصْلُحُ ذَلِكَ كله لغير الله عز وجل، ولا شك أَنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بمعناها هذا عاملاً به يدخل الجنة دون عقاب، وأما من أخل بشيء من مقتضياتها فإنه ينتقص من توحيده بقدر ما أخل به، وقد ينتقض توحيده بالكلية كما لو أشرك مع الله غيره في عبادة من العبادات فهذا عقوبته النار خالداً فيها إن لم يتب، وقد يكون ما أخل به قادحاً في تمام التوحيد فيعذب بقدر ما أخل به قبل أن يدخل الجنة، وكل ما يأتي به العبد من أمور تخالف مقتضيات كلمة الشهادة فهو قدح في إخلاصه في قول لا إله إلا الله ونقص في توحيده، ويكون فيه من العبودية لغير الله بحسب ما تلبس به من تلك الأمور المخالفة لمقتضيات الشهادة وهذا كله من فروع الشرك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وكذلك اتِّبَاعُ هَوَى النَّفْسِ فِيمَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ قَادِحٌ فِي تَمَامِ التَّوْحِيدِ وَكَمَالِهِ، وَلِهَذَا أَطْلَقَ الشرع على كثير من الذنوب التي منشؤها هوى النفس أنها كفر وشرك، وكذا وَرَدَ إِطْلَاقُ الْإِلَهِ عَلَى الْهَوَى الْمُتَّبَعِ، قَالَ تعالى: {أرأيت من اتخذ إلهه هواه} (1) قال الحسن: هُوَ الَّذِي كُلَّمَا هَوِيَ شَيْئًا رَكِبَهَ، وَكُلَّمَا اشْتَهَى شَيْئًا أَتَاهُ، لَا يَحْجِزُهُ عَنْ ذَلِكَ ورع. ويشهد لهذا الحديث الصحيح: (تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ، تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ، تَعِسَ عَبْدُ الْقَطِيفَةِ، تَعِسَ عَبْدُ الْخَمِيصَةِ، تَعِسَ وَانْتَكَسَ، وَإِذَا شِيكَ فَلَا انْتَقَشَ) (2) فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ مَنْ أَحَبَّ شَيْئًا وَأَطَاعَهُ وَكَانَ مِنْ غاية مقصوده وَمَطْلُوبِهِ وَوَالَى لِأَجْلِهِ وَعَادَى لِأَجْلِهِ فَهُوَ عَبْدُهُ وكان ذلك الشيء معبوده وإلهه، وكان ذلك -بحسب قدره- إما منافياً بالكلية لشهادة أن لا إله إلا الله، وإما قادحاً ومنافياً لكمالها وتمامها، وفي الحالة الأولى لا يستحق صاحب تلك العبادة الباطلة ما جاء في أحاديث الوعد على الشهادتين لأنه لم يحققهما، وفي الحالة الثانية لا يستحق دخول الجنة دون سابقة عذاب، ومثله إنما يدخل الجنة بالشهادتين بعدما يطهره الله من ذنوبه في النار إن لم يغفر له. ويدل على ما ذكرنا أَيْضًا أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى طَاعَةَ الشَّيْطَانِ في معصية الله عبادة للشيطان فقال تعالى: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} (3) ، ولا يكون مخلصاً في قول لا إله إلا الله مخلصاً عبوديته للرحمن إلا من خلص من عبادة الشيطان وهم الذين قال الله فِيهِمْ: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} (4) فهم   (1) الفرقان: 43. (2) رواه البخاري. في الجهاد والسير، باب فضل الحراسة في الغزو في سبيل الله، انظر فتح الباري ج6 ص: 95، رواه ابن ماجه، انظر صحيح سن ابن ماجه رقم 3336 وفيهما: (تعس عبد الدينار وعبد الدرهم) . (3) يس: 60. (4) الحجر: 42، الإسراء: 65.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 الذين حققوا قول لا غله إلا الله وأخلصوا في قَوْلَهُمْ بِفِعْلِهِمْ فَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَى غَيْرِ اللَّهِ مَحَبَّةً وَرَجَاءً وَخَشْيَةً وَطَاعَةً وَتَوَكُّلًا، وَهُمُ الَّذِينَ صَدَقُوا فِي قَوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَهُمْ عِبَادُ اللَّهِ حَقًّا، فَأَمَّا مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ بِلِسَانِهِ ثُمَّ أَطَاعَ الشَّيْطَانَ وَهَوَاهُ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَمُخَالَفَتِهِ فَقَدْ كَذَّبَ قَوْلَهُ فِعْلُهُ وَنَقَصَ مِنْ كَمَالِ تَوْحِيدِهِ بقدر معصيته لله، ومما يشهد لذلك أيضاً أن من أخل بشيء من حقوق لا إله إلا الله في الدنيا لا ترتفع عنه العقوبة لمجرد تلفظه بالشهادتين، فكذا عقوبة الآخرة، وبيان ذلك أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (1) ، فَفَهِمَ عُمَرُ وجماعة من الصحابة - رضي الله عنهم جميعاً - أن من أتى بالشهادتين امْتَنَعَ مِنْ عُقُوبَةِ الدُّنْيَا بِمُجَرَّدِ ذَلِكَ، فَتَوَقَّفُوا فِي قِتَالِ مَانِعِي الزَّكَاةِ، وَفَهِمَ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ قِتَالُهُ إِلَّا بِأَدَاءِ حُقُوقِهَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في نفس الحديث السابق: (فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلا بحقها، وحسابهم على الله) ولذا رأى قتال مانعي الزكاة، وهذا الذي فهمه الصديق ثبت عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ؛ (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ..) (2) ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قوله تعالى: {فإن تابوا وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم} (3) ، فمن   (1) رواه البخاري في استتابة المرتدين والمعاندين وقتالهم، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ محمد رسول الله، انظر الفتح ج12 ص: 882، شرح النووي ج1 ص: 201-211. (2) رواه البخاري قي الإيمان، باب {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سبيلهم} ، ومسلم في كتاب الإيمان، باب الأمر بقتال النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ محمد رسول الله، انظر الفتح ج1ص: 94، 95، شرح النووي ج 1ص: 212.. (3) التوبة: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 مقتضيات الشهادتين ومن حقوق التوحيد أداء الفرائض، وَلَمَّا قَرَّرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هذا للصحابة رجعوا إلى قوله ورأوا صَوَابًا، فَإِذَا عُلِمَ أَنَّ عُقُوبَةَ الدُّنْيَا لَا تَرْتَفِعُ عَمَّنْ أَدَّى الشَّهَادَتَيْنِ مُطْلَقًا بَلْ يُعَاقَبُ إذا أخل بِحَقٍّ مِنْ حُقُوقِ الْإِسْلَامِ فَكَذَلِكَ عُقُوبَةُ الْآخِرَةِ، فالذي شرع عقوبة الدنيا هو الذي سيعاقب في الآخرة سبحانه وتعالى. وختاماً لهذا الموضوع نحب أن نثبت بالإضافة إلى ما سبق بقة الأقوال في أحاديث الوعد والوعيد، وملخص الأقوال في هذا الأمر أن أحاديث الوعد إما أن تكون وعداً بالجنة أو تحريماً على النار، وكذلك أحاديث الوعيد إما أن تكون وعيداً بالنار أو تحريماً على الجنة وفيما يلي بيان كل من هذه الأقسام بما يحصل به الجمع بين الأحاديث: أولاً: أحاديث الوعد: (أي الوعد بالجنة لمن أتى بالشهادتين أو فعل بعض الطاعات، أو تحريم النار عليه) . أ-أحاديث الوعد بالجنة: -وهذه تحمل على أن المراد أن يدخلها إذا فعل الأمر الممدوح المذكور في الحديث بعد أن يطهر من ذنوبه في النار. ب-أحاديث التحريم على النار: -وهذه تحمل على أن المراد تحريمه عليها بعد خروجه منها بعد تطهيره من الذنوب الأخرى أو بالشفاعة ثم اغتساله في نهر الحياة ودخوله الجنة فحينئذ يحرم على النار فلا تمسه أبداً. -أو أن المراد تحريمه عَلَى النَّارِ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ الَّتِي لَا يخرج منها من دخلها وهي ماعدا الطبقة العليا من النار التي يدخلها عصاة الموحدين ممن شاء الله عقابه وتطهيره بها على قدر ذنبه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 -وأجاب بعض العلماء عن أحاديث الوعد عامة بأجوبة أخرى غير هذه منها أن هذه الأحاديث كانت قبل نزول الفرائض واستكمال الدين في حق من مات قبل هذه الفرائض فجعلها البعض منسوخة بالأحاديث الأخرى وجعلها البعض محكمة لكن ضمت إليها شرائط، وهذا راجع إلى الخلاف المشهور بين الأصوليين هل زيادة النص نسخ أم لا، وقد يزول الخلاف إذا التفتنا إلى أن بعض المتقدمين كانوا يسمون الإيضاح والبيان نسخاً. وهذا بعيد لصدور بعض أحاديث الوعد في وقت متأخر من حياته - صلى الله عليه وسلم -. ثانياً: أحاديث الوعيد: (أي الوعيد بالنار أو تحريم الجنة على من فعل بعض الذنوب) : أ-أحاديث الوعيد بالنار: -إما أن يقال إن المراد أن العبد يعذب فيها بقدر ذنبه ثم يدخل الجنة. -أو يقال أن المقصود بالوعيد من استحل الذنب أو المعصية فهو مستحل للخلود في النار بكفره إن لم يتب، وكذا كل من كان فعله كفراً مخرجاً من الملة. ب-أحاديث التحريم على الجنة: -وهذه يجاب عنها بأنها جنات كَثِيرَةٌ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَكُونُ فَاعِلُ هَذَا الذَّنْبِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ التي أعدت لمن لم يرتكبه، فأهل الجنة متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم. -كما يجب أن يجاب بأن أهل الجنة متفاوتون في السبق في دخولها فَيَكُونُ فَاعِلُ هَذَا الذَّنْبِ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ في الوقت الذي يدخل فيه من لم يرتكب هذا الذنب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 -أو يكون تحريمها على من استحل ذلك الذنب. ومع كل ما سبق فإن الوعد المذكور في الأحاديث لا يلزم إلا بموت الموعود على ذلك العمل الصالح، وكذلك الوعيد لا يلحق صاحبه إذا تاب قبل موته (1) . 9 - تعريف العبادة (2) ، وشروطها، وبيان أَنْوَاعِهَا وَأَنَّ مَنْ صَرَفَ مِنْهَا شَيْئًا لِغَيْرِ الله فقد أشرك: أ-تعريف العبادة : -العبد إِنْ أُرِيدَ بِهِ الْمُعَبَّدُ أَيِ الْمُذَلَّلُ الْمُسَخَّرُ دخل فيه جميع المخلوقات، فالكل مَخْلُوقٌ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مُسَخَّرٌ بِتَسْخِيرِهِ مُدَبَّرٌ بِتَدْبِيرِهِ، وَلِكُلٍّ مِنْهَا رَسْمٌ يَقِفُ عَلَيْهِ وَحَدٌّ يَنْتَهِي إِلَيْهِ {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تدرك القمر ولا الليل سابق النهار} (3) كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى لَا يَتَجَاوَزُهُ مِثْقَالَ ذرة {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً / إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً} (4) ، فذلك تَقْدِيرُ الْعَلِيمِ وَتَدْبِيرُ الْعَدْلِ الْحَكِيمِ. -وَإِنْ أُرِيدَ به العابد خص ذلك بالمؤمنين كما في قوله تَعَالَى: {وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً} (5) .   (1) ونذكر مرة أخرى بالقول الجامع في ذلك الذي بدأنا به هذا الموضوع وهو أن ما في هذه الأحاديث من وعد أو وعيد فإنه مقيد باستجماع شروطه وانتفاء موانعه والله تعالى أعلم. (2) سبق الإشارة إلى ذلك باختصار في المقدمة. (3) يس: 40. (4) مريم: 93. (5) الفرقان: 63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 -وأما العبادة فهي اسْمٌ جَامِعٌ لِكُلِّ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعَالَى ويرضاه مِنَ الْأَقْوَالِ وَالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، فَالظَّاهِرَةُ كَالتَّلَفُّظِ بالشهادتين وإقامة الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالْحَجِّ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَإِغَاثَةِ الْمَلْهُوفِ وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ وَتَعْلِيمِ النَّاسِ الْخَيْرَ والدعوة إلى الله عز وجل والمباحات مع تحسين النية فيها ومتابعة السنة، وَالْبَاطِنَةُ كَالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ وَخَشْيَةِ اللَّهِ وَخَوْفِهِ ورجائه والتوكل عليه والرغبة إِلَيْهِ وَالِاسْتِعَانَةِ بِهِ وَالْحُبِّ وَالْبُغْضِ فِي اللَّهِ والموالاة والمعاداة فيه وغير ذلك. هذا من حيث أفراد العبادة وأنواعها أما من حيث مناطها الذي تدور حوله ولا تصح إلا به فهي كمال الحب ونهايته وكمال الذل له تعالى ونهايته، وَلَا تَنْفَعُ عِبَادَةٌ بِوَاحِدٍ مِنْ هَذَيْنِ دُونَ الْآخَرِ، وَلِذَا قَالَ مَنْ قَالَ مِنَ السَّلَفِ: مَنْ عَبَدَ اللَّهَ بِالْحُبِّ وَحْدَهُ فَهُوَ زِنْدِيقٌ، ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجيء، وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْخَوْفِ وَحْدَهُ فَهُوَ حَرُورِيُّ (1) وَمَنْ عَبَدَهُ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ مُوَحِّدٌ. وبيان ذلك أَنَّ دَعْوَى الْحُبِّ لِلَّهِ بِلَا تَذَلُّلٍ وَلَا خَوْفٍ وَلَا رَجَاءٍ وَلَا خَشْيَةٍ وَلَا رَهْبَةٍ ولا خضوع دعوى كاذبة، ولذا نرى مَنْ يَدَّعِي ذَلِكَ كَثِيرًا مَا يَقَعُ فِي مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَيَرْتَكِبُهَا وَلَا يُبَالِي ويحتج بِالْإِرَادَةِ الْكَوْنِيَّةِ وَأَنَّهُ مُطِيعٌ لَهَا وَهَذَا شَأْنُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ قَالُوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا ولا آباؤنا} (2) وإمامهم في ذلك إبليس إذ قال: {رب بما أغويتني} (3) ، وَإِنَّمَا الْمَحَبَّةُ نَفْسُ وِفَاقِ الْعَبْدِ رَبَّهُ فَيُحِبُّ مَا يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ وَيُبْغِضُ مَا يَكْرَهُهُ وَيَأْبَاهُ، وَإِنَّمَا تَتَلَقَّى مَعْرِفَةُ مَحَابِّ اللَّهِ وَمَعَاصِيهِ مِنْ طريق الشرع وإنما تحصل بمتابعة الشارع {قل   (1) الحَرُورِية هم الخوارج نسبة إلى حَرُوراء انظر ص: 382. (2) الأنعام: 148. (3) الحجر: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} (1) فمن ادعى محبة الله ولم يكن متبعاً رسوله - صلى الله عليه وسلم - فهو كاذب، وقال الشافعي رحمه الله: إِذَا رَأَيْتُمُ الرَّجُلَ يَمْشِي عَلَى الْمَاءِ أَوْ يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ فَلَا تُصَدِّقُوهُ حَتَّى تَعْلَمُوا مُتَابَعَتَهُ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَكَذَلِكَ الرَّجَاءُ وَحْدَهُ إِذَا اسْتَرْسَلَ فِيهِ الْعَبْدُ تَجَرَّأَ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ وَأَمِنَ مَكْرَ اللَّهِ، وقد قال تَعَالَى: {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الخاسرون} (2) وَكَذَلِكَ الْخَوْفُ وَحْدَهُ إِذَا اسْتَرْسَلَ فِيهِ الْعَبْدُ سَاءَ ظَنُّهُ بِرَبِّهِ وَقَنَطَ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَئِسَ من روحه وقد قال الله تعالى: {إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون} (3) ، وَقَالَ: {وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضالون} (4) . فَالْأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللَّهِ خُسْرَانٌ، وَالْيَأْسُ مِنْ رَوْحِهِ كُفْرَانٌ، وَالْقُنُوطُ مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ ضَلَالٌ وَطُغْيَانٌ، وَعِبَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِالْحُبِّ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ تَوْحِيدٌ وَإِيمَانٌ، فَالْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ بَيْنَ الْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عذابه} (5) ، وَقَالَ تَعَالَى: {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجوا رحمة ربه} (6) وَبَيَّنَ الرَّغْبَةَ وَالرَّهْبَةَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى فِي آل زكريا: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا ورهباً وكانوا لنا خاشعين} (7) فَتَارَةً يَمُدُّهُ الرَّجَاءُ وَالرَّغْبَةُ، فَيَكَادُ أَنْ يَطِيرَ شَوْقًا إِلَى اللَّهِ، وَطَوْرًا يَقْبِضُهُ الْخَوْفُ وَالرَّهْبَةُ فَيَكَادُ أَنْ يَذُوبَ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ تَعَالَى، فَهُوَ دَائِبٌ فِي طَلَبِ مَرْضَاةِ رَبِّهِ مُقْبِلٌ عَلَيْهِ خَائِفٌ مِنْ عُقُوبَاتِهِ مُلْتَجِئٌ مِنْهُ إِلَيْهِ، عائذ به راغب فيما لديه (8) .   (1) آل عمران: 31. (2) الأعراف: 99. (3) يوسف: 87. (4) الحجر: 56. (5) الإسراء: 57. (6) الزمر: 9. (7) الأنبياء: 90. (8) قد يكون الحب والخوف حباً فطرياً وخوفاً فطرياً لا عبادة فيهما، فالمحبة التي ليست مَعَهَا خَوْفٌ وَلَا تَذَلُّلٌ كَمَحَبَّةِ الْمَطْعَمِ وَالْمَشْرَبِ وَالْأَهْلِ وَالْمَالِ وَالْوَلَدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ لَيْسَتْ بِعِبَادَةٍ ولكن إذا اقتضى ذلك تقديم مرادات المحبوب ومطالبه على مرادات الله كان في ذلك عبودية لها تنقص في توحيد العبد بقدرها كما قَالَ تَعَالَى: {أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} [الفرقان: 43] ، فهو الذي لا يهوى شيئاً إلا ركبه مهما خالف مراد الله، وكذا قوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم ... ) وهو من استرق المال قلبه وأصبح رضاه وسخطه من أجله، وكذلك الخوف بدون محبة كالخوف الفطري من الوحوش والحريق والعدو والغرق وغير ذلك فليس بعبادة لكن إذا وصل الأمر إلى حد الخشية بالغيب والنكوص عن الدين بسبب ذلك الخوف فذلك خوف كفري لا فطري. كما قال تعالى عن الذين نكصوا عن الدين وشر حوا بالكفر صدراً: {ذلك بأنهم استحبوا الحياة = =الدنيا على الآخرة وأن الله لا يهدي القوم الكافرين} [النحل: 107] ، فخوفهم على دنياهم وحبهم لها ليس خوفاً طبيعياً ولا حباً طبيعياً بل كان خوفاً كفرياً وحباً كفرياً. والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 ب-أركان العبادة وشروطها : للعبادة ثلاثة أركان أو شروط: الأول : صدق العزيمة. الثاني : الإخلاص. الثالث: متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. فالأول شرط في صدور العبادة ووقوعها، والآخران شرطان في قبولها. 1- صدق العزيمة: وهو أن يبذل الْعَبْدِ جُهْدَهُ فِي امْتِثَالِ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَاجْتِنَابِ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ وَالِاسْتِعْدَادُ لِلِقَاءِ اللَّهِ وَتَرْكُ الْعَجْزِ وَتَرْكُ التَّكَاسُلِ عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ وَإِمْسَاكُ النَّفْسِ بِلِجَامِ التَّقْوَى عَنْ محارم الله وطرد الشيطان عنه بالمداومة عن ذِكْرِ اللَّهِ وَالِاسْتِقَامَةُ عَلَى ذَلِكَ كُلِّهِ مَا استطاع، قال تَعَالَى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عليه} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وكونوا مع الصادقين} (2) ، وقال تعالى: {ألم* أحسب   (1) الأحزاب: 23. (2) التوبة: 119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ*وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين} (1) ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ وَإِنْ أصابك شيء فلا تقل ولو أَنِّي فَعَلْتُ [كَانَ] كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ) . 2- الإخلاص: وحقيقته أَنْ يَكُونَ قَصْدُ الْعَبْدِ وَجْهَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى* الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى *وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى* إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ ربه الأعلى*ولسوف يرضى} (2) ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا *وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك كان سعيهم مشكوراً} (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم لَا يُبْخَسُونَ*أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وباطل ما كانوا يعملون} (4) ، وقال تعالى: {ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين} (5) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: سمعت رسول الله   (1) العنكبوت: 1-3. (2) الليل: 17-21. (3) الإسراء: 18، 19. (4) هود: 15، 16. (5) البقرة: 165، وكذا قوله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضات الله فسوف نؤتيه أجراً عظيماً} [النساء: 114] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ لِدُنْيَا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَامِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ) ، وَعَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ شُجَاعَةً وَيُقَاتِلُ حَمِيَّةً وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ؟ فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فهو في سبيل الله) متفق عليه. 3- المتابعة: أي متابعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -، وهو شرط لازم لقبول العبادة من العبد، فيعبد الله تعالى وفق مَا شَرَعَ وَهُوَ دِينُ الْإِسْلَامِ الَّذِي لَا يقبل الله من أحد ديناً سِوَاهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة من الخاسرين} (1) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) ، وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمَرُنَا فَهُوَ رد) فهذه الأركان الثلاثة شُرُوطٌ فِي الْعِبَادَةِ لَا قِوَامَ لَهَا إِلَّا بِهَا فَالْعَزِيمَةُ الصَّادِقَةُ شَرْطٌ فِي صُدُورِهَا، وَالنِّيَّةُ الخالصة وموافقة السنة شرطان فِي قَبُولِهَا، فَلَا تَكُونُ عِبَادَةً مَقْبُولَةً إِلَّا بِاجْتِمَاعِهَا، فَإِخْلَاصُ النِّيَّةِ بِدُونِ صِدْقِ الْعَزِيمَةِ هَوَسٌ وَتَطْوِيلُ أَمَلٍ وتمنٍ عَلَى اللَّهِ وَتَسْوِيفٌ فِي الْعَمَلِ وَتَفْرِيطٌ فِيهِ، وَصِدْقُ الْعَزِيمَةِ بِدُونِ إِخْلَاصٍ يَكُونُ شِرْكًا أَكْبَرَ أَوْ أَصْغَرَ بِحَسَبِ مَا نقص من الإخلاص، وإخلاص النية إن لم يكن العمل وفق السنة كان بدعاً وحدثاً في الدين وشرع ما لَمْ يَكُنِ الْعَمَلُ عَلَى وَفْقِ السُّنَّةِ كَانَ بدعاً وَحَدَثًا فِي الدِّينِ وَشَرْعَ مَا لَمْ يَأْذَنِ به الله فَيَكُونُ رَدًّا عَلَى صَاحِبِهِ وَوَبَالًا عَلَيْهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، فَلَا يَصْدُرُ الْعَمَلُ مِنَ الْعَبْدِ إِلَّا بصدق العزيمة   (1) آل عمران: 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ ذَلِكَ إِلَّا بِإِخْلَاصِ النِّيَّةِ وَإِتْبَاعِ السُّنَّةِ، وَلِذَا قَالَ الْفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ رحمه الله فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} (1) قَالَ: أَخْلَصُهُ وَأَصْوَبُهُ، يَعْنِي خَالِصًا مِنْ شَوَائِبِ الشرك موافقاً للسنة. جـ - بعض أنواع العبادة : 1- الدعاء: وهو أعظمها ولبها، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سيدخلون جهنم داخرين} (2) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (الدُّعَاءُ هُوَ الْعِبَادَةُ) ثُمَّ قَرَأَ: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عبادتي سيدخلون جهنم داخرين} رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (3) وَلَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مرفوعاً: (إذا سألت فسأل الله) (4) ، وله أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّهُ مَنْ لَمْ يسأل الله يغضب عليه) (5) . 2- الخوف: قال تَعَالَى: {فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (6) ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} (7) ، وقال تبارك وتعالى: {والذي يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} (8) ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ ويخافون عذابه} (9) ، وقال تعالى: {أمّن هو   (1) الملك: 2. (2) غافر: 60. (3) وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني، رقم 2590، 2685. (4) صحيح سنن الترمذي رقم 2043. (5) حديث حسن، انظر سنن الترمذي، رقم 2686. (6) آل عمران: 175. (7) الرحمن: 46. (8) المؤمنون: 60. (9) الإسراء: 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ ويرجوا رحمة ربه} (1) . وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَمَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ وَلَخَرَجْتُمْ إلى الصعدات (2) يجأرون (3) إلى الله) رواه الترمذي عن أبي ذر رضي الله عنه وحسنه ورواه عنه أيضاً ابن ماجه وأحمد (4) ، وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أُمِّ الْعَلَاءِ الْأَنْصَارِيَّةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -: (وَاللَّهِ لَا أَدْرِي -وَأَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بكم) ، وفي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا رَأَيْتُ مِثْلَ النَّارِ نَامَ هَارِبُهَا، وَلَا مِثْلَ الْجَنَّةِ نَامَ طَالِبُهَا) (5) ، وَفِيهِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ خَافَ أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ الْمَنْزِلَ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ غَالِيَةٌ، أَلَا إِنَّ سِلْعَةَ اللَّهِ الْجَنَّةُ) (6) ، وله وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَائِشِةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتوا وقلوبهم وجلة} هُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الْخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: لَا يا ابنة الصديق، ولكنهم الذين يصومون وَيَتَصَدَّقُونَ وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُمْ) (7) ، وفيه من حديث أبي جحيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ شِبْتَ، قَالَ: (شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا) (8) .   (1) الزمر: 9. (2) الطرق، النهاية لابن الأثير. (3) الجأر: رفع الصوت والاستغاثة، النهاية 1/432. (4) حسنه الألباني، صحيح سنن الترمذي 1882، صحيح سنن ابن ماجه (3378) ، وأخرج الشيخان بعضه عن أنس رضي الله عنه. (5) حسنه الألباني، صحيح الجامع الصغير 5498. (6) صحيح، صحيح الجامع الصغير 6098. (7) حسنه الألباني، وقال تعالى وقال تعالى وقال تعالى وقال تعالى صحيح سنن ابن ماجة 3384، الصحيحة 162. (8) صحيح، صحيح الجامع الصغير 3614. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 3- التوكل: وهو اعتماد القلب على الله تعالى وثقته به وأنه كافية. قال تعالى: {وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين} (1) فجعله الله تَعَالَى شَرْطًا فِي الْإِيمَانِ، كَمَا وَصَفَ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ أَهْلُهُ إِذْ قَالَ تَعَالَى: {وَعَلَى اللَّهِ فليتوكل المؤمنون} (2) ، وقال موسى عليه السلام لِقَوْمِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إن كنتم مسلمين} (3) وَقَالَ تَعَالَى عَنْ رُسُلِهِ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ. {وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ *وَمَا لنا أن لا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} (4) ، وَقَالَ تَعَالَى عَنْ نَبِيِّهِ هُودٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا من دابة إلا هو آخذ بناصيتها..} (5) وقال تعالى عن نبيه نوح عليه السلام: {يا قوم إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثم لا يكن أمركم عليكم غمة..} (6) وقال تعالى عن نبيه شعيب عليه السلام: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أنيب} (7) وَقَالَ تَعَالَى لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ المبين} (8) وَقَالَ تَعَالَى: {وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يرجع الأمر كله فاعبده وتوكل عليه وما ربك بغافل عما تعملون} (9) ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إله إلاّ هو   (1) المائدة: 23. (2) المائدة: 11، إبراهيم 11. (3) يونس: 84. (4) إبراهيم: 11، 12. (5) هود: 56. (6) يونس: 71. (7) هود 88. (8) النمل: 79. (9) هود: 123. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 عليه توكلت وهو رب العرش العظيم} (1) . وَقَالَ تَعَالَى فِي مَدْحِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ونعم الوكيل} (2) ، وَقَالَ تَعَالَى فِيهِمْ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياته زادتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون} (3) . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي هذه الآية: {حسبنا الله ونعم الوكيل} قَالَهَا إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ أُلْقِيَ فِي النَّارِ، وَقَالَهَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَصْحَابُهُ حِينَ {قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حسبنا الله ونعم الوكيل} ، وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا بِلَا حساب، هم الذين يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون) ، وروى الترمذي عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: (لَوْ أَنَّكُمْ تَوَكَّلُونَ عَلَى اللَّهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بطاناً) (4) ، وفي حديث القدر: (فتعلم أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وَمَا أخطأك لم يكن ليصيبك) (5) . 4- الرجاء: قال تعالى: {ويرجون رحمته ويخافون عذابه} (6) ، وقال تعالى: {أولئك يرجون رحمة الله} (7) ، وفي الحديث القدسي: (أنا عند   (1) التوبة: 129. (2) آل عمران: 173. (3) الأنفال: 2. (4) صحيح. صحيح سن الترمذي، حديث رقم 1911. (5) صحيح. صحيح سنن ابن ماجه رقم 62. (6) الإسراء: 57. (7) البقرة: 218. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ظن عبدي بي) (1) ، وفي دُعَاءِ الْمَكْرُوبِ: (اللِّهُمَّ رَحْمَتَكَ أَرْجُو فَلَا تَكِلْنِي إلى نفسي ولا أحد من خلقك طرفة عين) (2) ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ فأمسك عنده تسعة وَتِسْعِينَ رَحْمَةً وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْأَسْ مِنَ الْجَنَّةِ وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ من العذاب لم يأمن النار) . 5- الرغبة والرهبة والخشوع: أما الرغبة فيما عند الله من الثواب فهي راجعة إلى معنى الرَّجَاءِ، وَالرَّهْبَةِ مِمَّا عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْعِقَابِ وَهِيَ رَاجِعَةٌ إِلَى مَعْنَى الْخَوْفِ، وَالْخُشُوعُ هُوَ التَّذَلُّلُ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ تَعَالَى فِي آلِ زَكَرِيَّا عَلَيْهِمُ السَّلَامُ: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خاشعين} (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا} (4) وَقَالَ تَعَالَى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ*الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو ربهم وأنهم إليه راجعون} (5) وَقَالَ تَعَالَى: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ *الَّذِينَ هُمْ في صلاتهم خاشعون} (6) ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ (خَشَعَ لك سمعي وبصري ومخي وعظمي) .   (1) صحيح. صحيح الجامع الصغير 4192. (2) حسنه الألباني. صحيح الجامع الصغير 3382، وليس فيه (ولا أحد من خلقك) . (3) الأنبياء: 90. (4) الإسراء: 109. (5) البقرة: 45، 46. (6) المؤمنون: 1، 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 6- الخشية: وهي مرادفة للخوف، وقيل يغلب في الخشية اقترانها بالمحبة، قال تعالى: {فلا تخشوهم واخشوني} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى فِي مَدْحِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ: {إِنَّ الذين هم من خشية ربهم مشفقون} (2) وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مشفقون} (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وخشي الرحمن بالغيب} (4) وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ الله} (5) ، وقال تعالى: {هذا ما توعدون لكل أوّب حَفِيظٍ * مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ منيب} (6) ، وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا} (7) ، وَلِلتِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا يَلِجُ النَّارَ رَجُلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ في منخري مسلم أبداً) (8) ، وعن أَبِي أُمَامَةَ رِضَى اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم -: (لَيْسَ شَيْءٌ أَحَبَّ إِلَى اللَّهِ مِنْ قَطْرَتَيْنِ وَأَثَرَيْنِ: قَطْرَةِ دُمُوعٍ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَقَطْرَةِ دم تراق فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَأَمَّا الْأَثَرَانِ فَأَثَرٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأَثَرُ فَرِيضَةٍ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ تعالى) . رواه الترمذي وقال حديث حسن (9) .   (1) البقرة: 150. (2) المؤمنون: 57. (3) المعارج: 27. (4) يس: 11. (5) الزمر: 23. (6) ق: 32، 33. (7) لقمان: 33. (8) صحيح. صحيح الجامع الصغير 7655. (9) وحسنه الألباني..تخريج المشكاة 3837، قال ابن العربي: الأثر ما يبقى بعده من عمل يجري عليه أجره من بعده ومنه قوله تعالى: {ونكتب ما قدموا وآثارهم} وقال غيره: ما يبقى من رسوم الشيء، وحقيقته ما يدل على وجود الشيء، والمراد خطوة الماشي وخطوة الساعي في فريضة من فرائض الله أو ما بقي على المجاهد من أثر الجراحات وعلى الساعي المتعب نفسه في أداء الفرائض والقيام بها والكد فيها كاحتراق الجبهة من حر الرمضاء التي يسجد عليها وانفطار الأقدام من برد ماء الوضوء ونحو ذلك. (فيض القدير 5/365) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 7- الْإِنَابَةُ: وَهِيَ التَّوْبَةُ النَّصُوحُ وَالرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَنِيبُوا إِلَى ربكم وأسلموا} (1) ، وقال تعالى عن إبراهيم عليه السلام وَالَّذِينَ مَعَهُ: {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وإليك المصير} (2) ، وَقَالَ تَعَالَى فِي شَأْنِ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لهم البشرى فبشر عباد ... } (3) ، وقال تعالى عَنْ عَبْدِهِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وخر راكعاً وأناب} (4) . 8- الخضوع والاستعاذة: أما الخضوع فهو بمعنى الخشوع والتذلل، وأما الاستعاذة فهي الِامْتِنَاعُ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالِالْتِجَاءُ إِلَيْهِ، قَالَ الله عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من الشيطان الرجيم} (5) ، وقال تعالى: {إما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} (6) ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شر ما خلق ... } (7) إلى آخر السُّورَةَ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ ... } (8) إلى آخر السُّورَةَ، وَقَالَ عَنْ كَلِيمِهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب} (9) .   (1) الزمر: 54. (2) الممتحنة: 4. (3) الزمر: 17. (4) ص: 24. (5) النحل: 98. (6) فصلت: 36. (7) الفلق: 1، 2. (8) الناس: 1. (9) غافر: 27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَعُوذُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَبِوَجْهِهِ الْكَرِيمِ وَبِسُلْطَانِهِ الْقَدِيمِ مِنَ الشيطان الرجيم) (1) ، وقال - صلى الله عليه وسلم -: (أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ) (2) ، وَقَالَ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِرِضَاكَ مِنْ سخطك وبمعافاتك من عقوبتك وبك وبك منك) (3) وتعوَّذ عليه الصلاة والسلام من الفتن -وأمر بذلك -كفتنة القبر وعذابه وفتنة المسيح الدجال وغير ذلك (4) . 9- الِاسْتِعَانَةُ: وَهِيَ طَلَبُ الْعَوْنِ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وجل. قال تعالى: *. قال تعالى: {إياك نعبد وإياك نستعين} (5) أَيْ لَا نَعْبُدُ إِلَّا إِيَّاكَ وَلَا نَسْتَعِينُ إِلَّا بِكَ، وَنَبْرَأُ مِنْ كُلِّ مَعْبُودٍ دُونَكَ ومن عابديه، ونبر مِنَ الْحَوْلِ وَالْقُوَّةِ إِلَّا بِكَ، فَلَا حَوْلَ لِأَحَدٍ عَنْ مَعْصِيَتِكَ، وَلَا قُوَّةَ عَلَى طَاعَتِكَ إِلَّا بِتَوْفِيقِكَ وَمَعُونَتِكَ. وَقَالَ عَنْ نَبِيِّهِ يَعْقُوبَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى ما تصفون} (6) . وللترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: (إِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ) (7) ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -: ( ... احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ ... ) ، وَفِي التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عبادتك) (8) .   (1) صحيح. صحيح الكلم الطيب 52. (2) رواه مسلم في كتاب الذكر والدعاء، باب الدعوات والتعوذ، وانظر صحيح مسلم بشرح النووي ج 7 ص: 31. (3) رواه مسلم في كتاب الصلاة، باب ما يقال في الركوع والسجود، وانظر صحيح مسلم بشرح النووي ج4 ص: 203. (4) انظر فتح الباري، كتاب الصلاة باب الدعاء قبل السلام ج2 ص: 832، وصحيح مسلم بشرح النووي، كتاب الصلاة، باب التعوذ من عذاب القبر ج5 ص: 85. (5) الفاتحة: 5. (6) يوسف: 18. (7) صحيح. . صحيح سنن الترمذي 2043. (8) إسناده صحيح. الكلم الطيب بتحقيق الألباني، حديث 114. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 10- الاستغاثة: وَهِيَ طَلَبُ الْغَوْثِ مِنْهُ تَعَالَى مِنْ جَلْبِ خَيْرٍ أَوْ دَفْعِ شَرٍّ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وجل: {إذ تستغيثوا رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الملائكة مردفين} (1) ، وقال تعالى: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله} (2) ، وَمِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يا حي يا قيوم برحمتك استغيث) (3) ، وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فِي الِاسْتِسْقَاءِ: فَرَفَعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ: (اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا، اللَّهُمَّ أَغِثْنَا) . 11- الذبح: وهو الذبح نسكاً لله تعالى وتقرباً مِنْ هَدْيٍ وَأُضْحِيَةٍ وَعَقِيقَةٍ وَغَيْرِ ذَلِكَ، قَالَ الله عز وجل: {فصل لربك وانحر} (4) ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ *لَا شَرِيكَ لَهُ وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} (5) ، وَقَالَ تَعَالَى {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا} (6) . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه مرفوعاً: (لعن الله من ذبح لغير الله) . 12- النذر: قال تعالى: {ثم ليقضوا تفثهم (7) وليوفوا نذرهم..} (8) ،   (1) الأنفال: 9. (2) النمل: 62. (3) حسنه الألباني، الكلم الطيب بتحقيق الألباني، حديث 118. (4) الكوثر: 2. (5) الأنعام: 162، 163. (6) الحج: 36. (7) عن ابن عباس قال: التفث المناسك. ابن كثير 3/211. (8) الحج: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وَقَالَ تَعَالَى: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شره مستطيراً} (1) ، وقال: {وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نذر فإن الله يعلمه..} (2) . وَعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيَ اللَّهَ فَلَا يَعْصِهِ) رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ إِلَّا مسلماً. وروى البخاري عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (خَيْرُكُمْ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يلونهم) قال عمران: لا أدري ذكر أو اثنين أو ثلاثاً بعد قرنه (ثم يجئ قَوْمٌ يَنْذِرُونَ وَلَا يُوفُونَ، وَيَخُونُونَ وَلَا يُؤْتَمَنُونَ، ويشهدون ولا يستشهدون، ويظهر فيهم السمن) . شروط النذر لله تعالى: 1- أن يكون طاعة، للحديث السابق. 2- أن يكون مما يطيقه العبد، لما في الصحيحين عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاستفتيه فقال: (لتمشي ولتركب) ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ إِذْ هُوَ بَرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فَلَا يَقْعُدُ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ) (3) فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَرْكِ مَا لَمْ يكن مطيقه وَلَمْ يَكُنْ مَشْرُوعًا وَأَمَرَهُ بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ لِكَوْنِهِ يطيقه ولكنه مشروعاً. 3- أن يكون فيما يملك، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ وَلَا فِيمَا لَا يَمْلِكُ ابن آدم) (4) . 4- أن لَا يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ كَانَ يُعْبَدُ فِيهِ غير الله تعالى، لئلا يكون ذريعة لعبادة غير الله تعالى لحديث ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إِنِّي نَذَرْتُ أن أنحر إبلاً ببوانة، فقال: (أكان فِيهَا وَثَنٌ مِنْ أَوْثَانِ الْجَاهِلِيَّةِ يُعْبَدُ؟) فَقَالُوا: لَا، قَالَ: (فَهَلْ كَانَ فِيهَا عِيدٌ مِنْ أَعْيَادِهِمْ؟) قَالُوا لَا، قَالَ: (أَوْفِ بِنَذْرِكَ، فَإِنَّهُ لَا وَفَاءَ لِنَذْرٍ فِي مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَلَا فيما   (1) الإنسان: 7. (2) البقرة: 270. (3) رواه البخاري، كتاب الإيمان والنذور، باب النذر فيما لا يملك وفي معصية، وانظر الفتح ج11 ص: 594. (4) انظر الحديث التالي له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 لا يملك ابن آدم) (1) . 5- عدم اعتقاد الناذر تأثير النذر في حصوله -لمن كان معلقاً نذره بحصول شيء معين -لما في الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن النذر لا يقدم شيئاً ولا يؤخر، وإنما يستخرج بالنذر من البخيل) . كانت تلك بعض أنواع العبادة، وهناك كثير غيرها من العبادات الظاهرة والباطنة كالتسبيح والتحميد وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَتَدَبُّرِهِ وَتَعَلُّمِهِ وَتَعْلِيمِهِ، وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ الْمَشْرُوعَةِ، وَمَحَبَّةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْحُبِّ فِي اللَّهِ وَالْبُغْضِ فِيهِ وَالْمُوَالَاةِ وَالْمُعَادَاةِ لأجله، وغير ذلك من العبادات (2) . د-حكم صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى : صرف شيء من العبادة قَلَّ أَوْ كَثُرَ لِغَيْرِ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كان من ملك أو نبي أو   (1) صحيح. صحيح الجامع الصغير 2548. (2) وكذا المباحات مع تحسين النية والمتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، كالطعام والشراب مع نية إعطاء البدن حقه طاعة للرسول - صلى الله عليه وسلم -، والتقوى على العبادة، مع المتابعة للرسول - صلى الله عليه وسلم - من التسمية والأكل باليمين وعدم الإسراف وغير ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 وَلِيٍّ أَوْ قَبْرٍ أَوْ جِنِّيٍّ أَوْ شَجَرٍ أَوْ حَجَرٍ أَوْ غَيْرِهِ كُلُّ ذَلِكَ شِرْكٌ أكبر وسيأتي بيانه إنشاء الله تعالى، وبيان الشرك الأصغر كذلك فيما تبقى من هذا الجزء من الكتاب. والشرك هو أعظم ظلم وأعظم ذنب، قال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} (1) ، وذلك لِأَنَّ الظُّلْمَ هُوَ وَضْعُ الشَّيْءِ فِي غَيْرِ موضعه، لا أَعْظَمَ ظُلْمًا مِنْ شِكَايَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ الَّذِي هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فِيمَا أَصَابَهُ مِنْ ضُرٍّ أو فاته من خير إلا مَنْ لَا يَرْحَمُهُ وَلَا يَسْمَعُهُ وَلَا يُبْصِرُهُ وَلَا يَعْلَمُهُ وَلَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِدَاعِيهِ مِنْ ضُرٍّ وَلَا نَفْعٍ وَلَا مَوْتٍ وَلَا حَيَاةٍ وَلَا نُشُورٍ، وَلَا يُغْنِي عَنْهُ مِثْقَالَ ذرة، عدوله عَمَّنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ، وَيَفْزَعُ فِي قَضَاءِ حَوَائِجِهِ إِلَى مَنْ لَا قُدْرَةَ لَهُ عَلَى شَيْءٍ ألبته، وَصَرْفُهُ عِبَادَةَ خَالِقِهِ -الَّذِي خَلَقَهُ لِعِبَادَتِهِ وَتَوْحِيدِهِ وَرَبَّاهُ بِنِعَمِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ وَحَفِظَهُ وَكَلَأَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَحَمَاهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَخَاوِفِ وَالْأَخْطَارِ -لِمَخْلُوقٍ مثله خلقه اللَّهُ تَعَالَى بِمَا شَاءَ مِنْ أَنْوَاعِ التَّصَرُّفِ، لَا يُبْدِي حَرَاكًا وَلَا يَنْفَكُّ مِنْ قَبْضَةِ الله عز وجل بل هو خلقه معبوداً، وهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يأمره ربه جلا وعلا فيقول له: {قل لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا *قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أجد من دونه ملتحداً} (2) . وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ: قَالَ: (أَنْ تَجْعَلَ لِلَّهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ) .   (1) لقمان: 13. (2) الجن: 21، 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 وفيما يلي الأبيات المتعلقة بما سبق : هَذَا وَثَانِي نَوْعَيِ التَّوْحِيدِ ... إِفْرَادُ رَبِّ الْعَرْشِ عَنْ نَدِيدِ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ إِلَهًا وَاحِدَا ... مُعْتَرِفًا بِحَقِّهِ لَا جَاحِدَا وَهُوَ الَّذِي بِهِ الْإِلَهُ أَرْسَلَا ... رُسْلَهُ يَدْعُونَ إِلَيْهِ أَوَّلَا وَأَنْزَلَ الْكِتَابَ وَالتِّبْيَانَا ... مِنْ أَجْلِهِ وَفَرَقَ الْفُرْقَانَا وَكَلَّفَ اللَّهُ الرَّسُولَ الْمُجْتَبَى ... قِتَالَ مَنْ عَنْهُ تَوَلَّى وَأَبَى حَتَّى يَكُونَ الدِّينُ خَالِصًا لَهُ ... سِرًّا وَجَهْرًا دِقُّهُ وَجِلُّهُ وَهَكَذَا أُمَّتُهُ قَدْ كُلِّفُوا ... بِذَا وَفِي نَصِ الْكِتَابِ وُصِفُوا وَقَدْ حَوَتْهُ لَفْظَةُ الشَّهَادَهْ ... فَهِيَ سَبِيلُ الْفَوْزِ وَالسَّعَادَهْ مَنْ قَالَهَا مُعْتَقِدًا مَعْنَاهَا ... وَكَانَ عَامِلًا بِمُقْتَضَاهَا فِي الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ وَمَاتَ مُؤْمِنًا ... يُبْعَثُ يَوْمَ الْحَشْرِ نَاجٍ آمِنَا فَإِنَّ مَعْنَاهَا الَّذِي عَلَيْهِ ... دَلَّتْ يَقِينًا وَهَدَتْ إِلَيْهِ أَنْ لَيْسَ بِالْحَقِّ إِلَهٌ يُعْبَدُ ... إِلَا الْإِلَهُ الْوَاحِدُ الْمُنْفَرِدُ بِالْخَلْقِ وَالرِّزْقِ وَبِالتَّدْبِيرِ ... جَلَّ عَنِ الشَّرِيكِ وَالنَّظِيرِ وَبِشُرُوطٍ سَبْعَةٍ قَدْ قُيِّدَتْ ... وَفِي نُصُوصِ الْوَحْيِ حَقًّا وَرَدَتْ فَإِنَّهُ لَمْ يَنْتَفِعْ قَائِلُهَا ... بِالنُّطْقِ إِلَّا حَيْثُ يَسْتَكْمِلُهَا الْعِلْمُ وَالْيَقِينُ وَالْقَبُولُ ... وَالِانْقِيَادُ فَادْرِ مَا أَقُولُ وَالصِّدْقُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْمَحَبَّهْ ... وَفَّقَكَ اللَّهُ لِمَا أَحَبَّهْ ثُمَّ الْعِبَادَةُ هِيَ اسْمٌ جَامِعُ ... لِكُلِ مَا يَرْضَى الْإِلَهُ السَّامِعُ وَفِي الْحَدِيثِ مُخُّهَا الدُّعَاءُ ... خَوْفٌ تَوَكُّلٌ كَذَا الرَّجَاءُ وَرَغْبَةٌ وَرَهْبَةٌ خُشُوعُ ... وَخَشْيَةٌ إِنَابَةٌ خُضُوعُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وَالِاسْتِعَاذَةُ وَالَاسْتِعَانَهْ ... كَذَا اسْتِغَاثَةٌ بِهِ سُبْحَانَهْ وَالذَّبْحُ وَالنَّذْرُ وَغَيْرُ ذَلِكْ ... فَافْهَمْ هُدِيتَ أَوْضَحَ الْمَسَالِكْ وَصَرْفُ بَعْضِهَا لِغَيْرِ اللَّهِ ... شِرْكٌ وَذَاكَ أَقْبَحُ الْمَنَاهِي • أسئلة : 1- بين أن توحيد الإثبات أعظم حجة على توحيد الطلب والقصد مع ذكر بعض الأدلة؟ 2- هل كان المشركون يقرون لله بالربوبية؟ وما الدليل؟ 3- هل يمكن أن يوجد التوحيد الحق للربوبية دون توحيد الألوهية؟ وضح ما تقول بمثال. 4- بين معنى توحيد الألوهية ومكانته وعلاقته بمعنى كلمة لا إله إلا الله؟ 5- بين ما يصح تقديره وما لا يصح بعد كلمة (إله) في قولنا "لا إله إلا الله"؟ واذكر معنى هذه الكلمة العظيمة، وفضلها، وشروطها! 6- اذكر علامات محبة العبد لربه، مع الأدلة! 7- لماذا كانت شهادة أن لا إله إلا الله تتضمن أو لا تتم إِلَّا بِشَهَادَةِ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -؟ 8- بين أنه لا تناقض بين أحاديث أن الشهادتين سبب لدخول الجنة وأحاديث الوعيد بالنار أو تحريم الجنة على من فعل بعض الذنوب ونحو ذلك من أحاديث الوعد والوعيد! 9- اذكر معنى العبادة، وشروطها (أو أركانها) ، وبعض أنواعها، وحكم من صرف شيئًا منها لغير الله عز وجل! 10- اذكر الأدلة من الكتاب والسنة على أن الدعاء عبادة! الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الباب الثاني الشرك وأنواعه الباب الثاني: ضِدِّ التَّوْحِيدِ وَهُوَ الشِّرْكُ وَكَوْنِهِ يَنْقَسِمُ إِلَى أكبر وأصغر وبيان كل منهما 1- تعريف (ضد التوحيد وهو الشرك) : أ-ضد توحيد الربوبية : هُوَ اعْتِقَادُ الْعَبْدِ وُجُودَ مُتَصَرِّفٍ مَعَ اللَّهِ فِيمَا لَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وجل. ب-ضد توحيد الأسماء والصفات (الإلحاد) : وسبق أنه ثلاث أنواع (1) : 1- نفي الأسماء والصفات عن الله تعالى وتعطيله عن صفات كماله ونعوت جلاله، وهو إلحاد النفاة. 2- تشبيه صفات الله تعالى بصفات خلقه، وهو إلحاد المشبه. 3- تنزيل المخلوق بمنزلة الخالق وهو إلحاد المشركين الذين سموا أصنامهم آلهة واشتقوا أسماء لها من أسماء الله عز وجل. جـ-ضد توحيد الألوهية : وهو صَرْفُ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ عز وجل (2) وهو الْغَالِبُ عَلَى عَامَّةِ الْمُشْرِكِينَ وَفِيهِ الْخُصُومَةُ بَيْنَ جميع الرسل وأقوامهم. 2- بدء ظهور الشرك في بني آدم: كان ذلك في قوم نوح وذلك أن الشيطان منذ أن خلق الله آدم وأمر إبليس بالسجود له فأبى وأهبطه الله إلى الأرض وهو قد أضمر العداوة لآدم وذريته   (1) سبق تقسيمه في أول الكتاب في الإلحاد في الأسماء والصفات. (2) وهذا شرك أكبر، أما ما يؤدي لصرف ذلك لغير الله فهو الشرك الأصغر. انظر القول السديد ص: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 بدءاً بتحريضهم على الأكل من الشجرة ومخالفة أمر الله ثم في تحريشه بين أبناء آدم الذين كانوا أمة واحدة حتى ألقى بينهم الخلاف، كل ذلك تنفيذاً لمقالته إذ ذاك {فبعزتك لأغوينهم أجمعين *إلا عبادك منهم المخلصين} (1) ، ثم كان شر عمل عمله إيقاعه لهم في الشرك، وبيان ذلك ما رواه الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أنه قَالَ فِي وَدٍّ وَسُوَاعٍ وَيَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرٍ: هَذِهِ أَسْمَاءُ رِجَالٍ صَالِحِينَ مِنْ قَوْمِ نُوحٍ (2) فَلَمَّا هَلَكُوا أَوْحَى الشَّيْطَانُ إِلَى قَوْمِهِمْ أَنْ أَنْصِبُوا إِلَى مَجَالِسِهِمُ الَّتِي كَانُوا يَجْلِسُونَ أَنْصَابًا وَسَمُّوهَا بِأَسْمَائِهِمْ فَفَعَلُوا وَلَمْ تُعْبَدْ، حَتَّى إِذَا هَلَكَ أُولَئِكَ وَتُنُوسِيَ الْعِلْمُ عُبِدَتْ. اهـ (3) فَلَوْ جَاءَهُمُ اللَّعِينُ وَأَمَرَهُمْ مِنْ أَوَّلِ مَرَّةٍ بِعِبَادَتِهِمْ لم يقبلوا ولم يطيعوا، بَلْ أَمَرَ الْأَوَّلِينَ بِنَصْبِ الصُّوَرِ لِتَكُونَ ذَرِيعَةً لِلصَّلَاةِ عِنْدَهَا مِمَّنْ بَعْدَهُمْ، ثُمَّ تَكُونَ عِبَادَةُ الله عندها ذريعة لعبادتها ممن يخالفهم. 3- أول من دعا العرب إلى عبادة الأصنام في الجزيرة العربية: هو عمرو بن لحي، وبيان ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ الْكَلْبِيُّ حَيْثُ قَالَ: وَكَانَ عمر ابن لُحَيّ كَاهِنًا وَلَهُ رَئِيٌّ مِنَ الْجِنِّ فَقَالَ له: عجل السير والظغن مِنْ تِهَامَةَ، بِالسَّعْدِ وَالسَّلَامَةِ، إِئْتِ جُدَّةَ، تَجِدْ فِيهَا أَصْنَامًا مُعَدَّةً، فَأَوْرِدْهَا تِهَامَةَ وَلَا تَهَبْ، ثُمَّ ادْعُ الْعَرَبَ إِلَى عِبَادَتِهَا تُجَب. فَأَتَى نهر جدة فاستشارها ثُمَّ حَمَلَهَا حَتَّى وَرَدَ تِهَامَةَ وَحَضَرَ الْحَجَّ فَدَعَا الْعَرَبَ إِلَى عِبَادَتِهَا قَاطِبَةً فَأَجَابَهُ عَوْفُ بْنُ عَدْنِ بْنِ زَيْدِ اللَّاتِ فَدَفَعَ إِلَيْهِ وداً فحمله. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -: (أيت عمرو بن لحي الخزاعي يجر   (1) ص: 82، 83. (2) أي القوم الذين أرسل إليهم فيما بعد. (3) الحديث رواه البخاري في التفسير باب وداً ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق وفيه ( ... وتَنسَّخ العلم ... ) ولم أجده في البخاري بلفظ: (تنوسي) الفتح 8 / 535. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 قصبه (1) في النار وكان من أَوَّلَ مَنْ سَيَّبَ السَّوَائِبَ) (2) وَفِي لَفْظٍ: (وَغَيَّرَ دين إبراهيم) (3) . ومن وقتها انتشرت عبادة الأصنام بين العرب. قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ: وَاتَّخَذَ أَهْلُ كُلِّ دَارٍ فِي دَارِهِمْ صَنَمًا يَعْبُدُونَهُ فَإِذَا أَرَادَ رَجُلٌ مِنْهُمْ سَفَرًا تَمَسَّحَ بِهِ فَيَكُونُ آخِرَ عَهْدِهِ وَأَوَّلَ عَهْدِهِ، فَلَمَّا بَعَثَ اللَّهُ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالتَّوْحِيدِ قَالَتْ قُرَيْشٌ: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} (4) وَكَانَتِ الْعَرَبُ قَدِ اتَّخَذَتْ مَعَ الْكَعْبَةِ طَوَاغِيتَ، وَهِيَ بُيُوتٌ تُعَظِّمُهَا كَتَعْظِيمِ الْكَعْبَةِ، لَهَا سَدَنَةٌ وَحُجَّابٌ وَيُهْدَى لَهَا كَمَا يُهْدَى لِلْكَعْبَةِ وَيُطَافُ بِهَا كَمَا يُطَافُ بِالْكَعْبَةِ وَيُنْحَرُ عِنْدَهَا كَمَا يُنْحَرُ عِنْدَ الْكَعْبَةِ، وَكَانَ الرَّجُلُ إِذَا سَافَرَ فَنَزَلَ مَنْزِلًا أَخَذَ أَرْبَعَةَ أَحْجَارٍ فَنَظَرَ إِلَى أَحْسَنِهَا فَاتَّخَذَهُ رَبًّا وَجَعَلَ الثَّلَاثَةَ أَثَافِيَّ لِقِدْرِهِ فَإِذَا ارْتَحَلَ تَرَكَهُ فَإِذَا نَزَلَ مَنْزِلًا آخَرَ فعل مثل ذلك (5) . 4- أَسْبَابُ تَلَاعُبِ الشَّيْطَانِ بِالْمُشْرِكِينَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ: 1- طائفة دَعَاهُمْ إِلَى عِبَادَتِهَا مِنْ جِهَةِ تَعْظِيمِ الْمَوْتَى الَّذِينَ صَوَّرُوا تِلْكَ الْأَصْنَامَ عَلَى صُوَرِهِمْ كَمَا تقدم عن قوم نوح عليه السلام.   (1) القُصب بالضم المِعَى وجمعه أقصاب، وقيل القصب اسم للأمعاء كلها، وقيل هو ما كان أسفل البطن من الأمعاء، النهاية لابن الأثير. (2) كان الرجل إذا نذر لقدوم من سفر أو برء من مرض أو غير ذلك قال: ناقتي سائبة، فلا تمنع من ماء ولا مرعى ولا تحلب ولا تركب ... وأصله من تسييب الدواب وهو إرسالها تذهب وتجيء كيف شاءت، النهاية. (3) ليس هذا اللفظ في الصحيحين ولا أحدهما وقال عمر بن محمود مخرج أحاديث المعارج (دار ابن القيم ط1410هـ) ومعناه عند أحمد في المسند 3/353 من رواية جابر رضي الله عنه أ. هـ. (4) ص: 5. (5) وروى البخاري في المغازي، باب وفد بني حنيفة: عن أبي رجاء العطاردي: كنا نعبد الحجر، فإذا وجدنا حجراً هو أخير منه ألقيناه وأخذنا الآخر، فإذا لم نجد حجراً جمعنا جُثوة من تراب، ثم جئنا بالشاة نحلبها عليه، ثم طفنا به. انظر الفتح ج7 ص: 692. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 2- وطائفة أخرى اتخذت القمر صَنَمًا وَزَعَمُوا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ التَّعْظِيمَ وَالْعِبَادَةَ، وَإِلَيْهِ تدبير هذا العلم السفلي. 3- الْغُلُوُّ فِي الْمَخْلُوقِ وَإِعْطَاؤُهُ فَوْقَ مَنْزِلَتِهِ حَتَّى جَعَلُوا فِيهِ حَظًّا مِنَ الْإِلَهِيَّةِ وَشَبَّهُوهُ بِاللَّهِ تعالى. 5- بيان قبح الشرك ووعيد فاعله وأنه أعظم ذنب عصي الله به: قال تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا} (1) ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ مَاتَ لَا يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ الْجَنَّةَ، وَمَنْ مَاتَ يُشْرِكُ بِاللَّهِ شَيْئًا دَخَلَ النار) (2) .. وقد سبق الكلام في ذلك في نهاية الباب السابق في الحديث عن حكم صرف نوع من أنواع العبادة لغير الله تعالى فراجعه. 6 - انقسام الشرك إلى أكبر وأصغر (3) وبيان كل منهما: أ-الشرك الأكبر : -معنى الشرك الأكبر وبيان شرك المشركين الذين أرسل إليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - : هو اتِّخَاذُ الْعَبْدِ غَيْرَ اللَّهِ مِنْ نَبِيٍّ أَوْ ولي أو جماد أو حيوان نداً مساوياً لله يحبه كحبه ويخافه ويخشاه كخشيته ... إلخ. وفي آيات الكتاب العزيز - كقوله تعالى على سبيل المثال: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أنداداً يحبونهم كحب الله ... } (4) - ما يدل أن المشركين لم يسووا أندادهم بالله في الخلق والتدبير والإحياء والإماتة، ولكن   (1) النساء: 48. (2) رواه مسلم، كتاب الإيمان، باب من مات لا يشرك بالله شيئاً ... ، وانظر صحيح مسلم بشرح النووي ج2ص: 93. (3) هذا التقسيم يذكره العلماء دائماً فيما يتعلق بالشرك في الألوهية أو العبادة. (4) البقرة: 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 سووهم به في الحب والخشية، وَلَمْ يُفْرِدُوا اللَّهَ بِالْعِبَادَةِ دُونَ مَنْ سِوَاهُ مع إنهم لم يعبدوا الأصنام استقلالاً بل زعموا أنها تقربهم إلى الله فجمعوا بين شركين: عبادتهم إياهم من دون الله، وجعلهم شفعاء بدون إذنه تعالى. كذلك كان شركهم في الرخاء دون الشدة كَمَا قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إلى البر إذا هم يشركون} (1) . -بيان ما زاده مشركوا زماننا على شرك الأولين : 1- الشرك في الشدة والرخاء، بل في الشدة أضعاف الرخاء بما يزيدونه من عدد الذبائح للوليّ في الشدة ونحو ذلك. 2- اعتقادهم متصرفين مع الله فيما لا يقدر عليه إلا هو وإعطاؤهم وإعطاؤهم لمعبوداتهم كثيراً من صفات الربوبية حتى يزعم بعضهم أن الكون لا تتحرك فيه ذرة إلا بإذن فلان. تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً. -أقسام المعبودين من دون الله وعاقبتهم : المعبود من دون الله إما أن يكون عاقلاً أو غير عاقل، والأول إما أن يكون راضياً بأن يعبد وإما أن لا يكون راضياً، فأما غير العاقل والعاقل الراضي بالعبادة فهؤلاء حصب جهنم، قال تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حصب جهنم أنتم لها واردون} (2) ، وأما العاقل الذي لم يرض بالعبادة فهو بريء ممن عبده يوم القيامة، قال تَعَالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أكثرهم بهم مؤمنون} (3) وغير ذلك من الآيات في عيسى عليه السلام وغيره.   (1) العنكبوت: 65. (2) الأنبياء: 98. (3) سبأ: 40، 41. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ب-الشرك الأصغر : وهذا النوع لا يخرج من الملة (1) . ومن أمثلته: 1- الرياء: وهذا الرياء هو شرك أصغر يختلف عن الرياء المذكور عن المنافقين في القرآن الذي هو شرك أكبر، والفارق في ذلك النية، فإذا كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ هُوَ إِرَادَةُ غَيْرِ الله عز وجل فذلك النفاق الأكبر (2) ، وَإِنْ كَانَ الْبَاعِثُ عَلَى الْعَمَلِ هُوَ إِرَادَةُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَلَكِنْ دَخَلَ الرياء في تزيينه وتحسينه فذلك هو الشرك الأصغر المفسر بالرياء العملي (3) (يَقُومُ الرَّجُلُ فَيُصَلِّي فَيُزَيِّنُ صَلَاتَهُ لِمَا يَرَى مِنْ نَظَرِ رَجُلٍ إِلَيْهِ) (4) ، وَهَذَا لَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ وَلَكِنَّهُ يُنْقِصُ مِنَ الْعَمَلِ بِقَدْرِهِ، وَقَدْ يَغْلِبُ عَلَى الْعَمَلِ فَيُحْبِطُهُ كُلَّهُ وَالْعِيَاذُ بالله. والمراد أن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له   (1) وقد سبق الإشارة إلى معناه أو تعريفه وهو كل قول أو عمل يؤدي إلى صرف نوع مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ لِغَيْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. (2) كذا قال صاحب كتاب معارج القبول رحمه الله، وسماه في مختصر منهاج القاصدين: الرياء المحض، وكذا في جامع العلوم والحكم وقال: إنه لا يكاد يصدر من مؤمن في الصلاة والصوم، وقد يصدر منه في حج أو نحوه، وحينئذ فالعمل حابط ولا شك والعقوبة شديدة. انظر جامع العلوم ص:18، ومختصر القاصدين ص: 218. (3) وبيان ذلك أن الرياء إذا شارك العمل من بدايته فهو حابط ولا شك، وإن طرأ عليه أثناء عمله: فإن كان خاطراً فدفعه لم يضره، وإن استرسل معه فإن كان العمل مما لا يتصل أوله بآخره كتعليم العلم وقراءة القرآن وجب قطع العمل وتجديد النية، وإلا حبط ما استرسل فيه، وإن كان مما يتصل أوله بآخره كالصلاة وحضور القتال فقال قوم: يحبط، وقال آخرون: لا يحبط، ولعله - والله أعلم - لا يحبط ولكن ينقص من ثوابه بقدره. وهذا كله في حالة ما إذا قصد الرياء قصداً خفيفاً، وكان غالب قصده وجه الله، أما إذا تساوى قصد الثواب وقصد الرياء أو غلب الأخير فالعمل حابط وصاحبه معرض للعقوبة. وهذا الكلام مستفاد من جامع العلوم والحكم ص: 20، ومختصر منهاج القاصدين ص: 218. (4) من حديث مرفوع لابن ماجه وحسنه الألباني صحيح سنن ابن ماجه 3389. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 خالصاً وابتغى به وجهه كما ثبت ذلك عنه - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ نَادَى منادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ في عمل عمله لله فليطلب ثوابه من عند غير الله عز وجل فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك) (1) . 2- الحلف بغير الله: ففي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَنْ كَانَ حَالِفًا فَلْيَحْلِفْ بِاللَّهِ أَوْ لِيَصْمُتْ) ، وفي الحديث: (من حلف بغير الله فقد أشرك) (2) . وكفارة الحلف بغير الله كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنْ حَلَفَ فَقَالَ فِي حَلِفِهِ: بِاللَّاتِ وَالْعُزَّى فَلْيَقُلْ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ) ، والحديث واضح في أن الحلف بغيره تعالى من الشرك، لذا فكفارته قول لا إله إلا الله. ومثل الحلف بغير الله قول: ما شاء الله وشئت، ولولا الله وفلان. لكن الصواب أن يقال: ما شاء الله ثم شئت، فالفرق بَيْنَ الْوَاوِ وَثُمَّ أَنَّهُ إِذَا عَطَفَ بِالْوَاوِ كَانَ مُضَاهِيًا مَشِيئَةَ اللَّهِ بِمَشِيئَةِ الْعَبْدِ إِذْ قَرَنَ بَيْنَهُمَا، وَإِذَا عَطَفَ بِثُمَّ فَقَدْ جَعَلَ مشيئة العبد تابعة لمشيئة الله كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يشاء الله} (3) . 7- أمثلة لبعض أمور شركية يفعلها العامة، وفيه حكم الرقى والتمائم: هذه الأمور غَالِبُهَا مِنَ الشِّرْكِ الْأَصْغَرِ لَكِنْ إِذَا اعْتَمَدَ العبد عليها بحيث يثق بها ويضيف إليها النفع والضر كَانَ ذَلِكَ شِرْكًا أَكْبَرَ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، لِأَنَّهُ حينئذ يصير متوكلاً على سوى الله عز وجل ملتجئاً إلى غيره. وفيما يلي ذكر أمثلة لهذه الأمور:   (1) حسنه الألباني. صحيح الجامع الصغير 496. (2) صحيح: صحيح الجامع الصغير. 6080. (3) الإنسان: 30، التكوير: 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 أ-التعاليق : قال - صلى الله عليه وسلم -: (من علق تميمة فقد أشرك) (1) ، وفي الصحيح أن الرسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ أرسل رَسُولًا أَنْ لَا يُبْقِيَنَّ فِي رَقَبَةِ بَعِيرٍ قِلَادَةً مِنْ وَتَرٍ أَوْ قِلَادَةً إِلَّا قُطِعَتْ. ومن التعاليق: 1- الودعة: وهي شَيْءٌ أَبْيَضُ يُجْلَبُ مِنَ الْبَحْرِ يُعَلَّقُ فِي حلوق الصبيان وغيرهم لرد العين. 2- الناب: وهو ناب الضبع يؤخذ ويعلق من العين. 3- الحلقة: يلبسونها من العين والواهنة (مرض العضد) . 4- أعين الذئاب: يعلقونها إذا مات الذئب على الصبيان ونحوهم زعماً أن الجن تفر منها. 5- الخيط: كثيراً ما يعلقونه على المحموم ويعقدون فيه عقداً بحسب اصطلاحاتهم ويربطونه بيد المحموم أو عنقه طلباً للشفاء. 6- العضو من النسور: كالعظم ونحوه ويجعلونه خَرَزًا وَيُعَلِّقُونَهَا عَلَى الصِّبْيَانِ يَزْعُمُونَ أَنَّهَا تَدْفَعُ العين. 7- الوتر: كانوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذَا عَتَقَ وَتَرُ الْقَوْسِ أَخَذُوهُ وعلقوه على الصبيان والدواب لدفع العين. 8- التمائم: وهي شيء يعلقونه على الأولاد لدفع العين وحكمها كحكم التعاليق سواء كانت كتابة أو غير كتابة إلا إذا كانت كتابة من خالص الوحيين فبعض السلف أجازها والبعض كرهها ومنعها والأحوط البعد عن ذلك.   (1) صحيح. صحيح الجامع الصغير 6270. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 ب-الرقى : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك) (1) وَالتِّوَلَةُ شَيْءٌ يَصْنَعُونَهُ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ يُحَبِّبُ الْمَرْأَةَ إلى زوجها والرجل إلى امرأته وحملت الرقى المذكورة في الحديث على الرقى الممنوعة. وفي السنة ما يدل على جواز بعض الرقى بشروط ثلاثة: 1- أن تكون من الكتاب والسنة، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ لما قال له آل عمرو بن حزم: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ عِنْدَنَا رُقْيَةٌ نَرْقِي بِهَا مِنَ الْعَقْرَبِ، وَإِنَّكَ نَهَيْتَ عَنِ الرقى فَقَالَ: (مَا أَرَى بَأْسًا، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أن ينفع أخاه فليفعل) وفيه: (لَا بَأْسَ بِالرُّقَى مَا لَمْ يَكُنْ فِيهِ شرك) ، وكان - صلى الله عليه وسلم - إذا زار مريضاً رقاه، وفي ذلك أذكار كثيرة في صحيح البخاري وغيره مثل: (اللَّهُمَّ رَبَّ النَّاسِ مُذْهِبَ الْبَاسِ اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شَافِيَ إِلَّا أَنْتَ، شِفَاءً لَا يغادر سقماً) ، وفي صحيح مسلم: رَخَّصَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في الرقية من العين والحمة والنملة. والجمة تُطْلَقُ عَلَى لَدْغِ ذَوَاتِ السُّمُومِ كَالْحَيَّةِ وَالْعَقْرَبِ ونحوها، والنملة قروح تخرج في الجنب. 2- أَنْ تَكُونَ بِاللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، مَحْفُوظَةً أَلْفَاظُهَا، مَفْهُومَةً مَعَانِيهَا، فَلَا يَجُوزُ تَغْيِيرُهَا إِلَى لِسَانٍ آخَرَ فإن في ذلك فرصة للشياطين في إيقاع الناس في الشرك والكفر وهم يقولون ما لا يدرون معناه. 3- أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّهَا سَبَبٌ مِنَ الْأَسْبَابِ لَا تأثير لها إلا بإذن الله، فلا يعتقد فيها نفعاً بذاتها.   (1) صحيح. صحيح الجامع الصغير 1628. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 جـ-التبرك بالأشجار والأحجار والبقاع والقبور وما يحصل عندها من الشركيات والبدع، وفيه أقسام الزيارة : ويدخل في ذلك عدة أمور منها: 1- الاستشفاء بتربة القبور: ويقع ذلك من الجاهلين على أنواع مثل أخذها ومسح الجلد بها، أو التمرغ على القبور أو الاغتسال بها مع الماء أو شرها.. الخ، وهذا كله ناشيء من اعتقادهم في صاحب الْقَبْرِ أَنَّهُ يَنْفَعُ وَيَضُرُّ حَتَّى عَدُّوا ذَلِكَ إلى تربته التي دفن فيها وبعضهم يعديه إلى التربة التي وضعت عليه جنازته. 2- التبرك بالأشجار والأحجار والبقاع والقبور واتخاذها أعياداً: وقد نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كل هذه الأعمال الشركية وما يوصل إليها فمن ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (لا تجعلوا قبري عيداً) (1) ، وقوله - صلى الله عليه وسلم -: (اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلَى قَوْمٍ اتَّخَذُوا قُبُورَ أنبيائهم مساجد) (2) ، رواه مالك في الموطأ. وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا تُصَلُّوا إِلَى القبور ولا تجلسوا عليها) (3) ، ولما قال له الصحابة رضوان الله عليهم: اجْعَلْ لَنَا ذَاتَ أَنْوَاطٍ كَمَا لَهُمْ ذَاتُ أنواط - أي كما للمشركين ذات أنواط أي شجرة يعكفون عندها ويضعون عليها أسلحتهم - قال: (اللَّهُ أَكْبَرُ، إِنَّهَا السَّنَنُ، قُلْتُمْ وَالَّذِي نَفْسِي بيده كما قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ، قَالَ: إنكم قوم تجهلون، لتركبن سنن من كان قبلكم) (4) . أما استلام الحجر الأسود ونحوه فذلك تعظيم لأمر الله لا للحجر، وأما   (1) صحيح. صحيح الجامع الصغير 7103. (2) سنده صحيح. انظر تحذير الساجد للألباني ص: 25، 26، في التعليق على حديث 11. (3) رواه مسلم في الجنائز، انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج7 ص: 38. (4) صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي 1771، وظلال الجنة في تخريج السنة 76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 تعظيم الرسول - صلى الله عليه وسلم - وما أمر بتعظيمه فذلك من التعظيم المشروع إذا تم وفق الشرع، وهو راجع إلى تعظيم الله تعالى وأمره. 3- تعلية القبور والبناء عليها وإيقادها: وهذا مع ما فيه من الذريعة للشرك ففيه تشبه باليهود والنصارى الذين شيدوا المساجد على القبور، وقد حذر المصطفى - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وذراعاً بذراع حتى لو سلكوا حجر ضَبٍّ لَسَلَكْتُمُوهُ) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ: (فمن) ؟ أخرجاه، وفي الصحيح أيضاً قال - صلى الله عليه وسلم -: (قَاتَلَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مساجد) (1) . ولمسلم عن جابر رضي الله عَنْهُ: نَهَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُجَصَّصَ الْقَبْرُ وَأَنْ يُقْعَدَ عَلَيْهِ وَأَنْ يبني عليه (2) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلَا تَجْعَلُوا قَبْرِي عيداً، وصلوا عليّ فإن صلاتي تبلغني حيث كنتم) (3) رواه أبو داود، ولمسلم عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ الْأَسْدِي قَالَ: قَالَ لِي علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أَلَا أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَلَّا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ، وَلَا قَبْرًا مُشْرَفًا إِلَّا سويته) .   (1) رواه البخاري في الصلاة باب 55، ومسلم في المساجد باب النهي عن بناء المساجد على القبور كلاهما عن أبي هريرة وليس عندهما (والنصارى) (الفتح 1/634، وشرح النووي 5/12) . ولم أجد لفظ (قاتل) في الصحيحين غلا مع (اليهود) وأتى لفظ: (لعن) أو (لعنة الله) مع (اليهود والنصارى) . (2) ويروى أنه - صلى الله عليه وسلم - لعن المتخذين على القبور المساجد والسرج. ولَعْنُ متخذي المساجد على القبور تشهد له الأحاديث الصحيحة، وأما لعن متخذي السرج فلم يصح فيه شيء ولكن يؤخذ النهي من عمومات الشريعة كقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ) ونهيه عن إضاعة المال والتشبه بالكفار وغير ذلك. (أفاده الألباني حفظه الله في سلسلة الأحاديث الصحيحة ج 3 ص: 258-260) . (3) صحيح. صحيح الجامع الصغير 7103. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 * زيارة المقابر وأقسامها : وتنقسم الزيارة إلى ثلاثة أقسام: 1- زيارة شرعية: وهي زيارة القبور لتذكر الآخرة والدعاء لأموات المسلمين ولنفسه كما علمنا الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن نقول، دون شدٍ للرحال أو فعل أو قول من أفعال وأقوال الشرك، وألاّ تقع من النساء (1) . وأدلة هذه الزيارة ما يلي: -قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كُنْتُ نَهَيْتُكُمْ عَنْ زيارة القبور ألا فزوروها فإنها تُرِقُّ القلب وتدمع العين وتذكر الآخرة، ولا تقولوا هجراً) (2) أي: محظوراً شرعاً. -كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُعَلِّمُهُمْ إِذَا خَرَجُوا إِلَى الْمَقَابِرِ أَنْ يَقُولَ قَائِلُهُمْ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكُمُ الْعَافِيَةَ) ، رَوَاهُ أَحْمَدُ ومسلم وابن ماجه (3) ، وزاد مُسْلِمٌ فِي رِوَايَةٍ: (يَرْحَمُ اللَّهُ الْمُتَقَدِّمِينَ مِنَّا ومنكم والمتأخرين) (4) . -وقال عليه الصلاة والسلام: (لا يشد الرحال إلاّ إلى ثلاث مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَمَسْجِدِي هَذَا، وَالْمَسْجِدُ الْأَقْصَى) والحديث في الصحيحين. -وثبت عنه - صلى الله عليه وسلم - أنه لعن زوارات القبور (5) .   (1) وجوّز بعض العلماء وقوعها من النساء بشرط عدم الإكثار وقالوا: إن المحفوظ لعنه - صلى الله عليه وسلم - زوّارات القبور، لا زائرات القبور، والزوارات المكثرات من الزيارة. انظر أحكام الجنائز للألباني ص: 186. (2) صحيح. صحيح الجامع الصغير 4460 ويجوز قصد قبر معين بالزيارة كما قصد - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه. والحديث رواه الجماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه كما ذكر الشيخ رحمه الله. (3) وهذا لفظ ابن ماجه (صحيح سنن ابن ماجه 1257) . (4) وهذه الزيادة في رواية عائشة عن مسلم بلفظ: (ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين) (شرح النووي 7/44) . (5) حديث حسن. صحيح سنن الترمذي، رقم 843. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 2- زيارة بدعية: وهي ما صاحبها الاعتكاف عند القبر أو شد الرحال أو الصلاة أو التوسل بأهلها. قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) (1) ، وقال: (إياكم ومحدثات الأمور فإن كل بدعة ضلالة) (2) . وأما حديث الأعمى الذي فيه أَنَّ رَجُلًا ضَرِيرَ الْبَصَرِ أَتَى النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: ادْعُ اللَّهَ أَنْ يُعَافِيَنِي. قَالَ: (إِنْ شِئْتَ دَعَوْتُ وَإِنْ شِئْتَ صَبَرْتَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكَ) قَالَ: فَادْعُهُ. قَالَ: فَأَمَرَهُ أَنْ يَتَوَضَّأَ فَيُحْسِنَ وُضُوءَهُ وَيَدْعُوَ بِهَذَا الدُّعَاءِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ وَأَتَوَجَّهُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَبِيِّ الرَّحْمَةِ، إني توجهت بك على رَبِّي فِي حَاجَتِي هَذِهِ لِتُقْضَى لِي، اللَّهُمَّ فشفعه فيّ) ، وفي رواية: (وشفعني فيه) فهذا الحديث ضعفه كثير من العلماء، وإن جزمنا بصحته (3) فليس فيه أن توسل بغائب أو ميت وإنما توسل بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو حاضر حيث طلب منه الدعاء وأجابه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى ذلك، وتوسل هو بدعاء النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعا هو بنفسه، فاجتمع الدعاء من الجهتين، وهذا مشروع كان يفعله الصحابة مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وفعلوه من بعده حين توسلوا بدعاء العباس رضي الله عنه في الاستسقاء، ولو كان معلوماً لديهم جواز التوسل بالأشخاص أنفسهم لما عدلوا عن التوسل به - صلى الله عليه وسلم - إلى العباس رضي الله عنه، وإنما توسلهم كان بالدعاء كما في قولهم: (اللهم إنا كنا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بِنَبِيِّنَا فَتَسْقِيَنَا وَإِنَّا نَتَوَسَّلُ إِلَيْكَ بعم نبينا فاسقنا) ، كما هو مذكور في صحيح البخاري.   (1) رواه البخاري في الصلح، باب إذا اصطلحوا على جور فالصلح مردود، انظر الفتح ج5 ص:355، ورواه مسلم في الأقضية، باب نقض الأحكام الباطلة ورد محدثات الأمور. انظر شرح النووي ج12 ص:16. (2) صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجه 42، صحيح سنن الترمذي 2157، صحيح الجامع الصغير 2546. (3) انظر تصحيح الألباني له ورده على من توهم منه جواز التوسل بذوات الأشخاص في (التوسل، أنواعه وأحكامه ص75-83) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 3- زيارة شركية: وهي دعاء المقبور نفسه والعياذ بالله وسؤاله ما لا يقدر عليه. قال تَعَالَى: {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ ربه إنه لا يفلح الكافرون} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكَ وَلَا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ * وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يردك بخير فلا راد لفضله يصيب به من يشاء من عباده وهو الغفور الرحيم} (2) . د-التمادي في إطرائه - صلى الله عليه وسلم - والغلو في الصالحين : وقد صح النهي عن ذلك فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، إِنَّمَا أنا عبد فقولوا: عبد الله ورسوله) والحديث في الصحيحين عن عمر رضي الله عنه (3) . وقد قَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا * قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلَّا بَلَاغًا من الله ورسالاته..} (4) فإذا كان هذا شأنه - صلى الله عليه وسلم - فكيف بمن هو دونه؟! . 8- بيان حقيقة السحر وحكم الساحر (5) : أ-مذهب أهل السنة وأنهم يثبتون حقيقة السحر : السحر مُتَحَقِّقٌ وُقُوعُهُ وَوُجُودُهُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ مَوْجُودًا حقيقة لم ترد النواهي   (1) المؤمنون: 117. (2) يونس: 107. (3) الحديث رواه البخاري في الأنبياء باب قوله تعالى: {واذكر في الكتاب مريم} (الفتح 6/551) وغيره. وأصله في كتاب الحدود باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت وليس هذا اللفظ عند مسلم، وإن كان أصل الحديث عنده في الحدود باب حد الزنا (شرح النووي 11/191) . (4) الجن: 20-23. (5) لابن القيم رحمه الله كلام جليل في هذا الموضوع في تفسير سورة الفلق تجده في كتاب التفسير القيم، وللأستاذ محمد الصابوني محاضرة في ذلك تجدها في كتاب روائع البيان ج1ص:63-88، وانظر تفسير ابن كثير للآيتين 102، 103 من سورة البقرة، وكلام ابن حزم في حكم الساحر وحده في المحلى ج11 ص: 394-401. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 عنه في الشرع، والوعيد على فعله، وَالْعُقُوبَاتُ الدِّينِيَّةُ وَالْأُخْرَوِيَّةُ عَلَى مُتَعَاطِيهِ، وَالِاسْتِعَاذَةُ مِنْهُ أمراً وخبراً، قال تَعَالَى: {وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ * وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يعلون النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ منهما ما يفرقون بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ * وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ الله خير لو كانوا يعلمون} (1) ، وقال عز وجل: {ومن شر النفاثات في العقد} (2) ، والنفاثات هي السَّوَاحِرُ يَعْقِدْنَ وَيَنْفُثْنَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُ قَدْ ثَبَتَ بهذه النصوص وغيرها أَنَّ السِّحْرَ حَقِيقَةٌ وُجُودُهُ وَلَهُ تَأْثِيرٌ فَمِنْهُ مَا يُمْرِضُ وَمِنْهُ مَا يَقْتُلُ وَمِنْهُ مَا يَأْخُذُ بِالْأَبْصَارِ، وَمِنْهُ مَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وزوجه كما في الآية، لَكِنَّ تَأْثِيرَهُ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِمَا قَدَّرَهُ الله سبحانه وتعالى وقضاه وخلقه عندما يلقي الساحر وما يلقي. وقد ثبت في الصحيحين أنه - صلى الله عليه وسلم - قد سحر حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وما فعله، وقد نقل النووي عن المازري رحمهما الله أن مَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَجُمْهُورِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ عَلَى إثبات السحر، وأنه لَهُ حَقِيقَةً كَحَقِيقَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الثَّابِتَةِ خِلَافًا لِمَنْ أَنْكَرَ ذَلِكَ وَنَفَى حَقِيقَتَهُ، وَأَضَافَ مَا يَقَعُ مِنْهُ إِلَى خَيَالَاتٍ بَاطِلَةٍ لَا حَقَائِقَ لَهَا، وَقَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ تَعَالَى فِي   (1) البقرة: 101-103. (2) الفلق: 4. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 كِتَابِهِ وَذَكَرَ أَنَّهُ مِمَّا يُتَعَلَّمُ وَذَكَرَ مَا فِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ مِمَّا يَكْفُرُ بِهِ وَأَنَّهُ يُفَرِّقُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَهَذَا كُلُّهُ لا يمكن فيما لا حقيقة له. أهـ. وقال النووي أيضاً: قَالَ ابْنُ هُبَيْرَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ السِّحْرَ لَهُ حَقِيقَةٌ إِلَّا أَبَا حنيفة فإنه: قال لا حقيقة عنده. وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَعِنْدَنَا أَنَّ السِّحْرَ حَقٌّ وَلَهُ حَقِيقَةٌ يَخْلُقُ اللَّهُ عِنْدَهُ ما يشاء خلافاً للمعتزلة وأبي إسحاق الإسفرائيني حيث قالوا: إنه تمويه وتخييل. أهـ. فثبت وتقرر من هذا وغيره تحقق السحر وتأثره بإذن الله، فَأَمَّا الْقَتْلُ بِهِ وَالْأَمْرَاضُ وَالتَّفْرِقَةُ بَيْنَ الْمَرْءِ وزوجه وأخذه بِالْأَبْصَارِ فَحَقِيقَةٌ لَا مُكَابَرَةَ فِيهَا، وَأَمَّا قَلْبُ الْأَعْيَانِ كَقَلْبِ الْجَمَادِ حَيَوَانًا وَقَلْبِ الْحَيَوَانِ مَنْ شَكْلٍ إِلَى آخَرَ فَلَيْسَ بِمُحَالٍ فِي قُدْرَةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا غَيْرَ مُمْكِنٍ فَإِنَّهُ هُوَ الْفَاعِلُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ الْفَعَّالُ لِمَا يُرِيدُ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يُحَوِّلَ اللَّهُ ذَلِكَ عِنْدَمَا يُلْقِي السَّاحِرُ مَا أَلْقَى امْتِحَانًا وَابْتِلَاءً وَفِتْنَةً لِعِبَادِهِ وَلَكِنَّ الَّذِي أَخْبَرَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهِ فِي الْوَاقِعِ مِنْ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ في قصتهم مع موسى عليه السلام إنما هو التخيل وَالْأَخْذُ بِالْأَبْصَارِ حَتَّى رَأَوُا الْحِبَالَ وَالْعِصِيَّ حَيَّاتٍ، فنؤمن بالخير وَنُصَدِّقُهُ وَلَا نَتَعَدَّاهُ وَلَا نُبَدِّلُ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَنَا وَلَا نَقُولُ عَلَى اللَّهِ ما لا نعلم وبالله التوفيق. ب-بيان أن ما ثبت من أنه - صلى الله عليه وسلم - سُحِرَ لا يتنافى مع عصمته: ونقل النووي عن المازري أيضاً أن بعض المبتدعة أنكر حديث الصحيحين في أنه - صلى الله عليه وسلم - سحر بزعم أَنَّهُ يَحُطُّ مِنْ مَنْصِبِ النُّبُوَّةِ وَيُشَكِّكُ فِيهَا وَأَنَّ تَجْوِيزَهُ يَمْنَعُ الثِّقَةَ بِالشَّرْعِ. وَهَذَا الَّذِي قالوه بَاطِلٌ لِأَنَّ الدَّلَائِلَ الْقَطْعِيَّةَ قَدْ قَامَتْ عَلَى صِدْقِهِ وَصِحَّتِهِ وَعِصْمَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فيما يتعلق بالتبليغ (1) والمعجزة شاهدة بذلك بخلاف ما يتعلق   (1) لا فيما يتعلق بمرضه وابتلائه وغير ذلك من أمور الدنيا مما يبتلى به الله أنبياءه والصالحين من عباده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 بِبَعْضِ أُمُورِ الدُّنْيَا الَّتِي لَمْ يُبْعَثْ بِسَبَبِهَا وَلَا كَانَ مُفَضَّلًا مِنْ أَجْلِهَا وَهُوَ مِمَّا يعرض للبشر، وإذا كان الأمر كذلك فغير بعيد أن يخيل إليه - صلى الله عليه وسلم - مِنْ أُمُورِ الدُّنْيَا مَا لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَقَدْ قِيلَ إِنَّهُ إِنَّمَا كَانَ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أنه وطيء زوجاته وليس بواطيء، وَقَدْ يَتَخَيَّلُ الْإِنْسَانُ مِثْلَ هَذَا فِي الْمَنَامِ فَلَا يَبْعُدُ تَخَيُّلُهُ فِي الْيَقَظَةِ وَلَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَقِيلَ إِنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ فَعَلَهُ وما فعله ولكن لا يعتقد صحة ما يتخيله. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: وَقَدْ جَاءَتْ رِوَايَاتُ هَذَا الْحَدِيثِ مُبَيِّنَةً أَنَّ السِّحْرَ إِنَّمَا تَسَلَّطَ عَلَى جَسَدِهِ وَظَوَاهِرِ جَوَارِحِهِ لَا عَلَى عَقْلِهِ وَقَلْبِهِ وَاعْتِقَادِهِ، وَيَكُونُ مَعْنَى قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ حَتَّى يَظُنَّ أَنَّهُ يَأْتِي أَهْلَهُ وَلَا يَأْتِيهِنَّ، وَيُرْوَى: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ، أَيْ يَظْهَرُ له من شدة نَشَاطِهِ وَمُتَقَدِّمُ عَادَتِهِ الْقُدْرَةُ عَلَيْهِنَّ فَإِذَا دَنَا مِنْهُنَّ أَخَذَتْهُ أَخْذَةُ السِّحْرِ فَلَمْ يَأْتِهِنَّ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ ذَلِكَ كَمَا يَعْتَرِي الْمَسْحُورَ، وَكُلُّ مَا جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ مِنْ أَنَّهُ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ فِعْلُ شَيْءٍ لَمْ يَفْعَلْهُ وَنَحْوُهُ فَمَحْمُولٌ على التخيل بالبصر لا الخلل المتطرق للعقل (1) اهـ. جـ- حكم الساحر : الساحر الذي يمارس السحر المتعلم من الشياطين أو الذي تدخل فيه الشياطين كافر، تعلم هذا السحر أَوْ عَلَّمَهُ، عَمِلَ بِهِ أَوْ لَمْ يَعْمَلْ، وقد علم أن هذا السِّحْرَ لَا يَعْمَلُ إِلَّا مَعَ مَنْ كَفَرَ بالله، وَمَعْلُومٌ أَنَّ اسْتِبْدَالَ مَا تَتْلُوهُ الشَّيَاطِينُ وَتَتَقَوَّلُهُ وَالِانْقِيَادَ لَهُ وَالْعَمَلَ بِهِ عِوَضًا عَمَّا أَوْحَى اللَّهُ تَعَالَى إِلَى رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - مِنْ أَعْظَمَ الْكُفْرِ وَهُوَ مِنْ عِبَادَةِ الطَّاغُوتِ الَّتِي هِيَ أَصِلُ الْكُفْرِ وَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى طَاعَةَ الْعُلَمَاءِ وَالْأُمَرَاءِ فِي تَحْلِيلِ مَا حرم الله أو تحريم ما أحله عِبَادَةً وَأَنَّهُ اتِّخَاذٌ لَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ الله فَكَيْفَ فِي طَاعَةِ الشَّيْطَانِ فِيمَا يُنَافِي الْوَحْيَ فهل فوق هذا الشرك من كفر، والآيات صريحة في كفر الساحر كقوله تعالى: {وما   (1) أي ليس تخيله اعتقاداً منه أنه فعله حقيقة وإنما رؤية خيالية لشيء أمامه مع اعتقاده بأنه لا يفعل ما هو مخيل له - والله أعلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السحر} فالكفر وقع بتعليم الناس السحر، وهذا في المعلم أما المتعلم فقال في شأنه: {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خلاق} يَعْنِي مِنْ حَظٍّ وَلَا نَصِيبٍ، وَهَذَا الْوَعِيدُ لَمْ يُطْلَقْ إِلَّا فِيمَا هُوَ كُفْرٌ لَا بَقَاءَ لِلْإِيمَانِ مَعَهُ فَإِنَّهُ مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلا ويدخل الجنة وكفى بدخول الجنة خلاقاً. وقوله تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ الله خير لو كانوا يعلمون} وَهَذَا مِنْ أَصْرَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى كُفْرِ السَّاحِرِ وَنَفْيِ الْإِيمَانِ عَنْهُ بِالْكُلِّيَّةِ فَإِنَّهُ لَا يُقَالُ للمؤمن المتقي: ولو آمن واتقى. وَهَذَا ظَاهِرٌ لَا غُبَارَ عَلَيْهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَقَدْ صَرَّحَ بِذَلِكَ أَئِمَّةُ السَّلَفِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِي الْقَدْرِ الَّذِي يَصِيرُ بِهِ كَافِرًا، وَالصَّحِيحُ أَنَّ السِّحْرَ الْمُتَعَلَّمَ مِنَ الشَّيَاطِينِ كُلُّهُ كُفْرٌ قَلِيلُهُ وَكَثِيرُهُ كَمَا هُوَ ظاهر القرآن (1) . د-حد الساحر : 1- إن كان سحره مما يكفر به -كما سبق- فحده القتل ضربة بالسيف كما هُوَ ثَابِتٌ بِالْكِتَابِ مِنْ عُمُومِ النُّصُوصِ فِي الكفار المرتدين، وكما روي   (1) السحر الذي هو لعب وخفة وحركة ولا يؤذي به الناس ولا ينهب أموالهم ليس حكمه كذلك مع اقترانه بإيذاء الناس أو هز عقائدهم، والأخير ليس كالسحر الذي فيه استخدام الشياطين وما يقتضي الكفر، وإن كان كل ذلك مذموماً، والحكم المقصود هنا هو حكم ما فيه استخدام للشياطين، هذا وقد نسب لبعض العلماء من أصحاب أبي حنيفة أن تعلم السحر إذا كان بنية اجتنابه والحذر منه وتحذير الناس ليس بكفر والصحيح الاكتفاء بمعرفة بطلانه من الشرع والاستعاذة بالله من الشياطين والسحرة والابتعاد عن طرقهم، فإن تعلُّمَه لا يؤمن معه على المتعلم أن تستدرجه شياطين الإنس والجن حتى توقعه في الكفر فالعادة أنهم لا يعلمون أحداً السحر حتى يكفر. وانتظر رد ابن كثير على الرازي في إباحته تعلم السحر في تفسير آيات البقرة السابقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 عن جندب مرفوعا (1) - قال الترمذي: والصحيح عن جندب موقوفاً - (حد الساحر ضربة السيف) وبعض أهل العلم على ذلك أي على قتل الساحر بمجرد السحر، وقول مالك وكذا أخذ بهذا أبو حنيفة وأحمد رحمهم الله جميعاً (2) ، وصح عن عمر رضي الله عنه أنه كتب: أن اقتلوا كل ساحر وساحرة (3) . وصح عند مالك في الموطأ عن حفصة رضي الله عنها أنها قتلت جارية لها سحرتها (4) . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّمَا يُقْتَلُ السَّاحِرُ إِذَا كَانَ يَعْمَلُ مِنْ سِحْرِهِ مَا يَبْلُغُ الْكُفْرَ فَإِذَا عَمِلَ عَمَلًا دُونَ الْكُفْرِ فَلَمْ يَرَ عَلَيْهِ قتلاً. 2- إذا كان سحره لا يبلغ الكفر لكن اعتقد جوازه كفر كذلك وقتل حد المرتد. 4- إذا كان سحره يبلغ الكفر أو لا يبلغه لكن قتل به إنساناً فإنه يقتل عند مالك وأحمد والشافعي، وقال أبو حنيفة: لا يقتل حتى يقرر منه ذلك أو يُقِّر به في حق شخص معين وهنا يقتل حداً إذا كان كفراً ويقتل قصاصاً إن لم يبلغ الكفر. وقال الشَّافِعِيُّ: فَإِنْ قَالَ: لَمْ أَتَعَمَّدِ الْقَتْلَ فَهُوَ مخطئ عليه الدية.   (1) وضعف الألباني المرفوع، انظر ضعيف الجامع الصغير 2698 وانظر سلسلة الأحاديث الضعيفة رقم 1446 وذكر فيها أن الصحيح موقوف على جندب كما قال الترمذي رحمه الله. (2) وانظر فتح المجيد، باب ما جاء في السحر. (3) رواه البخاري - في رواية مسدد وأبي يعلى - انظر الفتح كتاب الجزية، الباب الأول ج6ص297، 301، وانظر فتح المجيد ص 331. (4) وذكره في المحلى ولم يتعقبه بطعن في سنده ولكن قال: لا حجة في قول أحد دون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (المحلى جـ 11 ص 397) ، كذا قال وفي المسألة خلاف ليس هذا موضع تفصيله فراجعه في كتب الأصول إن شئت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 عقوبة الساحرة : قال مالك وأحمد والشافعي في الساحرة إذا كانت من المسلمين أنها تقتل وحكمها حكم الرجل. وعند أبي حنيفة لا تقتل ولكن تحبس. ساحر أهل الكتاب : عند أبي حنيفة يقتل فيما يقتل فيه الساحر من المسلمين. وعند مالك والشافعي وأحمد أنه لا يقتل لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يقتل لبيد ابن الأعصم اليهودي عندما سحره. وروى البعض عن مالك في الذمي روايتين إحداهما أَنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ أَسْلَمَ وَإِلَّا قُتِلَ، وَالثَّانِيَةُ أنه يقتل وإن أسلم. هل تقبل توبة الساحر إذا تاب؟ عند أبي حنيفة ومالك وأحمد في المشهور: لا تقبل. وعند الشافعي وأحمد في رواية: تقبل. لكن قال مالك: إذا ظُهِر عليه تَوْبَتُهُ لِأَنَّهُ كَالزِّنْدِيقِ، فَإِنْ تَابَ قَبْلَ أَنْ يظهر عليه وجاءنا تائباً قبلناه. هـ-تعريف النشرة وحكمها : النشرة في حل السحر عن المسحور، فإذا كان بسحر مثله محرم، وإن كان بالرقي والتعاويذ والأدعية المشروعة فمشروع ندب إليه الشرع، ومن أعظم ذلك فاتحة الكتاب وآية الكرسي والمعوذتان. أما قول الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر وما روى إنه - صلى الله عليه وسلم - لما سئل عن النشرة قال: هي من عمل الشيطان (1) ، فمحمول على حل السحر بالسحر.   (1) قال الألباني: إسناده صحيح، المشكاة رقم 4553 وذكر أن المراد بالنشرة في الحديث النوع الذي كان أهل الجاهلية يعالجون به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وذم التنجيم وأنه من أنواع السحر : -علم النجوم أنواع عديدة، منها: 1- وهو أَعْظَمُهَا، مَا يَفْعَلُهُ عَبْدَةُ النُّجُومِ وَيَعْتَقِدُونَهُ فِي السَّبْعَةِ السَّيَّارَةِ وَغَيْرِهَا فَقَدْ بَنَوْا بُيُوتًا لِأَجْلِهَا وَصَوَّرُوا فِيهَا تَمَاثِيلَ سَمَّوْهَا بِأَسْمَاءِ النُّجُومِ وَجَعَلُوا لها مناسك مخصوصة لعبادتها. 2- ومنهم من يقوم بكتابة حروف أبا جَادَ وَيَجْعَلُ لِكُلِّ حَرْفٍ مِنْهَا قَدْرًا مِنَ الْعَدَدِ مَعْلُومًا وَيُجْرِي عَلَى ذَلِكَ أَسْمَاءَ الْآدَمِيِّينَ والأزمنة والأمكنة ... إلخ، ويجمع ويطرح بطرق عنده وينسب ذلك إلى الأبراج الاثني عشر ثم يحكي على ذلك بالسعود والنحوس. 3- ومنها النظر في حركات الأفلاك ودوراتها وَطُلُوعِهَا وَغُرُوبِهَا وَاقْتِرَانِهَا وَافْتِرَاقِهَا مُعْتَقِدِينَ أَنَّ لِكُلِّ نجم منها تأثيرات في كل حركة من حركاته منفرداً وأخرى عند اقترانه بغيره من هبوب الرياح وغلاء الأسعار وغير ذلك. 4- ومنها النظر إلى مَنَازِلِ الْقَمَرِ الثَّمَانِيَةِ وَالْعِشْرِينَ مَعَ اعْتِقَادِ التَّأْثِيرَاتِ فِي اقْتِرَانِ الْقَمَرِ بِكُلٍّ مِنْهَا وَمُفَارَقَتِهِ وَأَنَّ في ذلك سعوداً أو نحوساً وتأليفاً أو تفريقاً. -وأما عن حكم الاشتغال به فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ فَقَدِ اقْتَبَسَ شعبة من السحر زاد ما زاد) (1) . وقال عليه الصلاة والسلام: (أخاف على أمتي من ثلاث: حيف الأئمة، وإيماناً بالنجوم، وتكذيباً بالقدر) (2) .   (1) صحيح. صحيح الجامع الصغير 5950. (2) صحيح. صحيح الجامع الصغير 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 وقال قتادة رحمه الله: إِنَّمَا جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلَاثِ خِصَالٍ، جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَجَعَلَهَا يُهْتَدَى بِهَا، وَجَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، فَمَنْ تَعَاطَى فِيهَا غَيْرَ ذلك فقد قال برأيه وأخطأ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ وَتَكَلَّفَ مَا لَا عِلْمَ لَهُ به. 9- الكهانة، تعريفها وحكمها: أ-الْكَاهِنُ: فِي الْأَصْلِ هُوَ مَنْ يَأْتِيهِ الرِّئِيُّ من الشياطين المسترقة للسمع، تتنزل عليهم كما قال تَعَالَى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تنزل على كل أفاك أثيم ... } (1) فهذا أصل الكاهن، ويستوي معه في الحكم كل من يدعي علم المغيبات، كَالرَّمَّالِ الَّذِي يَخُطُّ بِالْأَرْضِ أَوْ غَيْرِهَا، وَالْمُنَجِّمِ الذي ذكرناه، والطارق بالحصى، وغير ذلك. ب-الفرق بين قدرة الشياطين على استراق السمع قبل البعثة وبعدها : كانت الشياطين قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - لا تحجب عن التسمُّع لما يدور في الملأ الأعلى، أما بعد بعثته - صلى الله عليه وسلم - فكانوا يرجمون بالشهب إذا حاولوا الاستماع، كما ذكره الله عز وجل عنهم في سورة الجن: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وشهباً*وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً} (2) . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: سَأَلَ نَاسٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْكُهَّانِ فَقَالَ: (إِنَّهُمْ لَيْسُوا بِشَيْءٍ) . قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّهُمْ يُحَدِّثُونَ بِالشَّيْءِ حَقًّا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تلك الكلمة من الحق يخطفها الْجِنِّيُّ فَيُقَرْقِرُهَا فِي أُذُنِ وَلَيِّهِ كَقَرْقَرَةِ الدَّجَاجِ، فيخلطون معها أكثر من مائة كذبة) .   (1) الشعراء: 221-222. (2) الجن: 8-10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وَلَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِذَا قَضَى اللَّهُ الْأَمْرَ فِي السَّمَاءِ ضَرَبَتِ الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله سِلْسِلَةٌ عَلَى صَفْوَانٍ فَإِذَا فُزِّع عَنْ قُلُوبِهِمْ -أي زال عنهم الفزع - {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} (1) فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ، وَمُسْتَرِقُو السَّمْعِ هَكَذَا بَعْضُهُ فَوْقَ بَعْضٍ - وَصَفَهُ سُفْيَانُ بِكَفِّهِ فَحَرَّفَهَا وَبَدَّدَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ - فَيَسْمَعُ الْكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ ثُمَّ يُلْقِيهَا الْآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الْكَاهِنِ فَرُبَّمَا أَدْرَكَهُ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ فَيَكْذِبُ معها - أي الكاهن - مائة كذبة، فيقول: أوليس قد قال لنا يوم كذا كذا وكذا وَكَذَا؟ فيُصدق بِتِلْكَ الْكَلِمَةِ الَّتِي سُمِعَتْ مِنَ السماء) . جـ-حكم الكاهن : الكاهن كافر فهو لي الشيطان، فلا يوحى إليه إلا بعدما يتولاه، قَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ} (2) ، والشيطان لا يتولى إلا الكفار ويتولونه، ومن هداه الله من الكهان إلى الإيمان كَسَوَادِ بْنِ قَارِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَأْتِهِ رِئِيُّهُ بَعْدَ أَنْ دَخَلَ فِي الْإِسْلَامِ، فدل على أَنَّهُ لَمْ يَتَنَزَّلْ عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِلَّا لكفره وتوليه إياه، ثم الكاهن يتشبه برب العزة في صفاته وينازعه في ربوبيته إذ عِلْمَ الْغَيْبِ مِنْ صِفَاتِ الرُّبُوبِيَّةِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ الله بها دون سواه. وقد وردت النُّصُوصُ فِي كُفْرِ مَنْ سَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فصدقه - كما سيأتي إن شاء الله تعالى - فكيف بالكاهن نفسه فيما دعاه!! حكم من أتى كاهناً فسأله عن شيء: مجرد إتيان الكهان وسؤالهم كبيرة عظيمة، ومن فعل ذلك لا تقبل له صلاة   (1) سبأ: 23. (2) الأنعام: 121. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 أربعين يوماً، لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تقبل له صلاة أربعين ليلة) رواه مسلم. أما إن صدقه بما يقول فهو كافر بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - لقوله عليه الصلاة والسلام: (مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ - صلى الله عليه وسلم -) (1) *** وفيما يلي الأبيات المتعلقة بما سبق : وَالشِّرْكُ نَوْعَانِ: فَشِرْكٌ أَكْبَرُ ... بِهِ خُلُودُ النَّارِ إِذْ لَا يُغْفَرُ وَهُوَ اتِّخَاذُ الْعَبْدِ غَيْرَ اللَّهِ ... نِدًّا بِهِ مُسَوِّيًا مُضَاهِي يَقْصِدُهُ عِنْدَ نُزُولِ الضُّرِّ ... لِجَلْبِ خَيْرٍ أَوْ لِدَفْعِ الشَّرِّ أَوْ عِنْدَ أَيِّ غَرَضٍ لَا يَقْدِرُ ... عَلَيْهِ إِلَا الْمَالِكُ الْمُقْتَدِرُ مَعْ جَعْلِهِ لِذَلِكَ الْمَدْعُوِّ ... أَوِ الْمُعَظَّمِ أَوِ الْمَرْجُوِّ فِي الْغَيْبِ سُلْطَانًا بِهِ يَطَّلِعُ ... عَلَى ضَمِيرِ مَنْ إِلَيْهِ يَفْزَعُ وَالثَّانِ شِرْكٌ أَصْغَرٌ وَهُوَ الرِّيَا ... فَسَّرَهُ بِهِ خِتَامٌ الْأَنْبِيَا وَمِنْهُ إِقْسَامٌ بِغَيْرِ الْبَارِي ... كَمَا أَتَى فِي مُحْكَمِ الْأَخْبَارِ وَمَنْ يَثِقْ بِوَدْعَةٍ أَوْ نَابِ ... أَوْ حَلْقَةٍ أَوْ أَعْيُنِ الذِّئَابِ أَوْ خَيْطٍ اوْ عُضْوٍ مِنَ النُّسُورِ ... أَوْ وَتَرٍ أَوْ تُرْبَةِ الْقُبُورِ لِأَيِّ أَمْرٍ كَائِنٍ تَعَلَّقَهْ ... وَكَّلَهُ اللَّهُ إِلَى مَا عَلَّقَهْ ثُمَّ الرُّقَى مِنْ حُمَةٍ أَوْ عَيْنٍ ... فَإِنْ تَكُنْ مِنْ خَالِصِ الْوَحْيَيْنِ فَذَاكَ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ وَشِرْعَتِهْ ... وَذَاكَ لَا اخْتِلَافَ فِي سُنِّيَّتِهْ أَمَّا الرُّقَى الْمَجْهُولَةُ الْمَعَانِي ... فَذَاكَ وِسْوَاسٌ مِنَ الشَّيْطَانِ وَفِيهِ قَدْ جَاءَ الْحَدِيثُ أَنَّهْ ... شِرْكٌ بِلَا مريه فاحذرنه   (1) صحيح. صحيح الجامع الصغير 5815. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 إذا كُلُّ مَنْ يَقُولُهُ لَا يَدْرِي ... لَعَلَّهُ يَكُونُ مَحْضَ الْكُفْرِ أَوْ هُوَ مِنْ سِحْرِ الْيَهُودِ مُقْتَبَسْ ... عَلَى الْعَوَامِ لَبَّسُوهُ فَالْتَبَسْ فَحَذَرًا ثُمَّ حَذَارِ مِنْهُ ... لَا تَعْرِفِ الْحَقَّ وَتَنْأَى عَنْهُ وَفِي التَّمَائِمِ الْمُعَلَّقَاتِ ... إِنْ تَكُ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتِ فَالِاخْتِلَافُ وَاقِعٌ بَيْنَ السَّلَفْ ... فَبَعْضُهُمْ أَجَازَهَا وَالْبَعْضُ كَفْ وَإِنْ تَكُنْ مِمَّا سِوَى الْوَحْيَيْنِ ... فَإِنَّهَا شِرْكٌ بِغَيْرِ مَيْنِ بَلْ إِنَّهَا قَسِيمَةُ الْأَزْلَامِ ... فِي الْبُعْدِ عَنْ سِيمَا أُولِي الْإِسْلَامِ هَذَا وَمِنْ أَعْمَالِ أَهْلِ الشِّرْكِ ... مِنْ غَيْرِ مَا تَرَدُّدٍ أَوْ شَكِّ مَا يَقْصِدُ الْجُهَّالُ مِنْ تَعْظِيمِ مَا ... لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ بِأَنْ يُعَظَّمَا كَمَنْ يَلُذْ بِبُقْعَةٍ أَوْ حَجَرِ ... أَوْ قَبْرِ مَيْتٍ أَوْ بِبَعْضِ الشَّجَرِ مُتَّخِذًا لِذَلِكَ الْمَكَانِ ... عِيدًا كَفِعْلِ عَابِدِي الْأَوْثَانِ ثُمَّ الزِّيَارَةُ عَلَى أَقْسَامٍ ... ثَلَاثَةٍ يَا أُمَّةَ الْإِسْلَامِ فَإِنْ نَوَى الزَّائِرُ فِيمَا أَضْمَرَهْ ... فِي نَفْسِهِ تَذْكِرَةً بِالْآخِرَهْ ثُمَّ الدُّعَا لَهُ وَلِلْأَمْوَاتِ ... بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ عَنِ الزَّلَّاتِ وَلَمْ يَكُنْ شَدَّ الرِّحَالَ نَحْوَهَا ... وَلَمْ يَقُلْ هُجْرًا كَقَوْلٍ السُّفَهَا فَتِلْكَ سُنَّةٌ أَتَتْ صَرِيحَهْ ... فِي السُّنَنِ الْمُثْبَتَةِ الصَّحِيحَهْ أَوْ قَصَدَ الدُّعَاءَ وَالتَّوَسُّلَا ... بِهِمْ إِلَى الرَّحْمَنِ جَلَّ وَعَلَا فَبِدْعَةٌ مُحْدَثَةٌ ضَلَالَهْ ... بَعِيدَةٌ عَنْ هَدْيِ ذِي الرِّسَالَهْ وَإِنْ دَعَا الْمَقْبُورَ نَفْسَهُ فَقَدْ ... أَشْرَكَ بالله العظيم وحجد لَنْ يَقْبَلَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ ... صَرْفًا وَلَا عَدْلًا فَيَعْفُو عَنْهُ إِذْ كُلُّ ذَنْبٍ مُوشِكُ الْغُفْرَانِ ... إِلَا اتِّخَاذَ النِّدِّ لِلرَّحْمَنِ وَمَنْ عَلَى القبر سراجا أوقد ... أَوِ ابْتَنَى عَلَى الضَّرِيحِ مَسْجِدَا فَإِنَّهُ مُجَدِّدٌ جِهَارَا ... لِسُنَنِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى كَمْ حَذَّرَ الْمُخْتَارُ عَنْ ذَا وَلَعَنْ ... فَاعِلَهُ كَمَا رَوَى أَهْلُ السُّنَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 بَلْ قَدْ نَهَى عَنِ ارْتِفَاعِ الْقَبْرِ ... وَأَنْ يُزَادَ فِيهِ فَوْقَ الشِّبْرِ وَكُلُّ قَبْرٍ مُشْرِفٍ فَقَدْ أَمَرْ ... بِأَنْ يُسَوَّى هَكَذَا صَحَّ الْخَبَرْ وَحَذَّرَ الْأُمَّةَ عَنْ إِطْرَائِهِ ... فَغَرَّهُمْ إِبْلِيسُ بِاسْتِجْرَائِهِ فَخَالَفُوهُ جَهْرَةً وَارْتَكَبُوا ... مَا قَدْ نَهَى عَنْهُ وَلَمْ يَجْتَنِبُوا فَانْظُرْ إِلَيْهِمْ قَدْ غَلَوْا وَزَادُوا ... وَرَفَعُوا بِنَاءَهَا وَشَادُوا بِالشِّيدِ وَالْآجُرِّ وَالْأَحْجَارِ ... لَا سِيَّمَا فِي هَذِهِ الْأَعْصَارِ وَلِلْقَنَادِيلِ عَلَيْهَا أَوْقَدُوا ... وَكَمْ لِوَاءٍ فَوْقَهَا قَدْ عَقَدُوا وَنَصَبُوا الْأَعْلَامَ وَالرَّايَاتِ ... وَافْتَتَنُوا بِالْأَعْظُمِ الرُّفَاتِ بَلْ نحروا في سواحها النَّحَائِرْ ... فِعْلَ أُولِي التَّسْيِيبِ وَالْبَحَائِرْ وَالْتَمَسُوا الْحَاجَاتِ مِنْ مَوْتَاهُمُ ... وَاتَّخَذُوا إِلَهَهُمْ هَوَاهُمُ قَدْ صَادَهُمْ إِبْلِيسُ فِي فِخَاخِهِ ... بَلْ بَعْضُهُمْ قَدْ صَارَ مِنْ أَفْرَاخِهِ يَدْعُو إِلَى عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ... بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ وَبِاللِّسَانِ فَلَيْتَ شِعْرِي مَنْ أَبَاحَ ذَلِكْ ... وَأَوْرَطَ الْأُمَّةَ فِي الْمَهَالِكْ فَيَا شَدِيدَ الطَّوْلِ وَالْإِنْعَامِ ... إِلَيْكَ نَشْكُو مِحْنَةَ الْإِسْلَامِ وَالسِّحْرُ حَقٌّ وَلَهُ تَأْثِيرُ ... لَكِنْ بِمَا قَدَّرَهُ الْقَدِيرُ أَعْنِي بِذَا التَّقْدِيرِ مَا قَدْ قَدَّرَهْ ... فِي الْكَوْنِ لَا فِي الشِّرْعَةِ الْمُطَهَّرَهْ وَاحْكُمْ عَلَى السَّاحِرِ بِالتَّكْفِيرِ ... وَحَدُّهُ الْقَتْلُ بِلَا نَكِيرِ كَمَا أَتَى فِي السُّنَّةِ الْمُصَرَّحَهْ ... مِمَّا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهْ عَنْ جُنْدُبٍ وَهَكَذَا فِي أَثَرْ ... أَمْرٌ بِقَتْلِهِمْ رُوِي عَنْ عُمَرْ وَصَحَّ عَنْ حَفْصَةَ عِنْدَ مَالِكِ ... مَا فِيهِ أَقْوَى مُرْشِدٍ لِلسَّالِكِ هَذَا وَمِنْ أَنْوَاعِهِ وَشُعَبِهْ ... عِلْمُ النُّجُومِ فَادْرِ هَذَا وَانْتَبِهْ وَحِلُّهُ بِالْوَحْيِ نَصًّا يُشْرَعُ ... أَمَّا بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَيُمْنَعُ وَمَنْ يُصَدِّقْ كَاهِنًا فَقَدْ كَفَرْ ... بِمَا أَتَى بِهِ الرَّسُولُ الْمُعْتَبَرْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 • أسئلة : 1- ما ضد التوحيد وما أقسام ذلك؟ 2- كيف كان بدء ظهور الشرك في بني آدم؟ ومن أول من دعا العرب في الجزيرة إلى عبادة الأصنام؟ 3- ما هي الأبواب التي تلاعب الشيطان من خلالها بالمشركين في عبادة الأصنام؟ 4- اذكر آية وحديثًا في الدلالةِ على قبحِ الشرك وأنه أعظم ذنب عصي الله به، ووعيدِ فاعله. 5- اذكر معنى الشرك الأكبر وبين شرك المشركين الذين أرسل إليهم محمد - صلى الله عليه وسلم - وما زاده مشركو زماننا على شركهم. 6- اذكر أقسام المعبودين من دون الله وعاقبتهم. 7- ما المراد بالشرك الأصغر وما حكم الواقع فيه؟ 8- ما معنى الرياء وما الحكم في عمل المرائي، مع الدليل؟ 9- ما حكم الحلف بغير الله، وما كفارته مع الأدلة؟ 10- ما حكم قول (ما شاء الله وشئت) و (لولا الله وفلان) ؟ مع ييان الفرق بين الواو وثم في ذلك؟ 11- اذكر بعض الأمثلة من الأمور الشركية التي يفعلها العامة مما ذكره المؤلف مبينًا حكم الشرع في هذه الأمور وأمثالها ومتى تصير شركًا أكبر؟ 12- اذكر ما تعرفه عن كل من التعاليق وأمور الجاهلية التالية، مبينًا حكم التعاليق والتمائم: الودعة-الناب-الحلقة-أعين الذئاب-الخيط-العضو من النسور-الوتر-الاستشفاء بتربة القبور؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 الجزء الثاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 الباب الأول: وفيه ثلاث فصول: 1- الإسلام. 2- الإيمان. 3- الإحسان. الباب الثاني: وفيه ثلاث فصول: 1- فصل في ست مسائل تتعلق بمباحث الدين. 2- فَصْلٌ فِي مَعْرِفَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - وتبلغه الرسالة. 3- فَصْلٌ فِي مَنْ هُوَ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ بَعْدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَذَكَرَ الصَّحَابَةِ بِمَحَاسِنِهِمْ وَالْكَفِّ عَنْ مَسَاوِئِهِمْ وَمَا شَجَرَ بينهم خاتمة في وجوب التمسك بالكتاب والسنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الباب الأول: الإسلام والإيمان والإحسان وهو يجمع بين حديث جبريل عليه السلام فِي تَعْلِيمِنَا الدِّينَ وَأَنَّهُ يَنْقَسِمُ إِلَى ثَلَاثِ مَرَاتِبَ: الْإِسْلَامُ وَالْإِيمَانُ وَالْإِحْسَانُ، وَبَيَانُ كُلٍّ مِنْهَا. - حديث جبريل عليه السلام: عن يحي بْنِ يَعْمُرَ قَالَ: كَانَ أَوَّلُ مَنْ قَالَ فِي الْقَدَرِ بِالْبَصْرَةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِىُّ فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحِمْيَرِيُّ، حَاجَّيْنَ -أَوْ مُعْتَمِرَيْنَ- فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلَاءِ فِي الْقَدَرِ، فَوُفِّقَ لَنَا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما دَاخِلًا الْمَسْجِدَ فَاكْتَنَفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي، أَحَدُنَا عَنْ يمينه والآخر عن شماله فظننت [أن] صَاحِبِي سَيَكِلُ الْكَلَامَ إِلَيَّ، فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرحمن إنه قد ظهر قبلنا ناس يقرءون القرآن ويتقفرون العلم (1) وذكر من شأنهم، أنهم يَزْعُمُونَ أَنْ لَا قَدَرَ وَأَنَّ الْأَمْرَ أُنُفٌ، قَالَ: فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - ذات يوم إذ طل عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ لَا يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ وَلَا يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى ركبتيه ووضع كفيه على فخذيه (2)   (1) أي: ويتبعون، ويروى يتفقرون أي يبحثون عن غامضه ويستخرجون خفيه والمشهور الأول. انظر: صحيح مسلم بشرح النووي ج1ص155. (2) وفي روايات أخري عن أبي ذر وابن عباس وأبي عامر أنه وضع كَفَّيْهِ عَلَى رُكْبَتَيِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -. ذكرها المؤلف رحمه الله في معارج القبول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الْإِسْلَامِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْإِسْلَامُ أن تَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ محمد رسول الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلًا) قال: صدقت فعجبنا له أن يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ، قَالَ فَأَخْبِرْنِي عَنِ الْإِيمَانِ، قَالَ: (أَنْ تُؤْمِنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) . قَالَ صَدَقْتَ. قال: فَأَخْبَرَنِي عَنِ الْإِحْسَانِ، قَالَ: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) . قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ. قَالَ: (مَا الْمَسْئُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ) . قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا. قَالَ: (أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاة يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ) قَالَ: ثُمَّ انْطَلَقَ فَلَبِثْتُ ملياً، ثم قال لي: (ياعمر أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟) قُلْتُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قال: (فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم) والحديث رواه مسلم. * * * الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 الفصل الأول: الإسلام هَذِهِ هِيَ الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى فِي حَدِيثِ عُمَرَ رضي الله عنه الذي ذكرناه. *أولاً - تعريف الإسلام: -الإسلام لغة: الانقياد والإذعان -أما في الشريعة فإطلاقه حالتان: الحالة الأولى: أن يطلق على الانفراد غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِذِكْرِ الْإِيمَانِ فَهُوَ حينئذٍ يُرَادُ به الدين كله، أصوله وفروعه، من اعتقاداته وأقواله وأفعاله لقوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} (1) وقوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام ديناً} (2) وقوله تَعَالَى: {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ منه} (3) وقوله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السلم كافة} (4) أي في كافة شرائعه. ويقول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا أَسْلَمَ الْعَبْدُ فَحَسُنَ إِسْلَامُهُ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ كُلَّ حَسَنَةٍ كَانَ أَزْلَفَهَا وَمُحِيَتْ عَنْهُ كُلُّ سَيِّئَةٍ كَانَ أزلفها) (5) فَإِنَّ الِانْقِيَادَ ظَاهِرًا بِدُونِ إِيمَانٍ لَا يَكُونُ حُسْنَ إِسْلَامٍ بَلْ هُوَ النِّفَاقُ فَكَيْفَ تُكْتَبُ له حسنات أو تمحى عنه سيئات؟ .   (1) آل عمران: 19. (2) المائدة: 3. (3) آل عمران: 85. (4) البقرة: 208. (5) رواه النسائي بإسناد حسن، انظر: جامع الأصول بتحقيق الأرناؤوط ج9 ص 358 ورواه البخاري معلقاً - دون ذكر كتابة الحسنات -، انظر: الفتح ج1 ص 122، 123. وصححه الألباني. انظر الصحيحة 247. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يُطْلَقَ مُقْتَرِنًا بِالِاعْتِقَادِ فَهُوَ حِينَئِذٍ يُرَادُ بِهِ الْأَعْمَالُ وَالْأَقْوَالُ الظَّاهِرَةُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قلوبكم} (1) ، وكقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا قَالَ لَهُ سعد رضي الله عنه: مالك عَنْ فُلَانٍ، فَوَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ مُؤْمِنًا، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَوْ مُسْلِمٌ) (2) يَعْنِي أَنَّكَ لَمْ تَطَّلِعْ عَلَى إِيمَانِهِ وَإِنَّمَا اطَّلَعْتَ عَلَى إِسْلَامِهِ مِنَ الْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ، وَفِي رِوَايَةِ النسائي: (لاتقل مُؤْمِنٌ وَقُلْ مُسْلِمٌ) وَكَحَدِيثٍ عُمَرَ هَذَا، وَغَيْرِ ذلك من الآيات والأحاديث. *ثانياً - أركان الإسلام: الركن لغة: هو الجانب الأقوى، وهو بحسب ما لا يقوم بالكلية إلا به. وركن القوم ونحو ذلك. ومن الْأَرْكَانِ مَا لَا يَتِمُّ الْبِنَاءُ إِلَّا بِهِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَقُومُ بِالْكُلِّيَّةِ إِلَّا بِهِ. وإنما قيل لهذه الأمور الخمسة التالية أَرْكَانٌ وَدَعَائِمُ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ..) (3) فَشَبَّهَهُ بِالْبُنْيَانِ الْمُرَكَّبِ على خمس دعائم. وأركان هذه المرتبة - الإسلام - على قسمين: قولية وعملية، فالقولية الشهادتين، والعملية الباقي، والأخيرة ثلاثة أقسام: بدنية وهي الصلاة   (1) الحجرات: 14. (2) رواه البخاري في الإيمان، باب إذا لم يكن الإسلام على الحقيقة، وانظر: الفتح ج1 ص99. ورواه مسلم في الإيمان، باب تألف من يخاف على إيمانه لضعفه، وانظر: صحيح مسلم بشرح النووي ج2 ص180. (3) رواه البخاري في أول كتاب الإيمان، وانظر: فتح الباري ج1 ص64. ورواه مسلم في كتاب الإيمان، باب أركان الإسلام ودعائمه، وانظر: صحيح مسلم بشرح النووي ج 1 ص177. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 والصوم، ومالية هي الزكاة، وبدنية مالية وهي الحج، وقول القلب وعمله - كما سيأتي إن شاء الله - شرط في ذلك كله. *الركن الأول : الشهادتان : هذا الركن هو أصل الأركان الباقية، وَلَا يَدْخُلُ الْعَبْدُ فِي شَيْءٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ إلا به، ولا يخرج من الدين إلا بمناقضتها، وَلِهَذَا لَمْ يدعُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى شَيْءٍ قَبْلَهُمَا؟، وَلَمْ يَقْبَلِ اللَّهُ تَعَالَى وَلَا رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من أحد شيئاً دونهما، فبالشهادة الأولى - لا إله إلا الله - تَوْحِيدُ الْمَعْبُودِ الَّذِي مَا خَلَقَ الْخَلْقَ إِلَّا ليعبدوه وحده لا شريك له، وفي الثانية - مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَوْحِيدُ الطَّرِيقِ الَّذِي لَا يُوصَلُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا مِنْهُ، وَلَا يَقْبَلُ دِينًا مِمَّنِ ابتغى غيره ورغب عنه. *الركن الثاني: إقامة الصلاة : وقد تقرر اقتران الصلاة وتأدية الزكاة بِالتَّوْحِيدِ، وَتَقْدِيمُهُمَا بَعْدَهُ عَلَى غَيْرِهِمَا فِي غَيْرِ موضع من القرآن أمراً - كقوله تعالى: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} (1) - وخبراً - كقوله تعالى: {الم. ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى للمتقين * الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ومما رزقناهم ينفقون} (2) وقوله عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (3) . أ-فرضيتها : فرضت في ليلة المعراج بعد عشر سنوات من بعثته - صلى الله عليه وسلم -، ولم يدعُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَبْلَهَا إلى شيء غير التوحيد.   (1) البقرة: 43، 110، النور: 56، المزمل: 20. (2) البقرة: 1-3. (3) التوبة: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 ب-حكم تاركها وعقوبته : في الآيات والأحاديث ما يدل على تَكْفِيرُ تَارِكِهَا وَنَفْيُ الْإِيمَانِ عَنْهُ وَإِلْحَاقُهُ بِإِبْلِيسَ لعنه الله، كقوله تَعَالَى: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَنْ تاب وآمن وعمل صالحا} (1) . فَإِنَّهُ لَوْ كَانَ مُضَيِّعُ الصَّلَاةِ مُؤْمِنًا لَمْ يشترط في توبته الإيمان، وَقَالَ تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ في الدين} (2) فَعَلَّقَ أُخُوَّتَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ بِفِعْلِ الصَّلَاةِ، فَإِذَا لَمْ فعلوا لم يكونوا إخوة للمؤمنين في الدين، ويفهم منه أنهم ليسوا مؤمنين. وفي صحيح مسلم عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - يقول: (إن بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة) ، وعن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمُ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فقد كفر) رواه الترمذي (3) ، وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَقِيقٍ قَالَ: كَانَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - لا يرون شيئاً من الأعمال كفر غير الصلاة (4) . وفي الشريعة المطهرة التصريح بوجوب قتل تارك الصلاة، كقوله تَعَالَى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سبيلهم} (5) ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وأن محمد رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ... ) (6) ، وأما الآثار عن الصحابة فأكثر من أن   (1) مريم: 59، 60. (2) التوبة: 11. (3) صحيح. صحيح سنن الترمذي 2113. (4) صحيح. صحيح سنن الترمذي 2114. (5) التوبة: 5. (6) رواه البخاري ومسلم وقد سبق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 تُحْصَرَ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْلِهِ كُفْرًا إِذَا كان تركه الصلاة عن جحود أو استكباراً وإن قال لا إله إلا الله، وأما إن كان تركه لا جحود لفريضتها ولا استكبار عنها بَلْ لِنَوْعِ تَكَاسُلٍ وَتَهَاوُنٍ كَمَا هُوَ حَالُ كثير من الناس فقد اختلف العلماء هل يقتل كفراً أم حداً (1) إلا ما كان من أبي حنيفة وجماعته أَنَّهُ لَا يَكْفُرُ وَلَا يُقْتَلُ بَلْ يُعَزَّرُ ويحبس حتى يصلي. الركن الثالث: تأدية الزكاة أ-فرضيتها : فرضت في السنة الثانية من الهجرة قبل بدر. ب-حكم تاركها : إن كان منعها إِنْكَارًا لِوُجُوبِهَا فَكَافِرٌ بِالْإِجْمَاعِ - بَعْدَ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ - وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا بِوُجُوبِهَا وَكَانُوا جَمَاعَةً ولهم شوكة قاتلهم الإمام لحديث (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لا إله إلا الله وأن محمد رَسُولُ اللَّهِ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بحقها وحسابهم على الله عز وجل) (2) ، وإن كان الممتنع فَرْدًا مِنَ الْأَفْرَادِ فَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْهُ قَهْرًا، وَاخْتَلَفُوا مِنْ ذَلِكَ فِي مَسَائِلَ: هل يكفر أم لا؟ .. هل يقتل أم لا؟ .. والأول هو المشهور عن أحمد ويستدل له بحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما السابق (أمرت أن أقاتل الناس حتى ... ) وَالثَّانِي لَا يُقْتَلُ وَهُوَ قَوْلُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ ورواية عن أحمد. وإذا كان لا يقتل هَلْ يُنَكَّلُ بِأَخْذِ شَيْءٍ مِنْ مَالِهِ مَعَ الزكاة؟   (1) أي هل يقتل كافراً بإقامة حد المرتد عليه أم يقتل حداً على تركه الصلاة لا حد المرتد. (2) انظر الحديث السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 في هذه المسألة حديث لبهز بن حكيم عن أبيه عن جده قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - ( ... ومن منعها - أي الزكاة - فَإِنَّا آخِذُوهَا وَشَطْرَ مَالِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ ربنا، لا منه لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ (1) ، وَعَلَّقَ الشَّافِعِيُّ الْقَوْلَ بِهِ عَلَى ثُبُوتِهِ فَإِنَّهُ قَالَ: لَا يُثْبِتُهُ أَهْلُ الْعِلْمِ بِالْحَدِيثِ، وَلَوْ ثَبَتَ لَقُلْنَا بِهِ. الركن الرابع : الصيام : أ-تعريفه : فِي اللُّغَةِ: الْإِمْسَاكُ. وَفِي الشَّرْعِ: إِمْسَاكٌ مَخْصُوصٌ في زمن مخصوص بشرائط مخصوصة. ب-فرضيته : في السنة الثانية من الهجرة قبل بدر. جـ- حكم تاركه : لا خلاف في كفر من جحد فرضيته واختلف في كفر تاركه وقتله مع الإقرار والاعتراف بوجوبه. الركن الخامس : الحج : هذا الركن على من استطاع إليه سبيلاً (2) . -حكم تاركه : لا خلاف في كفر من جحد فرضيته واختلف في كفر تاركه مع الإقرار بفرضيته.   (1) وحسنه الألباني، الإرواء حديث 791 (ج 3 ص 263) . (2) وذكر ابن حجر أن الاستطاعة لا تختص بالزاد والراحلة، بل تتعلق بالمال والبدن. انظر: الفتح (3/443) ، (4/82، 83) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وفيما يلي الأبيات المتعلقة بما سبق : اعْلَمْ بِأَنَّ الدِّينَ قَوْلٌ وَعَمَلْ (1) ... فَاحْفَظْهُ وَافْهَمْ مَا عَلَيْهِ ذَا اشْتَمَلْ كَفَاكَ مَا قَدْ قَالَهُ الرَّسُولُ ... إِذْ جَاءَهُ يَسْأَلُهُ جِبْرِيلُ عَلَى مَرَاتِبٍ ثَلَاثٍ فَصَّلَهْ ... جَاءَتْ عَلَى جَمِيعِهِ مُشْتَمِلَهْ الِاسْلَامِ وَالْإِيمَانِ وَالْإِحْسَانِ ... وَالْكُلُّ مَبْنِيٌّ عَلَى أَرْكَانِ فَقَدْ أَتَى: الْإِسْلَامُ مَبْنِيٌّ عَلَى ... خَمْسٍ فَحَقِّقْ وَادْرِ مَا قَدْ نُقِلَا أَوَّلُهَا الرُّكْنُ الْأَسَاسُ الْأَعْظَمُ ... وَهْوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ الْأَقْوَمُ رُكْنُ الشَّهَادَتَيْنِ فَاثْبُتْ وَاعْتَصِمْ ... بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى الَّتِي لَا تَنْفَصِمْ وَثَانِيًا إِقَامَةُ الصلَاةِ ... وَثَالِثًا تَأْدِيَةُ الزَّكَاةِ وَالرَّابِعُ الصِّيَامُ فَاسْمَعْ وَاتَّبِعْ ... وَالْخَامِسُ الْحَجُّ عَلَى مَنْ يَسْتَطِعْ • أسئلة : 1- اذكر حديث جبريل المبين للإسلام والإيمان والإحسان. 2- بين معنى الإسلام في اللغة والشرع، مع الأدلة فيما يتعلق بمعناه في الشرع. 3- ما معنى الركن في اللغة؟ ولماذا سميت أركان الإسلام بذلك؟ 4- بين مكانة الشهادتين من الدين. 5- متى فرض كل من الصلاة والزكاة والصوم؟ 6- تحدث باختصار عن حكم من ترك الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الحج. ***   (1) سيأتي تفصيل ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْكَلَامِ على الإيمان ومعناه عند أهل السنة والجماعة لما بينهما من الارتباط الوثيق ولعدم التكرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 الفصل الثاني: الإيمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الفصل الثاني: الإيمان هذه هي المرتبة الثانية في الحديث المذكور. *أولاً: تعريف الإيمان: أ-الإيمان لغة وشرعا ً: الإيمان لُغَةً: التَّصْدِيقُ. قَالَ إِخْوَةُ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ: {وَمَا أنت بمؤمن لنا} (1) أي بمصدق. وأما في الشريعة: فلإطلاقه حالتان: الْأُولَى: أَنْ يُطْلَقَ عَلَى الْإِفْرَادِ غَيْرَ مُقْتَرِنٍ بِذِكْرِ الْإِسْلَامِ فَحِينَئِذٍ يُرَادُ بِهِ الدِّينُ كُلُّهُ، القول والعمل. والثانية: أن يطلق مَقْرُونًا بِالْإِسْلَامِ وَحِينَئِذٍ يُفَسَّرُ بِالِاعْتِقَادَاتِ الْبَاطِنَةِ كَمَا في حديث جبريل وما في معناه وكقوله تعالى: {الذين آمنوا وعملوا الصالحات} في كثير مِنَ الْآيَاتِ، وَكَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اللَّهُمَّ مَنْ أَحْيَيْتَهُ مِنَّا فَأَحْيِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ وَمَنْ تَوَفَّيْتَهُ مِنَّا فَتَوَفِّهِ عَلَى الْإِيمَانِ) (2) وَذَلِكَ أن الأعمال بالجوارح إنما يتمكن منها في الحياة أما عِنْدُ الْمَوْتِ فَلَا يَبْقَى غَيْرُ قَوْلِ الْقَلْبِ وعمله. أما أمثلة الحالة الأولى (3) فمنها قوله تعالى: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلى النور} (4) ، وقوله تعالى: {والله ولي المؤمنين} (5) ، وقوله   (1) يوسف: 17. (2) قال الحاكم: صحيح على شرط الشيخين، ووافقه الذهبي، وقال الألباني: وهو كما قالا، تخريج المشكاة 1675. (3) لما كان الكلام عنها سيطول بعض الشيء إن شاء الله قدمت عليه الكلام في الحالة الثانية. (4) البقرة: 257. (5) آل عمران: 68. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 تعالى * تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ*الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ *أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ ربهم ومغفرة ورزق كريم} (1) ، وقوله تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سبيل الله أولئك هم الصادقون} (2) ، وَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ إلا نفس مؤمنة) (3) ، وَفَسَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ كله - أمور الدين الظاهرة والباطنة- فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا فَقَالَ: (آمُرُكُمْ بِالْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَحْدَهُ) قَالَ: (أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ وَحْدَهُ) ؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ (شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إلا الله وأن محمد رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامُ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ، وَصِيَامُ رمضان، وأن تؤدوا من المغنم الخمس) ، وفي الصحيحين (4) أيضاً: (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً، فَأَعْلَاهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطريق) وسمى الله تعالى الصلاة في قوله: (وما كان الله ليضيع إيمانكم) (5) -أي صلاتكم الأولى إلى بيت المقدس -. وهذا المعنى هو الذي قصده السلف كما نقله الشافعي رحمه الله عن الصحابة والتابعين ومن بعدهم ممن أدركهم إجماعاً، قالوا: إِنَّ الْإِيمَانَ اعْتِقَادٌ وَقَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَإِنَّ الْأَعْمَالَ كلها داخلة في مسمى الْإِيمَانَ، وَهَذَا الْمَعْنَى هُوَ الَّذِي أَرَادَ الْبُخَارِيُّ إِثْبَاتَهُ فِي كِتَابِ الْإِيمَانِ وَعَلَيْهِ بَوَّبَ أَبْوَابَهُ كُلَّهَا فَقَالَ: (بَابُ أُمُورِ الْإِيمَانِ) وَ (بَابُ الصَّلَاةِ مِنَ الْإِيمَانِ) وَ (بَابُ الزَّكَاةِ مِنَ الإيمان) ...   (1) الأنفال: 2-4. (2) الحجرات: 15. (3) صحيح الجامع الصغير 7547 وفيه (.. إلا نفس مسلمة) .. (4) واللفظ لمسلم، انظر صحيح مسلم بشرح النووي (2/5) وفيه (فأفضلها قول لا إله إلا الله) . وانظر الفتح (1/67) ، وانظر الكتاب ص317. (5) البقرة: 143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 إلخ وقال الثوري في التفرقة بين العمل والإيمان: هُوَ رَأْيٌ مُحْدَثٌ أَدْرَكْنَا النَّاسَ عَلَى غَيْرِهِ. وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ: كَانَ مَنْ مَضَى مِنَ السَّلَفِ لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْعَمَلِ وَالْإِيمَانِ وَكَتَبَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ إِلَى الْأَمْصَارِ: أَمَّا بَعْدُ فإن الإيمان فرائض وشرائع فمن استكملها فقد اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الإيمان. وكلام أئمة الحديث في كتبهم يطول ذكره، وَمِمَّا قَصَدُوهُ بِذَلِكَ الرَّدُّ عَلَى أَهْلِ الْبِدَعِ الذين أخرجوا الأعمال من الإيمان أو قصروا الإيمان على بعض أجزائه كمن قال إن الإيمان هو مجرد التصديق أو غير ذلك من مقالات المبتدعة كما سنبينه بمشيئة الله تعالى في الكلام على أقوال المخالفين لأهل السنة من الإيمان، والمقصود هنا تقرير المذهب الصحيح، مذهب أهل السنة والجماعة الذي يقضي بأن الدين الذي لا ينجوا أحد إلا به قول أو عمل، هذا هو معنى الإيمان الذي قصده السلف كما ذكرنا فصار الإيمان يتضمن أموراً أربعة كما هو مفصل في الفقرة التالية. ب-الإيمان قول وعمل : أي قول بالقلب واللسان، وعمل بالقلب واللسان والجوارح، وفيما يلي بيان كل منها: 1- قول القلب: وهو تصديقه وإيقانه. قال تَعَالَى. {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ * لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلك جزاء المحسنين} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ ورسوله ثم لم يرتابوا} (2) أي: صدقوا ثم لم يشكّوا. 2- قول اللسان: وهو النطق بالشهادتين والإقرار بلوازمهما. قَالَ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يحزنون} (3) ،   (1) الزمر: 33، 34. (2) الحجرات: 15. (3) الأحقاف: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ... ) (1) . 3- عَمَلُ الْقَلْبِ: وَهُوَ النِّيَّةُ وَالْإِخْلَاصُ وَالْمَحَبَّةُ وَالِانْقِيَادُ وَالْإِقْبَالُ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالتَّوَكُّلُ عَلَيْهِ ولوازم ذلك وتوابعه، قال تَعَالَى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يريدون وجهه} (2) ، وقال تعالى: {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تليت عليهم آياته زداتهم إيماناً وعلى ربهم يتوكلون} (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (4) ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلى دنيا يُصِيبُهَا أَوِ امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ) (5) ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) (6) . 4- عَمَلُ اللِّسَانِ وَالْجَوَارِحِ: فَعَمَلُ اللِّسَانِ مَا لَا يُؤَدَّى إِلَّا بِهِ كَتِلَاوَةِ الْقُرْآنِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ في التَّسْبِيحِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّكْبِيرِ وَالدُّعَاءِ وَالِاسْتِغْفَارِ وَغَيْرِ ذلك. وعمل الجوارح ما لا يؤدي إلا به كالقيام والركوع والسجود والمشي في   (1) الحديث في الصحيحين وقد سبق تخريجه فيهما أكثر من مرة، وانظر الفتح ج1 ص94، 95، ج12 ص288، وشرح النووي ج1ص201 -212. (2) الأنعام: 52. (3) الأنفال: 2. (4) النساء: 65. (5) رواه البخاري ومسلم، انظر الحديث الأول في صحيح البخاري، ورواه مسلم في الإمارة باب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إنما الأعمال بالنية) انظر مسلم بشرح النووي ج13 ص53. (6) رواه البخاري في الإيمان، باب حب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من الإيمان، ومسلم في الإيمان، باب وجوب محبته - صلى الله عليه وسلم - انظر الفتح ج1 ص 75، ومسلم بشرح النووي ج2 ص15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 مرضاة الله وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مما في شعب الإيمان قال تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تجار لن تبور} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين} (2) . جـ- أنواع الكفر : إذا حققت الأمور الأربعة السابقة تَحْقِيقًا بَالِغًا وَعَرَفْتَ مَا يُرَادُ بِهَا مَعْرِفَةً تامة وفهمت فهماً واضحاً ثم أمنعت النظر في أضدادها ونواقضها يتبين ذلك أَنْوَاعُ الْكُفْرِ لَا تَخْرُجُ عَنْ أَرْبَعَةٍ: كُفْرُ جهل وتكذيب، وكفر جحود وكتمان أو إنكار، وَكُفْرُ عِنَادٍ وَاسْتِكْبَارٍ، وَكُفْرُ نِفَاقٍ. فَأَحَدُهَا يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ، وَإِنِ اجْتَمَعَتْ فِي شَخْصٍ فظلمات بعضها فوق بعض لأنها إما أن تنفي هَذِهِ الْأُمُورُ كُلُّهَا - قَوْلُ الْقَلْبِ وَعَمَلُهُ وَقَوْلُ اللسان وعمل الجوارح - أو ينتفي بعضها، على النحو التالي: 1- فإن انتفت كلها اجتمع أنواع الكفر على النفاق. 2- وَإِنِ انْتَفَى تَصْدِيقُ الْقَلْبِ مَعَ عَدَمِ الْعِلْمِ بالحق، فكفر الجهل والتكذيب، وذلك ككفر مشركي العرب. قال تَعَالَى: {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ ولما يأتهم تأويله} (3) .   (1) فاطر: 29. (2) التوبة: 111، 112. (3) يونس: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 3- وَإِنْ كَتَمَ الْحَقَّ مَعَ الْعِلْمِ بِصِدْقِهِ، فَكُفْرُ الجحود والكتمان أو الإنكار وذلك ككفر فرعون وملئه. قَالَ تَعَالَى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وعلواً فانظر كيف كان عاقبة المفسدين} (1) . 4- وَإِنِ انْتَفَى عَمَلُ الْقَلْبِ مِنَ النِّيَّةِ وَالْإِخْلَاصِ وَالْمَحَبَّةِ وَالْإِذْعَانِ مَعَ انْقِيَادِ الْجَوَارِحِ الظَّاهِرَةِ، فَكُفْرُ نِفَاقٍ - سَوَاءٌ وُجِدَ التَّصْدِيقُ الْمُطْلَقُ أَوِ انْتَفَى وسواء انتفى بتكذيب أو شك - وذلك ككفر ابن سلول وشيعته. قال تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يشعرون - إلى قوله تعالى - وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (2) 5- وَإِنِ انْتَفَى عَمَلُ الْقَلْبِ وَعَمَلُ الْجَوَارِحِ مَعَ الْمَعْرِفَةِ بِالْقَلْبِ وَالِاعْتِرَافِ بِاللِّسَانِ، فَكُفْرُ عِنَادٍ وَاسْتِكْبَارٍ، وذلك كَكُفْرِ إِبْلِيسَ وَكُفْرِ غَالِبِ الْيَهُودِ الَّذِينَ شَهِدُوا أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - حَقٌّ وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ أَمْثَالِ حُيَيِّ بْنِ أَخْطَبَ وَكَعْبِ بْنِ الْأَشْرَفِ وَغَيْرِهِمْ، وَكَفْرِ مَنْ تَرَكَ الصَّلَاةَ عِنَادًا وَاسْتِكْبَارًا. 6- وَمُحَالٌ أَنْ يَنْتَفِيَ انْقِيَادُ الْجَوَارِحِ بِالْأَعْمَالِ الظَّاهِرَةِ مَعَ ثُبُوتِ عَمَلِ الْقَلْبِ. قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (ألا وإن فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كله، وإن فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ) (3) .   (1) النمل: 14 (2) البقرة: 8 - 20. (3) رواه البخاري في الإيمان، باب فضل من استبرأ لدينه، ورواه مسلم في المساقاة، باب أخذ الحلال وترك الشبهات، انظر الفتح ج1 ص153، ومسلم بشرح النووي ج11 ص27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 ومما سبق يَتَبَيَّنُ لَكَ أَنَّ مَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ فِي الْإِيمَانِ هُوَ التَّصْدِيقُ عَلَى ظَاهِرِ اللُّغَةِ أَنَّهُمْ إِنَّمَا عَنَوُا التَّصْدِيقَ الْإِذْعَانِيَّ الْمُسْتَلْزِمَ لِلِانْقِيَادِ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا بِلَا شَكٍّ، لَمْ يَعْنُوا مُجَرَّدَ التَّصْدِيقِ، فَإِنَّ إِبْلِيسَ لَمْ يُكَذِّبْ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى لَهُ بِالسُّجُودِ وَإِنَّمَا أَبَى عَنْ الِانْقِيَادِ كُفْرًا وَاسْتِكْبَارًا، وَالْيَهُودُ كَانُوا يَعْتَقِدُونَ صِدْقَ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يتبعوه، وفرعون كان يعتقد صدق موسى عليه السلام ولم ينقد له بَلْ جَحَدَ بِآيَاتِ اللَّهِ ظُلْمًا وَعُلُوًّا، فَأَيْنَ هذا من تصديق من قال الله فِيهِ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ المتقون} (1) وأين تصديق من قال الله فيه تعالى فيهم: {قالوا سمعنا وعصينا} (2) ، و {قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ به عند ربكم} (3) مِنْ تَصْدِيقِ مَنْ قَالُوا: {سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ ربنا وإليك المصير} (4) . د-أقوال المخالفين لأهل السنة في الإيمان : 1- قال ابن الراوندي ومن وافقه من المعتزلة وغيرهم: إن الإيمان هو مجرد التصديق فقط، وعلى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ الْيَهُودُ الَّذِينَ أَقَرُّوا بِرِسَالَةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - واستقينوها وَلَمْ يَتَّبِعُوهُ مُؤْمِنِينَ بِذَلِكَ، وَقَدْ نَفَى اللَّهُ الْإِيمَانَ عَنْهُمْ. 2- وَقَالَ جَهْمُ بْنُ صَفْوَانَ وَأَتْبَاعُهُ: هُوَ الْمَعْرِفَةُ بِاللَّهِ فَقَطْ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ لَيْسَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كَافِرٌ بِالْكُلِّيَّةِ إِذْ لا يجهل الخالق سبحانه أحد. 3- وَقَالَتِ الْمُرْجِئَةُ (5) وَالْكَرَّامِيَّةُ: الْإِيمَانُ هُوَ الْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ دُونَ عَقْدِ الْقَلْبِ فَيَكُونُ الْمُنَافِقُونَ عَلَى هَذَا مؤمنين، وقد قال الله فِيهِمْ {وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ ورسوله - إلى   (1) الزمر: 23. (2) البقرة: 93. (3) البقرة: 76. (4) البقرة: 285. (5) أي صنف منهم وليس كلهم ولا أكثرهم، انظر الفتاوى ج7 ص 195. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 قوله - وتزهق أنفسهم وهم كافرون} (1) . 4- وَقَالَ آخَرُونَ (2) : التَّصْدِيقُ بِالْجَنَانِ وَالْإِقْرَارُ بِاللِّسَانِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مُخْرِجٌ لِأَرْكَانِ الْإِسْلَامِ الظَّاهِرَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي حديث جبريل عليه السلام وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ. 5- وَذَهَبَ الْخَوَارِجُ وَالْعَلَّافُ وَمَنْ وَافَقَهُمْ إِلَى أَنَّهُ الطَّاعَةُ بِأَسْرِهَا فَرْضًا كَانَتْ أَوْ نَفْلًا (3) ، وَهَذَا الْقَوْلُ مُصَادِمٌ لِتَعْلِيمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِوُفُودِ الْعَرَبِ السَّائِلِينَ عن الإسلام والإيمان، كلما يَقُولُ لَهُ السَّائِلُ فِي فَرِيضَةٍ: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا، قَالَ: (لَا إِلَّا أَنْ تَطَوَّعَ شَيْئًا) - (4) . 6- وَذَهَبَ الْجُبَّائِيُّ وَأَكْثَرُ الْمُعْتَزِلَةِ الْبَصْرِيَّةِ إِلَى أَنَّهُ الطَّاعَاتُ الْمَفْرُوضَةُ مِنَ الْأَفْعَالِ وَالتُّرُوكِ (5) دُونَ النَّوَافِلِ (6) ، وهذا أيضاً يُدخل المنافقين في الإيمان   (1) التوبة: 84، 85. (2) أي من المرجئة، وهو قول فقهائهم، قال ابن تيمية رحمه الله، المرجئة ثلاثة أصناف: الذين يقولون: الإيمان ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب وهم أكثر فرق المرجئة ... ومنهم من لا يدخلها.. كجهم ومن اتبعه.. و (القول الثاني) من يقول: هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية، و (الثالث) تصديق القلب وقول اللسان وهذا هو المشهور عند أهل الفقه والعبادة منهم. مجموع الفتاوى ج7 ص195. (3) لا شك أن الإيمان المطلق الكامل يشمل ذلك كله ولكن كلام هذه الطوائف هنا في مطلق الإيمان الذي إذا قصر العبد في شيء منه صار كافراً. (4) رواه البخاري في الإيمان، باب الزكاة من الإسلام، ومسلم في الإيمان، باب بيان الصلوات. انظر الفتح ج1 ص130، ومسلم بشرح النووي ج1 ص166. (5) لاشك أن الإيمان المطلق يشمل جميع الطاعات كما قلنا وإنما الكلام هنا في مطلق الإيمان الذي لا يصح إلا به، فهؤلاء يخرجون من الإيمان من ترك طاعة من الطاعات المفروضة أما أهل السنة فلم يعتبروا كل الطاعات المفروضة شرطاً في الصحة ولم يخرجوا من قصر فيها من الإيمان بالكلية وإنما ينتقص من إيمانه بقدر معصيته أو يخرج من دائرة الإيمان المطلق إلى مطلق الإيمان، والله أعلم. (6) ودون عمل القلب واعتقاده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 وقد نفاه الله عنهم. 7- وقال الباقون من المعتزلة: الْعَمَلُ وَالنُّطْقُ وَالِاعْتِقَادُ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قول السلف أَنَّ السَّلَفَ لَمْ يَجْعَلُوا كُلَّ الْأَعْمَالِ شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ بَلْ جَعَلُوا كَثِيرًا مِنْهَا شَرْطًا فِي الْكَمَالِ. كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العزيز فيها: من استكملها فقد اسْتَكْمَلَ الْإِيمَانَ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَكْمِلْهَا لَمْ يَسْتَكْمِلِ الْإِيمَانَ. وَالْمُعْتَزِلَةُ جَعَلُوهَا كُلَّهَا شَرْطًا فِي الصِّحَّةِ. والله أعلم. 5 - خلاصة القول في الفرق بين الإسلام والإيمان، والفرق بين المؤمن والمسلم : * الإسلام والإيمان يجتمعان ويفترقان : وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِذَا أُفْرِدَ كُلٌّ مِنَ الْإِسْلَامِ والإيمان بالذكر فلا فرق بينهما حينئذ، بك كُلٌّ مِنْهُمَا عَلَى انْفِرَادِهِ يَشْمَلُ الدِّينَ كُلَّهُ، وإن فرق بين الاسمين كان الفرق بما في هذا الحديث الجليل - حديث جبريل عليه السلام - وَالْمَجْمُوعُ مَعَ الْإِحْسَانِ هُوَ الدِّينُ كَمَا سَمَّى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ كُلَّهُ دِينًا، وَبِهَذَا يَحْصُلُ الْجَمْعُ بَيْنَ هَذَا الْحَدِيثِ وَبَيْنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي فِيهَا تَفْسِيرُ الْإِيمَانِ بِالْإِسْلَامِ والإسلام بالإيمان وبذلك جمع بينه وبينها أهل العلم، وهذا كاسم الفقير والمسكين إذا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ فِيهِ كُلُّ مَنْ هُوَ مُحْتَاجٌ، فَإِذَا قُرِنَ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ دَلَّ أَحَدُ الِاسْمَيْنِ عَلَى بَعْضِ أَنْوَاعِ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَالْآخَرُ عَلَى بَاقِيهَا، فَهَكَذَا اسْمُ الْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ إِذَا أُفْرِدَ أَحَدُهُمَا دَخَلَ فِيهِ الْآخَرُ وَدَلَّ بِانْفِرَادِهِ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْآخَرُ بِانْفِرَادِهِ، فَإِذَا قُرِنَ بَيْنَهُمَا دَلَّ أَحَدُهُمَا عَلَى بَعْضِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ بِانْفِرَادِهِ وَدَلَّ الْآخَرُ عَلَى الْبَاقِي. * كل مؤمن مسلم ولا عكس : أما عن إطلاق كلمة مسلم ومؤمن فإن الْمُسْلِمَ قَدْ يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ وَلَا يَكُونُ مُؤْمِنًا فِي بَعْضِهَا وَالْمُؤْمِنُ مُسْلِمٌ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ فَكُلُّ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، فدائرة الإسلام تتسع لعدد من الناس أكثر مما تتسع له دائرة الإيمان فاسم المؤمن المطلق يقع على من قام بالدين كله ظاهراً وباطناً واسم المسلم يقع على كل من نطق بالشهادتين ولم يظهر منها ما ينقضهما. أما إطلاق التسوية بين الإسلام والإيمان والاتحاد بينهما في كل حال فهو رأي المعتزلة ويحتجون على ذلك بآيتي الذاريات {فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وجدنا فيها غير بيت من المسلمين} (1) يريد المعتزلة أن يقولوا: هنا اجتمع الإسلام والإيمان واقترنا فلم يدل كل منهما على معنى خاص؟ وَهُوَ احْتِجَاجٌ ضَعِيفٌ جِدًّا لِأَنَّ هَؤُلَاءِ كَانُوا قَوْمًا مُؤْمِنِينَ وَعِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ كُلَّ مؤمن مسلم ولا ينعكس (2) ، فاتفق الاسمان هنا لِخُصُوصِيَّةِ الْحَالِ وَلَا يَلْزَمُ ذَلِكَ فِي كُلِّ حال والله أعلم. وقال الشيخ أبو عمرو بن الصلاح: هذا - أي ما في حديث جبريل - بَيَانٌ لِأَصْلِ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْبَاطِنُ، وَبَيَانٌ لِأَصْلِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ الِاسْتِسْلَامُ وَالِانْقِيَادُ الظَّاهِرُ وَحُكْمُ الْإِسْلَامِ فِي الظَّاهِرِ يَثْبُتُ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَإِنَّمَا أَضَافَ إليهما الصلاة والزكاة والصوم والحج لكونهما أظهر شعائر الإسلام وأعظمها وبقيامها يَتِمُّ اسْتِسْلَامُهُ، وَتَرْكُهُ لَهَا يُشْعِرُ بِانْحِلَالِ قَيْدِ انْقِيَادِهِ أَوِ اخْتِلَالِهِ. ثُمَّ إِنَّ اسْمَ الْإِيمَانِ يَتَنَاوَلُ مَا فُسِّرَ بِهِ الْإِسْلَامُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَسَائِرُ الطَّاعَاتِ لِكَوْنِهَا ثَمَرَاتِ التَّصْدِيقِ الْبَاطِنِ الذي هو أصل الإيمان ومقومات ومتممات وحافظات، وَلِهَذَا فَسَّرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْإِيمَانَ فِي حَدِيثِ وَفْدِ عَبْدِ الْقَيْسِ، بِالشَّهَادَتَيْنِ وَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَصَوْمِ رَمَضَانَ وَإِعْطَاءِ الْخُمْسِ مِنَ الْمَغْنَمِ، وَلِهَذَا لَا يقع اسم المؤمن   (1) الذاريات: 35، 36. (2) ويشهد له قوله تَعَالَى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قلوبكم..} [الحجرات: 14] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 الْمُطْلَقُ (1) عَلَى مَنِ ارْتَكَبَ كَبِيرَةً أَوْ تَرَكَ فَرِيضَةً لِأَنَّ اسْمَ الشَّيْءِ مُطْلَقًا يَقَعُ عَلَى الكل منه، ولا يستعمل فِي النَّاقِصِ ظَاهِرًا إِلَّا بِقَيْدٍ (2) ، وَلِذَلِكَ جَازَ إِطْلَاقُ نَفْيِهِ عَنْهُ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا يَسْرِقُ السَّارِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ) (3) ، وَاسْمُ الْإِسْلَامِ يَتَنَاوَلُ أَيْضًا مَا هُوَ أَصْلُ الْإِيمَانِ وَهُوَ التَّصْدِيقُ الْبَاطِنُ، وَيَتَنَاوَلُ أَصْلَ الطَّاعَاتِ، فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ اسْتِسْلَامٌ، قَالَ: فَخَرَجَ مِمَّا ذَكَرْنَاهُ وَحَقَّقْنَاهُ أَنَّ الْإِيمَانَ وَالْإِسْلَامَ يَجْتَمِعَانِ وَيَفْتَرِقَانِ، وَأَنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ مُسْلِمٌ وَلَيْسَ كل مسلم مؤمناً. أهـ. *معنى الْتِزَامَ الدِّينِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ النَّجَاةُ مِنْ خزي الدنيا وعذاب الآخرة: هُوَ مَا كَانَ عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي كُلِّ مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثِ جِبْرِيلَ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنَ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَمَا لَمْ يَكُنْ مِنْهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَلَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ مَا يُنَاقِضُهُ أُجْرِيَتْ عَلَيْهِ أَحْكَامُ الْمُسْلِمِينَ فِي الدُّنْيَا وَوُكِّلَتْ سَرِيرَتُهُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى. قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سبيلهم} (4) ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأُسَامَةَ فِي قَتْلِهِ الْجُهَنِيَّ بَعْدَ أَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَقَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَقَتَلْتَهُ؟ ‍!) قَالَ: قَلْتُ: يَا رَسُولَ الله إنما قالها تخوفاً مِنَ السِّلَاحِ. قَالَ: (أَفَلَا شَقَقْتَ عَنْ قَلْبِهِ حتى تعلم أقالها أم لا؟ ‍!) وفي بعض طرق الحديث: يَا رَسُولَ اللَّهِ اسْتَغْفِرْ لِي، قَالَ: (وَكَيْفَ تَصْنَعُ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِذَا جَاءَتْ يوم القيامة؟!) والحديث بطوله في الصحيحين.   (1) الإيمان المطلق هو الإيمان الكامل بواجباته ومستحباته ويشمل الدين كله، ومطلق الإيمان هو القدر المُخرج من الكفر وهو الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خيره وشره. والله أعلم. (2) فيقال مؤمن فاسق أو مؤمن عاص أو مؤمن ناقص الإيمان. (3) رواه البخاري في المظالم، باب النهي بغير إذن صاحبه، ومسلم في الإيمان، باب نقصان الإيمان بالمعاصي، انظر الفتح ج5 ص143، ومسلم بشرح النووي ج2 ص41. (4) التوبة: 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 أسئلة : 1- عَرِّف الإيمان لغة وشرعًا مع الأدلة. 2- الإيمان يشمل القول والعمل فما المراد بكل منهما؟ مع التفصيل لما تقول. 3- بين أنواع الكفر، ومتى يتحقق كل منها؟ 4- اذكر أقوال المخالفين لأهل السنة في الإيمان. 5- بين الفرق بين الإسلام والإيمان. 6- ما الفرق بين المؤمن والمسلم؟ 7- ما معنى الْتِزَامَ الدِّينِ الَّذِي يَكُونُ بِهِ النَّجَاةُ مِنْ خزي الدنيا وعذاب الآخرة؟ *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 *ثانياً: أركان الإيمان: * الركن الأول: الإيمان بالله : أي الإيمان بإلهيته وربوبيته والإيمان بما ليس من صفات الْكَمَالِ مِمَّا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْأَسْمَاءِ الْحُسْنَى وَالصِّفَاتِ الْعُلَى، وَإِمْرَارُهَا كَمَا جَاءَتْ بِلَا تَكْيِيفٍ وَلَا تَمْثِيلٍ وَلَا تَحْرِيفٍ وَلَا تَعْطِيلٍ، وَأَنَّ كُلَّ مَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى وَوَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْكُلُّ حَقٌّ عَلَى حَقِيقَتِهِ عَلَى ما أراد الله وأراد رسوله - صلى الله عليه وسلم - وعلى ما يليق بجلال الله وعظمته. * الركن الثاني: الإيمان بالملائكة : -وهم عِبَادِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، خَلَقَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى من النور لعبادته، ففي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (خلقت الملائكة من نور، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدم مما وصف لكم) . -ومما ورد في صفاتهم أيضاً أنهم أولو أجنحة كما قال عز وجل: {الحمد له فاطر السموات وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وثلاث رباع يزيد في الخلق ما يشاء ... } (1) . -ومما ورد في صفاتهم أيضاً كيفية صفوفهم عند الله تعالى، ففي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَلَا تَصُفُّونَ كَمَا تَصُفُّ الْمَلَائِكَةُ عِنْدَ رَبِّهَا؟ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكَيْفَ تصف الملائكة عند ربها؟ قال: (يتمنون الصفوف الأوَل ويتراصون في الصف) . -ثُمَّ هُمْ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هَيَّأَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ وَوَكَّلَهُمْ بِهِ عَلَى أَقْسَامٍ: 1- فَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُ بِالْوَحْيِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى رُسُلِهِ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَهُوَ الرُّوحُ الْأَمِينُ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مَنْ كَانَ عدواً   (1) فاطر: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ ربك بالحق..} (2) ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى * فَكَانَ قَابَ قوسين أو أدنى} (3) ، وَهَذَا فِي رُؤْيَةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ فِي الْأَبْطَحِ حِينَ تَجَلَّى لَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا لَهُ سِتُّمِائَةِ جَنَاحٍ قَدْ سَدَّ عَظْمُ خَلْقِهِ الْأُفُقَ (4) ، ثُمَّ رَآهُ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ أَيْضًا فِي السَّمَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يغشى..} (5) . ولم يره - صلى الله عليه وسلم - إِلَّا هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ (6) ، وَبَقِيَّةَ الْأَوْقَاتِ فِي صُورَةِ رَجُلٍ وَغَالِبًا فِي صُورَةِ دِحْيَةَ الْكَلْبِيِّ رَضِيَ الله عنه (7) . 2- ومنهم الموكل بالقطر -المطر- وَتَصَارِيفِهِ إِلَى حَيْثُ أَمَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ مِيكَائِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَهُوَ ذُو مَكَانَةٍ عَلِيَّةٍ وَمَنْزِلَةٍ رَفِيعَةٍ وَشَرَفٍ عِنْدَ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَهُ أَعْوَانٌ يَفْعَلُونَ مَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ بِأَمْرِ رَبِّهِ وَيُصَرِّفُونَ الرِّيَاحَ وَالسَّحَابَ كَمَا يَشَاءُ الله عز وجل. 3- ومنهم الموكل بالصور والنفخ فيه، وهو إسرافيل عليه السلام، وهؤلاء الثلاثة من الملائكة (جبريل وميكائيل وإسرافيل) هُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي دُعَائِهِ مِنْ صَلَاةِ اللَّيْلِ (اللَّهُمَّ رب جبريل وميكائيل وإسرافيل   (1) البقرة: 97. (2) النحل: 102. (3) النجم 4-9. (4) انظر فتح الباري ج6 ص361، ج8 ص 476، 477. (5) النجم: 13-16. (6) انظر فتح الباري ج8 ص472، 476. (7) انظر فتح الباري، كتاب بدء الوحي. ج1 ص26-27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لِمَا اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) (1) . 4- وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُ بِقَبْضِ الْأَرْوَاحِ، وَهُوَ مَلَكُ الْمَوْتِ وأعوانه. قَالَ تَعَالَى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون} (2) ، وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ توفته رسلنا وهم لا يفرطون} (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الحريق} (4) ، وقال تعالى: {الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم - إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى - الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ..} (5) . وقد جاء في الأحاديث كحديث البراء (6) في أَنَّ أَعْوَانَهُ يَأْتُونَ الْعَبْدَ بِحَسَبِ عَمَلِهِ إِنْ كَانَ مُحْسِنًا فَفِي أَحْسَنِ هَيْئَةٍ وَأَجْمَلِ صُورَةٍ بِأَعْظَمِ بِشَارَةٍ، وَإِنْ كَانَ مُسِيئًا فَفِي أَشْنَعِ هَيْئَةٍ وَأَفْظَعِ مَنْظَرٍ بِأَغْلَظِ وَعِيدٍ ثُمَّ يَسُوقُونَ الرُّوحَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ قَبَضَهَا مَلَكُ الْمَوْتِ فَلَا يَدْعُونَهَا فِي يَدِهِ بَلْ يَضَعُونَهَا في أكفان وحنوط يليق بها. 5- ومنهم الموكل بحفظ العبد في حاله وَارْتِحَالِهِ وَفِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ وَفِي كُلِّ حَالَاتِهِ، وَهُمُ الْمُعَقِّبَاتُ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ * لَهُ مُعَقِّبَاتٌ من بين   (1) رواه مسلم في صلاة المسافرين، باب صلاة النبي - صلى الله عليه وسلم - ودعائه بالليل، انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج6 ص56. (2) السجدة: 11. (3) الأنعام: 61. (4) الأنفال: 50. (5) النحل: 28: 32. (6) سيأتي الكلام عليه عند الكلام على عذاب القبر إن شاء الله تعالى، وهو حديث صحيح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ..} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ توفته رسلنا وهم لا يفرطون} (2) ، قال ابن عباس رضي الله عنهما: والمعقبات من الله هم الملائكة يحفظونه مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ فَإِذَا جَاءَ قَدَرُ اللَّهِ تَعَالَى خَلَّوْا عَنْهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ: مَا مِنْ عَبْدٍ إِلَّا لَهُ مَلَكٌ مُوَكَّلٌ لحفظه فِي نَوْمِهِ وَيَقَظَتِهِ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْهَوَامِّ، فَمَا مِنْهَا شَيْءٌ يَأْتِيهِ إِلَّا قَالَ لَهُ الْمَلَكُ وَرَاءَكَ، إِلَّا شَيْءٌ أَذِنَ اللَّهُ فِيهِ فيصيبه. 6- وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُ بِحِفْظِ عَمَلِ الْعَبْدِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ وَهُمُ الْكِرَامُ الْكَاتِبُونَ وَهَؤُلَاءِ يَشْمَلُهُمْ مَعَ من قَبْلَهُمْ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً} (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إلا لديه رقيب عتيد} (4) فَالَّذِي عَنِ الْيَمِينِ يَكْتُبُ الْحَسَنَاتِ وَالَّذِي عَنِ الشِّمَالِ يَكْتُبُ السَّيِّئَاتِ. وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لحافظين * كراماً كاتبين * يعلمون ما تفعلون} (5) . 7- وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِفِتْنَةِ الْقَبْرِ وَهُمْ مُنْكَرٌ وَنَكِيرٌ (وَسَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُ النُّصُوصِ في ذلك عند الكلام على اليوم الآخر) . 8- ومنهم خزنة الجنة، ومقدمهم رضوان عليه السلام، قال تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لهم خزنتها سلام عليكم بتم فادخلوها خالدين} (6) .   (1) الرعد: 10، 11. (2) الأنعام: 61. (3) الأنعام 61. (4) ق: 17، 18. (5) الانفطار: 10-12. (6) الزمر: 73. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 9- ومنهم خزنة جهنم وهم الزبانية ورؤساؤهم تسعة عشر مالك عليهم السلام، قال تَعَالَى: {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيات ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا} (1) ، وقال تعالى: {فليدع نادية *سندع الزبانية} (2) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ*لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ*لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ*عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ*وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا ... } (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا ربك} (4) ، وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: (يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ، كُلُّ زِمَامٍ فِي يد سبعين ألف ملك يجرونها) . 10- وَمِنْهُمُ الْمُوَكَّلُونَ بِالنُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ كَمَا فِي حديث مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ قَالَ: (أَنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا نُطْفَةً ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ إِلَيْهِ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ، بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد..) (5) . 11- ومنهم حملة العرش (6) الَّذِينَ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ   (1) الزمر: 71. (2) العلق: 17، 18. (3) المدثر: 30، 31. (4) الزخرف: 77. (5) رواه البخاري في القدر، باب في القدر، ورواه مسلم في القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه. انظر الفتح جـ11 ص486، ومسلم بشرح النووي ج16 ص190. (6) قال المؤلف رحمه الله: (ومنهم حملة العرش والكروبيون) ، والكروبيون جاء ذكرهم في حديث ضعيف جداً. انظر سلسة الأحاديث الضعيفة رقم 923. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 العرش ومن حوله يسبحون بحمد ربهم} (1) ، وقال تعالى: {ويحمل عرش ربك فوقهم ثمانية} (2) فاستشعر بعضهم من هذه الآية أنهم اليوم ليس ثمانية. وقيل في تفسير الثمانية أقوال منها ما قاله ابْنُ عَبَّاسٍ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وَالشَّعْبِيُّ وَعِكْرِمَةُ والضحاك وابن جريح: ثمانية صفوف من الملائكة. ولأبي داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (أُذن لِي أَنْ أُحَدِّثَ عَنْ ملك من ملائكة الله تعالى حملة العرش ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة سنة) (3) . 12- ومنهم ملائكة سياحون يتبعون مجالس الذكر كما في صحيح مسلم. 13- ومنهم الموكل بالجبال، وقد ثبت ذكره خُرُوجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى بَنِي عَبْدِ يَالِيلَ وَعَوْدِهِ مِنْهُمْ، وَفِيهِ قَوْلُ جِبْرِيلَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوهُ عَلَيْكَ. وَفِيهِ قَوْلُ مَلَكِ الْجِبَالِ: إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمُ الْأَخْشَبَيْنِ (4) فَقَالَ - صَلَّى الله عليه وسلم -: (بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً) (5)   (1) غافر: 7. (2) الحاقة: 17. (3) صححه الألباني. صحيح الجامع الصغير 867، سلسة الأحاديث الضعيفة 151. (4) جبلان بمكة يحيطان بها، والأخشب هو الجبل الغليظ، انظر رياض الصالحين، حديث 648. (5) رواه البخاري في بدء الخلق، باب إذا قال أحدكم آمين ... ، مسلم في الجهاد، باب ما لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى المشركين، انظر الفتح ج6 ص360، مسلم بشرح النووي ج12 ص155. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 * الركن الثالث: الإيمان بالكتب المنزلة : قال تعالى: {يا أيها آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخر فقد ضل ضلالاً بعيداً} (1) . معنى الْإِيمَانِ بِالْكُتُبِ: 1- التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ بِأَنَّ كُلَّهَا مُنَزَّلٌ من عند الله على رسله إلى عباده بالحق والهدى. 2- وأنه كَلَامُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لَا كَلَامَ غَيْرِهِ، وأنه تعالى تكلم به حَقِيقَةً كَمَا شَاءَ وَعَلَى الْوَجْهِ الَّذِي أَرَادَ، فَمِنْهَا الْمَسْمُوعُ مِنْهُ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ بِدُونِ واسطة، ومنها ما يسمعه الرسول الملكي ويؤمر بتبليغه إِلَى الرَّسُولِ الْبَشَرِيِّ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} (2) ، وقال تعالى: {وكلم الله موسى تكليماً} (3) 3- وَالْإِيمَانُ بِكُلِّ مَا فِيهَا مِنَ الشَّرَائِعِ وَأَنَّهُ كَانَ وَاجِبًا عَلَى الْأُمَمِ الَّذِينَ نَزَلَتْ إِلَيْهِمُ الصُّحُفُ الْأُولَى الِانْقِيَادُ لَهَا وَالْحُكْمُ بِمَا فِيهَا كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هم الكافرون..} (4) الآيات، وأن كل من كذب   (1) النساء: 136. (2) الشورى: 51. (3) النساء: 164. (4) المائدة: 44، وانظر الآيات إلى آية 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 بشيء منها أو أبى الِانْقِيَادِ لَهَا مَعَ تَعَلُّقِ خِطَابِهِ بِهِ يَكْفُرُ بِذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ في سم الخياط وكذلك نجزي المجرمين} (1) . 4- وَإِنَّ جَمِيعَهَا يُصَدِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا لَا يُكَذِّبُهُ كما قال تعالى فِي الْقُرْآنِ: {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب ومهيمناً عليه} (2) . 5- وَأَنَّ نَسْخَ الْكُتُبِ الْأُولَى بَعْضِهَا بِبَعْضٍ حَقٌّ كَمَا نُسِخَ بَعْضُ شَرَائِعِ التَّوْرَاةِ بِالْإِنْجِيلِ، قَالَ الله تعالى في عيسى عليه السلام: {وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ * وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ - إِلَى قَوْلِهِ - وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وأطيعون} (3) ، وَكَمَا نُسِخَ كَثِيرٌ مِنْ شَرَائِعِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بالقرآن كما قال تعالى: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كانت عليهم ... } (4) ، وأن نسخ القرآن بعض آياته بعض حق كما قال تعالى: {ما نسخ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أو مثلها} (5) ، وقال تعالى:   (1) الأعراف: 40. (2) المائدة 48. (3) آل عمران: 48 - 50. (4) الأعراف: 157 والإصر العهد الثقيل كما قال تعالى: {وأخذتم على ذلكم إصري} يعني: عهدي، والمراد جاء بالتيسير والسماحة ورفع المشقة. انظر لسان العرب 860، ابن كثير 1/324، 2/44. (5) البقرة: 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أكثرهم لا يعلمون} (1) ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ ألف يغلبوا ألفين بإذن الله} (2) بعد قوله: {يا أيها النبي رض الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يغلبوا ألفاً من الذين كفروا} (3) وَالنَّاسِخُ وَالْمَنْسُوخُ آيَاتٌ مَشْهُورَاتٌ مَذْكُورَاتٌ فِي مَوَاضِعِهَا مِنْ كُتُبِ التَّفْسِيرِ وَغَيْرِهَا، وَأَنَّهُ لَا يَأْتِي كتاب بعد القرآن الكريم وَلَا مُغَيِّرَ وَلَا مُبَدِّلَ لِشَيْءٍ مِنْ شَرَائِعِهِ بعده فهو المهيمن على الكتب قبله والحاكم عليها وليس لأحد الخروج عن شيء من أحكامه، وأنه مَنْ كَذَّبَ بِشَيْءٍ مِنْهُ0 مِنَ الْأُمَمِ الْأُولَى فَقَدْ كَذَّبَ بِكِتَابِهِ كَمَا أَنَّ مَنْ كَذَّبَ بما أخبر عنه القرآن من الكتب السابقة فَقَدْ كَذَّبَ بِهِ، وَأَنَّ مَنِ اتَّبَعَ غَيْرَ سبيله ولم يقتف أثره ضل. 6- ثُمَّ الْإِيمَانُ بِكُتُبِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَجِبُ إِجْمَالًا فِيمَا أَجْمَلَ وَتَفْصِيلًا فِيمَا فَصَّلَ فَقَدْ سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كُتُبِهِ التَّوْرَاةَ عَلَى مُوسَى، وَالْإِنْجِيلَ عَلَى عِيسَى، وَالزَّبُورَ عَلَى دَاوُدَ، والقرآن على محمد، وذكر صحف إبراهيم وموسى، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين (4) . وقد أخبر الله تَعَالَى عَنِ التَّنْزِيلِ عَلَى رُسُلِهِ مُجْمَلًا فِي قَوْلِهِ: {وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الذي أنزل من قبل} (5) .   (1) النحل: 101. (2) الأنفال: 66. (3) الأنفال: 65.. (4) ولا يجب علينا الإيمان بما في تلك الكتب السابقة للقرآن من التفصيلات والأخبار لوقوع التحريف فيها إلا ما أثبته الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - من ذلك، وننفي ما نفاه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، ولا نصدق ولا نكذب بما سكت عنه الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. (5) النساء: 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 7- ثم إنه لابد في الإيمان بالكتاب مِنَ امْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ مَنَاهِيهِ وَتَحْلِيلِ حَلَالِهِ وَتَحْرِيمِ حَرَامِهِ، وَالِاعْتِبَارِ بِأَمْثَالِهِ وَالِاتِّعَاظِ بِقَصَصِهِ، وَالْعَمَلِ بِمُحْكَمِهِ وَالتَّسْلِيمِ لِمُتَشَابِهِهِ وَالْوُقُوفِ عِنْدَ حُدُودِهِ وَتِلَاوَتِهِ آناء الليل والنهار والذنب عنه والنصيحة له ظاهراً وباطناً بجميع معانيها، وطاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيما أمر به والانتهاء عما نهى عنه، فذلك كله مأمور به في الكتاب، قال تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عنه فانتهوا} (1) ، وقال تعالى في التسليم للمتشابه: {وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ من عند ربنا} (2) . * الركن الرابع: الإيمان برسل الله عز وجل : أ- الفرق بين الرسول والنبي : الرسول هو مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَأُمِرَ بِالتَّبْلِيغِ، أَمَّا مَنْ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَلَمْ يُؤْمَرْ بِالتَّبْلِيغِ فَهُوَ نَبِيٌّ فَقَطْ وَلَيْسَ بِرَسُولٍ فَكُلُّ رَسُولٍ نَبِيٌّ وَلَا عكس (3) .   (1) الحشر: 7. (2) آل عمران: 7. (3) قال الدكتور عمر الأشقر - بعد أن ذكر أن ذلك القول هو الشائع عند العلماء: - وهذا الذي ذكره هنا بعيد لأمور: الأول: أن الله نص على أنه أرسل الأنبياء كما أرسل الرسل في قوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي..} ، فإذا كان الفارق بينهما هو الأمر بالبلاغ فالإرسال يقتضي من النبي الإبلاغ. الثاني: أن ترك البلاغ كتمان لوحي الله تعالى، والله لا ينزل وحيه ليكتم ويدفن في صدر واحد من الناس، ثم يموت هذا العلم بموته. الثالث: قول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: (عرضت عليّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي وليس معه أحد..) - رواه البخاري ومسلم والترمذي والنسائي - فدل هذا على أن الأنبياء مأمورون بالبلاغ وأنهم يتفاوتون في مدى الاستجابة لهم. والتعريف المختار أن (الرسول من أوحي إليه بشرع جديد، والنبي هو المبعوث لتقرير شرع من قبله) تفسير الألوسي (17/157) . انظر الرسل والرسالات للأشقر ص14، 15، والنبوات لابن تيمية ص: 255. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 ب-حكم من كفر بواحد منهم : الإيمان برسل الله مُتَلَازِمٌ، مَنْ كَفَرَ بِوَاحِدٍ مِنْهُمْ فَقَدْ كَفَرَ بِاللَّهِ تَعَالَى وَبِجَمِيعِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وكتبه ورسله ر نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (2) . جـ- معنى الإيمان بالرسل : 1- التَّصْدِيقُ الْجَازِمُ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا يَدْعُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ وحده بلا شريك والكفر بما يعبد من دونه، أي أن دعوتهم من أولهم إلى آخرهم قد اتفقت فِي أَصْلِ الدِّينِ وَهُوَ تَوْحِيدُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِإِلَهِيَّتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ وَأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَنَفْيُ مَا يضاد ذلك أو ينافي كماله، وَأَمَّا فُرُوعُ الشَّرَائِعِ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ فقد0 تختلف لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ وَغَايَةٍ مَحْمُودَةٍ قَضَاهَا رَبُّنَا عَزَّ وجل. 2- وأنهم هداة الخلق هداية دعوة ودلالة وإرشاد إِلَى سَبِيلِ الْهُدَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ} (3) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ..} (4) . وأما هداية التوفيق   (1) البقرة: 285. (2) النساء: 150-152. (3) الرعد: 7. (4) الشورى: 52، 53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 وَالتَّسْدِيدِ وَالتَّثْبِيتِ فَلَيْسَتْ إِلَّا بِيَدِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، هُوَ مُقَلِّبُ الْقُلُوبِ وَمُصَرِّفُ الْأُمُورِ، لَيْسَ لملك مقرب ولا لنبي مرسل تصريف في شيء منها فضلاً عمن دونهما، ولذا قال تَعَالَى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يهدي من يشاء} (1) . 3- وأن جميعهم صادقون مصدقون، أتقياء أمناء هداة مهتدون، وبالبراهين الظاهرة مؤيدة، وَأَنَّهُمْ بَلَّغُوا جَمِيعَ مَا أَرْسَلَهُمُ اللَّهُ بِهِ، لم يكتموا منه حرفاً ولم يغيروا وَلَمْ يَزِيدُوا فِيهِ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ حَرْفًا ولم ينقصوه. 4- وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَاتَّخَذَ محمد - صلى الله عليه وسلم - خَلِيلًا، وَكَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَرَفَعَ إِدْرِيسَ مَكَانًا عَلِيًّا وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، وَأَنَّ اللَّهَ تعالى فضل بعضهم على بعض، ورفع بعضهم درجات، وأن محمد - صلى الله عليه وسلم - هو خاتم الأنبياء والمرسلين (2) . 5- ثم الإيمان بالرسل يَجِبُ إِجْمَالًا فِيمَا أَجْمَلَ وَتَفْصِيلًا فِيمَا فَصَّلَ، وَقَدْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ مِنْهُمْ آدَمَ وَنُوحًا وَإِدْرِيسَ وَهُودًا وَصَالِحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَيُوسُفَ وَلُوطًا وَشُعَيْبًا وَيُونُسَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَإِلْيَاسَ وَزَكَرِيَّا , وَيَحْيَى وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ، وَذَكَرَ الْأَسْبَاطَ (3) جُمْلَةً وَعِيسَى ومحمداً صلوات الله وسلامه   (1) القصص: 56. (2) وسيأتي تقرير ذلك وسيأتي تقرير ذلك إنشاء الله في الفصل الخاص بمعرفة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -. (3) هم أولاد يعقوب، وقد كانوا اثني عشر رجلاً عرفناً القرآن بواحد منهم وهو يوسف والباقي عددهم أحد عشر رجلاً لم يعرفنا الله بأسمائهم ولكنه أخبرنا بأنه أوحى إليهم، قال تَعَالَى: {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط} [البقرة: 136] . الرسل والرسالات للدكتور عمر الأشقر ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 عليهم أجمعين، وقص علينا من أنبائهم ثُمَّ قَالَ: {وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ موسى تكليماً) (1) . د-أول الرسل : أولهم بعد الاختلاف نوح عليهم السلام لأن أمته التي بعث إليها كانت أَوَّلُ مَنِ اخْتَلَفَ وَغَيَّرَ وَبَدَّلَ وَكَذَّبَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ من بعدهم} (2) وإلا فآدم قبله كان نبياً ورسولاً، وكان الناس أمة واحدة على دينه كما قال ابن عباس وَابْنُ مَسْعُودٍ وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَقَتَادَةُ وَمُجَاهِدٌ وَغَيْرُهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كان الناس أمة واحدة} الْآيَةَ. قَالُوا: كَانَ بَيْنَ نُوحٍ وَآدَمَ عَشَرَةُ قُرُونٍ كُلُّهُمْ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْحَقِّ فَاخْتَلَفُوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين. هـ- أولو العزم من الرسل : المشهور أنهم نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهم. -والعزم: الحزم وَالْجِدَّ وَالصَّبْرَ وَكَمَالَ الْعَقْلِ، وَلَمْ يُرْسِلِ اللَّهُ تعالى من رسول إلا وهذه الصفات مجتمعة فيه، غير أن هؤلاء أَصْحَابُ الشَّرَائِعِ الْمَشْهُورَةِ كَانَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ فِيهِمْ أكمل وأعظم من غيرهم، ولذا خصوا بالذكر في سورة الأحزاب في قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مريم ... } (3) ، وكذا في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نوحاً والذي أوحينا إليك وما   (1) النساء: 164. (2) غافر: 5. (3) البقرة: 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدين ولا تتفرقوا فيه..} (1) وَهَؤُلَاءِ الْخَمْسَةُ هُمُ الَّذِينَ يَتَرَاجَعُونَ الشَّفَاعَةَ بَعْدَ أَبِيهِمْ آدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حَتَّى تَنْتَهِيَ إِلَى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - كما سيأتي في الكلام عن الشفاعة إن شاء الله تعالى. -والأقوال في المراد بأولى العزم هي: 1- أنهم هؤلاء الخمسة الذين ذكرنا، وهو قول ابن عباس وقتادة ومن وافقهما هو الأشهر. 2- أنهم الَّذِينَ أُمِرُوا بِالْجِهَادِ وَأَظْهَرُوا الْمُكَاشَفَةَ مَعَ أَعْدَاءِ الدين. قاله الكلبي. 3- وَقِيلَ هُمْ سِتَّةٌ: نُوحٌ وَهُودٌ وَصَالِحٌ وَلُوطٌ وشعيب وموسى عليهم السلام، وهم المذكرون عَلَى النَّسَقِ فِي سُورَةِ الْأَعْرَافِ وَهُودٍ وَالشُّعَرَاءِ. 4- وَقَالَ مُقَاتِلٌ هُمْ سِتَّةٌ نُوحٌ صَبَرَ عَلَى أذى قومه، وإبراهيم صبر على النار، وإسحاق صَبَرَ عَلَى الذَّبْحِ، وَيَعْقُوبُ صَبَرَ عَلَى فَقْدِ وَلَدِهِ وَذَهَابِ بَصَرِهِ، وَيُوسُفُ صَبَرَ عَلَى الْبِئْرِ والسجن، وأيوب صبر على الضر،. وقوله (وإسحاق صَبَرَ عَلَى الذَّبْحِ) هُوَ قَوْلٌ مَرْجُوحٌ أَوْ مردود وإنما كان الذبيح إسماعيل كما يفهم من سورة الصافات (2) ومن سورة هود (3) .   (1) (2) حيث قال تعالى: {وقال إني ذاهب إلى ربي سيهدين *رب هب لي من الصالحين *فبشرناه بغلام حليم * فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك..} ثم قال بعد ذلك: {وبشرناه بإسحاق نبياً من الصالحين} [الصافات: 99-122] فهذا يقتضي أن البشرى الأولى كانت إسماعيل. وإسحاق رزق به إبراهيم على الكبر بعد إسماعيل. والله تعالى أعلم. (3) لقوله تعالى: {وامرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب} [هود: 71] قال ابن كثير رحمه الله: ومن هنا استدل من استدل بهذه الآية على أن الذبيح هو إسماعيل، وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق لأنه وقعت البشارة به وأنه سيولد له يعقوب فكيف يؤمر بذبحه وهو طفل صغير ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده، ووعد الله حق لا خلاف فيه فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه، فتعين أن يكون هو إسماعيل، وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه ولله الحمد، تفسير ابن كثير ج2ص390. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 5- وقال ابن يزيد: كل الرسل كانوا أولى العزم، لَمْ يَبْعَثِ اللَّهُ نَبِيًّا إِلَّا كَانَ ذَا عَزْمٍ وَحَزْمٍ وَرَأْيٍ وَكَمَالِ عَقْلٍ، وَإِنَّمَا أُدْخِلَتْ مِنْ لِلتَّجْنِيسِ لَا لِلتَّبْعِيضِ، كَمَا يُقَالُ: اشْتَرَيْتُ أَكْسِيَةً مِنَ الْخَزِّ وَأَرْدِيَةً مِنَ الْبَزِّ. 6- وَقَالَ قَوْمٌ: هُمْ نُجَبَاءُ الرُّسُلِ الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذكرهم: *الْمَذْكُورُونَ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ وَهُمْ ثَمَانِيَةَ عَشَرَ لِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ ذِكْرِهِمْ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى الله فبهداهم اقتده} (1) . وفيما يلي الأبيات المتعلقة بما سبق : فَتِلْكَ خَمْسَةٌ وَلِلْإِيمَانِ ... سِتَّةُ أَرْكَانٍ بِلَا نُكْرَانِ إِيمَانُنَا بِاللَّهِ ذِي الْجَلَالِ ... وَمَا لَهُ مِنْ صِفَةِ الْكَمَالِ وَبِالْمَلَائِكَةِ الْكِرَامِ الْبَرَرَهْ ... وَكُتْبِهِ الْمُنْزَلَةِ الْمُطَهَّرَهْ وَرُسْلِهِ الْهُدَاةِ لِلْأَنَامِ ... مِنْ غَيْرِ تَفْرِيقٍ وَلَا إِيهَامِ أَوَّلُهُمْ نُوحٌ بِلَا شَكٍّ كَمَا ... أَنَّ مُحَمَّدًا لَهُمْ قَدْ خَتَمَا وَخَمْسَةٌ مِنْهُمْ أولو الْعَزْمِ الْأُلَى ... فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ وَالشُّورَى تَلَا   (1) الأنعام: 90. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 • أسئلة: 1- ما المراد بالإيمان بالله عز وجل؟ 2- ما هي الأمور التي أُخبرنا بها عن الملائكة مع الأدلة، وما أقسامهم بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا هَيَّأَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ ووكلهم به؟ 3- ماذا يدخل في معنى الإيمان بالكتب؟ 4- ما الفرق بين الرسول والنبي؟ وما حكم من آمن ببعض الرسل والأنبياء دون بعض؟ 5- بين معنى الإيمان برسل الله عز وجل؟ 6- من هو أول الأنبياء والمرسلين؟ 7- اذكر ما تعرفه من أقوال في المراد بأولي العزم من الرسل؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 * الركن الخامس: الإيمان باليوم الآخر : والمراد اليوم الآخر وما يدل فيه وما يتصل به مما سنذكره إن شاء الله تعالى. قال تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أنزل من قبلك وبالآخرة هم يوقنون} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ ومن أصدق من الله حديثاً} (2) . وهذا الإيمان يجب أن يكون مجرداً عن ادعاء علم بوقت قيام الساعة فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ الَّتِي لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ. قَالَ تَعَالَى: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يعلمون} (3) . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَفَاتِحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ) . ثُمَّ قَرَأَ: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} (4) ، ولما سأل أعرابي: متى الساعة قال له - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَيْحَكَ إِنَّ السَّاعَةَ آتية فما أعددت لها؟ ..) والحديث في الصحيحين (5) . ومما يدخل في الإيمان باليوم الآخر، الإيمان بما يلي: 1- أمارات الساعة: وتشمل الآتي:   (1) البقرة: 4. (2) النساء: 87. (3) الأعراف: 187. (4) لقمان: 34. (5) وليس فيهما (ويحك إن الساعة آتية) (الفتح 78/51، شرح النووي 16/185-188) وللحديث قصة ذكرها صاحب كتاب المعارج منسوبة للصحيحين وليست فيهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 1- بعثته - صلى الله عليه وسلم -، لقوله: (بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ) وَقَرَنَ بَيْنَ إِصْبَعَيْهِ السبابة والتي تليها. والحديث في الصحيحين. 2- أَنْ تَلِدَ الْأَمَةُ رَبَّتَهَا وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ الْعَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ فِي الْبُنْيَانِ (1) . 3- تقاتُلُ الناس على جبل من ذهب على الفرات، ففي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَحْسِرَ الْفُرَاتُ عَنْ جَبَلٍ مِنْ ذَهَبٍ يَقْتَتِلُ النَّاسُ عَلَيْهِ فَيُقْتَلُ مِنْ كُلِّ مِائَةٍ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ ويقول كل رجل منهم لعلي أكون الَّذِي أَنْجُو) وَفِي رِوَايَةٍ: (فَمَنْ حَضَرَهُ فَلَا يأخذ منه شيئاً) . 4- الدخان. قَالَ تَعَالَى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مبين} (2) . 5- ظهور الفتن والعجائب وسوء الأخلاق، كما روى الإمام أحمد عن حذيفة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ السَّاعَةِ فَقَالَ: (عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ وَلَكِنْ سَأُخْبِرُكُمْ بِمَشَارِيطِهَا وَمَا يَكُونُ بَيْنَ يديها، إن بين يديها فتناً وهَرْجاً) (3) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، الْفِتْنَةُ قَدْ عَرَفْنَاهَا فَمَا الْهَرْجُ؟ قَالَ: (بِلِسَانِ الْحَبَشَةِ الْقَتْلُ) قَالَ: (وَيُلْقَى بَيْنَ النَّاسِ التَّنَاكُرُ فَلَا يَكَادُ أحدهم يعرف أحداً) (4) . ومن تفصيلات الفتن وغيرها من الأشراط الصغرى اقتتال فئتين عظيمتين من المسلمين دعواهما واحدة، وأن يُبْعَثَ دَجَّالُونَ كَذَّابُونَ قَرِيبٌ مِنْ ثَلَاثِينَ كُلُّهُمْ   (1) سبق في حديث جبريل عليه السلام، وهو في صحيح مسلم. (2) الدخان: 10. (3) الضبط من النهاية لابن الأثير. (4) أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. بلوغ الأماني ج24ص: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 يزعم أنه رسول الله، وأن يقبض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، ويكثر الْمَالُ فَيَفِيضُ حَتَّى يُهِمَّ رَبَّ الْمَالِ مَنْ يقبل صدقته وحتى يعرضه فيقول الذي يعرض عليه لا أرب لي به ومنها أن يَمُرَّ الرَّجُلُ بِقَبْرِ الرَّجُلِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي مكانه. وهذا كله رواه البخاري في الفتن (1) . 6- ثلاث خسوف، وخروج نار من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم، ففي صحيح مسلم عن حذيفة بنم أَسِيد (2) الْغِفَارِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: طَلَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَيْنَا وَنَحْنُ نَتَذَاكَرُ، فَقَالَ: (مَا تُذَاكِرُونَ) ؟ قَالُوا نَذْكُرُ السَّاعَةَ. قَالَ: (إِنَّهَا لَنْ تَقُومَ حَتَّى تَرَوْا قَبْلَهَا عَشْرَ آيَاتٍ: فَذَكَرَ الدُّخَانَ وَالدَّجَّالَ وَالدَّابَّةَ وَطُلُوعَ الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم ويأجوج ومأجوج، وثلاث خسوف: خسف المشرق، وخسف المغرب، وَخَسْفٌ بِجَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَآخِرُ ذَلِكَ نَارٌ تَخْرُجُ من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم) . 7- عدم الفرح بغنيمة، وعدم قسمة الميراث، وذلك بعد مقتلة عظيمة بين   (1) ومن تفصيلات الفتن وغيرها من الأشراط الصغرى غير ما ذُكِر: قتال قوم من الترك صغار العيون، وعبادة الأوثان من بعض قبائل أمة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وقتال اليهود حتى يختبئ اليهودي من المسلم وراء الشجر فيدل الشجر المسلم عليه، وخروج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى، وتخريب ذي السويقتين من الحبشة للكعبة، وعدم حج البيت، وتباهي الناس في المساجد، وخروج رجل من قحطان يسوق الناس بعصاه، وظهور المهدي، يملأ الأرض قسطاً وعدلاً، ومن الأمارات أيضاً ألا تقوم الساعة حتى يكون أسعد الناس بالدنيا لكع ابن لكع - أي الدنيء صغير العلم والعقل / لسان العرب - انظر صحيح الجامع الصغير 7248 - 7310، وصحيح مسلم بشرح النووي ج18 ص 36. (2) الضبط من تقريب التهذيب لابن حجر رحمه الله، والعلامات المذكورة في الحديث هي العلامات الكبرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 المسلمين والروم يقتل فيها كثير من المسلمين ويفتحون قسطنطينية ويخرج بعد ذلك الدجال، كما هو مروي في صحيح مسلم. 8- خروج المسيح الدجال ثم نزول عيسى ابن مريم عليه السلام لقتله، ثم يخرج يأجوج ومأجوج، ويحصر نبي الله عيسى وأصحابه إلى الطور ويدعون الله عز وجل، فيميت يأجوج ومأجوج مهلكة واحدة، وينزل عيسى وأصحابه عن الجبل فيجدون نتن جيفهم في كل مكان، فيدعون الله فيرسل طيراً تحملهم وتطرحهم حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ مَطَرًا غزيراً، وتظهر البركة وتعظم الثمرة على غير ما يعهده الناس، ثم يظهر الله ريحاً باردة طيبة تقبض روح كل مسلم ومؤمن ويبقى شرار الناس (1) فعليهم تقوم الساعة (2) . وذلك كله مذكور في صحيح مسلم رحمه الله. 9- طلوع الشمس من مغربها والدابة، أيتهما كانت الأولى فالأخرى على أثرها قريباً، وإذا طلعت الشمس من مغربها لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمن من قبل، ولا تنفع توبة. وذلك ثابت في صحيح مسلم أيضاً (3) .   (1) وهم غير يأجوج ومأجوج، فقد هلكوا جميعاً كما سبق. (2) أي يصعقون فلا يبقى حي على الأرض. (3) وهذا يكون بعد الدجال ونزول عيسى عليه السلام قال ابن حجر رحمه الله: (نزول عيسى بن مريم يعقب خروج الدجال، وعيسى لا يقبل إلا الإيمان، فانتفى أن يكون بخروج الدجال لا يقبل الإيمان ولا التوبة ... فالذي يترجح من مجموع الأخبار أن خروج الدجال أول الآيات العظام المؤذنة بتغير الأحوال العامة في معظم الأرض، وينتهي ذلك بموت عيسى ابن مريم، وأن طلوع الشمس من المغرب هو أول الآيات العظام المؤذنة بتغير أحوال العالم العلوي، وينتهي ذلك بقيام الساعة، ولعل خروج الدابة يقع في ذلك اليوم الذي تطلع فيه الشمس من الغرب ... والحكمة في ذلك أ، عند طلوع الشمس من الغرب يغلق باب التوبة فتخرج الدابة تميز المؤمن والكافر تكميلاً للمقصود من إغلاق باب التوبة، وأول الآيات المؤذنة بقيام الساعة النار التي تحشر الناس كما تقدم في حديث أنس في بدء الخلق في مسائل عبد الله بن سلام، ففيه: (وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب) ... فتح الباري ج11 ص: 361. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 * ذكر بعض صفات وتفصيلات لبعض أشراط الساعة الكبرى : أ- الدابة : هي دابة عظيمة تكلم الناس وتخبرهم بأحوالهم، قال تعالى: {وإذا رقع الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ} (1) . قيل: وهي الجساسة المذكورة في صحيح مسلم، وهي دابة أهلب أي غليظة الشعر لا يدري قبلها من دبرها من كثرة الشعر، وقيل وسميت الجساسة لتجسسها الأخبار للدجال. والله أعلم. وهذه الدابة يكون خروجها على الناس ضحى، ففي صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إِنَّ أَوَّلَ الْآيَاتِ خُرُوجًا طُلُوعُ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَخُرُوجُ الدَّابَّةِ عَلَى النَّاسِ ضُحًى، وَأَيُّهُمَا مَا كَانَتْ قَبْلَ صَاحِبَتِهَا فَالْأُخْرَى عَلَى إِثْرِهَا قريباً) . ب-الدجال : والأحاديث في ذكره وَصِفَتِهِ وَالْإِنْذَارِ مِنْهُ وَالتَّحْذِيرِ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ أن تحصى، لكن نذكر ههنا ملخصاً لذلك مما رواه مسلم في صحيحه: -فمن صفته أنه شاب قَطَط (2) أعور العين اليمنى مكتوب بين عينيه كافر (ك ف ر) يقرؤها كل مسلم كاتب وغير كاتب، وعلى عينه ظفرة غليظة - جلدة تغشى البصر أو لحمة تنبت عند المآقي -.   (1) النمل: 82. (2) أي أن شعره جعد قصير، والقطط شعر الزنجي. لسان العرب ص3672. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 يهبط كل قرية في أربعين ليلة إلا مكة والمدينة على أنقابها الملائكة تحرسها، وترجف الْمَدِينَةُ ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ يَخْرُجُ إِلَيْهِ مِنْهَا كُلُّ كافر ومنافق. -يعصم منه من قرأ عليه فواتح سورة الكهف. -يخرج خَلَّةً بَيْنَ الشَّامِ وَالْعِرَاقِ، فعاثٍ يَمِينًا وعاثٍ شمالاً، فيلبث في الأرض أربعين يَوْمًا، يَوْمٌ كَسَنَةٍ وَيَوْمٌ كَشَهْرٍ وَيَوْمٌ كَجُمُعَةٍ وسائر أيامه كأيامنا واليوم الذي هو أكبر من يومنا يُقدر له قدره من الصلاة، وينزل الدجال أول ما ينزل بالجُرُف قرب المدينة فيخرج إليه منافقوها، ويفر الناس منه في الجبال، والعرب يومئذ قليل، ويتبعه من يهود أصبهان سبعون ألفاً. -أما إسراعه في الأرض فكالغيث استدبرته الريح. -ومعه ما يفتن الناس، فيؤمنون له فتمطرهم السماء وتخرج الأرض لهم الثمار وتدبر الأنعام لهم اللبن، ومن يكفرون به يصبحون ممحلين في خراب، ومعه نَهْرَانِ يَجْرِيَانِ، أَحَدُهُمَا رَأَيَ الْعَيْنِ مَاءٌ أَبْيَضُ، والآخر رأي العين نار تأجج - يَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فإما أدركهما أحد فليأت الذي يراه ناراً وليغمض عينيه ثم ليطأطيء رأسه فيشرب منه فإنه ماء بارد) -ويمر بالخربة فيقول لها أخرجي كنوزك فتطيعه. -ويأمر بالرجل فيقطعه جزلتين ثم يمر بينهما فيقوم حياً، ويحاول أن يفتن مسلماً فيفعل به مثل ذلك فيقول الرجل: ما ازددت فيك إلا بصيرة، فيحاول الدجال قتله فلا يستطيع، فيأخذ بِيَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ فَيَقْذِفُ بِهِ، فَيَحْسِبُ النَّاسُ أَنَّمَا قذفه إلى النار. -ويأمر برجل متليء شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين مية الْغَرَضِ، ثُمَّ يَدْعُوهُ فَيُقْبِلُ وَيَتَهَلَّلُ وَجْهُهُ يَضْحَكُ، فبينما هو كذلك إذا بالمسيح ابن مريم فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 جـ-نزول المسيح ابن مريم : -قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قبل موته} (1) ، وهذا دلالة على نزوله عليه السلام ومعيشته فترة ثم موته لأنه رفع دون أن يؤمن به كل أهل الكتاب. -ويكون نزوله عند المنارة البيضاء شرقي دمشق فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفْسِهِ إِلَّا مات، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه، وبعد أن يقتل الدجال بباب لد يأتي قوماً عصمهم الله منه فيمسح عن وجوهم وَيُحَدِّثُهُمْ بِدَرَجَاتِهِمْ فِي الْجَنَّةِ فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إذ أوحى الله إلى عيسى عليه السلام إِنِّي قَدْ أَخْرَجْتُ عِبَادًا لِي لَا يَدَانِ لأحد بقتالهم فحرز عِبَادِي إِلَى الطُّورِ، وَيَبْعَثُ اللَّهُ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ. وذلك كما في حديث النواس بن سمعان في صحيح مسلم. د-يأجوج ومأجوج : هم قوم مفسدون في الأرض، من كل حدب ينسلون. -قال تعالى: {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ ما مكني فيه ربي خير فأعيوني بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دكاء وكان وعد ربي حقاً} (2) ، وفي صحيح مسلم عن زينب بنت جحش رضي الله عنها قَالَتْ: خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يوماً مُحْمَرًّا وَجْهُهُ يَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، ويل للعرب من شر   (1) النساء: 159. (2) الكهف: 94-98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ الْيَوْمَ مِنْ رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هَذِهِ) - وَحَلَّقَ بِإِصْبَعِهِ الْإِبْهَامِ وَالَّتِي تَلِيهَا - قَالَتْ: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أنهلِك وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: (نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الخَبَث) (1) . -وَقَالَ تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ * وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الحق ... } (2) . -وهم كثيرون جداً، حتى أن أوائلهم - كما في حديث النواس عند مسلم - ليمرون عَلَى بُحَيْرَةِ طَبَرِيَّةَ فَيَشْرَبُونَ مَا فِيهَا، وَيَمُرُّ آخرهم فيقول: فيقول: لقد كان بهذه مرة ماء. * الصعقة وما بعدها من المطر بعد فناء الدنيا : ثبت في صحيح مسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه بعد موت عيسى عليه السلام وأصحابه بالريح التي تقبض كل نفس مؤمنة يبقى شرار الخلق فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ لَا يَعْرِفُونَ معروفاً ولا ينكرون منكراً يتهارجون في الدنيا تهارج الحمر (3) مفتونين بما هم فيه من رزق كثير وعيش   (1) فسره الجمهور بالفسوق والفجور، وقيل: المراد الزنا خاصة، وقيل: أولاد الزنا، والظاهر أنه المعاصي مطلقاً. ونهلِكُ بكسر اللام على اللغة الفصيحة المشهورة، وحكى فتحها وهو ضعيف أو فاسد، ومعنى الحديث إذا كثر الخبث فقد يحصل الهلاك العام وإن كان هناك صالحون. انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج19 ص5، 6. (2) الأنبياء: 96-97. (3) قال النووي: أي يجامع الرجال النساء بحضرة الناس كما يفعل الحمير، ولا يكترثون لذلك، والهَرْج بإسكان الراء الجماع، يقال: هرج زوجته أي جامعها يهرجها بفتح الراء وضمها وكسرها. ا. هـ. وقد سبق تفسير الرسول - صلى الله عليه وسلم - له في الحديث الآخر بالقتل -بلغة الحبشة- وفسره = =النووي في موضع ثالث بالفتنة واختلاط أمور الناس، وذلك في (فضل العبادة في الهرج) فهذا يختلف حسب المناسبة، وكلها معان للهرج. انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج18 ص70، 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 حسن، ويتمثل لهم الشيطان فيقول: ألا تستيجبون، فيقولون: فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان، فعليهم تقوم الساعة حيث ينفخ في الصور فيصعقون وأولهم يصعق رجل يلوط (1) حوض إبله فيصعق ويصعق الناس، ثم يرسل الله مطراً تنبت مِنْهُ أَجْسَادُ النَّاسِ، ثُمَّ يَنْفُخُ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ ثُمَّ يُقَالُ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ هَلُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ، وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مسئولون. ثُمَّ يُقَالُ: أَخْرِجُوا بَعْثَ النَّارِ فَيُقَالُ: مِنْ كَمْ؟ فَيُقَالُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِائَةٍ وَتِسْعَةً وتسعين، فَذَلِكَ يَوْمَ يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا، وَذَلِكَ يَوْمَ يكشف عن ساق. 2- الإيمان بالموت: وَيَدْخُلُ فِي الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِر ِ الْإِيمَانُ بِالْمَوْتِ، والإيمان بالموت يتناول أموراً: 1- فمنها تَحَتُّمُهُ عَلَى مَنْ كَانَ فِي الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ وغيرهم من المخلوقات. قال تعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} (2) . 2- ومنها أن كلاً له أجل محدود لَا يَتَجَاوَزُهُ وَلَا يُقَصِّرُ عَنْهُ، وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ تَعَالَى جَمِيعَ ذَلِكَ بِعِلْمِهِ الَّذِي هُوَ صِفَتُهُ، وَجَرَى بِهِ الْقَلَمُ بِأَمْرِهِ يَوْمَ خَلْقِهِ، ثُمَّ كَتَبَهُ الْمَلَكُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي بطن أمه يأمر ربه عز وجل عند تخليق النطفة، وَأَنَّ كُلَّ إِنْسَانٍ مَاتَ أَوْ قُتِلَ أَوْ حُرِقَ أَوْ غَرِقَ أَوْ بِأَيِّ حَتْفٍ هَلَكَ بِأَجَلِهِ، لَمْ يَسْتَأْخِرْ عَنْهُ وَلَمْ يَسْتَقْدِمْ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأَنَّ ذَلِكَ السَّبَبَ الَّذِي كَانَ فِيهِ حَتْفُهُ هُوَ الَّذِي قَدَّرَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَقَضَاهُ عَلَيْهِ وَأَمْضَاهُ فِيهِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ بُدٌّ مِنْهُ وَلَا مَحِيصَ عَنْهُ وَلَا مَفَرَّ له ولا مهرب ولا فكاك ولا   (1) أي يُطّيِّنهُ ويصلحه، وأصله من اللصوق. النهاية لابن الأثير. (2) القصص: 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 خلاص. قال تَعَالَى: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} (1) . 3- ومنها الإيمان بأن ذلك الأجل المحتوم لانتهاء كل عمر لَا اطِّلَاعَ لَنَا عَلَيْهِ وَلَا عِلْمَ لَنَا بِهِ وَأَنَّ ذَلِكَ مِنْ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ الَّتِي اسْتَأْثَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِعِلْمِهَا عَنْ جَمِيعِ خَلْقِهِ فلا يعلمها إلا هو. قال تَعَالَى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وما تدري نفس بأي أرض تموت} (2) وأن هذا الموت هو ساعة كل إنسان بخصوصه إذ هو المفضي بالعبد إلى منازل الآخرة، وقد روى مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَتِ الْأَعْرَابُ إِذَا قَدِمُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَأَلُوهُ عَنِ السَّاعَةِ مَتَى السَّاعَةُ؟ فَيَنْظُرُ إِلَى أَحْدَثِ إِنْسَانٍ مِنْهُمْ فَيَقُولُ: (إِنْ يَعِشْ هَذَا لَمْ يُدْرِكْهُ الْهَرَمُ قَامَتْ عليم ساعتكم) . 4- ومنها ذكر العبد للموت وجعله على باله، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أكثروا ذكر هاذم اللذات) يعني الموت. رواه الترمذي والنسائي وابن حبان وَصَحَّحَهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (3) . وللبخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَنْكِبِي فَقَالَ: (كُنْ فِي الدُّنْيَا كَأَنَّكَ غَرِيبٌ أَوْ عَابِرُ سَبِيلٍ) وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ: إِذَا أَمْسَيْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الصَّبَاحَ، وَإِذَا أَصْبَحْتَ فَلَا تَنْتَظِرِ الْمَسَاءَ، وَخُذْ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك.   (1) آل عمران: 154. (2) لقمان: 34. (3) حديث صحيح، وهاذم بمعنى: قاطع. , انظر صحيح الجامع الصغير 1221، رياض الصالحين بتحقيق عبد العزيز رباح وأحمد الدقاق ومراجعة شعيب الأرنؤوط حديث 579 ط الحادية عشر، دار عالم الكتب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 5- وَمِنْهَا - وَهُوَ الْمَقْصُودُ الْأَعْظَمُ - التَّأَهُّبُ لَهُ قَبْلَ نُزُولِهِ، وَالِاسْتِعْدَادُ لِمَا بَعْدَهُ قَبْلَ حُصُولِهِ، وَالْمُبَادَرَةُ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَالسَّعْيِ النَّافِعِ قَبْلَ دُهُومِ الْبَلَاءِ وحلوله، إذ ليس بعده لأحد مُسْتَعْتِبٍ وَلَا اعْتِذَارٍ وَلَا زِيَادَةٍ فِي الْحَسَنَاتِ ولا نقص في السيئات ولا منزل إلا القبر، وهو إما منزل من منازل الجنة أو منزل من منازل النار - والعياذ بالله - ثم بعد البعث إِمَّا نُعَيْمٌ مُقِيمٌ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ وَإِمَّا عذاب أليم في نار الجحيم، فالمفلح من اغتنم حياته قبل أن يسأل الرجعة قبل الموت وهيهات. قال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون وأنفقوا مما رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تعملون} وإسحاق صبر على الذبح (1) . وقد ذكر الله تعالى عن الكفار سؤالهم الرجعة في عدة مواطن: أ-عند الموزت: قال تَعَالَى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ برزخ إلى يوم يبعثون} (2) . ب-عند معاينة العذاب يوم القيامة: قَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قريب نجب دعوتك ونتبع الرسل أو لم تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زوال} (3) . جـ-إِذَا وُقِفُوا عَلَى النَّارِ وَرَأَوْا مَا فِيهَا من عظيم الأهوال: قال تعالى: {ولو   (1) المنافقون: 9-11. (2) المؤمنون: 99، 100. (3) إبراهيم: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ترى إذ وقفوا على النار فقالوا ياليتنا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين} (1) . د-إِذَا وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ وَعُرِضُوا عَلَيْهِ وَهُمْ ناكسو رءوسهم بين يديه: قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نعمل صالحاً إنا موقنون} (2) . هـ-وهم في غمرات الجحيم وعذابها الأليم: قَالَ تَعَالَى: {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غير الذي كنا نعمل أو لم نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النذير} (3) . 3- الإيمان بما بعد الموت بما فيه من سؤال القبر وعذابه: تظاهرت نصوص الشريعة كتاباً وسنة بإثبات سؤال القبر وفتنته وعذابه ونعيمه، وَأَجْمَعَ عَلَى ذَلِكَ أَئِمَّةُ السُّنَّةِ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ. ونتكلم فيما يلي على شبه منكري ذلك والرد عليها ثم نذكر الأدلة من الكتاب والسنة على سؤال القبر وعذابه ونعيمه: أ-شبه منكري سؤال القبر وعذابه ونعيمه والرد عليها : قد أَنْكَرَ ذَلِكَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيُّ وَأَضْرَابُهُ وَأَتْبَاعُهُمْ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَحَمَلُوا عَلَى فَاسِدِ فَهْمِهِمْ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} (4) ، وقوله: {وما أنت بمسمع من في القبور} (5) .   (1) الأنعام: 27. (2) السجدة: 12. (3) فاطر: 37. (4) الدخان: 56. (5) فاطر: 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 قَالُوا فِي الْآيَةِ الْأُولَى: لَوْ صَارُوا أَحْيَاءً في القبور لذاقوا الموت مرتين لا مرة وَاحِدَةً. وَقَالُوا فِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ: إِنَّ الْغَرَضَ مِنْ سِيَاقِهَا تَشْبِيهُ الْكَفَرَةِ بِأَهْلِ الْقُبُورِ فِي عَدَمِ الْإِسْمَاعِ، وَلَوْ كَانَ الْمَيِّتُ حيَّا فِي قَبْرِهِ أَوْ حَاسًّا لَمْ يَسْتَقِمِ التَّشْبِيهُ. قَالُوا: وَأَمَّا مِنْ جِهَةِ الْعَقْلِ فَإِنَّا نَرَى شَخْصًا يُصْلَبُ وَيَبْقَى مَصْلُوبًا إِلَى أَنْ تَذْهَبَ أَجْزَاؤُهُ ولا نشاهد فيه إحياء ومسألة. فهذه ثلاث شبهات لهم، آيتان واستدلال عقلي، وفيما يلي الرد عليها: 1- الآية الأولى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى} : ويرد على شبهتهم فيها بأن الآية في وصف نعيم أهل الجنة وأنهم لا يصيبهم من ذلك الموت الذي ذاقوه في الدنيا، وقوله: {إلا الموتة الأولى} تأكيد لذلك فالمنفي هو ذلك الجنس من الموت الذي ذاقوه لما خرجوا من الدنيا، ولا تسمى نومتهم بعد السؤال في القبر موتة وليس فيها ألم ولا هول حتى يمتن الله عليهم بمعافاته لهم منها في الجنة فالمراد بالموت المنفي هو ذلك المعهود الذي يعقب الحياة الدنيوية المستقرة بما فيه من شدائد وسكرات، فهذا قضى الله أنه لا يصيب المؤمنين إلا مرة واحدة. ولا يعارض ذلك بقوله تَعَالَى: {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فاعترفنا بذنوبنا} (1) والآية في الكفار، فإما أن يقال أن المؤمنين بعد موتهم تسرح أرواحهم في الجنة كما قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ يعلُقُ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يُرْجِعَهُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَى جَسَدِهِ يوم يبعثه) (2) وذلك بخلاف الكافرين فهم الذين يقولون: {ربنا أمتنا اثنتين} فتكون الموتة الثانية هي موتتهم بعد فتنة القبر. والقول الثاني - وهو تفسير الجمهور - أن الموتة الأولى محمولة على العدم الذي قبل وجودهم، والثانية   (1) غافر: 11. (2) صحيح. صحيح الجامع الصغير 2369 ويعلق أن يأكل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 على الخروج من الدنيا ولا تعد النومة بَعْدَ الْفِتْنَةِ فِي الْقَبْرِ مَوْتَةً مُسْتَقِلَّةً (1) ، لِأَنَّ البرزخ (2) تابع للموتة الثَّانِيَةِ وَلَيْسَ هُوَ مِنْ دَارِ الدُّنْيَا وَلَا دَارِ الْآخِرَةِ بَلْ هُوَ حَاجِزٌ بَيْنَهُمَا، وَالتَّفْسِيرُ الأول مَحْمُولٍ عَلَى مَوْتَتَيْنِ بَعْدَ الْوُجُودِ خَلَا حَالَةِ العدم المحض قبل إيجادهم. 2- الآية الثانية: {وما أنت بمسمع من في القبور} : فاستدلوا بذلك على نفي أن يكون الميت في قبره يسأل أو يعذب لأن الله نفى في الآية سمعه فطردوا ذلك فيما وراء السمع من أي تأثر بأي شيء، والرد بأحد أمرين حسب ما تُفَسَّرُ به الآية. -فإذا فسرناها بنفي السماع مطلقاً قلنا إنما نفى الله قدرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - على إسماعهم ولم ينف قدرته سبحانه على إسماعهم كما أسمع أهل القليب يوم بدر خطاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول لهم: (هَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ حَقًّا؟) (3) فكذا هو قادر على إسماعهم وإشعارهم بسؤال القبر وعذابه وغير ذلك. ولما تعجب الصحابة من خطابه - صلى الله عليه وسلم - لأولئك الأموات في القليب قال لهم: (مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ (4) لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ، غَيْرَ أنهم   (1) ومما يؤيد عدم اعتبار الموتة الثانية بعد عذاب القبر أن الكافرين يدوم عذابهم ويتصل بعذاب الآخرة كما ذكر شارح الطحاوية ولعل ما يشير إلى ذلك قوله تَعَالَى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ * النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} [غافر: 45، 46] . (2) البرزخ هو الفترة التي تمر بالإنسان من بعد موته إلى بعثه، والبرزخ في الأصل ما بين كل شيئين أو الحاجز بين الشيئين. انظر لسان العرب ص 256. (3) وكما يسمع الميت قرع نعال الناس عند انصرافهم وتوليهم عنه، فيكون الأصل عدم السماع، ولا يمنع من وقوع السماع منهم أحياناً على وجه الاستثناء حين يشاء الله عز وجل في أحوال خاصة. (4) قال الألباني حفظه الله: تنكر عائشة - رضي الله عنها - هذا الحديث محتجة - يقول الله تَعَالَى: {وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} وتقول: إن اللفظ الذي قاله - صلى الله عليه وسلم -: (ما أنتم لأعلم لما أقول منهم) انظر فقه السيرة للغزالي بتعليق الألباني ص269 ط الأولى، دار الدعوة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 لا يستطيعون أن يردوا عليَّ شيئاً) وحديث القليب هذا رواه مسلم عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ. قَالَ قَتَادَةُ: أَحْيَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى حَتَّى أَسْمَعَهُمْ قوله توبيخاً وتصغيراً ونقمة وحسرة وندماً. - وإذا فسرنا السماع المنفي في الآية بسماع الاستجابة لا مطلق السماع فلا يبقى له شبهة. وَبِهَذَا يَتَّضِحُ تَشْبِيهُ الْكُفَّارِ بِهِمْ، فَإِنَّ الْكُفَّارَ كَانُوا يَسْمَعُونَ كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَسْمَعُونَ مِنْهُ كَلَامَ اللَّهِ تَعَالَى وَهُوَ يَتْلُوهُ عَلَيْهِمْ وَلَكِنْ لَيْسَ ذَلِكَ بِسَمَاعِ اسْتِجَابَةٍ وَلِهَذَا أَثْبَتَ تَعَالَى هَذَا السَّمَاعَ الظَّاهِرَ لَهُمْ في قوله: {يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مستكبراً كأن لم يسمعها} (1) ، وَلَوْ كَانَ الْكُفَّارُ لَمْ يَسْمَعُوا مُطْلَقًا لَا سَمَاعَ اسْتِجَابَةٍ وَلَا مُطْلَقًا لَمْ يَكُنِ الْقُرْآنُ حجة عليهم ولم يكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - بَلَّغَهُمْ لِأَنَّهُمْ مَا سَمِعُوهُ مِنْهُ، وَلَا أَفْسَدَ من قول هذا لازمه. 3- شبهتهم العقلية في المصلوب الذي يرونه بعد الصلب لا يعذب ونحو ذلك: فإذا احتجوا بذلك قلنا لهم أنتم ترون الرجل عند موته في الفراش وما رأيتم مرة أنه يضرب وما سمعتم مرة توبيخاً وتقريعاً يخاطب به عند موته مع أن ذلك يحدث للكفرة الظلمة كما قال عز وجل: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عذاب الهون} (2)   (1) الجاثية: 8، ونفى سبحانه وتعالى عنهم سماع الاستجابة في قوله: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها} [الأعراف: 179] . (2) الأنعام: 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 الآية. قال أئمة التفسير: {الملائكة باسطو أيديهم} أَيْ إِلَيْهِمْ بِالضَّرْبِ وَالنَّكَالِ وَأَنْوَاعِ الْعَذَابِ حَتَّى تخرج أنفسهم من أجسادهم. وَوَجْهُ الدَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ إِذَا كان يفعل بهذا وَهُوَ مُحْتَضِرٌ بَيْنَ ظَهَرَانَيْ أَهْلِهِ صَغِيرِهِمْ وَكَبِيرِهِمْ وذكرهم وأنثاهم ولا يدرون بشيء من ذلك الضرب، فلأن يفعل به ذلك في قبره أو بعد موته، وأعظم منه، ولا يعلمه من يراه أو يكشف عنه القبر أولى وأظهر (1) . وكون البشر لا يدركون ذلك من رحمته تعالى، وهو أمر مقصود إذ لو شعر البشر بذلك ما طاب لهم عيش ولما استطاعوا تحمل رؤية ذلك وسماعه، لذ حجب الله عز وجل تلك الأمور عنهم كما في صحيح مسلم عن آنس أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يسمعكم من عذاب القبر الذي أسمع) (2) . وثم أمر آخر وهو أن أكثر الأمور الْإِيمَانِ اعْتِقَادَاتٌ بَاطِنَةٌ مِنَّا لِأُمُورٍ غَائِبَةٍ عَنَّا وهي أعلى صفات أهل الإيمان التي يميزهم الله بها ويمحصهم ولذا ذكرها تعالى من صفات المؤمنين المتقين في قوله: {الذين يؤمنون بالغيب} (3) .   (1) ويقال لهم أيضاً: إن الحياة أنواع كما أن تعلق الروح بالجسد أنواع، فأنتم ترون النائم في سريره لا يتحرك وهو في نومه يتكلم ويأتي ويذهب ويتألم ويجري ويقاتل ويرى أشياء خاصة يستطيع وصفها بدقة ويسمع كلمات معينة يستطيع سردها، فما المانع من كون الروح في البرزخ تتصل بالجسد اتصالاً ثالثاً خاصاً ليتألم الجسد بما يتألم به وصاحب الجسد يدرك ذلك ويشعر به ويتغير هيئته دون أن يدرك ذلك الناس ودون أن تكون حياته كالحياة الدنيوية؟ (2) أما هو عليه الصلاة والسلام فيؤيده الله بقوى خاصة في بعض الأحوال ليسمع بها بعض الأشياء التي لا يقوي على سماعها بدون تهيئة الله له، ولهذا أيضاً كتلقي الوحي. والله تعالى أعلم. (3) البقرة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 ب- الأدلة على السؤال في القبر والعذاب أو النعيم : أولاً: من القرآن: 1- قال تَعَالَى: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظالمين ويفعل الله ما يشاء} (1) . وَهَذِهِ الْآيَةُ نَصُّهَا فِي عَذَابِ الْقَبْرِ بِصَرِيحِ الأحاديث كما سيأتي إن شاء الله تعالى وَبِاتِّفَاقِ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ مِنَ الصَّحَابَةِ فَالتَّابِعِينَ فَمَنْ بَعْدَهُمْ وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّثْبِيتِ هُوَ عِنْدَ السُّؤَالِ في القبر حقيقة. 2- وقال تعالى: {سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم} (2) . قال ابن مسعود وأبو مالك وابن جريح وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَسَعِيدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ إِسْحَاقَ مَا حصله أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ عَذَابُ الدُّنْيَا وَعَذَابُ الْقَبْرِ، ثُمَّ يَرُدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ هُوَ عَذَابُ النار. 3- وقال تعالى: {ولنذيقهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر} (3) . قَالَ الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ وَمُجَاهِدٌ وَأَبُو عُبَيْدَةَ: يَعْنِي بِهِ عَذَابَ الْقَبْرِ. 4- وَقَالَ تَعَالَى فِي قَوْمِ نُوحٍ: {مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا} (4) . فالتعقيب بالفاء يدل على أن عذابهم في النار تبع موتهم واتصل به. 5- وَقَالَ تَعَالَى: {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ *النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب} (5) . فدل على أن عرضهم على النار غدواً وعشياً كان قبل يوم القيامة.   (1) إبراهيم: 27. (2) التوبة: 101. (3) السجدة: 21. (4) نوح: 25. (5) غافر: 45، 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 ثانياً: من السنة: وَأَمَّا نُصُوصُ السُّنَّةِ فِي إِثْبَاتِ عَذَابِ الْقَبْرِ فَقَدْ بَلَغَتِ الْأَحَادِيثُ فِي ذَلِكَ مَبْلَغَ التَّوَاتُرِ، إِذْ رَوَاهَا أَئِمَّةُ السُّنَّةِ وَحَمَلَةُ الْحَدِيثِ وَنُقَّادُهُ عَنِ الْجَمِّ الْغَفِيرِ وَالْجَمْعِ الْكَثِيرِ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - وفيما يلي مجموعة من هذه الأحاديث عن عدد من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم: 1- عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الْعَبْدُ إِذَا وُضِعَ فِي قَبْرِهِ وَتَوَلَّى وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى أَنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ أَتَاهُ مَلَكَانِ فَأَقْعَدَاهُ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ : فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّهُ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ. فَيُقَالُ: انْظُرْ إِلَى مَقْعَدِكَ مِنَ النَّارِ أَبْدَلَكَ الله به مقعدك مِنَ الْجَنَّةِ. قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَيَرَاهُمَا جَمِيعًا. وَأَمَّا الْكَافِرُ أَوِ الْمُنَافِقُ فَيَقُولُ: لَا أَدْرِي، كُنْتُ أَقُولُ مَا يَقُولُ النَّاسُ. فَيُقَالُ: لَا دَرَيْتَ وَلَا تَلَيْتَ، ثُمَّ يضرب بمطرقة من حديد بَيْنَ أُذُنَيْهِ فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إلا الثقلين) رواه البخاري (1) . ورواه مسلم بنحوه. 2- وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إذا قبر الميت - أو قال أو أحدكم - أتاه ملكان أسودان أزرقان يقال لأحدهم الْمُنْكَرُ وَالْآخَرِ النَّكِيرُ فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ: مَا كَانَ يَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ أَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وأن محمد عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا. ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: نَمْ، فَيَقُولُ أَرْجِعُ إلى أهلي فأخبرهم، فيقولان: نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: سَمِعْتُ الناس يقولون قولاً فَقُلْتُ مِثْلَهُ، لَا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نعلم أنك تقول   (1) مع اختلاف يسير في الألفاظ (الفتح 3/275) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 ذَلِكَ. فَيُقَالُ لِلْأَرْضِ: الْتَئِمِي عَلَيْهِ، فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، فَتَخْتَلِفُ أَضْلَاعُهُ، فَلَا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يبعثه الله من مضجعه) . رواه الترمذي (1) . 3- وعن أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَوْلَا أَنْ لَا تَدَافَنُوا لَدَعَوْتُ اللَّهَ أَنْ يُسْمِعَكُمْ مِنْ عَذَابِ القبر الذي أسمع) رواه مسلم، وقد سبق. 4- وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: مَرَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى قَبْرَيْنِ فَقَالَ: (إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِي كَبِيرٍ) ثُمَّ قَالَ: (بَلَى. أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ من بوله ... ) الحديث رواه البخاري ومسلم وغيرهما. 5- وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - كان يعلمهم الدُّعَاءَ كَمَا يُعَلِّمُ السُّورَةَ مِنَ الْقُرْآنِ: (قُولُوا: اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ (2) بِكَ مِنْ عَذَابِ جَهَنَّمَ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ فتنة المحيا والممات) رواه البخاري ومسلم (3) . وكذا جميع أدعيته - صلى الله عليه وسلم - التي فيها الاستعاذة من عذاب القبر. 6- وَعَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إذا أُقْعِدَ الْمُؤْمِنُ فِي قَبْرِهِ أُتِيَ ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ محمد رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمنوا بالقول الثابت} رواه البخاري في مواضع، ووافقه عليه مسلم وغيره.   (1) حديث حسن. صحيح الجامع الصغير 737. (2) هكذا بصيغة الجمع في هذا المواضع. انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج5 ص89. (3) لم نجده في البخاري، وقال عمر بن محمود مخرج أحاديث المعارج (ط دار ابن القيم 1410هـ) : أما قول المصنف رواه البخاري فهو وهم منه فلم يروه البخاري من حديثه، قال ابن = =الأثير: رواه الجماعة إلا البخاري (جامع الأصول 4/370) وانظر تحفة الأشراف (5/27/ح 5750) . أهـ. (م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 7- وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي جِنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الْأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ وَلَمَّا يلحد، فجلس النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُءُوسِنَا الطَّيْرَ وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الْأَرْضِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ فَقَالَ: (اسْتَعِيذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ) – مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا – ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْفَالٍ إِلَى الْآخِرَةِ نزل إليه الملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوهم الشمس معهم أكفان مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ ثُمَّ يَجِيءُ ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس المطمئنة اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ – قَالَ – فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يده طرفة عين حتى يأخذونها فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، ويخرج منها كأطيب نفخة مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إلا قالوا: ما هذه الريح الطيبة؟ فيقولون: فلان ابن فُلَانٍ بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لَهُ فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السماء التي تليها حتى يُنتهى بها إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا أخرجهم تارة أخرى. قال فتعاد روحه، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ. فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَيَقُولَانِ لَهُ: وما علمك؟ فيقول: قرأت كتاب الله تعالى فآمنت به وصدقت. فينادي منادٍ من السَّمَاءِ أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الحنة. فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قبره مد البصر، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ حَسَنُ الثِّيَابِ طَيِّبُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ. هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أنت فوجهك الوجه الذي يَجِيءُ بِالْخَيْرِ؟ فَيَقُولُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ. فَيَقُولُ: رب أقم الساعة، رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ، حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي - قَالَ - وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا وَإِقْفَالٍ إِلَى الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ معهم المسوح (1) فيجلسون مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولَ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبٍ. قَالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ (2) مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ. فَيَصْعَدُونَ بِهَا فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إلا قالوا: ما هذه الروح الخبيثة؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا حَتَّى يُنْتَهَى بها إلى السماء الدنيا، فيستفتح فَلَا يُفْتَحُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: {لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الجمل في سم الخياط} (3) ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سجين في الأرض السفلى، فيطرح رُوحُهُ طَرْحًا، ثُمَّ قَرَأَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تهوي0 به الريح في مكان سحيق} (4) فتعاد روحه في جسده، ويأتيه   (1) جمع المٍسح، بكسر الميم، وهو ما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشفاً. أحكام الجنائز ص158. (2) وفي رواية الكثير الشعب، قال في لسان العرب: السَّفُود والسُّفود بالتشديد: حديدة ذات شعبٍ مُعقَّفة، معروف يشوى به اللحم، وجمعه سفافيد. لسان العرب ص:2024. (3) الأعراف: 40. (4) الحج: 31.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هاه هاه لا أدري. فيقولان: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي. فيقولان: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي. فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السماء أن كذب عبدي، فأفرشوه مِنَ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بالذي يسوؤك، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ: مَنْ أنت؟ فوجهك الوجه الذي يَجِيءُ بِالشَّرِّ. فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ. فَيَقُولُ: رب لا تقم لساعة) (1) . رواه أحمد، ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه بمحوه أ. هـ. 8- وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مقعدك حتى يبعثك الله يوم القيامة) رواه البخاري. 9- وعنه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اطَّلَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ فَقَالَ: (هل وجدتم ما وعد ربم حقَّا؟) فَقِيلَ لَهُ: تَدْعُو أَمْوَاتًا؟ فَقَالَ: (مَا أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون) رواه البخاري. 10- وعن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعِنْدِي امْرَأَةٌ مِنَ الْيَهُودِ وَهِيَ تَقُولُ: هَلْ شَعَرْتِ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ؟ قَالَتْ: فَارْتَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَالَ: (إِنَّمَا تُفْتَنُ يَهُودُ) قَالَتْ عَائِشَةُ: فَلَبِثْنَا لَيَالِيَ. ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (هَلْ شَعَرْتِ أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنُونَ فِي الْقُبُورِ) . قَالَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: فَسَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد يستعيذ من عذاب القبر. رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.   (1) صحيح: انظر صحيح الجامع الصغير 1672، وأحكام الجنائز للألباني ص157-159 وفيهما (وإقبال من الآخرة) بدل (وإقفال إلى الآخرة) في الموضعين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 11- وعنها مِنْ حَدِيثِهَا فِي الْكُسُوفِ وَفِيهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي خُطْبَتِهِ: (وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَهَنَّمَ يَحْطِمُ بَعْضُهَا بَعْضًا حِينَ رَأَيْتُمُونِي تَأَخَّرْتُ، وَرَأَيْتُ فِيهَا ابْنَ لُحَيٍّ وَهُوَ الَّذِي سَيَّبَ السوائب) (1) ، والحديث رواه مسلم. 12- وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قَالَ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ وَجَبَتِ (2) الشَّمْسُ فَسَمِعَ صَوْتًا، فَقَالَ: (يَهُودُ تعذب في قبورها) رواه مسلم. 13- وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أعناقهم فإن كانت صالحة قالت: قَدِّمُونِي، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ قَالَتْ: يَا وَيْلَهَا أَيْنَ يَذْهَبُونَ بِهَا؟ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَيْءٍ إِلَّا الْإِنْسَانَ وَلَوْ سَمِعَهَا الْإِنْسَانُ لَصُعِقَ) رواه البخاري. 14- وعن سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا صَلَّى صَلَاةً أَقْبَلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ فَقَالَ: (مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟) قَالَ: فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ: مَا شَاءَ اللَّهُ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا فَقَالَ: (هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا) ؟ قُلْنَا: لَا: قَالَ: (لَكِنِّي رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخْرَجَانِي (3) إِلَى الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جالس ورجل قائم بيده كَلُّوب (4) مِنْ حَدِيدٍ يُدْخِلُهُ فِي شِدْقِهِ حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الْآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ. قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ. فَانْطَلَقْنَا حَتَّى آتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ وَرَجُلٍ   (1) انظر ما سبق ص 137. (2) سقطت مع المغيب. لسان العرب ص 4767. (3) ولفظة في الفتح (فأخذوا بيدي فأخرجاني) (3/295) . (4) حديدة معوجة الرأس. مشكاة المصابيح ص1300. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 قائم على رأسه - أَوْ صَخْرَةٍ- فَيَشْرَخُ بِهِ (1) رَأْسَهُ فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ فَلَا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ فَعَادَ إِلَيْهِ (2) . قُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قالا: انطلق فانطلقنا إِلَى ثَقْب (3) ، مِثْلِ التَّنُّورِ أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلَهُ واسع تتوقد تحته نار فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَ أَنْ يَخْرُجُوا فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهْرٍ مِنْ دَمٍ فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهْرِ وَرَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِي فِي النَّهْرِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِي فِيهِ فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ رَمَى فِي فِيهِ بِحَجَرٍ فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ فَقُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقْ فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ وَفِي أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ وَأَدْخَلَانِي دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شيوخ وشباب ونساء صبيان ثُمَّ أَخْرَجَانِي مِنْهَا فَصَعِدَا بِي إِلَى الشَّجَرَةِ (4) فَأَدْخَلَانِي دَارًا هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ فِيهَا شُيُوخٌ وَشُبَّانٌ (5) قُلْتُ: طَوَّفْتُمَانِي اللَّيْلَةَ فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ. قَالَا: نَعَمْ أَمَّا الَّذِي رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ فكذاب يحدث بالكذبة فتحمل عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الْآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ مَا رَأَيْتَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ يُشْرَخُ (6) رَأْسُهُ فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ فَنَامَ عَنْهُ بالليل ولم   (1) (فيشدخ به) الفتح (3/295) . (2) (فعاد إليه فضربه) المصدر السابق (3/296) . (3) وفي نسخة مخطوطة الحاكم (نَقْب) . المشكاة ج2 ص1300.. (4) (فصعدا بي الشجرة) الفتح (3/296) . (5) (وشباب) المصدر السابق. (6) (يشدخ) المصدر السابق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 يَعْمَلْ فِيهِ بِالنَّهَارِ يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِي الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ والذي رأيته في النهر آكل الرِّبَا وَالشَّيْخُ فِي أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السلام، والصبيان حوله أولاد النَّاسِ، وَالَّذِي يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَالدَّارُ الْأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ وَأَنَا جِبْرِيلُ وَهَذَا مِيكَائِيلُ فَارْفَعْ رَأْسَكَ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا فَوْقِي مِثْلُ السَّحَابِ، قَالَا: ذَاكَ مَنْزِلُكَ. قُلْتُ: دعائي أَدْخُلْ مَنْزِلِي، قَالُوا: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمْرٌ لم تستكمله فلو استكملت أتيت منزلك) رواه البخاري. 15- وعن عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا فَرَغَ مِنْ دَفْنِ الرَّجُلِ وَقَفَ عَلَيْهِ وَقَالَ: (اسْتَغْفِرُوا لِأَخِيكُمْ واسألوا له التثبيت فإنه الآن يسأل) رواه أبو داود (1) . 4- الإيمان بالصور والنفخ فيه: ويدخل في الإيمان باليوم الآخر الْإِيمَانُ بِالصُّورِ وَالنَّفْخِ فِيهِ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ عز وجل سبب الفزع والصعق والقيام من القبور، والصور هو القرن الذي وكل الله به إسرافيل عليه السلام لينفخ فيه حين يأمره بذلك (2) . قال تعالى: {ونفخ في   (1) صحيح. صحيح الجامع الصغير 4636. (2) جعل المؤلف رحمه الله النفخات ثلاثاً، نفخة الفزع ثم نفخة الصعق ثم نفخة القيام لرب العالمين وذلك في كلامه في الإيمان بالملائكة، وفي كتابه (مائتان سؤال وجواب في العقيدة) ذكر قولاً آخر أنهما نفختان باعتبار نفخة الفزع هي نفسها نفخة الصعق (انظر ص44) . وفي الطحاوية جعل الصعقة الزائدة في موقف القيامة إذا جاء الله لفصل القضاء أي بعد نفخة القيامة (انظر ص402، 403) ، ومنهم من يجعل الصعقة في الموقف نفخة رابعة. وانظر مجموع الفتاوى ج4 ص260-261، تفسير ابن كثير ج4 ص58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا من شاء الله وكل أتوه داخرين} (2) . وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: مَا الصُّورُ؟ فَقَالَ: (قَرْنٌ يُنْفَخُ فِيهِ) (3) . وَفِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (كَيْفَ أَنْعَمُ وَصَاحِبُ الصُّورِ قَدِ التقمه وأصغى سمعه وحتى جَبْهَتَهُ يَنْتَظِرُ مَتَى يُؤْمَرُ) ، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا تَأْمُرُنَا؟ قَالَ: (قُولُوا حَسْبُنَا اللَّهُ ونعم الوكيل) (4) . -فائدة فيمن لا يفنى بالنفخ في الصور: جاء في تفسير قوله تَعَالَى: {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ الله} إِنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الشُّهَدَاءُ وَالْحُورُ الْعِينِ وَرِضْوَانُ وَزَبَانِيَةُ الْعَذَابِ (5) ، وَقَدْ قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ فِي ذَلِكَ إِنَّهُ هُوَ اعْتِقَادُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، قَالَ: فَإِنِ احْتَجَّ مُبْتَدِعٌ بِقَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ: {كُلُّ شيء هالك إلا وجهه} (6) ، و {كل من عليها فان} (7) قيل إن المراد كل شيء عليه الهلاك والفناء هنالك فانٍ وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ الِاسْتِثْنَاءُ الْمَذْكُورُ فِي سُورَةِ الزمر.   (1) الزمر: 68. (2) النمل: 87. (3) صحيح. صحيح الجامع الصغير 3757. (4) صحيح. تخريج المشكاة 5527. وانظر صحيح الجامع الصغير 4468 (كيف أنتم..) . (5) وقال ابن تيمية رحمه الله: ولا يمكن الجزم بكل من استثناه الله، فإن الله أطلق في كتابه مجموع الفتاوى ج4 ص261. (6) القصص: 88. (7) الرحمن: 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 5- البعث والنشور: أ-بعض نصوص الكتاب والسنة في البعث والنشور . فمن القرآن: 1- قال تَعَالَى: {وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وما نحن بمبعوثين * ولو تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ * قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كذبوا بلقاء الله} (1) . 2- وقال تعالى: {وكانوا يقولون أإذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أإنا لمبعوثون أوآباؤنا الأولون * قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم} (2) . 3- وقال تعالى: {وقالوا أإذا كنا عظاماً ورفاتاً اإنا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا * قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا * أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مرة فيسنغضون إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وتظنون إن لبثتم إلا قليلاً} (3) . 4- وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طفلاً ثم لتبلغلوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عليها الماء اهتزت   (1) الأنعام: 29-31. (2) الواقعة: 47-50. (3) الإسراء: 49-52. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ من في القبور} (1) . 5- وَقَالَ تَعَالَى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إلينا لا ترجعون} (2) . 6- وَقَالَ تَعَالَى: {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حياة ولا نشوراً} (3) . 7- وَقَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بعد موتها كذلك النشور} (4) . 8- وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ * فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إلى ربهم يَرْجِعُونَ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحدة فإذا هم جميع لدينا محضرون} (5) . 9- وقال تعالى: {إن كل من في السماوات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً * لقد أحصاهم وعدهم عدًّا * وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً} (6) . والقرآن كُلَّهُ مِنْ فَاتِحَتِهِ إِلَى خَاتِمَتِهِ مَمْلُوءٌ بِذِكْرِ أحوال اليوم الآخر وتفاصيل ما فيه،   (1) الحج: 5-7. (2) المؤمنون: 115. (3) الفرقان: 3. (4) فاطر: 9. (5) يس: 48 - 53. (6) مريم 93-95. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 وَتَقْرِيرِ ذَلِكَ بِأَصْدَقِ الْأَخْبَارِ، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِلِاعْتِبَارِ، وَالْإِرْشَادِ إِلَى دَلِيلِ ذَلِكَ لِكُلِّ امْرِئٍ بِأَنْ يعتبر في بدنه ويستبدل بِهِ عَلَى إِعَادَتِهِ وَكَذَلِكَ إِحْيَاءُ الْأَرْضِ بَعْدَ موتها فيحيها تَعَالَى بِالْمَطَرِ فَتُصْبِحُ مُخْضَرَّةً تَهْتَزُّ بَعْدَ مَوْتِهَا بِالْقَحْطِ وَهُمُودِهَا وَخُمُودِهَا وَاسْوِدَادِهَا فِإِذَا أُنْزِلَ عَلَيْهَا الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بَهِيجٍ، وَلِهَذَا يُذْكَرُ إِحْيَاءُ الْمَوْتَى بَعْدَ ذِكْرِ إحياء الْأَرْضَ لِيَسْتَدِلَّ مَنْ لَهُ قَلْبٌ شَهِيدٌ عَلَى الْآجِلِ بِالْعَاجِلِ، وَعَلَى الْغَيْبِ بِالشَّهَادَةِ فَيَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ: {كَذَلِكَ الْخُرُوجُ} (1) ، {كَذَلِكَ النُّشُورُ} (2) ، {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} (3) ، {كذلك يحي الله الموتى ويريكم آياته لعلكم تعقلون} (4) . ومن السنة (5) : 1- عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (قَالَ اللَّهُ: كَذَّبَنِي ابْنُ آدَمَ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، وَشَتَمَنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ ذَلِكَ، فَأَمَّا تَكْذِيبُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ لَنْ يُعِيدَنِي كَمَا بَدَأَنِي، وَلَيْسَ أَوَّلُ الْخَلْقِ بِأَهْوَنَ عَلَيَّ مِنْ إِعَادَتِهِ، وَأَمَّا شَتْمُهُ إِيَّايَ فَقَوْلُهُ اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا، وَأَنَا الْأَحَدُ الصَّمَدُ لَمْ أَلِدْ وَلَمْ أُولَدْ، لم يكن لي كفواً أحد) . رواه الْبُخَارِيِّ. 2- وَعَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: (ما بَيْنَ النَّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ) - قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أربعون يوما؟ قال: أبيت (6) ، قالوا: أربعون   (1) ق: 11. (2) فاطر: 9. (3) الزخرف: 11. (4) البقرة: 73. (5) الأحاديث في هذا كثيرة جداً وقد تقدم كثير منها في مواضيع متفرقة ونضيف إليها ههنا هذين الحديثين. (6) أي امتنعت عن الجواب لأني لا أدري ما هو الصواب. المشكاة حديث 5521. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 شَهْرًا؟ قَالَ: أَبَيْتُ، قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ - ثُمَّ يُنْزِلُ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيَنْبُتُونَ كَمَا يَنْبُتُ الْبَقْلُ. قَالَ: وَلَيْسَ مِنَ الإنسان شيء إلا يبلى، إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْبُ (1) الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يركب الخلق يوم القيامة) رواه مسلم، ورواه البخاري بمعناه دون قوله: (ثم ينزل الله من السماء ماء) . ب-أصناف منكري البعث : 1- صنف أنكروا المبدأ والمعاد والخالق، وإنما هي أرحام تدفع وقبور تَبْلَعُ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ جُمْهُورُ الْفَلَاسِفَةِ الدَّهْرِيَّةِ وَالْطَبَائِعِيَّةِ. 2- والصنف الثاني وهم من الدهرية، منكرون للخالق أبضاً وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ فِي كُلِّ سِتَّةٍ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يَعُودُ كُلُّ شَيْءٍ إِلَيَّ مَا كَانَ عليه وأن ذلك قد تكرر مرات لا يتناهى، وهاتان الطائفتان يعمهم قوله تَعَالَى: {وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} (2) ، ولهذا فعن السلف فيها تفسيران: الأول: أن يَمُوتُ الْآبَاءُ وَيَحْيَى الْأَبْنَاءُ هَكَذَا أَبَدًا، وَهُوَ قول الطائفة الأولى، والثاني: أَنَّهُمْ عَنَوْا كَوْنَهُمْ يَمُوتُونَ وَيُحْيَوْنَ هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَيَتَكَرَّرُ ذَلِكَ مِنْهُمْ أَبَدًا وَلَا حِسَابَ وَلَا موجد ولا معدم، وهذا قول الدورية. 3- والصنف الثَّالِثُ الدَّهْرِيَّةُ مِنْ مُشْرِكِي الْعَرَبِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ وَهُمْ مُقِرُّونَ بِالْبُدَاءَةِ وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَبُّهُمْ وخالقهم {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن   (1) هو العظم بين الإليتين في أسفل الصلب. المشكاة حديث 5521 والعَجْبُ من كل دابة ما انضم عليه الوَرِكان من أصل الذب المغروز في مؤخَّر العَجُز.. قال اللحياني ... وهو العُصْعُص. لسان العرب ص 2812. (2) الجاثية: 24. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الله} (1) ، وَمَعَ هَذَا قَالُوا: {إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الأولى وما نحن بمنشرين} (2) فأقروا بالبداءة وأنكروا البعث والمعاد. 4- والصنف الرابع ملاحدة الجهمية ومن وافقهم، وهؤلاء أَقَرُّوا بِمَعَادٍ لَيْسَ عَلَى مَا فِي الْقُرْآنِ وَلَا فِيمَا أَخْبَرَتْ بِهِ الرُّسُلُ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بَلْ زَعَمُوا أَنَّ هَذَا الْعَالَمَ يَعْدَمُ عَدَمًا مَحْضًا، وَلَيْسَ الْمَعَادُ هُوَ بَلْ عَالَمٌ آخَرُ غَيْرُهُ فَحِينَئِذٍ تَكُونُ الْأَرْضُ الَّتِي تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا وَتُخْبِرُ بِمَا عُمِلَ عَلَيْهَا مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ لَيْسَتْ هِيَ هَذِهِ، وَتَكُونُ الْأَجْسَادُ الَّتِي تُعَذَّبُ وَتُجَازَى وَتَشْهَدُ عَلَى مَنْ عَمِلَ بِهَا الْمَعَاصِي لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي أُعِيدَتْ بَلْ هي غيرها، والأبدان التي تنعم في الجنة وَتُثَابُ لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي عَمِلَتِ الطَّاعَةَ وَلَا أَنَّهَا تَحَوَّلَتْ مِنْ حَالٍ إِلَى حَالٍ بَلْ هِيَ غَيْرُهَا تُبْتَدَأ ابْتِدَاءً مَحْضًا، فَأَنْكَرُوا مَعَادَ الأبدان وزعموا أن المعاد بداءة أخرى. وهذه بعض أبيات من نونية ابن القيم رحمه الله يرد فيها على قول الجهم بانعدام هذا العالم انعداماً محضاً: وكذلك يقبض أرضه وسماء ... هـ بِيَدَيْهِ مَا الْعَدَمَانِ مَقْبُوضَانِ وَتُحَدِّثُ الْأَرْضُ الَّتِي كُنَّا بِهَا ... أَخْبَارَهَا فِي الْحَشْرِ لِلرَّحْمَنِ وَتَظَلُّ تَشْهَدُ وَهِيَ عَدْلٌ بِالَّذِي ... مِنْ فَوْقِهَا قَدْ أَحْدَثَ الثَّقَلَانِ أَفَيَشْهَدُ الْعَدَمُ الَّذِي هُوَ كَاسْمِهِ ... لَا شَيْءَ هَذَا لَيْسَ فِي الْإِمْكَانِ لَكِنْ تسوى ثم تبسط ثم تشهد ... ثم تبدل وهي كيان.. إلخ جـ-قول ابن سينا في البعث ونبذة عنه وعن عقيدته وأكبر أنصاره : ابْنَ سِينَا هُوَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ سِينَا وَاسْمُهُ الْحَسَنُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَهُوَ رَئِيسُ الْفَلَاسِفَةِ وَمُهَذِّبُ مَذْهَبِهِمْ، لَهُ كِتَابُ الْإِشَارَاتِ الَّذِي هَذَّبَ فِيهِ مَذْهَبَ أَرِسْطُو وَقَرَّبَهُ قَلِيلًا إِلَى الأديان، وكان - فيما ذكر ابن القيم رحمه الله - يقول   (1) الزخرف: 87. (2) الزخرف: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 بِقِدَمِ الْعَالَمِ وَإِنْكَارِ الْمَعَادِ وَنَفْيِ عِلْمِ الرَّبِّ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَخَلْقِهِ الْعَالِمَ وَبَعْثِهُ مَنْ فِي القبور، وكان ابن سينا هذا قد تفقه في مَذْهَبَ الْفَلَاسِفَةِ مِنْ كُتُبِ الْفَارَابِيِّ أَبِي نَصْرٍ التُّرْكِيِّ الْفَيْلَسُوفِ، وَكَانَ الْفَارَابِيُّ هَذَا قَبَّحَهُ اللَّهُ يَقُولُ بِالْمَعَادِ الرُّوحَانِيِّ لَا الْجُثْمَانِيِّ، وَيُخَصِّصُ بِالْمَعَادِ الْأَرْوَاحَ الْعَالِمَةَ لَا الْجَاهِلَةَ، وَلَهُ مَذَاهِبُ فِي ذلك يخالف بها الْمُسْلِمِينَ وَالْفَلَاسِفَةَ مِنْ سَلَفِهِ الْأَقْدَمِينَ، وَتَحَمَّلَ ذَلِكَ عَنْهُ ابْنُ سِينَا وَنَصَرَهُ، وَقَدْ رَدَّ عَلَيْهِ الْغَزَالِيُّ فِي تَهَافُتِ الْفَلَاسِفَةِ فِي عِشْرِينَ مَجْلِسًا لَهُ كَفَّرَهُ فِي ثَلَاثٍ مِنْهَا وَهِيَ قَوْلُهُ بِقِدَمِ الْعَالَمِ، وَعَدَمِ الْمَعَادِ الْجُثْمَانِيِّ، وَقَوْلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ الْجُزْئِيَّاتِ، وَبَدَّعَهُ فِي الْبَوَاقِي. قال ابن كثير: يقال أنه تاب عند الموت، فالله أعلم. أ. هـ. ومن أكبر أتباع ابن سينا وأنصار زندقته النَّصِيرُ الطُّوسِيُّ، وَاسْمُهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ويقال له الخواجا نصير الدين (1) . د-ما لا يبلى في القبر : 1- أجساد الأنبياء: فقد قال - صلى الله عليه وسلم -: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ عَلَى الْأَرْضِ أَنْ تَأْكُلَ أجساد الأنبياء) (2) . 2- أجساد الشهداء: فقد روى البخاري رحمه الله عن جابر رضي الله عنه قَالَ: (لَمَّا حَضَرَ أَحَدٌ دَعَانِي أَبِي مِنَ اللَّيْلِ فَقَالَ لِي: مَا أُرَانِي إِلَّا مَقْتُولًا فِي أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَإِنِّي لَا أَتْرُكُ بَعْدِي أَعَزَّ عَلَيَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَإِنَّ عَلَيَّ ديناً فاقض واستوص بأخواتك   (1) وهذا الزنديق هو الذي قام بتخريب بلاد الإسلام ونشر الضلالات حيث كان زيراً لهولاكو ملك التتار، وكان وراء المذابح التي حلت بالمسلمين حينذاك، ومع هذا يقول الخميني: (ويشعر الناس بالخسارة أيضاً بفقدان الخواجة نصير الدين الطوسي وأمثاله ممن قدموا خدمات جليلة للإسلام) ‍‍!! ‍‍انظر وجاء دور المجوس ج1 ص178 ط السادسة للدكتور عبد الله محمد الغريب حقظه الله. (2) صححه الألباني. انظر تصحيحه له في سلسلة الأحاديث الضعيفة ج3 (201-300) ص237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 خَيْرًا. فَأَصْبَحْنَا وَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، فَدَفَنْتُ مَعَهُ آخر في قره، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِي أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ آخَرَ فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ فَإِذَا هُوَ كيوم وضعته غير أذنه) . 3- عَجْب الذنب من كل إنسان: ففي حديث مسلم السابق عن أبي هريرة رضي الله عنه: ( ... وليس من الإنسان شيء إلا يبلى، إِلَّا عَظْمًا وَاحِدًا وَهُوَ عَجْب الذَّنَبِ، وَمِنْهُ يركب الخلق يوم القيامة) . 4- الأرواح: فالحق الذي عليه أهل السنة والجماعة أن الأرواح لا تبلى وأنها لَيْسَتْ هِيَ مُطْلَقَ حَيَاةِ الْجِسْمِ الْعَارِضَةِ بَلْ هِيَ حَقِيقَةٌ أُخْرَى مُسْتَقِلَّةٌ يَعْمُرُ الْجَسَدُ بِحُلُولِهَا فِيهِ وَيَفْسَدُ بِخُرُوجِهَا مِنْهُ، وَهِيَ النَّسَمَةُ الَّتِي يموت الإنسان بخروجها من جسده، وأن لَهَا حَقِيقَةٌ، وَأَنَّهَا تُنْفَخُ وَتُقْبَضُ وَتُصْعَدُ وَتُهْبَطُ، وأنها بعد مفارقة الجسد إما أن تنعم أو تعذب، وبعد النفخ في الصور (النفخة الأولى) تعود كُلُّ رُوحٍ إِلَى جَسَدِهَا الَّذِي كَانَتْ تَعْمُرُهُ في الدنيا (1) . أما مذهب الجهم في الروح فهو مَذْهَبُ الْفَلَاسِفَةِ الْحَائِرِينَ أَنَّ الرُّوحَ لَيْسَتْ شَيْئًا يَقُومُ بِنَفْسِهِ بَلْ عَرَضٌ، وَالْعَرَضُ فِي اصْطِلَاحِهِمْ هُوَ مَا لَا يَسْتَقِلُّ وَلَا يَسْتَقِرُّ، فَمَنْزِلَةُ الرُّوحِ عِنْدَهُمْ مِنَ الْجَسَدِ كَمَنْزِلَةِ السَّمْعِ مِنَ لسامع والبصر ن الْمُبْصِرِ، يَذْهَبُ بِذَهَابِهِ، بَلْ قَدْ يَذْهَبُ الْبَصَرُ والسمع والذات التي يقوم بها   (1) سبق أن جسد الإنسان يبلى إلا عجب الذنب ثم ينبت هذا الجسد مرة أخرى كما ينبت البقل كما سبق في الحديث، وذلك يكون بالمطر الذي ينزله الله قبل النفخة الثانية، ثم تجمع الأرواح في الصور وينفخ فيه النفخة الثانية فتطير كل روح إلى جسدها - كما ذكر المؤلف رحمه الله - وهذا بخلاف عودة الروح إلى الجسد المذكورة في حديث البراء الطويل في سؤال القبر فهي عودة إلى الجسد بعد الموت قبل أن يبلى تمهيداً للسؤال والفتنة. والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 مَوْجُودَةٌ، فَجَحَدُوا أَنْ تَكُونَ النَّفْسُ الَّتِي هِيَ الرُّوحُ شَيْئًا قَائِمًا بِنَفْسِهِ، وَأَنَّهُ يُنْفَخُ فِي الْجَنِينِ فِي بَطْنِ أُمِّهِ بَعْدَ الْأَرْبَعِينَ الثَّالِثَةِ وَأَنَّ {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي ل تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الموت ويرسل الأخرى إلى أجل مسمى} (1) وَجَحَدُوا كَوْنَهَا شَيْئًا يُسَاقُ وَيُنْزَعُ عِنْدَ الْمَوْتِ وَيُعْرَجُ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَيَفْتَحُ لَهَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ إِنْ كَانَتْ مُحْسِنَةً أَوْ تغلق دونها إن كانت مسيئة كما جحدوا أن تكون أرواح الأنبياء والمؤمنين في عليين، وأرواح الكفار في سجين. 6- الحشر: وقد ورد في ذكره وذكر صفاته كثير من الآيات والأحاديث: -قال تعالى: {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا *وَنَسُوقُ المجرمين إلى جهنم ورداً} (2) قال ابن عباس رضي الله عنهما: وفداً: ركباناً. أما الورد: الجماعة العطاش، وهو مروي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَيْضًا. -وقال تعالى: {وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} (3) . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (يحشر الناس ثلاث طرائق (4) :   (1) الزمر: 42. (2) مريم: 85: 86. (3) الإسراء: 97. (4) قال الخطابي: هذا الحشر يكون قبل قيام الساعة، تحشر الناس أحياء إلى الشام، وأما الحشر من القبور إلى الموقف فهو على خلاف هذه الصورة من الركوب على الإبل والتعاقب عليها وإنما هو على ما ورد في حديث ابن عباس في الباب (حفاة عراة مشاة) وكذا رجحه ابن حجر رحمه الله: الفتح ج11 ص 387-389. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 رغبين رَاهِبِينَ (1) ، وَاثْنَانِ عَلَى بَعِيرٍ، وَثَلَاثَةٌ عَلَى بَعِيرٍ، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير (2) ، وتحشر بقيتهم الناس تَقِيلُ مَعَهُمْ حَيْثُ قَالُوا وَتَبِيتُ مَعَهُمْ حَيْثُ بَاتُوا وَتُصْبِحُ مَعَهُمْ حَيْثُ أَصْبَحُوا وَتُمْسِي مَعَهُمْ حيث أمسوا) . -وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -. (تحشرون حفاة عراة غرلاً) - أي غير مختونين - قالت عائشة رضي الله: فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ يَنْظُرُ بعضهم إلى بعض؟ فقال: (الأمر الأشد من أن يهمهم ذلك) وفي روايات النسائي وابن أبي حاتم والترمذي (3) : {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} (4) . -وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ قَتَادَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَيْفَ يُحْشَرُ الْكَافِرُ عَلَى وَجْهِهِ؟ قَالَ: (أَلَيْسَ الَّذِي أَمْشَاهُ عَلَى الرِّجْلَيْنِ فِي الدُّنْيَا قَادِرًا عَلَى أَنْ يُمْشِيَهُ عَلَى وَجْهِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟) قَالَ قَتَادَةُ: بَلَى وَعِزَّةِ رَبِّنَا، قُلْتُ: وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَنَحْشُرُهُمْ يوم القيامة على وجههم عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زدناهم سعيراً} (5) الآيات.   (1) يحتمل أن هؤلاء عوام المؤمنين وهم من خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً فيترددون بين الخوف والرجاء وهؤلاء يحشرون مشاة، والصنف الثاني أفاضل المؤمنين يحشرون ركباناً، ويحتمل العكس فيكون الراغبون الراهبون الأبرار يحشرون ركباناً، والصنف دونهم في الفضل فيحشرون مشاة وذلك على القول بأنهم يعتقبون الإبل فلا يسلمون في المشي ويحتمل أن يكون البعير المذكور من بدائع فطرة الله حتى يقوى على ما لا يقوى عليه غيره من البعران، فيقوى على حمل العشرة معاً. انظر الفتح ج11 ص 387 - 389. (2) وإنما لم يذكر الخمسة والستة إلى العشرة إيجازاً واكتفاءً بما ذكر من الأعداد، الفتح ج11 ص387. (3) انظر صحيح سنن الترمذي حديث 2652. (4) عبس: 37. (5) الإسراء: 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 7- جمع الخلائق في الموقف وأحوالهم فيه: فنؤمن بأن الله تعالى يجمع الْخَلْقُ أَوَّلُهُمْ وَآخِرُهُمْ لِيَوْمِ الْفَصْلِ، يَوْمَ يَفْصِلُ الرحمن بين الخلائق. -قال تَعَالَى: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يوم القيامة لا ريب فيه} (1) . -وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يوم التغابن} (2) . وهذا الجمع يعم عوالم السماوات وعوالم الأرضين فيكون في الموقف الروح والملائكة مع غيرهم. وقد وصف الله تعالى موقف القيامة بما فيه من عظمة وجلال وشدة في آيات كثيرة. -فقال تعالى: {أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ*يوم بقوم الناس لرب العالمين} (3) . -وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لدى الحناجر كاظمين} (4) فالقلوب زائلة عن أمكانها، والأبصار شاخصة من هول ذلك اليوم. قَالَ قَتَادَةُ: وَقَفَتِ الْقُلُوبُ فِي الْحَنَاجِرِ مِنَ الْخَوْفِ، فَلَا تَخْرُجُ وَلَا تَعُودُ إِلَى أَمَاكِنِهَا. ومعنى كاظمين: أي ساكتين لا يتكلم إِلَّا بِإِذْنِهِ، {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وقال صوابا} (5) . وقال ابن جريح: باكين. وقال البغوي: مكروببن مُمْتَلِئِينَ خَوْفًا وَجَزَعًا وَالْكَظْمُ تَرَدُّدُ الْغَيْظِ وَالْخَوْفِ والحزن في القلب حتى يضيق به.   (1) النساء: 87. (2) التغابن: 9. (3) المطففين: 4-6. (4) غافر: 18. (5) النبأ: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 وذلك كله {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} (1) . - {لكل امريء منهم يومئذ شأن يغنيه} (2) ، لا يسأل القريب عن قريبه وَهُوَ يَرَاهُ فِي أَسْوَأِ الْأَحْوَالِ فَتَشْغَلُهُ نَفْسُهُ عن غيره، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: يَعْرِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَيَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَفِرُّ بعضهم من بعض بعد ذلك. قَالَ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أنساب بينهم يومئذ ولا هم يتساءلون} (3) . فهو موقف تتقطع فيه علائق الأنساب، وينعجم فيه البليغ في المقال حتى أن أفصح الناس وأعلمهم وأفضلهم لا يُسمع له صوت ولا يتكلم أحد إلا بإذن الله عز وجل. -قال تَعَالَى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بإذنه} (4) . -وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وقال صواباً} (5) . -وَقَالَ تَعَالَى: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا} (6) قال ابن عباس رضي الله عنهما: الهمس الصوت الخفي، وعنه: تحريك الشفاه من غير منطق، وعنه هو وعكرمة ومجاهد وَغَيْرِهِمْ: الْهَمْسُ نَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْمَحْشَرِ كَأَخْفَافِ الْإِبِلِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: هَمْسًا: سِرُّ الحديث ووطء الأقدام. فجمع بين القولين.   (1) المعارج: 4. (2) عبس: 37. (3) المؤمنون: 101. (4) هود: 105. (5) النبأ: 38. (6) طه: 108. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 - وقال تعالى أيضا في وصف هذا الموقف العظيم وذلك اليوم الرهيب: (ويخافون يومًا كان شره مستطيرًا) (1) . - وقال تعالى: (إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا) (2) أي: شديدًا طويل الشدة والبلاء. وأما من السنة: - فلأحمد عن المقداد رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قَدْرَ مِيل (3) أَوْ مَيْلَيْنِ، قَالَ: فَتُصْهِرُهُمُ الشَّمْسُ فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ وَمِنْهُمْ من يأخذه إلى ركبته، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يلجمه إلجامًا" رواه مسلم والترمذي. - وفي الصحيح من حديث أبي هررة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: "يَعْرَقُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الْأَرْضِ سَبْعِينَ ذراعًا ويلجمهم حتى يبلغ آذانهم". 8- اللقاء: أ- بعض نصوص الكتاب في اللقاء : أ- قال تَعَالَى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وأنهم إليه راجعون) (4) .   (1) الإنسان: 7. (2) الإنسان: 10. (3) قال سُليم بن عامر -أحد رواة الحديث- فوالله ما أدري ما يعني بالميل أمسافة الأرض أم الميل الذي تكتحل به العين. انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج 17 ص 196. (4) البقرة: 46. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 2- وقال تعالى: (لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون) (1) . 3- وَقَالَ تَعَالَى: (يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إلى ربك كدحًا فملاقيه) (2) . 4- وَقَالَ تَعَالَى: (فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يوم يلقونه) (3) . ب- بعض نصوص السنة في اللقاء : 1- فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "مَنْ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ أَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ وَمَنْ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ كَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ" فَقُلْتُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ أَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ؟ فَكُلُّنَا نَكْرَهُ الْمَوْتَ. فَقَالَ: لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا بُشِّرَ بِرَحْمَةِ اللَّهِ وَرِضْوَانِهِ وَجَنَّتِهِ أَحَبَّ لِقَاءَ اللَّهِ فَأَحَبَّ اللَّهُ لِقَاءَهُ، وَإِنَّ الْكَافِرَ إِذَا بُشِّرَ بِعَذَابِ اللَّهِ وَسَخَطِهِ كَرِهَ لِقَاءَ اللَّهِ وَكَرِهَ اللَّهُ لِقَاءَهُ -وَفِي رِوَايَةٍ- والموت قبل لقاء الله". 2- وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ هَلْ نَرَى رَبَّنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ قَالَ: "هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ فِي الظَّهِيرَةِ لَيْسَتْ فِي سَحَابَةٍ"؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: "فَهَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ لَيْسَ فِي سَحَابَةٍ"؟ قَالُوا: لَا، قَالَ: "فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ رَبِّكُمْ إِلَّا كَمَا تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ أَحَدِهِمَا"؟ قَالَ: "فَيَلْقَى الْعَبْدَ فَيَقُولُ: أَيْ فُل (4) أَلَمْ أُكْرِمْكَ وَأُسَوِّدْكَ وَأُزَوِّجْكَ وَأُسَخِّرْ لَكَ الْخَيْلَ وَالْإِبِلَ وَأَذَرْكَ تَرْأَسُ وَتَرْبَعُ؟ فَيَقُولُ: بَلَى قَالَ: فيقول: أظننت أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كما نسيتني. ثم يلقى الثاني فيقول: أي فل ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟   (1) الأنعام: 154. (2) الإنشقاق: 6. (3) التوبة: 77. (4) أي: فلان. انظر المشكاة حديث 5555. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 فيقول: بلى أي رب، فيقول: أظننت أَنَّكَ مُلَاقِيَّ؟ فَيَقُولُ: لَا، فَيَقُولُ: فَإِنِّي أَنْسَاكَ كَمَا نَسِيتَنِي، ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ لَهُ مثل ذلك، فيقول: يارب آمَنْتُ بِكَ وَبِكِتَابِكَ وَبِرُسُلِكَ وَصَلَّيْتُ وَصُمْتُ وَتَصَدَّقْتُ ويثني بخير ما استطاع، فيقول: ههنا إِذًا قَالَ: ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: الْآنَ نَبْعَثُ شاهداً عَلَيْكَ. وَيَتَفَكَّرُ فِي نَفْسِهِ: مَنِ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيَّ؟ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ وَلَحْمِهِ وعظامه: انطقي. فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعلمه، وذلك ليعذر من نفسه، وذلك المنافق، وذلك الذي يسخط الله عليه) . 9- العرض والحساب: أ-المراد بالعرض والحساب : الْعَرْضُ لَهُ مَعْنَيَانِ: مَعْنَى عَامٌّ وَهُوَ عَرْضُ الْخَلَائِقِ كُلِّهِمْ عَلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ بَادِيَةٌ لَهُ صَفَحَاتُهُمْ لَا تَخْفَى عَلَيْهِ مِنْهُمْ خَافِيَةٌ. وهذا يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ وَمَنْ لَا يُحَاسَبُ. وَالْمَعْنَى الثَّانِي عَرْضُ مَعَاصِي الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِمْ وتقريرهم بها وسترها عليهم ومغفرتها لهم (1) . وأما الحساب فهو المناقشة. ب-بعض الآيات والأحاديث في العرض والحساب : -قال تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} (2) . -وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره} (3) .   (1) وذلك هو الحساب اليسير، كما سيأتي في الحديث إن شاء الله تعالى. (2) الحاقة: 18. (3) الزلزلة: 6-8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 -قال تَعَالَى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} (1) . -وعن ابن عباس رضي الله عنهما. {فوربك لنسألنهم أجمعين * عما كانوا يعملون} قَالَ: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ ولا جان} (2) قال: لا يسألهم هل علمتم كَذَا لِأَنَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ يَقُولُ: لِمَ عَمِلْتُمْ كَذَا وَكَذَا؟ -وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَّا هَلَكَ) ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يسيراً} (3) ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّمَا ذَلِكَ الْعَرْضُ وَلَيْسَ أَحَدٌ يُنَاقَشُ الْحِسَابَ يوم القيامة إلا عذب) . -وفيه عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَسَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ بَيْنَ اللَّهِ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ مِنْ عَمَلِهِ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النار ولو بشق تمرة) . -وَفِيهِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: (يَدْنُو الْمُؤْمِنُ مِنْ رَبِّهِ حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كنفه (4) فيقرر بِذُنُوبِهِ: تَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا؟ يَقُولُ: أَعْرِفُ، يَقُولُ: رَبِّ أَعْرِفُ، مَرَّتَيْنِ. فَيَقُولُ: أَنَا سَتَرْتُهَا فِي الدنيا وأغفر لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ تُطْوَى صَحِيفَةُ حَسَنَاتِهِ، وَأَمَّا الآخرون أو الكفار فينادي على رؤوس الأشهاد: هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين) .   (1) الحجر: 92، 93. (2) الرحمن: 39. (3) الإنشقاق: 7، 8. (4) أي حفظه وستره. انظر المشكاة 5551. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 -وَفِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا تَزُولُ قَدَمَا عَبْدٍ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، وَعَنْ علمه فيما عمل فيه، وعن ماله من أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَا أبلاه) (1) . 10- المجيء بالكتاب والأشهاد، وشهادة الأعضاء والجوارح: أ-وضع الكتاب ومجيء الأشهاد : الكتاب هو كتاب الأعمال الذي فيه الجليل والحقير. -قال تعالى حاكياً مقالة المجرمين: {ما لهذا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أحصاها} (2) . -وَقَالَ تَعَالَى: {وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء} (3) قال عطاء: أي من الملائكة الحفظة على أعمال العباد. -وَقَالَ تَعَالَى: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا} (4) . -وقال تعالى: {وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا برهانكم} (5) . قَالَ الْبَغَوِيُّ: يَعْنِي رَسُولَهُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ، وهو قول مجاهد. -وَقَالَ تَعَالَى: {وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وشهيد} (6) . روى ابن جرير عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه خطب فقرأ هذه الآية   (1) صحيح. صحيح الجامع الصغير 7177. (2) الكهف: 49. (3) الزمر: 69. (4) النساء: 41. (5) القصص: 75. (6) ق: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 {وجاءت كل نفس معها سائق وشهيد} فَقَالَ: سَائِقٌ يَسُوقُهَا إِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَشَاهِدٌ يَشْهَدُ عَلَيْهَا بِمَا عَمِلَتْ، وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ وَقَتَادَةُ وَابْنُ زَيْدٍ. وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: السَّائِقُ الْمَلِكُ، وَالشَّهِيدُ الْعَمَلُ وَكَذَا قَالَ الضَّحَّاكُ وَالسُّدِّيُّ. وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: السَّائِقُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ، وَالشَّهِيدُ الإنسان نفسه يشهد على نفسه. -وقال مجاهد في قوله تعالى: {يوم يقوم الأشهاد} يعني: الملائكة، قال: يشهدون للرسل بالتبليغ وعلى الكفار بالتكذيب. -وروى البخاري عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يُدْعَى نُوحٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ وسعديك يارب، فَيَقُولُ: هَلْ بَلَّغْتَ؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ. فَيُقَالُ لِأُمَّتِهِ: هَلْ بَلَّغَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ: مَا أَتَانَا مِنْ نَذِيرٍ. فَيَقُولُ: مَنْ يَشْهَدُ لَكَ؟ فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأُمَّتُهُ. فَتَشْهَدُونَ أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَ، وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (1) والوسط العدل) . ب-شهادة الأعضاء والجوارح : -قَالَ تَعَالَى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} (2) . -وَقَالَ تَعَالَى: {وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يعملون * وقالوا   (1) البقرة: 143. (2) يس: 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مما تعلمون * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ من الخاسرين} (1) . وللبخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه في قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ} الآية قال: كَانَ رَجُلَانِ مِنْ قُرَيْشٍ وخَتَن (2) لَهُمَا مِنْ ثَقِيفٍ أَوْ رَجُلَانِ مِنْ ثَقِيفٍ وَخَتَنٌ لَهُمَا مِنْ قُرَيْشٍ فِي بَيْتٍ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَتَرَوْنَ أَنَّ اللَّهَ يَسْمَعُ حَدِيثَنَا؟ قَالَ بَعْضُهُمْ: يَسْمَعُ بَعْضَهُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَئِنْ كَانَ يَسْمَعُ بَعْضَهُ لَقَدْ يَسْمَعُ كُلَّهُ. فَأُنْزِلَتْ {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ} . -وروى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَتَدْرُونَ مما أَضْحَكُ؟) قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مِنْ مُجَادَلَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ: رَبِّ أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظلم؟ فيقول: بلى. فيقول. فإني لَا أُجِيزُ عَلَى نَفْسِي إِلَّا شَاهِدًا مِنِّي. قال: فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً وبالكرام الكاتبين شهوداً. قال: فيختم على فيه، فيقال لأركانه: انطقي. قال: فتنطق بأعماله. قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام. قال: فيقول: بعداً لكُنّ وسحقاً فعنكن كنت أناضل.   (1) فصلت: 19-23. (2) خَتَن الرجل: المتزوج بابنته أو بأخته، وقال ابن الأعرابي: الختن أبو امرأة الرجل، وأخو امرأته، وكل من كان من قبل امرأته، وقال ابن المُظَفَّر: الخَتَن: الصهر. لسان العرب ص: 1102. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 -وفي حديث القيامة الطويل (1) عند مسلم والنسائي وأبي دَاوُدَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ (ثُمَّ يَلْقَى الثَّالِثَ فَيَقُولُ: مَا أَنْتَ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَبْدُكَ آمَنْتُ بِكَ وَبِنَبِيِّكَ وَبِكِتَابِكَ وَصُمْتُ وَصَلَّيْتُ وَتَصَدَّقْتُ وَيُثْنِي بِخَيْرٍ مَا اسْتَطَاعَ. قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: أَلَا نَبْعَثُ عَلَيْكَ شَاهِدَنَا؟ قَالَ: فَيُفَكِّرُ فِي نَفْسِهِ مَنِ الَّذِي يَشْهَدُ عَلَيْهِ؟ فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ وَيُقَالُ لِفَخِذِهِ: انْطِقِي، قَالَ: فتنطق فخذه ولحمه وعظمه بِمَا كَانَ يَعْمَلُ، وَذَلِكَ الْمُنَافِقُ، وَذَلِكَ لِيُعْذِرَ مِنْ نَفْسِهِ، وَذَلِكَ الَّذِي يَسْخَطُ اللَّهُ تَعَالَى عليه) . 11- نشر صحائف الأعمال وأخذ أهلها لها باليمين أو الشمال: -قال تَعَالَى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ * خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ * إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ على طعام المسكين فليس له اليوم ههنا حَمِيمٌ وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ * لَا يأكله إلا الخاطئون} (2) . قال ابن السائب في قوله {وأما من أوتي كتابه بشماله} : تُلْوَى يَدُهُ الْيُسْرَى خَلْفَ ظَهْرِهِ ثُمَّ يُعْطَى كتابه. -وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إلى أهله   (1) انظر: (بعض نصوص السنة في اللقاء) ص 241. (2) الحاقة: 18-37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} (1) . قال الْبَغَوِيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كتابه وراء ظهره} : فَتُغَلُّ يَدُهُ الْيُمْنَى إِلَى عُنُقِهِ، وَتُجْعَلُ يَدُهُ الشِّمَالُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ، فَيُؤْتَى كِتَابَهُ بِشَمَالِهِ مِنْ وراء ظهره. -وقال تَعَالَى: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} (2) . قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: طَائِرُهُ هُوَ مَا طَارَ عَنْهُ مِنْ عَمَلِهِ من خير وشر يلزم به ويجازى عليه. 12- الميزان: أ-بعض نصوص الكتاب والسنة في الميزان : 1- قال تَعَالَى: {وَنَضَعُ الْمُوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} (3) . 2- قال تَعَالَى: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ} (4) . 3- وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَأَلْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يشفع لي   (1) الإنشقاق: 6-15. (2) الإسراء: 13، 14. (3) الأنبياء: 47. (4) الأعراف: 8، 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَ: (أَنَا فَاعِلٌ) - يَعْنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ - قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَيْنَ أَطْلُبُكَ؟ قَالَ: (اطْلُبْنِي أَوَّلَ مَا تَطْلُبُنِي عَلَى الصراط) قلت: فإن لم ألقك عند الصِّرَاطِ؟ قَالَ: (فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الْمِيزَانِ) قُلْتُ: فَإِنْ لَمْ أَلْقَكَ عِنْدَ الْمِيزَانِ؟ قَالَ: (فَاطْلُبْنِي عِنْدَ الحوض فإني لا أخطيء هذه الثلاث المواطن) . رواه الترمذي (1) . ب-الأقوال في الموزون : 1- أنه الأعمال نفسها، هي التي توزن فتجسم أفعال العباد وتوضع في الميزان. ذَكَرَهُ الْبَغَوِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما. ويدل على هذا حديث أبي هريرة فِي الصَّحِيحِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (كَلِمَتَانِ حَبِيبَتَانِ إِلَى الرَّحْمَنِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ، سُبْحَانَ الله العظيم) . وفيه عن النواس بن سمعان قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يقول: (يؤتى بالقرآن   (1) صحيح. صحيح سنن الترمذي 1981، وانظر تخريج المشكاة 5595 وهذا الحديث فيه إيذان بأن الميزان بعد الصراط، ويدل على أن الحوض بعد الصراط واستشكل بما ثبت أن جماعة يدفعون = =عن الحوض بعد أن يكادوا يردون ويذهب بهم إلى النار، ووجه الإشكال أن الذي يمر على الصراط إلى أن يصل إلى الحوض يكون قد نجا من النار، فكيف يرد إليها؟ وأجاب ابن حجر رحمه الله بأن يمكن أن يحمل على أنهم يقربون من الحوض بحيث يرونه ويرون النار فيدفعون إلى النار قبل أن يخلصوا من بقية الصراط. انظر تحفة الأحوذي ج7 ص120، 121 ونقل في بلوغ الأماني عن ابن كثير في النهاية: (والمقصود أن ظاهر هذا الحديث يقتضي أن الحوض بعد الصراط وكذلك الميزان، وهذا لا أعلم به قائلاً اللهم إلا أن يكون المراد بهذا الحوض حوضاً آخر يكون بعد الجواز على الصراط كما جاء في بعض الأحاديث ويكون ذلك حوضاً ثابتاً لا يذاد عنه أحد..) بلوغ الأماني ج24 ص132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ تقدمه سورة البقرة وآل عمران..) الحديث. قال التِّرْمِذِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ عند أهل العلم أنه يجيء ثواب قراءته، كذا فسر بعض أهل العلم هذا الحديث وما يشبه هذا من الأحاديث أَنَّهُ يَجِيءُ ثَوَابُ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ. وَفِي حَدِيثِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا يَدُلُّ عَلَى مَا فَسَّرُوا إِذْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَأَهْلِهِ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ بِهِ فِي الدُّنْيَا) (1) فَفِي هذا دلالة أنه يجيء ثواب العمل. أ. هـ. ولا مانع من كون الآتي الْعَمَلَ نَفْسَهُ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ الْحَدِيثِ، فَأَمَّا إِنَّ الْآتِيَ هُوَ كَلَامُ اللَّهِ نَفْسُهُ فَحَاشَا وَكَلَّا وَمَعَاذَ اللَّهِ، لِأَنَّ كَلَامَهُ تَعَالَى صِفَتُهُ لَيْسَ بِمَخْلُوقٍ، وَالَّذِي يُوضَعُ فِي الْمِيزَانِ هُوَ فعل العبد وعمله. 2- أَنَّ صَحَائِفَ الْأَعْمَالِ هِيَ الَّتِي تُوزَنُ. وَيَدُلُّ على ذلك ما رواه الْإِمَامُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -: (إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلًا مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فيُنْشَرُ لَهُ تِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ سِجِلًّا، كُلُّ سِجِلٍّ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا، أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ قَالَ: لَا يارب. قَالَ: أَفَلَكَ عُذْرٌ أَوْ حَسَنَةٌ؟ قَالَ: فَبُهِتَ الرجل، فيقول: لا يارب. فَيَقُولُ: بَلَى إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً وَاحِدَةً لَا ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ، فَيُخْرِجُ لَهُ بِطَاقَةً فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -. فيقول: أحضروه. فيقول: يارب مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلَّاتِ. فَيَقُولُ: إِنَّكَ لَا تُظْلَمُ. قَالَ فَتُوضَعُ السِّجِلَّاتُ فِي كِفَّةٍ، وَالْبِطَاقَةُ فِي كِفَّةٍ. قَالَ: فَطَاشَتِ السِّجِلَّاتُ وثقلت البطاقة. قال: وَلَا يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ تَعَالَى شَيْءٍ (2) .   (1) انظر الحديث بهذا الفظ عند الترمذي رحمه الله. صحيح سنن الترمذي، حديث 2312. (2) صحيح. صحيح الجامع الصغير 1772، الصحيحة 135، تخريج المشكاة 5559. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 3- أن الموزون هو العامل نفسه: ويدل على ذلك ما رواه الإمام أحمد رحمه الله عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَعِدَ شَجَرَةً يَجْتَنِي الكَبَاث (1) ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَعْجَبُونَ مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ هُمَا فِي الْمِيزَانِ أَثْقَلُ مِنْ أُحُدٍ) (2) . وَرَوَى الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عند الله جناح بعوضة (3) ، وقال اقرءوا: {فلا نقيم لهم يوم القيامة وزناً} (4) . وَالَّذِي اسْتُظْهِرَ مِنَ النُّصُوصِ -وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّ الْعَامِلَ وَعَمَلَهُ وَصَحِيفَةَ عَمَلِهِ، كُلُّ ذَلِكَ يُوزَنُ لِأَنَّ الْأَحَادِيثَ الَّتِي فِي بَيَانِ الْقُرْآنِ قَدْ وَرَدَتْ بِكُلٍّ مِنْ ذَلِكَ، وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَهَا، ويدل على ذلك مَا رَوَاهُ أَحْمَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو فِي قِصَّةِ صَاحِبِ الْبِطَاقَةِ بِلَفْظِ: قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (تُوضَعُ الْمَوَازِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُؤْتَى بِالرَّجُلِ فَيُوضَعُ فِي كِفَّةٍ، وَيُوضَعُ مَا أُحْصِيَ عَلَيْهِ فَيُمَايِلُ بِهِ الْمِيزَانُ، قَالَ: فَيُبْعَثُ به النَّارِ. قَالَ: فَإِذَا أَدْبَرَ إِذَا صَائِحٌ مِنْ   (1) النضيج من ثمر الأراك. (النهاية) . (2) قال في بلوغ الأماني (أورده الهيثمي وقال: رواه أحمد وأبو يعلى والطبراني ورجالهم رجال الصحيح غير أم موسى وهي ثقة. أ. هـ. وقال الحافظ في الإصابة: أخرجه أحمد بسند حسن) بلوغ الأماني ج22 ص212. (وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: إسناده صحيح، حديث 920، مكتب) . (3) ويظهر من هذا ومما قاله - صلى الله عليه وسلم - في ابن مسعود في الحديث السابق وما سيأتي في اللفظ الآخر لحديث البطاقة إن شاء الله تعالى أن العامل يوضع في كفة الحسنات والله أعلم. (4) الكهف: 105. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 عِنْدِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ: لَا تُعَجِّلُوا فإنه قد بقي له، فيؤتى ببطاقة فيها لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَتُوضَعُ مَعَ الرَّجُلِ في كفة حتى يميل به الميزان) (1) . وهذا الحديث يدل على أن العبد وحسناته وصحيفتها كل ذلك يكون فِي كِفَّةٍ، وَسَيِّئَاتُهُ مَعَ صَحِيفَتِهَا فِي الْكِفَّةِ الأخرى. 13- الصراط: أ-بعض الآيات والأحاديث في الصراط : 1- قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً} (2) . قال قَتَادَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا} هُوَ الْمَمَرُّ عَلَيْهَا. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زيد بن أسلم: ورود المسلمين على الْمُرُورُ عَلَى الْجِسْرِ بَيْنَ ظَهْرَانَيْهَا وَوُرُودُ الْمُشْرِكِينَ أن يدخلوها. وروى الإمام أحمد الله عن ابن مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا واردها} قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَرِدُ النَّاسُ كُلُّهُمْ ثُمَّ يَصدُرون عَنْهَا بِأَعْمَالِهِمْ) (3) ، وَقَدْ رَوَاهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْهُ مَوْقُوفًا قال: (يرد الناس جميعاً   (1) فيه ابن لهيعة. قال في التقريب: صدوق اختلط بعد احتراق كتبه ورواية ابن المبارك وابن وهب (وهما غير الرواي عنه لهذا الحديث) عنه أعدل من غيرهما. وقال في بلوغ الأماني: أورده الهيثمي في مجمع الزوائد وقال: رواه أحمد وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجال الصحيح انظر بلوغ الأماني من أسرار ترتيب الفتح الرباني ج24 ص145. (وقال الشيخ أحمد شاكر: إسناده صحيح، حديث 7066، مكتب) . (2) مريم: 71، 72، وقال في بلوغ الأماني: احتج بهذا القائلون بأن معنى الورود الدخول للكل لأنه قال: {ونذر} ولم يقل: (وندخل) . بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني ج18 ص209. (3) صحيح. صحيح الجامع الصغير 7937، وصدره الألباني في الصحيحة 311 بقوله: (كل الناس يدخل النار) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الصِّرَاطِ بِأَعْمَالِهِمْ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ مِثْلَ الْبَرْقِ، ومنهم من يمر مثل الريح..) الحديث، فهذا على القول بأن ورود الناس بالنسبة للمؤمنين هو المرور عليها على الصراط. وهناك من فسر ورود المؤمنين بدخولهم فيها وتكون برداً عليهم، فعن أَبِي سُمَيَّةَ قَالَ: اخْتَلَفْنَا فِي الْوُرُودِ، فَقَالَ بَعْضُنَا: لَا يَدْخُلُهَا مُؤْمِنٌ، وَقَالَ بَعْضُنَا: يَدْخُلُونَهَا جَمِيعًا. ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا. فَلَقِيتُ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّا اختلفنا في الورود، فقال: يردونها جميعاً. وتفسير الورود بالدخول مروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما وأيد قوله بقول الحق تبارك وتعالى: {يقدم قومه (1) يوم القيامة فأوردهم النار} (2) ، وقوله: {ونسوق المجرمين إلى جهنم ورداً} (3) ، وقوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جهنم أنتم لها واردون..} (4) فالورود في ذلك كله الدخول (5) .   (1) أي فرعون لعنه الله. (2) هود: 98. (3) مريم: 86. (4) الأنبياء: 98. (5) وذكر المؤلف رحمه الله حديث جابر مرفوعاً: (لَا يَبْقَى بَرٌّ وَلَا فَاجِرٌ إِلَّا دَخَلَهَا فتكون على المؤمنين بَرْدًا وَسَلَامًا كَمَا كَانَتْ عَلَى إِبْرَاهِيمَ حَتَّى إِنَّ لِلنَّارِ ضَجِيجًا مَنْ بَرْدِهِمْ؟، ثُمَّ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَيَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا) والحديث ضعفه الألباني (ضعيف الجامع الصغير 6169) وأوله: الورود الدخول. وقال الشيخ أحمد البنا رحمه الله في بلوغ الأماني: أورده الهيثمي وقال: رواه أحمد ورجاله ثقات، قال: ولجابر في الصحيح في الورود شيء موقوف غير هذا. (بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني ج18 ص209) ورجح الشنقيطي رحمه الله أن المراد بالورود في الآية الدخول، وذكر فيها أربعة أقوال. انظر أضواء البيان ج4 ص376- 383، وفي الفتاوى لابن تيمية رحمه الله أن المراد بالورود المذكورة في الآية هو المرور على الصراط. (ج4 ص279) ، ومن استعمال الورود في غير الدخول قوله تعالى: {ولما ورد ماء مدين} [القصص: 23] ، وقال النووي رحمه الله: والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط. (صحيح مسلم بشرح النووي: 16/58) ..وقال شارح الطحاوية: الأظهر والأقوى أنه المرور على الصراط، قال تعالى: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثيًّا} وفي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (والذي نفسي بيده لا يلج النار أحد بايع تحت الشجرة) قالت حفصة: فقلت: يا رسول الله أليس الله يقول: {وإن منكم إلا واردها} فقال: (ألم تسمعيه قال: {ثم ننجي الذين اتقوا ونذر الظالمين فيها جثياً} أشار - صلى الله عليه وسلم - إلى أن ورود النار لا = =يستلزم دخولها، وأن النجاة من الشر لا تستلزم حصوله، بل تستلزم انعقاد أسبابه، فمن طلبه عدوه ليهلكوه ولم يتمكنوا منه يقال: نجاه الله منهم، ولهذا قال الله تعالى: {ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً} [هود: 95] ولم يكن العذاب أصابهم ولكن أصاب غيرهم لولا ما خصهم الله به من أسباب النجاة لأصابهم ما أصاب أولئك.. (شرح الطحاوية ص471) . وحديث الصحيح المذكور رواه مسلم في فضائل الصحابة، باب من فضائل أصحاب الشجرة. وانظر شرح النووي (16/58) وقال ابن باز حفظه الله: بأن المراد بالورود المرور على الصراط. الفتاوى الإسلامية ج1 ص15، 16 عن الدّعوة 919. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 2- وَقَالَ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ... } (1) عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله تعالى: {يسعى نورهم بين أيديهم} قَالَ: عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ يَمُرُّونَ عَلَى الصِّرَاطِ. منهم من نوره مثل الجبل ن ومنهم من نوره في إيهامه يتقد مرة ويطفأ مرة.   (1) الحديد 12، 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 3- وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا يَمُوتُ لِأَحَدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ فَتَمَسَّهُ النَّارُ إِلَّا تَحِلَّةَ الْقَسَمِ) قَالَ الزُّهْرِيُّ: كَأَنَّهُ يُرِيدُ هَذِهِ الْآيَةَ {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى ربك حتماً مقضياً} (1) قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ: قَسَمًا وَاجِبًا. 4- وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَيْضًا مَرْفُوعًا من حديث الطَّوِيلِ فِي الرُّؤْيَةِ وَالشَّفَاعَةِ وَفِيهِ: (وَيُضْرَبُ الصِّرَاطُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ فَأَكُونُ أَنَا وَأُمَّتِي أَوَّلَ من يجيز، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ إِلَّا الرُّسُلُ، وَدَعْوَى الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ، وَفِي جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: نَعَمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ مَا قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، تَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمُ الْمُوبَقُ بِعَمَلِهِ وَالْمُوثَقُ بِعَمَلِهِ وَمِنْهُمُ الْمُخَرْدَلُ أَوِ الْمُجَازَى أَوْ نَحْوُهُ) الْحَدِيثَ. 5- وَفِيهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ حَدِيثِهِ الطَّوِيلِ فِي ذَلِكَ مَرْفُوعًا وَفِيهِ: (ثُمَّ يُؤْتَى بِالْجِسْرِ فَيُجْعَلُ بَيْنَ ظَهْرَيْ جَهَنَّمَ) . قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الْجِسْرُ؟ قَالَ: (مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، عَلَيْهِ خَطَاطِيفُ وَكَلَالِيبُ وَحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ تَكُونُ بِنَجْدٍ يُقَالُ لَهَا السَّعْدَانُ، يَمُرُّ الْمُؤَمَّنُ عَلَيْهَا كَالطَّرْفِ وَكَالْبَرْقِ وَكَالرِّيحِ وَكَأَجَاوِيدِ الْخَيْلِ وَالرِّكَابِ فناجٍ مُسَلَّمٌ، وناجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا) الْحَدِيثَ. 6- وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَنَسٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ الله عنهما أن رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (آخِرُ مَنْ يدخل الجنة رجل فهو يمشي مرة يكبو مرة وتسعفه النار مرة، فإذا ما جاوزوها الْتَفَتَ إِلَيْهَا فَقَالَ: تَبَارَكَ الَّذِي نَجَّانِي مِنْكِ لَقَدْ أَعْطَانِي اللَّهُ شَيْئًا مَا أَعْطَاهُ أَحَدًا من الأولين والآخرين) الحديث.   (1) مريم: 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 7- وفي صحيح مسلم أيضاً عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَحُذَيْفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي حَدِيثِ اسْتِفْتَاحِ الْجَنَّةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُطَوَّلًا وَفِيهِ: (وَتُرْسَلُ الْأَمَانَةُ والرحمن فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ يَمِينًا وَشِمَالًا، فَيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كالبرق. قال: قلت: بأبي وَأُمِّي أَيُّ شَيْءٍ كَمَرِّ الْبَرْقِ؟ قَالَ: أَلَمْ تَرَوْا إِلَى الْبَرْقِ كَيْفَ يَمُرُّ وَيَرْجِعُ فِي طرقة عين، ثم كمر الريح. ثُمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وَتَشُدُّ الرِّجَالُ (1) تَجْرِي بِهِمْ أَعْمَالُهُمْ، قَالَ: وَنَبِيُّكُمْ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَائِمٌ عَلَى الصِّرَاطِ يَقُولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حَتَّى تَعْجِزَ أَعْمَالُ الْعِبَادِ حَتَّى يَجِيءَ الرَّجُلُ فَلَا يَسْتَطِيعُ السَّيْرَ إِلَّا زِحَافًا (2) . قَالَ: وَفِي حافتي الصراط كلاليب معلقة بأمور مَأْمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَمَخْدُوشٌ نَاجٍ وَمَكْدُوسٌ فِي النَّارِ وَالَّذِي نَفْسُ أَبِي هُرَيْرَةَ بيده إن قعر جَهَنَّمَ لَسَبْعُونَ خَرِيفًا) . 8- وَفِيهِ أَيْضًا فِي بَعْضِ طرق حديث أبي سعيد المتقدم، قال سَعِيدٍ: (بَلَغَنِي أَنَّ الْجِسْرَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ وَأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ) . 9- وَفِيهِ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ أَنَّهُ سَمِعَ جَابِرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَسْأَلُ عَنِ الْوُرُودِ - الْحَدِيثَ - وَفِيهِ رُؤْيَةُ اللَّهِ تَعَالَى: (فَيَتَجَلَّى لَهُمْ يَضْحَكُ، قَالَ: فَيَنْطَلِقُ بِهِمْ وَيَتْبَعُونَهُ وَيُعْطَى كُلُّ إِنْسَانٍ (3) مُنَافِقٍ أَوْ مُؤْمِنٍ - نُورًا ثُمَّ يَتَّبِعُونَهُ وَعَلَى جِسْرِ جَهَنَّمَ كَلَالِيبُ وَحَسَكٌ تَأْخُذُ مَنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، ثُمَّ يُطْفَأُ نُورُ الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ يَنْجُو المؤمنين فَتَنْجُو أَوَّلُ زُمْرَةٍ وُجُوهُهُمْ كَالْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ سبعون ألفاً لا يحاسبون) وذكر الحديث. ب-منكرو الصراط : وَقَدْ أَنْكَرَ الصِّرَاطَ وَالْمُرُورَ عَلَيْهِ أَهْلُ الْبِدْعَةِ والهوى من الخوارج ومن المعتزلة،   (1) في صحيح مسلم (وشَدّ الرحال) (شرح النووي 3/72) . (2) (زحفاً) . المصدر السابق. (3) في صحيح مسلم: (ويعطي كل إنسان منهم) (شرح النووي 3/48) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وَتَأَوَّلُوا الْوُرُودَ بِرُؤْيَةِ النَّارِ لَا أَنَّهُ الدُّخُولُ وَالْمُرُورُ عَلَى ظَهْرِهَا، وَذَلِكَ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ مَنْ دَخَلَ النَّارَ لَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَلَوْ بِالْإِصْرَارِ عَلَى صَغِيرَةٍ، فَخَالَفُوا الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ وَرَدُّوا الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي الْوُرُودِ وَالْمَقَامِ الْمَحْمُودِ وَالشَّفَاعَةِ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِيمَا رَوَى ابْنُ عُيَيْنَةَ عَنْ عَمْرِو ابن دِينَارٍ أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ مَارَى ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا فِي الْوُرُودِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: هُوَ الدُّخُولُ. وقال نافع: ليس الورود الدخول. فتلا ابن عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أنتم لها واردون} (1) أَدَخَلَهَا هَؤُلَاءِ أَمْ لَا؟ ثُمَّ قَالَ: يَا نَافِعُ، أَمَا وَاللَّهِ أَنْتَ وَأَنَا سَنَرِدُهَا وَأَنَا أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَنِي اللَّهُ مِنْهَا، وَمَا أَرَى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يُخْرِجَكَ مِنْهَا بِتَكْذِيبِكَ. 14- الاقتصاص من الظالم للمظلوم: -روى البخاري رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهَا فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، مِنْ قَبْلِ أَنْ يُؤْخَذَ لِأَخِيهِ مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ من سيئات أخيه فطرحت عليه) . -وَلَهُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم -: (يخلص المؤمنون من النار فيحسبون عَلَى قَنْطَرَةٍ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، فَيَقُصُّ لِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ مَظَالِمَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ فِي الدُّنْيَا حَتَّى إِذَا هُذِّبوا ونُقُّوا أَذِنَ لَهُمْ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَأَحَدُهُمْ أَهْدَى بِمَنْزِلِهِ فِي الْجَنَّةِ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ كَانَ في الدنيا) .   (1) الأنبياء: 89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 15- الإيمان بالجنة والنار: وَمِنَ الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخِر ِ الْإِيمَانُ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ، والبحث في ذلك ينحصر في ثلاثة أمور: أ-كَوْنُهُمَا حَقًّا لَا رَيْبَ فِيهِمَا وَلَا شَكَّ، وَأَنَّ النَّارَ دَارُ أَعْدَاءِ اللَّهِ، وَالْجَنَّةَ دَارُ أوليائه: -قال تَعَالَى: {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ..} (1) . وروى البخاري رحمه الله عَنْ عُبَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنْ شَهِدَ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، وَأَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٍ مِنْهُ، وَالْجَنَّةُ حُقٌّ، وَالنَّارُ حَقٌّ، أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى مَا كَانَ مِنْ العمل) . ب-اعتقاد وجودهما الآن : -قال تعالى في الجنة: {أعدت للمتقين} (2) ، وقال: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون} (3) ، وقال: {عند سدرة المنتهى * عندها جنة المأوى} (4) .. وغير ذلك من الآيات. فأخبر تَعَالَى أَنَّهَا مُعَدَّةٌ قَدْ أُوجِدَتْ، وَأَنَّهَا مَخْفِيَّةٌ لأوليائه مُدَّخَرَةٌ لَهُمْ، وَأَنَّهَا فِي السَّمَاءِ، وَأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَتَاهَا لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ ورآها.   (1) البقرة: 24، 25. (2) آل عمران: 133. (3) السجدة: 17. (4) النجم: 14، 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 -وقال تعالى في النار: {أعدت للكافرين} (1) . -وفي صحيح البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَإِنَّهُ يَعْرِضُ عَلَيْهِ مَقْعَدَهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ، فَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النار) . -وفيه عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (اطَّلَعْتُ فِي الْجَنَّةِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا الْفُقَرَاءَ، وَاطَّلَعْتُ فِي النَّارِ فَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ) . -وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - إذ قال: (بينما أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَإِذَا امْرَأَةٌ تَتَوَضَّأُ إِلَى جَانِبِ قَصْرٍ، فَقُلْتُ: لِمَنْ هَذَا الْقَصْرُ؟ فَقَالُوا: لَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، فَذَكَرْتُ غَيْرَتَهُ فوليت مدبراً) فبكى عمر وقال: عليك أغار يا رسول الله؟ -وفيه عن أَبِي ذَرٍّ وَأَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) . -وَفِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفْسَيْنِ، نَفْسٌ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفْسٌ فِي الصَّيْفِ، فَأَشُدُّ مَا تَجِدُونَ فِي (2) الْحَرِّ وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزمهرير (3)) . -وفيه عن ابْنِ عَبَّاسٍ وَرَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ وَعَائِشَةَ وَابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْحُمَّى مِنْ فَيْحِ جهنم فأبردوها بالماء) .   (1) البقرة: 24. (2) (من الحر) (الفتح 2/23، 6 / 380) . (3) شدة البرد (لسان العرب) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 -وفيه مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه فِي الْمِعْرَاجِ: (ثُمَّ انْطَلَقَ بِي حَتَّى انْتَهَى بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَغَشِيَهَا أَلْوَانٌ لَا أَدْرِي مَا هِيَ، ثُمَّ أُدْخِلْتُ الْجَنَّةَ فَإِذَا فيها حبائل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك) . -وفي الصحيحين مِنْ حَدِيثِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ وَخُطْبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِيهَا وَأَنَّهُ عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، وَأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَرَادَ أَنْ يَتَنَاوَلَ مِنَ الْجَنَّةِ عُنْقُودًا فَقَصُرَتْ يَدُهُ عنه وأنه لو أخذه لَأَكَلُوا مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا وَأَنَّهُ رَأَى النار وَرَأَى فِيهَا عَمْرَو بْنَ لُحَيٍّ يَجُرُّ قَصَبَهُ في النار (1) ورأى المرأة التي عذبت هِرَّةً حَبَسَتْهَا، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَمْ أَرَ مَنْظَرًا كَالْيَوْمِ أَفْظَعَ) . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ (2) وَالسُّنَنِ وَالْمُسْنَدِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ أَرْسَلَ جِبْرَائِيلَ إِلَى الْجَنَّةِ فَقَالَ: اذهب فانظر إليها وما أعددت لأهلها فيها ... ) الحديث. جـ-اعتقاد دوامها وَبَقَائِهِمَا بِإِبْقَاءِ اللَّهِ لَهُمَا وَأَنَّهُمَا لَا تَفْنَيَانِ أبداً ولا يفنى من فيهما: -قال الله تعالى في الجنة وأهلها: {خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم} (3) ، {لا يسمهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين} (4) ، {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ * فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هو الفوز العظيم} (5) .   (1) انظر ص131. (2) والحديث صحيح انظر صحيح سنن الترمذي 2075، ولم نجده في صحيح مسلم فلعل المؤلف رحمه الله تابع في ذلك شارح الطحاوية، انظر شرح الطحاوية بتحقيق بشير عيون ص487 وشرح الطحاوية بتحقيق التركي والأرناؤوط (2/618) . (3) التوبة: 110، التغابن: 9. (4) الحجر: 48. (5) الدخان: 56، 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 -وقال تعالى في النار وأهلها: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا * إِلَّا طَرِيقَ جهنم خالدين فيها أبداً} (1) ، {وما هم بخارجين من النار} (2) ، {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارِ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ * وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نعمل أو لم نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النذير فذوقوا فما للظالمين من نصير} (3) ، {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى * الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى * ثُمَّ لا يموت فيها ولا يحيى} (4) . -وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يُؤْتَى بِالْمَوْتِ كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ، فَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ، فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ، فَيَقُولُ: هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، هَذَا الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ، فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ، وَيَا أَهْلَ النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ) ثُمَّ قَرَأَ {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وهم في غفلة} وَهَؤُلَاءِ فِي غَفْلَةِ أَهْلِ الدُّنْيَا {وَهُمْ لَا يؤمنون} (5) . -إِخْرَاجُ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ مِنَ النَّارِ: نَعَمْ جَاءَتِ الْأَحَادِيثُ الصَّرِيحَةُ بِإِخْرَاجِ عُصَاةِ الْمُوَحِّدِينَ الَّذِينَ تَمَسُّهُمُ النَّارُ بِقَدْرِ جِنَايَتِهِمْ، وَأَنَّهُمْ يَخْرُجُونَ مِنْهَا بِرَحْمَةِ الله تعالى ثم بشفاعة الشافعين،   (1) النساء 168، 169. (2) البقرة: 167. (3) فاطر: 36، 37. (4) الأعلى: 11-13. (5) مريم: 39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 كما سيأتي في أحاديث الشفاعة إن شاء الله تعالى، وَأَنَّ هَؤُلَاءِ الْعُصَاةَ يُسْكِنُونَ الطَّبَقَةَ الْعُلْيَا مِنَ النَّارِ عَلَى تَفَاوُتِهِمْ فِي مِقْدَارِ مَا تَأْخُذُ مِنْهُمْ. وَجَاءَ فِيهَا آثَارٌ أَنَّ هَذِهِ الطَّبَقَةَ تَفْنَى بَعْدَهُمْ إِذَا أُخْرِجُوا مِنْهَا وَأُدْخِلُوا الْجَنَّةَ وليأتين عَلَيْهَا يَوْمٌ وَهِيَ تُصَفِّقُ فِي أَبْوَابِهَا لَيْسَ بِهَا أَحَدٌ، وَعَلَى ذَلِكَ حَمَلَ جُمْهُورُ الْمُفَسِّرِينَ الِاسْتِثْنَاءَ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ} (1) الْآيَةَ: وَعَلَى ذَلِكَ يُحْمَلُ مَا وَرَدَ من آثار الصحابة. -أقوال بعض أهل الضلال فيما يتعلق بالجنة والنار : 1- قال ابن عربي إمام الاتحادية محيى الزَّنْدَقَةِ وَالْإِلْحَادِ فِي آيَاتِ اللَّهِ تَعَالَى: إِنَّ أَهْلَهَا يُعَذَّبُونَ فِيهَا ثُمَّ تَنْقَلِبُ طَبِيعَتُهُمْ وَتَبْقَى طبيعتهم النَّارِيَّةِ يَتَلَذَّذُونَ بِهَا لِمُوَافَقَتِهَا طَبْعَهُمْ. 2- وَقَالَ الْجَهْمُ وشيعته: إن الجنة والنار تفنيان كلتاهما لِأَنَّهُمَا حَادِثَتَانِ، وَمَا ثَبَتَ حُدُوثُهُ اسْتَحَالَ بَقَاؤُهُ بِنَاءً عَلَى أَصْلِهِ الْفَاسِدِ فِي مَنْعِ تَسَلْسُلِ الْحَوَادِثِ وَبَقَائِهَا بِإِبْقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى لَهَا. 3- وَقَالَ طَائِفَةٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ وَالْقَدَرِيَّةِ: لَمْ يَكُونَا الْآنَ مَوْجُودَتَيْنِ بَلْ يُنْشِئُهُمَا اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَحَمَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَصْلُهُمُ الْفَاسِدُ الَّذِي وَضَعُوا بِهِ شَرِيعَةً لِمَا يَفْعَلُهُ اللَّهُ وَأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَفْعَلَ كَذَا وَلَا يَنْبَغِيَ لَهُ أَنْ يَفْعَلَ كَذَا، قِيَاسًا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى خَلْقِهِ في أفعالهم. وَقَالُوا: خلْق الْجَنَّةِ وَالنَّارِ قَبْلَ الْجَزَاءِ عَبَثٌ لأنها تصير معطلة مدداً متطاولة. 4- وَقَالَ أَبُو الْهُذَيْلِ الْعَلَّافُ: تَفْنَى حَرَكَاتُ أَهْلِ الجنة وَيَصِيرُونَ جَمَادًا لَا يُحِسُّونَ بِنَعِيمٍ وَلَا أَلَمٍ. وكل هذه الأقوال مخالفة لصريح المنقول وصحيح المعقول ومحادة ومشاقة   (1) قال تعالى: {فأما الذين شقوا ففي النار لهم فيها زفير وشهيق * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاء ربك إن ربك فعال لما يريد} [هود: 106، 107] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 لِلَّهِ تَعَالَى وَلِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 16- الإيمان بما جاء في الكوثر وحوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - وأن له لواء الحمد يوم القيامة وأنه سيد الناس يومئذ: ومن الإيمان باليوم الآخر بحوض خَيْرِ الْخَلْقِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الْكَوْثَرُ الَّذِي أَعْطَاهُ رَبُّهُ عَزَّ وجل أو هو منه. -قال تعالى: {إنا أعطيناك الكوثر} (1) . عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَوْثَرِ: هُوَ الْخَيْرُ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. قَالَ أَبُو بِشْرٍ: قُلْتُ لِسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ: فَإِنَّ النَّاسَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ. فَقَالَ سَعِيدٌ: النَّهْرُ الَّذِي فِي الْجَنَّةِ مِنَ الْخَيْرِ الَّذِي أَعْطَاهُ اللَّهُ إِيَّاهُ. رواه البخاري. -وَقَدْ وَرَدَ فِي ذِكْرِ الْحَوْضِ وَتَفْسِيرِ الْكَوْثَرِ بِهِ وَإِثْبَاتِهِ وَصَفْتِهِ مِنْ طُرُقِ جَمَاعَةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَاشْتَهَرَ وَاسْتَفَاضَ بَلْ تَوَاتَرَ فِي كُتُبِ السُّنَّةِ، ونذكر فيما يلي بعض الأحاديث في ذلك عن عدد من الصحابة رضوان الله تعالى عليهم. ففي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: لِمَا عُرِجَ بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى السَّمَاءِ قَالَ: (أَتَيْتُ عَلَى نَهْرٍ حَافَّتَاهُ قِبَابُ اللُّؤْلُؤِ الْمُجَوَّفِ فَقُلْتُ: مَا هَذَا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر) . -وفي الصحيحين عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِنَّ قَدْرَ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ أيْلة (2) وَصَنْعَاءَ مِنَ الْيَمَنِ، وَإِنَّ فِيهِ مِنَ الْأَبَارِيقِ بِعَدَدِ نُجُومِ السَّمَاءِ) وفي لفظ لمسلم: (مَا بَيْنَ نَاحِيَتَيْ حَوْضِي كَمَا بَيْنَ صَنْعَاءَ والمدينة) .   (1) الكوثر: 1. (2) بفتح الهمزة وسكون الياء: البلد المعروف فيما بين مصر والشام (النهاية) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 -وفي صحيح البخاري عَنْ أَبِي عُبَيْدَةَ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَ: سَأَلْتُهَا عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّا أعطيناك الكوثر} قالت: نهر أعطيه - صلى الله عليه وسلم - نبيكم شَاطِئَاهُ عَلَيْهِ دُرٌّ مُجَوَّفٌ آنِيَتُهُ كَعَدَدِ النُّجُومِ. -ولمسلم عنها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ وَهُوَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِهِ: (إِنِّي عَلَى الْحَوْضِ أَنْتَظِرُ مَنْ يَرِدُ عَلَيَّ مِنْكُمْ فَوَاللَّهِ لَيُقْتَطَعَنَّ دُونِي رِجَالٌ فَلَأَقُولَنَّ أَيْ رَبِّ مِنِّي وَمِنْ أُمَّتِي، فَيَقُولُ: إنك لا تدري ما عملوا بعدك، مازالوا يرجعون على أعقابهم) . -وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَا بَيْنَ بَيْتِي وَمِنْبَرِي رَوْضَةٌ مِنْ رِيَاضِ الجنة، ومنبري على حوضي) . -وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن حوضي أبعد من أيلة إلى عَدَنَ، لَهُوَ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ الثَّلْجِ وَأَحْلَى مِنَ الْعَسَلِ بِاللَّبَنِ، وَلَآنِيَتُهُ أَكْثَرُ مِنْ عَدَدِ النُّجُومِ، وَإِنِّي لَأَصُدُّ النَّاسَ عَنْهُ كَمَا يَصُدُّ الرَّجُلُ إِبِلَ النَّاسِ عَنْ حَوْضِهِ) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَعْرِفُنَا يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: (نَعَمْ، لَكُمْ سِيمَا لَيْسَتْ لِأَحَدٍ مِنَ الْأُمَمِ، تَرِدُونَ عَلَيَّ غرًّا محجلين من أثر الوضوء) . -وله عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (حَوْضِي مَسِيرَةُ شَهْرٍ، وَزَوَايَاهُ سَوَاءٌ، وَمَاؤُهُ أَبْيَضُ مِنَ الْوَرِقِ، وَرِيحُهُ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، وَكِيزَانُهُ كَنُجُومِ السَّمَاءِ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَا يَظْمَأُ بعده أبداً) . -ولمسلم عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقد سئل عن شراب الحوض فَقَالَ: (أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ وَأَحْلَى مِنَ العسل بَغُِثُّ (1) فِيهِ مِيزَابَانِ يَمُدَّانِهِ مِنَ الْجَنَّةِ أَحَدُهُمَا مَنْ ذهب والآخر من وَرِق) .   (1) بضم الغين وكسرها، ومعناه: يدفقان فيه الماء دفقاً متتابعاً شديداً. انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج15 ص63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 -وللترمذي عن ثوبان رضي الله عنه أنه - صلى الله عليه وسلم - قال في الحوض: (أَوَّلُ النَّاسِ وُرُودًا عَلَيْهِ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ الشُّعْثُ رُءُوسًا الدُّنْسُ ثِيَابًا الَّذِينَ لَا يَنْكِحُونَ الْمُتَنَعِّمَاتِ ولا تفتح لهم السدد) (1) . -كما ثبت في صحيح مسلم عنه - صلى الله عليه وسلم - أن الحوض عرضه مثل طوله. -ولأبي داود عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَقَالَ: (مَا أَنْتُمْ بِجُزْءٍ مِنْ مِائَةِ أَلْفِ جُزْءٍ مِمَّنْ يَرِدُ عَلَى الْحَوْضِ) قَالَ: قُلْتُ: كَمْ كُنْتُمْ يَوْمَئِذٍ؟ قال: سبعمائة أو ثمانمائة (2) . -وللترمذي عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ لِكُلِّ نَبِيٍّ حَوْضًا وَإِنَّهُمْ يَتَبَاهَوْنَ أيهم أكثر واردة، وإني لأرجو أن أكون أكثرهم واردة) (3) . ومن الإيمان باليوم الآخر الإيمان بأنه - صلى الله عليه وسلم - سيد ولد آدم يوم القيامة وله لواء الحمد يومئذ وأنه أَوَّلَ مَنْ تَنْشَقُّ عَنْهُ الْأَرْضُ وَأَوَّلَ شَافِعٍ وأول مشفع. -قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر وأول شافع وأول مشفع) (4) . -قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدم يوم القيامة ولا فخر وبيدي لواء الحمد وَلَا فَخْرَ وَمَا مِنْ نَبِيٍّ يَوْمَئِذٍ آدَمَ فَمَنْ سِوَاهُ إِلَّا تَحْتَ لِوَائِي وَأَنَا أَوَّلُ شافع وأول مشفع ولا فخر) (5) .   (1) صحيح. صحيح الجامع الصغير 3157. (2) إسناده صحيح. المشكاة 5593. (3) صحيح. الجامع الصغير 2152. (4) رواه مسلم عن أبي هريرة في الفضائل، الحديث الثالث. انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج15 ص37. (5) صحيح. صحيح الجامع الصغير 1481. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 17- الإيمان بالشفاعة وأحاديثها والمقام المحمود: أ-شروط الشفاعة في الشرع هي التي يتوفر فيها شرطان: -إذن الله للشافع. -والرضا عن المشفوع له. أو بعبارة أخرى: الشفاعة لا تكون إلا ن بَعْدِ إِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ سَوَاءٌ فِي ذَلِكَ شَفَاعَةُ نَبِيِّنَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَشَفَاعَةُ مَنْ دُونَهُ، وَذَلِكَ الْإِذْنُ يَتَعَلَّقُ بِالشَّافِعِ، والمشفوع فيه، فليس يشفع إلا من أذن لَهُ فِي الشَّفَاعَةِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ إِلَّا بَعْدَ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لَهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَشْفَعَ إِلَّا فِيمَنْ أَذِنَ اللَّهُ تعالى له أن يشفع فيه. أما الشفاعة للكافرين أو الشفاعة بدون إذن الله تعالى فهي منفية لا يمكن أن تكون. قال تعالى: {قل لله الشفاعة جميعاً} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بإذنه} (2) . وقال تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خشيته مشفقون} (3) . وَقَالَ تَعَالَى فِي الْكُفَّارِ: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين} (4) . ب-أنواع الشفاعة : 1- الشفاعة العظمى، وهي شفاعته - صلى الله عليه وسلم - إلى الرحمن عز وجل في أهل الموقف لفصل القضاء بينهم، وهي خاصة به - صلى الله عليه وسلم -، وهي المقام المحمود   (1) الزمر: 44. (2) البقرة: 255. (3) الأنبياء: 28. (4) المدثر: 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَهُ، وَوَعَدَهُ إياه كما قال تَعَالَى: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (1) ، وَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ إِيَّاهُ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - بعد كل أذان، كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنْ قَالَ حِينَ يَسْمَعُ النِّدَاءَ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ الدَّعْوَةِ التَّامَّةِ وَالصَّلَاةِ الْقَائِمَةِ آتِ مُحَمَّدًا الْوَسِيلَةَ وَالْفَضِيلَةَ وَابْعَثْهُ مَقَامًا مَحْمُودًا الَّذِي وَعَدْتَهُ، حَلَّتْ لَهُ شفاعتي يوم القيامة) . -وروى البخاري عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ النَّاسَ يَصِيرُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ جُثاً (2) ، كُلُّ أُمَّةٍ تَتْبَعُ نَبِيَّهَا، يَقُولُونَ: يَا فُلَانُ اشْفَعْ، حَتَّى تَنْتَهِيَ الشَّفَاعَةُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَذَلِكَ يَوْمَ يَبْعَثُهُ اللَّهُ الْمَقَامَ المحمود. -وروى مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَتَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا بِلَحْمٍ فَرُفِعَ إِلَيْهِ الذِّرَاعُ وَكَانَتْ تعجبه فنهس منها نَهْسَةً فَقَالَ: (أَنَا سَيِّدُ النَّاسِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ بِمَ ذَاكَ؟ يَجْمَعُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَيُسْمِعُهُمُ الدَّاعِي وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لَا يُطِيقُونَ وَمَا لَا يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: أَلَا تَرَوْنَ مَا أَنْتُمْ فِيهِ، أَلَا تَرَوْنَ مَا قَدْ بَلَغَكُمْ، أَلَا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى رَبِّكُمْ. فَيَقُولُ بَعْضُ النَّاسِ لِبَعْضٍ: ائْتُوا آدَمَ، فَيَأْتُونَ آدَمَ فَيَقُولُونَ يَا آدَمُ أَنْتَ أَبُو الْبَشَرِ، خَلَقَكَ اللَّهُ بِيَدِهِ، وَنَفَخَ فِيكَ مِنْ رُوحِهِ وَأَمَرَ الْمَلَائِكَةَ فَسَجَدُوا لَكَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فيه، أر تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ آدَمُ: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ نهاني عن الشجرة فعصيته،   (1) الإسراء: 79. (2) جمع جثوة كخطوة وخطا، وحكى ابن الأثير أنه روي جثِّي جمع جاثٍ وهو الذي يجلس على ركبتيه. انظر فتح الباري ج8 ص252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى نُوحٍ. فَيَأْتُونَ نُوحًا عَلَيْهِ السَّلَامُ فَيَقُولُونَ: يَا نُوحُ أَنْتَ أَوَّلُ الرُّسُلِ إِلَى الْأَرْضِ، وَسَمَّاكَ اللَّهُ عَبْدًا شَكُورًا، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا: فَيَقُولُ لَهُمْ إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ، وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنَّهُ قَدْ كانت دعوة دعوت بها على قومي - وفي رواية للبخاري أنه ذكر خطيئته وهي سؤاله ربه بغير علم- نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم، فَيَأْتُونَ إِبْرَاهِيمَ فَيَقُولُونَ: أَنْتَ نَبِيُّ اللَّهِ وَخَلِيلُهُ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، ألا ترى مات نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فيقول لهم إبراهيم: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وذكر ذباته- وزاد مسلم في رواية: وَذَكَرَ قَوْلَهُ فِي الْكَوْكَبِ هَذَا رَبِّي، وَقَوْلَهُ لِآلِهَتِهِمْ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، وَقَوْلَهُ: إِنِّي سقيم - نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إِلَى موسى، فيأتون موسى فَيَقُولُونَ: يَا مُوسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ فَضَّلَكَ اللَّهُ بِرِسَالَاتِهِ وَبِتَكْلِيمِهِ عَلَى النَّاسِ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ موسى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يَغْضَبْ قَبْلَهُ مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَإِنِّي قَتَلْتُ نَفْسًا لَمْ أُؤْمَرْ بِقَتْلِهَا، نَفْسِي نفسي، اذهبوا إلى عيسى، فَيَأْتُونَ عِيسَى فَيَقُولُونَ: يَا عِيسَى أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلَّمْتَ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَلِمَةٌ مِنْهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ، فَاشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَيَقُولُ لَهُمْ عيسى: إِنَّ رَبِّي قَدْ غَضِبَ الْيَوْمَ غَضَبًا لَمْ يغضب مِثْلَهُ وَلَنْ يَغْضَبَ بَعْدَهُ مِثْلَهُ، وَلَمْ يَذْكُرْ ذَنْبًا، نَفْسِي نَفْسِي، اذْهَبُوا إِلَى غَيْرِي، اذْهَبُوا إلى محمد - صلى الله عليه وسلم - فيأتون فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ وَغَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلَا تَرَى مَا نَحْنُ فِيهِ، أَلَا تَرَى مَا قَدْ بَلَغَنَا؟ فَأَنْطَلِقُ فَآتِي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 تَحْتَ الْعَرْشِ فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّي، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَيَّ وَيُلْهِمُنِي مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ لِأَحَدٍ قَبْلِي. ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ، ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، اشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أمتي أمتي: فيقال يا محمد أدخل مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لَا حِسَابَ عَلَيْهِ مِنَ الْبَابِ الْأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْأَبْوَابِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ مَا بَيْنَ الْمِصْرَاعَيْنِ من مصارع الجنة لكما بَيْنَ مَكَّةَ وَهَجَرَ (1) أَوْ كَمَا بَيْنَ مَكَّةَ وبُصرى) (2) . 2- شفاعته - صلى الله عليه وسلم - في استفتاح باب الجنة وهو مختص بها أيضاً - صلى الله عليه وسلم -، وَقَدْ جَاءَ فِي الْأَحَادِيثِ أَنَّهَا أَيْضًا مِنَ المقام المحمود. -روى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَنَا أَوَّلُ النَّاسِ يَشْفَعُ فِي الْجَنَّةِ، وأنا أكثر الأنبياء تبعاً) . وله عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَنَا أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ تَبَعًا، وأنا أول من يقرع باب الجنة) . وله عَنْهُ أَيْضًا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَنَا أَوَّلُ شَفِيعٍ فِي الْجَنَّةِ لَمْ يُصدَّق نَبِيٌّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مَا صُدقت، وَإِنَّ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيًّا مَا يُصَدِّقُهُ من أمته إلا رجل واحد) . -وروى البخاري من طريق اللَّيْثُ قَالَ حَدَّثَنِي ابْنُ أَبِي جَعْفَرٍ: (فَيَشْفَعُ لِيُقْضَى بَيْنَ الْخَلْقِ فَيَمْشِي حَتَّى يَأْخُذَ بِحَلْقَةِ الباب فيومئذ يبعثه الله مقاماً محموداً، يحمدهم أَهْلُ الْجَمْعِ كُلُّهُمْ) فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ الْجَمْعُ بَيْنَ ذِكْرِ الشَّفَاعَتَيْنِ: الْأُولَى فِي فَصْلِ الْقَضَاءِ، وَالثَّانِيَةُ فِي اسْتِفْتَاحِ بَابِ الْجَنَّةِ، وَسُمِّيَ ذَلِكَ كله المقام المحمود.   (1) بفتح الهاء والجيم مدينة عظيمة هي قاعدة بلاد البحرين. مسلم بشرح النووي ج3ص69. (2) بضم الباء، مدينة معروفة بينها وبين دمشق نحو ثلاث مراحل وهي مدينة حوران بينها وبين مكة شهر. مسلم بشرح النووي ج3ص69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وهاتان الشفاعتان اللتان هما المقام المحمود جعلها الله تعالى خاصتين به - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَيْسَتَا لِأَحَدٍ غَيْرِهِ بلا نكران من أهل السنة والجماعة، بل ولم ينكرها الْمُعْتَزِلَةُ الَّذِينَ أَنْكَرُوا الشَّفَاعَةَ الثَّالِثَةَ فِي إِخْرَاجِ عصاة الموحدين من النار. 3- الشفاعة في إخراج عصاة الموحدين من النار، فَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ حَقٌّ يُؤْمِنُ بِهَا أَهْلُ السُّنَّةِ والجماعة كما آمن بها الصحابة والتابعون، وَأَنْكَرَهَا فِي آخِرِ عَصْرِ الصَّحَابَةِ الْخَوَارِجُ، وَأَنْكَرَهَا فِي عَصْرِ التَّابِعِينَ الْمُعْتَزِلَةُ، وَقَالُوا بِخُلُودِ مَنْ دخل النار من عصاة الموحدين الذين يشهدوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شريك له ويشهدون أن محمد عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيُقِيمُونَ الصلاة ويؤتون الزكاة ويصومون رمضان ويحج البت الحرام ويسألون الله الجنة ويستعيذون مِنَ النَّارِ فِي كُلِّ صَلَاةٍ وَدُعَاءٍ، غَيْرَ أَنَّهُمْ مَاتُوا مُصِرِّينَ عَلَى مَعْصِيَةٍ عَمَلِيَّةٍ عَالِمِينَ بتحريمها معتقدينه مؤمنين بما جاء فيه من الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ، فَقَضَوْا بِتَخْلِيدِهِمْ فِي جَهَنَّمَ مَعَ فرعون وهامان وقارون، فجحدوا قول الله: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ الأرض أم نجعل المتقين كالفجار} (1) . وفي حديث البخاري عن أنس: (ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الجنة) (2) . قال قتادة: سمعته أيضاً يَقُولُ: (فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ، ثُمَّ أَعُودُ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ (3) فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ لَهُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ: ارْفَعْ مُحَمَّدُ وَقُلْ يُسْمَعْ وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ. قَالَ: فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي على ربي بثناء وتحميد يعلمنيه، وقال: ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ) قَالَ قَتَادَةُ: وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: (فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ من النار وأدخلهم الجنة) ، ثم أعيد الثَّالِثَةَ فَأَسْتَأْذِنُ عَلَى رَبِّي فِي دَارِهِ فَيُؤْذَنُ لِي عَلَيْهِ، فَإِذَا رَأَيْتُهُ وَقَعْتُ سَاجِدًا فَيَدَعُنِي مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَدَعَنِي ثُمَّ يَقُولُ: ارفع محمد وقل يسمع واشفع   (1) ص: 28. (2) واللفظ المذكور في فتح الباري ج11 ص425: (فيحد لي حداً ثم أخرجهم من النار وأدخلهم الجنة) . (3) قال الألباني: ذكر الدار فيه شاذ (مختصر العلو ص88) ، وقال الخطابي: معناه في داره الذي اتخذها لأوليائه وهي الجنة وهي دار السلام، وأضيفت إليه إضافة تشريف مثل بيت الله وحرم الله. فتح الباري ج13ص439. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 تُشَفَّعْ وَسَلْ تُعْطَ، قَالَ فَأَرْفَعُ رَأْسِي فَأُثْنِي عَلَى رَبِّي بِثَنَاءٍ وَتَحْمِيدٍ يُعَلِّمُنِيهِ، قَالَ: ثُمَّ أَشْفَعُ فَيَحُدُّ لِي حَدًّا فَأَخْرُجُ فَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ) قَالَ قَتَادَةُ: وَقَدْ سَمِعْتُهُ يَقُولُ: (فَأَخْرُجُ فَأُخْرِجُهُمْ مِنَ النَّارِ وَأُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ حَتَّى مَا يَبْقَى فِي النَّارِ إِلَّا مَنْ حَبَسَهُ الْقُرْآنُ) أَيْ وَجَبَ عَلَيْهِ الْخُلُودُ. قَالَ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا} (1) قَالَ: وَهَذَا الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي وُعِدَهُ نَبِيُّكُمْ - صلى الله عليه وسلم -. -وروى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ شَعِيرَةً، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ مَا يَزِنُ بُرَّة، ثُمَّ يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ قَالَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَكَانَ فِي قَلْبِهِ مِنَ الْخَيْرِ ما يزن ذرة) (2) . وروى الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (يَخْرُجُ قَوْمٌ مِنَ النَّارِ بَعْدَ مَا مَسَّهُمْ مِنْهَا سَفْعٌ (3) ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيُسَمِّيهِمْ أَهْلُ الْجَنَّةِ الجهنميين) .   (1) الإسراء: 79. (2) قال ابن حجر رحمه الله في شرحه لرواية البخاري عن أبي سعيد فيها: (أخرجوا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ من إيمان) قال: والمراد من حبة الخردل هنا ما زاد من الأعمال على أصل التوحيد التوحيد لقوله في الرواية الأخرى: (أخرجوا من قال لا إله إلا الله وعمل من الخير ما يزن ذرة) فتح الباري ج1 ص91، 92. (3) أي سواد فيه زرقة أو صفرة، يقال سفعته النار إذا لفحته فغيرت لون بشرته. فتح الباري ج11 ص437. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وَهَذِهِ الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ قَدْ فُسِّرَ بِهَا الْمَقَامُ المحمود كما سبق في حديث البخاري رحمه الله فيكون عَامًّا لِجَمِيعِ الشَّفَاعَاتِ الَّتِي أُوتِيهَا نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، لَكِنَّ جُمْهُورَ الْمُفَسِّرِينَ فسروه بالشفاعتين الأولين لِاخْتِصَاصِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمَا دُونَ غَيْرِهِ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُكْرَمِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الشَّفَاعَةُ الثَّالِثَةُ فَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مِنَ الْمَقَامِ الَّذِي وُعِدَهُ فَلَيْسَتْ خَاصَّةً بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - بل يؤتها كَثِيرٌ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ وَلَكِنْ هُوَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمُقَدَّمُ فِيهَا، وَلَمْ يَشْفَعْ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى فِي مِثْلِ مَا يَشْفَعُ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يُدَانِيهِ فِي ذَلِكَ مَلَكٌ مُقَرَّبٌ وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، ثُمَّ بَعْدَهُ يَشْفَعُ مَنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ وَالْأَنْبِيَاءِ وَالْمُرْسَلِينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وسائر أولياء الله من المؤمنين المتقين، ثم يخرج الله تعالى أقواماً مِنَ النَّارِ بِرَحْمَتِهِ أَقْوَامًا بِدُونِ شَفَاعَةِ الشَّافِعِينَ، ففي حديث سعيد المتفق عليه (فَيَشْفَعُ النَّبِيُّونَ وَالْمَلَائِكَةُ وَالْمُؤْمِنُونَ، فَيَقُولُ الْجَبَّارُ: بَقِيَتْ شَفَاعَتِي، فَيَقْبِضُ قَبْضَةً مِنَ النَّارِ فَيُخْرِجُ أَقْوَامًا قَدِ امْتُحِشُوا فَيُلْقَوْنَ فِي نَهْرٍ بِأَفْوَاهِ الْجَنَّةِ يقال له ماء الحياة فينبتون في حافيته كَمَا تَنْبُتُ الْحَبَّةُ فِي حَمِيلِ السَّيْلِ قَدْ رَأَيْتُمُوهَا إِلَى جَانِبِ الصَّخْرَةِ إِلَى جَانِبِ الشَّجَرَةِ، فَمَا كَانَ إِلَى الشَّمْسِ مِنْهَا كَانَ أَخْضَرَ، وَمَا كَانَ إِلَى الظِّلِّ كَانَ أَبْيَضَ، فَيَخْرُجُونَ كأنهم اللؤلوء، فَيُجْعَلُ فِي رِقَابِهِمُ الْخَوَاتِيمُ، فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ فَيَقُولُ أَهْلُ الْجَنَّةِ: هَؤُلَاءِ عُتَقَاءُ الرَّحْمَنِ أَدْخَلَهُمُ الْجَنَّةَ بِغَيْرِ عَمَلٍ عَمِلُوهُ وَلَا خَيْرٍ قَدَّمُوهُ (1) ، فَيُقَالُ لهم لكم ما رأيتم ومثله معه) (2) .   (1) المراد بالخير المنفي ما زاد على أصل الإقرار بالشهادتين كما تدل عليه بقية الأحاديث، فلا يفهم منه تجويز إخراج غير المؤمنين من النار. انظر فتح الباري ج13 ص438. (2) بهذا يكون الشيخ رحمه الله قد ذكر ثلاث شفاعات وهناك ثلاثة أنواع أخرى ذكرها في كتابه (200سؤال وجواب في العقيدة) وهي: 1- الشفاعة في أقوام قد أمر بهم إلى النار أن لا يدخلوها. 2- الشفاعة في رفع درجات أقوام من أهل الجنة. وهاتان الشفاعتان لا تختصان به - صلى الله عليه وسلم -. 3- الشفاعة في تخفيف عذاب بعض الكفار وهذه خاصة لنبينا - صلى الله عليه وسلم - في عمه أبي طالب. انظر (200سؤال وجواب ص74) وذكرها أيضاً ابن حجر رحمه الله في فتح الباري ج1ص234 وانظر فيه أيضاً حديث 6564. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 أسعد الناس بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - : رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قال: قلت: يا رسول لله مَنْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِكَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ؟ فَقَالَ: (لَقَدْ ظَنَنْتُ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَنْ لَا يَسْأَلَنِي عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ أَحَدٌ أَوَّلُ مِنْكَ لِمَا رَأَيْتُ مِنْ حِرْصِكَ عَلَى الْحَدِيثِ، أَسْعَدُ النَّاسِ بِشَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ خَالِصًا من قلبه) (1) . *** وفيما يلي الأبيات المتعلقة بما سبق من الكلام في الإيمان باليوم الآخر وما يدخل فيه: وبالميعاد أَيْقِنْ بِلَا تَرَدُّدِ ... وَلَا ادِّعَا عِلْمٍ بِوَقْتِ الْمَوْعِدِ لَكِنَّنَا نُؤْمِنْ مِنْ غَيْرِ امْتِرَا ... بِكُلِّ مَا قَدْ صَحَّ عَنْ خَيْرِ الْوَرَى مِنْ ذِكْرِ آيَاتٍ تَكُونُ قَبْلَهَا ... وَهْيَ عَلَامَاتٌ وَأَشْرَاطٌ لَهَا   (1) ويعلم منه أن أولئك الذين اتخذوا من إثبات الشفاعة مبرراً للتعلق بالمخلوقين والموتى والأولياء المزعومين وقبورهم بحجة الطمع في شفاعتهم حتى صرفوا لهم كثيراً من العبادات كالدعاء والنذر والذبح والطواف وغير ذلك طلباً للشفاعة منهم، هم أبعد الناس عن الفوز بشفاعته - صلى الله عليه وسلم - لأنهم لم يخلصوا العبادة لله، وأتوا من الشرك ما يناقض قول لا إله إلا الله، وساروا على نهج المشركين الذين قالوا: {ما نعبدهم إلا ليقربون إلى الله زلفى} [الزمر: 3] ، وإنما الشفاعة جميعاً لله عز وجل، هي ملك له ولا تكون إلا بإذنه ورضاه كما سبق وهي فضله يتفضل به على من يشاء برحمته من أهل التوحيد ويظهره على يد من يريد إكرامه وإعلاء شأنه من عباده الصالحين فالأولى التعلق بالله عز وجل الاعتماد عليه في ذلك وإخلاص العبادة والمحبة والتذلل له سبحانه علّه يرحمنا ويُشَفِّع فينا عباده الصالحين. والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 وَيَدْخُلُ الْإِيمَانُ بِالْمَوْتِ وَمَا ... مِنْ بَعْدِهِ عَلَى الْعِبَادِ حُتِمَا وَأَنَّ كُلًّا مُقْعَدٌ مَسْئُولُ ... مَا الرَّبُّ مَا الدِّينُ وَمَا الرَّسُولُ؟ وَعِنْدَ ذَا يُثَبِّتُ الْمُهَيْمِنُ ... بِثَابِتِ الْقَوْلِ الَّذِينَ آمَنُوا وَيُوقِنُ الْمُرْتَابُ عِنْدَ ذَلِكْ ... بِأَنَّ مَا مَوْرِدُهُ الْمَهَالِكْ وَبِاللِّقَا وَالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ ... وَبِقِيَامِنَا مِنَ الْقُبُورِ غُرْلًا حُفَاةً كَجَرَادٍ مُنْتَشِرْ ... يَقُولُ ذُو الْكُفْرَانِ ذَا يَوْمٌ عَسِرْ وَيُجْمَعُ الْخَلْقُ لِيَوْمِ الْفَصْلِ ... جَمِيعُهُمْ عُلْوِيُّهُمْ وَالسُّفْلِي فِي مَوْقِفٍ يَجِلُّ فِيهِ الْخَطْبُ ... وَيَعْظُمُ الْهَوْلُ بِهِ وَالْكَرْبُ وَأُحْضِرُوا لِلْعَرْضِ وَالْحِسَابِ ... وَانْقَطَعَتْ عَلَائِقُ الْأَنْسَابِ وَارْتَكَمَتْ سَجَائِبُ الْأَهْوَالِ ... وَانْعَجَمَ الْبَلِيغُ فِي الْمَقَالِ وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْقَيُّومِ ... وَاقْتُصَّ مِنْ ذِي الظُّلْمِ لِلْمَظْلُومِ وَسَاوَتِ الْمُلُوكُ لِلْأَجْنَادِ ... وَجِيءَ بِالْكِتَابِ وَالْأَشْهَادِ وَشَهِدَتِ الْأَعْضَاءُ وَالْجَوَارِحُ ... وَبَدَتِ السَّوْءَآتُ وَالْفَضَائِحُ وَابْتُلِيَتْ هُنَالِكَ السَّرَائِرْ ... وَانْكَشَفَ الْمَخْفِيُّ فِي الضَّمَائِرْ وَنُشِرَتْ صَحَائِفُ الْأَعْمَالِ ... تُؤْخَذُ بِالْيَمِينِ وَالشِّمَالِ طُوبَى لِمَنْ يَأْخُذُ بِالْيَمِينِ ... كِتَابَهُ بُشْرَى بِحُورٍ عِينِ وَالْوَيْلُ لِلْآخِذِ بِالشِّمَالِ ... وَرَاءَ ظَهْرٍ لِلْجَحِيمِ صَالِي وَالْوَزْنُ بِالْقِسْطِ فَلَا ظُلْمَ وَلَا ... يُؤْخَذُ عَبْدٌ بِسِوَى مَا عَمِلَا فَبَيْنَ نَاجٍ رَاجِحٍ مِيزَانُهُ ... وَمُقْرِفٍ أَوْبَقَهُ عُدْوَانُهُ وَيُنْصَبُ الْجِسْرُ بِلَا امْتِرَاءِ ... كَمَا أَتَى فِي مُحْكَمِ الْأَنْبَاءِ يَجُوزُهُ النَّاسُ عَلَى أَحْوَالِ ... بِقَدْرِ كَسْبِهِمْ مِنَ الْأَعْمَالِ فَبَيْنَ مُجْتَازٍ إِلَى الْجِنَانِ ... وَمُسْرِفٍ يُكَبُّ فِي النِّيرَانِ وَالنَّارُ وَالْجَنَّةُ حَقٌّ وَهُمَا ... مَوْجُودَتَانِ لَا فَنَاءَ لَهُمَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وَحَوْضُ خَيْرِ الْخَلْقِ حَقٌّ وَبِهِ ... يَشْرَبُ فِي الْأُخْرَى جَمِيعُ حِزْبِهِ كَذَا لَهُ لِوَاءُ حَمْدٍ يُنْشَرُ ... وَتَحْتَهُ الرُّسُلُ جميعا تحشر كَذَا لَهُ الشَّفَاعَةُ الْعُظْمَى كَمَا ... قَدْ خَصَّهُ اللَّهُ بِهَا تَكَرُّمَا مِنْ بَعْدِ إِذْنِ اللَّهِ لَا كَمَا يَرَى ... كُلُّ قُبُورِيٍّ عَلَى اللَّهِ افْتَرَى يَشْفَعُ أَوَّلًا إِلَى الرَّحْمَنِ فِي ... فَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ أَهْلِ الْمَوْقِفِ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَطْلُبَهَا النَّاسُ إِلَى ... كُلِّ أُولِي الْعَزْمِ الْهُدَاةِ الْفُضَلَا وَثَانِيًا يَشْفَعُ فِي اسْتِفْتَاحِ ... دَارِ النَّعِيمِ لِأُولِي الْفَلَاحِ هَذَا وَهَاتَانِ الشَّفَاعَتَانِ ... قَدْ خُصَّتَا بِهِ بِلَا نُكْرَانِ وَثَالِثًا يَشْفَعُ فِي أَقْوَامٍ ... مَاتُوا عَلَى دِينِ الْهُدَى الْإِسْلَامِ وَأَوْبَقَتْهُمْ كَثْرَةُ الْآثَامِ ... فَأُدْخِلُوا النَّارَ بِذَا الْإِجْرَامِ أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا إِلَى الْجِنَانِ ... بِفَضْلِ رَبِّ الْعَرْضِ ذِي الْإِحْسَانِ وَبَعْدَهُ يَشْفَعُ كُلُّ مُرْسَلِ ... وَكُلُّ عَبْدٍ ذِي صَلَاحٍ وَوَلِي وَيُخْرِجُ اللَّهُ مِنَ النِّيرَانِ ... جَمِيعَ مَنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ فِي نَهْرِ الْحَيَاةِ يُطْرَحُونَا ... فَحْمًا فَيَحْيَوْنَ وَيَنْبِتُونَا كَأَنَّمَا يَنْبُتُ فِي هَيْئَاتِهِ ... حَبُّ حَمِيلِ السَّيْلِ فِي حَافَاتِهِ • أسئلة : 1- اذكر ما تعرف من أمارات الساعة مع بيان بعض التفصيلات والصفات المتعلقة بكل من: الدابة-الدجال-نزول المسيح ابن مريم-يأجوج ومأجوج. 2- ما هي الأمور التي يتناولها الإيمان بالموت؟ 3- ما هي شبه منكري سؤال القبر وعذابه ونعيمه؟ وكيف ترد عليها؟ 4- اذكر الأدلة من القرآن وبعض الأدلة من السنة على السؤال في القبر والعذاب أو النعيم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 5- اذكر دليلًا من الكتاب وآخر من السنة على الإيمان بالصور والنفخ فيه. 6- اذكر ثلاث آيات وحديثين في إثبات البعث والنشور. 7- اذكر أصناف منكري البعث وقول ابن سينا فيه ونبذة عنه وعن عقيدته وأكبر أنصاره. 8- اذكر -مع الأدلة- ما لا يبلى في القبر. 9- اذكر ما تعرفه من أدلة الكتاب والسنة على الحشر وصفته. 10- اذكر من الآيات والأحاديث ما يتعلق بجمع الناس في الموقف وأحوالهم فيه. 11- اذكر من الكتاب والسنة الأدلة على اللقاء. 12- بين المراد بالعرض والحساب مع ذكر بعض الأدلة عليهما. 13- ما المراد بالأشهاد أو الشهداء الذين يجيئون يوم القيامة. 14- اذكر دليلًا من الكتاب وآخر من السنة على شهادة الأعضاء والجوارح على صاحبها يوم القيامة. 15- بين كيف يأخذ الناس صحائف أعمالهم يوم القيامة؟ 16- اذكر الأدلة من الكتاب والسنة على الميزان. وما يوضع فيه؟ 17- اذكر بعض الأدلة من الكتاب والسنة على الصراط وصفته. 18- ما المراد بقوله تَعَالَى: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى ربك حتمًا مقضيًّا) ؟ 19- اذكر نبذة مختصرة عن عقيدة الخوارج والمعتزلة في الصراط والورود. 20- اذكر دليلًا على الاقتصاص من الظالم للمظلوم يوم القيامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 21- ماذا يتضمن الإيمان بالجنة والنار مع الأدلة؟ 22- ما قول جمهور المفسرين في الاستثناء المذكور في قوله تعالى في أهل النار الأشقياء: (خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا ما شاء ربك) ؟ 23- اذكر ما تعرفه من أقوال أهل الضلال فيما يتعلق بالجنة والنار. 24- اذكر من الأدلة ما جاء في الكوثر وحوض نبينا - صلى الله عليه وسلم - وصفته وأن له - صلى الله عليه وسلم - لواء الحمد يوم القيامة. 25- اذكر شروط الشفاعة، وأنواعها، وأسعد الناس بها، مع بيان قول الخوارج والمعتزلة في الشفاعة. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 *الركن السادس: الإيمان بِالْقَضَاءِ وَالْقَدَر: 1- الأدلة على القدر من الكتاب والسنة وذكر بعض أقوال الصحابة في ذلك: -قال تعالى: {إنا كل شيء خلقناه بقدر} (1) . -قَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (2) . -وروى مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: جَاءَ مُشْرِكُو قُرَيْشٍ يُخَاصِمُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقَدَرِ فَنَزَلَتْ: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ*إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ} . -وله عَنْهُ أَيْضًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وأحب عند الله من المؤمن الضعيف وكلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنَّى فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَّرَ اللَّهُ وَمَا شَاءَ فَعَلَ، فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ) . -وسبق في حديث جبريل: (وأن تؤمن بالقدر خيره وشره) . وَفِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَهُ: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على عن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك بشيء قد كتبه الله عليك، ى رفعت الأقلام وجفت الصحف) (3) . -وقال ابن عباس رضي عنهما: إن الرجل ليمشي في الأسواق وإن   (1) القمر: 49. (2) التغابن: 11. (3) صحيح سنن الترمذي 2043. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 اسمه لفي الموتى. رواه عبد الله بن أحمد، وله عنه في قوله: {يمحو الله ما يشاء ويثبت} (1) قَالَ: إِلَّا الشَّقَاوَةَ وَالسَّعَادَةَ وَالْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ. وَلَهُ عنه أيضاً قَالَ: الْإِيمَانُ بِالْقَدَرِ نِظَامُ التَّوْحِيدِ فَمَنْ آمَنَ وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ فَهُوَ نَقْضٌ لِلتَّوْحِيدِ. وَفِي لَفْظٍ: فَمَنْ وَحَّدَ وَكَذَّبَ بِالْقَدَرِ فَقَدْ نَقَضَ التَّوْحِيدَ. -وله عن علي رضي الله عنه، وقد ذكر عنده القدر يوماً، فأدخل إصبعيه السبابة والوسطى في فيه فرقم (2) بهما باطين يَدَيْهِ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ هَاتَيْنِ الرَّقْمَتَيْنِ كَانَتَا فِي أُمِّ الْكِتَابِ. وَلَهُ عَنْ أَسِيرِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: طَلَبْتُ عَلِيًّا فِي مَنْزِلِهِ فَلَمْ أَجِدْهُ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ - كَأَنَّهُ خَوَّفَهُ - قَالَ: فَقَالَ: إِيهِ، لَيْسَ أَحَدٌ إِلَّا وَمَعَهُ مَلَكٌ يَدْفَعُ عنه ما لمن يَنْزِلِ الْقَدَرُ فَإِذَا نَزَلَ الْقَدَرُ لَمْ يُغْنِ شيئاً. -وروى عبد الرزاق عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أنه قال لأبي موسى الأشعري رضي الله عنه: أيقًدِّر عَلَيَّ شَيْئًا يُعَذِّبُنِي عَلَيْهِ؟ فَقَالَ أَبُو مُوسَى: نَعَمْ، قَالَ: لِمَ؟ قَالَ: لِأَنَّهُ لَا يظلمك. فقال عمرو: صدقت. -وقد سبق قول ابن عمر رضي الله عنهما في حديث جبريل: وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْهُ حتى يؤمن بالقدر. 2- مراتب الإيمان بالقدر: الْإِيمَانَ بِالْقَدَرِ عَلَى أَرْبَعِ مَرَاتِبَ. الْمَرْتَبَةُ الْأُولَى: الْإِيمَانُ بِعِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الْمُحِيطِ بِكُلِّ شيء من الموجودات والمعدومات والممكنات والمستحيلات.   (1) الرعد: 39. (2) أي ختم أو علّم علامة، والرقم هو التنقيط أو النقش. انظر النهاية ولسان العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 -قَالَ تَعَالَى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هو عالم الغيب والشهاداة} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ... } (2) . -وروى البخاري عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُعْرَفُ أَهْلُ الْجَنَّةِ مِنْ أَهْلِ النَّارِ؟ قَالَ: (نَعَمْ) . قَالَ: فَلِمَ يَعْمَلُ الْعَامِلُونَ؟ قَالَ: (كلٌّ يَعْمَلُ لِمَا خُلق لَهُ) أَوْ (لما يُسِّرَ له) . -وروى مسلم عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ الْغُلَامَ الَّذِي قَتَلَهُ الْخَضِرُ طُبِعَ كَافِرًا، وَلَوْ عَاشَ لَأَرْهَقَ أَبَوَيْهِ طُغْيَانًا وَكُفْرًا) . -وله عَنْ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: دُعِيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى جِنَازَةِ صَبِيٍّ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ طُوبَى لَهُ عُصْفُورٌ مِنْ عَصَافِيرِ الْجَنَّةِ لَمْ يَعْمَلِ السُّوءَ وَلَمْ يُدْرِكْهُ، قَالَ: (أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ يَا عَائِشَةُ، إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ لِلْجَنَّةِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لَهَا وَهُمْ فِي أَصْلَابِ آبَائِهِمْ وَخَلَقَ لِلنَّارِ أَهْلًا خَلَقَهُمْ لها وهم في أصلاب آبائهم) (3) . المرتبة الثانية: الإيمان بكتاب الله الَّذِي لَمْ يُفَرِّطْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ: -قَالَ تَعَالَى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} (4) .   (1) الحشر: 22. (2) سبأ: 3. (3) وانظر كلام الألباني في الرد على من توهم من أمثال هذه الأحاديث أن الإنسان مجبور على الشر أو الخير دون اختيار منه ولا إرادة، وذلك في سلسلة الأحاديث الصحيحة في المجلد الأول ص87-80 حديث 50. (4) يس: 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 -وَقَالَ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يسير} (1) . -وفي صحيح البخاري عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ومعه عود ينكت في الأرض وقال: (وما منكم أحد إلاّ وقد كُتِبَ مَقْعَدُهُ مِنَ النَّارِ أَوْ مِنَ الْجَنَّةِ) . فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: أَلَا نَتَّكِلُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (لَا، اعْمَلُوا فكلٌ مُيَسَّرٌ) ثُمَّ قَرَأَ: {فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بالحسنى} (2) الآية. -وللترمذي وأحمد واللفظ له عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ رَكِبَ خَلْفَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (يَا غُلَامُ إِنِّي مُعْلِمُكَ كَلِمَاتٍ يَنْفَعُكَ اللَّهُ بِهِنَّ: احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فَاسْأَلِ اللَّهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلَّا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الأقلام وجفت الصحف) (3) . وَالْإِيمَانُ بِكِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ يَدْخُلُ فِيهِ خَمْسَةُ تَقَادِيرَ: 1- التقدير الأزلي قبل خلق السموات وَالْأَرْضِ عِنْدَمَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَلَمَ كَمَا قال ربنا تبارك وَتَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يسير * لكيلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتاكم} (4) .   (1) الحج: 70. (2) الليل: 5، 6. (3) وانظر صحيح سنن الترمذي للألباني، حديث رقم 2043 وقد سبق قبل ثلاث صفحات. (4) الحديد 22، 23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 وروى البخاري عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (كان الله ولم يكن في شَيْءٌ غَيْرُهُ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) . -وروى مسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، قَالَ: وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ) . -وروى أبو داود عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - يقول: (إن أول مَا خَلْقَ اللَّهُ الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، قال: رب وماذا أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة) (1) . 2- كِتَابَةُ الْمِيثَاقِ يَوْمَ (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) : -قَالَ تَعَالَى: {وإذا أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ * وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات ولعلهم يرجعون} (2) . روى أحمد عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ قَتَادَةَ السُّلَمِيِّ رَضِيَ الله عنه مرفوعاً: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ خَلَقَ آدَمَ، ثُمَّ أخذ الخلق من ظهره، وقال: هؤلاء إلى الْجَنَّةِ وَلَا أُبَالِي وَهَؤُلَاءِ فِي النَّارِ وَلَا أبالي) ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَعَلَى مَاذَا العمل؟ قال: (على مواقع القدر) (3) .   (1) صحيح. صحيح الجامع الصغير 2014. (2) الأعراف: 172-174. (3) صححه الحاكم ووافقه الذهبي. قال الألباني: وهو كما قالا. سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 48، وانظر رده حفظه الله على من توهم من أمثال هذه الأحاديث أن الإنسان مجبور على الخير أو الشر دون اختيار منه ولا إرادة في تعليقه على حديث 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 3- التقدير الْعُمْرِيُّ عِنْدَ تَخْلِيقِ النُّطْفَةِ فِي الرَّحِمِ، فَيُكْتَبُ إذ ذاك ذكورتها وَأُنُوثَتُهَا وَالْأَجْلُ وَالْعَمَلُ وَالشَّقَاوَةُ وَالسَّعَادَةُ وَالرِّزْقُ وَجَمِيعُ مَا هُوَ لاقٍ فَلَا يُزَادُ فِيهِ وَلَا ينقص منه. -ففي الصحيحين واللفظ لمسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ - يَعْنِي ابْنَ مَسْعُودٍ - رَضِيَ الله تعالى عَنْهُ قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: (أَنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك، ثم يكون في ذلك مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: يَكْتُبُ رِزْقَهُ، وَأَجَلَهُ، وَعَمَلَهُ، وَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ. فَوَالَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرَهُ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ حَتَّى مَا يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أهل الجنة فيدخلها) . 4- التَّقْدِيرُ الْحَوْلِيُّ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ، يُقَدَّرُ فِيهَا مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ إِلَى مِثْلِهِ: قَالَ تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا منزلين * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عندنا إنا كنا مرسلين} (1) قال الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِنَّهَا لَفِي رَمَضَانَ وَإِنَّهَا لَلَيْلَةُ الْقَدْرِ، يُفْرَقُ فِيهَا كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ، فِيهَا يَقْضِي اللَّهُ تَعَالَى كُلُّ أَجَلٍ وَعَمَلٍ وَرِزْقٍ إِلَى مثلها. وقال ابن عباس رضي الله عنهما: يُكْتَبُ مِنْ أُمِّ الْكِتَابِ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ مَا يَكُونُ فِي السَّنَةِ مِنْ مَوْتٍ وَحَيَاةٍ وَرِزْقٍ وَمَطَرٍ حَتَّى الْحُجَّاجِ يُقَالُ يَحُجُّ فُلَانٌ ويحج فلان. 5- التَّقْدِيرُ الْيَوْمِيُّ، وَهُوَ سَوْقُ الْمَقَادِيرِ إِلَى الْمَوَاقِيتِ التي قدرت لها فيما سبق:   (1) الدخان: 3-5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 قال تعالى: {يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هو في شأن} (1) فمن شانه تعالى أَنْ يَغْفِرَ ذَنْبًا وَيُفَرِّجَ كَرْبًا وَيَرْفَعَ قَوْمًا ويضع آخرين، وهذا التفسير علقه البخاري موقوفاً عن أبي الدرداء رضي الله عنه. وقال السين بْنُ فَضْلٍ: هُوَ سَوقُ الْمَقَادِيرِ إِلَى الْمَوَاقِيتِ. وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ أَنَّ التَّقْدِيرَ الْيَوْمِيَّ هُوَ تَأْوِيلُ الْمَقْدُورِ عَلَى الْعَبْدِ وَإِنْفَاذُهُ فِيهِ في الوقت الذي سبق أن يَنَالُهُ فِيهِ، لَا يَتَقَدَّمُهُ وَلَا يَتَأَخَرُهُ، كَمَا أَنَّ فِي الْآخِرَةِ يَأْتِي تَأْوِيلُ الْجَزَاءِ الْمَوْعُودِ إن خيراً فخير وإن شراً فشر. ثُمَّ هَذَا التَّقْدِيرُ الْيَوْمِيُّ تَفْصِيلٌ مِنَ التَّقْدِيرِ العمري الأول يوم الميثاق، وهو تفصيل مِنَ التَّقْدِيرِ الْأَزَلِيِّ الَّذِي خَطَّهُ الْقَلَمُ فِي الْإِمَامِ الْمُبِينِ. وَالْإِمَامُ الْمُبِينُ هُوَ مِنْ عِلْمِ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَكَذَلِكَ مُنْتَهَى المقادير وآخريتها إلى علم الله عز وجل. الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الْإِيمَانُ بِمَشِيئَةِ اللَّهِ النَّافِذَةِ وَقُدْرَتِهِ الشاملة، فما شاء الله كَوْنَهُ فَهُوَ كَائِنٌ بِقُدْرَتِهِ لَا مَحَالَةَ {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كن فيكون} (2) ، وَمَا لَمْ يَشَأِ اللَّهُ تَعَالَى لَمْ يَكُنْ لِعَدَمِ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيَّاهُ لَيْسَ لِعَدَمِ قدرته عليه: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كلهم جَمِيعًا} (3) ، {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا} (4) ، {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} (5) ، فَالسَّبَبُ فِي عَدَمِ وُجُودِ الشَّيْءِ هُوَ عَدَمُ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِيجَادَهُ لَا أَنَّهُ عجز عنه، تعالى الله   (1) الرحمن: 29. (2) يس: 82. (3) يونس: 99. (4) البقرة: 253. (5) السجدة: 13. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وَتَقَدَّسَ وَتَنَزَّهَ عَنْ ذَلِكَ {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قديراً} (1) . المرتبة الرابعة: مرتبة الخلق، وهي الإيمان بأن الله خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، فَهُوَ خَالِقُ كُلِّ عَامِلٍ وعمله، وكل متحرك وحركته، وكل ساكن وسونه، وما من ذرة من السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى خَالِقُهَا وَخَالِقُ حَرَكَتِهَا وَسُكُونِهَا، سُبْحَانَهُ لَا خَالِقَ غَيْرُهُ وَلَا رَبَّ سِوَاهُ. وَهَاتَانِ الْمَرْتَبَتَانِ -الثالثة والرابعة- قد تقدم الكلام عليهما في توحيد المعرفة والإثبات (2) . 3- قول أهل السنة وأقوال المخالفين لهم من أهل الضلال (القدرية والجبرية) في مشيئة العباد وقدرتهم على أعمالهم (3) : أهل السنة يقولون: أن للعباد مشيئة وقدرة على أعمالهم بمقتضاها يثابون أو يعاقبون ولكن هذه القدرة وتلك المشيئة تهيمن عليهما وتحيط بهما قدرة الله عز وجل ومشيئته (4) ، فلا يقدر العبد على غير ما شاءه الله وأراده في كونه، وليس   (1) فاطر: 44. (2) فاطر ص 23-27. (3) وانظر: (القضاء والقدر ومسئولية الإنسان) للشيخ ابن عثيمين حفظه الله. مجلة البيان، العدد الخامس. (4) ومن الواضح البين أن العبارة لا تعني أن العبد مقهور مجبور على عمله وبخاصة أمر الهدى والضلال لأن ذلك معناه تجريد العبد تمامً عن قدرته ومشيئته وهو خلاف ما ذكرنا من أن للعبد مشيئة وقدرة على عمله، وإنما المراد أن العبد لا يتم عمله ولا تنفذ مشيئته إلا بمشيئة الله، ومن ثم فلا يهتدي أحد ولا يضل إلا بمشيئة الله. قال تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} [الأنفال: 24] ، وقال تَعَالَى: {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صراط مستقيم} [الأنعام: 39] . ولكن إذا علمنا هذا فينبغي أن نعلم أيضاً أنه عز وجل أعلم بمواضع فضله ورحمته وهدايته وأعلم بمواقع سخطه وعقوبته فلا يضل إلا من يستحق الضلال، قال تعالى: {وما يضل به إلا الفاسقين} [البقرة: 26] ، وقال تعالى: {وما كان الله ليضل قوماً بعد إذ هداهم..} [التوبة: 115] ، وقال تعالى: {والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم} [محمد:17] ، وفي الحديث القدسي: (إذا تقرب العبد إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً..) انظر فتح الباري شرح صحيح البخاري ج13 ص521، وقال تعالى: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً} [النساء: 137] ، وقال عز وجل: {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع الله على قلوبهم} [المنافقون:3] ، فإذا أريت أيها العبد من نفسك لربك خيراً بصدق وعزيمة وإخلاص فأبشر بهداية الله لك وفضله، وأنت لا تعلم هل كتبك الله من الضالين حتى تسلك سبيل الضلال وتقول: إن كان كتبني ضالاً فلن أستطيع سلوك سبيل الهداية..فالأولى للعبد الاشتغال بالعمل الصالح فذلك سبيل الهداية وسبب الفوز بالجنة والنجاة من النار: {ولا يظلم ربك أحداً} [الكهف: 49] ، والله تعالى أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 معنى مشيئة العبد وقدرته على عمله أنه خالق لعمله بل الله عز وجل هو خالق العامل وعمله. أما أهل الضلال فهم طرفان متناقضان تماماً في هذا الأمر وأهل السنة وسط بينهما، فطرف منهم يغالي في إثبات مشيئة العبد وقدرته على عمله حتى جعلوه خالقاً لعمله، وقالوا لا قدر، وهؤلاء هم القدرية النفاة الذين أطلقوا مشيئة الإنسان من مشيئة الله عز وجل وجعلوه مستقلاً بأمره كله دون الله عز وجل وطرف آخر يسلب العبد مشيئته وقدرته على عمله حتى جعلوه كالريشة في مهب الريح فليس العبد عندهم هو الذي عمل كذا أو اكتسب كذا وإنما الله -تعالى عن قولهم- هو الذي عمل الطاعة أو الحسبة واكتسب المعصية أو السيئة فأضافوا لله الفعل ولانفعال أي أضافوا إليه الخلق والعمل للمخلوق أما أهل السنة فهداهم الله عز وجل فأضافوا الخلق الذي هو فعله تعالى القائم به له عز وجل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 حقيقة وأضافوا الكفر والإيمان الذي هو عمل العباد القائم بهم وكسبهم إليهم حقيقة، فالله خالق والعبد مخلوق والله هاد أو مضل والعبد مهتد أو ضال، فالفعل (1) يضاف لله والانفعال (2) يضاف للعبد فالهداية منه تعالى والاهتداء من العبد وهكذا ... أ-أدلة أهل السنة على مذهبهم : -قال تَعَالَى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ * وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أن يشاء الله رب العالمين} (3) . فالآيات تدل على أن للعباد قدرة على أعمالهم ولهم مشيئة واختيار وإن ذلك كله لا يتم لهم إلا بإذن الله ومشيئته، والله تعالى هو خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ وَأَقْوَالِهِمْ وَأَعْمَالِهِمْ، وَهُوَ تَعَالَى الَّذِي مَنَحَهُمْ إِيَّاهَا وَأَقْدَرَهُمْ عَلَيْهَا وَجَعَلَهَا قَائِمَةً بِهِمْ مُضَافَةً إِلَيْهِمْ حَقِيقَةً، وَبِحَسَبِهَا كُلِّفُوا وعليها يُثَابُونَ وَيُعَاقَبُونَ، وَلَمْ يُكَلِّفْهُمُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا وسعهم ولم يحملهم إلا طاقتهم، قال تَعَالَى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لما ما كسبت وعليها ما اكتسبت} (4) .   (1) أي: الخلق.. (2) أي: العمل والكسب كما قال تَعَالَى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [السجدة: 14] ، وقال: {فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون} [الأعراف: 39] ، وقال أيضاً: {وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شهوداً إذ تفيضون فيه} [يونس: 61] ، وقد يسمى ذلك فعلاً ويضاف للعبد بهذا المعنى لا بمعنى الخلق، كما قال عز وجل: {إن الله يعلم ما تفعلون} [النحل:: 91] ، وقال تعالى في جانب الشر: {كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا يفعلون} [المائدة: 79] ، وقال في جانب الخير: {وافعلوا الخير لعلكم تفلحون} [الحج: 77] ، أي اعملوه وليس المعنى اخلقوه، وأما ما قصده الشيخ رحمه الله بإضافة الفعل إلى الله والانفعال إلى العبد، وأن من أضاف الفعل للعبد فقد كفر، فالمراد بذلك خلق الفعل لا أداؤه واكتسابه والله أعلم. (3) التكوير: 27 - 29. (4) البقرة: 286. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 -وَقَالَ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كنتم تعملون} (1) أي بسبه، وَقَالَ تَعَالَى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تعملون} (2) . فالآيتان فيهما دلالة واضحة على أن عمل العبد وكسبه يضاف إليه وأن له قدرة على عمله وله مشيئة يثاب أو يعاقب بمقتضاها. -وللبخاري عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ الْخَنْدَقِ يَنْقُلُ مَعَنَا التُّرَابَ وَهُوَ يَقُولُ: (وَاللَّهِ لَوْلَا اللَّهُ مَا اهْتَدَيْنَا وَلَا صُمْنَا ولا صلينا..) . -فالحديث واضح الدلالة في أن كل شيء في قدرة الله وأمره بما في ذلك الاهتداء، وأن الله عز وجل هو موجد الهداية وخالقها والعبد لم يخلق فعل نفسه ولم يوجده، فَكَمَا لَمْ يُوجِدِ الْعِبَادُ أَنْفُسَهُمْ لَمْ يُوجِدُوا أَفْعَالَهُمْ، فَقُدْرَتُهُمْ وَإِرَادَتُهُمْ وَمَشِيئَتُهُمْ وَأَفْعَالُهُمْ تَبَعٌ لِقُدْرَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَإِرَادَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَأَفْعَالِهِ إِذْ هُوَ تَعَالَى خَالِقُهُمْ وَخَالِقُ قُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمْ وَإِرَادَتِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ. وليس مشيئتهم وأرادتهم وَأَفْعَالُهُمْ هِيَ عَيْنُ مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِرَادَتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَفِعْلِهِ. كَمَا لَيْسُوا هُمْ إِيَّاهُ تَعَالَى الله عن ذلك، فالله تَعَالَى هادٍ حَقِيقَةً وَالْعَبْدُ مهتدٍ حَقِيقَةً، وَلِهَذَا أضاف الله تعالى في الآية كُلًّا مِنَ الْفِعْلَيْنِ إِلَى مَنْ قَامَ بِهِ فقال عز وجل: {كم يهد الله فهو المهتد} (3) . وفي الحديث أضاف الرسول - صلى الله عليه وسلم - الاهتداء والصلاة والصوم للعباد، ولكنه بين مع ذلك أنهم لم يخلقوا ذلك ولم يوجدوه بأنفسهم وإنما عملوه وكسبوه بإقدار الله لهم على ذلك وتوفيقهم له، وهذا واضح في قي قوله: (والله لولا الله ما اهتدينا ... ) فَإِضَافَةُ الْهِدَايَةِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى حَقِيقَةً وَإِضَافَةُ الاهتداء إلى العبد حقيقية، وَكَمَا أَنَّ الْهَادِيَ تَعَالَى لَيْسَ هُوَ عَيْنُ   (1) الزخرف: 72. (2) السجدة: 14. (3) الكهف: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 المهتدي، فكذلك ليس الْهِدَايَةُ هِيَ عَيْنُ الِاهْتِدَاءِ، وَكَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ تَعَالَى مَنْ يَشَاءُ حَقِيقَةً وَذَلِكَ الْعَبْدُ يَكُونُ ضالاً حقيقة، وذلك الضلال من خلق الله وتقديره وهو كسب العبد وعمله. -وَقَالَ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ والله بما تعملون بصير (1) ، فهو سبحانه خالق المؤمن وإيمانه وخالق الكافر وكفره، كما قال جلا وَعَلَا: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} أَيْ هُوَ الْخَالِقُ لَكُمْ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ وَأَرَادَ مِنْكُمْ ذَلِكَ كَوْنًا لَا شَرْعًا، فَلَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ مُؤْمِنٍ وَكَافِرٍ، وَهُوَ الْبَصِيرُ بِمَنْ يَسْتَحِقُّ الْهِدَايَةَ مِمَّنْ يَسْتَحِقُّ الضَّلَالَ، وَهُوَ شهيد من أَعْمَالِ عِبَادِهِ، وَسَيَجْزِيهِمْ بِهَا أَتَمَّ الْجَزَاءِ، وَلِهَذَا قال: {والله بما تعلمون بصير} فأضاف الْخَلْقَ الَّذِي هُوَ فِعْلُهُ الْقَائِمُ بِهِ إِلَيْهِ حَقِيقَةً، وَأَضَافَ الْإِيمَانَ وَالْكُفْرَ الَّذِي هُوَ عَمَلُهُمُ القائم بهم إليهم، والله تعالى هُوَ الَّذِي جَعَلَهُمْ كَذَلِكَ، وَهُمْ فَعَلُوهُ بِاخْتِيَارِهِمْ وَقُدْرَتِهِمْ وَمَشِيئَتِهِمُ الَّتِي مَنَحَهُمُ اللَّهُ إِيَّاهَا وَخَلَقَهَا فيهمن وأمرهم ونهاهم بحسبها. ب-الجبرية وتأويلاتهم الفاسدة السخيفة لآيات الله عز وجل : الجبرية هم أولئك الغلاة الجفاة الذين ينفون عن العبد مشيئة وقدرته ويزعمون أنه مَجْبُورٌ عَلَى أَفْعَالِهِ مَقْسُورٌ عَلَيْهَا كَالسَّعَفَةِ يُحَرِّكُهَا الرِّيحُ الْعَاصِفُ وَكَالْهَاوِي مِنْ أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ وأن تكليف الله سبحانه وعباده من أمره بِالطَّاعَاتِ وَنَهْيِهِمْ عَنِ الْمَعَاصِي كَتَكْلِيفِ الْحَيَوَانِ الْبَهِيمِ بِالطَّيَرَانِ وَتَكْلِيفِ الْمُقْعَدِ بِالْمَشْيِ وَتَكْلِيفِ الْأَعْمَى بِنَقْطِ الكتاب، وأن تعذيبه إياهم على معصيته إِيَّاهُ هُوَ تَعْذِيبٌ لَهُمْ عَلَى فِعْلِهِ لَا عَلَى أَفْعَالِهِمْ، وَأَنَّ ذَلِكَ كَتَعْذِيبِ الطَّوِيلِ لِمَ لَمْ يَكُنْ قَصِيرًا وَالْقَصِيرِ لِمَ لَمْ يَكُنْ طَوِيلًا وَالْأَسْوَدِ لِمَ لَمْ يَكُنْ أَبْيَضَ وَالْأَبْيَضِ لِمَ   (1) التغابن: 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 لَمْ يَكُنْ أَسْوَدَ، فَسَلَبُوا الْعَبْدَ قُدْرَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ وأخرجوه عَنْ أَفْعَالِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَحْكَامِهِ حِكَمَهَا وَمَصَالِحَهَا وَنَفَوْا عَنِ اللَّهِ تَعَالَى حِكْمَتَهُ الْبَالِغَةَ وَجَحَدُوا حُجَّتَهُ الدَّامِغَةَ وَأَثْبَتُوا عَلَيْهِ تَعَالَى الْحُجَّةَ لِعِبَادِهِ، وَنَسَبُوهُ تَعَالَى إِلَى الظُّلْمِ وَطَعَنُوا فِي عَدْلِهِ وشرعه، وتخبطوا في آيات الله عز وجل وتأولوها تأويلات فاسدة بل سخيفة ومضحكة. -اجتمع جماعة من هؤلاء يوماً فتذكروا الْقَدَرَ، فَجَرَى ذِكْرُ الْهُدْهُدِ وَقَوْلُهُ {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} (1) ، فقال بعضهم: كَانَ الْهُدْهُدُ قَدَرِيًّا، أَضَافَ الْعَمَلَ إِلَيْهِمْ وَالتَّزْيِينَ إِلَى الشَّيْطَانِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ فِعْلُ اللَّهِ!! . -وَسُئِلَ بعض هؤلاء عن قوله تعالى: {وماذا عليهم لو آمنوا} (2) إذا كان هو الذي معهم؟ قَالَ: اسْتِهْزَاءٌ بِهِمْ. قَالَ: فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} (3) ؟ قال: فعل ذلك مِنْ غَيْرِ ذَنْبٍ جَنَوْهُ، بَلِ ابْتَدَأَهُمْ بِالْكُفْرِ ثم عذبهم عليه، وليس مَعْنًى!! . -وَقَالَ بَعْضُ هَؤُلَاءِ وَقَدْ عُوتِبَ عَلَى ارتكابه معاصي الله: إِنْ كُنْتُ عَاصِيًا لِأَمْرِهِ فَأَنَا مُطِيعٌ لِإِرَادَتِهِ. -وعن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أنه قال: عتبت بَعْضَ شُيُوخِ هَؤُلَاءِ، فَقَالَ لِي: الْمَحَبَّةُ نَارٌ تَحْرِقُ مِنَ الْقَلْبِ مَا سِوَى مُرَادِ الْمَحْبُوبِ، وَالْكَوْنُ كُلُّهُ مُرَادُهُ، فَأَيُّ شَيْءٍ أَبْغَضُ مِنْهُ؟ قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: إِذَا كَانَ الْمَحْبُوبُ قَدْ أَبْغَضَ بَعْضَ مَنْ فِي الْكَوْنِ وَعَادَاهُمْ وَلَعَنَهُمْ فأحببتهم لأنت وَوَالَيْتَهُمْ، أَكُنْتَ وَلِيًّا لِلْمَحْبُوبِ، أَوْ عَدُوًّا لَهُ؟ قال: فكأنما ألقم حجراً.   (1) النمل: 24. (2) النساء: 39. (3) النساء: 147. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 -وقرأ قارئ بحضرة هَؤُلَاءِ: {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} (1) فَقَالَ: هُوَ اللَّهُ مَنَعَهُ. وَلَوْ قَالَ إِبْلِيسُ ذَلِكَ لَكَانَ صَادِقًا، وَقَدْ أَخْطَأَ إِبْلِيسُ الْحُجَّةَ وَلَوْ كُنْتُ حَاضِرًا لَقُلْتُ لَهُ: أَنْتَ مَنَعْتَهُ. -وسمع هَؤُلَاءِ قَارِئًا يَقْرَأُ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا العمى على الهدى} (2) فَقَالَ: لَيْسَ مِنْ هَذَا شَيْءٌ، بَلْ أَضَلَّهُمْ وأعماهم. جـ- القدرية وما جاء في ذمهم وحكمهم من النصوص والآثار وأقوال الأئمة : القدرية هم الذين يقولون لا قدر ويجعلون العبد خالق فعل نفسه. وأول من أحدث هذه البدعة فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعْبَدُ الْجُهَنِيُّ فِي آخِرِ عصر الصحابة كما قدمناه عن يحي بن معمر في سياق حديث جبريل في سُؤَالِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الدِّينِ، وَأَنْكَرَ عَلَيْهِ ذَلِكَ بَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ وَأَئِمَّةُ التَّابِعِينَ وتبرؤا من هذا الاعتقاد وكفروا منتحليه ونفعوا عَنْهُ الْإِيمَانَ وَأَوْصَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا بِمُجَانَبَتِهِ وَالْفِرَارِ من مجالسته، ثم تقلد عنه الْمَذْهَبَ الْفَاسِدَ وَالسُّنَّةَ السَّيِّئَةَ الَّتِي انْتَحَلَهَا هُوَ رءوس الْمُعْتَزِلَةِ وَأَئِمَّتُهُمُ الْمُضِلُّونَ كَوَاصِلِ بْنِ عَطَاءٍ الْغَزَّالِ، وعمر بْنِ عَبِيدٍ، وَمَنْ فِي مَعْنَاهُمْ وَعَلَى طَرِيقَتِهِمْ حَتَّى بَالَغَ بَعْضُهُمْ فَأَنْكَرَ عِلْمَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْكَرَ كِتَابَةَ الْمَقَادِيرِ السَّابِقَةِ وَجَعَلَ الْعِبَادَ هُمُ الْخَالِقِينَ لِأَفْعَالِهِمْ، وَلِهَذَا كَانُوا هُمْ مَجُوسُ هَذِهِ الأمة. وقد تعددت النصوص وأقوال أئمة السلف في ذمهم وأنهم مبتدعة ومن جحد منهم علم الله الأزلي فهو كافر ومن كان منهم داعية لذلك الباطل فإنه يقتل، وفيما يلي طرف من تلك النصوص والآثار وكلام أئمة السلف وعلمائهم في ذلك:   (1) ص: 75. (2) فصلت: 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 روى مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن هَذِهِ الْآيَةُ: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ*إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خلقناه بقدر} أنها نزلت في المخاصمين في القدر. وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ) رواه ابن داود عن ابن عمر (1) ,. ورواه أحمد عنه بلفظ: إن رسول - صلى الله عليه وسلم - قالب: (لِكُلِّ أَمَةٍ مَجُوسٌ، وَمَجُوسُ أُمَّتَيِ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا قدر، إِنْ مَرِضُوا فَلَا تَعُودُوهُمْ وَإِنْ مَاتُوا فَلَا تَشْهَدُوهُمْ) (2) . وسبق قول عمر في حديث جبريل ليحي بن معمر: (فَإِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ بُرَآءُ مِنِّي، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ الله بن عمر لو لأن لِأَحَدِهِمْ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأَنْفَقَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا قَبِلَهُ اللَّهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بالقدر) . -وعن أبي بحر البكراوي أن عمرو بن عبيد قال لرجل: (إِنَّ عِلْمَ اللَّهِ لَيْسَ بِسُلْطَانٍ، إِنَّ عِلْمَ الله لا يضر ولا ينفع. قال: قُلْتُ إِنْ كَانَ قَالَ هَذَا وَمَاتَ عَلَيْهِ فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَإِنْ كان ذلك مكذوباً فلعنة الله على الكاذبين) . -وقال إبراهيم بن طمهان: الجهمية كفار والقدرية كفار. -وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ: سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ: لَا يُصَلَّى خَلْفَ الْقَدَرِيَّةِ وَالْمُعْتَزِلَةِ وَالْجَهْمِيَّةِ. وسألت أبي مرة عَنِ الصَّلَاةِ خَلْفَ الْقَدَرِيِّ، فَقَالَ: إِنْ كَانَ يُخَاصِمُ فِيهِ أَوْ يَدْعُو إِلَيْهِ فَلَا يُصَلَّى خلفه. وقال: سمعت   (1) حسنه الألباني: صحيح الجامع الصغير 4138، تخريج المشكاة 107. (2) حسنه الألباني: صحيح الجامع الصغير 5039، تخريج المشكاة 107. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 أَبِي وَسَأَلَهُ عَلِيُّ بْنُ الْجَهْمِ عَمَّنْ قَالَ بِالْقَدَرِ يَكُونُ كَافِرًا؟ قَالَ: إِذَا جَحَدَ الْعِلْمَ. -وعن أبي رجاء قال: رأيت رجلان يَتَكَلَّمَانِ فِي المِرْبد (1) فِي الْقَدَرِ، فَقَالَ فَضْلٌ الرَّقَاشِيُّ لِصَاحِبِهِ: لَا تُقِرُّ لَهُ بِالْعِلْمِ، إِنْ أقررت له بالعلم فأمكنت من نفسك عَرْضَ الْمِرْبَدِ. -وَعَنْ حَوْثَرَةَ بْنِ أَشْرَسَ قَالَ: سَمِعْتُ سَلَّامًا أَبَا الْمُنْذِرِ غَيْرَ مَرَّةٍ وَهُوَ يَقُولُ: سَلُوهُمْ عَنِ الْعِلْمِ، هَلْ عَلِمَ أَوْ لَمْ يَعْلَمْ؟ فَإِنْ قَالُوا: قَدْ عَلِمَ فَلَيْسَ فِي أَيْدِيهِمْ شَيْءٌ، وَإِنْ قَالُوا: لَمْ يَعْلَمْ فقد حلت دماؤهم. -وَكَانَ نَافِعٌ مَوْلَى ابْنِ عُمَرَ يَقُولُ لِأَمِيرٍ كَانَ عَلَى الْمَدِينَةِ: أَصْلَحَكَ اللَّهُ اضْرِبْ أَعْنَاقَهُمْ. يعني: القدرية. -وَقَالَ مَالِكٌ عَنْ عَمِّهِ سَهْلٍ قَالَ: كُنْتُ مَعَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فَقَالَ لِي: مَا تَرَى فِي هَؤُلَاءِ الْقَدَرِيَّةِ؟ قَالَ: قُلْتُ: أَرَى أَنْ تَسْتَتِيبَهُمْ فَإِنْ قَبِلُوا وَإِلَّا عَرَضْتَهُمْ عَلَى السَّيْفِ. فَقَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ: ذلك رأيي. قال إسحاق ابن عيسى لمالك: أَسْأَلُكَ فَمَا رَأْيُكَ أَنْتَ؟ قَالَ: هُوَ رَأْيِي. -وقال ابن عون: أنا رأيت غيلان -وكان قدرياً- مَصْلُوبًا عَلَى بَابِ دِمَشْقَ. -وَعَنْهُ قَالَ فِي أَصْحَابِ الْقَدَرِ: فَإِنْ تَابُوا وَإِلَّا نُفُوا مِنْ دار المسلمين. 4- القدر السابق لا يمنع من العمل: اتفقت جَمِيعُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ وَالسُّنَنِ النَّبَوِيَّةِ عَلَى أَنَّ القدر السابق لا يمنع العمل ولا يوجب الِاتِّكَالَ، بَلْ يُوجِبُ الْجِدَّ وَالِاجْتِهَادَ وَالْحِرْصَ عَلَى العمل.   (1) هو الموضع الذي يجفف فيه التمر وقال الأصمعي: المربد كل شيء حبست فيه الإبل أو الغنم، وسمي مربد البصرة، لأنه كان موضع سوق الإبل. فتح الباري ج7 ص289. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 والله تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدَّرَ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ وَأَسْبَابَ كُلٍّ منهما، فالأخذ بالأسباب من القدر المكتوب وليس معارضة له وقد تنفع بإذن الله (1) وعلى العبد تحصيلها وشأن من يترك الأسباب بحجة القدر المكتوب كشأن من يترك الطاعة وسلوك سبيل الهداية بحجة القدر السابق، وقد سبق قوله - صلى الله عليه وسلم -: (احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تعجز) (2) ، وقوله: (اعملوا فكلٌّ ميسر) (3) . 5- الكلام على بعض الاعتقادات الجاهلية التي تتعارض مع الإيمان بالقدر: أ-الكلام على النوء : وهو من الاعتقاد في النجوم الذي سبق الْقَوْلِ فِي بَيَانِ بُطْلَانِهِ، فَإِنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لِمَطَالِعَ الْكَوَاكِبَ وَمَغَارِبِهَا وَسَيْرِهَا وَانْتِقَالِهَا وَاقْتِرَانِهَا وَافْتِرَاقِهَا تَأْثِيرًا فِي هُبُوبِ الرِّيَاحِ وَسُكُونِهَا وَفِي مَجِيءِ الْمَطَرِ وَتَأَخُّرِهِ، وَفِي رُخْصِ الْأَسْعَارِ وَغَلَائِهَا وَغَيْرِ ذَلِكَ. فَإِذَا وَقَعَ شَيْءٌ مِنَ الْحَوَادِثِ نَسَبُوهُ إِلَى النُّجُومِ فَقَالُوا: هَذَا بِنَوْءِ عُطَارِدَ أَوِ المشترى أو المريخ أو كذا وكذا. وَرَدَّ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَيْهِمْ وَأَكْذَبَهُمْ بِمَا أنزله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - قال تَعَالَى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ، فَإِذَا أَصَابَ به من يشاء من عباده إذ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كل شيء قدير} (4) .   (1) وفي الحديث: (الدواء من القدر وقد ينفع بإذن الله تعالى) ، وفي رواية: (وهو ينفع من يشاء بما شاء) حسنهما الألباني صحيح الجامع الصغير 3409، 3410. (2) انظر ص278. (3) انظر ص 280. (4) الروم: 48-50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 وَقَالَ تَعَالَى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ - إِلَى قوله تعالى - وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} (1) . وللشيخين عَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ أَنَّهُ قَالَ: صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ (2) كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: (أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: (قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِي فَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بالكوكب) وَعَلَيْهِ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} (3) . ولمسلم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قَالَ: مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم -: (أصبح من الناس شار، وَمِنْهُمْ كَافِرٌ) قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللَّهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا، قَالَ: فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ - حتى بلغ - وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} (4) . ب-الكلام على العدوى والجمع بين ما ورد في نفيها وبين الأمر بالفرار من المجذوم، والنهي عن إيراد الممرض على المصح وعن القدوم على بلاد الطاعون : أما الْعَدْوَى فَكَانُوا يَعْتَقِدُونَ سَرَيَانَ الْمَرَضِ مِنْ جَسَدٍ إلى جسد بطبيعته،   (1) الواقعة: 75-82. (2) إثر بكسر الهمزة وسكون الثاء على المشهور وهو ما يعقب الشيء، وسماء أي مطر،؟ وأطلق عليه سماء لكونه ينزل من جهة السماء وكل جهة علو تسمى سماء. فتح الباري ج2 ص607. (3) الواقعة 82. (4) قال ابن كثير رحمه الله في تفسيرها: قال بعضهم: معنى وتجعلون رزقكم بمعنى شكركم، أنكن تكذبون: أي تكذبون بدل الشكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 فَنَفَى اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون} (1) . وَقَالَ تَعَالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} (2) . وَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إن كنتم صادقين} (3) . وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - قَالَ: (لَا عَدْوَى) فَقَامَ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَرَأَيْتَ الْإِبِلَ تَكُونُ فِي الرِّمَالِ أَمْثَالَ الظِّبَاءِ فَيَأْتِيهَا الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَتُجْرَبُ، قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ؟) وَرَوَاهُ مُسْلِمٌ بنحوه. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ) قالوا: وما الفأل؟ قال: (كلمة طيبة) . وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ وَلَا هَامَةَ وَلَا صفر) وَالْأَحَادِيثُ فِي نَفْيِ الْعَدْوَى كَثِيرَةٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَالسُّنَنِ وَغَيْرِهِمَا، وَلَا يُعَارِضُ ذَلِكَ حَدِيثُ: (لَا يورد ممرض على مصح) وحديث: (فر مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الْأَسَدِ) وَكِلَاهُمَا فِي صحيح البخاري متصلاً بحديث: (لا عدوى ولا طيرة) . وَالْجَمْعُ بَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ وَالْأَمْرُ بِالْفِرَارِ مِنَ المجذوم والنهي عن القدوم على بلاد الطاعون وما في هذا المعنى من ثلاثة أوجه: الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أمر بالفرار من المجزوم لِئَلَّا يَتَّفِقُ لِلْمَخَالِطِ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ابْتِدَاءً لَا بِالْعَدْوَى الْمَنْفِيَّةِ فَيَظُنُّ أَنَّهُ بِسَبَبِ الْمُخَالَطَةِ فينعقد ثُبُوتَ الْعَدْوَى الَّتِي نَفَاهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَقَعُ فِي الْحَرَجِ فَأَمَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَجَنُّبِ ذَلِكَ شَفَقَةً مِنْهُ عَلَى أُمَّتِهِ وَرَحْمَةً بِهِمْ وَحَسْمًا لِلْمَادَّةِ وَسَدًّا لِلذَّرِيعَةِ لَا إِثْبَاتًا لِلْعَدْوَى كَمَا يَظُنُّ   (1) التوبة: 51. (2) التغابن: 11. (3) آل عمران: 168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 بَعْضُ الْجَهَلَةِ مِنَ الْأَطِبَّاءِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْأَعْرَابِيِّ الَّذِي اسْتَشْهَدَ لِصِحَّةِ الْعَدْوَى بِكَوْنِ الْبَعِيرِ الْأَجْرَبِ يَدْخُلُ فِي الْإِبِلِ الصِّحَاحِ فَتُجْرَبُ، فَقَالَ لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ) يَعْنِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَدَأَ الْمَرَضَ فِي الْبَاقِي كَمَا ابْتَدَأَهُ فِي الْأَوَّلِ لَا أَنَّ ذَلِكَ من سريان المرض بطبيعته من سد إِلَى آخَرَ. الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ نَهْيَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْمُخَالَطَةِ لِأَنَّهَا مِنَ الْأَسْبَابِ الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ بِأَنَّهَا تُفْضِي إِلَى مُسَبَّبَاتِهَا لَا اسْتِقْلَالًا بِطَبْعِهَا، وَلَكِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْأَسْبَابَ وَمُسَبَّبَاتِهَا فَإِنْ شَاءَ تَعَالَى أَبْقَى السَّبَبَ وَأَثَّرَ فِي مُسَبَّبِهِ بِقَضَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَقَدَرِهِ، وَإِنْ شَاءَ سَلَبَ الْأَسْبَابَ قُوَاهَا فَلَا تُؤَثِّرُ شَيْئًا. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ النُّفُوسَ تَسْتَقْذِرُ ذَلِكَ وَتَنْقَبِضُ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ وَتَشْمَئِزُّ مِنْ مُخَالَطَتِهِ وَتَكْرَهُهُ جِدًّا لاسيما مَعَ مُلَامَسَتِهِ وَشَمِّ رَائِحَتَهُ فَيَحْصُلُ بِذَلِكَ تَأْثِيرٌ بِإِذْنِ اللَّهِ فِي سِقَمِهَا قَضَاءً مِنَ اللَّهِ وَقَدَرًا لَا بِانْتِقَالِ الدَّاءِ بِطَبِيعَتِهِ كَمَا يَعْتَقِدُهُ أهل الجاهلية. فإذا تبين لك الْجَمْعَ بَيْنَ نَفْيِ الْعَدْوَى وَبَيْنَ الْأَمْرِ بِمُجَانَبَةِ الدَّاءِ تَبَيَّنَ لَكَ الْجَمْعُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّهْيِ عَنْ إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ فَإِنَّهُ إِذَا كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَمَرَ الْمُصِحَّ بِمُجَانَبَةِ الدَّاءِ فَلِأَنْ يَنْهَى الْمُمْرِضَ عَنْ إِيرَادِهِ عَلَى الْمُصِحِّ مِنْ بَابٍ أَوْلَى، فَإِنَّ الْعِلَلَ الَّتِي قَدَّمْنَا أَنَّهَا مِنْ سَبَبِ النَّهْيِ عَنِ الْقُدُومِ عَلَى الْوَبَاءِ وَالْأَمْرُ بِمُجَانَبَتِهِ مَوْجُودَةٌ فِي إِيرَادِ الْمُمْرِضِ عَلَى الْمُصِحِّ بِزِيَادَةِ كَوْنِهَا لَيْسَتْ بِاخْتِيَارِ الْمُصِحِّ كَقُدُومِهِ هُوَ بَلْ مَعَ كَرَاهَتِهِ لَهَا وَانْقِبَاضِهِ مِنْ ذَلِكَ الْمُمْرِضِ وَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى بُغْضِهِ إِيَّاهُ وَغَيْرِ ذَلِكَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ نَفْيَ الْعَدْوَى مُطْلَقٌ عَلَى عُمُومِهِ، وأن المراد أن المرض لا يسري بطبيعته من جسد إلى آخر، وَفِيهِ إِفْرَادُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى بِالتَّصَرُّفِ فِي خَلْقِهِ وَأَنَّهُ مَالِكُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَبِيَدِهِ النَّفْعُ والضر، وَلَيْسَ التَّوَكُّلُ بِتَرْكِ الْأَسْبَابِ بَلِ التَّوَكُّلُ مِنَ الأسباب بل هو أرجحها وأنفعها،؟ كَمَا أَنَّ مَنِ اضْطَرَبَتْ نَفْسُهُ وَوَجِلَ قَلْبُهُ فَرَقًا وَخَوْفًا وَارْتِيَابًا وَعَدَمَ يَقِينٍ بِالْقَدَرِ لَا يكون متوكلاً على الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 بمداناته المرض وَالْمُبْتَلِينَ وَتَرْكِهِ فِعْلَ الْأَسْبَابِ فَكَمَا لَا يَكُونُ الْمُرْتَابُ مُتَوَكِّلًا بِمُجَرَّدِ تَرْكِهِ الْأَسْبَابَ كَذَلِكَ لَا يَكُونُ الْمُوَحِّدُ تَارِكًا التَّوَكُّلَ أَوْ نَاقِصَهُ بِمُجَرَّدِ فِعْلِ الْأَسْبَابِ النَّافِعَةِ وَتَوَقِّي الْمَضَرَّةِ وَحِرْصِهِ عَلَى ما ينفعه. وَمِنْ هَذَا الْبَابِ نَهْيُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْقُدُومِ عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي بِهَا الطاعون وعن الخروج فِرَارًا مِنْهُ فَإِنَّ فِي الْقُدُومِ عَلَيْهِ تَعَرُّضًا لِلْبَلَاءِ، وَإِلْقَاءً بِالْأَيْدِي إِلَى التَّهْلُكَةِ وَتَسَبُّبًا لِلْأُمُورِ الَّتِي أَجْرَى اللَّهُ تَعَالَى الْعَادَةَ بِمَضَرَّتِهَا، وَفِي الفرار منه تسخط على قضاء الله عز وجل وارتياب فِي قَدَرِهِ وَسُوءَ ظَنٍّ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَأَيْنَ الْمَهْرَبُ مِنَ اللَّهِ وَإِلَى أَيْنَ الْمَفَرُّ، لا ملجأ من الله إلا إليه، ففي الصحيحين عن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - يقول: (إذا سمعتم به - أي: الطاعون - بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه) ، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ) تَقْيِيدً لِلنَّهْيِ بِخُرُوجٍ لِقَصْدِ الْفِرَارِ فَلَا يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ مَنْ خَرَجَ لِحَاجَتِهِ اللَّازِمَةِ، كَمَا قَيَّدَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الشَّهَادَةَ بِهِ لِلْمَاكِثِ بِبَلَدِهِ بِمَا إِذَا كَانَ صَابِرًا مُحْتَسِبًا صَحِيحَ الْيَقِينِ ثَابِتَ الْعَزِيمَةِ قَوِيَ التَّوَكُّلِ مُسْتَسْلِمًا لِقَضَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا في صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أَنَّهَا سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عن الطاعون فأخبرها أَنَّهُ: (كَانَ عَذَابًا يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يشاء، فجعله رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، فَلَيْسَ مِنْ عَبْدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا يَعْلَمُ أَنَّهُ لَنْ يصيبه إلا ما كتب الله كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ الشَّهِيدِ) . فَخَرَجَ بِهَذِهِ الْأَوْصَافِ مَنْ مَكَثَ فِي أَرْضِهِ مَعَ نُقْصَانِ تَوَكُّلِهِ وَضَعْفِ يَقِينِهِ، فَلَيْسَ لَهُ هَذِهِ الْفَضِيلَةَ، وَمَعَ هَذَا فَلَا يَحِلُّ لَهُ الْفِرَارُ مِنْهُ لِعُمُومِ النَّهْيِ، وَلَهُ أَجْرُهُ عَلَى امْتِثَالِ الشَّرْعِ بِحَسَبِ نِيَّتِهِ وَقُوَّةِ إِيمَانِهِ، وَإِنْ خَرَجَ فِرَارًا مِنْهُ فَهِيَ مَعْصِيَةٌ أَضَافَهَا إِلَى ارْتِيَابِهِ وَضَعْفِ يَقِينِهِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، وَعَلَى هَذَا يُحْمَلُ حَدِيثُ أنس في صحيح البخاري: (الطَّاعُونُ شَهَادَةٌ لِكُلِّ مُسْلِمٍ) ، فَإِنَّ مَفْهُومَ الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَّصِفْ بِالصِّفَاتِ الْمَذْكُورَةِ لَا يَكُونُ شَهِيدًا وَذَلِكَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 لِضَعْفِ يَقِينِهِ، وَقَدْ يُقَالُ هُوَ شَهِيدٌ فِي الصُّورَةِ وَلَيْسَ مِثْلَ الْمُتَّصِفِ بِتِلْكَ الصِّفَاتِ كَمَا أَنَّ شُهَدَاءَ الْمَعْرَكَةِ الَّذِينَ يُقْتَلُونَ فِي مَعْرَكَةِ الكفار ليسوا سواء، بل يتفاوتون في نِيَّاتِهِمْ وَمَا فِي قُلُوبِهِمْ وَذَلِكَ مَعْلُومٌ مِنَ الدين بالضرورة. جـ-الكلام على الطيرة والغول : -الطيرة هي تَرْكُ الْإِنْسَانِ حَاجَتَهُ وَاعْتِقَادُهُ عَدَمَ نَجَاحِهَا تَشَاؤُمًا بسماع بعض الكلمات القبيحة مثل: يا هَالِكُ، أَوْ يَا مَمْحُوقُ، وَنَحْوَهَا، وَكَذَا التَّشَاؤُمُ بِبَعْضِ الطُّيُورِ كَالْبُومَةِ وَمَا شَاكَلَهَا إِذَا صَاحَتْ، وَكَذَا التَّشَاؤُمُ بِمُلَاقَاةِ الْأَعْوَرِ أَوِ الْأَعْرَجِ أَوِ الْمَهْزُولِ أَوِ الشَّيْخِ الْهَرِمِ أَوِ الْعَجُوزِ الشَّمْطَاءِ: وكثير من الناس إذا لقى بعض هؤلاء وهو ذاهب لحاجته صَدَّهُ ذَلِكَ عَنْهَا وَرَجِعَ مُعْتَقِدًا عَدَمَ نَجَاحِهَا، وَكَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْبَيْعِ لَا يَبِيعُ مِمَّنْ هذه صفته إذا جاء أَوَّلَ النَّهَارِ حَتَّى يَبِيعَ مِنْ غَيْرِهِ تَشَاؤُمًا بِهِ وَكَرَاهَةً لَهُ. وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ يَعْتَقِدُ أَنَّهُ لَا يَنَالُ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ خَيْرًا قَطُّ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَتَشَاءَمُ بِمَا يَعْرِضُ لَهُ نَفْسَهُ فِي حَالِ خُرُوجُهُ كَمَا إِذَا عُثِرَ أَوْ شِيكَ يَرَى أَنَّهُ لَا يَجِدُ خَيْرًا. وَمِنْ ذَلِكَ التَّشَاؤُمِ بِبَعْضِ الْأَيَّامِ أَوْ بِبَعْضِ الساعات، وَكَذَا التَّشَاؤُمُ بِبَعْضِ الْجِهَاتِ فِي بَعْضِ السَّاعَاتِ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّشَاؤُمُ بِوُقُوعِ بَعْضِ الطُّيُورِ عَلَى الْبُيُوتِ يَرَوْنَ أَنَّهَا مُعْلِمَةٌ بِشْرٍّ، وَكَذَا صَوْتُ الثعلب عندهم. -قال تعالى: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يعلمون} (1) . قال مجاهد في قوله تعالى: {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى} قَالَ: يَتَشَاءَمُوا بِهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: (ألا إنما طائرهم عند الله) قال: الأمر من قبل الله، وقال تعالى: {قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عند الله بل أنتم قوم تفتنون} (2) .   (1) الأعراف: 131. (2) النمل: 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وقال تعالى: {إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم * قالوا طائركم معكم لئن ذكرتم بل أنتم قوم مسرفون} (1) ، ولأبي داود عن ابن مسعود مرفوعاً (الطيرة شرك) (2) ، وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عمرو بن العاص رضي الله عنهما وَقَّفَهُ (3) : (مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ فَقَدْ أشرك) (4) . -وإن كان الشؤم في شيء ففي ثلاثة: فِي الْمَرْأَةِ، وَالدَّارِ، وَالدَّابَّةِ، وَالشُّؤْمُ ضِدُّ الْيُمْنِ وَهُوَ عَدَمُ الْبَرَكَةِ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْأَمْرُ الْمَحْسُوسُ المشاهد كالمرأة العاقر، وَكَذَا الدَّارُ الْجَدْبَةُ أَوِ الضَّيِّقَةُ أَوِ الْوَبِيئَةُ الْوَخِيمَةُ الْمَشْرَبِ أَوِ السَّيِّئَةُ الْجِيرَانِ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، وَكَذَا الدَّابَّةُ الَّتِي لَا تَلِدُ ولا نسل لها أو الكثيرة العيوب الشنيعة الطَّبْعِ وَمَا فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَهَذَا كُلُّهُ شَيْءٌ ضَرُورِيٌّ مُشَاهَدٌ مَعْلُومٌ لَيْسَ هُوَ مِنْ باب الطيرة المنفية فإن ذلك أمر آخَرَ عِنْدَ مَنْ يَعْتَقِدُهُ لَيْسَ مِنْ هَذَا لِأَنَّهُمْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهَا نَحْسٌّ عَلَى صَاحِبِهَا لِذَاتِهَا لَا لِعَدَمِ مَصْلَحَتِهَا وَانْتِفَائِهَا فَيَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ إِنْ كَانَ غَنِيًّا افْتَقَرَ لَيْسَ بِتَبْذِيرِهَا بَلْ لِنَحَاسَتِهَا عليه، وأنه إن أخذها مات بِمُجَرَّدِ دُخُولِهَا عَلَيْهِ لَا بِسَبَبٍ مَحْسُوسٍ بَلْ عِنْدَهُمْ أَنَّ لَهَا نَجْمًا لَا يُوَافِقُ نَجْمَهُ بل ينطحه ويكسره، وقد جاء في الحديث الذي رواه البخاري عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (لَا عَدْوَى وَلَا طِيَرَةَ، وَالشُّؤْمُ فِي ثَلَاثٍ: في المرأة والدار والدابة) (5) .   (1) يس: 18، 19. (2) صحيح. صحيح الجامع الصغير 3855، وانظر أيضاً ما سبق من الأحاديث في نفي الطيرة في الكلام عن العدوى. (3) أي: رواه مرفوعاً على عبد الله بن عمرو من قوله وليس من قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. (4) صححه الألباني مرفوعاً - من قوله - صلى الله عليه وسلم - في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1065، وصحيح الجامع الصغير 6140. (5) قال الألباني حفظه الله: وهو لفظ مختصر اختصاراً مخلاً وإنما أصله بلفظ: (إن كان الشؤم في شيء ففي الدار والمرأة والفرس) والحديث يعطي بمفهومه أن لا شؤم لأن معناه: لو كان الشؤم ثابتاً في شيء لكان في هذه الثلاثة لكنه ليس ثابتاً في شيء أصلاً، وعليه فما في بعض الروايات بلفظ: = = (الشؤم في ثلاثة) أو: (إنما الشؤم في ثلاثة) فهو اختصار وتصرف من بعض الرواة والله أعلم. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، حديث 443. وقيل إنما عني أن هذه الأشياء هي أكثر ما يتطير به الناس كما صح عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً: (كان أهل الجاهلية يقولون الشؤم في ثلاثة..) الحديث. انظر فيض القدير شرح حديث 2554. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة رقم 993. فمن وقع في نفسه شيء أبيح له أن يتركه ويستبدل به غيره والطريق فيمن وقع له ذلك في الدار مثلاً أن يبادر بالتحول منها، لأنه متى استمر فيها ربما حمله ذلك على اعتقاد صحة التطير والتشاؤم، ولأن هذه الأشياء يطول تعذيب القلب بها لملازمتها ولو لم يعتقد الشؤم فيها فبفراقها يزول التعذيب بالإضافة إلى ما فيه من سد الذريعة للتشاؤم وذلك نظير الأمر بالفرار من المجذوم مع صحة نفي العدوى ولمزيد من الفائدة انظر فتح الباري: ج6 ص72-74، وسلسلة الأحاديث الصحيحة: الأحاديث 443، 788، 789، 790، 799، 993، 1930، وصحيح الجامع الصغير: الأحاديث 2322 و 4238، 4964، 7376 وشرحها في فيض القدير للمناوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 -وخير الطيرة الفأل : ففي صحيح البخاري أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم - يَقُولُ: (لَا طِيَرَةَ، وَخَيْرُهَا الْفَأْلُ) قَالُوا: وَمَا الفأل؟ قال: (الكلمة الصالحة يسمعها أحدكم) (1) . وَمِنْ شَرْطِ الْفَأْلِ أَنْ لَا يُعْتَمَدَ عَلَيْهِ (2) وَأَنْ لَا يَكُونَ مَقْصُودًا، بَلْ أَنْ يَتَّفِقَ لِلْإِنْسَانِ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكُونَ لَهُ على بال.   (1) وفي صحيح الجامع الصغير أنه - صلى الله عليه وسلم - (كان يعجبه إذا خرج لحاجته أن يسمع يا راشد، يا نجيح) 4854، والحديث رواه الترمذي عن أنس رضي الله عنه في السير، باب ما جاء في الطيرة. وقال: هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح البخاري في كتاب الشروط، باب الشروط في الجهاد أنه - صلى الله عليه وسلم - قال يوم الحديبية لما قدم سهيل بن عمرو - رسول المشركين -: (قد سَهُل لكم من أمركم) وانظر الفتح حديث 2731 (5/390) . (2) لأنه يصير حينئذ من الطيرة المحرمة إذ الطيرة ما أمضى العبد لحاجته أو رده عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وَمِنَ الْبِدَعِ الذَّمِيمَةِ وَالْمُحْدَثَاتِ الْوَخِيمَةِ مَأْخَذُ الْفَأْلِ مِنَ الْمُصْحَفِ فَإِنَّهُ مِنَ اتِّخَاذِ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَلَعِبًا وَلَهْوًا، سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ. وَمَا أَدْرِي كَيْفَ حَالُ مَنْ فَتَحَ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ..} (1) ، وقوله: {وغضب الله عليه ولعنه} (2) وَأَمْثَالِ هَذِهِ الْآيَاتِ، وَيُرْوَى أَنَّ أَوَّلَ مَنْ أَحْدَثَ هَذِهِ الْبِدْعَةَ بَعْضُ الْمَرْوَانِيَّةِ (3) وَأَنَّهُ تَفَاءَلَ يَوْمًا فَفَتَحَ الْمُصْحَفَ فَاتَّفَقَ لِاسْتِفْتَاحِهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} (4) الآيات، فيقال: إنه أحرق المصحف غصباً مِنْ ذَلِكَ وَقَالَ أَبْيَاتًا لَا نُسَوِّدُ بِهَا الْأَوْرَاقَ. وَالْمَقْصُودُ أَنَّ هَذِهِ بِدْعَةٌ قَبِيحَةٌ، وَالْفَأْلُ إِذَا قَصَدَهُ الْمُتَفَائِلُ فَهُوَ طِيَرَةٌ كَالِاسْتِقْسَامِ بِالْأَزْلَامِ. أما كفارة الطيرة وما يذهبها فقد رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو ابن العاص رضي الله عنهما وَقَّفَهُ: (مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ) قَالُوا: فَمَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: (أَنْ تَقُولَ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طير إلا طير إلا طيرك، ولا إله غيرك) (5) . -وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (الطِّيَرَةُ شِرْكٌ) ثَلَاثًا، (وَمَا مِنَّا إِلَّا، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ) (6) ،   (1) المائدة: 78. (2) النساء: 93. (3) انظر ص: 428. (4) إبراهيم: 15. (5) وصححه الألباني مرفوعاً في سلسلة الأحاديث الصحيحة 1065 (مج3 ص53، 54) ، وصحيح الجامع الصغير 1640. (6) صحيح. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة، حديث رقم 429، جامع الأصول، رقم 5802، وفي هذا الكلام محذوف، تقديره: وما منا إلا ويعتريه التطير ويسبق إلى قلبه الكراهة له، فحذف ذلك اختصاراً واعتماداً على فهم السامع. جامع الأصول ج7 ص630، وقال محققه: وقوله: (وما منا إلا.. الخ مدرج من كلام ابن مسعود غير مرفوع كما قال البخاري وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وَقَوْلُهُ: (وَمَا مِنَّا إِلَّا) الْخَ هُوَ مِنْ كلام ابن مسعود رضي الله عنه كما بينه الترمذي رحمه الله (1) . -وأما الهامة والصفر وقد ورد نفيهما في الحديث السابق في الكلام عن العدوى، فروى أبو داود عن بَقِيَّةُ قَالَ: قُلْتُ لِمُحَمَّدٍ - يَعْنِي ابْنَ رَاشِدٍ - قَوْلُهُ: (هَامَ) ، قَالَ: كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تَقُولُ: لَيْسَ أَحَدٌ يَمُوتُ فَيُدْفَنُ إِلَّا خَرَجَ مِنْ قَبْرِهِ هامة (2) ، قلت فقوله: (صفر) قال: كانوا يستشئمون بدخول صفر فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا صَفَرَ) قَالَ مُحَمَّدٌ: وَقَدْ سَمِعْنَا مَنْ يَقُولُ هُوَ وَجَعٌ يَأْخُذُ فِي الْبَطْنِ، فَكَانُوا يَقُولُونَ: هو يعدي فقال: (لا صفر) (3) ، وعن عطاء أن الهامة دابة، وعن مالك وقد سئل عَنْ قَوْلِهِ: (لَا صَفَرَ) قَالَ: إِنَّ أَهْلَ الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا يُحِلُّونَ صَفَرَ، يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا صفر) وكل هذا الْمَعَانِي لِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ قَدِ اعْتَقَدَهَا الْجُهَّالُ وَكُلُّهَا بجميع معانيها المذكورة منفية بنص الحديث. -وَأَمَّا الغُول (4) فَهِيَ وَاحِدُ الْغِيلَانِ وَهِيَ مِنْ شَرِّ شَيَاطِينِ الْجِنِّ وَسَحَرَتِهِمْ وَالنَّفْيُ لِمَا كَانَ يَعْتَقِدُهُ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ فِيهِمْ مِنَ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ، وكانوا يخافونهم   (1) قال المناوي: (لكن تعقبه ابن القطان بأن كل كلام مسوق في سياق، لا يقبل دعوى درجه إلا بحجة) ، قال الألباني: (ولا حجة هنا في الإدراج فالحديث صحيح بكامله) الصحيحة مج1 ص716. (2) وقال ابن الأثير: الهام جمع هامة، وهو طائر كانت العرب تزعم أن عظام الميت تصير هامة فتطير، وكانوا يقولون: إن القتيل تخرج من هامته - أي: رأسه - هامة، فلا تزال تقول: اسقوني، اسقوني، حتى يُقتَل قاتله. جامع الأصول ج7 ص637. (3) وقال ابن الأثير: والعرب تزعم أن في البطن حية تصيب الإنسان إذا جاع وتؤذيه، وأنها تُعْدِي، فأبطله الإسلام. جامع الأصول ج7 ص634. (4) في صحيح مسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - يقول: (لا عدوى ولا صفر ولا غُول) . واه في كتاب السلام، باب لا عدوى ولا طيرة ولا هامة. وانظر صحيح مسلم بشرح النووي ج14 ص216، 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 خَوْفًا شَدِيدًا وَيَسْتَعِيذُونَ بِبَعْضِهِمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا قَالَ تَعَالَى عَنْهُمْ: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} (1) أي: زَادَ الْإِنْسُ الْجِنَّ جَرَأَةً عَلَيْهِمْ وَشَرًّا وَطُغْيَانًا وزادهم الْجِنُّ إِخَافَةً وَخَبَلًا وَكُفْرَانًا. وَكَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا نَزَلَ وَادِيًا قَالَ: أَعُوذُ بِسَيِّدِ هَذَا الْوَادِيَ مِنْ سُفَهَائِهِ فَيَأْتِي الشَّيْطَانُ فَيَأْخُذُ مِنْ مَالِ هَذَا الْمُسْتَعِيذِ أَوْ يُرَوِّعُهُ فِي نَفْسِهِ. فَيَقُولُ: يَا صَاحِبَ الْوَادِي، جَارُكَ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ. فَيَسْمَعُ مُنَادِيًا يُنَادِي ذَلِكَ الْمُعْتَدِيَ أَنِ اتْرُكْهُ أَوْ دَعْهُ أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَأَبْطَلَ الله تعالى وسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَلِكَ وَنَفَى أَنْ يَضُرُّوا أَحَدًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَبْدَلَنَا عَنِ الِاسْتِعَاذَةِ بِالْمَخْلُوقِينَ الِاسْتِعَاذَةَ بِجَبَّارِ السَّمَاوَاتِ والأرض وَكَلِمَاتِهِ التَّامَّاتِ الَّتِي لَا يُجَاوِزُهُنَّ جَبَّارٌ وَلَا مُتَكَبِّرٌ، فقال تَعَالَى: {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وأعوذ بك رب أن يحضرون} (2) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فاستعذ بالله} (3) ، وقال تعالى: {قل أعوذ برب الفلق} (4) إلى آخر السورة، و {قل أعوذ برب الناس} (5) إلى آخر السورة (6) ، وفي الصحيح أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا فَقَالَ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ، لَمْ يَضُرَّهُ شيء حتى يرحل من منزله ذلك) . وَأَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ إِنِ الْمُرَادَ فِي الْحَدِيثِ نَفِيُ وُجُودِ الْغِيلَانِ مُطْلَقًا فَلَيْسَ بِشَيْءٍ، لِأَنَّ ذَلِكَ مُكَابَرَةً لِلْأُمُورِ الْمُشَاهَدَةِ الْمَعْلُومَةِ بِالضَّرُورَةِ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَبْلَهُ وَبَعْدَهُ مِنْ إِتْيَانِهِمْ وَانْصِرَافِهِمْ وَمُخَاطَبَتِهِمْ وَتَشَكُّلِهِمْ. والله أعلم.   (1) الجن: 6. (2) المؤمنون: 97، 98. (3) الأعراف: 200، فصلت: 36. (4) الفلق: 1. (5) الناس: 1. (6) وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - في هاتين السورتين: (ما تعوذ الناس بأفضل منهما) . انظر صحيح الجامع الصغير 4272.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وفيما يلي الأبيات المتعلقة بما سبق : وَالسَّادِسُ الْإِيمَانُ بِالْأَقْدَارِ ... فَأَيْقِنَنْ بِهَا وَلَا تُمَارِ فَكُلُّ شَيْءٍ بِقَضَاءٍ وَقَدَرْ ... وَالْكُلُّ فِي أُمِّ الْكِتَابِ مُسْتَطَرْ لَا نَوْءَ لَا عَدْوَى لا طِيَرَ وَلَا ... عَمَّا قَضَى اللَّهُ تَعَالَى حِوَلَا لَا غَوْلَ لَا هَامَةَ لَا وَلَا صَفَرْ ... كَمَا بِذَا أَخْبَرَ سَيِّدُ الْبَشَرْ • أسئلة : 1- اذكر بعض الأدلة من الكتاب والسنة التي تفيد الإيمان بالقدر. 2- ما هي مراتب الإيمان بالقدر؟ 3- يين مخالفة مذهب كل من القدرية والجبرية لمذهب أهل السنة في القدر، ومشيئة العباد وقدرتهم على أفعالهم مع ذكر أدلة أهل السنة ونماذج من التأويلات السخيفة للجبرية لبعض الأدلة. 4- اذكر حديثا في ذم القدرية، ويين حكم الشرع فيهم. 5- كيف تجمع يين مشروعية التداوي والإيمان بالقدر؟ 6- من الأمور التي نفاها الشرع: النوء والعدوى والطيرة والغول والهامة والصفر، فاذكر الأدلة على ذلك بعد تعريف المراد بكل منها. 7- ما وجه الجمع بين نفي العدوى والأمر بالتوقي عن المجذوم ومواطن البلاء كالطاعون ونحو ذلك أو النهي عن إيراد الممرض على المصح؟ 8- ما وجه الجمع بين نفي الطيرة وما جاء في بعض الأحاديث من كون الشؤم في ثلاثة: المرأة والدار والفرس؟ 9- ما المراد بالفأل وما شروطه؟ واذكر مثالاً للبدع المحدثة فيه. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 الفصل الثالث: الإحسان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 الفصل الثالث: الإحسان وهذه الْمَرْتَبَةُ هِيَ الثَّالِثَةُ مِنْ مَرَاتِبِ الدِّينِ الْمُفَصَّلَةِ في حديث جبريل وهي أعلى مراتب الدين. 1- معنى الإحسان: وَالْإِحْسَانُ لُغَةً: إِجَادَةُ الْعَمَلِ وَإِتْقَانُهُ وَإِخْلَاصُهُ. وَفِي الشَّرِيعَةِ: هُوَ مَا فَسَّرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِقَوْلِهِ: (أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ) . وقد سبق أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَّرَ الْإِسْلَامَ بالأقوال والأعمال الظاهرة وفسر الإيمان بالأركان الباطنة، أما الإحسان فهو تَحْسِينُ الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ وَمَجْمُوعُ ذَلِكَ هُوَ الدِّينُ، وهذا التفسير للإسلام والإيمان والإحسان عند اقترانها كما في حديث جبريل عليه السلام، أما عِنْدَ الْإِطْلَاقِ فَكُلٌّ مِنْهَا يَشْمَلُ دِينَ اللَّهِ كله. 2- درجات الإحسان ومقامات المحسنين فيه: والمقصود في هذا الفصل أن النبي - صلى الله عليه وسلم - فسر الإحسان تَفْسِيرًا لَا يَسْتَطِيعُهُ مِنَ الْمَخْلُوقِينَ أَحَدٌ غَيْرَهُ لِمَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ جَوَامِعِ الْكَلِمِ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تراه فإنه يراك) فأخبر أَنَّ مَرْتَبَةَ الْإِحْسَانِ عَلَى دَرَجَتَيْنِ وَأَنَّ لِلْمُحْسِنِينَ فِي الْإِحْسَانِ مَقَامَيْنِ مُتَفَاوِتَيْنِ: الْمَقَامُ الْأَوَّلُ - وَهُوَ أَعْلَاهُمَا -: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، وَهَذَا مَقَامُ الْمُشَاهِدَةِ، وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ عَلَى مقتضى مشاهدته لله عز وجل بقلبه، فَمَنْ عَبَدَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى اسْتِحْضَارِ قربه منه وإقباله ليه وَأَنَّهُ بَيْنَ يَدَيْهِ كَأَنَّهُ يَرَاهُ أَوْجَبَ لَهُ ذلك الخشية والخوف والهيبة والتعظيم. والمقام الثَّانِي: مَقَامُ الْإِخْلَاصِ، وَهُوَ أَنْ يَعْمَلَ الْعَبْدُ عَلَى اسْتِحْضَارِ مُشَاهَدَةِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 اللَّهِ إِيَّاهُ وَإِطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ وَقُرْبِهِ مِنْهُ، فَإِذَا استحضر العبد هذا فِي عَمَلِهِ يَمْنَعُهُ مِنَ الِالْتِفَاتِ إِلَى غَيْرِ اللَّهِ وَإِرَادَتِهِ بِالْعَمَلِ، وَهَذَا الْمَقَامُ هُوَ الْوَسِيلَةُ الْمُوَصِّلَةُ إِلَى الْمَقَامِ الْأَوَّلِ، وَلِهَذَا أَتَى بِهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَعْلِيلًا لِلْأَوَّلِ فقال: (فإن تكن تراه فإنه يراك) وقد ذكر الله هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ مَا مَوْضِعٍ مِنَ القرآن كما قال تعالى: {وما تكون في شأن وما تتلوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} (1) . وقال أيضاً: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ العليم} (2) فأولياء الله المتقون المحسنون استشعرت قُلُوبُهُمْ وَنُفُوسُهُمْ إِحَاطَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِهِمْ علماً وقدرة ولطفاً وخبرة بأقوالهم وأعمالهم وَنِيَّاتِهِمْ وَأَسْرَارِهِمْ وَعَلَانِيَاتِهِمْ وَحَرَكَاتِهِمْ وَسَكَنَاتِهِمْ وَجَمِيعِ أَحْوَالِهِمْ كَيْفَ عَمِلُوا وَأَيْنَ عَمِلُوا وَمَتَى عَمِلُوا فَكَانَ عملهم خالصاً لله موافقاً لشرعه. وروى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عَلَيْهِ، وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بها ورجله التي يشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن عاذ بي لَأُعِيذَنَّهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ (3) عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ ترددي عن نفس عبدي المؤمن يكره   (1) يونس: 61. (2) الشعراء: 217-220. (3) وفي الحديث بيان معنى التردد المذكور، وحقيقته أن يكون الشيء الواحد مراداً من وجه مكروهاً من وجه وإن كان لابد من ترجيح أحد الجانبين. انظر رياض الصالحين بتحقيق الألباني ص79 ط/ المكتب الإسلامي، الثالثة، وانظر تفصيله في مجموع الفتاوى ج18 ص129-131، ج1 ص58، 59 والسلسلة الصحيحة حديث 1640. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 الموت وأنا أكره مساءته) (1) فهؤلاء ذَكَرُوا اللَّهَ تَعَالَى فَذَكَرَهُمْ، وَشَكَرُوهُ فَشَكَرَهُمْ، وَتَوَلَّوْهُ وَوَالَوْا فِيهِ فَتَوَلَّاهُمْ، وَعَادُوا أَعْدَاءَهُ لِأَجْلِهِ فَآذَنَ بِالْحَرْبِ مَنْ عَادَاهُمْ، وَأَحْسَنُوا عِبَادَةَ رَبِّهِمْ فَأَحْسَنَ جَزَاءَهُمْ وَأَجْزَلَهُ، عَبَدُوهُ عَلَى قَدْرِ مَعْرِفَتِهِمْ بِهِ فَجَازَاهُمْ بِفَضْلِهِ وَزَادَهُمْ {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} (2) ، وَالزِّيَادَةُ هِيَ النَّظَرُ إِلَى وَجْهِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ عَنْ صُهَيْبٍ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَلَمَّا كَانُوا يعبدون الله في الدينا عَلَى وَجْهِ الْحُضُورِ وَالْمُرَاقَبَةِ كَأَنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بِقُلُوبِهِمْ وَيَنْظُرُونَ إِلَيْهِ فِي حَالِ عِبَادَتِهِمْ إِيَّاهُ كَانَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْآخِرَةِ عِيَانًا بِأَبْصَارِهِمْ، وَعَكْسُ هَذَا مَا أَخْبَرَ بِهِ عَنِ الْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ، فَقَالَ تَعَالَى عنهم: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون} (3) لَمَّا كَانَ حَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا التَّكْذِيبَ وَأَعْقَبَهُمْ ذَلِكَ التَّكْذِيبُ تَرَاكُمَ الرَّانِ عَلَى قُلُوبِهِمْ حَتَّى حُجِبَتْ عَنْ مَعْرِفَتِهِ وَمُرَاقَبَتِهِ فِي الدُّنْيَا فَكَانَ جَزَاؤُهُمْ عَلَى ذَلِكَ أَنْ حُجِبُوا عَنْ رُؤْيَتِهِ في الآخرة. هَذَا آخِرُ مَا يَسَّرَ اللَّهُ تَعَالَى مِنَ الكلام على مفردات حديث جبريل عليه السلام. *** وفيما يلي الأبيات المتعلقة بما سبق : وَثَالِثٌ مَرْتَبَةُ الْإِحْسَانِ ... وَتِلْكَ أَعْلَاهَا لَدَى الرَّحْمَنِ وَهْوَ رُسُوخُ الْقَلْبِ فِي الْعِرْفَانِ ... حَتَّى يَكُونَ الْغَيْبُ كَالْعِيَانِ   (1) رواه البخاري في الرقاق باب التواضع وفيه (استعاذ بي) بدلاً من (عاذ بي) و (ترددي عن نفس المؤمن ... ) دون عبدي. (الفتح 11/348) . (2) يونس: 26 (3) المطففين: 15.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 • أسئلة : 1- عرف الإحسان لغة وشرعًا. 2- دل حديث جبريل عليه السلام على أن للمحسنين في الإحسان مقامين متفاوتين، بينهما. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 الباب الثاني الفصل الأول: في ست مسائل تتعلق بمباحث الدين. الفصل الثاني: فِي مَعْرِفَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -. وتبليغه الرسالة. الفصل الثالث: فِي مَنْ هُوَ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ بَعْدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ الصَّحَابَةِ بِمَحَاسِنِهِمْ وَالْكَفِّ عَنْ مَسَاوِئِهِمْ وَمَا شَجَرَ بينهم. الفصل الأول في ست مسائل تتعلق بمباحث الدين 1- الإيمان يزيد وينقص، وزيادته بالطاعات. 2- تفاضل أهل الإيمان فيه. 3- فاسق أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان. 4- الْعَاصِي لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَأَمْرُهُ إِلَى الله. 5- فاسق أهل القبلة في العقاب وعدمه تحت المشيئة ولا يكفر بالكبيرة إلا من استحلها. 6- التَّوْبَةَ فِي حَقِّ كُلِّ فَرْدٍ مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ سَوَاءٌ مِنْ كُفْرٍ أَوْ دُونِهِ من أي ذنب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 1- الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ: وَعَلَى ذَلِكَ تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ في كتابه فقال: (كِتَابِ الْإِيمَانِ، بَابُ قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ) وَهُوَ قول وفعل يزيد وينقص قال تعالى: {ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم} (1) {وزدناهم هدى} (2) {ويزيد الله الذين اهتدوا هدى} (3) وَقَالَ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تقواهم} (4) {ويزيد الذين آمنوا إيماناً} (5) وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} (6)) . وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ بَابًا فَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ وَأَرْفَعُهَا قَوْلُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله) رواه البخاري ومسلم (7) والترمذي وقال: حسن صحيح واللفظ له، ولفظ البخاري: (بِضْعٌ وَسِتُّونَ) (8) وَلِمُسْلِمٍ رِوَايَةُ: (بِضْعٌ وَسَبْعُونَ) لَكِنْ قالا: (شعبة بدل من: (باباً)   (1) الفتح: 4. (2) الكهف: 13. (3) مريم: 76. (4) محمد - صلى الله عليه وسلم -: 17. (5) المدثر: 31. (6) الأحزاب: 22. (7) انظر: 176. (8) قال بن حجر رحمه الله:: لم تختلف الطرق عن أبي عامر شيخ شيخ المؤلفين في ذلك، وتابعه يحي الحِمَّاني عن سليمان بن بلال فقال: (بضع وستون) أو (بضع وسبعون) ، وكذا وقع التردد في رواية مسلم من طريق سهل بن أبي صالح عن عبد الله بن دينار، ورواه أصحاب السنن الثلاثة من طريقه فقالوا: (بضع وسبعون) من غير شك، ولأبي عوانة في (صحيحه) من طريق (بضع وستون) ، أو (بضع وسبعون) ، ورواه البيهقي رواية البخاري لأن سليمان لم يشك، وفيه نظر لما ذكرنا من رواية بشر بن عمرو عنه فتردد أيضاً لكن يرجح بأن المتيقن وما عداه مشكوك فيه، وأما رواية الترمذي بلفظ (أربعة وسبعون) لكونها زيادة ثقة -كما ذكره الحليمي ثم عياض - لا يستقيم، إذا الذي زادها لم يستمر على الجزم بها، لا سيما مع اتحاد المخرج. وبهذا يتبين شفوف نظر البخاري. وقد رجح ابن الصلاح الأقل لكونه المتيقن. فتح الباري ج1ص67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 وروى مسلم عَنْ حَنْظَلَةَ الْأُسَيْدِيِّ قَالَ وَكَانَ مِنْ كُتَّابِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ٌ قَالَ: لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ قال: قالت: نَافَقَ حَنْظَلَةُ. قَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا تَقُولُ؟ قال: قلت: نكون عند سول الله - صلى الله عليه وسلم - يذكرنا بالجنة والنار حَتَّى كأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عافسنا (1) الأزواج والأولاد والضيعات، فَنَسِينَا كَثِيرًا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: فوالله إنا لنقي مِثْلَ هَذَا. فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ حَتَّى دَخَلْنَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ يَا رَسُولَ اللَّهُ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -: (وَمَا ذَاكَ) قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ نَكُونُ عندك تذكرنا بالجنة والنار حَتَّى كَأَنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِنْ عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات، فنسينا كَثِيرًا: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (والذي نفسه بيده إن لو تدومون على ما تكون عِنْدِي وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وفي طرقكم، لكن ياحنظلة، ساعة ثلاث مرات) . وعلى هذا إجماع الأئمة المعتد بإجماعهم أن الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَإِذَا كَانَ يَنْقُصُ بِالْفَتْرَةِ عَنِ الذِّكْرِ فَلِأَنْ يَنْقُصَ بِفِعْلِ المعاصي من باب أولى.   (1) المعاسفة: المداعبة والممارسة، يقال: فلان يعافس الأمور أي يمارسها ويعالجها. لسان العرب ص: 3013. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 2- تفاضل أهل الإيمان فيه: قال تَعَالَى: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابق بالخيرات بإذن الله} (1) فقسم الله تَعَالَى النَّاجِينَ مِنْهُمْ إِلَى مُقْتَصِدِينَ وَهُمُ الْأَبْرَارُ أَصْحَابُ الْيَمِينِ الَّذِينَ اقْتَصَرُوا عَلَى الْتِزَامِ الْوَاجِبَاتِ وَاجْتِنَابِ الْمُحَرَّمَاتِ فَلَمْ يَزِيدُوا عَلَى ذَلِكَ وَلَمْ ينقصوا منه، وإلى سابق الخيرات وهم المقربون الذين تقربوا إليه بالنوافل بعض الْفَرَائِضِ وَتَرَكُوا مَا لَا بَأْسَ بِهِ خَوْفًا مما به بأس، وَأَمَّا الظَّالِمُ لِنَفْسِهِ فَفِي الْمُرَادِ بِهِ عَنِ الصَّالِحِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْكَافِرُ، فَيَكُونُ كَقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَقْسِيمِهِمْ فِي سُورَةِ الْوَاقِعَةِ عِنْدَ الْبَعْثِ {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً *فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ *وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ*وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ*أُولَئِكَ المقربون} (2) إلى الآيات، وقسمهم عند الاحتضار كذلك فقال: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ*فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ*وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ*فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ*وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ*فَنُزُلٌ مِنْ حميم*وتصلية جحيم} (3) . والقول الثاني أن المراد له عُصَاةُ الْمُوَحِّدِينَ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَكِنْ ظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، لَا يَخْرُجُ مِنَ الدِّينِ وَلَا يخرج من النَّارِ، فَعَلَى هَذَا يَكُونُ قِسْمٌ ثَالِثٌ فِي تُفَاضِلِ أَهْلِ الْإِيمَانِ. وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ ابْنُ القيم رحمه الله تعالى (4) .   (1) فاطر: 32. (2) الواقعة: 7-11. (3) الواقعة: 88-94. (4) وفي صحيح سنن الترمذي عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قال في هذه الآية {ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفيناه من عبادنا ... } قال: (هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة) حديث 4577ج3ص96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 وقد قمنا أحاديث الشفاعة التي دلت على أن العصاة يخرجون بالشفاعة من النار على مرات فيخرج أولاً أكثرهم إيماناً ثم الذين يلونهم حتى لا يبقى في النار إلا من خلت قلوبهم من الإيمان. وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُ النَّاسَ عُرِضُوا عَلَيَّ وَعَلَيْهِمْ قُمُصٌ، فمنها ما يبغ الثدي، ومنها ما يبغ دُونَ ذَلِكَ، وَعُرِضَ عَلَيَّ عُمَرُ وَعَلَيْهِ قَمِيصٌ يَجُرُّهُ. قَالُوا: فَمَا أَوَّلْتَهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (الدِّينَ) . وَقَالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ. ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا مَجْزُومًا بِهِ. وَقَالَ النبي - صلى الله عليه وسلم -: (مليء عَمَّارٌ إِيمَانًا إِلَى مُشَاشِهِ (1)) (2) وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسَانِهِ فَإِنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وَذَلِكَ أَضْعَفُ الْإِيمَانِ) (3) ، وَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ وُزِنَ إِيمَانُ أَبِي بَكْرٍ بِإِيمَانِ أَهْلِ الْأَرْضِ لَرَجَحَ. وقال فضيل: يقول أهل البدع: الإيمان بالإقرار بِلَا عَمَلٍ، وَالْإِيمَانُ وَاحِدٌ وَإِنَّمَا يَتَفَاضَلُ النَّاسُ بالأعمال ولا يتفاضلون بالإيمان. قال: فمن خالف ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ الْأَثَرَ، وَرَدَّ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَوْلَهُ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (الْإِيمَانُ بِضْعٌ وَسَبْعُونَ شُعْبَةً أَفْضَلُهَا لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَدْنَاهَا إِمَاطَةُ الْأَذَى عن   (1) يعنى اختلاط الإيمان بلحمه ودمه وعظمه وامتزاج بسائر أجزائه امتزاجاً لا يقبل التفرقة فلا يضره الكفر حين أكرهه عليه كفار مكة بضروب العذاب. فيض القدير ج6 ص4. والمُشاش كل عظم لا مخ فيه يمكنك تتبعه. وقال الجوهري: هي رءوس العظام اللينة التي يمكن مضغها. لسان العرب ص 4208. (2) صحيح. صحيح الجامع الصغير 5764. (3) رواه مسلم في الإيمان، باب كون النهي عن المنكر من الإيمان. وانظر صحيح مسلم بشرح النووي ج2ص21-25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 الطريق والحياء شعبة من الإيمان) (1) . ومن أدلة التفاضل في الإيمان ما رواه ابن أبي عاصم في السنة عن حذيفة ابن الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (الْقُلُوبُ أَرْبَعَةٌ: قَلْبٌ أَجْرَدُ كَأَنَّمَا فِيهِ سِرَاجٌ يُزْهِرُ، فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُؤْمِنِ. وَقَلْبٌ أَغْلَفُ فَذَلِكَ قَلْبُ الْكَافِرِ. وَقَلْبٌ مُصْفَحٌ فَذَلِكَ قَلْبُ الْمُنَافِقِ. وَقَلْبٌ فِيهِ إِيمَانٌ وَنِفَاقٌ وَمَثَلُ الْإِيمَانِ فِيهِ كَمَثَلِ شَجَرَةٍ يَسْقِيهَا مَاءٌ طَيِّبٌ، وَمَثَلُ النِّفَاقِ فِيهِ كَمَثَلِ قرحة يمدحها قيح ودم فأيهما غلب عليه غلبه) (2) . وَالْمَقْصُودُ بَيَانُ أَنَّ النَّاسَ مُتَفَاوِتُونَ فِي الدِّينِ بتفاوت الإيمان في قلوبهم بل والله يتفاوتون ويتفاوضون فِي عَمَلٍ وَاحِدٍ يَعْمَلُهُ كُلُّهُمْ فِي آنٍ وَاحِدٍ وَفِي مَكَانٍ وَاحِدٍ، فَإِنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الصَّلَاةِ صَافُّونَ كُلُّهُمْ فِي رَأْيِ الْعَيْنِ، مُسْتَوُونَ فِي الْقِيَامِ وَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ، وَالْخَفْضِ وَالرَّفْعِ، وَالتَّكْبِيرِ وَالتَّحْمِيدِ، وَالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ، وَالتِّلَاوَةِ وَسَائِرِ الْأَذْكَارِ وَالْحَرَكَاتِ والسكنات، في مسجد واحد   (1) رواه البخاري في الإيمان باب أمور الإيمان بلفظ: (الإيمان بضع وستون شعبة والحياء شعبة من الإيمان) ومسلم في الإيمان، باب بيان شعب عدد الإيمان وانظر الفتح ج1 ص67، شرح النووي ج2 ص3-6. (2) وصححه ابن القيم في إغاثة اللهفان عن حذيفة موقوفاً وفيه تسمية قلب المنافق الخالص بالقلب المنكوس. إغاثة اللهفان ج1 ص12. وقال المؤلف - الشيخ حافظ رحمه الله - وَهَذَا الْمَوْقُوفُ قَدْ رُوِيَ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ حَسَنٍ، وذكر رواية الإمام أحمد له عن ابن سعيد الخدري رضي الله عَنْهُ مَرْفُوعًا إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بإسناد جيد حسن، وذكر رواية الإمام أحمد له عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مرفوعاً، وفيه تسمية القلب الذي فيه إيمان ونفاق بالقلب المصفح، وتسمية قلب المنافق بالقلب المنكوس. وصحح الألباني الموقوف وقال: وقد خالفه ليث وهو ابن أبي سليم فقال عن عمر بن مرة عن أبي البختري عن أبي سعيد قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فذكره، وليث ضعيف لاسيما إذا خالف الثقات. انظر تحقيق كتاب الإيمان لابن أبي شيبة ص 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 وَوَقْتٍ وَاحِدٍ وَخَلَفَ إِمَامٍ وَاحِدٍ، وَبَيْنَهُمْ مِنَ التَّفَاوُتِ وَالتَّفَاضُلِ مَا لَا يُحْصَى فَهَذَا قُرَّةُ عَيْنِهِ فِي الصَّلَاةِ يَوَدُّ إِطَالَتَهَا مَا دَامَ عُمْرُهُ، وَآخَرُ يَرَى نَفْسَهُ فِي أَضْيَقِ سِجْنٍ يَوَدُّ انْقِضَاءَهَا فِي أَسْرَعِ مِنْ طَرْفَةِ عَيْنٍ، وهكذا الزكاة والصوم والحج والجهاد وَالْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيُ عَنِ الْمُنْكَرِ وَجَمِيعُ أَعْمَالِ الْإِيمَانِ، النَّاسُ فِيهَا عَلَى هَذَا التَّفَاوُتِ وَالتَّفَاضُلِ بحسب ما وقر على قلوبهم من العلم واليقين، ذَلِكَ يَمُوتُونَ، وَعَلَيْهِ يُبْعَثُونَ، وَعَلَى قَدْرِهِ يَقِفُونَ فِي عَرَقِ الْمَوْقِفَ، وَعَلَى ذَلِكَ الْوَزْنِ وَالصُّحُفِ، وَعَلَى ذَلِكَ تُقَسَمُ الْأَنْوَارُ عَلَى الصِّرَاطِ وَبِحَسَبِ ذلك يمرون عليه، ومن أبطأ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ، وَبِذَلِكَ يَتَسَابَقُونَ فِي دُخُولِ الْجَنَّةِ، وَعَلَى حَسَبِهِ رَفْعُ دَرَجَاتِهِمْ وَبِقَدْرِهِ تَكُونُ مَقَاعِدُهُمْ مِنْ رَبِّهِمْ تَبَارَكَ وتعالى في يوم المزيد وبمقدار ممالكهم فيها ونعيمهم. -حكم قول أنا مؤمن وحكم الاستثناء في الإيمان (كأن يقال: أنا مؤمن إنشاء الله) : لما كان الإيمان شاملاً للدين كله والناس فيه درجات وقع الحرج في قول أنا مؤمن قال الفضيل: لو قال رَجُلٌ مُؤْمِنٌ أَنْتَ مَا كَلَّمْتُهُ مَا عِشْتَ. وَقَالَ: إِذَا قُلْتَ: آمَنْتُ بِاللَّهِ فَهُوَ يَجْزِيكَ مِنْ أَنْ تَقُولَ أَنَا مُؤْمِنٌ، وَإِذَا قُلْتَ أَنَا مُؤْمِنٌ لَا يَجْزِيكَ مِنْ أَنْ تَقُولَ آمنت بالله لأن آمنت بالله أمره. قال تعالى: {قولوا آمنا بالله} (1) الْآيَةَ وَقَوْلُكَ أَنَا مُؤْمِنٌ تَكَلُّفٌ لَا يَضُرُّكَ أَنْ لَا تَقَوُّلَهُ وَلَا بَأْسَ إِنْ قُلْتَهُ عَلَى وَجْهِ الْإِقْرَارِ وَأَكْرَهُهُ عَلَى وَجْهِ التَّزْكِيَةِ، وَقَالَ فُضَيْلٌ: سَمِعْتُ الثَّوْرِيَّ يَقُولُ: مَنْ صَلَّى إِلَى هَذِهِ الْقِبْلَةِ فَهُوَ عِنْدَنَا مُؤْمِنٌ، وَالنَّاسُ عِنْدَنَا مُؤْمِنُونَ بِالْإِقْرَارِ فِي الْمَوَارِيثِ وَالْمُنَاكَحَةِ وَالْحُدُودِ والذبائح والنسك، ولهم ذنوب وخطايا الله حسيبهم، إن شاء عذبهم وإنشاء غَفَرَ لَهُمْ، لَا نَدْرِي مَا لَهُمْ عِنْدَ   (1) البقرة: 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَقَالَ فُضَيْلٌ سَمِعْتُ الْمُغِيرَةَ الضَّبِّيَّ يَقُولُ: مَنْ شَكَّ فِي دِينِهِ فَهُوَ كافر وأنا مؤمن إنشاء الله. قال الفضيل: الاستثناء ليس بشك (1) . 3- فاسق أهل القبلة مؤمن ناقص الإيمان: أي أَنَّ فَاسِقَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ لَا يُنْفَى عَنْهُ مُطْلَقُ الْإِيمَانِ بِفُسُوقِهِ وَلَا يُوصَفُ بِالْإِيمَانِ التَّامِّ ولكن هو مُؤْمِنٌ بِإِيمَانِهِ فَاسِقٌ بِكَبِيرَتِهِ فَلَا يُعْطَى الِاسْمُ الْمُطْلَقُ وَلَا يُسْلَبُ مُطْلَقَ الِاسْمِ، وَالْمُرَادُ بِالْفِسْقِ هُنَا هُوَ الْأَصْغَرُ وَهُوَ عَمَلُ الذُّنُوبِ الْكَبَائِرِ الَّتِي سَمَّاهَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ فِسْقًا وَكُفْرًا وَظُلْمًا مَعَ إِجْرَاءِ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى عَامِلِهَا فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى سَمَّى الْكَاذِبَ فَاسِقًا فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بنبأ فتبينوا} (2) ، وَمَعَ هَذَا لَمْ يَخْرُجْ ذَلِكَ الرَّجُلُ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ الْآيَةُ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ وَلَمْ يَنْفِ عَنْهُ الْإِيمَانَ مُطْلَقًا وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْ جَرَيَانِ أَحْكَامِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَيْهِ. وَكَذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ وقتاله كفر) (3) ، وقد تسبب كثير من الصحابة في عهده وفي حضوره فوعظهم   (1) وتحقيق هذه المسألة - والله أعلم - أن الإيمان نوعان، الإيمان المطلق الكامل الشامل للدين كله، ومطلق الإيمان الذي يخرج من العبد من الكفر وذلك بأن المؤمن بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْقَدَرِ خيره وشره، فالأول يجب فيه الاستثناء وإلا لوقع في الشك وكفر لأنه حينئذ بمنزلة من يستثني أو يشك في قوله: (آمنت بالله) وعلى هذا لا يجوز أن يقول أنا مؤمن قاصداً الإيمان المطلق مع الاستثناء. ويجوز قول (أنا مؤمن) مع قصد مطلق الإيمان، ولا يجوز هنا الاستثناء، والأفضل من هذا كله والمخرج منه أن يقول العبد آمنت بالله أو أنا مؤمن بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ= =وَالْقَدَرِ خيره وشره. والله تعالى أعلم. وانظر: الفتاوى 7/253-259 والإيمان لأبي عبيد ص67-71. ضمن أربع رسائل بتحقيق الألباني. (2) الحجرات: 6. (3) رواه البخاري في صحيحه في عدة مواضع منها في الإيمان، باب خوف المؤمن من أن يحبط عمله وهو لا يشعر، ورواه مسلم في الإيمان، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) . انظر الفتح ج1 ص135، شرح النووي ج2 ص53-54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ وَلَمْ يُكَفِّرْهُمْ بَلْ بَقُوا أَنْصَارَهُ ووزراءه في الدين (1) وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله} (2) فسمى كُلًّا مِنَ الطَّائِفَتَيْنِ الْمُقْتَتِلَتَيْنِ مُؤْمِنَةً وَأَمَرَ بِالْإِصْلَاحِ بَيْنَهُمَا وَلَوْ بِقِتَالِ الْبَاغِيَةِ ثُمَّ قَالَ: {فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يحب المقسطين} (3) ثُمَّ لَمْ يَنْفِ عَنْهُمُ الْأُخُوَّةَ - أُخُوَّةَ الْإِيمَانِ - لهم مطلقاً فقال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا الله لعلكم ترحمون} (4) وَكَذَلِكَ فِي آيَةِ الْقِصَاصِ أَثْبَتَ الْإِيمَانَ لِلْقَاتِلِ وَالْمَقْتُولِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَثْبَتَ لَهُمْ أُخُوَّةُ الْإِيمَانِ فَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} (5) وَلَا مُنَافَاةَ بَيْنَ تَسْمِيَةِ الْعَمَلِ فِسْقًا أَوْ عامله فاسقاً وبين تسميته مسلماً، وَذَلِكَ لِأَنَّ كُلًّا مِنَ الْكُفْرِ وَالظُّلْمِ وَالْفُسُوقِ وَالنِّفَاقِ جَاءَتْ فِي النُّصُوصِ عَلَى قِسْمَيْنِ: أَكْبَرُ يُخْرِجُ مِنَ الْمِلَّةِ لِمُنَافَاتِهِ أَصْلُ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ، وأصغر ينقص الإيمان وينافي كماله وَلَا يَخْرُجُ صَاحِبُهُ مِنْهُ، فَكُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، وَظُلْمٌ دُونَ ظُلْمٍ، وَفُسُوقٌ دُونَ فُسُوقٍ، وَنِفَاقٌ دون نفاق.   (1) ومن ذلك حادثة سب خالد بن الوليد لعبد الرحمن بن عوف. والحديث في الصحيح انظر ص402. (2) الحجرات: 9. (3) الحجرات: 9. (4) الحجرات: 10.. (5) البقرة: 178. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 -قال تعالى في بيان الكفر الأكبر: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا*إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا*إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أبداً وكان ذلك على الله يسيراً} (1) . -وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي بَيَانِ الْكُفْرِ الْأَصْغَرِ: (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ، وَقِتَالُهُ كفر) (2) . وقال تَعَالَى فِي الظُّلْمِ الْأَكْبَرِ: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عظيم} (3) . وقال تعالى فِي الظُّلْمِ الْأَصْغَرِ: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} (4) . وَقَالَ فِي الْفُسُوقِ الْأَكْبَرِ: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ من الجن ففسق عن أمر ربه} (5) . وسبق قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (سِبَابُ الْمُسْلِمِ فُسُوقٌ) ، فالمراد به الفسوق الأصغر. -وقال تعالى في النفاق الأكبر: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ} (6) .   (1) النساء: 167 - 169. (2) والحديث في الصحيحين كما سبق. (3) لقمان: 13. (4) الطلاق: 1. (5) الكهف: 50. (6) النساء: 145. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 -وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النِّفَاقِ الْأَصْغَرِ: (أَرْبَعٌ مَنْ كُنْ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ) (1) . فَهَذِهِ الْخِصَالُ كُلُّهَا نِفَاقٌ عَمَلِيٌّ لَا يُخْرِجُ مِنَ الدِّينِ إلا إذا صحبه النفاق الاعتقادي. تلك عقيدة أهل السنة والجماعة، أما الخوارج فقالت: المصر على كبيرة من زنى أَوْ شُرْبِ خَمْرٍ أَوْ رِبًا كَافِرٌ مُرْتَدٌّ كَافِرٌ مُرْتَدٌّ خَارِجٌ مِنَ الدِّينِ بِالْكُلِّيَّةِ لَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ وهو مخلد في النار أبداً (2) . وقالت المعتزلة: العصاة ليسوا مؤمنين (3) وليسو كَافِرِينَ وَلَكِنْ نُسَمِّيهِمْ فَاسِقِينَ. فَجَعَلُوا الْفِسْقَ مَنْزِلَةً بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يَحْكُمُوا لَهُ بِمَنْزِلَةٍ بين المنزلتين في الآخرة بَلْ قَضَوْا بِتَخْلِيدِهِ فِي النَّارِ أَبَدًا كَالَّذِينِ من قبلهم، فوافقوا الخوارج مآلاً وخالفوهم مقالاً. وَقَابَلَ ذَلِكَ الْمُرْجِئَةُ فَقَالُوا: لَا تَضُرُّ الْمَعَاصِي مع الإيمان لا بنقص ولا بمنافاة، وَلَا يَدْخُلُ النَّارَ أَحَدٌ بِذَنْبٍ دُونَ الْكُفْرِ بِالْكُلِّيَّةِ. وَلَا تَفَاضُلَ عِنْدَهُمْ بَيْنَ إِيمَانِ الْفَاسِقِ الموحد وبين إيمان أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.   (1) رواه البخاري في صحيحه في عدة مواضع منها في الإيمان، باب علامة المنافق، ومسلم في الإيمان، باب بيان خصال المنافق. وانظر الفتح ج 1ص111، وشرح النووي ج 2 ص46. (2) وانظر الحكم بغير ما أنزل الله وأهل الغلو لمحمد سرور بن نايف زين العابدين ففيه الرد على من حملوا تلك العقيدة المنحرفة في زماننا. (3) مرادهم نفي مطلق الإيمان عنهم ولا يصيرون مسلمين ولا كافرين، وإلا فأهل السنة يقولون العصاة ليسوا مؤمنين الإيمان المطلق بل هم مؤمنون ناقصو الإيمان أو مؤمنون مطلق الإيمان. فهناك فرق عظيم بين ما نفاه أهل السنة عن العصاة من الإيمان وما نفته المعتزلة والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 4- الْعَاصِي لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ وَأَمْرُهُ إلى الله: وهذا كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ عُبَادَةِ بْنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ وَحَوْلَهُ عِصَابَةً مِنْ أَصْحَابِهِ: (بَايِعُونِي عَلَى أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِاللَّهِ شَيْئًا، وَلَا تَسْرِقُوا، وَلَا تَزْنُوا، وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ، ولا تأتون بِبُهْتَانٍ تَفْتَرُونَهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ، وَلَا تَعْصُوا فِي مَعْرُوفٍ فَمَنْ وَفَّى مِنْكُمْ فَأَجْرُهُ عَلَى الله ومن أصاب في ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ إلى الله إن شاء عفا وإن شاء عاقبه) . وكما تقدم كذلك في أحاديث الشفاعة أنه لَا يُخَلَّدُ فِي النَّارِ أَحَدٌ مَاتَ عَلَى التوحيد بل يخرج منها برحمة أرحم الراحمين ثم بشفاعة الشافعين. فالعصاة يعذبون وليس كما يقول المرجئة لا تضر ذنوبهم وليس كما يقول الخوارج والمعتزلة أنهم مخلدون. * طبقات العصاة من أهل التوحيد في الآخرة : إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّ الَّذِي أَثْبَتَتْهُ الْآيَاتُ الْقُرْآنِيَّةُ وَالسُّنَنُ النَّبَوِيَّةُ وَدَرَجَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ وَالصَّدْرُ الْأَوَّلُ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالسُّنَّةِ أَنَّ الْعُصَاةَ مِنْ أَهْلِ التَّوْحِيدِ عَلَى ثَلَاثِ طَبَقَاتٍ: الأولى: قوم رجحت حسناتهم على سيئاتهم فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ مِنْ أَوَّلِ وَهْلَةٍ وَلَا تمسهم النار أبداً. الثَّانِيَةُ: قَوْمٌ تَسَاوَتْ حَسَنَاتُهُمْ وَسَيِّئَاتُهُمْ وَتَكَافَأَتْ، فَقَصَّرَتْ بِهِمْ سَيِّئَاتِهِمْ عَنِ الْجَنَّةِ وَتَجَاوَزَتْ بِهِمْ حَسَنَاتُهُمْ عن النار، وهؤلاء أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ الَّذِينَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّهُمْ يُوقَفُونَ بَيْنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يُوقَفُوا ثُمَّ يُؤْذَنُ لَهُمْ فِي دُخُولِ الجنة كما قال تعالى: {وعلى الأعراف رجالاً يعرفون كلاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لم يدخلوها وهم يطمعون - إلى قوله - ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تحزنون} (1) . الثَّالِثَةُ: قَوْمٌ لَقَوُا اللَّهَ تَعَالَى مُصِرِّينَ عَلَى كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ وَمَعَهُمْ أَصْلُ التَّوْحِيدِ فَرُجِّحَتْ سَيِّئَاتُهُمْ بِحَسَنَاتِهِمْ فَهَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يَدْخُلُونَ النَّارَ بقدر ذنوبهم، وهؤلاء الذين يأذن الله بِالشَّفَاعَةِ فِيهِمْ لِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلِغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ بَعْدِهِ وَالْأَوْلِيَاءِ والملائكة ومن شاء الله أن يكرمه. * المخالفون لأهل السنة في ذلك والرد عليهم : قال ابن خزيمة رحمه الله في كتاب التوحيد: (وأهل الجهل فِي هَذَا الْفَصْلِ صِنْفَانِ: صِنْفٌ مِنْهُمْ مَنِ الْخَوَارِجِ وَالْمُعْتَزِلَةِ أَنْكَرَتْ إِخْرَاجَ أَحَدٍ مِنَ النَّارِ مِمَّنْ يَدْخُلُ النَّارَ وَأَنْكَرَتْ هَذِهِ الْأَخْبَارَ الَّتِي ذكرناها في الشفاعة. والصنف الثَّانِي الْغَالِيَةُ مِنَ الْمُرْجِئَةِ الَّتِي تَزْعُمُ أَنَّ النَّارَ حُرِّمَتْ عَلَى مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ تَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْأَخْبَارَ الَّتِي رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي هذه اللفظة على خلاف تأويلها) (2) وقال أيضاًَ: (وَبِيَقِينٍ يَعْلَمُ كُلُّ عَالِمٍ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يُرِدْ بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ أَنَّ مَنْ قَالَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَوْ زَادَ مَعَهَا شَهَادَةَ أن مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَمْ يُؤْمِنْ بِأَحَدٍ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا آمَنَ بِشَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلَا بِجَنَّةٍ وَلَا نَارٍ وَلَا بَعْثٍ وَلَا حِسَابٍ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ لَا يُعَذَّبُ بِالنَّارِ. وَلَئِنْ جاز للمرجئة الاحتجاج بهذه الأخبار.. لَجَازَ لِلْجَهْمِيَّةِ الِاحْتِجَاجُ بِأَخْبَارٍ رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذَا تُؤُوِّلَتْ عَلَى ظاهرها استحق الجنة من يعلم أن الله ربه وأن محمد - صلى الله عليه وسلم - نَبِيُّهُ وَإِنْ لَمْ يَنْطِقْ بِذَلِكَ لِسَانُهُ وَلَا آمن   (1) الأعراف: 46: 49. (2) سبق ذكر بعض أمثلة لهذه الأخبار والأقوال في تأويلها وبيان القول الجامع في ذلك كما ذهب إليه ابن تيمية وابن رجب رحمهما الله وهو أن أحاديث الوعد والوعيد مقيدة بتحقيق شروط وانتفاء موانع. انظر ص: 99-106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 بِقَلْبِهِ بِشَيْءٍ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِهِ، وَلَا عَمِلَ بِجَوَارِحِهِ شَيْئًا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، ولا انزجر عن شيء حرمه الله..) ثُمَّ ذَكَرَ حَدِيثَ عُثْمَانَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَنْ مَاتَ وَهُوَ يعلم أن الله لا إله إلا الله دخل الجنة) (1) وغيره من الأحاديث. ثم بين رحمه الله أنه إن جاز الاحتجاج بمثل هذه الأخبار على هذا الوجه لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَحْتَجَّ جَاهِلٌ مُعَانِدٌ فَيَقُولُ: بل الإيمان إقام صلاة الفجر والعصر وأن من فعل ذلك يَسْتَوْجِبُ الْجَنَّةَ وَيُعَاذُ مِنَ النَّارِ وَإِنْ لَمْ يَأْتِ بِالتَّصْدِيقِ وَلَا بِالْإِقْرَارِ بِمَا أُمِرَ أَنْ يقر به ولا بشيء من الطاعات المفروضة ولم ينزجر عن شيء من المعاصي للأحاديث القاضية بدخول الجنة لمن صلى الفجر والعصر (2) . ولقال جاهل آخر: أَنَّ جَمِيعَ الْإِيمَانِ الْقِتَالُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فواق ناقة (3) أو قتل قاتل لحديث (مَنْ قَاتَلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَوَاقَ نَاقَةٍ دخل الجنة) (4) وحديث (لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلُهُ فِي النَّارِ أَبَدًا) (5) وهذا لفظ مختصر والخبر المقتضي لهذه اللفظة المختصرة ما رواه أبو هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَا يَجْتَمِعَانِ فِي النَّارِ اجْتِمَاعًا) (6) يَعْنِي أَحَدُهُمَا مُسْلِمٌ قَتَلَ كافراً ثم سدد المسلم   (1) والحديث في الصحيح، وقد سبق ص93. (2) مثل حديث الصحيحين (من صلى البردين دخل الجنة) وقد سبق ص99. (3) الفُوَاق والفَوَاق: ما بين الحلبتين من الوقت، لأنها تحلب ثم تترك سويعة يَرضَعها الفصيل لِتَدِرَّ ثم تحلب. لسان العرب ص3488. (4) حديث صحيح رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وأحمد عن معاذ: صحيح الجامع الصغير 6292، والمشكاة 3825. (5) رواه مسلم في الإمارة، باب من قتل كافراً ثم سدد، وانظر شرح النووي ج13 ص36-37. (6) في صحيح مسلم في الإمارة، باب من قتل كافراً ثم سدد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لا يجتمعان في النار اجتماعاً يضر أحدهما الآخر) قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: (مؤمن قتل كافراً سم سدد) وانظر شرح النووي ج 13 ص 37. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وقارب، وكذا القول في فضائل الأعمال، مَنْ عَمِلَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ بَعْضَ تِلْكَ الْأَعْمَالِ ثُمَّ سَدَّدَ وَقَارَبَ وَمَاتَ عَلَى إِيمَانِهِ دَخَلَ الْجَنَّةَ وَلَمْ يَدْخُلِ النَّارَ مَوْضِعَ الْكُفْرِ مِنْهَا وإن ارتكب بعض المعاصي، لذلك لَا يَجْتَمِعُ قَاتِلُ الْكَافِرِ إِذَا مَاتَ عَلَى إِيمَانِهِ مَعَ الْكَافِرِ الْمَقْتُولِ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنَ النَّارِ، لَا إِنَّهُ لَا يَدْخُلُ النَّارَ وَلَا مَوْضِعًا مِنْهَا وَإِنِ ارْتَكَبَ جَمِيعَ الْكَبَائِرِ خَلَا الشِّرْكَ بِاللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِذَا لَمْ يشأ الله تَعَالَى أَنْ يَغْفِرَ لَهُ مَا دُونَ الشِّرْكِ. وفي هذا القدر كفاية لبيان أنه - صلى الله عليه وسلم - إنما أراد بذكر هذه الأعمال الصالحة بيان فضلها ولم يرد أَنَّ كُلَّ عَمَلٍ ذَكَرَهُ أَعْلَمَ أَنَّ عَامِلَهُ يَسْتَوْجِبُ بِفِعْلِهِ الْجَنَّةَ أَوْ يُعَاذُ مِنَ النَّارِ أنه جميع الإيمان. ثم لما انتهى ابن خزيمة رحمه الله مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَا احْتَجَّ بِهِ الْمُرْجِئَةُ على باطلهم، شرع في بيان ما تشبث به الخوارج فقال (بَابُ ذِكْرِ أَخْبَارٍ رُوِيَتْ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَابِتَةً مِنْ جِهَةِ النَّقْلِ جهل معناها فرقتان: فرقة المعتزلة والخوارج، واحتجوا بِهَا وَادَّعُوا أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ إِذَا مَاتَ قَبْلَ التَّوْبَةِ مِنْهَا مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ مُحَرَّمٌ عليه الجنان. والفرقة الأخرى المرجئة، كفر بِهَذِهِ الْأَخْبَارِ وَأَنْكَرَتْهَا وَدَفَعَتْهَا جَهْلًا مِنْهَا بِمَعَانِيهَا) ثُمَّ قَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (مَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ إِنَّمَا هُوَ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَيْ بَعْضَ الْجِنَانِ إِذِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدْ أَعْلَمَ أنها جنان من جنة واسم وَاقِعٌ عَلَى كُلِّ جَنَّةٍ مِنْهَا، فَمَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ الَّتِي ذَكَرَهَا مِنْ فِعْلِ كَذَا لِبَعْضِ الْمَعَاصِي حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ أَوْ لَمْ يدخل الجنة أولم يَدْخُلِ الْجَنَّةَ مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُ بَعْضَ الْجِنَانِ الَّتِي هِيَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ وَأَنْبَلُ وَأَكْثَرُ نَعِيمًا وسروراً وبهجة وأوسع لا أنه أراد شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْجِنَانِ الَّتِي هِيَ فِي الجنة. وَالْمَعْنَى الثَّانِي مَا قَدْ أَعْلَمْتُ أَصْحَابِي مَا لَا أُحْصِي مِنْ مَرَّةٍ أَنَّ كُلَّ وَعِيدٍ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ فَإِنَّمَا هُوَ على شريطة (1) أي إلا أن يشاء   (1) سبق بيان القول الجامع في أحاديث الوعد والوعيد الذي يرد به على المرجئة والخوارج والمعتزلة وهو أنها مقيدة بتحقيق شروط وانتفاء موانع وهو ما ذهب إليه ابن تيمية وابن رجب رحمهما الله، كما سبق ذكر الأقوال الأخرى للعلماء في أحاديث الوعد والوعيد. انظر ص 99 - 106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 الله تعالى أن يفغر وَيَصْفَحَ وَيَتَكَرَّمَ وَيَتَفَضَّلَ فَلَا يُعَذِّبُ عَلَى ارْتِكَابِ تلك الخطيئة، إذا الله قد أخبر فِي مُحْكَمِ كِتَابِهِ أَنَّهُ قَدْ يَشَاءُ أَنْ يَغْفِرَ دُونَ الشِّرْكِ مِنَ الذُّنُوبِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} (1)) . وقال رحمه الله: (فَاسْمَعُوا الْخَبَرَ الْمُصَرِّحَ بِصِحَّةِ مَا ذَكَرْتُ أَنَّهَا جِنَانٌ فِي جَنَّةٍ وَاسْمُ الْجَنَّةِ وَاقِعٌ عَلَى كُلِّ جَنَّةٍ مِنْهَا عَلَى الِانْفِرَادِ لِتَسْتَدِلُّوا بِذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ تَأْوِيلِنَا الْأَخْبَارَ الَّتِي ذَكَرْنَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ فعل كَذَا وَكَذَا لِبَعْضِ الْمَعَاصِي لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ إِنَّمَا أَرَادَ بَعْضَ الَّتِي هِيَ أَعْلَى وَأَشْرَفُ وَأَفْضَلُ وَأَنْبَلُ وَأَكْثَرُ نَعِيمًا وَأَوْسَعُ، إِذْ مُحَالٌ أَنْ يَقُولَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا لَمْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ يُرِيدُ لَا يَدْخُلُ شَيْئًا مِنَ الْجِنَانِ وَيُخْبِرُ أَنَّهُ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ فَتَكُونُ إِحْدَى الْكَلِمَتَيْنِ دَافِعَةً للأخرى وأحد الخبرين دافعاً للآخر، لِأَنَّ هَذَا الْجِنْسَ مِمَّا لَا يَدْخُلُهُ التَّنَاسُخُ وَلَكِنَّهُ مِنْ أَلْفَاظِ الْعَامُ الَّذِي يُرَادُ بِهِ الْخَاصُّ) ثُمَّ سَاقَ بِإِسْنَادِهِ إِلَى أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ الرُّبَيِّعَ أَتَتِ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْبِئْنِي عَنْ حَارِثَةَ، أُصِيبَ يَوْمَ بَدْرٍ، فَإِنْ كَانَ فِي الْجَنَّةِ صَبَرْتُ وَاحْتَسَبْتُ وَإِنْ كَانَ غَيْرَ ذَلِكَ اجْتَهَدْتُ فِي الْبُكَاءِ. فَقَالَ: (يَا أُمَّ حَارِثَةَ إِنَّهَا جِنَانٌ فِي جنة، وإنه أصاب الفردوس الأعلى) (2) . وقال: (وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يَقُولَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ فَعَلَ كَذَا وَكَذَا لَمْ يَدْخُلِ الجنة يريد ليدخل في الوقت الذي يَدْخُلُهَا فِيهِ مَنْ لَمْ يَرْتَكِبْ هَذِهِ الْحَوْبَةَ (3) لِأَنَّهُ يُحْبَسُ عَنْ دُخُولِ الْجَنَّةِ إِمَّا لِلْمُحَاسَبَةِ على الذنب   (1) النساء: 48 - 116. (2) صحيح. صحيح الجامع الصغير 7729. (3) الحَوب والحُوب والحاب: الإثم، فالحوب بالفتح لأهل الحجاز، الحوب بالضم لتميم، والحوبة المرة الواحدة منه. لسان العرب ص 1036. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 لإدخاله النار بقدر ذَلِكَ الذَّنْبَ .... فَمَعْنَى هَذِهِ الْأَخْبَارِ عَلَى هَذِهِ المعاني لأنها لَمْ تُحْمَلْ عَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي كَانَتْ عَلَى وجده التَّهَاتُرَ وَالتَّكَاذُبَ وَعَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَتَأَوَّلُوا أَخْبَارَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على مَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إِذَا حُدثتم عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَظَنُّوا بِهِ الَّذِي هو أهناه وأهداه وأتقاه) . وَقَوْلُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: (وَعَلَى الْعُلَمَاءِ أَنْ يَتَأَوَّلُوا أَخْبَارَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) لَمْ يعنى رَحِمَهُ اللَّهُ التَّأْوِيلَ الَّذِي اصْطَلَحَهُ الْمُتَكَلِّمُونَ لِصَرْفِ النُّصُوصِ بِمَا اقْتَضَتْهُ عُقُولُهُمُ السَّخِيفَةُ، وَلَيْسَ ذَلِكَ من طريقته ولا من شأنه رخمه اللَّهُ وَإِنَّمَا عَنَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كُتُبِهِ مِنْ حَمْلِ الْمُجْمَلِ على المسفر، والمختصر على المقتضي، وَالْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَالْعُمُومِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَمَا أشبهه ذَلِكَ مِنَ التَّأْلِيفِ بَيْنَ النُّصُوصِ وَمَدْلُولَاتِهَا لِئَلَّا تَكُونُ مُتَنَاقِضَةً يَرُدُّ بَعْضُهَا مَعْنَى بَعْضٍ، لِأَنَّ ذلك مما يتنزه عَنْهُ كَلَامُ اللَّهِ وَكَلَامُ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَهَذِهِ طَرِيقَةُ جَمِيعِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ عُلَمَاءِ التَّفْسِيرِ وَالْحَدِيثِ وَالْفِقْهِ فِي أُصُولِ الدِّينِ وَفُرُوعِهِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى وَرَضِيَ عَنْهُمْ. 5- فاسق أهل القبلة في العقاب وعدمه تحت المشيئة ولا يكفر بالكبيرة إلا من استحلها: والراد بِهَا الْكَبَائِرُ الَّتِي لَيْسَتْ بِشِرْكٍ وَلَا تَسْتَلْزِمُهُ ولا تنافي اعتقاد القلب ولا عمله، وَلَكِنْ نَقُولُ يَفْسُقُ بِفِعْلِهَا وَيُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ بارتكابها وينقص إيمانه بقدر ما تجرأ عَلَيْهِ مِنْهَا، وَالدَّلِيلُ عَلَى فِسْقِهِ وَنُقْصَانِ إِيمَانِهِ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ*إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 وأصلحوا فإن الله غفور رحيم} (1) وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنْ آيَاتِ الْحُدُودِ وَالْكَبَائِرِ، وقو النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا يَزْنِي الزاني حين يزني وهو مؤمن، ويسرق حين يسرق وهو مؤمن ولا يشرب الخمر حين يشربها وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ) الْحَدِيثُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (2) . وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ النَّفْيَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَغَيْرِهِ لَيْسَ لِمُطْلَقِ الْإِيمَانِ بَلْ لِكَمَالِهِ هو ما قدمناه مِنَ النُّصُوصِ الَّتِي صَرَّحَتْ بِتَسْمِيَتِهِ مُؤْمِنًا وَأَثْبَتَتْ له أخوة الإيمان وأبقيت له أحكام المؤمنين. وعامل الْكَبِيرَةِ يُكَفَّرُ بِاسْتِحْلَالِهِ إِيَّاهَا بَلْ يُكَفَّرُ بِمُجَرَّدِ اعتقاده بتحليل ما حرم الله ورسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَلِكَ كُفْرٌ بِالْكِتَابِ والسنة والإجماع جحداً أمراً مجمعاً عَلَيْهِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ فَلَا شَكَّ في كفره. 6- التَّوْبَةَ فِي حَقِّ كُلِّ فَرْدٍ مَقْبُولَةٌ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ سَوَاءٌ مِنْ كُفْرٍ أَوْ دُونِهِ من أي ذنب كان: هذه هي المسألة السادسة وهي التَّوْبَةَ إِذَا اسْتُكْمِلَتْ شُرُوطُهَا مَقْبُولَةٌ مِنْ كُلِّ ذَنَبٍ كُفْرًا كَانَ أَوْ دُونَهُ. وَقَدْ دَعَا الله إليها جميع عباده، فقال تعالى: {يا عباد الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ*وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وأسلموا..} (3) بل لم يرسل الله الرُّسُلَ وَيُنْزِلِ الْكُتُبَ إِلَّا دَعْوَةً مِنْهُ لِعِبَادِهِ إِلَى التَّوْبَةِ لِيَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ. وَفِي الصَّحِيحِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -:   (1) النور: 4-5. (2) وسبق حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين (.. وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ثُمَّ سَتَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ فَهُوَ إِلَى اللَّهِ، إِنْ شَاءَ عَفَا عَنْهُ، وإن شاء عاقبه..) انظر ص 327. (3) الزمر: 53-54. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 (لله أشر فَرَحًا بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ حِينَ يَتُوبُ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِكُمْ كَانَ عَلَى رَاحِلَتِهِ بِأَرْضِ فَلَاةٍ فَانْفَلَتَتْ مِنْهُ وَعَلَيْهَا طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ فَأَيِسَ مِنْهَا، فَأَتَى شجرة فاضطجع من ظلها قد أيس، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ هُوَ بِهَا قَائِمَةٌ عِنْدَهُ فَأَخَذَ بِخِطَامِهَا ثُمَّ قَالَ مِنْ شِدَّةِ الْفَرَحِ: (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَبْدِي وَأَنَا رَبُّكَ، أَخْطَأَ من شدة الفرح) . وفيه عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا) . وَالْأَحَادِيثُ فِي شَأْنِ التَّوْبَةِ وَالْحَثِّ عَلَيْهَا، وَفِي تكفيرها للذنوب كثيرة جداً، وحيث ذكرت في الآيات والأحاديث فإنما المراد به التوبة النصوح، وهي اجتمع فيها ثلاث شُرُوطٍ: الْأَوَّلُ: الْإِقْلَاعُ عَنِ الذَّنْبِ. الثَّانِي: النَّدَمُ على فعله. الثالث: العزم على عدم العودة إليه. فَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الذَّنْبِ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لزم استحلاله منه إن أمكن لقوله - صلى الله عليه وسلم - في الصحيح: (مَنْ كَانَ عِنْدَهُ لِأَخِيهِ مَظْلِمَةٌ فَلْيَتَحَلَّلْ مِنْهُ الْيَوْمَ، فَإِنَّهُ لَيْسَ ثَمَّ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ) . وَهَذِهِ الشُّرُوطُ فِي كَيْفِيَّةِ التَّوْبَةِ. وَأَمَّا الشَّرْطُ في زمانها: -ففي حق كل فرد من العباد: أن تكون قَبْلَ الْغَرْغَرَةِ وَهِيَ حَشْرَجَةُ الرُّوحِ فِي الصَّدْرِ، والمراد بذلك الاحتضار عندما يرى الملائكة، قال تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا*وَلَيْسَتِ التوبة للذين يعملون السيئات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 حتى إذا أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عذاباً أليماً} (1) وَعَنْ أَبِي الْعَالِيَةِ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كَانُوا يَقُولُونَ: كُلُّ ذَنْبٍ أَصَابَهُ عَبْدٌ فَهُوَ جهالة. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ} قَالَ: بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى مَلَكِ الْمَوْتِ. وَقَالَ الضحاك. ما دون الموت فهو قَرِيبٌ وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (إِنَّ اللَّهَ يَقْبَلُ تَوْبَةَ العبد ما لم يغرغر) (2) . -وأما في حق عمر الدنيا: فتنقطع التوبة بعد طلوع الشمس من مغربها كما سبق ذكره لِأَنَّهَا أَوَّلُ آيَاتِ الْقِيَامَةِ الْعِظَامِ وَحِينَ الْإِيَاسِ من الدنيا، ففي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَإِذَا رَآهَا النَّاسُ آمَنَ مَنْ عَلَيْهَا، فَذَاكَ حِينَ لَا يَنْفَعُ نَفْسَا إيمانها لم تكن آمنت من قبل) . -وأما الأمم المخسوف بها: فقد انقطعت التوبة عنهم برؤيتهم العذاب كما قال تعالى: {أفلم يسروا في الأرض فينطروا كيف كانت عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ*فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ*فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ*فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لما رأوا بأسنا سنت اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هنا لك الكافرون} (3) .   (1) النساء: 17-18. (2) حسن. صحيح الجامع الصغير 1899. (3) غافر: 82-85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 وفيما يلي الأبيات المتعلقة بما سبق : ِإيمَانُنَا يَزِيدُ بِالطَّاعَاتِ ... وَنَقْصُهُ يَكُونُ بِالزَّلَّاتِ وَأَهْلُهُ فِيهِ عَلَى تَفَاضُلِ ... هَلْ أَنْتَ كَالْأَمْلَاكِ أَوْ كَالرُّسُلِ وَالْفَاسِقُ الْمِلِّيُّ ذُو الْعِصْيَانِ ... لَمْ يُنْفَ عَنْهُ مُطْلَقُ الْإِيمَانِ لَكِنْ بِقَدْرِ الْفِسْقِ وَالْمَعَاصِي ... إِيمَانُهُ مَا زَالَ فِي انْتِقَاصِ وَلَا نَقُولُ إِنَّهُ فِي النَّارِ ... مُخَلَّدٌ، بَلْ أَمْرُهُ لِلْبَارِي تحت مشيءة الْإِلَهِ النَّافِذَهْ ... إِنْ شَا عَفَا عَنْهُ وَإِنْ شَاء آخَذَهْ بِقَدْرِ ذَنْبِهِ، وَإِلَى الْجِنَانِ ... يُخْرَجُ إِنْ مَاتَ عَلَى الْإِيمَانِ وَالْعَرْضُ تَيْسِيرُ الْحِسَابِ فِي النَّبَا (1) ... وَمَنْ يُنَاقَشِ الْحِسَابَ عُذِّبَا وَلَا نُكَفِّرْ بِالْمَعَاصِي مُؤْمِنَا ... إِلَا مَعَ اسْتِحْلَالِهِ لِمَا جَنَى وَتُقْبَلُ التَّوْبَةُ قَبْلَ الْغَرْغَرَهْ ... كَمَا أَتَى فِي الشِّرْعَةِ الْمُطَهَّرَهْ • أسئلة : 1- ما قول أهل السنة في زيادة الإيمان ونقصانه مع الأدلة؟ 2- اذكر دليلاً من الكتاب وآخر من السنة على تفاضل أهل الإيمان فيه. 3- ما المراد بالاستثناء في الإيمان، وما حكمه؟ 4- اذكر مذهب كل من: أهل السنة والخوارج والمعتزلة والمرجئة في حكم عصاة الموحدين في الدنيا ومصيرهم في الآخرة مع بيان الأدلة على صحة مذهب أهل السنة في ذلك. 5- بم ترد على احتجاج المرجئة بقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وقاتله في النار أبدًا" على أنه لا يضر مع الإيمان ذنب؟ 6- اذكر شروط التوبة من جهة كيفيتها، ومن جهة زمنها.   (1) أي كما ورد في الخبر، وقد سبق ذكر الحديث في الكلام على العرض والحساب ص 243. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 الفصل الثاني فِي مَعْرِفَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَبْلِيغِهِ الرِّسَالَةَ، وَإِكْمَالِ اللَّهِ لَنَا بِهِ الدِّينَ، وَأَنَّهُ خَاتَمُ الْنَبِيِّينَ، وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ أَجْمَعِينَ، وَأَنَّ مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ بَعْدَهُ فَهُوَ كَاذِبٌ، يكفر من صدقه واتبعه. 1- تعريف موجز بنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم -: أ-نسبه - صلى الله عليه وسلم - ومولده : هو مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ بن هاشم بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لُؤَيِّ بْنِ غَالِبِ بْنِ فِهْرِ بْنِ مَالِكِ بْنِ النَّضْرِ بْنِ كِنَانَةَ بْنِ خُزَيْمَةَ بْنِ مُدْرِكَةَ بْنِ إِلْيَاسَ بْنِ مُضَرَ بْنِ نِزَارِ بن معد بن عدنان. صلوات الله وسلامه عليه. وأمه آمِنَةُ بِنْتُ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ مَنَافِ بْنِ زهرة بن كلاب بن مرة ابن كعب بن لؤي. وَهَذَا هُوَ النَّسَبُ الْمُتَّفَقُ عَلَى سَرْدِهِ لَا خِلَافَ فِيهِ لِأَحَدٍ، وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّ نَسَبَ عَدْنَانَ إِلَى الذَّبِيحِ إِسْمَاعِيلَ الْحَلِيمِ بن إبراهيم الخليل على نبينا وعليهما السلام، وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّ إِبْرَاهِيمَ يَنْتَمِي إِلَى سَامِ بْنِ نُوحٍ وَهُوَ أَبُو الْعَرَبِ قَاطِبَةً، وَكَذَا لَا خِلَافَ فِي أَنَّ نُوحًا يَنْتَمِي إِلَى شِيثِ بْنِ آدَمَ وَهُوَ وَصِيُّ أَبِيهِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ. وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي كَمِّيَّةِ الآباء بين عدنان وإسماعيل بن إبراهيم ويين إِبْرَاهِيمَ وِسَامِ بْنِ نُوحٍ، وَبَيْنَ نُوحٍ وَشِيثِ بْنِ آدَمَ. وَقَدْ كَانَ كَثِيرٌ مِنْ أَئِمَّةِ الدين - كمالك بن أنس وَغَيْرِهِ - يَكْرَهُونَ تَعْدَادَ الْآبَاءِ مِنْ فَوْقِ عَدْنَانَ ويقولون هو رَجْمٌ بِالْغَيْبِ، وَمَا يَدْرِي مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ، والله تعالى يقول: {وقروناً بين ذلك} (1) . قال أبو عمرو بن عبد البر   (1) الفرقان: 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ - مِنْهُمْ عبد الله بن مسعود، وعمرو بْنُ مَيْمُونَ الْأَوْدِيُّ وَمُحَمَّدُ بْنُ كَعَّبٍ الْقُرَظِيُّ - إِذَا تَلَوَا {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ} (1) قَالُوا: كَذَبَ النَّسَّابُونَ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ كَانَ إِذَا بَلَغَ عَدْنَانَ يَقُولُ: كَذَبَ النَّسَّابُونَ. قَالَ السُّهَيْلِيُّ: وَقَدْ رَأَى جَمَاعَةٌ جَوَازُ ذَلِكَ مِنْهُمُ ابْنُ إِسْحَاقَ وَالْبُخَارِيُّ وَالزَّبِيرُ بْنُ بَكَّارٍ وَالطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُمْ مِنَ العلماء. وَكَانَ مَوْلِدُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَامَ الفيل (2) بمكة وكان فِي الصُّحُفِ الَّتِي بَشَّرَتْ بِهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - من التوراة والإنجيل وغيرهما أن مولده بمكة وهجرته إلى المدينة، ثُمَّ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا بَشَّرَتْ، فَوُلِدَ بِمَكَّةَ وَأُوحِيَ إِلَيْهِ فِيهَا وَبُعِثَ بِالدَّعْوَةِ إِلَى اللَّهِ فِيهَا، ثُمَّ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا سيأتي إن شاء الله عز وجل. ب-بدء الوحي إليه - صلى الله عليه وسلم - . -في الصحيحين عن أنس بم مَالِكٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -   (1) إبراهيم: 9. (2) وهو عام الفيل 570 م. انظر نور اليقين في سيرة سيد المرسلين ص 13. والجمهور على أن مولد - صلى الله عليه وسلم - عام الفيل في شهر ربيع الأول في الثاني عشر منه، ولا خلاف إنه - صلى الله عليه وسلم - ولد يوم الاثنين وذلك لما في صحيح مسلم أنه - صلى الله عليه وسلم - سئل عن صوم يوم الاثنين: (ذاك يوم ولدت فيه..) الحديث في صحيح مسلم، كتاب الصيام، باب استحباب ثلاثة أيام من كل شهر وصوم يوم عرفة وعاشوراء والاثنين والخميس، وانظر صحيح مسلم بشرح النووي 8/51. وانظر البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله [2/242] أما حديث قيس بن مخرمة عند الترمذي [وُلِدْتُ أَنَا وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - عام الفيل] فقد رواه الترمذي ولم يورده الألباني في الصحيح وترك الباب مجرداً من الأحاديث انظر: صحيح سنن الترمذي [3/141] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبْعَةً (1) مِنَ الْقَوْمِ، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ الْبَائِنِ (2) وَلَا بِالْقَصِيرِ، أَزْهَرَ (3) اللَّوْنِ لَيْسَ بِأَبْيَضَ أَمْهَقَ (4) وَلَا آدَمَ (5) ، لَيْسَ بِجَعْدٍ قَطَطٍ (6) وَلَا سَبِطٍ (7) رَجلٍ (8) بَعَثَهُ اللَّهُ عَلَى رَأْسِ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَأَقَامَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ (9)) .   (1) أي لا بالطويل ولا بالقصير. لسان العرب ص1566. (2) زائد الطول. صحيح مسلم بشرح النووي ج15 ص100. (3) أي أبيض بياضاً نيّراً. المصدر السابق ص 86-100 وفي الفتح (أي أبيض مشرب بحمرة) (6/657) . (4) شديد البياض كلون الجص وهو كريه المنظر وربما توهمه الناظر أبرص. صحيح مسلم بشرح النووي ج15 ص 100. (5) أسمر: المصدر السابق. (6) شديد الجعودة. لسان العرب 1922 والجعودة في الشعر أن لا يسترسل. انظر الفتح ج6 ص 657 - 658. (7) منبسط مسترسل لا جعودة فيه. انظر لسان العرب ص 1922. وفي رواية (ليس بالجعد القطط ولا بالسِّبْط) الفتح حديث 3548ج6 ص652. (8) وقوله: (رجل) بكسر الجيم ومنهم من يسكنها أي مسترح وهو مرفوع على الاستئناف أي هو رجل، ووقع عن الأصيلي بالخفض - رجل - وهو وهم لأنه يصير معطوفاً على المنفي، وقد خفضه على المجاورة. انظر الفتح [6/658 -659] . (9) وفي رواية (فلبث بمكة عشر سنين يُنزَل عليه) انظر الفتح حديث 3547 [6/252] قال ابن حجر رحمه الله: (ومقتضى هذا أنه عاش ستين سنة. وأخرج مسلم من وجه آخر عن أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - عاش ثلاث وستين سنة. وهو موافق لحديث عائشة - رضي الله عنها - توفى وهو ابن ثلاث وستين) - حديث 3536 في الفتح ج6 ص 646 - وبه قال الجمهور، وقال الإسماعيلي: لابد أن يكون الصحيح أحدهما، وجمع غيره إلغاء الكسر) ..الفتح ج6 ص659 وهذا كما قيل في الجمع بين روايات حديث حذيفة بن أَسِيد عند مسلم في تخليق النطفة ففي بعضها أن ذلك يكون بعد مرور اثنتين وأربعين ليلة على النطفة وفي بعضها أنه بعد أربعين ليلة. (وقد جمع السهيلي بين القولين المحكيين بوجه آخر، وهو أن من قال مكث ثلاث عشرة عد من أول ما جاءه الملك بالنبوة ومن قال مكث عشراً أخذ ما بعد فترة الوحي ومجي الملك بـ {يأيها المدثر} ، وهو مبني على صحة خبر الشعبي الذي نقلته من تاريخ الإمام أحمد في بدء الوحي، ولكن وقع في حديث خبر الشعبي الذي نقلته من تاريخ الإمام أحمد في بدء الوحي، ولكن وقع في حديث ابن عباس عند ابن سعد ما يخالفه) الفتح [7/758] . ويحتمل أن يجمع بأن من قال مكث ثلاث عشرة سنة عد من أول ما جاءه الملك بالنبوة ومن قال لبث عشر سنين عد من أول الجهر بالدعوة واتباعه - صلى الله عليه وسلم - للناس في منازلهم كما في مسند الإمام أحمد وغيره عن جابر رضي الله عنه (أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم ومجنة وعكاظ، ومنازلهم من يؤويني؟ من ينصرني؟ حتى أبلغ رسالات ربي فله الجنة فلا يجد أحداً ينصره، ولا يؤيه) والحديث خرجه وبين مواضعه في كتب السنة وحسنه الشيخ المربي سليمان بن فهد العودة حفظه الله في كتابه القيم الغرباء الأولون ص102-103، وهو كتاب جدير بالقراءة وفيه كثير من الفوائد التي يحتاجها الدعاة في غربتهم في هذا العصر. أجزل الله لمؤلفه الثواب ونفعنا به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 -وَكَيْفِيَّةُ بَدْءِ الْوَحْيِ مَا ذَكَرَهُ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ الله تعالى عن أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: (أول ما بديء بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَ الْوَحْيِ الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ فِي النَّوْمِ، فَكَانَ لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ. ثُمَّ حُبِّبَ إِلَيْهِ الْخَلَاءُ، وَكَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ الْعَدَدِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ (1) إِلَى أَهْلِهِ وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ. ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الْحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ الْمَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي (2) حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: ما أنا بقاريء. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: اقْرَأْ. فَقُلْتُ: مَا أَنَا   (1) أي يرجع. الفتح ج1 ص32. (2) وفي رواية الطبري بالتاء، كأنه أراد ضمني وعصرني، والغط حبس النفس، ومنه غطه في الماء ولأبي داود الطيالسي في مسنده حسن: فأخذ بحلقي. انظر الفتح ج1 ص33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 بِقَارِئٍ. فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي فَقَالَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ من علق * اقرأ وربك الأكرم} (1) فَرَجَعَ بِهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَرْجُفُ فُؤَادُهُ، فَدَخَلَ عَلَى خَدِيجَةَ بِنْتِ خويلد فقال: (زملوني، وملوني) . فزملوه حتى ذهب عنه الورع، فقال لخديجة وأخبرها بالخبر: (لَقَدْ خَشِيتُ عَلَى نَفْسِي) . فَقَالَتْ خَدِيجَةُ: كَلَّا والله لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أَبَدًا، إِنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وَتَحْمِلُ الكَلّ (2) ، وَتَكْسِبُ الْمَعْدُومَ، وَتَقْرِي الضَّيْفَ، وَتُعِينُ عَلَى نَوَائِبِ الْحَقِّ. فَانْطَلَقَتْ بِهِ خَدِيجَةُ حَتَّى أَتَتْ به ورقة ابن نَوْفَلِ بْنِ أَسَدِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى -ابْنَ عم خديجة رضي الله عنها - وكان امرءاً قَدْ تَنَصَّرَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ وَكَانَ يَكْتُبُ الْكِتَابَ العبراني، فيكتب الْإِنْجِيلِ بِالْعِبْرَانِيَّةِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَكْتُبَ، وَكَانَ شَيْخًا كَبِيرًا قَدْ عَمِيَ. فَقَالَتْ لَهُ خَدِيجَةُ: يَا ابْنَ عَمِّ اسْمَعْ مِنِ ابْنِ أَخِيكَ، فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: يَا ابْنَ أَخِي مَاذَا تَرَى؟ فَأَخْبَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَبَرَ مَا رَأَى. فَقَالَ لَهُ وَرَقَةُ: هَذَا النَّامُوسُ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى موسى. ياليتني فيها جذع (3) . لَيْتَنِي أَكُونُ حَيًّا إِذْ يُخْرِجُكَ قَوْمَكَ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -. (أو مخرجي هُمْ؟) قَالَ: نَعَمْ. لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بِمِثْلِ مَا جِئْتَ بِهِ إِلَّا عُودِيَ. وَإِنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أَنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. ثُمَّ لَمْ ينشب ورقة أن توفى. وفتر الوحي. جـ-حديث الإسراء والمعراج : وَكَانَ الْإِسْرَاءُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى، وَالْمِعْرَاجُ مِنَ الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ثُمَّ إِلَى حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وجل.   (1) العلق: 1-3. (2) الثِّقْل من كان يُتكلف، والكل: العيال. (لسان العرب، ص: 3920) . (3) قال في الفتح: (ياليتني فيها جذع) كذا في رواية الأصيلي، وعند الباقين (يا ليتني فيها جذعاً) بالنصب على أنه خبر كان المقدرة قاله الخطابي (الفتح 1/35) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 -قال تعالى فِي ذِكْرِ الْإِسْرَاءِ: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1) . -وَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي ذِكْرِ الْمِعْرَاجِ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى * عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى * لَقَدْ رَأَى من آيات ربه الكبرى} (2) . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ بن صعصعة رضي لله عَنْهُمَا أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - حدثه عَنْ لَيْلَةِ أُسْرِيَ بِهِ قَالَ: (بَيْنَمَا أَنَا في الحطيم (3) - وربما قال في الحجر - مضجعاً إِذْ أَتَانِي آتٍ فقدَّ (4) - قَالَ (5) : وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: فَشَقَّ - مَا بَيْنَ هَذِهِ إِلَى هَذِهِ. فَقُلْتُ (6) للجارود   (1) الإسراء. (2) النجم: 13-18. (3) قال ابن حجر رحمه الله: (والمراد بالحطيم هنا الحجر، وأبعد من قال المراد به ما بين الركن والمقام أو بين زمزم والحجر، وهو وإن كان مختلفاً في الحطيم هل هو الحجر أم لا لكن المراد هنا بيان البقعة التي وقع ذلك فيها، ومعلوم أنها لم تعدد لأن القصة متحدة لاتحاد مخرجها، وقد تقدم في أول بدء الخلق بلفظ (بينا أنا عند البيت) وهو أعم، ووقع في رواية الزهري عن أنس عن أبي ذر (فرج سقف بيتي وأنا بمكة) وفي رواية الواقدي بأسانيده أنه أسرى به من شعب أبي طالب، وفي حديث أم هانىء عند الطبراني أنه بات في بيتها قالت: (ففقدته من الليل فقال: إن جبريل أتاني..) والجمع بين هذه الأقوال أنه نام في بيت أم هانىء، وبيتها عند شعب أبي طالب، ففرج سقف بيته - وأضاف البيت إليه لكونه كان يسكنه - فنزل منه الملك فأخرجه من البيت إلى المسجد فكان به مضطجعاً وبه أثر النعاس، ثم أخرجه الملك إلى باب المسجد فأركبه البراق) الفتح ج7 ص 243. (4) أي قطع أو شق. قال في لسان العرب: (القد: القطع المستأصل والشق طولاً) . (5) القائل قتادة، والمقول عنه أنس، ولأحمد (قال قتادة: وربما سمعت أنساً يقول فشق) فتح الباري ج7 ص244. (6) قال ابن حجر رحمه الله: قوله: (فقلت للجارود) لم أر من نسبه من الرواة، ولعله ابن أبي سبرة البصري صاحب أنس، فقد أخرج له أبو داود من روايته عن أنس حديثًا غير هذا. الفتح ج7 ص224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 وَهُوَ إِلَى جَنْبِي: مَا يَعْنِي بِهِ؟ قَالَ: مِنْ ثُغرة (1) نَحْرِهِ إِلَى شَعَرَتِهِ - وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: مِنْ قَصِّه (2) إِلَى شَعْرَتِهِ (3) - فَاسْتَخْرَجَ قَلْبِي، ثُمَّ أُتيت بِطَسْتٍ مِنْ ذَهَبٍ مَمْلُوءَةٍ إِيمَانًا، فغُسِل قَلْبِي، ثُمَّ حُشِي ثُمَّ أُعِيدَ (4) ، ثُمَّ أُتِيتُ بداة دون البغل وفوق الحمار أبيض..) - وفي صحيح مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: أتيت بالبراق وهو دابة أبيض   (1) وهي الموضع المنخفض الذي بين الترقوتين. الفتح ج7 ص224.. (2) أي رأس صدره. الفتح ج7 ص224. (3) قال في لسان العرب: (والشِّعْراء والشِّعْر، بالكسر: الشعر النابت على عانة الرجل ورَكَب المرأة -فرجها- وعلى ما وراءها.. والشعرة: منبت الشعر تحت السرة، وقيل: الشعرة العانة نفسها) انظر ص 2274، 1715 وقال ابن حجر: ذكر الكرماني أنه وقع (إلى ثُنَّتِه) ما بين السرة والعانة. الفتح ج7 ص244. (4) قال ابن حجر رحمه الله: (وقد استنكر بعضهم وقوع شق الصدر ليلة الإسراء وقال: إنما كان ذلك وهو صغير في بني سعد، ولا إنكار في ذلك، فقد تواردت الروايات به. وثبت شق الصدر أيضاً عند البعثة كما أخرجه أبو نعيم في الدلائل ولكل منهما حكمة، فالأول وقع فيه من الزيادة كما عند مسلم من حديث أنس (فأخرج علقة فقال: هذا حظ الشيطان منك) وكان هذا في زمن الطفولية فنشأ على أكمل الأحوال من العصمة من الشيطان، ثم وقع شق الصدر عند البعث زيادة في إكرامه ليتلقى ما يوحى إليه بقلب قوي في أكمل الأحوال من التطهير، ثم وقع شق الصدر عند إرادة العروج إلى السماء ليتأهب للمناجاة، ويحتمل أن تكون الحكمة في هذا الغسل لتقع المبالغة في الإسباغ بحصول المرأة الثالثة كما تقرر في شرعه - صلى الله عليه وسلم - وجميع ما ورد من شق الصدر واستخراج القلب وغير ذلك من الأمور الخارقة للعادة مما يجب التسليم له دون التعرض لصرفه عن حقيقته لصلاحية القدرة فلا يستحيل شيء من ذلك، قال القرطبي في المفهم: لا يلتفت لإنكار الشق ليلة الإسراء لأن رواته ثقات مشاهير، ثم ذكر نحو ما تقدم) . فتح الباري ج7 ص244، 245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 طَوِيلٌ فَوْقَ الْحِمَارِ وَدُونَ الْبَغْلِ يَضَعُ حَافِرَهُ عِنْدَ مُنْتَهَى طَرْفِهِ، قَالَ: فَرَكِبْتُهُ حَتَّى أَتَيْتُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ. قَالَ: فَرَبَطْتُهُ بِالْحَلْقَةِ الَّتِي يَرْبِطُ بها (1) الْأَنْبِيَاءُ. قَالَ: ثُمَّ دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ فَصَلَّيْتُ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ (2) ثُمَّ خَرَجْتُ، فَجَاءَنِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِإِنَاءٍ مِنْ خَمْرٍ وَإِنَاءٍ مِنْ لَبَنٍ فَاخْتَرْتُ اللَّبَنَ فَقَالَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اخْتَرْتَ الْفِطْرَةَ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ. فقيل من أنت؟ قال جبريل: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بعث إليه، ففتح لنا فإذا بِآدَمَ فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الثَّانِيَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقِيلَ: مَنْ أَنْتَ؟ قَالَ جِبْرِيلُ، قيل: ومن معك؟ قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إليه؟ قال: بعث إليه. ففتح لنا فإذا أنا يا بني الخالة عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا - صلوات الله على نبينا وعليهما وَسَلَامُهُ - فَرَحَّبَا وَدَعَوَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِي إِلَى السَّمَاءِ الثَّالِثَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ فَقِيلَ: من أنت ظ قَالَ: جِبْرِيلُ. قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ. فَفُتِحَ لَنَا فإذا أنا بيوسف - عليه السلام - وإذا هُوَ قَدْ أُعْطِيَ شَطْرَ الْحُسْنِ فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ. ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الرَّابِعَةِ فَاسْتَفْتَحَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، قِيلَ: مَنْ هذا؟ قيل:   (1) كذا في المعارج وفي مسلم (به) ، قال النووي: كذا هو في الأصول (به) بضمير المذكر أعاده على معنى الحلقة وهو الشيء قال صاحب التحرير: المراد حلقة باب مسجد بيت المقدس والله أعلم (شرح النووي 2/211) . (2) تحية المسجد. أما صلاته بالأنبياء فالظاهر أنه بعد رجوعه إليه لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحداً وهو يخبره بهم وهذا هوة اللائق لأنه كان أولاً مطلوباً إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوانه من النبيين ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام له في ذلك. انظر ابن كثير (3/23) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ الْبَابُ فَإِذَا أنا بإدريس - عليه السلام - فرحب ودعا له بِخَيْرٍ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا علياً} (1) ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ الْخَامِسَةِ فَاسْتَفْتَحَ جبريل، قيل: ما هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قِيلَ: وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ؟ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا أَنَا بِهَارُونَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَرَحَّبَ وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السَّمَاءِ السادسة فاستفتح جبريل عليه السلام عليه، قيل: ما هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لَنَا فَإِذَا بِمُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَرَحَّبَ بِي وَدَعَا لِي بِخَيْرٍ، ثُمَّ عَرَجَ بِنَا إِلَى السماء السابعة فاستفتح جبريل عليه السلام عليه، قيل: ما هَذَا؟ قَالَ: جِبْرِيلُ، قِيلَ: وَمَنْ مَعَكَ؟ قَالَ: مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قِيلَ وَقَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ قَالَ: قَدْ بُعِثَ إِلَيْهِ، فَفُتِحَ لنا فإذا بِإِبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مُسْنِدًا ظَهْرَهُ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَإِذَا هُوَ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ (2) ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ، ثُمَّ ذَهَبَ بِي إِلَى سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى وَإِذَا وَرَقُهَا كَآذَانِ الْفِيَلَةِ وَإِذَا سمرها كالقلال: فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تَغَيَّرَتْ فَمَا أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَنْعَتَهَا مِنْ حُسْنِهَا، فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَيَّ مَا أَوْحَى، فَفَرَضَ عَلَيَّ خَمْسِينَ صَلَاةً فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَنَزَلْتُ إِلَى مُوسَى - عَلَيْهِ السلام - فقالل: مَا فَرَضَ رَبُّكَ عَلَى أُمَّتِكَ؟ قُلْتُ: خَمْسِينَ صَلَاةً، قَالَ: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ فَإِنَّ أُمَّتَكَ لَا يُطِيقُونَ ذَلِكَ فَإِنِّي قَدْ بلوت   (1) مريم: 75. (2) قال ابن كثير رحمه الله: يعني يتعبدون ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم، كذلك ذاك البيت المعمور هو كعبة أهل السماء السابعة ولهذا وجد إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام مسنداً ظهره إلى البيت المعمور لأنه باني الكعبة الأرضية والجزاء من جنس العمل. ابن كثير 4/240.. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 بَنِي إِسْرَائِيلَ وَخَبَرْتُهُمْ. قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى رَبِّي فقلت: يارب خَفِّفْ عَنْ أُمَّتِي، فَحَطَّ عَنِّي خَمْسًا، فَرَجَعْتُ إلى موسى -عليه السلام- فَقُلْتُ: حَطَّ عَنِّي خَمْسًا، قَالَ إِنَّ أُمَّتَكَ لا تطيق ذلك، فارجع إلى ربك فسأله التَّخْفِيفَ. قَالَ: فَلَمْ أَزَلْ أَرْجِعُ بَيْنَ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَبَيْنَ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حَتَّى قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِنَّهُنَّ خَمْسُ صَلَوَاتٍ كُلَّ يوم وليلة بكل صَلَاةٍ عَشْرٌ فَذَلِكَ خَمْسُونَ صَلَاةً، وَمَنْ همَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةً، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ لَهُ عَشْرًا، وَمَنْ همَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا لَمْ تُكْتَبْ شَيْئًا (1) ، فَإِنْ عَمِلَهَا كُتِبَتْ سَيِّئَةً وَاحِدَةً. قَالَ: فَنَزَلْتُ حَتَّى انْتَهَيْتُ إلى موسى -عليه السلام- فأخبرته قال: ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَقُلْتُ: قَدْ رجعت إلى ربي فَاسْأَلْهُ التَّخْفِيفَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: فَقُلْتُ: قَدْ رَجَعْتُ إِلَى رَبِّي حتى استحييت منه) . -الإسراء والمعراج كانا بالروح والجسد، يقظة لا مناما ً (2) : ثُمَّ الَّذِي دَلَّتْ عَلَيْهِ الْآيَاتُ وَالْأَحَادِيثُ أَنَّ الْإِسْرَاءَ وَالْمِعْرَاجَ كَانَا يَقَظَةً لَا مَنَامًا، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ في قول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ) فَإِنَّ ذَلِكَ عِنْدَ أَوَّلِ مَا أَتَيَاهُ وَلَا يدل على أنه استمر نائماً. وكذا لا ينافي ذلك رواية شريط (فاستيقظ وهو بالمسجد الحرام) - الحديث في صحيح البخاري.   (1) وهذا فيما لم يكن عزماً وتصميماً أما إن كان عازماً فحيل بينه وبينها فعليه الوزر وأما مجرد الهم دون العزم والتصميم فلا يعاقب عليه إذا لم يفعل ما هم به وهذا إن لم يكن له نية في الترك أما إن ترك السيئة ابتغاء رضا الله فتكتب له حسنة وبهذا يحصل الجمع بين هذا الحديث وحديث: (من همَّ = =بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ عِنْدَهُ حسنة كاملة) - رواه البخاري في الرقاق، [باب] من هم بحسنة أو سيئة - وحديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما - انظر الفتح ج11 ص 334-337. (2) وانظر فتح الباري ج8 ص475. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 -فَإِنَّ رِوَايَةَ شَرِيكٍ فِيهَا أَوْهَامٌ كَثِيرَةٌ تُخَالِفُ رِوَايَةَ الْجُمْهُورِ عَنْ أَنَسٍ فِي أَكْثَرِ مِنْ عَشَرَةِ مَوَاضِعَ سَرْدُهَا فِي الْفَتْحِ وَسِيَاقُهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ بِالْمَعْنَى (1) ، وَصَرَّحَ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ أَنَّهُ لَمْ يُثْبِتْهَا. وَتَصْرِيحُ الْآيَةِ {سُبْحَانَ الَّذِي أسرى بعبده} (2) شَامِلٌ لِلرُّوحِ وَالْجَسَدِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ النَّجْمِ: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى * عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى} (3) جَعَلَ رُؤْيَةَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجِبْرِيلَ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى مُقَابِلًا لِرُؤْيَتِهِ إِيَّاهُ في الأبطح، وهي رؤيا عَيْنٍ حَقِيقَةً لَا مَنَامًا، وَلَوْ كَانَ الْإِسْرَاءُ وَالْمِعْرَاجُ بِرُوحِهِ فِي الْمَنَامِ لَمْ تَكُنْ مُعْجِزَةً ولا كان هناك معنى لتكذيب قريش بها وقولهم إنا نَضْرِبُ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إِلَى بَيْتِ الْمَقْدِسِ شَهْرًا ذَهَابًا وَشَهْرًا إِيَابًا وَمُحَمَّدٌ يَزْعُمُ أَنَّهُ أُسَرِيَ بِهِ إِلَيْهِ وَأَصْبَحَ فِينَا إِلَى آخِرِ تَكْذِيبِهِمْ واستهزائهم به - صلى الله عليه وسلم -، فلو كان ذلك رؤيا مناماً لم يستعبدوه وَلَمْ يَكُنْ لِرَدِّهِمْ عَلَيْهِ مَعْنًى، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَرَى فِي مَنَامِهِ مَا هُوَ أَبْعَدُ مِنْ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَلَا يُكَذِّبُهُ أَحَدٌ اسْتِبْعَادًا لرؤياه. -هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ربه؟ (4) : روى البخاري ومسلم عن مسروق رحمه الله قَالَ: قُلْتُ لِعَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: يَا أمَّتاه هَلْ رَأَى مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّهُ؟ فَقَالَتْ: (لَقَدْ قَفَّ (5) شَعْرِيَ مِمَّا   (1) ومنهم من يجعل هذا مناماً توطئة لما وقع بعد ذلك، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - لَا يَرَى رُؤْيَا إِلَّا جَاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصبح كما في حديث بدء الوحي الذي سبق ذكره، انظر تفسير ابن كثير ج3 ص3. (2) الإسراء: 1. (3) النجم: 13، 14. (4) وانظر فتح الباري ج8 ص473، 474 وفيه أن الرؤية المنفية رؤيته بصره لا بقلبه وبهذا يجمع بين الأقوال المختلفة عن الصحابة. (5) أي قام من الفزع لما حصل عندها من هيبة الله واعتقدته من تنزيهه واستحالة وقوع ذلك، قال النضر بن شميل: القَفُّ بفتح القَّاف وتشديد الفاء كالقشعريرة، وأصله التقبض والاجتماع، لأن الجلد ينقبض عند الفزع فيقوم الشعر لذلك. فتح الباري ج8 ص473. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 قلت: أين أنت من ثلاثٍ (1) من حدثكن فَقَدْ كَذَبَ: مَنْ حَدَّثَكَ أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَأَى رَبَّهُ فَقَدْ كَذَبَ - ثُمَّ قَرَأَتْ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللطيف الخبير} (2) - وَمَنْ حَدَّثَكَ أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ فَقَدْ كَذَبَ - ثُمَّ قَرَأَتْ: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تكسب غدا} (3) - ومن حدثك أَنَّهُ كَتَمَ فَقَدْ كَذَبَ - ثُمَّ قَرَأْتُ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ ربك} (4) الْآيَةَ - وَلَكِنَّهُ رَأَى جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي صُورَتِهِ مَرَّتَيْنِ) هَذَا لَفْظُ الْبُخَارِيِّ، وَلَفْظُ مُسْلِمٍ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ: كُنْتُ مُتَّكِئًا عِنْدَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا فَقَالَتْ: يَا أَبَا عَائِشٍ (5) ثَلَاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بِوَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ. قَالَ: وَكُنْتُ مُتَّكِئًا فَجَلَسْتُ فَقُلْتُ: يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَنْظِرِينِي وَلَا تَعْجَلِينِي، أَلَمْ يَقُلِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين} (6) ، {ولقد رآه نزلة أخرى} (7) ؟ فَقَالَتْ: أَنَا أَوَّلُ هَذِهِ الْأُمَّةِ سَأَلَ عَنْ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (إِنَّمَا هُوَ جِبْرِيلُ لَمْ أَرَهُ عَلَى صُورَتِهِ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا غَيْرَ هَاتَيْنِ الْمَرَّتَيْنِ مُنْهَبِطًا مِنَ السَّمَاءِ سَادًّا عِظَمُ خَلْقِه مَا بَيْنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ) (8) . فَقَالَتْ: أَوَ لَمْ تسمع أن الله   (1) أي كيف يغيب فهمك عن هذه الثلاث؟ وكان ينبغي لك أن تكون مستحضرها ومعتقداً كذب من يدعي وقوعها. فتح الباري ج8 ص473. (2) الأنعام: 103. (3) لقمان: 34. (4) المائدة: 67. (5) انظر شرح النووي (3/8) وفيه: (يا أبا عائشة) . (6) التكوير: 23. (7) النجم: 13.. (8) وفي استدلال عائشة رضي الله عنها بهذا الحديث المرفوع رد على قول النووي رحمه الله: (لم تنف عائشة وقوع الرؤية بحديث مرفوع ولو كان معها لذكرته، وإنما اعتمدت الاستنباط على ما ذرته من ظاهر الآية، وقد خالفها غيرها من الصحابة، والصحابي إذا قال قولاً وخالفه غيره منهم لم يكن ذلك القول حجة اتفاقاً والمراد بالإدراك في الآية الإحاطة، وذلك لا ينافي الرؤية) انظر فتح الباري ج8 ص473. ومعلوم أن من يقولون برؤيته - صلى الله عليه وسلم - لربه في المعراج يستدلون بآيتي التكوير والنجم المذكورتين. وباحتجاج عائشة رضي الله عنها بهذا الحديث يسقط استدلالهم ويبقى أمر الرؤية على الأصل الذي هو العم. والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 يَقُولُ: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللطيف الخبير} (1) أو لم تسمع أن اله يَقُولُ: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عليٌ حكيم} (2) ... الحديث. وأما عن وقت الإسراء والمعراج فالراجح فيه أنه بَيْنَ عَاشِرِ الْبِعْثَةِ وَبَيْنَ هِجْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ. وَعَلَى قَوْلِ مَنْ يَقُولُ إِنَّ خَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَدْرَكَتْ فَرِيضَةَ الصَّلَوَاتِ فَالْمِعْرَاجُ فِي سَنَةِ عَشْرٍ أَوْ قَبْلَهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ لِأَنَّهَا تُوُفِّيَتْ هِيَ وَأَبُو طالب في ذلك العام. د-هِجْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ: وذلك بعد ثلاثة أعوام من الإسراء والمعراج، وهو اخْتِيَارُ الشَّيْخُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ رَحِمَهُ اللَّهُ في الثلاثة الأصول، وله فيه سلف، وقيل أن ذلك كان بعد خمسة أعوام وقيل أكثر من ذلك، وَلَيْسَتْ مَسْأَلَةُ التَّارِيخِ اعْتِقَادِيَّةً فِي هَذَا الْبَابِ، وقد ثبت الإسراء والمعراج بالكتاب والسنة والإجماع فَلَا تَأْثِيرَ لِاخْتِلَافِ أَهْلِ السِّيَرِ فِي تَارِيخِهِ وتعيين سنته ووقته. وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (بَعَثَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَرْبَعِينَ سَنَةً، فَمَكَثَ بِمَكَّةَ ثَلَاثَ عَشْرَةَ سَنَةً يُوحَى إِلَيْهِ، ثُمَّ أُمِرَ بِالْهِجْرَةِ فَهَاجَرَ عَشْرَ سِنِينَ، وَمَاتَ وَهُوَ ابْنُ ثَلَاثٍ وَسِتِّينَ) . وكان وصوله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة يوم الاثنين من شهر ربيع الأول، كما في صحيح البخاري.   (1) الأنعام: 103. (2) الشورى: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 هـ-الإذن بالقتال وفرض الفرائض التي لم تفرض من قبل : وكان الجهاد بمكة بإقامة الحجة والبيان بمال يتلوه عليهم من القرآن، أما الْجِهَادُ الْمَحْسُوسُ بِالسَّيْفِ فَلَمْ يَكُنْ بِمَكَّةَ مَأْمُورًا به بل كان مأموراً بِالْعَفْوِ أَوِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْجَاهِلِينَ وَالصَّبْرِ عَلَى أذاهم واحتمال ما يلقى منهم، وَلِهَذَا قَالَ أَئِمَّةُ التَّفْسِيرِ إِنِّ آيَاتِ الْإِعْرَاضِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ نَسَخَتْهَا آيَاتُ السَّيْفِ. فَلَمَّا هَاجَرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى الْمَدِينَةِ وَصَارَتْ لَهُمْ دَارُ مَنَعَةٍ وَإِخْوَانُ صِدْقٍ وَأَنْصَارُ حَقٍّ، أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي الجهاد ثم أمروا به بعد ذلك أمراً وكلفوا به. قال تعالى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ..} (1) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يقاتلونكم ولا تعتدوا} (2) ، وَقَالَ تَعَالَى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كله لله} (3) ، وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا الله) (4) . وَالْجِهَادُ ذُرْوَةُ سَنَامِ الْإِسْلَامِ، وَلَا يَقُومُ إِلَّا به، كما أن بيان شرائعه لا يقوم إِلَّا بِالْكِتَابِ، وَلِهَذَا قَرَنَ اللَّهُ تَعَالَى بَيْنَهُمَا فَقَالَ: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فيه بأس شديد} (5) فَالْكِتَابُ لِبَيَانِ الْحَقِّ وَالْهِدَايَةِ إِلَيْهِ، وَالْحَدِيدُ لِحِمْلِ الناس على الحق وأطرهم عليه (6) . وفرض الله عليه بعد   (1) الحج: 39، 40. (2) البقرة: 190. (3) الأنفال: 39. (4) والحديث في الصحيح وقد سبق. ص87. (5) الحديد: 25. (6) انظر كتاب أهمية الجهاد للدكتور علي بن نفيع العلياني حفظه الله، ففيه ما يكفي ويشفي إن شاء الله تعالى في الرد على من قصر الجهاد على جهاد الدفع. وانظر زاد المعاد لابن القيم بتحقيق الأرنؤوط - شعيب وعبد القادر جزاهما الله خيراً - (3/158-160) لتقف على ترتيب هديه - صلى الله عليه وسلم - مع الكفار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 الْهِجْرَةِ جَمِيعَ الْفَرَائِضِ الَّتِي لَمْ تُفْرَضْ مِنْ قَبْلُ، فَالْجِهَادُ فِي السَّنَةِ الْأُولَى، وَأُتِمَّتْ صَلَاةُ السفر في الأولى (1) ، وشرع الأذان والصيام والزكاة - بأنصبتها المعروفة - وَتَحْوِيلَ الْقِبْلَةِ إِلَى الْكَعْبَةِ كُلَّهَا فِي الثَّانِيَةِ، وَشَرَعَ التَّيَمُّمَ سَنَةَ سِتٍّ وَصَلَاةَ الْخَوْفِ سَنَةَ سَبْعٍ، وَالْحَجَّ فِي السَّادِسَةِ وَقِيلَ فِي التَّاسِعَةِ وَقِيلَ فِي التَّاسِعَةِ وَقِيلَ فِي الْعَاشِرَةِ، وَفِيهَا حج النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَيْهِ وَهُوَ وَاقِفٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي ورضيت لكم الإسلام ديناً} (2) كما في الصحيحين. ووفاته - صلى الله عليه وسلم - : وكان قبضه - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى - وهو أعلى عليين، وهو الْوَسِيلَةُ الَّتِي هِيَ أَعْلَى دَرَجَةً فِي الْجَنَّةِ وَلَا تَنْبَغِي إِلَّا لَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَقَدْ أَمَرَنَا أَنْ نَسْأَلَ اللَّهَ لَهُ ذلك (3) - فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ نَهَارَ الِاثْنَيْنِ (4) بَعْدَ حَجَّةِ الوداع بفوق ثمانين ليلة (5) ، قال تَعَالَى: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أعقابكم} (6) ، وقال: {إنك ميت وإنهم ميتون} (7) .   (1) وكانت صلاة السفر وصلاة الحضر قبل ذلك سواء ثم صارت الحضر تامة وصار القصر في السفر. (2) المائدة: 3. (3) والحديث في الصحيح، وقد سبق في الشفاعة ص266. (4) قال ابن حجر: كانت وفاته - صلى الله عليه وسلم - يوم الاثنين بلا خلاف من ربيع الأول وكاد يكون إجماعاً. ثم عند ابن اسحاق والجمهور أنها في الثاني عشر منه (انظر فتح الباري ج7 ص736) . (5) عاش عليه الصلاة والسلام بعد حجته ثمانين يوماً وقيل أحداً وثمانين وقيل تسعين أو أحداً وتسعين - المصدر السابق. (6) آل عمران: 144. (7) الزمر: 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 وأوصاهم - صلى الله عليه وسلم - بثلاث - كما في صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - (أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَأَجِيزُوا الْوَفْدَ بِنَحْوِ مَا كُنْتُ أُجِيزُهُمْ) وَسَكَتَ عَنِ الثَّالِثَةِ، أو قال: فنسيتها. وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقول: (مات ورأسه بَيْنَ حَاقِنَتِي (1) وَذَاقِنَتِي (2)) وَفِي رِوَايَةٍ قَالَتْ: (وَبَيْنَ يَدَيْهِ رَكْوة (3) فِيهَا مَاءٌ فَجَعَلَ يُدْخِلُ يَدَيْهِ فِي الْمَاءِ فَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ وَيَقُولُ: (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ لِلْمَوْتِ سَكَرَاتٍ) ثُمَّ نَصَبَ يَدَهُ فَجَعَلَ يَقُولُ (فِي الرَّفِيقِ الْأَعْلَى) حتى قبض ومالت يده صلوات الله وسلامه عليه. 2- تبليغه صلوات الله وسلامه رسالة الله، وختم النبوات به، وبيان فضله - صلى الله عليه وسلم - وبعض معجزاته: أ-عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم - لجميع الأمم : -قال تعالى في ذكر عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم - إِلَى أَهْلِ الشَّرَائِعِ مِنْ قَبْلِهِ: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم} (4) .   (1) الحاقنة ما سفل من الذقن والذاقنة ما علا منه. أو الحاقنة نقرة الترقوة، هما حاقنتان، وقيل ما دون الترقوة من الصدر، وقيل هي تحت السرة. وقال ثابت: الذاقنة طرف الحلقوم. والحاصل أن ما بين الحاقنة والذاقنة هو ما بين السحر - الصدر - والنحر، والمراد أنه مات ورأسه بين حنكها وصدرها - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنها. وهذا لا يغاير حديثها أن رأسه كان على فخذها لأنه محمول على أنها رفعته من فخذها إلى صدرها. انظر الفتح ج7ص746. (2) " " " " " " " " ". (3) إناء صغير من جلد يشرب فيه الماء، والجمع ركاء. النهاية (2/261) . (4) المائدة: 15، 16. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 -وقال تعالى فِي عُمُومِ رِسَالَتِهِ إِلَى الْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ وَالْجِنِّ وَالْإِنْسِ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (1) . وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - أنه قال: (والذي نفسي بِيَدِهِ، لَا يَسْمَعُ بِي أَحَدٌ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ يَهُودِيٌّ وَلَا نَصْرَانِيٌّ ثُمَّ يَمُوتُ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَّا كَانَ مِنْ أصحاب النار) . وفي حديث الخصائص - وهو في الصحيحين -: (وَكَانَ النَّبِيُّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً وَبُعِثْتُ إلى الناس عامة) . -وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَوْ كَانَ مُوسَى حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا تباعي) (2) . وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَوْ كَانَ موسى حياً واتبعتموه وتركتموني لضللتم) (3) . وَأَخْبَرَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ عِيسَى يَنْزِلُ حَكَمًا بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - (4) ، يقيم كتاب اللَّهِ وَسُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَا نَاسِخَ وَلَا مُغَيِّرَ لِشَرِيعَتِهِ، وَلَا يَسَعُ أَحَدًا الْخُرُوجَ عَنْهَا ولله الحمد والمنة. ب-تبليغه - صلى الله عليه وسلم - الرسالة وما يتضمنه ذلك من مسائل : في هذا البحث مسائل عظيمة الخطر جليلة جليلة القدر: الأولى: أنه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُبَلِّغٌ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، لَمْ يَقُلْ شَيْئًا مِنْ رَأْيِهِ فيما يتعلق   (1) سبأ: 28، وقوله تعالى: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} [الأنبياء: 107] . (2) قال الألباني حفظه الله: فيه مجالد بن سعيد، وفيه ضعف. ولكن الحديث حسن عندي لأنه له طرقاً كثيرة عند اللالكائي والهروي وغيرهما. انظر مشكاة المصابيح بتحقيق الألباني ج1 ص63، 68 رقم 177، 194. والفتح الرباني (1/175، 176) . (3) حسن. المصدر السابق. (4) وفي ذلك عدة أحاديث رواها مسلم في الإيمان، باب نزول عيسى ابن مريم حاكماً بِشَرِيعَةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وانظر شرح النووي ج2 ص189-194. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 بِالتَّبْلِيغِ، بَلْ لَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا بَلَاغُ الرِّسَالَةِ مِنَ اللَّهِ إِلَى النَّاسِ، وَتِلَاوَةُ آيَاتِهِ عَلَى النَّاسِ، وَتَعْلِيمُهُمُ الْحِكْمَةَ وَالتِّبْيَانَ، وَذَلِكَ مَعْنَى كَوْنِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَسُولَ اللَّهِ، فَأَمْرُهُ ونهيه - صلى الله عليه وسلم -، تبليغ لأمره ونهيه عز وجل، وإخباره وقصصه تبليغ لما قصه الله وأخبره به، ولذا كانت طَاعَتُهُ طَاعَةً لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَمَعْصِيَتُهُ مَعْصِيَةً لله عز وجل، وتكذيباً لإخباره الله عز وجل أنه رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وتعالى: {إن عليك إلا البلاغ} (1) . وروى أحمد عَنْ أَبِي أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - يَقُولُ: (لَيَدْخُلَّنَ الْجَنَّةَ بِشَفَاعَةِ رَجُلٍ لَيْسَ بِنَبِيٍّ مثل الحييين - أَوْ مِثْلُ أَحَدِ الْحَيَّيْنِ - رَبِيعَةَ وَمُضَرَ) فَقَالَ رجل: يا رسول الله وما ربيعة من مضر؟ قَالَ: (إِنَّمَا أَقُولُ مَا أُقَوَّل) (2) . وَلَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ الله عنهما قال: كُنْتُ أَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ أَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُرِيدُ حِفْظَهُ، فَنَهَتْنِي قُرَيْشٌ فَقَالُوا: إِنَّكَ تَكْتُبُ كُلَّ شَيْءٍ تَسْمَعُهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَكَلَّمُ فِي الْغَضَبِ وَالرِّضَا، فَأَمْسَكْتُ عَنِ الْكِتَابِ حَتَّى ذَكَرْتُ ذَلِكَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: (اكْتُبْ فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ما خرج مني إلا الحق) (3) . الثَّانِيَةُ: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلَّغَ جَمِيعَ مَا أُرْسِلَ بِهِ لَمْ يَكْتُمْ مِنْهُ حرفاً واحداً. قال تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بلغت رسالته والله يعصمك من الناس} (4) . وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي جُحَيْفَةَ وَهْبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ السِّوَائِيِّ قَالَ: قُلْتُ لِعَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ مِنَ الْوَحْيِ مِمَّا لَيْسَ   (1) الشورى: 48. (2) صحيح. صحيح الجامع الصغير 5239. (3) صحيح. صحيح الجامع الصغير 1207. (4) المائدة: 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 فِي الْقُرْآنِ؟ فَقَالَ: لَا، وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، إِلَّا فَهْمًا يُعْطِيهِ اللَّهُ رَجُلًا فِي الْقُرْآنِ، وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ. قُلْتُ: وَمَا فِي هَذِهِ الصَّحِيفَةِ؟ قَالَ: (الْعَقْلُ وَفِكَاكُ الأسير وأنْ لا يقتل مسلم بكافر) . وَلِابْنِ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ هَارُونَ بْنِ عَنْتَرَةَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ ابْنِ عَبَّاسٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنَّ أُنَاسًا يَأْتُونَ فَيُخْبِرُونَا أَنَّ عِنْدَكُمْ شَيْئًا لَمْ يُبْدِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلنَّاسِ , فَقَالَ ابن عباس رضي الله عنهما: (أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} (1) ، وَاللَّهِ مَا وَرَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سَوْدَاءَ فِي بَيْضَاءَ) . وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ. وتقدم قول عائشة رضي الله عنها (2) : ومن حدثك أنه كتم فقد كذب - ثم قرأت: {أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ ربك} (3) الآية -. الثَّالِثَةُ: أَنَّ هَذَا الَّذِي بَلَّغَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى هُوَ جَمِيعُ دِينِ الْإِسْلَامِ مُكْمَلاً مُحْكَمًا لَمْ يَبْقَ فِيهِ نَقْصٌ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ فَيَحْتَاجُ إِلَى تكميل، {ما فرطنا في الكتاب من شيء} (4) فَكَمَا أَنَّ الْإِمَامَ الْمُبِينَ قَدْ أَحْصَى كُلَّ مَا هُوَ كَائِنٌ، كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، فَكَذَلِكَ هَذَا الْقُرْآنُ وافٍ شافٍ كافٍ مُحِيطٌ بِجَمِيعِ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَفُرُوعِهَا وَأَقْوَالِهَا وَأَعْمَالِهَا وَسِرِّهَا وَعَلَانِيَتِهَا، فَمَنْ لَمْ يَكْفِهِ فَلَا كُفِي، ومن لم يشفه فلا شفي {أو لم يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} (5) ، وَكَمَا وَفَّى بِتَقْرِيرِ الدِّينِ وَتَكْمِيلِهِ وَشَرْحِهِ وَتَفْصِيلِهِ كذلك هو وافٍ بالذبِّ عنه   (1) المائدة: 67. (2) انظر ص: 350. (3) المائدة: 67. (4) الأنعام: 38. (5) العنكبوت: 51. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 وبرد كل شهبة تَرِدُ عَلَيْهِ، وَبِقَمْعِ كُلِّ مُلْحِدٍ وَمُعَانِدٍ وَمُشَاقٍّ وَمُحَادٍّ، وَبِدَمْغِ كُلِّ بَاطِلٍ وَإِزْهَاقِهِ {وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تفسيراً} (1) ، وكذلك السنة من جوامع كلمه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي اخْتَصَّهُ اللَّهُ بِهَا هِيَ رُوحُ الْمَعَانِي وَالْوَحْيُ الثَّانِي، وَالْحِكْمَةُ وَالْبَيَانُ وَتِبْيَانُ الْقُرْآنِ وَالنُّورُ وَالْبُرْهَانُ فَلَمْ يُتَوفَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى بَيَّنَ الشَّرِيعَةَ أكمل بيان: -اقْرَأْ عَلَى مَنِ ادَّعَى النُّبُوَّةَ {وَلَكِنْ رَسُولَ الله وخاتم النبيين} (2) . -وَعَلَى الدَّجَّالِ فَوَاتِحَ سُورَةِ الْكَهْفِ (3) . -وَعَلَى الْمُعَطِّلِ وَالْمُشَبِّهِ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (4) {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} (5) . وَعَلَى النَّافِي لِلْقَدَرِ (6) : {مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صراط مستقيم} (7) ، {إنا كل شيء خلقناه بقدر} (8) . -وَعَلَى الْجَبْرِيَّةِ (9) الْغُلَاةِ: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إلا وسعها} (10) ، {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حجة بعد الرسل} (11) ،   (1) الفرقان: 33. (2) الأحزاب: 40. (3) انظر ما سبق في أمارات الساعة ص: 208. (4) الشورى: 11. (5) طه: 110. (6) وهم القدرية، وقد سبق الحديث عنهم في الإيمان بالقدر. (7) الأنعام: 139. (8) القمر: 49. (9) وقد سبق الحديث عنهم في الإيمان بالقدر. (10) البقرة: 286. (11) النساء: 165. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 {قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أجمعين} (1) . -وَعَلَى نُفَاةِ الرُّؤْيَةِ: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى ربها ناظرة} (2) . -وَعَلَى الرَّافِضَةِ (3) {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ الله معنا} (4) . -وَعَلَى النَّاصِبَةِ (5) : {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عنه} (6) ، {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ البيت ويطهركم تطهيراً} (7) . -وَعَلَى الْفَرِيقَيْنِ (8) : {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا ... } (9) . -وَعَلَى كُلِّ ذِي بِدْعَةٍ مُطْلَقًا: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لكم دينكم} (10) .   (1) الأنعام: 149. (2) القيامة: 22، 23. (3) وهم الشيعة وسيأتي الكلام على أقسامهم، وسبب تسميتهم بذلك في الفصل القادم إن شاء الله وهم يبغضون أبا بكر وعمر رضي الله عنهما بغضاً شديداً، لذا أورد الشيخ رحمه الله هذه الآية. (4) التوبة: 100. (5) الناصبة أو النواصب: قوم يتدينون ببِغْضَة علي رضي الله عنه. انظر لسان العرب ص4437. (6) التوبة: 100. (7) الأحزاب: 33. (8) أي الذي يغالون في آل البيت والذين يبغضونهم وهما الفريقان السابقان: الرافضة، والناصبة. (9) الحشر: 10. (10) المائدة: 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 الرَّابِعَةُ: أَنَّ هَذَا الدِّينَ التَّامَّ الْمُكَمِّلَ الَّذِي بَلَّغَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى النَّاسِ كَافَّةً لَا يَقْبَلُ زِيَادَةً عَلَى مَا شُرِعَ فِيهِ مِنْ أَصُولِ الْمِلَّةِ وَفُرُوعِهَا وَلَا نَقْصًا مِنْهَا وَلَا تَغْيِيرًا وَلَا تَبْدِيلًا وَلَا يقبل من أحد دين سواه، ولا يقبل لأحد عبادة لم يتعبدها محمد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَصْحَابُهُ، وَلَا يُعْبَدُ اللَّهُ تَعَالَى إِلَّا بِمَا شَرَعَ وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ يَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ الْكَلَامُ عَلَيْهَا في الخاتمة. الْخَامِسَةُ: أَنَّ مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَاتَمُ الرُّسُلِ فَلَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، وَكِتَابُهُ خَاتَمُ الكتب: -قَالَ تَعَالَى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بكل شيء عليماً} (1) . -وروى البخاري عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لِي خَمْسَةُ أَسْمَاءٍ، أَنَا مُحَمَّدٌ، وَأَنَا أَحْمَدُ، وَأَنَا الْمَاحِي الَّذِي يمحو الله به الْكُفْرَ، وَأَنَا الْحَاشِرُ الَّذِي يُحْشُرُ النَّاسُ عَلَى قدمي، وأنا العاقب) رواه مُسْلِمٌ وَزَادَ: (وَأَنَا الْعَاقِبُ الَّذِي لَيْسَ بَعْدَهُ نَبِيٌّ) وَلَهُ عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يسمي لنا أَسْمَاءً فَقَالَ: (أَنَا مُحَمَّدٌ وَأَحْمَدُ وَالْمُقَفَّى (2) وَالْحَاشِرُ ونبي التوبة ونبي الرحمة) . -وروى البخاري رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - قَالَ: إِنْ مَثَلِي وَمَثَلُ الْأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ وَيَعْجَبُونَ لَهُ وَيَقُولُونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟) قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (فَأَنَا اللبنة وأنا خاتم النبيين) . ورواه مسلم من طرق.   (1) الأحزاب: 40. (2) المقُفِّي: هو المُوَلِّي الذاهب. وقد قَفَّى يقَفَّى فهو مُقَفِّ: يعني أنه آخرُ الأنبياء المتُّبع لهم، فإذا قَفَّى فلا نبي بعده - صلى الله عليه وسلم - النهاية 4/94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 -وروى مسلم عن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ: (أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَا نبي بعدي) ورواه البخاري بنحوه. -وللبخاري مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إِلَّا الْمُبَشِّرَاتُ) قَالُوا: وَمَا الْمُبَشِّرَاتُ؟ قَالَ: (الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ) . -وروى مُسْلِمٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قَالَ: (فُضِّلْتُ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ بِسِتٍّ: أُعْطِيْتُ جَوَامِعَ الْكَلِمِ، وَنُصِرْتُ بِالرُّعْبِ، وَأُحِلَتْ لِيَ الْغَنَائِمُ، وَجُعِلَتْ لِي الْأَرْضُ طَهُورًا وَمَسْجِدًا، وَأُرْسِلْتُ إِلَى الْخَلْقِ كافة، وختم بي النبيون) . جـ-صفة خاتم النبوة : -روى البخاري ومسلم عن السائب بْنِ يَزِيدَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: ذَهَبَتْ بِي خَالَتِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ ابْنَ أُخْتِي وَقِعٌ (1) . فَمَسْحَ رَأْسِي وَدَعَا لِي بِالْبَرَكَةِ، وَتَوَضَّأَ فَشَرِبْتُ مِنْ وُضُوئِهِ، ثُمَّ قُمْتُ خَلْفَ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمٍ بَيْنَ كَتِفَيْهِ مِثْلَ زِر الحَجَلَة (2) . -وَلِمُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: رَأَيْتُ خَاتَمًا فِي ظَهْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَأَنَّهُ بَيْضَةُ حَمَامٍ - وفي رواية: يشبه جسده.   (1) (وقع) أو (وجع) روايتان انظر الفتح (6/648) . (2) في مختصر الشمائل ص30؛ والحجلة طائر معروف، وزرها بيضها؟، وقال النووي رحمه الله: الحجلة بفتح الحاء والجيم هذا هو الصحيح المشهور والمراد بالحجلة واحدة الحجال وهي بيت كالقبة لها أزرار كبار وعرى، وهذا هو الصواب المشهور الذي قاله الجمهور، وقال بعضهم: المراد بالحجلة الطائر المعروف وزرها بيضتها، وأشار إليه الترمذي وأنكره عليه العلماء. صحيح مسلم بشرح النووي ج15 ص98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 -ولمسلم عن عاصم عن عبد الله بن سَرجِس قَالَ: رَأَيْتُ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَكَلْتُ مَعَهُ خُبْزًا وَلَحْمًا أَوْ قَالَ ثَرِيدًا. قَالَ: فَقُلْتُ لَهُ: أستَغْفَرَ لَكَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَكَ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} (1) . قَالَ: ثُمَّ دُرْتُ خَلْفَهُ فَنَظَرْتُ إِلَى خَاتَمِ النبوة بين كتفيه عند نَاغِضِ (2) كَتِفِهِ الْيُسْرَى جُمْعاً (3) عَلَيْهِ خِيلان (4) كَأَمْثَالِ الثآليل (5) . -وَرَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي رِمْثَةَ التَّيْمِيِّ أنه خرج مع أبيه حتى أَتَيَا رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فرأيا على كتفه مثل التفاحة، فقال أبوه: إني طيب، أَفَلَا أَطُبُّهَا لَكَ؟ قَالَ: (طَبِيبُهَا الَّذِي خَلَقَهَا) (6) . -وللإمام أحمد عن غياث البكري أنه سأل أبا سعيد الخدري رضي الله عنه عَنْ خَاتَمِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي كَانَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ فَقَالَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ: هَكَذَا لَحْمٌ نَاشِزٌ بَيْنَ كَتِفَيْهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - (7) .   (1) محمد - صلى الله عليه وسلم -: 19. (2) قال الجمهور: الناغض أعلى الكتف، وقيل هو العظم الرقيق الذي على طرفه، وقيل ما يظهر منه عند التحرك. صحيح مسلم بشرح النووي ج15 ص98. (3) معناه أنه كجمع الكف وهو صورته بعد أن تجمع الأصابع وتضمها. صحيح مسلم بشرح النووي ج15 ص98، 99. (4) جمع خال وهو نقطة تضرب إلى السواد تسمى شامة. مختصر الشمائل ص33. (5) جمع ثؤلول وهو خراج صغير كالحصمة يظهر على الجسد له نتوء واستدارة. [المصدر] السابق. (6) قال في الفتح الرباني في الشرح: الحديث صحيح، وروى من عدة طرق (22/13) ، وفي صحيح سنن الترمذي 2862 ج3 ص191 من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه (وإني أعرفه - صلى الله عليه وسلم - بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة) . (7) حسنه الألباني في مختصر الشمائل عَنْ أَبِي نَضْرَةَ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ الله عنه ص33. قال النووي: وجاء في صحيح اليخاري: كانت بضعة ناشزة - أي مرتفعة - على جسده. وقال أيضاً: قال القاضي: وهذه الروايات متقاربة متفقة على أنها شاخص في حسده قدر بيضة الحمامة وهو نحو بيضة الحجلة وأما رواية جمع الكف وناشز فظاهرها المخالفة فتؤول على وفق الروايات الكثيرة ويكون معناه على هيئة جمع الكف لكنه أصغر منه قدر البيضة الحمامة. صحيح مسلم بشرح النووي ج15 ص98، 99 وكذا يمكن أن يقال مثل ذلك في الرواية التي فيها (مثل التفاحة) والله أعلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 د-بعض معجزاته - صلى الله عليه وسلم - : أيد الله عز وجل رسوله - صلى الله عليه وسلم - بكثير من المعجزات الظاهرة والآيات الباهرة، فمن ذلك: 1- وهو أَعْظَمُهَا - هَذَا الْقُرْآنُ الَّذِي تَحَدَّى اللَّهُ بِهِ أَفْصَحَ الْأُمَمِ وَأَبْلَغَهَا وَأَقْدَرَهَا عَلَى الْمَنْطِقِ وَأَكْثَرَهَا فِيهِ اتِّسَاعًا وَأَطْوَلَهَا فِيهِ بَاعًا وَأَكْمَلَهَا عَلَى أَضْرُبِهِ وَأَنْوَاعِهِ اطِّلَاعًا، مَعَ عِظَمِ مُحَادَّتِهِمْ لَهُ وَمُشَاقَّتِهِمْ فِيهِ وَشَدَّةِ حِرْصِهِمْ عَلَى رَدِّهِ، وَهُوَ ينادي عليهم بأبلغ عبارة وأوجزها: {أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بحديث مثله إن كانوا صادقين} (1) ، {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مثله مفتريات} (2) ، {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ* فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} (3) ، ثُمَّ نَادَى عَلَيْهِمْ بِالْعَجْزِ عَنْ ذَلِكَ كُلِّهِ فَلَا يَقْدِرُ أَحَدٌ مِنْهُمْ عَلَى شَيْءٍ مِنْهُ لَا مُجْتَمِعِينَ وَلَا مُتَفَرِّقِينَ، لَا فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَلَا فِي أَزْمَانٍ، فَقَالَ تَعَالَى: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كان بعضهم لبعض ظهيراً} (4)   (1) الطور: 33، 34. (2) هود: 14. (3) البقرة: 23، 24. (4) الإسراء: 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 وذلك مِنَ الْآيَاتِ، وَلِهَذَا لِمَا أَرَادَ مُسَيْلِمَةُ الْكَذَّابُ معارضته مكابرة ومباهاته مَعَ عِلْمِهِ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ الْبَتَّةَ فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى كَلَامَهُ أَسْمَجَ مَا يُسْمَعُ وأركَّ مَا يُنْطَقُ بِهِ، وَصَارَ أُضْحُوكَةً لِلصِّبْيَانِ فِي كُلِّ زَمَانٍ ومكان. وَيُرْوَى أَنَّ أَصْحَابَ الْفَيْلَسُوفِ الْكِنْدِيِّ قَالُوا لَهُ: أَيُّهَا الْحَكِيمُ اعْمَلْ لَنَا مِثْلَ هَذَا الْقُرْآنِ فَقَالَ: نَعَمْ أَعْمَلُ مِثْلَ بَعْضِهِ، فَاحْتَجَبَ أَيَّامًا كَثِيرَةً ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَقْدِرُ وَلَا يَطِيقُ هَذَا أَحَدٌ، إِنِّي فَتَحْتُ الْمُصْحَفَ فَخَرَجَتْ سُورَةُ الْمَائِدَةِ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا هُوَ قَدْ نَطَقَ بِالْوَفَاءِ، وَنَهَى عَنِ النَّكْثِ، وَحَلَّلَ تَحْلِيلًا عَامًا، ثُمَّ اسْتَثْنَى بَعْدَ اسْتِثْنَاءٍ، ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ قُدْرَتِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي سَطْرَيْنِ (1) ، وَلَا يَقْدِرُ أحد أن يأتي بهذا. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ الْفَيْلَسُوفُ مِقْدَارُ فَهْمِهِ وَمَبْلَغُ عِلْمِهِ، وَإِلَّا فَبَلَاغُةُ الْقُرْآنَ فَوْقَ مَا يَصِفُ الواصفون. 2- انشقاق القمر كما في قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشق القمر} (2) الآيات، وكما في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه أن أهل مكة سألوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن يريهم آية فأراهم انشقاق القمر. 3- حَنِينُ الْجِذْعِ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كما في الصحيح عن جابر أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ أَوْ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا؟ قَالَ: إِنْ شِئْتُمْ، فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا كَانَ يوم الْجُمُعَةَ دُفِعَ إِلَى الْمِنْبَرِ فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصبي، ثم نزل   (1) يقصد قول الحق تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد [المائدة 1] . (2) القمر: 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَمَّهَا إِلَيْهِ تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ، قَالَ: (كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ عِنْدَهَا) وَفِي رِوَايَةٍ قَالَ: فَلَمَّا صُنِعَ لَهُ الْمِنْبَرُ وَكَانَ عَلَيْهِ فَسَمِعْنَا مِنْ ذَلِكَ الْجِذْعِ صَوْتًا كَصَوْتِ الْعِشَارِ (1) ، حَتَّى جَاءَ النَّبِيُّ - صَلَّى الله عليه وسلم - فوضع يده عليها فسكت. 4- ومن معجزاته - صلى الله عليه وسلم - نبع الماء من بين أصابعه الشريفة وتسبيح الطَّعَامِ وَتَكْثِيرُ الْقَلِيلِ بِإِذْنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ. وهذا كله ثابت في الصحيح. والمذكور هنا بعض معجزاته - صلى الله عليه وسلم - لا كلها (2) . هـ-حكم التفضيل بين الأنبياء: سبق في الحديث الصحيح تفضيله - صلى الله عليه وسلم - على الأنبياء ببعض الخصائص، كما سبق أيضاً من الأحاديث ما يبين فضله في الآخرة عليهم مثل كونه أول من تنشق الأرض عنه، وأنه أول شَافِعٍ وَأَوَّلَ مُشَفَّعٍ، وَأَوَّلَ مَنْ يَسْتَفْتِحُ بَابَ الْجَنَّةِ وَأَ وَّلَ مَنْ يَدْخُلُهَا مِنَ الْأُمَمِ أُمَّتُهُ وأنه أكثر الأنبياء تبعاً، وَلَهُ الْحَوْضُ الْمَوْرُودُ وَهُوَ الْكَوْثَرُ، وَهُوَ أَكْثَرُ الْأَنْبِيَاءِ وَارِدًا، وَلَهُ اللِّوَاءُ الْمَعْقُودُ وَهُوَ لِوَاءُ الْحَمْدِ تَحْتَهُ آدَمَ فَمَنْ دُونَهُ وَلَهُ الْمَقَامُ الْمَحْمُودُ الَّذِي يَغْبِطُهُ بِهِ الْأَوَّلُونَ وَالْآخِرُونَ، وَيَرْغَبُ إليه كل الخلائق، وهو وأمته أول من يجوز الصراط ومع هذا كله ومع ما سبق أيضاً من قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (أَنَا سَيِّدُ ولد آدم يوم القيامة ولا فخر) (3) إلاّ أنه قد ورد النهي عن التفضيل بين الأنبياء:   (1) العشار من الإبل التي قد أتى عليها عشرة أشهر. وقال ابن الأثير: قد اتسع في هذا حتى قيل لكل حامل عشراء وأكثر ما يطلق على الخيل والإبل. لسان العرب ص2954. (2) وأهل السنة والجماعة يؤمنون أيضاً بكرامات الأولياء وهي ما صح عن الثقات من الأمور الخارقة للعادة جرت لهم. انظر شرح الطحاوية ص558-563. (3) ومع ما عُلِم من قول الحق تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بعض} [البقرة: 253] . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 ففي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قَالَ: بَيْنَمَا يَهُودِيٌّ يَعْرِضُ سِلْعَتَهُ، أُعْطِيَ بِهَا شَيْئًا كَرِهَهُ، فَقَالَ: لَا وَالَّذِي اصْطَفَى مُوسَى عَلَى الْبَشَرِ، فَسَمِعَهُ رَجُلٌ مِنَ الْأَنْصَارِ فَقَامَ فلطم خده (1) وقال: تقول الذي اصطفى موسى على الشر وَالنَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ أَظْهُرِنَا؟ فَذَهَبَ الْيَهُودِيُّ إِلَيْهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: أَبَا الْقَاسِمِ إِنَّ لِي ذِمَّةً وَعَهْدًا فَمَا بَالُ فُلَانٍ لَطَمَ وَجْهِي؟ فَقَالَ: (لِمَ لَطَمْتَ وَجْهَهُ؟) فَذَكَرَهُ، فَغَضِبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - حتى رؤي فِي وَجْهِهِ ثُمَّ قَالَ: (لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَإِنَّهُ يُنْفَخُ فِي الصور فيصعق من في السموات وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِيهِ أُخْرَى فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ بعث فإذا بموسى آخِذٌ بِالْعَرْشِ فَلَا أَدْرِي أَحُوسِبَ بِصَعْقَتِهِ يَوْمَ الطُّورِ أَمْ بُعِثَ قَبْلِي؟ وَلَا أَقُولُ إِنَّ أَحَدًا أَفْضَلُ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى) . وَلَهُمَا عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يونس بن متّى) - وفي رواية لهما عن أبي هريرة: (لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ من يونس بن متّى) - وللجمع بين هذين الحديثين وما سبق من الأدلة التي تثبت التفضيل نذكر جواب النووي رحمه الله عن هذين الحديثين: -قال رحمه الله فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا تُفَضِّلُوا بَيْنَ أَنْبِيَاءِ اللَّهِ) جَوَابُهُ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - قاله قبل أن يعلم سيد ولد آدم، فلما علمه أَخْبَرَ بِهِ. وَالثَّانِي: قَالَهُ أَدَبًا وَتَوَاضُعًا. وَالثَّالِثُ: أَنَّ النَّهْيَ إِنَّمَا هُوَ عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إلى تنقيص المفضول.   (1) انظر (الفتح 6/519، 5/85) ، شرح النووي 15/129) وليس في شيء من أطراف الحديث (خده) وإنما اللفظ المذكور: (فلطم وجهه) وفي بعضها (فلطمه) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 وَالرَّابِعُ: إِنَّمَا نَهَى عَنْ تَفْضِيلٍ يُؤَدِّي إِلَى الْخُصُومَةِ وَالْفِتْنَةِ كَمَا هُوَ الْمَشْهُورُ فِي سَبَبِ الْحَدِيثِ. وَالْخَامِسُ: أَنَّ النَّهْيَ مُخْتَصٌّ بِالتَّفْضِيلِ فِي نَفْسِ النُّبُوَّةِ فَلَا تَفَاضُلَ فِيهَا وَإِنَّمَا التَّفَاضُلُ بالخصائص وفضائل أخرى. وروى ابْنُ كَثِيرٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَجْهًا: أَنَّ التَّفْضِيلَ لَيْسَ إِلَيْكُمْ وَإِنَّمَا هُوَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَيْكُمُ الِانْقِيَادُ لَهُ وَالتَّسْلِيمُ وَالْإِيمَانُ به. والوجه الْأَوَّلُ مِنْ كَلَامِ النَّوَوِيِّ ضَعِيفٌ، وَالثَّانِي وَالْخَامِسُ فيهما نظر، والرابع قريب. ويقوى الْوَجْهُ الثَّالِثُ مَعَ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ كَثِيرٍ، فَلَيْسَ التَّفْضِيلُ بِالرَّأْيِ وَمُجَرَّدُ الْعَصَبِيَّةِ، وَلَا بِمَا يَلْزَمُ مِنْهُ تَنَقُّصُ الْمَفْضُولِ وَالْحَطُّ مِنْ قَدْرِهِ، كُلُّ هَذَا وَمَا فِي مَعْنَاهُ مُحَرَّمٌ قَطْعًا مَنْهِيٌ عَنْهُ شَرْعًا، وَهُوَ الَّذِي غَضِبَ مِنْهُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولو لَمْ يَقْصِدْهُ ذَلِكَ الْأَنْصَارِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَغَضَبُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنَهِيُهُ عَنْ ذَلِكَ تَعْلِيمٌ عَامٌّ لِلْأُمَّةِ وَزَجْرٌ بَلِيغٌ لِجَمِيعِهِمْ كَيْلَا يَقَعَ ذَلِكَ أَوْ يَصْدُرُ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَيَهْلَكُ. وَأَمَّا التَّفْضِيلُ بِمَا أَكْرَمَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَفَعَ بِهِ دَرَجَتَهُ وَنَوَّهَ فِي الْوَحْيِ بِشَرَفِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا شَهِدَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. -وقال النووي رحمه الله تعالى في الحديث الثاني فِيمَا قَالَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي شأن يونس عليه السلام أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ هَذَا زَاجِرًا عَنْ أَنْ يَتَخَيَّلَ أَحَدٌ مِنَ الْجَاهِلِينَ شيئاً من ط مرتبة يونس عليه السلام مِنْ أَجْلِ مَا فِي الْقُرْآنِ مَنْ قِصَّتِهِ (1) ،   (1) قال تعالى: {وذا النون إذ ذهب مغاضباً فظن أن لن نقدر عليه} [الأنبياء: 87] ،؟ وذلك لما تضجر عليه السلام من عدم إيمان قومه. وقوله تعالى: {فظن أن لن نقدر عليه} أي: نضيق عليه كقوله تعالى: {ومن قُدر عليه رزقه} -أي: ضيق - {فلينفق مما آتاه الله} [الطلاق: 7] والله تعالى أعلم. وانظر تفسير ابن كثير ج3 ص192 ط/دار التراث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 قال العلماء: وما جرى ليونس عليه السلام لَمْ يُحِطَّهُ مِنْ دَرَجَةِ النُّبُوَّةِ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ، وَخُصِّصَ يُونُسُ بِالذِّكْرِ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ ذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ بِمَا ذُكِرَ. وَأَمَّا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ: إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى) فَالضَّمِيرُ قِيلَ يَعُودُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقِيلَ يَعُودُ إِلَى الْقَائِلِ. أَيْ لَا يَقُولُ ذَلِكَ بَعْضُ الْجَاهِلِينَ مِنْ الْمُجْتَهِدِينَ فِي عِبَادَةٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْفَضَائِلِ فَإِنَّهُ لَوْ بَلَغَ مِنَ الْفَضَائِلِ مَا بَلَغَ لَمْ يَبْلُغْ دَرَجَةَ النُّبُوَّةِ. وَيُؤَيِّدُ هَذَا التَّأْوِيلَ الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ أَنَا خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ مَتَّى) وَاللَّهُ أَعْلَمُ. *** وفيما يلي الأبيات المتعلقة بما سبق : نَبِيُّنَا مُحَمَّدٌ مِنْ هَاشِمٍ ... إِلَى الذَّبِيحِ دُونَ شَكٍّ يَنْتَمِي أَرْسَلَهُ اللَّهُ إِلَيْنَا مُرْشِدَا ... وَرَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ وَهُدَى مَوْلِدُهُ بِمَكَّةَ الْمُطَهَّرَهْ ... هِجْرَتُهُ لِطَيْبَةَ (1) الْمُنَوَّرَهْ بَعْدَ أَرْبَعِينَ بَدَأَ الْوَحْيُ بِهِ ... ثُمَّ دَعَا إِلَى سَبِيلِ رَبِّهِ عَشْرَ سِنِينَ أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا ... رَبًّا تَعَالَى شَأْنُهُ وَوَحِّدُوا وَكَانَ قَبْلَ ذَاكَ فِي غَارِ حِرَا ... يَخْلُو بِذِكْرِ رَبِّهِ عَنِ الْوَرَى وَبَعْدَ خَمْسِينَ مِنَ الْأَعْوَامِ ... مَضَتْ لِعُمْرِ سَيِّدِ الْأَنَامِ أَسْرَى بِهِ اللَّهُ إِلَيْهِ فِي الظُّلَمْ ... وَفَرَضَ الْخَمْسَ عَلَيْهِ وَحَتَمْ وَبَعْدَ أَعْوَامٍ ثَلَاثَةٍ مَضَتْ ... مِنْ بَعْدِ مِعْرَاجِ النَّبِيِّ وَانْقَضَتْ أُوذِنَ بِالْهِجْرَةِ نَحْوَ يَثْرِبَا ... مَعَ كُلِّ مُسْلِمٍ لَهُ قَدْ صَحِبَا وَبَعْدَهَا كُلِّفَ بِالْقِتَالِ ... لِشِيعَةِ الْكُفْرَانِ وَالضَّلَالِ   = (فلينفق مما آتاه الله) [الطلاق: 17] والله تعالى أعلم. وانظر تفسير ابن كثير ج 3 ص 192 ط/دار التراث. الضبط من لسان العرب. ص: 2734. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 حَتَّى أَتَوْا لِلدِّينِ مُنْقَادِينَا ... وَدَخَلُوا فِي السِّلْمِ مُذْعِنِينَا وَبَعْدَ أَنْ قَدْ بَلَّغَ الرِّسَالَهْ ... وَاسْتَنْقَذَ الْخَلْقَ مِنَ الْجَهَالَهْ وَأَكْمَلَ اللَّهُ بِهِ الْإِسْلَامَا ... وَقَامَ دِينُ الْحَقِّ وَاسْتَقَامَا قَبَضَهُ اللَّهُ الْعَلِيُّ الْأَعْلَى ... سُبْحَانَهُ إِلَى الرَّفِيقِ الْأَعْلَى نَشْهَدُ بِالْحَقِّ بِلَا ارْتِيَابِ ... بِأَنَّهُ الْمُرْسَلُ بِالْكِتَابِ وَأَنَّهُ بَلَّغَ مَا قَدْ أُرْسِلَا ... بِهِ وَكُلُّ مَا إِلَيْهِ أُنْزِلَا وَكُلُّ مَنْ مِنْ بَعْدِهِ قَدِ ادَّعَى ... نُبُوَّةً فَكَاذِبٌ فِيمَا ادَّعَى فَهْوَ خِتَامُ الرُّسْلِ بِاتِّفَاقِ ... وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ • أسئلة : 1- ما هو القدر المتفق عليه في نسبه - صلى الله عليه وسلم -، وماذا تعرف من صفاته الخِلْقية؟ 2- تتبع ما بديء به الرسول - صلى الله عليه وسلم - إلى أن أتاه الوحي. 3- اذكر ملخصًا لحادثة الإسراء والمعراج. وما هو القول الراجح في كون الإسراء بالروح والجسد يقظة لا منامًا أو لا، وفي رؤيته - صلى الله عليه وسلم - لربه في المعراج؟ 4- ما هو التاريخ الراجح للإسراء والمعراج؟ ومتى كانت هِجْرَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْمَدِينَةِ؟ 5- يين ما هي المراحل التي مر بها الجهاد، وما مكانته في الإسلام؟ 6- فرضت بالمدينة بعد هجرته - صلى الله عليه وسلم - بعض الفرائض. اذكر تاريخ فرض كل منها. 7- متى كانت وفاته - صلى الله عليه وسلم -؟ وماذا تعرف من وصاياه - صلى الله عليه وسلم - عند موته؟ 8- اذكر دليلًا من الكتاب وآخر من السنة على عموم رسالته - صلى الله عليه وسلم - للأمم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 9- اذكر المسائل التي يتضمنها الإيمان بتبليغه - صلى الله عليه وسلم - الرسالة. 10- بين صفة خاتم النبوة وموضعه من جسده - صلى الله عليه وسلم -. 11- اذكر بعض معجزاته - صلى الله عليه وسلم - والأمور أو الخصائص التي فضل بها على غيره من الأنبياء في الدنيا. والآخرة. 12- تحدث عن حكم التفضيل بين الأنبياء مبينًا وجه الجمع بين قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض) وإخباره - صلى الله عليه وسلم - أنه سيد ولد آدم ويين نهيه - صلى الله عليه وسلم - عن التفضيل بين الأنبياء وقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: "لَا يَنْبَغِي لِعَبْدٍ أَنْ يَقُولَ إِنِّي خَيْرٌ مِنْ يُونُسَ بْنِ متى". *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 الفصل الثالث فِي مَنْ هُوَ أَفْضَلُ الْأُمَّةِ بَعْدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَذَكَرَ الصَّحَابَةِ بِمَحَاسِنِهِمْ وَالْكَفِّ عَنْ مَسَاوِئِهِمْ وَمَا شَجَرَ بينهم رضي الله عنهم وأهم مَا فِي هَذَا الْفَصْلِ خَمْسُ مَسَائِلَ: الْأُولَى: مسألة الخلافة. الثانية: فضل الصحابة وتفاضل ما بينهم. الثالثة: تَوَلِّي أَصْحَابِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأهل بيته سلام الله ورحمته وبركاته عَلَيْهِمْ وَمَحَبَّةُ الْجَمِيعِ وَالذَّبُّ عَنْهُمْ. الرَّابِعَةُ: ذِكْرِهِمْ بمحاسنهم والكف عن مساوئهم. الخامسة: السُّكُوتِ عَمَّا شَجَرَ بَيْنَهُمْ وَأَنَّ الْجَمِيعَ مُجْتَهِدٌ، فَمُصِيبُهُمْ لَهُ أَجْرَانِ: أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَأَجْرٌ عَلَى إِصَابَتِهِ، وَمُخْطِؤُهُمْ لَهُ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَخَطَؤُهُ مغفور. وهذه المسائل سيتم بيانها إن شاء الله تعالى من خلال الحديث عن النقاط التالية: 1 - فضل الخلفاء الراشدين الأربعة (1) واستحقاق الخلافة وترتيبهم في ذلك: * الخليفة الأول: أبوبكر الصديق رضي الله عنه : هو أَبُو بَكْرٍ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ كَعْبِ بْنِ سَعْدِ بن مرة التيمي.   (1) وكلهم من العشرة المبشرين بالجنة كما سيأتي في الحديث إن شاء الله تعالى ص393 وقد حاولت في هذا المختصر التركيز في الكلام عنهم رضي الله عنهم بصورة رئيسة على ما له تعلق بالعقيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 أ-خلافته : -أما خلافته فيدل عليها: 1- حديث تَقْدِيمِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِيَّاهُ إِمَامًا فِي الصَّلَاةِ مَقَامَهُ أَيَّامَ مَرَضِهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -. والحديث في الصحيحين. 2- وفيهما أيضاً عَنْ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (أَتَتِ امْرَأَةٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَأَمَرَهَا أَنْ تَرْجِعَ إِلَيْهِ، قَالَتْ: أَرَأَيْتَ إِنْ جِئْتُ وَلَمْ أَجِدْكَ؟ كَأَنَّهَا تَقُولُ الْمَوْتَ، قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -: (إن لم تجديني فأتِ أَبَا بَكْرٍ) . 3- وَفِيهِمَا عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (بَيْنَمَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي عَلَى قَلِيبٍ عَلَيْهَا دَلْوٌ فَنَزَعْتُ مِنْهَا مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ أَخَذَهَا ابْنُ أَبِي قُحَافَةَ فَنَزَعَ مِنْهَا ذَنُوبًا (1) أَوْ ذَنُوبَيْنِ وَفِي نَزْعِهِ ضَعْفٌ وَاللَّهُ يَغْفِرُ لَهُ ضَعْفَهُ ثُمَّ اسْتَحَالَتْ غَرْباً (2) ، فَأَخَذَهَا ابْنُ الْخَطَّابِ فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا (3) مِنَ النَّاسِ يَنْزِعُ نَزْعَ عُمَرَ حَتَّى ضرب الناس بعطن (4) .   (1) الدلو الكبيرة إذا كان فيها ماء، والمراد بذكر الذنوب الإشارة إلى ما فتح في زمانه من الفتوح الكبار لا مدة خلافته انظر فتح الباري ج7 ص47، 48. (2) أي دلواً عظيمة. المصدر السابق. (3) المراد به كل شيء بلغ النهاية، وأصله أرض يسكنها الجن ضرب بها العرب المثل في كل شيء عظيم، وقيل قرية يعمل فيها الثياب البالغة في الحسن. وقال ابن الأثير: قرية تسكنها الجن فيما يزعمون فكلما رأوا شيئاً فائقاً غريباً مما يصعب عمله ويدق، وشيئاً عظيماً في نفسه نسبوه إليها فقالوا: عبقري، ثم اتسع فيه حتى سمي به السيد الكبير. انظر الفتح ج7 ص48، 57، لسان العرب ص: 2787. (4) هو مناخ الإبل إذا شربت ثم صدرت. الفتح ج7 ص48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 4- ولمسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا وَسُئِلَتْ: مَنْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُسْتَخْلِفًا لَوِ اسْتَخْلَفَهُ؟ قَالَتْ: أَبُو بَكْرٍ. فَقِيلَ لها ثم من؟ قَالَتْ: عُمَرُ، قِيلَ لَهَا: مِنْ بَعْدِ عُمَرَ؟ قالت: أبو عبيدة بن الجراح. -وأما صفة بيعته بخلافة النبوة فروى الْبُخَارِيُّ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَاتَ وَأَبُو بكر بالسُّنْح (1) ، فَقَامَ عُمَرُ يَقُولُ: وَاللَّهِ مَا مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَتْ: وَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا كَانَ يَقَعُ فِي نَفْسِي إِلَّا ذَاكَ - وَلَيَبْعَثَنَّهُ اللَّهُ فَلَيَقْطَعَنَّ أَيْدِيَ رِجَالٍ وَأَرْجُلَهُمْ، فَجَاءَ أَبُو بَكْرٍ فَكَشَفَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَبَّلَهُ فَقَالَ: بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، طِبْتَ حَيًّا وَمَيِّتًا. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُذِيقُكَ اللَّهُ الْمَوْتَتَيْنِ أَبَدًا. ثُمَّ خَرَجَ فَقَالَ: أَيُّهَا الْحَالِفُ عَلَى رِسْلِكَ. فَلَمَّا تَكَلَّمَ جَلَسَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَحَمِدَ اللَّهَ أَبُو بَكْرٍ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَقَالَ: ألا من كان يعبد محمداً فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - قَدْ مَاتَ وَمَنْ كَانَ يَعْبُدُ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ حَيٌّ لَا يَمُوتُ. وَقَالَ: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} (2) ، وَقَالَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي الله الشاكرين} (3) . قَالَ: فَنَشَجَ النَّاسُ يَبْكُونَ. قَالَ: وَاجْتَمَعَتِ الْأَنْصَارُ إِلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ فِي سَقِيفَةِ بَنِي ساعدة فقالوا: منا أميسر ومنكم أمير، قذهب إليهم أبو بكر الصديق وَعُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَأَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ , فَذَهَبَ عمر يتكلم فأسكنه   (1) منازل بين الحارث من الخزرج بالعالية، وبينه وبين المسجد النبوي ميل. وهو مسكن زوجة أبي بكر الصديق. انظر الفتح ج7 ص23، 36، 752 وفي شرح الطحاوية: السنح: العالية وهي حديقة بالمدينة المنورة معروفة بها. ص: 539. (2) الزمر: 30. (3) آل عمران: 144. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 أبو بكر ثم تكلم أبلغَ (1) النَّاسِ، فَقَالَ فِي كَلَامِهِ: نَحْنُ الْأُمَرَاءُ وأنتم الوزارء. فقال حباب بن المنذر: لَا وَاللَّهِ لَا نَفْعَلُ، مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ (2) ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: لَا وَلَكِنْ نَحْنُ الْأُمَرَاءُ وَأَنْتُمِ الْوُزَرَاءُ، إِنَّ قُرَيْشًا هُمْ أَوْسَطُ الْعَرَبِ دَارًا وَأَعْرَبُهُمْ أَحْسَابًا فَبَايِعُوا عُمَرَ بْنَ الْخَطَابِ أَوْ أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ. فَقَالَ عُمَرُ: بَلْ نُبَايِعُكَ أَنْتَ، فَأَنْتَ سَيِّدُنَا وَخَيْرُنَا وَأَحَبُّنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فأخذ عمر بيده وبايعه الناس. وفي رواية قالت: فَمَا كَانَتْ مِنْ خُطْبَتِهِمَا مِنْ خُطْبَةٍ إِلَّا نَفَعَ اللَّهُ بِهَا، لَقَدْ خَوَّفَ عُمَرُ النَّاسَ وَإِنَّ فِيهِمُ الْنِفَاقَ، فَرَدَّهُمُ اللَّهُ بِذَلِكَ، ثُمَّ بَصَّرَ أَبُو بَكْرٍ النَّاسَ الْهُدَى وَعَرَّفَهُمُ الْحَقَّ الَّذِي عَلَيْهِمْ وَخَرَجُوا بِهِ يَتْلُونَ: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ - إلى - الشاكرين} (3) . ب- فضله : قال تعالى: {ثاني اثنين إذ هما في الغار} (4) . ومما يدل على أنه رضي الله عنه أفضل الأمة بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - وأحب رجالها إليه الحديثان التاليان.   (1) بنصب أبلغ على الحال، ويجوز الرفع على الفاعلية أي تكلم رجل هذه صفته. وقال السهيلي: النصب أوجه ليكون تأكيداً لمدحه وصرف الوهم عن أن يكون أحد موصوفاً بذلك غيره. الفتح ج7 ص37.. (2) قال ابن التين: وإنما قالت الأنصار: 0منا أمير ومنكم أمير) على منا عرفوه من عادة العرب أنلا يتأمر على القبيلة إلا من يكون منها، فلما سمعوا حديث: (الأئمة من قريش) رجعوا عن ذلك وأذعنوا. انظر الفتح ج7 ص39، وحديث الأئمة من قريش - وهو في صحيح الجامع 2754 - أخرجه النسائي والطبراني وأبو يعلى والبخاري في التاريخ وأورد في الصحيح ما يؤدي معناه في الجملة في كتاب الأحكام، باب الأمراء من قريش كقوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبه الله في النار ما أقاموا الدين) وانظر الفتح ج13 ص122، 123. (3) آل عمران: 144. (4) التوبة: 40. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 -وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: (كُنَّا فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نَعْدِلُ بِأَبِي بَكْرٍ أَحَدًا ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ عُثْمَانَ، ثُمَّ نَتْرُكُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا نُفَاضِلُ بَيْنَهُمْ) (1) . ففي هذا الحديث الدليل على أنه رضي الله عنه أَفْضَلُ الْأُمَّةِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم -. -وفي صحيح البخاري عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعَثَهُ على جيش ذات السلاسل قال: فَأَتَيْتُهُ فَقُلْتُ: أَيُّ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيْكَ؟ قَالَ: (عَائِشَةُ) ، فَقُلْتُ: مَنِ الرِّجَالِ؟ فَقَالَ: (أَبُوهَا) . قُلْتُ: ثم من؟ قال: (عمر بن الخطاب) ، فعد رجالاً. فهذا صريح مرفوع. * الخليفة الثاني: عمر بن الخطاب رضي الله عنه : خلافته وفضله : هو ثَانِي أَبِي بَكْرٍ فِي الْفَضْلِ عَلَى النَّاسِ بَعْدَهُ فَلَا أَفْضَلَ مِنْهُ، وَكَذَا هُوَ ثَانِيهِ في الخلافة بإجماع. وكان صادعاً مجاهراً بالحق لا يخاف لومة لائم وَبِهِ سَمَّاهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فاروقاً. وهو أول من تسمى بأمير المؤمنين. وتقدمت إِشَارَاتُ النُّصُوصِ النَّبَوِيَّةِ إِلَى خِلَافَتِهِ قَرِيبًا مَعَ ذكر أبي بكر رضي الله عنه. وكذا كونه ثاني أبي بكر في الفضل كما تقدم. وكان أبو بر في مرضه قد عهد إليه بالأمر من بعه فأقر المسلمون بذلك وسمعوا له وأطاعوا. * الخليفة الثالث: عثمان بن عفان رضي الله عنه : ويدل على كونه ثالثهم في الخلافة والفضل حديث ابن عمر السابق في الصحيحين (2) .   (1) الحديث رواه البخاري في فضائل الصحابة باب مناقب عثمان بن عفان رضي الله عنه، ولم نجده في مسلم، وقال عمر بن محمود مخرج أحاديث المعارج (دار ابن القيم ط 1410هـ) : وقد وهم المصنف بعزوه لمسلم ولم أجده. أ. هـ (م) . (2) وقد سبقت الإشارة إلى أنه غير موجود في صحيح مسلم. (م) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 أ-توليه الخلافة والدليل على استحقاقه لها : -وفي صحيح البخاري أنه لما طعن عمر رضي الله عنه قال له المسلمون: أوصِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ. اسْتَخْلِفْ. قَالَ: مَا أَجِدُ أَحَقُّ بِهَذَا الْأَمْرِ مِنْ هَؤُلَاءِ النَّفَرِ - الرَّهْطِ - الَّذِينَ تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ عَنْهُمْ راضٍ، فَسَمَّى عَلِيًّا وَعُثْمَانَ وَالزُّبَيْرَ وَطَلْحَةَ وَسَعْدًا وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ وَقَالَ: ليشهدكم عبد الله بن عمر وليس مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ - كَهَيْئَةِ التَّعْزِيَةِ لَهُ - فَإِنْ أَصَابَتِ الْإِمْرَةُ سَعْدًا فَهُوَ ذَاكَ وَإِلَّا فَلْيَسْتَعِنْ بِهِ أَيُّكُمْ مَا أُمِّر، فَإِنِّي لَمْ أَعْزِلْهُ عن عجز ولا خيانة. فَلَمَّا فُرِغَ مِنْ دَفْنِهِ اجْتَمَعَ هَؤُلَاءِ الرَّهْطُ، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: اجْعَلُوا أَمْرَكُمْ إِلَى ثَلَاثَةٍ مِنْكُمْ، فَقَالَ الزُّبَيْرُ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى علي، فقال أبو طَلْحَةُ: قَدْ جَعَلَتْ أَمْرِي إِلَى عُثْمَانَ. وَقَالَ سَعْدٌ: قَدْ جَعَلْتُ أَمْرِي إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بن عوف. فقال عبد الرحمن: أيكم تَبَرَّأَ مِنْ هَذَا الْأَمْرِ فَلَنَجْعَلُهُ إِلَيْهِ، وَاللَّهُ عَلَيْهِ وَالْإِسْلَامُ لَيَنْظُرَنَّ أَفْضَلَهُمْ فِي نَفْسِهِ فأُسْكِت (1) الشَّيْخَانِ. فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: أَفَتَجْعَلُونَهُ إليَّ وَاللَّهُ عليَّ (2) أَنْ لَا آلُو عَنْ أَفْضَلِكُمْ؟ قَالَا: نَعَمْ. فَأَخَذَ بِيَدِ أَحَدِهِمَا فَقَالَ: لَكَ مِنْ قَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والقدم في الإسلام ما قد عملت، فَاللَّهُ عَلَيْكَ لَئِنْ أَمَّرْتُكَ لَتَعْدِلَنَّ وَلَئِنْ أَمَّرْتُ عُثْمَانَ لَتَسْمَعَنَّ وَلَتُطِيعَنَّ. ثُمَّ خَلَا بِالْآخَرِ فَقَالَ لَهُ مِثْلَ ذَلِكَ. فَلَمَّا أَخَذَ الْمِيثَاقَ قَالَ: ارفع يدك إلى عُثْمَانَ، فَبَايَعَهُ وَبَايَعَ لَهُ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وَوَلِجَ أَهْلُ الدَّارِ فَبَايَعُوهُ، رَضِيَ اللَّهُ عنهم أجمعين. -وروى الإمام أَحْمَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ الله قال لعثمان بن عفان رضي الله عنه: (يَا عُثْمَانُ، إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَسَى أَنْ يلبسك قميصاً،   (1) كأن مسكتاً أسكتهما، ويجوز فتح الهمزة والكاف، وهو بمعنى سكت، المراد بالشيخين عثمان وعلي رضي الله عنهما. انظر الفتح ج7 ص86. (2) أي عليّ رقيب أو نحو ذلك، فالخبر محذوف. انظر الفتح ج7 ص86. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 فإن أرادوك الْمُنَافِقُونَ عَلَى خَلْعِهِ فَلَا تَخْلَعْهُ حَتَّى تَلْقَانِي) (ثلاثاً) (1) . -وروى أحمد عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (إِنَّكُمْ تَلْقَوْنَ بَعْدِي فِتْنَةً وَاخْتِلَافًا - أَوْ قَالَ: اخْتِلَافًا وَفِتْنَةً -) فَقَالَ قَائِلٌ مِنَ النَّاسِ: فَمَنْ لَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (عَلَيْكُمْ بِالْأَمِينِ وَأَصْحَابِهِ) ، وَهُوَ يُشِيرُ إِلَى عُثْمَانَ بذلك (2) . -وروى أبو داود عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنه كان يحدث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (رأى اللَّيْلَةَ رَجُلٌ صَالِحٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ نِيطَ (3) بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَنِيطَ عُمَرُ بِأَبِي بَكْرٍ وَنِيطَ عُثْمَانُ بِعُمْرَ) قَالَ جَابِرٌ: فَلَمَّا قُمْنَا مِنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُلْنَا: أَمَّا الرَّجُلُ الصَّالِحُ فَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَأَمَّا تَنَوُّطُ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ فَهُمْ وُلَاةُ هَذَا الْأَمْرِ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ بِهِ نَبِيَّهُ - صَلَّى الله عليه وسلم - (4) .   (1) صحيح. صحيح الجامع الصغير 7824. وانظر المشكاة حديث 6068 ج3 ص1715. (2) قال ابن كثير: تفرد به أحمد وإسناده جيد حسن ولم يخرجوه - أي أصحاب الكتب الستة - من هذا الوجه. أ. هـ. ورواه الحاكم في المستدرك وصححه وأقره الذهبي. بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني (23/96) - وقال الشيخ أحمد شاكر رحمه الله: إسناده صحيح، حديث 8522 (مكتب) - وعن مرة بن كعب قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - وذكر الفتن فقربها، فمر رجل مقنع فِي ثَوْبٍ فَقَالَ: (هَذَا يَوْمَئِذٍ عَلَى الْهُدَى) فَقُمْتُ إِلَيْهِ فَإِذَا هُوَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ. قال: فَأَقْبَلْتُ عَلَيْهِ بِوَجْهِهِ فَقُلْتُ: هَذَا؟ قَالَ: (نَعَمْ9 رواه الترمذي وابن ماجه، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، قال الألباني: وهو كما قال وإسناده صحيح. المشكاة حديث 6067 ولذا كان عثمان يقول حين حاصره أهل الفتنة في داره: (أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد عهد إليّ عهداً وأنا صابر عليه) والحديث صحيح. انظر المشكاة 6070 وما قتله إلا ضلال مفتونون ومنهم ملبس عليهم حركهم ابن سبأ اليهودي بحجة أخذ الخلافة لعلي. انظر العواصم من القواصم لابن العربي. (3) أي: عُلِّق. لسان العرب ص4577. (4) صحيح. شرح الطحاوية بتحقيق الألباني ص535. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ب-كتابته المصاحف وجمعه الناس على مصحف واحد : لما خشي رضي الله عنه الاختلاف في القرآن والخصام فيه أثناء خلافته جمع النَّاسَ عَلَى قِرَاءَةٍ وَاحِدَةٍ وَكَتَبَ الْمُصْحَفَ عَلَى القراءة الأخيرة التي دارسها جبريل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر سني حياته - صلى الله عليه وسلم -. وَكَانَ سَبَبُ ذَلِكَ أَنَّ حُذَيْفَةَ بْنُ الْيَمَانِ رضي الله عنه كَانَ فِي بَعْضِ الْغَزَوَاتِ وَقَدِ اجْتَمَعَ فِيهَا خَلْقٌ مِنْ أَهْلِ الشَّامَ مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ الْمِقْدَادِ بْنِ الْأَسْوَدِ وَأَبِي الدَّرْدَاءِ، وَجَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِمَّنْ يَقْرَأُ عَلَى قِرَاءَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَأَبِي مُوسَى، وَجَعَلَ مَنْ لَا يَعْلَمُ بِجَوَازِ الْقِرَاءَةِ عَلَى سَبْعَةِ أَحْرُفٍ يُفَضِّلُ قِرَاءَتَهُ عَلَى قِرَاءَةِ غَيْرِهِ وَرُبَّمَا خَطَّأَهُ الْآخَرُ أَوْ كَفَّرَهُ، فَأَدَّى ذَلِكَ إِلَى خِلَافٍ شَدِيدٍ وَانْتِشَارِ الْكَلَامِ السَّيْءِ بَيْنَ النَّاسِ، فَرَكِبَ حُذَيْفَةُ إِلَى عُثْمَانَ فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَدْرِكْ هَذِهِ الْأُمَّةَ قَبْلَ أَنْ تَخْتَلِفَ فِي كِتَابِهَا كَاخْتِلَافِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي كُتُبِهِمْ، وَذَكَرَ لَهُ مَا شَاهَدَ مِنَ اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْقِرَاءَةِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ جَمَعَ الصَّحَابَةَ وَشَاوَرَهُمْ فِي ذَلِكَ، وَرَأَى أَنْ يَكْتُبَ الْمُصْحَفَ عَلَى حر وَاحِدٍ، وَأَنْ يَجْمَعَ النَّاسَ فِي سَائِرِ الْأَقَالِيمِ عَلَى الْقِرَاءَةِ بِهِ دُونَ مَا سِوَاهُ لِمَا رَأَى فِي ذَلِكَ مِنْ مَصْلَحَةِ كَفِّ الْمُنَازَعَةِ وَدَفْعِ الِاخْتِلَافِ، فَاسْتَدْعَى بِالصُّحُفِ الَّتِي كَانَ أَمَرَ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ بِجَمْعِهَا فَكَانَتْ عِنْدَ الصِّدِّيقِ أَيَّامَ حَيَاتِهِ، ثُمَّ كَانَتْ عِنْدَ عُمَرَ، فَلَمَّا تُوُفِّيَ صَارَتْ إِلَى حَفْصَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ. فَاسْتَدْعَى بها عثمان وأمر زيد ابن ثَابِتٍ الْأَنْصَارِيَّ أَنْ يَكْتُبَ وَأَنْ يُمْلِيَ عَلَيْهِ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ الْأُمَوِيُّ بِحَضْرَةِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ الْأَسَدِيِّ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ هِشَامٍ الْمَخْزُومِيِّ وَأَمَرَهُمْ إِذَا اخْتَلَفُوا فِي شَيْءٍ أَنْ يَكْتُبُوهُ بِلُغَةِ قُرَيْشٍ، فَكُتِبَ لِأَهْلِ الشام مصحفاً، ولأهل مصر آخر، وَإِلَى الْيَمَنِ مِثْلَهُ، وَأَقَرَّ بِالْمَدِينَةِ مُصْحَفًا، وَيُقَالُ لِهَذِهِ الْمَصَاحِفِ (الْأَئِمَّةُ) ، ثُمَّ عَمَدَ إِلَى بَقِيَّةِ الْمَصَاحِفِ الَّتِي بِأَيْدِي النَّاسِ مِمَّا يُخَالِفُ مَا كَتَبَهُ فَحَرَقَهُ لِئَلَّا يَقَعَ بِسَبَبِهِ اخْتِلَافٌ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَبُو بَكْرِ بْنِ أَبِي دَاوُدَ السِّجِسْتَانِيُّ عَنْ سُوَيْدِ بْنِ غَفْلَةٍ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ حَرَقَ عُثْمَانُ الْمَصَاحِفَ: لَوْ لَمْ يَصْنَعْهُ هُوَ لَصَنَعْتُهُ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ عَنْهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ عَليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيُّهَا النَّاسُ إِيَّاكُمْ وَالْغُلُوَّ فِي عُثْمَانَ: تَقُولُونَ حَرَقَ الْمَصَاحِفَ، وَاللَّهِ مَا حَرَقَهَا إِلَّا عَنْ مَلَأٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَلَوْ وَلِيتُ مِثْلَ مَا وَلِيَ لفعلت مثل الذي فعل. * الخليفة الرابع: علي بن أبي طالب رضي الله عنه : فهو رضي الله عنه الرابع في الفضل والخلافة بالإجماع. وفي حديث أحمد وأبي دَاوُدَ وَغَيْرُهُمَا عَنْ سَفِينَةَ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ سَنَةً، ثُمَّ تَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ مُلْكًا) (1) ؛ قَالَ سَفِينَةُ: فَخُذْ سَنَتَيْ أبي بكر وعشر عمر واثنتى عُثْمَانَ وَسِتَّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. أ-ذكر أول من آمن بالنبي - صلى الله عليه وسلم - : كان علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهو صغير في كفالة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فَلَمَّا بُعِثَ آمَنَ بِهِ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِ سِنِينَ وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مِنَ الصِّبْيَانِ، كما أن أبا بكر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ مِنَ الرِّجَالِ وَخَدِيجَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَوَّلُ مَنْ آمن به من النساء وورقة ب نوفل رضي لله عنه أول من آمن به مِنَ الشُّيُوخِ وَزَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْمَوَالِي، وَبِلَالَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَوَّلُ مَنْ آمَنَ بِهِ مِنَ الْأَرِقَّاءِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورضي عنهم أجمعين.   (1) صحيح. انظر صحيح الجامع الصغير 3336، 3252. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 ب-ظهور الخوارج وبيان فساد مذهبهم (1) : وعلي رضي الله عنه هو مبيد ومدمر كُلِّ خَارِجِيٍّ، نِسْبَةً إِلَى الْخُرُوجِ مِنَ الطَّاعَةِ وَلَكِنْ صَارَ هَذَا الِاسْمُ عَلَمًا عَلَى الحروريَّة (2) الذين كفّروا أهل القبلة بالمعاصي وَحَكَمُوا بِتَخْلِيدِهِمْ فِي النَّارِ بِذَلِكَ، وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، حَتَّى الصَّحَابَةَ مِنَ السَّابِقِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ أهل بد وَغَيْرِهِمْ، حَتَّى عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ (3) وَعَمَّارَ بْنَ يَاسِرٍ وَخَبَّابَ وَأَقْرَانَهُمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، ثم صار هذا الاسم عاماً   (1) قال ابن رجب رحمه الله: (وقد اختلف العلماء في حكمهم فمنهم من قال: هم كفار فيكون قتلهم لكفرهم. ومنهم من قال: إنما يقتلون لفسادهم في الأرض بسفك دماء المسلمين وتكفيرهم لهم) جامع العلوم والحكم ص: 120، 121، وقال ابن تيمية رحمه الله: (الخوارج كانوا من أظهر الناس بدعة وقتالاً للأمة وتكفيراً لها ولم يكن في الصحابة من يكفرهم لا علي بن أبي طالب ولا غيره، بل حكموا فيهم بحكمهم في المسلمين الظالمين المعتدين كما ذكرت الآثار عنهم بذلك في غير هذا الموضع) وقال أيضاً: (ومن قال إن الثنتين وسبعين فرقة كل واحد منهم يكفركفراً ينقل عن الملة فقد خالف الكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، بل وإجماع الأئمة الأربعة وغير الأربعة) مجموع الفتاوى (7/217، 218) . (2) نسبة إلىحَرُوراء، وهو المكان الذي نزلوا فيه وأبَوْا أن يساكنوا علياً رضي الله عنه بالكوفة. انظر البداية والنهاية ج7 ص289. والضبط من لسان العرب ص 1126، وقال النووي رحمه الله: الحرورية هم الخوارج سموا حرورية لأنهم نزلوا حَرُوراء وتعاقدوا عندها على قتال أهل العدل، وحَرُوراء بفتح الحاء وبالمد قرية بالعراق قريبة من الكوفة وسموا خوارج لخروجهم على الجماعة وقيل لخروجهم عن طريق الجماعة وقيل لقوله - صلى الله عليه وسلم -: (يخرج من ضئضيء هذا) . انظر صحيح مسلم بشرح النووي ج7 ص164. (3) زعموا أنه كفر يجعله الرجال حكاماً بينه وبين خصومه وإنما الحكم لله، وانظر الدروس المستفادة من مناقشة ابن عباس لهم في ذلك ورجوع كثير منهم بعدها في مجلة البيان، العدد (12) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 لِكُلِّ مَنِ اتَّبَعَ مَذْهَبَهُمُ الْفَاسِدَ وَسَلَكَ طَرِيقَتَهُمِ الخائبة، وكل ذنب يكفرون به المؤمنين تَكْفِيرٌ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ: -فَمِنْهَا أَنَّ تَكْفِيرَ الْمُؤْمِنِ إِنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ كَفَرَ فَاعِلُهُ كَمَا فِي الْحَدِيثِ: (أيما امريء قَالَ لِأَخِيهِ يَا كَافِرُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا إِنْ كَانَ كَمَا قَالَ، وَإِلَّا رَجَعَتْ عَلَيْهِ) (1) . -وَمِنْهَا أَنَّ مِنْ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ الَّتِي يُكَفِّرُونَ بِهَا الْمُؤْمِنِينَ قَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ، وَهُمْ أَسْرَعُ النَّاسِ فِي ذَلِكَ يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِيمَانِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ. -وَمِنْهَا أَنَّ الْمُؤْمِنَ وَإِنْ عَمِلَ الْمَعَاصِي فَهُوَ لَا يَسْتَحِلُّهَا وَإِنَّمَا يَقَعُ فِيهَا لِغَلَبَةِ نَفْسِهِ إِيَّاهُ وَتَسْوِيلِ شَيْطَانِهِ لَهُ وَهُوَ مُقِرٌّ بِتَحْرِيمِهَا وَبِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ فِيمَا ارْتَكَبَهُ، وَهُمْ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ قَتْلَهَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَيَأْخُذُونَ الْأَمْوَالَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أَخَذَهَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَيَفْعَلُونَ الْأَفَاعِيلَ الْقَبِيحَةَ مُسْتَحِلِّينَ لَهَا، وَالَّذِي يَعْمَلُ الْكَبِيرَةَ مُسْتَحِلًّا لَهَا أولى بالكفر ممن يعملها مقراً بتحريمها، إِذْ هُوَ تَكْذِيبٌ بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ رُسُلَهُ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَإِنَّمَا تَوَقَّفَ الصَّحَابَةُ عَنْ تَكْفِيرِ أَهْلِ النَّهْرَوَانِ (2) لِأَنَّهُمْ كَانُوا يتأولون فحكموا أنهم بغاة. وفي الصَّحِيحِ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: أَتَى رَجُلٌ رَسُولَ اللَّهِ -   (1) رواه مسلم في الإيمان، باب بيان حال إيمان من قال لأيه المسلم يا كافر. وهذا لفظه ورواه البخاري بنحوه في الأدب، باب من أكفر أخاه بغير تأويل فهو كما قال. وانظر شرح النووي ج2 ص49، الفتح ج10 ص531. (2) وهو الموضع الذي اجتمع فيه الخوارج ودارت فيه المعركة الفاصلة، وهُزِموا شر هزيمة. انظر البداية والنهاية (7/297-300) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالجعِرّانة (1) مُنْصَرَفَهُ مِنْ حُنَيْنٍ، وَفِي ثَوْبِ بِلَالٍ فِضَّةٌ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقْبِضُ مِنْهَا وَيُعْطِي النَّاسَ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ اعْدِلْ. قَالَ: (وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِذَا لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ؟ لَقَدْ خبت وخسرت إن إِنْ لَمْ أَكُنْ أَعْدِلُ) . فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: دَعْنِي يَا رَسُولَ اللَّهِ فَأَقْتُلُ هَذَا الْمُنَافِقَ، فَقَالَ: مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنِّي أَقْتُلُ أَصْحَابِي، إِنَّ هَذَا وَأَصْحَابَهُ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنْهُ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ) . وفيه عن أبي سعيد في قصة الذهبية (فَجَاءَ رَجُلٌ كَثُّ اللِّحْيَةِ مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ غَائِرُ العينين ناتيء الْجَبِينِ مَحْلُوقُ الرَّأْسِ فَقَالَ: اتَّقِ اللَّهَ يَا مُحَمَّدُ. قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -: (إن من ضئضيء (2) هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) وفي لفظ: (ثمود) . ج-الرافضة وأقسامهم (3) وموقفه رضي الله عنه منهم: وعلي رضي الله عنه هو كذلك مبيد كل رافضي فاسق.   (1) بكسر الجيم والعين وتشديد الراء، وقد تسكن العين (الجِعْرَانة) وهي بين الطائف ومكة. انظر الفتح ج7 ص643. (2) الضئضيء: الأصل. يقال ضئضيء صدق، وضؤضؤ صدق. وحكى بعضهم ضئضيء بوزن قنديل. يريد أنه يخرج من نسله وعقبه. ورواه بعضهم بالصاد المهملة وهو بمعناه. (النهاية) . (3) الشيعة لا يكفرون بإطلاق وإنما يكفر من أظهر منهم القول بأن في القرآن زيادة ونقصاناً، وسب جميع الصحابة أو معظمهم ونحو ذلك، أما العامة الذين لا يظهرون مثل هذه الأقوال فنكل أمرهم إلى الله وهم من أهل القبلة، وممن قال بكفر من سب جميع الصحابة أو معظمهم بالكفر أو الردة أو الفسق ابن تيمية - في الصارم المسلول - والهيثمي. ومن سب بعضهم سباً يطعن في دينهم كاتهامهم بالكفر أو الفسق ففي تكفيره خلاف، ويرى الهيثمي تكفير من كفّر أبا بكر ونظرائه ممن شهد لهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بالجنة - كما سيأتي في حديث العشرة المشهود لهم بالجنة ص 393. يراجع مقال شرح اعتقاد أهل السنة في الصحابة لمحمد بن عبد الله الوهيبي في مجلة البيان، العدد (25) . = =وانظر وجاء دور المجوس، الجزأ الأول (الأبعاد التاريخية والعقائدية والسياسية للثورة الإيرانية) ص152-153 ط الرابعة، والجزء الثاني (أمل والمخيمات الفلسطينية) ص10-11 ط الأولى، للدكتور عبد الله محمد الغريب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 -وَالرَّافِضِيُّ نِسْبَةٌ إِلَى الرَّفْضِ وَهُوَ التَّرْكُ بِازْدِرَاءٍ واستهانة، سموا بذلك لرفضهم الشيخين أبا بَكْرٍ وَعُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا (1) ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمَا ظلما علياً واغتصباه الخلافة ومنعا فاطمة رضي الله عنها فَدَك (2) .   (1) وفي منهاج السنة أنهم كانوا يعرفون بالشيعة قبل أن يعرفوا بالرافضة وإنما ظهر لفظ الرافضة في زمن زيد بن علي بن الحسين فإنه لما سئل عن أبي بكر وعمر فترم عليهما رفضه قوم فقال لهم رفضتموني، فسموا رافضة لرفضهم إياه، وسمي من لم يرفضه من الشيعة زيدياً لانتسابهم إليه. ومن حينئذ افترقت الشيعة إلى رافضة وزيدية. وقبل تسميتهم بالرافضة كانوا يسمون أيضاً بالخشبية لقولهم إنا لا نقاتل بالسيف إلا مع إمام معصوم فقاتلوا بالخشب. وبهذا يعرف كذب لفظ الأحاديث المرفوعة التي فيها لفظ الرافضة. انظر منهاج السنة لابن تيمية (1/8) وقال الشيخ عبد العزيز القاري حفظه الله: (أول من أطلق هذا الاسم عليهم زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، لما غدروا به وسلموا لأعدائه فقتلوه وصلبوه، وقال لهم: رفضتموني، وذلك لأنهم أرادوه على أن يتبرأ من الخليفتين الصديق والفاروق فأبى وقال: كيف أتبرأ من وزيري جدي - صلى الله عليه وسلم -. فوصف الروافض يضم فيما يضمه الاثنا عشرية لرفضهم إمامة الشيخين وتبرءهم منهما، بل لرفضهم الصحابة جميعاً إلا أربعة نفر) انظر برنامج عملي للمتفقهين ص: 26. (2) قرية بخيبر. لسان العرب ص3365 وانظر الرد على أولئك الضالين في ذلك في العواصم من القواصم لابن العربي بتعليق محب الدين الخطيب ص48-50 والكتاب كله مفيد في تحقيق مواقف الصحابة بعد وفاته - صلى الله عليه وسلم -. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 -وَهُمْ أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ لَا كَثَّرَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى: 1- السبئية، أَتْبَاعُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَبَأٍ الْيَهُودِيِّ قَبَّحَهُ الله، وهم أَعْظَمَهُمْ غُلُوًّا وَأَسْوَأَهُمْ قَوْلًا وَأَخْبَثَهُمُ اعْتِقَادًا بَلْ وأخبث من اليهود والنصارى، فقد كَانُوا يَعْتَقِدُونَ فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْإِلَهِيَّةَ كَمَا يَعْتَقِدُ النَّصَارَى فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَهُمُ الَّذِينَ أَحْرَقَهُمْ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنَّارِ، وَأَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما كما في صحيح البخاري والسند وَأَبِي دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنْ عِكْرِمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أُتِيَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِزَنَادِقَةٍ فَأَحْرَقَهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ ابْنُ عَبَّاسٍ فَقَالَ: لَوْ كُنْتُ أَنَا لَمْ أَحْرِقْهُمْ لِنَهِيِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (لاتعذبوا بِعَذَابِ اللَّهِ) وَلَقَتَلْتُهُمْ لِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ) . وَكَانَ كَبِيرُهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَبَأٍ يَهُودِيًّا ثُمَّ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَابْتَدَعَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ مَا ذَكَرَهُ فِي الْفَتْحِ مِنْ طَرِيقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَرِيكٍ الْعَامِرِيِّ عَنْ أَبِيهِ قال: قيل لعي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّ هُنَا قَوْمًا عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ يَزْعُمُونَ أَنَّكَ رَبَّهُمْ، فَدَعَاهُمْ فَقَالَ لَهُمْ: وَيْلَكُمُ مَا تَقُولُونَ؟ قَالُوا: أَنْتَ رَبُّنَا وَخَالِقُنَا وَرَازِقُنَا. قَالَ: وَيْلَكُمْ إِنَّمَا أَنَا عَبْدٌ مِثْلُكُمْ آكُلُ الطَّعَامَ كَمَا تَأْكُلُونَ وَأَشْرَبُ كَمَا تَشْرَبُونَ. إِنْ أَطَعْتُ اللَّهَ أَثَابَنِي إِنْ شَاءَ وَإِنْ عَصَيْتَهُ خَشِيْتُ أَنْ يُعَذِّبَنِي، فَاتَّقُوا اللَّهَ وَارْجِعُوا، فَأَبَوْا. فَلَمَّا كَانَ الْغَدُ غَدَوْا عَلَيْهِ، فَجَاءَ قَنْبَرٌ فَقَالَ: قَدْ وَاللَّهِ رَجَعُوا يَقُولُونَ ذَلِكَ الْكَلَامَ، فَقَالَ: أَدْخِلْهُمْ فَقَالُوا كَذَلِكَ، فَلَمَّا كَانَ الثَّالِثُ: قَالَ: لَئِنْ قُلْتُمْ ذَلِكَ لَأَقْتُلَنَّكُمْ بِأَخْبَثِ قِتْلَةٍ فَأَبَوْا إِلَّا ذَلِكَ، فَأَمَرَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنْ يَخُدَّ لَهُمْ أُخْدُودٌ بَيْنَ الْمَسْجِدِ وَالْقَصْرِ، وَأَمَرَ بِالْحَطَبِ أَنْ يُطْرَحَ فِي الْأُخْدُودِ وَيُضْرَمَ بِالنَّارِ ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنِّي طَارِحُكُمْ فِيهَا أَوْ تَرْجِعُوا. فَأَبَوْا أَنْ يَرْجِعُوا، فَقَذَفَ بِهِمْ حَتَّى إِذَا احْتَرَقُوا قَالَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 إِنِّي إِذَا رَأَيْتُ أَمْرًا مُنْكَرَا ... أَوْقَدْتُ نَارِي وَدَعَوْتُ قَنْبَراً (1) قَالَ الْحَافِظُ ابْنُ حُجْرٍ: إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ (2) . 2- وَمِنْهُمْ طَائِفَةٌ يَعْتَقِدُونَ أَنَّ لَا إِلَهَ إِلَّا عَلِيٌّ وَهُمُ النُّصَيْرِيَّةُ الَّذِينَ يَقُولُ شَاعِرُهُمُ قَبَّحَهُ اللَّهُ: أَشْهَدُ أَلَا إِلَهَ إِلَّا ... حَيْدَرَةُ (3) الْأَذْرُعُ (4) الْبَطِينْ (5) وَلَا سَبِيلَ إِلَيْهِ إِلَّا ... مُحَمَّدٌ الصَّادِقُ الْأَمِينْ وَلَا حِجَابَ عَلَيْهِ إِلَّا ... سَلْمَانُ ذو القوة المتين 3- ومنهم مَنْ يَدَّعِي فِيهِ الرِّسَالَةَ وَأَنَّ جِبْرِيلَ خَانَهَا فَنَزَلَ بِهَا عَلَى مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. 4- وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي فِيهِ الْعِصْمَةَ وَيَرَى خِلَافَةَ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ بَاطِلَةٌ، وَيَشْتُمُونَ طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَائِشَةَ وَيَرْمُونَهَا بِمَا رَمَاهَا بِهِ ابْنُ سَلُولٍ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ. 5- وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ رُفِعَ إِلَى السَّمَاءِ كَمَا رُفِعَ عِيسَى وسينزل كما ينزل عيسى عليه السلام، وهم أصحاب الرجعة.   (1) اسم رجل. والضبط من لسان العرب ص: 3747. (2) قال الحافظ في الفتح ج12 ص282: إسناده حسن. (م) . (3) قال في لسان العرب: حَيْدَرة الأسد، وقال أيضاً: وحيدرة اسمان، وقال ابن الأعرابي: الحيدرة في الأسد مثل الملك في الناس، وقال أبو العباس فيما ينسب لعلي: (أنا الذي سمتني أمي الحيدرة) يعني: لغلَط عنقه وقوة ساعديه، ومنه غلام حادر إذا كان ممتليء البدن شديد البطش. وقيل أراد بقوله: (أنا الذي سمتني أمي الحيدرة) أن الذي سمتني أمي أسداً لأن أمه لم تسمه حيدرة وإنما سمته أسداً باسم أبيها لأنها فاطمة بنت أسد. انظر لسان العرب ص803، 804. (4) الأفصح. القاموس المحيط للفيروز آبادي ج3 ص23. (5) يقال: هو بطين إذا عظم بطنه. انظر لسان العرب، ص303. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 6- وَمِنْهُمْ مَنْ يَدَّعِي أَنَّهُ وَصَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِأُمَّتِهِ وَأَنَّهُ عَهِدَ إليه ما لم يَعْهَدُهُ إِلَى غَيْرِهِ وَبَلَّغَهُ مَا كَتَمَهُ النَّاسَ؟، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنْ فِرَقِهِمُ الضَّالَّةِ وَشِيَعِهِمُ الْخَاطِئَةِ. 7- وَأَمَّا الزَّيْدِيَّةُ الَّذِينَ يَدَّعُونَ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ وَأَتْبَاعِهِ، فَهَؤُلَاءِ لَا يَشْتُمُونَ الشَّيْخَيْنِ - أبا بكر وعمر - وَلَا عَائِشَةَ وَلَا سَائِرِ الْعَشْرَةِ (1) ، وَلَكِنَّهُمْ يُفَضِّلُونَ عَلِيًّا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيُقَدِّمُونَهُ فِي الْخِلَافَةِ ثُمَّ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ يَسْكُتُونَ عَنْ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَيَحُطُّونَ (2) عَلَى معاوية غفر الله له. هذا الذي تحصّل من رسائلهم، وفي بعضها السكوت عن أبي بكر وعم رضي الله عنهما، فَلَا يَذْكُرُونَهُمَا بِخَيْرٍ وَلَا شَرٍّ، وَلَا بِخِلَافَةٍ وَلَا غَيْرِهَا، ثُمَّ يَحْصُرُونَ الْخِلَافَةَ فِي عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَذُرِّيَّتِهِ (3) ، فَفِرْقَةٌ تَدَّعِي عِصْمَتَهُمْ وَأُخْرَى لَا تَدَّعِي ذَلِكَ، وَالْمَقْصُودُ أَنَّهُمْ فِرَقٌ كَثِيرَةٌ مُتَفَاوِتُونَ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَاعْتِقَادَاتِهِمْ، وَأَخَفُّهُمْ بدعة الزيدية. -هذا في شأن أهل البيت طهرهم الله تعالى، أما فِي مَسْأَلَةِ الصِّفَاتِ وَالْقُرْآنِ وَالْقَدَرِ وَالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ وَسَائِرِ الْمُعْتَقَدَاتِ، فَقَدْ دَهَى كُلَّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ ما دهى   (1) يعني: المبشرين بالجنة، كما سيأتي في الحديث إن شاء الله تعالى ص: 393. (2) من الحَطِّ وهو الوضع أو الحَدْر من علو أي أنهم ينتقصونه وينزلون من قدره ويخفضون من شأنه. وانظر لسان العرب ص914، 915. (3) وتدعي الشيعة الإمامية الاثنا عشرية أنهم اثنا عشر إماماً، وينتظرون الأخير منهم، وهو غير المهدي الثابت عند أهل السنة والجماعة. يراجع بتوسع. -وجاء دور المجوس، الجزأ الأول: الأبعاد التاريخية والعقائدية والسياسية للثورة الإيرانية. للدكتور الغريب وهو كتاب هام في موضوعه. -المهدي حقيقة لا خرافة للأخ الفاضل الشيخ محمد أحمد إسماعيل المقدم حفظه الله ص78، 88، 119 وبقية الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 غيرها من الناس، ولكن المشهور من غالبهم اعتمادهم كُتُبَ الْعَلَّافِ والجُبَّائي (1) وَأَشْبَاهِهِ، وَالزَّيْدِيَّةُ عُمْدَتُهُمْ فِي تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ كَشَّافُ الزَّمَخْشَرِيِّ وَقَدْ شَحَنَهُ بِقَوْلِ القدرية والمعتزلة. -وأما كون علي رضي الله عنه له منزلة من الرسول - صلى الله عليه وسلم - كمنزلةو هارون من موسى عليهما السلام فهذا في الاستخلاف. فموسى عليه السلام استخلف هارون عليه السلام فِي مُدَّةِ الْمِيعَادِ، وَمُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اسْتَخْلَفَ عَلِيًّا فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَفِي الصحيحين مِنْ رِوَايَةِ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - خرج إلأى تبوك واستخلف عياً - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، فَقَالَ: أَتَخْلُفْنِي فِي الصِّبْيَانِ والنساء؟ (أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى؟ إِلَّا أَنَّهُ لَا نَبِيَّ بَعْدِي) وهذا الا ستثناء يزيل الإشكال من الارواية التي فيها: (أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ من موسى؟ بدون استثناء وهي أيضاً في الصَّحِيحَيْنِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ سَعْدٍ عَنْ أَبِيهِ - وَيُخَصِّصُ عُمُومَ الْمَنْزِلَةِ بِخُصُوصِ الْأُخُوَّةِ وَالِاسْتِخْلَافِ فِي أَهْلِهِ فَقَطْ لَا فِي النُّبُوَّةِ كَمُشَارَكَةِ هَارُونَ لموسى. د-ما شجر في خلافته بيين الصحابة (2) وبيان ذرهم في ذلك: ونقصد بذلك مَا أَصَابَهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مِنَ اخْتِلَافِ الناس عليه والفتن الهائلة   (1) وهما من أئمة المعتزلة، وأبو الهزيل العلاف هو الذي صنف لهم كتابين وبين مذهبهم في عهد هارون الرشيد. انظر الفرق بين الفرق ص18، شرح الطحاوية ص588-589. (2) ذكر الشيخ حافظ رحمه الله في كتابه سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَجُلًا قَالَ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي رَأَيْتُ كَأَنَّ دَلْوًا دُلِّيت مِنَ السَّمَاءِ، فَجَاءَ أَبُو بكر فأخذ بعراقيعها فشرب شُرْبًا ضَعِيفًا، ثُمَّ جَاءَ عُمَرُ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا فَشَرِبَ حَتَّى تَضَلَّعَ، ثُمَّ جَاءَ عُثْمَانُ فَأَخَذَ بعراقيها حَتَّى تَضَلَّعَ، ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَخَذَ بِعَرَاقِيهَا فانتشطت وانتضح عليه منها شيء) قال الشيخ رحمه الله: وَكَانَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ مَا أَصَابَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مِنَ اخْتِلَافِ النَّاسِ عَلَيْهِ وَالْفِتَنِ الْهَائِلَةِ ... إلخ وهذا الحديث رواه أحمد رحمه الله، قال في الفتح الرباني في الشرح، وسنده جيد ورجاله ثقات (22/186) . ورواه أبو داود، قال الألباني: ضعيف، فيه عبد الرحمن الجرمي، فيه جهالة ومن طريقه أخرجه أحمد (5/21) . انظر شرح الطحاوية بتحقيق الألباني. وقوله (بعراقيها) : قال الخطابي: العراقي أعود يخالف بينها ثم تشد في عرى الدلوا ويعلق بها الحبل، واحدتها عرقوه. وقوله: (فشرب شرباً ضعيفاً) فيه إشارة إلى قصر مدة أيام ولايته، وقوله (حتى تضلع) يريد الاستيفاء في الشرب حتى روى فتمدد جنبه وضلوعه، وفيه إشارة إلى طول مدته في الخلافة. وقوله: (فانتشطت) أي: اضطربت حين نزعها من البئر. انظر الفتح الرباني ومعه بلوغ الأماني (22/186) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 وَالدِّمَاءِ الْمُهْرَقَةِ وَالْأُمُورِ الصِّعَابِ وَالْأَسْلِحَةِ الْمَسْلُولَةِ بَيْنَ المسلمين بسبب السبئية ومن وافقهم عَلَى قَتْلِ عُثْمَانَ، وَكَانَ غَالِبُهُمْ مُنَافِقِينَ، وَقَلِيلٌ منهم من أبناء صحابة مَغْرُورُونَ، فَحَصَلَ مِنْ ذَلِكَ فِي يَوْمِ الْجَمَلِ وصفين وغيرهما وقائع يطول ذكرها. -فأما موقعهة الْجَمَلِ فَكَانَتْ بِمَحْضِ فِعْلِ السَّبَئِيَّةِ قَبَّحَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى، لَيْسَ بِاخْتِيَارِ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ولا طلحة ولا الزبير ولا أم أمؤمنين رضي الله عنهم، بل بات الفريقين متصالحين بخير ليلة، فتوطأ أهل الفتنة، وتمالؤا عَلَى أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ وَيُنْشِبُوا الْحَرْبَ بَيْنَ الْفِئَتَيْنِ مِنَ الْغَلَسِ، فَثَارَ النَّاسُ مِنْ نَوْمِهِمْ إِلَى السِّلَاحِ فَلَمْ يَشْعُرْ أَصْحَابُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - إلا بالرؤوس تَنْدُر (1) والمعاصم (2) تتطاير ما يريدون ما الأمر حتى عقر الجمل (3) وانكشفت الحال   (1) تسقط. انظر لسان العرب ص4382. (2) أي الأيدي. قال في لسان العرب ص 2978: (والمِعْصَم: موضع السوار من اليد وربما جعلوا المعصم اليد، وهما معصمان) . (3) أي قطعت قوائم الجمل الذي كانت عليه عائشة رضي الله عنها. انظر البداية والنهاية (7/255) ، ولسان العرب ص: 3034. وكانت وقعة الجمل بالبصرة. انظر البداية والنهاية (7/241-256) . ومن المهم أن نعلم النزاع بين علي ومعاوية لم يكن على الخلافة وإنما كان بسبب مسألة الاقتصاص من قتلة عثمان كما سيأتي إن شاء الله تعالى. وارجع في هذا ما كتبه الشيخ محمد الوهيبي حفظه الله في مجلة البيان، العدد (27) تحت عنوان: الإمساك عما شجر بين الصحابة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 عَنْ عَشَرَةِ آلَافِ قَتِيلٍ فَإِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. وَإِنَّمَا أَنْشَبَ أَهْلُ الْفِتْنَةِ الْحَرْبَ بين الفريقين لعلهم أَنَّهُمَا إِنْ تَصَالَحَا دَارَتِ الدَّائِرَةُ عَلَيْهِمْ وأُخِذوا بدم عثمان وأقيم عليهم كتاب الله، فَقَالُوا نَشْغَلُهُمْ بِأَنْفُسِهِمْ، وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مقدوراً. وكان السبئية يخافون علياً - رضي الله عنه - أكثر مِنْ خُصَمَائِهِ، وَذَلِكَ الَّذِي حَمَلَهُمْ عَلَى مَا فعلوه. -وأما في قتاله أهل الشام (1) فكانوا مع معاويه - رضي الله عنه -، وكان معاوية متأولاً يطلب بدم عثمان - رضي الله عنه - وَيَرَى أَنَّهُ وَلِيَّهُ وَإِنَّ قَتَلَتَه فِي جَيْشِ علي - رضي الله عنه -، فكان معذوراً بخطئه بِذَلِكَ. وَأَمَّا عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَكَانَ مُجْتَهِدًا مُصِيبًا وَفَالِجًا مُحِقًّا يُرِيدُ جَمْعَ كَلِمَةِ الأمة حتى إذا كانوا جماعة وخمدت الفتنة أَخَذَ بِالْحَقِّ مِنْ قَتَلَةِ عُثْمَانَ، وَكَانَ - رَضِيَ الله عنه - أعلم بكتاب الله عز وجل من المطالبين بدم عثمان - رضي الله عنه -، فكان أهل الشام بغاة اجتهدوا فأخطؤوا وَعَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُقَاتِلُهُمْ لِيَرْجِعُوا إِلَى الْحَقِّ وَيَفِيئُوا إِلَى أَمْرِ اللَّهِ، وَلِهَذَا كَانَ أَهْلُ بَدْرٍ الْمَوْجُودُونَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ كُلُّهُمْ فِي جَيْشِهِ وَعَمَّارٌ قُتِلَ مَعَهُ - رَضِيَ اللَّهُ عنه -، كما فيب الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فِي بِنَاءِ المسجد، قال: (كُنَّا نَحْمِلُ لَبِنَةً لَبِنَةً وَعَمَّارٌ لِبِنَتَيْنِ، فَرَآهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَنْفُضُ التُّرَابَ عنه ويقول (ويح عمار تقتله الفئة الباغية، ويدعوهم إِلَى الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى النَّارِ) قَالَ: يَقُولُ عَمَّارٌ: أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الْفِتَنِ) (2) ، فَقَتَلَهُ أَهْلُ الشَّامِ مِصْدَاقَ مَا أَخْبَرَهُمْ بِهِ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ -   (1) يعني وقعة صفين. انظر البداية والنهاية لابن كثير رحمه الله (7/264) . (2) الحديث بهذا السياق رواه البخاري في الصلاة باب التعاون في بناء المساجد وفي الجهاد والسير باب مسح الغبار عن الرأس في سبيل الله. أما مسلم فأخرجه بدون ذكر قصة حمل عمار للبنتين وبألفاظ قريبة عن أم سلمة، وعن أبي سعيد قال: أخبرني من هو خير مني أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لعمار حين رآه يحفر الخندق وجعل يمسح رأسه ويقول: (بؤس ابن سمية تقتلك فئة باغية) (شرح النووي 6/42، 43 كتاب الفتن) .. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 صلى الله عليه وسلم - وهو يدعوه إِلَى الْجَمَاعَةِ وَالِائْتِلَافِ وَإِلَى طَاعَةِ الْإِمَامِ التِّى هِيَ مِنْ أَسْبَابِ دُخُولِ الْجَنَّةِ وَيَدْعُونَهُ إِلَى الفتنة والفرقة التي هي أَسْبَابِ دُخُولِ النَّارِ، وَكَانَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَسْعَدَ مِنْهُمْ وَأَوْلَاهُمْ بِالْحَقِّ لِقَتْلِهِ الْخَوَارِجَ بالنهروان، وقد ثبت في الصحيح عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أنه - صلى الله عليه وسلم - قال: (يقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق) وفي رواية عنه: (فيلي قتلهم أولى الطائفتين بالحق وهو يومئذ - رضي الله عنه - أَفْضَلُ مَنْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ بِالْإِجْمَاعِ وَذَلِكَ مصداق ما سبق في حديث سفينة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - (1) قَالَ سَمِعْتُ: رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (الْخِلَافَةُ ثَلَاثُونَ سَنَةً ثُمَّ تَكُونُ بَعْدَ ذَلِكَ مُلْكًا) قَالَ سَفِينَةُ: فَخُذْ سَنَتَيْ أَبِي بَكْرٍ وَعَشْرَ عُمَرَ واثنتى عشر عُثْمَانَ وَسِتَّ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وسفينة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حَذَفَ الزَّائِدَ وَالنَّاقِصَ عَنِ السِّنِينَ مِنَ الْأَشْهُرِ عَلَى مَا جَرَتْ بِهِ عادة العرب في حذف الكسور في الحساب، فإن مدة خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - كانت سنتين وثلاثة أشهر، وَكَانَتْ مُدَّةُ خِلَافَةِ الْفَارُوقِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عشر سنين وستة أشهر، وكانت مدة خلافة عثمان - رضي الله عنه - اثنتى عشرة سنة إلا اثني عشر يوماً، وكانت مدة خلافة عليّ رضي الله عنه أربع سنين وتسعة أشهر إلا ليال، وعلى هذا فأيام خلافتهم رضي الله عنهم لا تكمل ثلاثين سنة إلا بخلافة السن بْنِ عَليّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهِيَ سِتَّةُ أشهر، وقد أصلح الله به بين الْفِئَتَيْنِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَمَا أَخْبَرَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (2) . وولي معاوية   (1) انظر ص: 381. (2) كما في صحيح البخاري في فضائل الصحابة، باب مناقب الحسن والحسين رضي الله عنهما. انظر الفتح (7/118، 119) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 بِذَلِكَ وَاجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ، وَكَانَ ذَلِكَ الْعَامُ يُسَمَّى (عَامَ الْجَمَاعَةِ) وَكَانَ مُعَاوِيَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عنه - أول ملوك الإسلام وخيرهم. 2- بقية العشرة المبشرين بالجنة، وسائر الصحابة الكرام وترتيبهم في الفضل: فيلي الخلفاء الأربعة الراشدين في الفضل الستة المكملون الْعَشَرَةِ الْمَشْهُودُ لَهُمْ بِالْجَنَّةِ، كَمَا فِي السُّنَنِ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ الْأَخْنَسِ أَنَّهُ كَانَ في المسجد، ذكر رَجُلٌ عَليًّا عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَامَ سَعِيدُ بْنُ زَيْدٍ فَقَالَ: أَشْهَدُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنِّي سَمِعْتُهُ وَهُوَ يَقُولُ: (عَشَرَةٌ فِي الْجَنَّةِ: النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْجَنَّةِ، وَأَبُو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الْجَنَّةِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ فِي الْجَنَّةِ، وَسَعْدُ بْنُ مَالِكٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الْجَنَّةِ، لو شِئْتُ لَسَمَّيْتُ الْعَاشِرَ) . قَالَ: فَقَالُوا: مَنْ هُوَ؟ فَسَكَتَ، قَالَ: فَقَالُوا: مَنْ هُوَ؟ فَقَالَ: (هُوَ سعيد بن زيد) (1) . رضي الله عنهم. وكذا سائر الصحب الكرام الَّذِينَ هُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ اختارهم الله تعالى لصحبة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ونصرة دينه، ثم هم على مراتب: أَفْضَلُهُمُ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ ثُمَّ مِنَ الأنصار، ثم أهل بدر، ثم أهل   (1) صحيح. صحيح الجامع الصغير 3905. والمذكورون من الصحابة هنا في الحديث تسعة لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - معدود في العشرة المذكورين، والعاشر من الصحابة هو أبو عبيدة بن الجراح رضي الله عنه، لما في صحيح سنن الترمذي ج3 ص: 218 عن عبد الرحمن بن عوف قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم -: (أبو بَكْرٍ فِي الْجَنَّةِ، وَعُمَرُ فِي الْجَنَّةِ، وَعُثْمَانُ فِي الْجَنَّةِ، وَعَلِيٌّ فِي الْجَنَّةِ، وَطَلْحَةُ فِي الجنة، والزبير فِي الْجَنَّةِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ فِي الجنة، وسعد بن أبي وقاص في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة، وأبو عبيدة بن الجراح في الجنة) صحيح رقم 2946، وقال الألباني: هذا الحديث المعروف بحديث: (العشرة المبشرون بالجنة) مع العلم بأن الذين بشرهم رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْجَنَّةِ كثيرون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 أُحُدٍ، ثُمَّ أَهْلُ الثَّبَاتِ فِي غَزْوَةِ الْأَحْزَابِ التي نجم فيها النفاق، ثم أهل بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ، ثُمَّ مَنْ هَاجَرَ مِنْ قَبْلِ الفتح وقاتل {أولئك أعظم رجة مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وكُلاً وعد الله الحسنى} (1) . وقد وردت أحاديث كثيرة في فضائل الصحابة والتابعين نذكر هنا بعضاً منها: -في الصحيح عَنْ أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: (يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ: فِيكُمْ مَنْ رَأَى رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَيَقُولُونَ: نَعَمْ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، ثُمَّ يَغْزُو فِئَامٌ مِنَ النَّاسِ فَيُقَالُ لَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ مَنْ رَأَى مَنْ صَحِبَ مَنْ صَحِبَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فيقولون: نعم، فيفتح لهم) . -وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَأَلَ رَجُلٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: (الْقَرْنُ الَّذِي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث) . -وفي الصحيح (2) عَنْ أَبِي سَعِيدٍ (3) - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: كَانَ بَيْنَ خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ وَبَيْنَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ شَيْءٌ فَسَبَّهُ خَالِدٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -:   (1) الحديد: 10. (2) والحديث في الصحيحين وهذا لفظ مسلم وليس في البخاري ذكر سبب الحديث (الفتح 7/25، ومسلم بشرح النووي 16/92) . (3) وقع في مسلم: الموضع الأول، وفي ابن ماجه، وفي الفضائل للنسائي: الموضع الثاني، وفي الكبرى: الموضع الثاني: عن أبي هريرة وهو خطأ. انظر الغرباء الأولون ص230. وقال الحافظ = =في الفتح: إلا أنه وقع في بعض النسخ عن ابن ماجه اختلاف: ففي بعضها عن أبي هريرة، وفي بعضها عن أبي سعيد، والصواب عن أبي سعيد .... وقد وجدته في نسخة قديمة جداً من ابن ماجه قرئت في سنة بضع وسبعين وثلاثمائة وهي في غاية الإتقان وفيها (عن أبي سعيد) . انظر فتح الباري 7/43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 (ولا تَسُبُّوا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِي، فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَوْ أَنْفَقَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا أَدْرَكَ مُدَّ أَحَدِهِمْ وَلَا نَصِيفَهُ) . -وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ علي رضي الله عنه قصة كتاب حاطب مع الظعينة (1) -وفيه- فقال عمر: (دعني يا رسول الله أضرب عنق هذا المنافق) فقال: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك لعل الله اطلع على أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غفرت لكم) . -وعن جَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم -: (لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة) رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح (2) . 3- أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم: -أما زوجاته (3) عليه الصلاة والسلام فهن أمهات المؤمنين، وَهُنَّ زَوْجَاتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، فَمِنْهُنَّ خَدِيجَةُ، وعائشة، وأم سلمة، وزينب، وصفية   (1) أي الكتاب الذي أرسله مع المرأة إلى أهل مكة يخرهم بعزم الرسول - صلى الله عليه وسلم - على غزوهم. (2) انظر صحيح سنن الترمذي 3033، والحديث في صحيح مسلم عن أم مبشر في الفضائل، باب من فضائل أصحاب الشجرة، وانظر صحيح مسلم بشرح النووي (16/58) . (3) قال ابن هشام: وكن تسعاً: عائشة بنت أبي بكر، وحفصة بنت عمر بن الخطاب، وأم حبيبة بنت أبي سفيان بن حرب، وأم سلمة بنت أبي أمية بن المغيرة، وسودة بنت زمعة بن قيس، وزينب بنت جحش بن رئاب، ومبمونة بنت الحارث بن خَزن، وجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وصفية بنت حي بن أخطب. قال: وكان جميع من تزوج رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثَلَاثٌ عشرة، وذكر خديجة بنت خويلد وزينب بنت خزيمة وذكر أنهما ماتتا قبله - صلى الله عليه وسلم - وأن التسع توفي عنهن، وذكر اثنتين لم يدخل بهما. أسماء بنت النعمان الكندية، وعمرة بنت يزيد الكلابية، ردهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهلهما قبل أن يبني بهما. انظر السيرة النبوية لابن هشام ج4 ص1501-1505. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 بين حي من ولد هارون بن عمران، وَجُوَيْرِيَةُ بِنْتُ الْحَارِثِ مَلِكِ بَنِي الْمُصْطَلَقِ الَّتِي كَانَتْ هِيَ السَّبَبُ فِي عِتْقِ السَّبْيِ مِنْ قبيلتها، وسودة بنت زمعة التي كانت مِنْ أَسْبَابِ الْحِجَابِ (1) وَلَمَّا كَبُرَتِ اخْتَارَتْ نَبِيَّ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ تَبَقَى فِي عِصْمَةِ نِكَاحِهِ وَوَهَبَتْ يَوْمَهَا لِعَائِشَةَ تَسْتَحِقُّهُ مَعَ قَسْمِهَا، وأم حبيبة ذات الهجرتين، وميمونة بنت الحارث الهلالية الَّتِي نَكَحَهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي عُمْرَةِ الْقَضَاءِ وَهَمَا حَلَالَانِ عَلَى مَا حَدَّثَتْ بِهِ هِيَ وَالسَّفِيرُ بَيْنَهُمَا (2) ، وَكُلُّهُنَّ زَوْجَاتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُنَّ. -وَيَدْخُلُ في أهل بيته أيضاً الَّذِينَ جَلَّلَهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكِسَائِهِ كَمَا فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: خَرَجَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غَدَاةً وَعَلَيْهِ مِرْط مُرَحَّل (3) مِنْ شَعْرٍ أَسْوَدَ فَجَاءَ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ جَاءَ الْحُسَيْنُ فَدَخَلَ مَعَهُ ثُمَّ جَاءَتْ فَاطِمَةُ فَأَدْخَلَهَا ثُمَّ جَاءَ عَلِيٌّ فَأَدْخَلَهُ ثُمَّ قَالَ: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} (4) . -وَيَدْخُلُ فِي أَهْلِ بَيْتِهِ آلِهِ الَّذِينَ حُرِّمَتْ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ بَنُو هَاشِمٍ وَبَنُو الْمُطَّلِبِ كَمَا فِي الصَّحِيحِ عَنْ يَزِيدَ بْنِ حَيَّانَ قَالَ: انطلقت أنا وحصين بن سبرة   (1) وذلك لما خرجت ليلاً للبراز فناداها عمر: ألا قد عرفناك يا سودة، حرصاً على أن يُنَزل الخجاب، فأنزل الله آية الحجاب: {يا أبهاالذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي} الآية [الأحزاب: 53] ، وفي بعض الروايات أن خروجها هذا كان بعدما ضرب الحجاب وهناك روايات تذكر أسباباً أخرى لنزول الحجاب، وذلك كله في صحيح البخاري، والمراد بآية الحجاب في بعضها قوله تعالى: {يدنين عليهن من جلابيبهن} [الأحزاب: 59] وانظر في الجمع بينهما الفتح (1/300) ، (8/391) . (2) انظر الفتح (7/581) . (3) أي كساء منقوش عليه صور رحال الإبل، وعند بعض الرواة مرجل - بالجيم - أي عليه صور المراجل وهي القدور. انظر شرح النووي (5/194) . (4) الأحزاب: 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 وَعُمَرُ بْنُ مُسْلِمٍ إِلَى زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ -وفيه- فَقَالَ لَهُ حُصَيْنٌ: وَمَنْ أَهْلُ بَيْتِهِ يَا زَيْدُ؟ أَلَيْسَ نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ؟ قَالَ: نِسَاؤُهُ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ، وَلَكِنْ أَهْلُ بَيْتِهِ مَنْ حُرِمَ الصَّدَقَةَ بَعْدَهُ، قَالَ: وَمَنْ هُمْ؟ قَالَ: هُمْ آلُ عَلِيٍّ وَآلُ عَقِيلٍ وَآلُ جعفر وآل عباس. 4- وُجُوبِ السُّكُوتِ عَنِ الْخَوْضِ فِي الْفِتَنِ الَّتِي جرت بين الصحابة: -أَجْمَعَ أَهْلُ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ الَّذِينَ هُمْ أَهْلُ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ الَّذِينَ يُعْتَدُّ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى وُجُوبِ السُّكُوتِ عَنِ الْخَوْضِ فِي الْفِتَنِ الَّتِي جَرَتْ بَيْنَ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بَعْدَ قَتْلِ عُثْمَانَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَالِاسْتِرْجَاعِ عَلَى تِلْكَ الْمَصَائِبِ الَّتِي أُصِيبَتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَالِاسْتِغْفَارِ لِلْقَتْلَى مِنَ الطَّرَفَيْنِ وَالتَّرَحُّمِ عَلَيْهِمْ وَحِفْظِ فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَالِاعْتِرَافِ لَهُمْ بِسَوَابِقِهِمْ وَنَشْرِ مَنَاقِبِهِمْ عَمَلًا بِقَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سبقونا بالإيمان} (1) الْآيَةَ، وَاعْتِقَادِ أَنَّ الْكُلَّ مِنْهُمْ مُجْتَهِدٌ، إِنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ: أَجْرٌ عَلَى اجْتِهَادِهِ وَأَجْرٌ عَلَى إِصَابَتِهِ، وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرُ الِاجْتِهَادِ وَالْخَطَأُ مَغْفُورٌ، وَلَا نَقُولُ إِنَّهُمْ مَعْصُومُونَ بَلْ مجتهدون غما مُصِيبُونَ وَإِمَّا مُخْطِئُونَ لَمْ يَتَعَمَّدُوا الْخَطَأَ فِي ذلك، وما روي من مساوئهم الْكَثِيرُ مِنْهُ مَكْذُوبٌ، وَمِنْهُ مَا قَدْ زِيدَ فِيهِ أَوْ نُقِصَ مِنْهُ وغُيِّر عَنْ وَجْهِهِ، والصحيح هم فيه معذورون. -وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى فِي مُعْتَقَدِ أَهْلِ السُّنَّةِ: وَهُمْ مَعَ ذَلِكَ لَا يَعْتَقِدُونَ أَنْ كُلَّ وَاحِدٍ مِنَ الصَّحَابَةِ مَعْصُومٌ عَنْ كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَصَغَائِرِهِ، بَلْ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الذُّنُوبُ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَهُمْ مِنَ السَّوَابِقِ والفضائل ما يوجب ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يُغْفَرُ لَهُمْ مِنَ السَّيِّئَاتِ مَا لَا يُغْفَرُ لِمَنْ بَعْدَهُمْ، وَقَدْ ثَبَتَ بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُمْ خَيْرُ الْقُرُونِ (2) ، وَأَنَّ الْمُدَّ مِنْ أَحَدِهِمْ إِذَا تَصَدَّقَ بِهِ كان أفضل من جبل أحد ذهباً ممن بَعْدِهِمْ (3) ، ثُمَّ إِذَا كَانَ قَدْ صَدَرَ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ ذَنْبٌ فَيَكُونُ قَدْ تَابَ مِنْهُ، أَوْ أَتَى بِحَسَنَةٍ تَمْحُوهُ، أَوْ غُفِرَ لَهُ بِفَضْلِ سَابِقَتِهِ أَوْ بِشَفَاعَةِ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّذِي هُمْ أَحَقُّ النَّاسِ بِشَفَاعَتِهِ أَوِ ابْتُلِيَ بِبَلَاءٍ فِي الدُّنْيَا كَفَّرَ بِهِ عَنْهُ. فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الذُّنُوبِ الْمُحَقَّقَةِ فَكَيْفَ بِالْأُمُورِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مُجْتَهِدِينَ إِنْ أصابوا فلهم أجران وإن أخطؤا فَلَهُمْ أَجْرٌ وَاحِدٌ وَالْخَطَأُ مَغْفُورٌ. ثُمَّ الْقَدْرُ الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نَزْرٌ مَغْفُورٌ فِي جَنْبِ فَضَائِلِ الْقَوْمِ وَمَحَاسِنِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِهِ وَالْهِجْرَةِ وَالنُّصْرَةِ وَالْعِلْمِ النَّافِعِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ. وَمَنْ نَظَرَ فِي سِيرَةِ الْقَوْمِ بِعِلْمٍ وَبَصِيرَةٍ وَمَا مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بِهِ مِنَ الْفَضَائِلِ عَلِمَ يقيناً أنهم خير   (1) الحشر: 10. (2) والحديث - كما سبق - فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ص394. (3) والحديث - كما سبق - في الصحيح عن أبي سعيد رضي الله عنه انظر ص 395. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 الْخَلْقِ بَعْدَ الْأَنْبِيَاءِ لَا كَانَ وَلَا يَكُونُ مِثْلَهُمْ، وَأَنَّهُمُ الصَّفْوَةُ مِنْ قُرُونِ هَذِهِ الْأُمَّةِ الَّتِي هِيَ خَيْرُ الْأُمَمِ وَأَكْرَمُهُمْ عَلَى اللَّهِ عز وجل. أهـ (1) . -وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ فِي ذِكْرِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ الله عنهم وَفَضَائِلِهِمْ: (وَأَمَّا الْحُرُوبُ الَّتِي جَرَتْ فَكَانَتْ لِكُلِّ طَائِفَةٍ شُبْهَةٌ اعْتَقَدَتْ تَصْوِيبَ نَفْسِهَا بِسَبَبِهَا، وَكُلُّهُمْ عُدُولٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمُتَأَوِّلُونَ فِي حُرُوبِهِمْ وَغَيْرِهَا، وَلَمْ يُخْرِجْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ أَحَدًا مِنْهُمْ عَنِ الْعَدَالَةِ لِأَنَّهُمْ مُجْتَهِدُونَ اخْتَلَفُوا فِي   (1) انظر العقيدة الواسطية بشرح محمد خليل هراس. ص122/ مكتبة ابن تيمية، ط/ الرابعة. وقد أشار ابن تيمية رحمه لله فيها إلى أن مسألة ترتيب عثمان وعلي في الفضل ليست من الأصول التي يُضلَّل فيها المخالف عند جمهور أهل السنة لكن التي يضَلل فيها مسألة الخلافة. ص188-120. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 مَسَائِلَ مِنْ مَحَلِّ الْإِجْتِهَادِ كَمَا يَخْتَلِفُ الْمُجْتَهِدُونَ بَعْدَهُمْ فِي مَسَائِلَ مِنَ الدِّمَاءِ وَغَيْرِهَا وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ نَقْصُ أَحَدٍ مِنْهُمْ. -وَاعْلَمْ أَنَّ سَبَبَ تِلْكَ الْحُرُوبِ أَنَّ الْقَضَايَا كَانَتْ مُشْتَبِهَةً، فَلِشِدَّةِ اشْتِبَاهِهَا اخْتَلَفَ اجْتِهَادُهُمْ وَصَارُوا ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ ظَهَرَ لَهُمْ بِالِاجْتِهَادِ أَنَّ الْحَقَّ فِي هَذَا الطَّرَفِ وَأَنَّ مُخَالِفَهُ باغٍ فَوَجَبَ عليهم نصرته وقتال الباغي عليه فيما اعتقوه، فَفَعَلُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يَكُنْ يَحِلُّ لِمَنْ هَذِهِ صفته التأخير عَنْ مُسَاعَدَةِ إِمَامِ الْعَدْلِ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ فِي اعْتِقَادِهِ. وَقِسْمٌ عَكْسُ هَؤُلَاءِ ظَهَرَ لَهُمْ بِالْاِجْتِهَادِ أَنَّ الْحَقَّ فِي الطَّرَفِ الْآخَرِ فَوَجَبَ عَلَيْهِمْ مُسَاعَدَتُهُ وَقِتَالُ الْبَاغِي عَلَيْهِ. وَقِسْمٌ ثَالِثٌ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِمُ الْقَضِيَّةُ وَتَحَيَّرُوا فِيهَا وَلَمْ يَظْهَرْ لَهُمْ تَرْجِيحُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ فَاعْتَزَلُوا الْفَرِيقَيْنِ، فَكَانَ هذا الاعتزال هو الواجب في قهم، لِأَنَّهُ لَا يَحِلُّ الْإِقْدَامُ عَلَى قِتَالِ مُسْلِمٍ حتى يظهر أنه مستحق لذلك، ولو أظهر لِهَؤُلَاءِ رُجْحَانُ أَحَدِ الطَّرَفَيْنِ وَأَنَّ الْحَقَّ مَعَهُ لما جاز لهم التأخير عَنْ نُصْرَتِهِ فِي قِتَالِ الْبُغَاةِ عَلَيْهِ. فَكُلُّهُمْ مَعْذُورُونَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ. وَلِهَذَا اتَّفَقَ أَهْلُ الْحَقِّ وَمَنْ يَعْتَدُّ بِهِ فِي الْإِجْمَاعِ عَلَى قَبُولِ شَهَادَتِهِمْ وَرِوَايَاتِهِمْ وَكَمَالِ عَدَالَتِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ) (1) وَكَلَامُ الْأَئِمَّةِ فِي هَذَا الْبَابِ يَطُولُ. -وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ إِمَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الْفِتَنِ أَيَّامَ الصَّحَابَةِ فَقَالَ تَالِيًا قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون} (2) .   (1) انظر هذا الكلام بطوله في شرح النووي (15/149) . (2) البقرة: 134، 141. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 وفيما يلي الأبيات المتعلقة بما سبق : وَبَعْدَهُ الْخَلِيفَةُ الشَّفِيقُ ... نِعْمَ نَقِيبُ الْأُمَّةِ الصِّدِّيقُ ذَاكَ رَفِيقُ الْمُصْطَفَى فِي الْغَارِ ... شَيْخُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَهْوَ الَّذِي بِنَفْسِهِ تَوَلَّى ... جِهَادَ مَنْ عَنِ الْهُدَى تَوَلَّى ثَانِيهِ فِي الْفَضْلِ بِلَا ارْتِيَابِ ... الصَّادِعُ النَّاطِقُ بِالصَّوَابِ أَعْنِي بِهِ الشَّهْمَ أَبَا حَفْصٍ عُمَرْ ... مَنْ ظَاهَرَ الدِّينَ الْقَوِيمَ وَنَصَرْ الصَّارِمُ الْمُنْكِي عَلَى الْكُفَّارِ ... وَمُوسِعُ الْفُتُوحِ فِي الْأَمْصَار ثَالِثُهُمْ عُثْمَانُ ذُو النُّورَيْنِ (1) ... ذُو الْحِلْمِ وَالْحَيَا بِغَيْرِ مَيْنِ بَحْرُ الْعُلُومِ جَامِعُ الْقُرْآنِ ... مِنْهُ اسْتَحَتْ مَلَائِكُ الرَّحْمَنِ بَايَعَ عَنْهُ سَيِّدُ الْأَكْوَانِ ... بِكَفِّهِ فِي بَيْعَةِ الرِّضْوَانِ وَالرَّابِعُ ابْنُ عَمِّ خَيْرِ الرُّسُلِ ... أَعْنِي الْإِمَامَ الْحَقَّ ذَا الْقَدْرِ الْعَلِي مُبِيدُ كُلِّ خَارِجِيٍّ مَارِقِ ... وَكُلِّ خِبٍّ (2) رَافِضِيٍّ فَاسِقِ مَنْ كَانَ لِلرَّسُولِ فِي مَكَانِ ... هَارُونَ مِنْ مُوسَى بِلَا نُكْرَانِ لَا فِي نُبُوَّةٍ، فَقَدْ قَدَّمْتُ مَا ... يَكْفِي لِمَنْ مِنْ سُوءِ ظَنٍّ سَلِمَا فَالسِّتَّةُ الْمُكَمِّلُونَ الْعَشَرَهْ ... وَسَائِرُ الصَّحْبِ الْكِرَامِ الْبَرَرَهْ وَأَهْلُ بَيْتِ الْمُصْطَفَى الْأَطْهَارُ ... وَتَابِعُوهُ السَّادَةُ الْأَخْيَارُ فَكُلُّهُمْ فِي مُحْكَمِ الْقُرْآنِ ... أَثْنَى عَلَيْهِمْ خَالِقُ الْأَكْوَانِ فِي الْفَتْحِ وَالْحَدِيدِ وَالْقِتَالِ ... وَغَيْرِهَا بِأَكْمَلِ الْخِصَالِ كَذَاكَ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ ... صِفَاتُهُمْ مَعْلُومَةُ التَّفْصِيلِ وَذِكْرُهُمْ فِي سُنَّةِ الْمُخْتَارِ ... قَدْ سَارَ سَيْرَ الشَّمْسِ فِي الْأَقْطَارِ   (1) ذكر الشيخ رحمه الله. (2) الخب هو الخداع الخائن، كما ذكر الشيخ رحمه الله فىِ الشرح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 ثُمَّ السُّكُوتُ وَاجِبٌ عَمَّا جَرَى ... بَيْنَهُمُ مِنْ فِعْلِ مَا قَدْ قُدِّرَا فَكُلُّهُمْ مُجْتَهِدٌ مُثَابُ ... وَخِطْؤُهُمْ يَغْفِرُهُ الْوَهَّابُ • أسئلة : 1- اذكر الأدلة على الترتيب المعروف لأبي بكر وعمر وعثمان وعلي في الخلافة والفضل. 2- اذكر حديثًا في التحريض على قتل الخوارج، وهل عاملهم علي رضي الله عنه على أنهم مرتدون أم على أنهم بغاة؟ 3- ذكر المؤلف رحمه الله أن كل ذنب يكفر به الخوارج المؤمنين تَكْفِيرٌ لِأَنْفُسِهِمْ مِنْ وُجُوهٍ عَدِيدَةٍ وَهُمْ لَا يشعرون. اذكر هذه الوجوه. 4- اذكر ما تعرفه من المعتقدات المختلفة لفرق الرافضة. وهل في قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه: "أَلَا تَرْضَى أَنْ تَكُونَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ من موسى" دلالة على كونه أولى الصحابة من بعده بالخلافة أو أن له حظًا من النبوة أو الرسالة؟ بين ذلك. 5- بين كيف كان الصحابة معذورين في حرب الجمل وصفين. 6- اذكر أفضل الصحابة بعد الخلفاء الأربعة وبين مراتب الصحابة في الفضل. 7- اذكر زوجاته - صلى الله عليه وسلم - والمقصود بأهل بيته - صلى الله عليه وسلم -. 8- بين موقف أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بما جرى بين الصحابة من فتن وأحداث. *** الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 الخاتمة فِي وُجُوبِ التَّمَسُّكِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالرُّجُوعِ عِنْدَ الاختلاف إليهما، فما خالفهما فهو رد. وفيه خمسة فصول الفصل الأول: فِي ذِكْرِ وُجُوبِ طَاعَةِ الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -. الفصل الثاني: في تحريم القول على الله بِلَا عِلْمٍ، وَتَحْرِيمِ الْإِفْتَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ بما يخالف النصوص. الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي عِظَمِ إِثْمِ مَنْ أَحْدَثَ في الدين ما ليس منه. الفصل الرابع: في معنى البدعة، وأن البدع كلها مردودة وفي ذكر أقسامها. الفصل الخامس: في وجوب الاحتكام إلى الكتاب والسنة في كل ما وقع فيه الخلاف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 الفصل الأول في ذكر وجوب طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 الفصل الأول في ذكر وجوب طاعة الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - أولاً: بعض الأدلة من القرآن الكريم على ذلك: 1- قَالَ تَعَالَى: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فيما شجر بينهم ثم لا يدوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} (1) . 2- وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا الله وأطيعوا الرسول وأولي ألمر مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً} (2) . 3- وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فتنة أو يصيبهم عذاب أليم} (3) . 4- وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} (4) . 5- وَقَالَ تَعَالَى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ واليوم الآخر وذكر الله كثيراً} (5) .   (1) النساء: 65. (2) النساء: 59. (3) النور: 63. (4) الأحزاب: 36. (5) الأحزاب: 21. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 6- وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نهاكم عنه فانتهوا} (1) . ثانياً: من السنة: 1- رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (كُلُّ أُمَّتِي يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ أَبَى} قالوا: وَمَنْ يَأْبَى؟ قَالَ: (مَنْ أَطَاعَنِي دَخَلَ الْجَنَّةَ ومن عصاني فقد أبى) . 2- وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: (دعوني ما تركتكم، فإنما أهلك من كان قبلكم سؤالهم وَاخْتِلَافِهِمْ عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عَنْ شَيْءٍ فاجتنبوه وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم) . 3- وفي صحيح البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: صَنَعَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئا تَرَخَّصَ فِيهِ وَتَنَزَّهَ عَنْهُ قَوْمٌ، فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَحَمِدَ اللَّهَ ثُمَّ قَالَ: (مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَنَزَّهُونَ عَنِ الشَّيْءِ أَصْنَعُهُ؟ فَوَاللَّهِ إِنِّي أَعْلَمُهُمْ بِاللَّهِ وَأَشَدُّهُمْ لَهُ خَشْيَةً) . 4- وَفِيهِ عَنِ الْمُغِيرَةَ بْنِ شُعْبَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - قال: (لايزال طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ الله وهم ظاهرون) . 5- وفي المسند وابن ماجه وغيرهما عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَخَطَّ خَطًّا هَكَذَا أَمَامَهُ فَقَالَ: (هَذَا سَبِيلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ) وَخَطَّيْنِ عَنْ يَمِينِهِ وخطين عن شماله فقال: (هذه سُبُل الشَّيْطَانِ) ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ فِي الْخَطِّ الْأَوْسَطِ ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عن سبيله ذلكم   (1) الحشر: 7. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 وصاكم به لعلكم تتقون} (1)) (2) . 6- وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ الْعِرْبَاضِ بْنِ سَارِيَةَ - رضي الله عنه - قَالَ: وَعَظَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمًا بَعْدَ صَلَاةِ الْغَدَاةِ مَوْعِظَةً بَلِيغَةً ذَرَفَتْ مِنْهَا الْعُيُونُ وَوَجِلَتْ مِنْهَا الْقُلُوبُ، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ مَوْعِظَةُ مُوَدِّعٍ فَمَاذَا تَعْهَدُ إِلَيْنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: (أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ وَإِنْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ، فَإِنَّهُ مَنْ يَعْشُ مِنْكُمْ يَرَ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتُ الْأُمُورِ فَإِنَّهَا ضَلَالَةٌ، فَمَنْ أَدْرَكَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَعَلَيْهِ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، عَضُّوا عليها بالنواجذ) قَالَ التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ (3) . 7- وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عنه - أن رسول لله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (مَا مِنْ نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ فِي أُمَّةٍ قَبْلِي إِلَّا كَانَ لَهُ مِنْ أُمَتِهِ حَوَارِيُّونَ وَأَصْحَابٌ يَأْخُذُونَ بِسُنَّتِهِ وَيَقْتَدُونَ بِأَمْرِهِ، ثُمَّ إِنَّهَا تَخْلُفُ مِنْ بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ وَيَفْعَلُونَ مَا لَا يُؤْمَرُونَ، فَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِيَدِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِلِسَانِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَمَنْ جَاهَدَهُمْ بِقَلْبِهِ فَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَيْسَ وَرَاءَ ذَلِكَ من الإيمان حبة خردل) . 8- ولأحمد عَنِ الْحَسَنِ بْنِ جَابِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ الْمِقْدَامَ بْنَ مَعْدِ يَكْرِبَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ خَيْبَرَ أَشْيَاءَ ثُمَّ قَالَ: (يُوشِكُ أَحَدُكُمْ أن يكذبني وهو متكيء على أريكته يُحَدَّث بحدثني فيقول: بينا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ، فَمَا وَجَدْنَاهُ فِيهِ مِنْ حلال استحللناه وما وجدناه فيه من حرام حرمناه، ألا وإن ما حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَثَلُ ما حرم الله) (4) .   (1) الأنعام: 153. (2) حديث صحيح. انظر سنن ابن ماجه رقم 11، والسنة لابن أبي عاصم بتحقيق الألباني رقم 16 ج1 ص13. (3) انظر صحيح سنن الترمذي 2157. (4) حديث صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجه رقم 12. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 الفصل الثاني في تحريم القول على الله بِلَا عِلْمٍ، وَتَحْرِيمِ الْإِفْتَاءِ فِي دِينِ اللَّهِ بما يخالف النصوص والأدلة على ذلك كثيرة، ونذكر فيما يلي ما تيسر منها: 1- قَالَ تَعَالَى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تعلمون} (1) . 2- وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ ورسوله فقد ضل ضلالاً مبيناً} (2) . 3- وَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} (3) . 4- وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (4) . 5- وَقَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ الله فأولئك هم الكافرون} (5) .   (1) الأعراف: 33. (2) الأحزاب: 36. (3) الإسراء: 36، وقال تعالى: {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} الآية [النحل: 116] . (4) الحجرات: 1. (5) المائدة: 44. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هم الظالمون} (1) . {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هم الفاسقون} (2) .   (1) المائدة: 45. (2) المائدة: 47. والحكم بغير ما أنزل الله عز وجل قد يكون كفراً أصغر كما لو حملته شهوته وهواه على الحكم في القضية بغير ما أنزل الله لرشوة أو غيرها مع اعترافه أنه مستحق للعقوبة (انظر مدارج السالكين ج1 ص336، شرح الطحاوية ص 363-364) وقد يكون كفراً أكبر وأغلظه وأعظمه ما كان تشريعاً غير مستمد من شرع الله سواء خالف شرع الله أم وافقه. قال ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقوم يوقنون} [المائدة: 50] : = =ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله كما أن أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكيز خان الذي وضع لهم الياسق وهو عبارة عن مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه فصارت في بنيه شرعاً متبعاً يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فمن فعل ذلك فهو كافر يجب قتاله حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير. اهـ. وقال الشنقيطي رحمه الله عند كلامه على قول الحق تبارك وتعالى: {ولا يشرك في حكمه أحداً} [الكهف: 26] : (وحكمه جل وعلا المذكور في قوله: {ولا يشرك في حكمه أحداً} شامل لكل ما يقضيه جل وعلا ويدخل في ذلك التشريع دخولاً أولياً) . ثم قال - بعد أن ذكر عدداً من الآيات في ذلك - (وبهذه النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أوليائه مخالفة ما شرعه الله جل وعلا على ألسنة رسله صلى الله عليهم وسلم، أنه لا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم) أضواء البيان (4/4072) وقال الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في كتابه نقد القومية العربية ص: 50 (الوجه الرابع من الوجوه الدالة على بطلان الدعوة إلى القومية العربية أن يقال إن الدعوة إليها والتكتل حول رايتها يفضي بالمجتمع ولابد إلى رفض حكم القرآن لأن القوميين غير المسلمين بن يرضوا تحكيم القرآن فيوجب ذلك لزعماء القومية أن يتخذوا أحكاماً وضعية تخالف حكم القرآن حتى يستوي مجتمع القومية في تلك الأحكام وقد صرح الكثير منهم بذلك كما سلف وهذا هو الفساد العظيم والكفر المستبين والردة السافرة) عن أهمية الجهاد ص196-197، وللمزيد انظر تحكيم القوانين لمحمد بن إبراهيم، والإمامة العظمى لعبد الله بن سليمان الدميجي ص: 100-110 وأهمية الجهاد للدكتور علي بن نفيع العلياني ص190-198، والولاء والبراء لمحمد بن سعيد القحطاني ص67-69، 77 وفيه كلام مفيد منقول عن ابن تيمية في منهاج السنة، وانظر أيضاً تعليق الشيخ أحمد شاكر على المسند (6/303-305) ، وراجع كتاب الشريعة الإلهية لا القوانين الجاهلية. للشيخ عمر الأشقر حفظه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 6- وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حرث (1) بالمدينة وهو يتكأ عَلَى عَسِيبٍ (2) ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ الْيَهُودِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَسْأَلُوهُ لِئَلَّا يُسْمِعَكُمْ مَا تَكْرَهُونَ، فَقَامُوا إِلَيْهِ فَقَالُوا: يَا أَبَا الْقَاسِمِ حَدِّثْنَا عَنِ الرُّوحِ، فَقَامَ سَاعَةً يَنْظُرُ، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَتَأَخَّرْتُ عَنْهُ حَتَّى صَعِدَ الْوَحْيُ ثُمَّ قَالَ: {يسألونك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي، وما أوتيم من العلم إلا قليلا} (3) . 7- وَفِيهِ عَنْ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: مَرِضْتُ فَجَاءَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَعُودُنِي وَأَبُو بَكْرٍ وَهُمَا مَاشِيَانِ، فَأَتَانِي وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَيَّ، فَتَوَضَّأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -   (1) زرع: لسان العرب ص: (819) . (2) جريدة من النخل مستقيمة. لسان العرب، ص: (2936) . (3) الإسراء: 85. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 ثُمَّ صَبَّ وَضَوْءَهُ عَلَيَّ فَأَفَقْتُ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَقْضِي فِي مَالِيَ كَيْفَ أَصْنَعُ فِي مَالِي؟ قَالَ: فَمَا أَجَابَنِي بِشَيْءٍ حَتَّى نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ. وَعَلَى هَذَا تَرْجَمَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابَ مَا كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُسْأَلُ مِمَّا لَمْ يَنْزِلْ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فَيَقُولُ: (لَا أَدْرِي) أو لم يجف حتى ينزل عليه الوحي. 8- وترجم البخاري رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: بَابَ مَا يُذْكَرُ مِنْ ذَمِّ الرَّأْيِ وَتَكَلُّفِ الْقِيَاسِ {وَلَا تَقْفُ مَا ليس له به علم} (1) ثم ذكر فيه حديث عبد الله ابن عمرو قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: يَقُولُ: (إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنْزِعُ العلم بعد أن أعطاكموه انْتِزَاعًا، وَلَكِنْ يَنْتَزِعُهُ مِنْهُمْ مَعَ قَبْضِ الْعُلَمَاءِ بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون) . 9- وفيه سَهْلِ بْنِ حُنَيْفٍ قَالَ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهَمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَرَدَدْتُهُ) (2) . 10- وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ يَزِيدِ بْنِ عَمِيرَةَ وكان من أصحاب معاذ بن جبل أن مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ فِتَنًا يَكْثُرُ فِيهَا الْمَالُ وَيُفْتَحُ فِيهَا الْقُرْآنُ حَتَّى يَأْخُذَهُ الْمُؤْمِنُ وَالْمُنَافِقُ وَالرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ وَالصَّغِيرُ وَالْكَبِيرُ وَالْعَبْدُ وَالْحُرُّ، فَيُوشِكُ قائل أن يقول: ما للناس لا يتبعوني وقد   (1) الإسراء: 36. (2) يعني بذلك ما كان في صلح الحديبية وما تضمنه من رد من أسلم إلى المشركين، وكان كثير من الصحابة يون القتال وعدم الصلح ثم ظهر أن الأصلح هو الذي كان شرع النبي - صلى الله عليه وسلم - فيه. وانظر الفتح (8/453) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 قرأت القرآن؟ وما هُمْ بمتبعيَّ حَتَّى أَبْدَعَ لَهُمْ غَيْرَهُ فَإِيَّاكُمْ وَمَا ابْتُدِعَ، فَإِنَّ مَا ابْتُدِعَ ضَلَالَةٌ. وَأُحَذِّرُكُمْ زَيْغَةَ الْحَكِيمِ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ. قَالَ: قُلْتُ لِمُعَاذٍ: مَا يُدْرِينِي رَحِمَكَ اللَّهُ أَنَّ الْحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلَالَةِ، وَأَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الْحَقِّ؟ قَالَ: بَلَى، اجْتَنِبْ مِنْ كَلَامِ الْحَكِيمِ الْمُشْتَهِرَاتِ الَّتِي يُقَالُ لَهَا: مَا هَذِهِ، وَلَا يُثْنِيكَ عنه فإنه لعله أن يرجع، وَتَلَقَّ الْحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نوراً (1) .   (1) انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود (12/364) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 الْفَصْلُ الثَّالِثُ فِي عِظَمِ إِثْمِ مَنْ أَحْدَثَ في الدين ما ليس منه -قال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يضلونهم بغير علم} (1) . -وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - قال: (لَيْسَ مِنْ نَفْسٍ تُقْتَلُ ظُلْمًا إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا لِأَنَّهُ أول من سن القتل) . -وَعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - قال: (مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ وَمَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِهَا بَعْدَهُ كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَنْ عَمِلَ بِهَا وَلَا يَنْقُصُ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْءٌ) (2) .   (1) النحل: 25. (2) رواه مسلم (شرح النووي 16/226) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 الفصل الرابع في معنى البدعة وبيان أن البدع كلها مردودة، وفي ذكر أقسامها أولاً: معنى البدعة وأن البدع كلها مردودة: معنى البدعة هو: شرع ما لم يأذن به الله وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ أَمْرُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - ولا أصحابه. -قال تَعَالَى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لم يأذن به الله} (1) . -وقال تَعَالَى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} (2) . -وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ منه   (1) الشورى: 12. (2) التوبة: 31. وينبغي أن يعلم أنه لا يجتمع توحيد العبادة مع الإقرار بحق التشريع والتحليل والتحريم لغير الله عز وجل أو ادعاء الحق، كما في السنن للبيهقي أن عدي بن حاتم رضي الله عنه جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - وكان قد دان بالنصرانية قبل الإسلام - فلما سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقرأ هذه الآية {اتخذوا أحبارهم ... } الآية قال: يا رسول الله!! إنهم لم يعبدوهم. فقال: (بلى، إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم) . وفي رواية للترمذي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال تفسيراً لهذه الآية: (أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم، ولكن كانوا إذا أحلوا لهم شيئاً استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئاً حرموه) والحديث حسنه الألباني انظر غاية المرام في تخريج أحاديث الحلال والحرام، ص:19، 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 فَهُوَ رَدٌّ) . وَفِي رِوَايَةٍ لِمُسْلِمٍ: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمَرُنَا فَهُوَ رد) . -وفي السنن عن معاوية - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ قَالَ: أَلَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَامَ فِينَا فَقَالَ: (أَلَا إِنَّ مَنْ قَبِلَكُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ افْتَرَقُوا عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وإن هذه الأمة سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ: ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النار، وواحدة في الجنة وهي الجماعة) (1) وفي رواية: (ما أنا عليه وأصحابي) (2) . -وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: (لَتَتَّبِعُنَّ سنَنَ (3) مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ شبراً شبراً وذراعاً ذراعاً حتى لو دخلوا جحر ضب تبعتموهم) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟ قَالَ (فمن) . ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ الْبِدَعَ كُلَّهَا مَرْدُودَةٌ لَيْسَ منها شيء مقبول، وَكُلَّهَا قَبِيحَةٌ لَيْسَ فِيهَا حَسَنٌ. وَكُلَّهَا ضَلَالٌ (4) ليس فيها هدى، وكلها أوزار   (1) صحيح. السلسلة الصحيحة (1492) وصحيح الجامع (1082) وانظر في طرق هذا الحديث وتخريجه وبيان ألفاظه كتاب أهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى ص28، 34، 35 وهو من الكتب الهامة التي تسهم في علاج ما ابتليت به كثير من التجمعات في هذا العصر من التعصب للأسماء واللافتات والأشخاص. (2) حديث حسن. انظر صحيح سنن الترمذي 2129، وأهل السنة والجماعة معالم الانطلاقة الكبرى ص: (28، 35) . (3) قال ابن حجر (بفتح السين للأكثر، وقال ابن التين: قرأناه بضمها، وقال المهلب بالفتح أولى لأنه الذي يستعمل فيه الذراع والشبر وهو الطريق. قلت: وليس اللفظ الأخير بعيد من ذلك) الفتح جـ13 ص (313) . (4) قال - صلى الله عليه وسلم -: (وإياكم والأمور المحدثات فإن كل بدعة ضلالة) انظر صحيح سنن ابن ماجه 40 (1/13) . وتقسيم بعض فقهاء أهل السنة البدعة إلى الأقسام الخمسة (واجبة ومستحبة ومباحة ومكروهة ومحرمة) مبني على إطلاقهم لفظ البدعة على كل ما أحدث بعد النبي - صلى الله عليه وسلم - خيراً كان أو شراً عبادة أو عادة، ولكن لا اختلاف بينهم في الحكم بحمد الله، فهم متفقون على ذم وتحريم كل طريقة مخترعة في الدين تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد. ولا شك في أننا إذا أطلقنا لفظ البدعة على ذلك وعرفناها به صارت البدع كلها ضلالة ومذمومة. وهذا هو التعريف الشرعي للبدعة الذي اعتمده الشاطبي رحمه الله في الاعتصام. يراجع بتوسع الإبداع في مضار الابتداع. للشيخ على محفوظ رحمه الله ص:25-32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 لَيْسَ فِيهَا أَجْرٌ، وَكُلَّهَا بَاطِلٌ لَيْسَ فِيهَا حق. وهذا ظاهر في قوله - صلى الله عليه وسلم -: (مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمَرُنَا فَهُوَ رد) (1) وفي وصفه الفرقة الناجية بأنهم من كانوا على مثل ما كان عليه - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه. ومن ذلك أيضاً يتبين معنى البدعة الذي سبق ذكره، وقد أعلمنا الله عز وجل أن العمل المقبول الذي ينفع صاحبه يوم القيامة لابد وأن يجتمع فيه أمران الأول: الإخلاص له تبارك وتعالى وابتغاء وجهه وحده، والثاني: المتابعة لرسوله - صلى الله عليه وسلم - وموافقة سنته. فقال عز من قائل: {فمن كان يرجو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بعبادة ره أحداً} (2) . ثانياً: أقسام البدع: 1- أقسام البدع بحس إخلالها بالدين: أ-البدع المكفرة : وضابطها مَنْ أَنْكَرَ أَمْرًا مُجَمْعًا عَلَيْهِ مُتَوَاتِرًا مِنَ الشَّرْعِ مَعْلُومًا مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ جُحُودِ مفروض أو فرض لَمْ يُفْرَضْ أَوْ إِحْلَالِ مُحَرَّمٍ أَوْ تَحْرِيمِ حَلَالٍ، أَوِ اعْتِقَادِ مَا يُنَزَّهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ - صلى الله عليه وسلم - وَكِتَابُهُ عَنْهُ مِنْ نَفْيٍ أَوْ إِثْبَاتٍ لِأَنَّ ذَلِكَ تَكْذِيبٌ بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رسله صلوات الله وسلامه عليهم كبدعة الجهمية في إنكار صفات الله عز وجل وَالْقَوْلِ بِخَلْقِ الْقُرْآنِ أَوْ خَلْقِ أَيْ صِفَةٍ من صفات الله،   (1) مضى في الصفحة قبل السابقة. (2) الكهف: 110. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 وإنكار أن يكون الله اتَّخَذَ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا وَكَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا وَغَيْرَ ذَلِكَ، وَكَبِدْعَةِ الْقَدَرِيَّةِ فِي إِنْكَارِ عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَأَفْعَالِهِ وَقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، وَكَبِدْعَةِ الْمُجَسِّمَةِ الَّذِينَ يُشَبِّهُونَ اللَّهَ تَعَالَى بِخَلْقِهِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَهْوَاءِ. وَلَكِنَّ هَؤُلَاءِ مِنْهُمْ مَنْ عُلِمَ أَنَّ عَيْنَ قَصْدِهِ هَدْمُ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَتَشْكِيكُ أَهْلِهِ فِيهِ فَهَذَا مَقْطُوعٌ بِكُفْرِهِ بَلْ هُوَ أَجْنَبِيٌّ عَنِ الدِّينِ مِنْ أَعْدَى عَدُوٍّ لَهُ. وَآخَرُونَ مَغْرُورُونَ مُلَبَّسٌ عَلَيْهِمْ، فَهَؤُلَاءِ إِنَّمَا يُحْكَمُ بِكُفْرِهِمْ بَعْدَ إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ وَإِلْزَامِهِمْ بِهَا (1) . ب-الْبِدَعِ الَّتِي لَيْسَتْ بِمُكَفِّرَةٍ: وَهِيَ مَا لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ تَكْذِيبٌ بِالْكِتَابِ وَلَا بِشَيْءٍ مِمَّا أَرْسَلَ اللَّهُ بِهِ رُسُلَهُ كَبِدَعِ الْمَرْوَانِيَّةِ (2) الَّتِي أَنْكَرَهَا عَلَيْهِمْ فُضَلَاءُ الصَّحَابَةِ وَلَمْ يُقِرُّوهُمْ عَلَيْهَا وَلَمْ يُكَفِّرُوهُمْ بِشَيْءٍ مِنْهَا وَلَمْ يَنْزِعُوا يَدًا مِنْ بَيْعَتِهِمْ لِأَجْلِهَا، كَتَأْخِيرِهِمْ بَعْضَ الصَّلَوَاتِ إِلَى آخر أَوْقَاتِهَا وَتَقْدِيمِهِمُ الْخُطْبَةَ قَبْلَ صَلَاةِ الْعِيدِ، وَجُلُوسِهِمْ في نفس الخطبة في   (1) أي أنهم معذورون بجهلهم لاسيما إن لم يكونوا في بلد مظنة العلم، بخلاف الصنف الأول الذي ظهر وَعُلِمَ بغضه للدين وعداؤه له واستهزاؤه به ورغبته في القضاء عليه مع كونه يدعي الإسلام فهؤلاء من الزنادقة وقد اختلف العلماء في قبول توبتهم ويحتمل التفرقة بين إذا ما أتونا تائبين قبل أن يُظهر عليهم وبين إذا ما ظُهر عليهم، كما سبق في تفريق الإمام مالك في قبول توبة الساحر. وذكر ابن رجب رحمه الله أن قبول توبة الزنديق - وهو المنافق إذا أظهر العودة للإسلام - وعدم قتله بمجرد ظهور نفاقه هو قول الشافعي وأحمد في رواية عنه. قال: وحكاه الخطابي عن أكثر العلماء. (جامع العلوم والحكم، ص: 83، آخر شرح الحديث الثامن) وذهب مالك إلى أن توبة الزنديق لا تقبل ويحكى ذلك أيضاً عن أحمد بن حنبل. رحمهما الله تعالى. انظر صحيح مسلم بشرح النووي (1/206) . (2) نسبة إلى مروان بن الحكم، وانظر صحيح مسلم بشرح النووي (6/177-178) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 الْجُمُعَةِ وَغَيْرِهَا، وَسَبِّهِمْ كِبَارَ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمَنَابِرِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ عَلَى اعْتِقَادِ شَرْعِيَّتِهِ بَلْ بِنَوْعِ تَأْوِيلٍ وَشَهَوَاتٍ نَفْسَانِيَّةٍ وأغراض دنيوية. 2- أقسام البدع بحسب ما تقع فيه: أ-البدع في العبادات : وهي قسمان: 1- التَّعَبُّدُ بِمَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ تَعَالَى أَنْ يُعْبَدَ بِهِ الْبَتَّةَ، كَتَعَبُّدِ جَهَلَةِ الصُّوفِيَّةِ بِآلَاتِ اللَّهْوِ وَالرَّقْصِ وَالصَّفْقِ وَالْغِنَاءِ وَأَنْوَاعِ الْمَعَازِفِ وَغَيْرِهَا مما هم فيه مضاهون فعل الذين قال الله فِيهِمْ: {وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مكاء (1) وتصدية (2) / (3) . 2- التَّعَبُّدُ بِمَا أَصْلُهُ مَشْرُوعٌ وَلَكِنْ وُضِعَ فِي غير موضعه، ككشف الرأس مثلاً، فهو فِي الْإِحْرَامِ عِبَادَةٌ مَشْرُوعَةٌ فَإِذَا فَعَلَهُ غَيْرُ الْمُحْرِمِ فِي الصَّوْمِ أَوْ فِي الصَّلَاةِ أَوْ غيرها بنية التعبد كان بدعة محرمة. وَفِي الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ إِذْ هُوَ بَرَجُلٍ قَائِمٍ فَسَأَلَ عَنْهُ فَقَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ وَلَا يَقْعُدُ وَلَا يَسْتَظِلَّ وَلَا يَتَكَلَّمَ وَيَصُومَ، فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: (مُرْهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ) فَأَمَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِتْمَامِ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ مَشْرُوعَةٌ وُضِعَتْ فِي مَحَلِّهَا، وَإِلْغَاءِ قِيَامِهِ وَسُكُوتِهِ لِكَوْنِهِ وَإِنْ كَانَ عِبَادَةً فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ لكن ليس هذا محله وأمره بالاستظلال لأن تركه ليس بعبادة مشروعة. أما عن حكم العبادة التي وقعت فيها البدعة : فقسمان أيضاً: -فقد تكون البدعة الواقعة في العبادة مبطلة لها كمن صلى الرباعية خمساً.   (1) المكاء: الصفير. (2) التصدية: التصفيق. انظر تفسير ابن كثير للآية. (3) الأنفال: 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 -وقد يكون مخالفة مذمومة وَلَا تُبْطِلُ الْعَمَلَ الَّذِي تَقَعُ فِيهِ كَالْوُضُوءِ أَرْبَعًا أَرْبَعًا لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ فِي الْوُضُوءِ الْمَشْرُوعِ: (فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ وَتَعَدَّى وَظَلَمَ (1) ، وَلَمْ يقل فقد بطل وضوؤه، وكذا قراءة القرآن راكعاً وساجداً منهي عنه شرعاً ولا يبطل الصلاة. ب-البدع فِي الْمُعَامَلَاتِ: كَاشْتِرَاطِ مَا لَيْسَ فِي كِتَابِ اللَّهِ وَلَا فِي سُنَّةِ رَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - كما في خطبته - صلى الله عليه وسلم -: (.. أَمَّا بَعْدُ، فَمَا بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَشْتَرِطُونَ شُرُوطًا لَيْسَتْ فِي كِتَابِ اللَّهِ، فَأَيُّمَا شَرْطٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ فَهُوَ بَاطِلٌ (2) ، وَإِنْ كَانَ مِائَةَ شَرْطٍ، فَقَضَاءُ اللَّهِ حَقٌّ، وَشَرْطُ اللَّهِ أَوْثَقُ. مَا بَالُ رِجَالٍ مِنْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ أَعْتِقْ يَا فُلَانُ وَلِي الْوَلَاءُ، إِنَّمَا الْوَلَاءُ لمن أعتق) والحديث فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا.   (1) حديث حسن صحيح رواه النسائي وهذا لفظه، انظر صحيح سنن النسائي (136) ورواه ابن ماجه، انظر صحيح سنن ابن ماجه (339) وروى أبو داود معناه. قال الألباني: وإسناده عندهم جميعاً حسن إلا أن أبا داود زاد لفظة (أو نقص) وهي زيادة منكرة أو شاذة على الأقل. انظر المشكاة (417 ج1 ص131) . (2) وللجمع بين هذا الحديث وحديث (المسلمون على شروطهم) - حديث صحيح، إرواء الغليل (1303) جـ5 ص (144) - ولمعرفة الشروط الباطلة من الشروط الصحيحة المعتبرة، انظر مجموع الفتاوى (ج29ص346-352) ، وأبحاث هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية، بحث: الشرط الجزائي، والذي قرر المجلس بالإجماع صحته مع مراعاة العدل والإنصاف (ج1 ص:99-214) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 الفصل الخامس في وجوب الاحتكام إلى الكتاب والسنة في كل ما وقع فيه من الخلاف فكل مَا فِيهِ الْخِلَافُ بَيْنَ الصَّحَابَةِ فَمَنْ بَعْدَهُمْ يجب رده إلى الكتاب والسنة. -قال تعالى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ والرسول} (1) فالرد إِلَى اللَّهِ تَعَالَى هُوَ الرَّدُّ إِلَى كِتَابِهِ والرد إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو الرد إلى سنته بعد انقطاع الوحي فما وافقها قُبل وما خالفها رد على قائله كائناً من كان. -وقال تَعَالَى لِرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ أرجح الخلائق عقلاً وأولاهم بكل صواب: {لتحكم بين الناس بما أراك الله} (2) الآيات، ولم يقل بما رأيت. وهو - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَقُولُ فِي التَّشْرِيعِ إِلَّا عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِهَذَا لَمْ يُجِبِ الْيَهُودَ فِي سُؤَالِهِمْ إِيَّاهُ عَنِ الرُّوحِ، وَلَا جَابِرًا فِي سُؤَالِهِ عَنْ مِيرَاثِ الكلالة (3) ، ولا المجادلة فِي سُؤَالِهَا عَنْ حُكْمِ الظِّهَارِ (4) حَتَّى نَزَلَ القرآن بتفصيل ذلك وبيانه (5) .   (1) النساء: 59. (2) النساء: 105. (3) وكلا الحديثين في الصحيح كما سبق. (4) انظر الفتح (13/386) . (5) فكان الجواب على سؤال اليهود في سورة الإسراء: آية 85 {يسألونك عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي..} والجواب على سؤال جابر في ميراث الكلالة وبيان المراد بها في سورة النساء، الآية الأخيرة {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إن امرؤ هلك ليس له ولد وله أخت فلها نصف ما ترك وهو يرثها إن لم يكن لها ولد} وكلاهما في الصحيح كما سبق، وكان الجواب على سؤال المجادلة عن حكم الظهار - وهو قول الرجل لامرأته (أنت عليّ كظهر أمي) - في صدر سورة المجادلة، الآيات: [1-4] {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زوجها ... } الآيات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 -وقال علي بن طَالِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ، وَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفِّهِ (1) . وَأَفْتَى عُمَرُ السَّائِلَ الثَّقَفِيَّ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي حَاضَتْ بعد أن زارت البيت يوم النحر ألا تَنْفِرَ، فَقَالَ لَهُ الثَّقَفِيُّ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَفْتَانِي فِي مِثْلِ هذه المرأة بغير ما أفتيت به، فقال عمر إليه يَضْرِبُهُ بِالدِّرَّةِ وَيَقُولُ لَهُ: لِمَ تَسْتَفْتِينِي فِي شَيْءٍ قَدْ أَفْتَى فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ -وَكَانَ ابْنُ مَسْعُودٍ أَفْتَى بِأَشْيَاءَ فَأَخْبَرَهُ بَعْضُ الصَّحَابَةِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِخِلَافِهِ، فَانْطَلَقَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى الَّذِينَ أَفْتَاهُمْ فَأَخْبَرَهُمْ أَنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ. -وقال عمر بن عبد العزيز: لا رأي لِأَحَدٍ مَعَ سُنَّةٍ سَنَّهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى الله عليه وسلم -. -وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: أَجْمَعَ النَّاسُ عَلَى أَنَّ مَنِ اسْتَبَانَتْ لَهُ سُنَّةٌ عَنْ رسول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ لَهُ أن يدعها لقول أحد من الناس. -وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ: إِذَا وَجَدْتُمْ فِي كِتَابِي بخلاف رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقُولُوا بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدَعُوا مَا قُلْتُ. وَفِي لَفْظٍ: فَاضْرِبُوا بِقَوْلِي عرض الحائط.   (1) حديث صحيح. انظر المشكاة بتحقيق الألباني حديث 525 (ج1ص163) وشرح السنة للبغوي بتحقيق الأرناؤوط حديث 239 (ج4 ص464) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 -وسأله رجل عن مسألة فأفتاه وقال النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَذَا، فَقَالَ رجل: أَتَقُولُ بِهَذَا؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ فِي وَسَطِي زُنَّاراً (1) ؟ أَتُرَانِي خَرَجْتُ مِنَ الْكَنِيسَةِ؟ أَقُولُ قَالَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وتقول لي أتقول بِهَذَا؟ أَرْوِي عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا أَقُولُ بِهِ! وَفِي لَفْظٍ: فَارْتَعَدَ الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَاصْفَرَّ لَوْنُهُ وَقَالَ: وَيْحَكَ أَيُّ أَرْضٍ تُقِلُّنِي وَأَيُّ سَمَاءٍ تُظِلُّنِي إِذَا رَوَيْتُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شيئاً لم أقل به. نعم، على الرأس والعين. -وَقَالَ رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى: مَا مِنْ أَحَدٍ إلا وتذهب عليه سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَتَعْزُبُ عَنْهُ، فَمَهْمَا قُلْتُ مِنْ قَوْلٍ وَأَصَّلْتُ، فيه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خِلَافَ مَا قُلْتُ فَالْقَوْلُ مَا قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ قَوْلِي. وجعل يردد هذا الكلام. *** وفيما يلي الأبيات المتعلقة بما سبق : شَرْطُ قُبُولِ السَّعْيِ أَنْ يَجْتَمِعَا ... فِيهِ إِصَابَةٌ وَإِخْلَاصٌ مَعَا لِلَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ لَا سِوَاهُ ... مُوَافِقَ الشَّرْعِ الَّذِي ارْتَضَاهُ وَكُلُّ مَا خَالَفَ لِلْوَحْيَيْنِ ... فَإِنَّهُ رَدٌّ بِغَيْرِ مَيْنِ وَكُلُّ مَا فِيهِ الْخِلَافُ نُصِبَا ... فَرَدُّهُ إِلَيْهِمَا قَدْ وَجَبَا فَالدِّينُ إِنَّمَا أَتَى بِالنَّقْلِ ... لَيْسَ بِالْأَوْهَامِ وَحَدْسِ الْعَقْلِ ثم قال رحمه الله تعالى مختتمًا منظومته: ثُمَّ إِلَى هُنَا قد انتهيت ... وتما مَا بِجَمْعِهِ عُنِيتُ سَمَّيْتُهُ بِسُلَّمِ الْوُصُولِ ... إِلَى سَمَا مَبَاحِثِ الْأُصُولِ   (1) الزُّنَّار والزُّنَّارة: ما على وسط المجوسي والنصراني، وفي التهذيب: ما يلبسه الذمي يشده على وسطه. لسان العرب ص (1871) . الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى انْتِهَائِي ... كَمَا حَمِدْتُ اللَّهَ فِي ابْتِدَائِي أَسْأَلُهُ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ ... جَمِيعِهَا وَالسِّتْرَ لِلْعُيُوبِ ثُمَّ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَبَدَا ... تَغْشَى الرَّسُولَ الْمُصْطَفَى مُحَمَّدَا ثُمَّ جَمِيعَ صَحْبِهِ وَالْآلِ ... السَّادَةِ الْأَئِمَّةِ الْأَبْدَالِ تَدُومُ سَرْمَدًا بِلَا نَفَادِ ... مَا جَرَتِ الْأَقْلَامُ بِالْمِدَادِ ثُمَّ الدُّعَا وَصِيَّةُ الْقُرَّاءِ ... جَمِيعِهِمْ مِنْ غَيْرِ مَا اسْتِثْنَاءِ أَبْيَاتُهَا "يُسْرٌ" بِعَدِّ الْجُمَلِ ... تَأْرِيخُهَا "الْغُفْرَانُ" فَافْهَمْ وَادْعُ لِي (1) • أسئلة : 1- اذكر بعض الأدلة من الكتاب والسنة على وجوب طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم -. 2- اذكر ما تعرفه من الأدلة على تَحْرِيمِ الْقَوْلِ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ وَتَحْرِيمِ الإفتاء في الدين بما يخالف النصوص. 3- بين بالأدلة عِظَمِ إِثْمِ مَنْ أَحْدَثَ فِي الدِّينِ مَا ليس منه. 4- ما معنى البدعة، وما أقسامها من جهة إخلالها بالدين وبالنسبة إلى ما تقع فيه مع الأمثلة، ومع بيان حكم العبادة التي وقعت فيها البدعة؟. *** هذا ما تيسر كتابته فى هذا المختصر والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أَجْمَعِينَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.   (1) قال الشيخ رحمه الله تعالى: (أبياتها) أي عدتها رمزها حُرُوفِ يُسْرٌ وَذَلِكَ مِائَتَانِ وَسَبْعُونَ. (بِعَدِّ الْجُمَّلِ) الحروف الأبجدية المعروفة عند العرب. (تَأْرِيخُهَا) الَّذِي أُلِّفَتْ فِيهِ رَمْزُهُ حُرُوفُ (الْغُفْرَانُ) وَذَلِكَ أَلْفٌ وَثَلَاثُمِائَةٍ وَاثْنَانِ وَسِتُّونَ، أَيْ عَامَئِذٍ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436