الكتاب: الأحكام السلطانية للفراء المؤلف: القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء (المتوفى: 458هـ) صححه وعلق عليه: محمد حامد الفقي الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان الطبعة: الثانية، 1421 هـ - 2000 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   __________ (تنبيه): طُبع الكتاب طبعته الأولى في مطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر (1357هـ 1938م) بتحقيق محمد حامد الفقي ---------- الأحكام السلطانية لأبي يعلى الفراء أبو يعلى ابن الفراء الكتاب: الأحكام السلطانية للفراء المؤلف: القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء (المتوفى: 458هـ) صححه وعلق عليه: محمد حامد الفقي الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان الطبعة: الثانية، 1421 هـ - 2000 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   __________ (تنبيه): طُبع الكتاب طبعته الأولى في مطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر (1357هـ 1938م) بتحقيق محمد حامد الفقي ـ[الأحكام السلطانية للفراء]ـ المؤلف: القاضي أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف ابن الفراء (المتوفى: 458هـ) صححه وعلق عليه: محمد حامد الفقي الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت، لبنان الطبعة: الثانية، 1421 هـ - 2000 م عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   (تنبيه) : طُبع الكتاب طبعته الأولى في مطبعة مصطفى البابي الحلبي - مصر (1357هـ 1938م) بتحقيق محمد حامد الفقي [خطبة المؤلف] بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا خاتم النبيين؛ وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً. قال القاضي الإمام أبو يعلى، محمد بن الحسين بن محمد بن خلف الفراء رضى الله عنه: الحمد لله حق حمده، والصلاة عل نبيه وآله وصحبه وسلم. أما بعد: فإني كنت صنفت كتاب الإمامة، وذكرته في أثناء كتب المعتمد، وشرحت فيه مذاهب المتكلمين وحجاجهم، وأدلتنا، والأجوبة عما ذكروه. وقد رأيت أن أفرد كتاباً في الإمامة، أحذف فيه ما ذكرته هناك مع الخلاف والدلائل، وأزيد فيه فصولا أخر، تتعلق بما يجوز للإمام فعله من الولايات وغيرها، أسأل الله الكريم العون على ذلك، والنفع به إن شاء. فصول في الإمامة نصبة الإمام واجبة وقد قال أحمد - رضي الله عنه - _ في رواية محمد بن عوف بن سفيان الحمصي -: الفتنة إذا لم تكن يقوم بأمر الناس. والوجه فيه: أن الصحابة لما اختلفوا في السقيفة، فقالت الأنصار: منا أمير ومنكم أمير، ودفعهم أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وقالوا: " إن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش " ورووا في ذلك أخباراً، فلولا أن الإمامة واجبة لما ساغت تلك المحاورة والمناظرة عليها، ولقال قائل: ليست بواجبة لا في قريش ولا في غيرهم. وطريق وجوبها السمع لا العقل، لما ذكرناه في غير هذا الموضع، وأن العقل لا يعلم به فرض شيء ولا إباحته، ولا تحليل شيء ولا تحريمه. وهي فرض على الكفاية، مخاطب بها طائفتان من الناس. إحداهما: أهل الاجتهاد حتى يختاروا. والثانية: من يوجد فيه شرائط الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة. أما أهل الاختيار فيعتبر فيهم ثلاث شروط. أحدها: العدالة. وَالثَّانِي: الْعِلْمُ الَّذِي يُتَوَصَّلُ بِهِ إلَى مَعْرِفَةِ من يستحق الإمامة. والثالث: أن يكون من أهل الرأي والتدبير المؤديين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح، وليس لمن كان في بلد مزية على غيره من أهل البلاد يتقدم بها، وإنما صار من يختص ببلد الإمام متولياً لعقد الإمامة لسبق علمه بموته، ولأن من يصلح للخلافة في الغالب موجودون في بلده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 وأما أهل الإمامة فيعتبر فيهم أربع شروط. أحدها: أن يكون قرشياً من الصميم. وهو من يكون من ولد قريش بن بدر بن النضر دليل بني كنانة، وقد قال أحمد في رواية مهنا: " لا يكون من غير قريش خليفة". والثاني: أن يكون عل صفة من يصلح أن يكون قاضياً: من الحرية والبلوغ والعقل، والعلم، والعدالة. والثالث: أن يكون قيماً بأمر الحرب والسياسة وإقامة الحدود، لا تلحقه رأفة في ذلك، والذب عن الأمة. الرابع: أن يكون من أفضلهم في العلم والدين، وقد روي عن الإمام أحمد رحمه الله ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة والعلم والفضل، فقال - في رواية عبدوس بن مالك القطان - " ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً عليه، براً كان أو فاجراً، فهو أمير المؤمنين ". وقال أيضاً في رواية المروزي " فإن كان أميراً يعرف بشرب المسكر والغلول يغزو معه، إنما ذاك له في نفسه، وقد روى عنه في كتاب المحسنة: أنه كان يدعو المعتصم بأمير المؤمنين في غير موضع. وقد دعاه إلى القول بخلق القرآن، وضربه عليه، وكذلك قد كان يدعو المتوكل بأمير المؤمنين، ولم يكن من أهل العلم، ولا كان أفضل وقته وزمانه. وقد روى عنه ما يعارض هذا؛ فقال في رواية حنبل " وأي بلاء كان أكبر من الذي كان أحدث عدو الله وعدو الإسلام: من إماتة السنة؟ " يعني الذي كان أحدث قبل المتوكل فأحيا المتوكل السنة. وقال فيما رأيته على ظهر جزء من كتب أخي رحمه الله " حدثنا أبو الفتح بن منيع قال " سمعت جدي يقول: كان أحمد إذا ذكر المأمون قال: كان لا مأمون". وقال في رواية الأثرم في امرأة لا ولي لها " السلطان" فقيل له: تقول السلطان، ونحن على ما ترى اليوم؟ وذلك في وقت يمتحن فيه القضاة. فقال " أنا لم أقل على ما نرى اليوم، إنما قلت السلطان". وهذا الكلام يقتضي الذم لهم والطعن عليهم، ولا يكون هذا إلا وقد قدح ذلك في ولايتهم، ويمكن أن يحمل ما قاله في رواية عبدوس وغيره، على أنه إذا كان هناك عارض يمنع من نصبة العدل العالم الفاضل وهو أن تكون النفوس قد سكنت إليهم وكلمتهم عليه أجمع، وفي العدول عنهم يكثر الهرج. وإذا وجدت هذه الصفات حالة العقد ثم عدمت بعد العقد نظرت، فإن كان جرحاً في عدالته وهو الفسق؛ فإنه لا يمنع من استدامة الإمامة، سواء كان متعلقاً بأفعال الجوارح، وهو ارتكاب المحظورات، وإقدامه على المنكرات اتباعاً لشهوته، أو كان متعلقاً بالاعتقاد، وهو المتأول لشبهة تعرض يذهب فيها إلى خلاف الحق. وهذا ظاهر كلامه في رواية المروزي في الأمير يشرب المسكر ويغل، يغزي معه، وقد كان يدعو المعتصم بأمير المؤمنين، وقد دعاه إلى القول بخلق القرآن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 وقال حنبل في رواية الواثق: اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبد الله وقالوا" هذا أمر قد تفاقم وفشا - يعنون إظهار الخلق للقرآن - نشارك في أنا لسنا نرضى بإمرته ولا سلطانه. فقال: وعليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يداً من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين" وقال في رواية المروزي وذكر الحسن بن صالح فقال " كان يرى السيف، ولا نرضى بمذهبه". وإن كان الحادث على بدنه. فنظر، فإن كان زوال العقل، نظرت فيه، فإن كان عارضاً مرجواً زواله كالإغماء، فهذا لا يمنع عقدها ولا استدامتها، لأنه مرض قليل اللبث، ولأن النبي - صلى الله عليه وسلم- أغمي عليه في مرضه. وإن كَانَ لَازِمًا لَا يُرْجَى زَوَالُهُ، كَالْجُنُونِ وَالْخَبَلِ. فتنظر، فإن كان مطبقاً لا يتخلله إفاقة، فهذا يمنع الابتداء والاستدامة. وإذا طرأ عليها أبطلها، لأنه يمنع المقصود الذي هو إقامة الحدود واستيفاء الحقوق وحماية المسلمين. وإن كان يتخلله إفاقة يعود فيها إلى حال السلامة نظرت، فإن كان أكثر زمانه الخبل فهو كما لو كان مطبقاً، وإن كان أكثر زمانه الإفاقة فقد قيل: يمنع من عقدها، وهل بمنع مِنْ اسْتِدَامَتِهَا؟ فَقِيلَ: يَمْنَعُ مِنْ اسْتِدَامَتِهَا كَمَا يمنع من ابتدائها، لأن في ذلك إخلالاً بالنظر المستحق فيه: وقد قيل: لا يمنع من استدامتها، وإن منع من عقدها، لِأَنَّهُ يُرَاعِي فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا سَلَامَةً كَامِلَةً، وَفِي الْخُرُوجِ مِنْهَا نَقْصٌ كَامِلٌ. وَأَمَّا ذَهَابُ البصر فيمنع من عقدها واستدامتها، لأنه يبطل القضاء ويمنع مِنْ جَوَازِ الشَّهَادَةِ، فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعُ مِنْ صحة الإمامة. وأما عشي الْعَيْنِ، وَهُوَ أَنْ لَا يُبْصِرَ عِنْدَ دُخُولِ الليل، فلا يمنع من عقدها ولا استدامتها، لأنه مرض في زمانه الدعة يرجى زاله. وَأَمَّا ضَعْفُ الْبَصَرِ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ بِهِ الأشخاص إذا رآها لم يمنع الإمامة، وإن كان يدرك الأشخاص ولا يعرف منع من عقدها واستدامتها. فإن كان أخشم الأنف لا يدرك به شم الروائح، أو فقد الذوق الذي لا يفرق به بين الطعوم لم يؤثر ذلك فِي عَقْدِ الْإِمَامَةِ، لِأَنَّهُمَا يُؤَثِّرَانِ فِي اللَّذَّةِ دون الرأي والعمل. وأما الصمم والخرس فيمنعان ابتداء عقد الإمامة، لأنهما يؤثران في التدبير والعمل كما يؤثر العمى، وأما في الاستدامة فقد قيل: لَا يَخْرُجُ بِهِمَا مِنْ الْإِمَامَةِ لِقِيَامِ الْإِشَارَةِ مقامهما فراعينا في ابتدائها سلامة كاملة وفي الخروج نقصاً كاملاً. وأما تمتمة اللسان وثقل السمع مع إدراك الصوت إذا علا فلا يمنع الابتداء ولا الاستدامة، لأن موسى نبي الله عليه السلام لم يمنعه عقدة لسانه من النبوة، فأولى أن لا يمنع الإمامة. فإن كان مقطوع الذكر والأنثيين لم يمنع من الإمامة ولا من استدامتها، لأن فقد ذلك مؤثر في التناسل دون الرأي والحركة، فجرى مَجْرَى الْعُنَّةِ، وَقَدْ وَصَفَ اللَّهُ تَعَالَى يَحْيَى بن زكريا عليهما السلام، بذلك وأثنى عليه فقال تعالى (وسيداً وحصوراً ونبياً من الصالحين) وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما " أنه لَمْ يَكُنْ لَهُ ذَكَرٌ يَغْشَى بِهِ النِّسَاءَ وكان كالنواة". فَلَمَّا لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ مِنْ النُّبُوَّةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَمْنَعَ مِنْ الْإِمَامَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وَكَذَلِكَ قَطْعُ الْأُذُنَيْنِ لِأَنَّهُمَا لَا يُؤَثِّرَانِ فِي رأي ولا عمل، ولهما ستر خفي يمكن أن يستر فلا يظهر. وأما ذهاب اليدين الذي يمنع العمل، وذهاب الرجلين الذي يذهي البطش فيمنع من ابتداء عقدها ومن استدامتها، لعجزه عما يلزم من حقوق الأمة في عمل أو نهضة. وأما ذهاب إحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ إحْدَى الرِّجْلَيْنِ فَلَا يَصِحُّ مَعَهُ عَقْدُ الْإِمَامَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ كَمَالِ التَّصَرُّفِ ولا يخرج به من الإمامة إذا طرأ عليها، لِأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي عَقْدِهَا كَمَالُ السَّلَامَةِ وَفِي الخروج كمال النقص. فإن كان أجدع الأنف، أو سمل إحدى العينين لم يؤثر في ابتداء العقد ولا في استدامته، لأنه غير مؤثر في الحقوق. وقد قيل: يمنع من عقدها دون الاستدامة، لأنه نقص يزري فتقل به الهيبة، وبقلة الهيبة تقل الطاعة، وهذا يلزم عليه القصور. فإن حجر عليه وقهره مِنْ أَعْوَانِهِ مَنْ يَسْتَبِدُّ بِتَنْفِيذِ الْأُمُورِ مِنْ غير تظاهر بمعصية ولا مجاهرة بمشاقة لم يمنع ذلك من إمامته ولا قدح في ولايته. ثم تنظر فِي أَفْعَالِ مَنْ اسْتَوْلَى عَلَى أُمُورِهِ، فَإِنْ كَانَتْ جَارِيَةً عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ وَمُقْتَضَى الْعَدْلِ جَازَ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا تَنْفِيذًا لَهَا وَإِمْضَاءً لِأَحْكَامِهَا، لئلا يقف من العقود الدِّينِيَّةِ مَا يَعُودُ بِفَسَادٍ عَلَى الْأُمَّةِ، وَإِنْ كَانَتْ أَفْعَالُهُ خَارِجَةً عَنْ حُكْمِ الدِّينِ وَمُقْتَضَى الْعَدْلِ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ عَلَيْهَا، وَلَزِمَهُ أَنْ يستنصر من يقبض يده ويزيل تغلبه. فإن صار مأسوراً في يد عدو ثاهر لا يقدر على الخلاص منه منع ذلك من عَقْدِ الْإِمَامَةِ لَهُ لِعَجْزِهِ عَنْ النَّظَرِ فِي أمور المسلمين، سواء كان العدو مسلماً باغياً أو كافراً. وللأمة فسحة في اختيار من عداه من ذوي القدرة. وقد أومأ أحمد إلى إبطال الإمامة بذلك في رواية أبي الحرث: في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك فيفتتن الناس، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم مع من تكون الجمعة؟ قال " مع من غلب". وظاهر هذا أن الثاني إذا قهر الأول وغلبه زالت إمامة الأول، لأنه قال " الجمعة مع من غلب" فاعتبر الغلبة. وقد وري عنه ما يدل على بقاء إمامته لأنه قال في رواية المروذي، وقد قيل سئل أي شيء الحجة في أن الجمعة تجب في الفتنة؟ فقال: "أمر عثمان لهم أن يصلوا؟ قيل له: فيقولون إن عثمان أمر بذلك. فقال: إنما سألوه بعد أن صلوا". وظاهر هذا أنه لم يخرج عثمان من الإمامة مع القهر لأنه اعتبر إذنه. فإن أسر بعد أن عقدت له الإمامة اسْتِنْقَاذُهُ، لِمَا أَوْجَبَتْهُ الْإِمَامَةُ مِنْ نُصْرَتِهِ، وَهُوَ على إمامته إذا كان يرجى خلاصة ويؤمل فكاكه إما بقتال أو فداء، وإن وقع الإياس منه نظرت فيمن أسره، فإن كان من المشركين خرج من الإمامة واستأنف أهل الاختيار بيعة غيره. فإن عهد بالإمامة في حال أسره، نظرت.فإن كان بعد الإياس من خلاصة لم يصح عهده لأنه لِبَقَاءِ إمَامَتِهِ، وَاسْتَقَرَّتْ إمَامَةُ وَلِيِّ عَهْدِهِ بِالْإِيَاسِ من خلاصة لزوال إمامته، فإن خلص من أسره بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 عهده، نظرت فِي خَلَاصِهِ؛ فَإِنْ كَانَ بَعْدَ الْإِيَاسِ مِنْهُ لَمْ يَعُدْ إلَى إمَامَتِهِ لِخُرُوجِهِ مِنْهَا بِالْإِيَاسِ، وَاسْتَقَرَّتْ فِي وَلِيِّ عَهْدِهِ، وَإِنْ خَلَصَ قَبْلَ الإياس منه فَهُوَ عَلَى إمَامَتِهِ وَيَكُونُ الْعَهْدُ فِي وَلِيِّ العهد ثابتاً. وَإِنْ كَانَ مَأْسُورًا مَعَ بُغَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كان يرجى خلاصه فَهُوَ عَلَى إمَامَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ خَلَاصُهُ نظرت في البغاة؛ فإن كانوا لم ينصبوا لأنفسهم إماماً فالإمام المأسور في أيديهم على إمامتهم، لأن بيعته لازمة لهم، وطاعته عليهم واجبة، فصار كونه معهم مثل كونه مع أهلالعدل إذا صار تَحْتَ الْحَجْرِ. وَعَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ أَنْ يَسْتَنِيبُوا عَنْهُ نَاظِرًا يَخْلُفُهُ إنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الاستنابة، وإن قَدَرَ عَلَيْهَا كَانَ أَحَقَّ بِاخْتِيَارِ مَنْ يَسْتَنِيبُهُ منهم. فإن خلع المأمور نَفْسَهُ أَوْ مَاتَ لَمْ يَصِرْ الْمُسْتَنَابُ إمَامًا، لأنها نيابة عن موجود فزالت بفقده. وخلف ولي العهد، لأنها ولاية بعد مفقود لا تنعقد بوجوده فافترقاه. فإن كان أهل البغي قد نصبوا إماماً لأنفسهم دَخَلُوا فِي بَيْعَتِهِ وَانْقَادُوا لِطَاعَتِهِ، فَالْإِمَامُ الْمَأْسُورُ فِي أَيْدِيهِمْ خَارِجٌ مِنْ الْإِمَامَةِ بِالْإِيَاسِ مِنْ خلاصه، لأنهم قد انحازوا بدار انعزل حُكْمُهَا عَنْ الْجَمَاعَةِ وَخَرَجُوا بِهَا عَنْ الطَّاعَةِ، فلم يبق لأهل العدل بهم نصرة ولا لمأسور مَعَهُمْ قُدْرَةٌ. وَعَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ فِي دَارِ العدل أن يعقدوا الإمامة لمن ارتضوه، فإن تخلص الْمَأْسُورُ لَمْ يَعُدْ إلَى الْإِمَامَةِ لِخُرُوجِهِ مِنْهَا. فإن كان أفضل الجماعة فبايعوه ثم حدث من هو أفضل منه لم يَجُزْ الْعُدُولُ عَنْهُ إلَى مَنْ هُوَ أَفْضَلُ وفي الابتداء لو عدلوا عن الأفضل لغير عذر لم يجز. وإن كان لعذر مِنْ كَوْنِ الْأَفْضَلِ غَائِبًا أَوْ مَرِيضًا أَوْ كان المفضول أطوع في الناس جاز. وَالْإِمَامَةُ تَنْعَقِدُ مِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: بِاخْتِيَارِ أَهْلِ الحل والعقد. وَالثَّانِي: بِعَهْدِ الْإِمَامِ مِنْ قَبْلُ. فَأَمَّا انْعِقَادُهَا باختيار أهل الحل والعقد فلا تنعقد إلا بجمهور أهل الحل والعقد. قال أحمد في رواية إسحاق بن إبراهيم: " الإمام الذي يجتمع [قول أهل الحل والعقد] عليه كلهم". يقول: هذا إمام. وظاهر هذا أنها تنعقد بجماعتهم. وروي عنه ما دل على أنها تثبت بالقهر والغلبة، ولا تفتقر إلى العقد. فقال في رواية عبدوس بن مالك العطار " ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن بالله واليوم الآخر أن يبيت ولا يراه إماماً، براً كان أو فاجراً". وقال أيضاً في رواية أبي الحرث - في الإمام يخرج عليه، من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم ومع هذا قوم - " تكون الجمعة مع من غلب". واحتج بأن ابن عمر صلى بأهل المدينة في زمن الحرة. وقال " نحن مع من غلب". وجه الرواية الأولى: أنه لما اختلف المهاجرون والأنصار، فقالت الأنصار: " منا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 أميرومنكم أمير" حاجهم عمر وقال لأبي بكر رضي الله عنهما " مد يدك أبايعك " فلم يعتبر الغلبة واعتبر العقد مع وجود الاختلاف. ووجه الثانية: ما ذكره أحمد عن ابن عمر، وقوله " نحن مع من غلب" ولأنها لو كانت تقف على عقد لصح رفعه وفسخه بقولهم وقوله كالبيع وغيره من العقود، ولما ثبت أنه لو عزل نفسه أو عزلوه لم ينعزل دل على أنه لا يفتقر إلى عقد. وإنما اعتبر فيها قول جماعة أهل الحل والعقد أنه الإمام لأنه يجب الرجوع إليه، ولا يسوغ خلافه والعدول عنه كالإجماع. ثم ثبت أن الإجماع يعتبر في انعقاده جميع أهل الحل والعقد، كذلك عقد الإمامة. فإن توقفوا أثموا، عقد لا يتم إلا بعاقد كالقضاة لا يصير قاضياً حتى يولى، ولا يصير قاضياً وإن وجدت صفته، كذلك الإمامة. وإذا جمع أهل الحل والعقد على الاختيار تصفحوا أحوال أهل الإمامة الموجود فِيهِمْ شُرُوطُهَا فَقَدَّمُوا لِلْبَيْعَةِ مِنْهُمْ أَكْثَرَهُمْ فَضْلًا، وأكملهم شروطاً. فَإِذَا تَعَيَّنَ لَهُمْ مِنْ بَيْنِ الْجَمَاعَةِ مَنْ أداهم الاجتهاد إلى اختياره وعرضوها عَلَيْهِ, فَإِنْ أَجَابَ إلَيْهَا بَايَعُوهُ عَلَيْهَا، وَانْعَقَدَتْ له الإمامة ببيعتهم، ولزم كَافَّةَ الْأُمَّةِ الدُّخُولُ فِي بَيْعَتِهِ وَالِانْقِيَادُ لِطَاعَتِهِ. وَإِنْ امْتَنَعَ مِنْ الْإِمَامَةِ وَلَمْ يُجِبْ إلَيْهَا لم يجبر عليها وعدل إلى من سواه من مستحقيها فبويع عليها. فإن امتنع الجميع من الدخول فيها فهل يأثمون بذلك؟ وهل يتعين عليهم. قال في رواية المروذي: " لابد للمسلمين من حاكم، أتذهب حقوق الناس؟ وقال في رواية محمد بن موسى - في الشاهد يأبى أن يشهد أيأثم؟ - قال." إذا كان يضر بأهل القرية ومثله يحتاج إليه فلا يفعل". وظاهر كلامه: أنه جعل القضاء والشهادة من فروض الكفايات، مع ما قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم- في ذم القضاء، فأولى أن تكون الإمامة الكبرى كذلك، إذ ليس طلبها ولا الدخول فيها مكروها. وقد تنازعها أَهْلُ الشُّورَى، فَمَا رُدَّ عَنْهَا طَالِبٌ وَلَا منع منها راغب. ولأن بالناس حاجة إلى ذلك لحماية البيضة، والذب عن الحوزة، وإقامة الحدود، واستيفاء الحقوق، فجرى مجرى حاجتهم إلى غسل الموتى وحملهم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فإن تكافأ في شروط الإمامة اثنان قدم أسنهما، وإن لم يكن ذلك شرطاً، فإن بويع أصغرهما جاز. فإن كان أحدهما أعلم والآخر أشجع نظرت، فَإِنْ كَانَتْ الْحَاجَةُ إلَى فَضْلِ الشَّجَاعَةِ أَدْعَى لِانْتِشَارِ الثُّغُورِ وَظُهُورِ الْبُغَاةِ كَانَ الْأَشْجَعُ أَحَقَّ، وإن كانت الحاجة إلى فضل العلم لِسُكُونِ الدَّهْمَاءِ وَظُهُورِ أَهْلِ الْبِدَعِ كَانَ الْأَعْلَمُ أَحَقَّ. فَإِنْ وَقَفَ الِاخْتِيَارُ عَلَى وَاحِدٍ مِنْ اثنين فتنازعاها لم يكن ذلك قدحاً يمنعهما منها. لما بينا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 طلبها غير مكروه، لأنه قد تنازعها أهل الشورى. وبماذا نقطع تنازعهما مع تكافؤ أحوالهما؟ فقياس قول أحمد رحمه الله: أنه يقرع بينهما فيبايع من قرع منهما، لأنه قال في رواية عبد الله - في مسجد فيه رجلان تداعيا الأذان فيه "يقرع بينهما" واحتج بقول سعد. ولفظ الحديث ما رواه العكبري بإسناده عن ابن شبرمة " أن الناس تشاحوا في الأذان يوم القادسية، فأقرع بينهم سعد" وبإسناده عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى الله عليه وسلم- قال " لو يعلم الناس ما في النداء والصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه استهموا". وصفة العقد: أن يقال "بايعناك على بيعة رضى، على إقامة العدل، والإنصاف، والقيام بفروض الإمامة" ولا يحتاج مع ذلك صفقة اليد. ولا يجوز عقد الإمامة لإمامين في بلدين في حالة واحدة. فإن عقدت لاثنين وجدت فيهما الشرائط نظرت، فإن كانا في عقد واحد فالعقد باطل فيهما، وإن كان العقد لكل واحد منهما على الانفراد نظرت، فإن علم السابق منهما بطل العقد الثاني، وإن جهل منالسابق منهما يخرج علىالروايتين، إحداهما: بطلان العقد فيهما، والثانية: استعمال القرعة، بناء على ما إذا زوج الوليان وجهل السابق منهما، فهو على روايتين، كذلك هاهنا. ويجوز للإمام أن يعهد إلى إمام بعده، ولا يحتاج في ذلك إلى شهادة أهل الحل والعقد وذلك لأن أبا بكر عهد إلى عمر رضي الله عنهما، وعمر عهد إلى ستة من الصحابة رضي الله عنهم، ولم يعتبرا في حال العهد شهادة أهل الحل والعقد، ولأن عهده إلى غيره ليس بعقد للإمامة، بدليل أنه لو كان عقداً لها لأفضى ذلك إلى اجتماع إمامين في عصر واحد، وهذا غير جائز، وإذا لم يكن عقداً لم يعتبر حضورهم، وكان معتبراً بعد موت الإمام العاقد. وإذا عهد إلى رجل كان له أن يعزله قبل موته، لما بينا أن إمامة المعهود إليه غير ثابتة مادام العاهد باقياً إماماً، وإذا لم تكن ثابتة كان له أن يخرجه من ذلك، كما أن الموصي له أن يخرج الوصي، لأن الوصية غير ثابتة مادام حياً. ويجوز أن يعهد إلى من ينتسب إليه بأبوة أو بنوة، إذا كان المعهود له على صفات الأئمة، لأن الإمامة لا تنعقد للمعهود إليه بنفس العهد، وإنما تنعقد بعهد المسلمين، والتهمة تنتفى عنه. ويعتبر قبول المعهود إليه، ويكون ذلك بعد موت المولى، لأن إمامته في تلك الحال تنعقد ويعتبر في المعهود إليه شروط الإمامة العهد إليه، واستدامتها إلى ما بعد موت المولي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 فإن كان صغيراً وقت العهد لم يصح، لأنها وإن كانت تلزم بعد موت العاقد فلا تمنع اعتبارها وقت العقد، كما قلنا في الوصى، يعتبر فيه شرائط الموصى وقت العقد، وإن كانت تلزم بالموت فإن عهد إلى غائب معلوم الحياة صح، وكان موقوفاً على قدومه. فإن مات المولى وبعدت عيبته واستضر المسلمون بتأخير نظره استتاب أهل الاختيار نائباً يبايعونه بالنيابة دون الخلافة فإذا قدم الغائب انعزل النائب. وإذا خلع الخليفة نفسه، إما بطريان عذر، أو قلنا له أن يخلع نفسه، انتقلت الولاية، إلَى وَلِيِّ عَهْدِهِ، وَقَامَ خَلْعُهُ مَقَامَ مَوْتِهِ. ولو عهد الخليفة إلى اثنين فأكثر، ولم يقدم أحدهما على الآخر، واختار أهل الاختيار أحدهما بعد موته جاز. والأصل فيه أهل الشورى، وَلَيْسَ لِأَهْلِ الِاخْتِيَارِ - إذَا جَعَلَهَا الْإِمَامُ شُورَى فِي عَدَدٍ - أَنْ يَخْتَارُوا أَحَدَهُمْ فِي حَيَاةِ المستخلف العاهد، إلا أن يأذن لهم، لأنه بالإمامة أحق. فَإِنْ خَافُوا انْتِشَارَ الْأَمْرِ بَعْدَ مَوْتِهِ اسْتَأْذَنُوهُ، فإن صار إلى حال الإياس نظرت". فإن زال عنه أمره وعزل عن رأيه فهو كحاله بعد موته في جواز الاختيار. وهل يجوز لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يَنُصَّ عَلَى أَهْلِ الِاخْتِيَارِ، كَمَا ينص على أهل العهد؟ فقد قيل: يجوز، لأنها من حقوق خلافته. وقياس مذهبنا أنه لا يجوز لوجهين. أحدهما: أنها تقف على اختيار جميع أهل الحل والعقد. والثاني: أن إمامة المعهود إليه تنعقد بعد موته باختيار أهل الوقت. فإن قال: قد عهدت الأمر إلى فلان، فإن فلان مات قبل موتى أو تغيرت حاله فالإمام بعده فلان - وذكر آخر - جاز ذلك، وكان هذا عهداً إليه بالشرط. فإن بقي الأول إلى وفاة العاهد سليماً كان هو الإمام دون الثاني، وإن مات قبل موت الإمام أو تغيرت حاله بأحد ثلاثة أشياء كان الثاني هو الإمام المعهود إليه. وكذلك إن قال: فإن مات الثاني أو تغيرت حاله فالخليفة فلان صح، وكان ذلك على الترتيب. والأصل فيه ما رواه الدارقطني في الإفراد بإسناده قال لما وجه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- القوم إلى مؤتة قال: عليكم زيد بن حارثة، فإن أصيب زيد فجعفر، فإن أصيب جعفر فعبد الله بن رواحة " وروى سيف بإسناده قال: " لما أنفذ عمر - رضي الله عنه - بالجيش إلى نهاوند قال: قد أمرت حذيفة بن اليمان حتى ينتهي إلى النعمان بن مقرن، وقد كتبت إلى النعمان: إن حدث بك حدث فعلى الناس حذيفة، وإن حدث بحذيفة حدث فعلى الناس نعيم بن مقرن". وذكر أيضاً أن أبا عبيد عهد إلى الناس فقال " إن قتلت فعلى الناس جبر، فإن قتل فعليكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 فلان، فإن قتل فعليكم المرقال". وذلك في يوم الجسر. فإن عهد إلى رجل ثم قال: فإن مات المعهود إليه بعد نظره وإفضاء الخلافة إليه فالإمام بعده فلان، أخذ بذكره، فإن ذكره وعهد إليه أولا هو الإمام بعده، وإذا مات المعهود إليه أو انعزل بحدوث معنى لم يكن للذي بعده ولاية ولا عهد. لأن الأمر صار لمن جعله ولي عهده بعده فإذا صار إماماً حصل التصرف والنظر إليه والاختيار إليه، وكان العهد إليه فيمن يراه. ويفارق هذا الفصل الذي قبله؛ لأنه جعل العهد إلى غيره عند موته وتغير صفاته في الحالة التي لم يثبت للمعهود إليه إمامة، بل كاننت إمامة الأول باقية، فلهذا صح عهده إلى من يراه. ولا يجب على كافة الناس معرفة الإمام بعينه واسمه، إلا من هو من أهل الاختيار الذين تقوم بهم الحجة وتنعقد بهم الخلافة. ويجوز أن يسمي خليفة لمن عقد له الأمر، ويسمي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِأَنَّهُ خَلَفَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- في أمته. وهل يجوز أن يقال: خليفة الله تعالى؟ فقد قيل يجوز، لقيامه بحقوقه في خلقه، ولقوله تعالى (هو الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بعض درجات) وقيل لا يجوز، لأنه إنما يستخلف من يغيب أو يموت، والله تعالى لا يغيب ولا يموت. وقيل لأبي بكر: يا خليفة الله. فقال: " لست خليفة اللَّهِ وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- ". ويلزم الإمام من أمور الأمة عشرة أشياء: أحدها: حفظ الدين على الأصول التي أجمع عليها سلف الأمة. فإن زاغ ذو شبهة عنه بين له الحجة وأوضح لَهُ الصَّوَابَ، وَأَخَذَهُ بِمَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ، لِيَكُونَ الدِّينُ مَحْرُوسًا مِنْ خَلَلٍ وَالْأُمَّةُ ممنوعة من الزلل. الثَّانِي: تَنْفِيذُ الْأَحْكَامِ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرِينَ، وَقَطْعُ الْخِصَامِ بينهم، حتى تظهر النَّصَفَةُ، فَلَا يَتَعَدَّى ظَالِمٌ وَلَا يَضْعُفُ مَظْلُومٌ. الثالث: حماية البيضة والذب عن الحوزة لِيَتَصَرَّفَ النَّاسُ فِي الْمَعَايِشِ وَيَنْتَشِرُوا فِي الْأَسْفَارِ آمنين. الرابع: إقَامَةُ الْحُدُودِ لِتُصَانَ مَحَارِمُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ الِانْتِهَاكِ، وَتُحْفَظَ حُقُوقُ عِبَادِهِ مِنْ إتْلَافٍ وَاسْتِهْلَاكٍ. الخامس: تَحْصِينُ الثُّغُورِ بِالْعُدَّةِ الْمَانِعَةِ وَالْقُوَّةِ الدَّافِعَةِ، حَتَّى لا تظفر الأعداء بغرة ينتهكون بها محرماً ويسفكون فيها دماً لمسلم أو معاهد. السادس: جِهَادُ مَنْ عَانَدَ الْإِسْلَامَ بَعْدَ الدَّعْوَةِ حَتَّى يسلم أو يدخل في الذمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 السابع: جِبَايَةُ الْفَيْءِ وَالصَّدَقَاتِ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ الشَّرْعُ نصاً واجتهاداً مع غير عسف. الثامن: تقدير العطاء وَمَا يَسْتَحِقُّ فِي بَيْتِ الْمَالِ مِنْ غَيْرِ سرف ولا تقصير فيه، وَدَفْعُهُ فِي وَقْتٍ لَا تَقْدِيمَ فِيهِ وَلَا تَأْخِيرَ. التَّاسِعُ: اسْتِكْفَاءُ الْأُمَنَاءِ وَتَقْلِيدُ النُّصَحَاءِ فِيمَا يفوضه إلَيْهِمْ مِنْ الْأَعْمَالِ وَيَكِلُهُ إلَيْهِمْ مِنْ الْأَمْوَالِ لا تقديم فيه ولا تأخير. الْعَاشِرُ: أَنْ يُبَاشِرَ بِنَفْسِهِ مُشَارَفَةَ الْأُمُورِ وَتَصَفُّحَ الأحوال ليهتم بِسِيَاسَةِ الْأُمَّةِ وَحِرَاسَةِ الْمِلَّةِ، وَلَا يُعَوِّلُ عَلَى التَّفْوِيضِ تَشَاغُلًا بِلَذَّةٍ أَوْ عِبَادَةٍ، فَقَدْ يَخُونُ الْأَمِينُ وَيَغُشُّ النَّاصِحُ. وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (يَا دَاوُد إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فاحكم بين الناس بالحق لا تتبع الهوى) فلم يقتصر سبحانه على التفويض دون المباشرة. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- "كلكم راعٍ وكلكم مسئول عن رعيته". وإذا قام الإمام بحقوق الأمة وجب له عليهم: الطاعة، والنصرة، مالم يوجد من جهته ما يخرج به عن الإمامة، والذي يخرج به عن الإمامة شيئان. الجرح في عدالته، والنقص في ذلك بما يقتضي صحة الإمامة، وتأولناه على أن هناك عذراً يمنع من اعتبار العدالة حالة العقد، كما كان العذر مؤثراً في الفاضل. فصل في ولايات الإمام وما يصدر عن الإمام من ولايات خلفائه أربعة أقسام: أحدها: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ عَامَّةً فِي الْأَعْمَالِ الْعَامَّةِ، وهم الوزراء لأنهم مستنابون في جميع النظرات من غير تخصيص. الثَّانِي: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ عَامَّةً فِي أَعْمَالٍ خاصة. وهم الأمراء للأقاليم وَالْبُلْدَانِ. لِأَنَّ النَّظَرَ فِيمَا خُصُّوا بِهِ مِنْ الأعمال عام في جميع الأمور. الثَّالِثُ: مَنْ تَكُونُ وِلَايَتُهُ خَاصَّةً فِي الْأَعْمَالِ العامة، وهم مثل قاضي الْقُضَاةِ وَنَقِيبِ الْجُيُوشِ وَحَامِي الثُّغُورِ، وَمُسْتَوْفِي الْخَرَاجِ، وَجَابِي الصَّدَقَاتِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَقْصُورٌ على نظر خاص في جميع الأعمال. الرابع: من تكون ولايته خاصة في أعمال خاصة. وهم مثل قاضي بَلَدٍ، أَوْ إقْلِيمٍ، أَوْ مُسْتَوْفِي خَرَاجِهِ، أَوْ جابي صدقاته، أو حامي يغره، أو نقيب جنده؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خَاصُّ النَّظَرِ مَخْصُوصُ الْعَمَلِ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ الْوُلَاةِ شُرُوطٌ تنعقد بها ولايته ويصح نظره نذكرها في مواضعها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 أما تقليد الوزارة فجائز، لما حكاه الله تعالى عن نبيه موسى عليه السلام (واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري) وإذا جَازَ ذَلِكَ فِي النُّبُوَّةِ كَانَ فِي الْإِمَامَةِ أجوز، لأن مَا وُكِّلَ إلَى الْإِمَامِ مِنْ تَدْبِيرِ الْأُمَّةِ لا يقدر على مباشرة جميعه إلا بالاستنابة، نيابة الوزير المشارك فِي التَّدْبِيرِ أَصَحُّ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ مِنْ تفرده بها ليستظهر به على نفسه، وليكون أبعد من الزلل، وأمنع من الخلل. فأما اشتقاق الوزارة، فقييل أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوِزْرِ، وَهُوَ الثِّقَلُ لِأَنَّهُ يتحمل عن الملك أثقاله، وقيل أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْوَزَرِ، وَهُوَ الْمَلْجَأُ. وَمِنْهُ قوله تعالى (كلا لا وزر) أَيْ لَا مَلْجَأَ فَسُمِّيَ بِذَلِكَ لِأَنَّ الْمَلِكَ يلجأ إلى رأيه ومعونته. وقيل: أَنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْأَزْرِ، وَهُوَ الظَّهْرُ، لِأَنَّ الملك يقوى بتوزيره كقوة البدن بالظهر. والوزارة عل ضربين: وزارة تفويض، ووزارة تنفيذ. أما وزارة التفويض فهي أَنْ يَسْتَوْزِرَ الْإِمَامُ مَنْ يُفَوِّضُ إلَيْهِ تَدْبِيرَ الأمور برأيه، وإمضاءها على اجتهاده، فيعتبر في تقليد هذه الوزارة شُرُوطِ الْإِمَامَةِ. وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِفَايَةِ فِيمَا وُكِّلَ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ الْحَرْبِ والخراج خبيراً بهما "فإنه مباشر لهما تارة بنفسه، وتارة يستنب فيهما ولا يَصِلُ إلَى اسْتِنَابَةِ الْكُفَاةِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ منهم، كما لايقدر على المباشرة إذا اقصر عنهم. ويفتقر تقليده لفظ الخليفة، لِأَنَّهَا وِلَايَةٌ تَفْتَقِرُ إلَى عَقْدٍ، وَالْعُقُودُ لَا تصح إلا بالقول، فإن وقع له بالنظر أو أذن له فيه، فقياس المذهب: أنه يصح التقليد بناء على إيقاع الطلاق بالكتابة. وتشتمل الوزارة على لفظين. أحهما: عموم النظر. والثاني: النيابة. فإن اقتصر به على عموم النظر دون النيابة لم تنعقد به الوزارة، وإن اقتصر به على النيابة لم تنعقد أيضاً. فإذا جمع بينهما انعقدت. والجمع بينهما أن يقول" قَلَّدْتُكَ مَا إلَيَّ نِيَابَةً عَنِّي " فَتَنْعَقِدُ بِهِ الوزارة لأنه جمع بين عموم النظر والاستنابة، فإن قال " نُبْ عَنِّي فِيمَا إلَيَّ" احْتَمَلَ أَنْ تَنْعَقِدَ الْوَزَارَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ عُمُومِ النَّظَرِ وَالِاسْتِنَابَةِ. وَاحْتَمَلَ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ بِهِ الْوَزَارَةُ، لأنه إذن يحتاج أَنْ يَتَقَدَّمَهُ عَقْدٌ. وَالْإِذْنُ فِي أَحْكَامِ الْعُقُودِ لا تصح به العقود. فإن قَالَ: "قَدْ اسْتَنَبْتُكَ فِيمَا إلَيَّ" انْعَقَدَتْ بِهِ الْوَزَارَةُ لِأَنَّهُ عَدَلَ عَنْ مُجَرَّدِ الْإِذْنِ إلَى ألفاظ العقود. فإن قَالَ " اُنْظُرْ فِيمَا إلَيَّ" لَمْ تَنْعَقِدْ بِهِ الْوَزَارَةُ، لِاحْتِمَالِهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي تَصَفُّحِهِ أَوْ فِي تَنْفِيذِهِ أَوْ فِي الْقِيَامِ بِهِ، وَالْعَقْدُ لا يلتزم بلفظ محتمل. فإن قال " قد استوزرتك تعويلاً على نيابتك" انعقدت الْوَزَارَةُ، لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ عُمُومِ النَّظَرِ فيما جعل إلَيْهِ بِقَوْلِهِ" اسْتَوْزَرْتُكَ" لِأَنَّ نَظَرَ الْوَزَارَةِ عَامٌّ، وتثبت النيابة بقوله " تعويلاً على نيابتك" وخرجت عن وزارة التقليد إلى وزارة التفويض، فإن قال: " فوضت إليك وزارتي" ويحتمل أن لا تنعقد به هـ ... ذه الْوَزَارَةُ، لِأَنَّ ذِكْرَ التَّفْوِيضِ فِيهَا يُخْرِجُهَا عَنْ وزارة التنفيذ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا تَنْعَقِدَ، لِأَنَّ التَّفْوِيضَ مِنْ أحكام هذه الوزارة فافتقر إلى عقد ينفذ به، والأول أشبه فَعَلَى هَذَا لَوْ قَالَ " قَدْ فَوَّضْنَا إلَيْكَ الوزارة" صح؛ لأن ولاة الأمور يكتبون أنفسهم بلفظ الجمع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 ويعظمونها عَنْ إضَافَةِ الشَّيْءِ إلَيْهِمْ فَيُرْسِلُونَهُ، فَيَقُومُ قَوْلُهُ" فوضنا إليك" مقام قوله " فوضت" وقوله " الوزارة " مقام قوله" وزارتي" فإن قال " قد قلدتك وزارتي" أو قال " قد قلدتك والوزارة" لَمْ يَصِرْ بِهَذَا الْقَوْلِ مِنْ وُزَرَاءِ التَّفْوِيضِ حتى يبيبه بِمَا يَسْتَحِقُّ بِهِ التَّفْوِيضَ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يقول فيما حكاه عن موسى (واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري) فَلَمْ يَقْتَصِرْ عَلَى مُجَرَّدِ الْوَزَارَةِ حَتَّى قَرَنَهَا بشد أزره وإشراكه في أمره. وعلى الوزير وزارة التفويض مطالعة الإمام بما أَمْضَاهُ مِنْ تَدْبِيرٍ وَأَنْفَذَهُ مِنْ وِلَايَةٍ وَتَقْلِيدٍ، لئلا يصير بالاستبداد كالإمام. وعلى الإمام أَنْ يَتَصَفَّحَ أَفْعَالَ الْوَزِيرِ وَتَدْبِيرَهُ الْأُمُورَ لِيُقِرَّ مِنْهَا مَا وَافَقَ الصَّوَابَ وَيَسْتَدْرِكَ مَا خَالَفَهُ. لأن تدبير الأمة، وكول إليه وإلى اجتهاده وَيَجُوزُ لِهَذَا الْوَزِيرِ أَنْ يَحْكُمَ بِنَفْسِهِ وَأَنْ يقلد الحكم كَمَا يَجُوزُ ذَلِكَ لِلْإِمَامِ، لِأَنَّ شُرُوطَ الْحُكْمِ فِيهِ مُعْتَبَرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْمَظَالِمِ ويستنيب في تنفيذها لأن شروط الجهاد فِيهِ مُعْتَبَرَةٌ. وَيَجُوزُ أَنْ يُبَاشِرَ تَنْفِيذَ الْأُمُورِ الَّتِي دَبَّرَهَا وَأَنْ يَسْتَنِيبَ فِي تَنْفِيذِهَا لِأَنَّ الرَّأْيِ وَالتَّدْبِيرِ فِيهِ مُعْتَبَرَةٌ. وَكُلُّ مَا صَحَّ من الإمام صح من هذا الْوَزِيرِ، إلَّا ثَلَاثَةَ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: وِلَايَةُ الْعَهْدِ. فَإِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْهَدَ إلَى مَنْ يَرَى، وليس ذلك للوزير. والثاني: أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَعْفِيَ الْأُمَّةَ مِنْ الْإِمَامَةِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِلْوَزِيرِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ قَلَّدَهُ الْوَزِيرُ وَلَيْسَ لِلْوَزِيرِ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ قَلَّدَهُ الْإِمَامُ وَمَا سِوَى هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَحُكْمُ التَّفْوِيضِ إلَيْهِ يَقْتَضِي جَوَازَ فِعْلِهِ وَصِحَّةِ نُفُوذِهِ مِنْهُ. فَإِنْ عَارَضَهُ الْإِمَامُ فِي رَدِّ مَا أَمْضَاهُ، فَإِنْ كَانَ فِي حُكْمٍ نفذ على وجهه، وفي مَالٍ وُضِعَ فِي حَقِّهِ، لَمْ يَجُزْ نَقْضُ ما نفذ باجتهاده. وإن كَانَ فِي تَقْلِيدِ والٍ، أَوْ تَجْهِيزِ جَيْشٍ، أو تدبير جرب جاز للإمام معارضته فيه بعذل المولى والعدول بالجيش إلى حيث يرى، وتدبيره الْحَرْبِ بِمَا هُوَ أَوْلَى لِأَنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يستدرك ذلك من أفعال نفسه، فأولى أن يستدركها من أفعال وزيره. وفارق هذا ما كان من حكم نفذه، أو مال وضعه في حقه، لأنه لما لم يكن لِلْإِمَامِ أَنْ يَسْتَدْرِكَ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِ نَفْسِهِ فكذلك من أفعال وزيره. فإن قَلَّدَ الْإِمَامُ وَالِيًا عَلَى عَمَلٍ، وَقَلَّدَ الْوَزِيرُ غَيْرَهُ عَلَى ذَلِكَ الْعَمَلِ، نُظِرَ فِي أَسْبَقِهِمَا بالتقليد، فإن كان الإمام أسبق تقليداً من الوزير فتقليده أثبت، وَإِنْ كَانَ تَقْلِيدُ الْوَزِيرِ أَسْبَقَ فَإِنْ عَلِمَ الْإِمَامُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْلِيدِ الْوَزِيرِ كَانَ في تقليد الإمام عزل للأول واستئناف تقليد للثاني فَصَحَّ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ الْإِمَامُ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَقْلِيدِ الْوَزِيرِ فَتَقْلِيدُ الوزير أثبت. فتصح ولاية الأول دون ولاية الثَّانِي، لِأَنَّ تَقْلِيدَ الثَّانِي مَعَ الْجَهْلِ بِتَقْلِيدِ الأول لا يكون عزلا، وإنما يكون عزلا لو علم بحالة فيصير بالقول معزولاً، لا بتقليد غيره. فإن كَانَ النَّظَرُ مِمَّا يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ صَحَّ تقليدهما وكانا مشتركين في النظر. وإن كَانَ مِمَّا لَا يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ كَانَ تَقْلِيدُهُمَا مَوْقُوفًا عَلَى عَزْلِ أَحَدِهِمَا وَإِقْرَارِ الْآخَرِ. فَإِنْ تَوَلَّى ذَلِكَ الْإِمَامُ جَازَ أَنْ يَعْزِلَ أَيَّهُمَا شَاءَ وَيُقِرَّ الْآخَرَ وَإِنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 تَوَلَّاهُ الْوَزِيرُ جَازَ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ اخْتَصَّ بِتَقْلِيدِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْزِلَ مَنْ قَلَّدَهُ الإمام. فهذا حكم وزارة التفويض. وَأَمَّا وَزَارَةُ التَّنْفِيذِ فَحُكْمُهَا أَضْعَفُ، وَشُرُوطُهَا أَقَلُّ، لِأَنَّ النَّظَرَ فِيهَا مَقْصُورٌ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وتدبيره، وهذا الوزير وسيط بَيْنَهُ وَبَيْنَ الرَّعَايَا وَالْوُلَاةِ، يُؤَدِّي عَنْهُ مَا أمر، وينفذ مَا ذَكَرَ، وَيُمْضِي مَا حَكَمَ، وَيُخْبِرُ بِتَقْلِيدِ الولاة، وتجهيز الجيش والحماة، ويعرض عليه ما ورد منهم وتجدد من حدث ملمّ ليعمل فيه بما يُؤْمَرُ بِهِ، فَهُوَ مُعِينٌ فِي تَنْفِيذِ الْأُمُورِ وليس بوال عليها ولا متقلد لَهَا. فَإِنْ شُورِكَ فِي الرَّأْيِ كَانَ بِاسْمِ الوزارة أخص، وإن لم يشترك فيه كان باسم الوساطة والسفارة أشبه. ولا تَفْتَقِرُ هَذِهِ الْوَزَارَةُ إلَى تَقْلِيدٍ، وَإِنَّمَا يُرَاعَى فيها مجرد الإذن ومطلق الاسم. ولا يعتبر فِي الْمُؤَهَّلِ لَهَا الْحُرِّيَّةُ وَلَا الْعِلْمُ، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِوِلَايَةٍ وَلَا تَقْلِيدٍ فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْحُرِّيَّةُ، وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ فَيُعْتَبَرُ فِيهِ الْعِلْمُ، وَإِنَّمَا هُوَ مَقْصُورُ النظر علىأمرين: أن يؤدي إلى الخليفة وأن يُؤَدِّيَ عَنْهُ، فَيُرَاعِي فِيهِ سَبْعَةَ أَوْصَافٍ: أَحَدُهَا: الأمانة حتى لا يخون فيما ائتمن فيه. الثاني: صدق اللهجة حتى يوثف بِخَبَرِهِ فِيمَا يُؤَدِّيهِ وَيُعْمَلَ عَلَى قَوْلِهِ فِيمَا ينهيه. الثالث: قلة الطمع حتى لا يرتشى فيمايل، ولا ينخدع فيتساهل. الرابع: أَنْ يَسْلَمَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ مِنْ عداورة وشحناء، لأن الْعَدَاوَةَ تَصُدُّ عَنْ التَّنَاصُفِ وَتَمْنَعُ مِنْ التَّعَاطُفِ. الخامس: أَنْ يَكُونَ ذُكُورًا لِمَا يُؤَدِّيهِ إلَى الْخَلِيفَةِ وعنه لأنه شاهد له وعليه. السادس: الذكاء والفطنة، حتى لا تلدس عَلَيْهِ الْأُمُورُ فَتَشْتَبِهَ، وَلَا تُمَوَّهَ عَلَيْهِ فَتَلْتَبِسَ فلا يصح مع اشتباهها عزم، ولايتم مع التباسها حزم. السابع: أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، فَيُخْرِجُهُ الهوى عن الحق إلى الباطل، ويتدلس عليه المحق المبطل، فإن الهوى خادرع الألباب، وضارف عن الصواب، وقد روى بعضهم عن النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- " حُبُّكَ الشَّيْءَ يعمي ويصم". فإن كان هذ الْوَزِيرُ مُشَارِكًا فِي الرَّأْيِ احْتَاجَ إلَى وَصْفٍ ثَامِنٍ وَهُوَ الْحِنْكَةُ وَالتَّجْرِبَةُ الَّتِي تُؤَدِّيهِ إلَى صِحَّةِ الرَّأْيِ وَصَوَابِ التَّدْبِيرِ. فَإِنَّ فِي التَّجَارِبِ خبرة لعواقب الْأُمُورِ. وَإِنْ لَمْ يُشَارَكْ فِي الرَّأْيِ لَمْ يحتج إلى هذا الوصف. ولا يجوز أن يقوم بِذَلِكَ امْرَأَةٌ، وَإِنْ كَانَ خَبَرُهَا مَقْبُولًا، لِمَا تضمنه من معاني الولايات المصروفة عن النساء. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- " مَا أَفْلَحَ قَوْمٌ أَسْنَدُوا أَمْرَهُمْ إلَى امْرَأَةٍ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 ولأن فيها طلب الرأي وثبات العزم وما يضعف عنه النساء، والبروز في مباشرة الأمور مما هو عليهن محظور. وقد قيل: إنه يجوز أَنْ يَكُونَ هَذَا الْوَزِيرُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وإن لم يكن وزير التفويض منهم، إلَّا أَنْ يَسْتَطِيلُوا فَيَكُونُوا مَمْنُوعِينَ مِنْ الِاسْتِطَالَةِ. وكان الفرق بينهما من وجوه أربعة: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ مُبَاشَرَةُ الْحُكْمِ وَالنَّظَرُ فِي الْمَظَالِمِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ، ولأنه لا يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يَسْتَبِدَّ بِتَقْلِيدِ الْوُلَاةِ وليس ذلك لوزير التنفيذ. ولأنه يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِتَسْيِيرِ الْجُيُوشِ وتدبير الحرب وليس ذلك لوزير التنفيذ. ولأنه لا يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي أَمْوَالِ بيت المال بقبض ما يستحق له ودفع مَا يَجِبُ فِيهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ. فبان بهذا أنهما قد افترقا في حقوق النظر من هذه الوجوه الأربعة. ويفترقان أيضا في أربعة شروط: أَحَدُهَا: أَنَّ الْحُرِّيَّةَ مُعْتَبَرَةٌ فِي وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ وغير معتبرة في وزارة التنفيذ. الثاني: أن الإسلام مُعْتَبَرٌ فِي وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي وزارة التنفيذ. الثالث: أن العلم بأحكام الشريعة مُعْتَبَرٌ فِي وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرٍ فِي وزارة التنفيذ. الرابع: المعرفة بأمر الحرب والخراج معتبرة في التفويض فِي وَزَارَةِ التَّفْوِيضِ وَغَيْرُ مُعْتَبَرَةٍ فِي وَزَارَةِ التنفيذ. وقد ذكر الخرقي ما يدل على أنه يجوز أن يكون وزير التنفيذ من أهل الذمة، لأنه قال " ولا يعطى من الصدقة لكافر ولا عبد" إلا أن يكونوا من العاملين فيعطوا بحق ما عملوا ". وروي عن أحمد ما يدل على المنع، لأنه قال في رواية أبي طالب - وقد سئل: نستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ فقال " لا يستعان بهم في شيء". ويكون الوجه فيه قوله تعالى (لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم إلا خبالاً) وقوله تعالى (لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء) وقوله عليه الصلاة والسلام " لا تأمنوهم إذ خونهم الله". ويجوز للخليفة أن يقلد وزيري تنفيذ نظرت، فإن فوض إلى كل واحد منهما عموم النظر لم يصح لما ذكرنا. ثم ننظر، فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ بَطَلَ تَقْلِيدُهُمَا مَعًا. وَإِنْ سَبَقَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ صَحَّ تَقْلِيدُ السابق وبطل تقليد المسبوق، وإن أشرك بينهما في النظر على اجتماعهما فيه ولم يَجْعَلَ إلَى وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ صح، وتكون الوزارة فيهما لا في النظر منهما، ولهما تنفيذ ما اجتمعا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ لَهُمَا تَنْفِيذُ مَا اخْتَلَفَا فِيهِ، وَيَكُونُ مَوْقُوفًا عَلَى رَأْيِ الْخَلِيفَةِ وَخَارِجًا عَنْ نظر هذه الوزارة، وتكون هذه الوزارة تقصر عن وزارة التفويض المطلق من وجهين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 أَحَدُهُمَا: اجْتِمَاعُهُمَا عَلَى تَنْفِيذِ مَا اتَّفَقَا عَلَيْهِ. الثاني: زَوَالُ نَظَرِهِمَا عَمَّا اخْتَلَفَا فِيهِ. فَإِنْ اتَّفَقَا بعد الاختلاف نظرت، فَإِنْ كَانَ عَنْ رَأْيٍ اجْتَمَعَا عَلَى صَوَابِهِ بَعْدَ اخْتِلَافِهِمَا فِيهِ دَخَلَ فِي نَظَرِهِمَا وَصَحَّ تنفيذه منهما، لأن تقدم الِاخْتِلَافِ لَا يَمْنَعُ مِنْ جَوَازِ الِاتِّفَاقِ، وَإِنْ كان عن مُتَابَعَةِ أَحَدِهِمَا لِصَاحِبِهِ مَعَ بَقَائِهِمَا عَلَى الرَّأْيِ المختلف فهو خروج مِنْ نَظَرِهِمَا، لِأَنَّهُ لَا يَصِحُّ مِنْ الْوَزِيرِ تنفيذ ما لا يراه صواباً. فإن لم يشرك بينهما في النظر، بل أفرد كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِعَمَلٍ يَكُونُ فِيهِ عَامَّ النَّظَرِ خَاصَّ الْعَمَلِ، مِثْلَ أَنْ يَرُدَّ إلَى أَحَدِهِمَا وَزَارَةَ بِلَادِ الْمَشْرِقِ، وَإِلَى الْآخَرِ وَزَارَةَ بلاد المغرب، أو يَخُصَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَظَرٍ يَكُونُ فِيهِ عَامَّ الْعَمَلِ، خَاصَّ النَّظَرِ، مِثْلَ أَنْ يَسْتَوْزِرَ أحدهما على الحرب والآخر على الخراج، صح تقليدهما عَلَى كِلَا الْوَجْهَيْنِ، غَيْرَ أَنَّهُمَا لَا يَكُونَانِ وَزِيرَيْ تَفْوِيضٍ، وَيَكُونَانِ وَالِيَيْنِ عَلَى عَمَلَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، لِأَنَّ وَزَارَةَ التَّفْوِيضِ مَا عَمَّتْ وَنَفَذَ أَمْرُ الوزير فِي كُلِّ عَمَلٍ وَكُلِّ نَظَرٍ، وَيَكُونُ تَقْلِيدُ كل واحد منهما مقصورا على ما خص بِهِ. وَلَيْسَ لَهُ مُعَارَضَةُ الْآخَرِ فِي نَظَرِهِ أو عمله. وَيَجُوزُ لِلْخَلِيفَةِ أَنْ يُقَلِّدَ وَزِيرَيْنِ، وَزِيرَ تَفْوِيضٍ ووزير تنفيذ، فوزير التفويض مطلق التصرف، ووزير التنفيذ مقصور على تنفيذ ما صدرت بِهِ أَوَامِرُ الْخَلِيفَةِ. وَلَا يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ أن يولي معزولاً ولا يَعْزِلَ مُوَلًّى. وَيَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يُوَلِّيَ معزولاً ويعزل مولاه، ولا يجوز له أن يعزل من ولاه الخليفة. وليس لوزير التفويض أَنْ يُوَقِّعَ عَنْ نَفْسِهِ وَلَا عَنْ الْخَلِيفَةِ إلا بإذنه. وَيَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يُوَقِّعَ عَنْ نَفْسِهِ إلَى عُمَّالِهِ وَعُمَّالِ الْخَلِيفَةِ، وَيَلْزَمُهُمْ قَبُولُ تَوْقِيعَاتِهِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُوَقِّعَ عَنْ الْخَلِيفَةِ إلَّا بأمره في عموم وخصوص. وَإِذَا عَزَلَ الْخَلِيفَةُ وَزِيرَ التَّنْفِيذِ لَمْ يَنْعَزِلْ بِهِ أَحَدٌ مِنْ الْوُلَاةِ. وَإِذَا عَزَلَ وَزِيرَ التَّفْوِيضِ انْعَزَلَ بِهِ عُمَّالُ التَّنْفِيذِ، وَلَمْ يَنْعَزِلْ به عمال التفويض لأن عمالة التنفيذ نيابة، وعمالة التفويض ولاية. وَيَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ نَائِبًا عَنْهُ. وَلَا يَجُوزُ لِوَزِيرِ التَّنْفِيذِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ مَنْ يَنُوبُ عَنْهُ، لِأَنَّ الِاسْتِخْلَافَ تَقْلِيدٌ. فَصَحَّ مِنْ وَزِيرِ التَّفْوِيضِ، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْ وَزِيرِ التَّنْفِيذِ. وَإِذَا نَهَى الْخَلِيفَةُ وَزِيرَ التَّفْوِيضِ عَنْ الِاسْتِخْلَافِ لم يكن لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الوزيرين متصرف عن أمر الخليفة ونهيه وإن اقترف حُكْمُهُمَا مَعَ إطْلَاقِ التَّقْلِيدِ. وَإِذَا فَوَّضَ الْخَلِيفَةُ تدبير الأقاليم إلى ولاتها وكل النظر فيها إلى المستولي عليها. فالذي عليه أهل زماننا جواز ذلك. وَكَانَ حُكْمُ وَزِيرِهِ مَعَهُ كَحُكْمِ وَزِيرِ الْخَلِيفَةِ مع الخليفة في اعتبار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 الوزارتين. [تقليد الإمارة] وَإِذَا قَلَّدَ الْخَلِيفَةُ أَمِيرًا عَلَى إقْلِيمٍ أَوْ بلد، نظرت، فإن كانت إمارته عامة - وهو أَنْ يُفَوِّضَ إلَيْهِ الْخَلِيفَةُ إمَارَةَ بَلَدٍ أَوْ إقْلِيمٍ، وِلَايَةً عَلَى جَمِيعِ أَهْلِهِ، وَنَظَرًا فِي الْمَعْهُودِ مِنْ سَائِرِ أَعْمَالِهِ - فَيَصِيرُ عَامَّ النَّظَرِ فيما كان محدوداً من عمله. ويشمل نَظَرُهُ فِيهِ عَلَى سَبْعَةِ أُمُورٍ: أَحَدُهَا: النَّظَرُ في تدبير الجيش، وترتبيهم فِي النَّوَاحِي، وَتَقْدِيرِ أَرْزَاقِهِمْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ الخليفة قدّرها. الثاني: النظر في الأحكام، وتقليد القضاة والحكام. وقد نقل إسحاق بن إبراهيم عن أحمد في القوم يغزون مع الأمير أمر عليهم، فأمر ذلك الأمير أمراً آخر، فقال: "إذا كان صاحبه أمره بذلك فلا بأس". ظاهر هذا: أنه إذا لم يأمره لم يجز. وهذا محمول على إمارة خاصة، ويأتي شرحها. الثالث: جباية الخراج، وقبض الصدقات، وتقليد العمال، وتفريق ما يستحق منها. الرابع: حماية الحريم، والذب عن البيضة، ومراعاة الدين، من تغيير أو تبديل. الخامس: إقامة الحدود في تحق الله تعالى وحقوق الآدميين. السادس: الإمامة في الجمع والجماعات، حتى يقوم بها، أو يستخلف عليها. السابع: تسيير الحجيج من عمله، ومن غَيْرِ أَهْلِهِ، حَتَّى يَتَوَجَّهُوا مُعَانِينَ عَلَيْهِ. فَإِنْ كان هذا الإقليم ثغراً متاخما للعدو جاهد مَنْ يَلِيهِ مِنْ الْأَعْدَاءِ، وَقَسْمُ غَنَائِمِهِمْ فِي المقاتلة، وأخذ خمسها لأهل الخمس. ويعتبر في هذه الإمارة الشروط المعتبرة في وزارة التفويض. ثُمَّ يَنْظُرُ فِي عَقْدِ هَذِهِ الْإِمَارَةِ، فَإِنْ كَانَ الْخَلِيفَةُ قَدْ تَوَلَّاهُ، كَانَ لِوَزِيرِ التَّفْوِيضِ عليه حق المراعاة والتصفح. وإن لم يَكُنْ لَهُ عَزْلُهُ، وَلَا نَقْلُهُ مِنْ إقْلِيمٍ إلى إقليم غَيْرِهِ. وَإِنْ كَانَ الْوَزِيرُ قَدْ تَفَرَّدَ بِتَقْلِيدِهِ، نظرت فإن قلده عن الخليفة لم يجز له عزله ولا نقله من عمل إلى غيره، إلا عن إذن الخليفة. وَلَوْ عُزِلَ الْوَزِيرُ لَمْ يَنْعَزِلْ هَذَا الْأَمِيرُ، وإن قلده عَنْ نَفْسِهِ فَهُوَ نَائِبٌ عَنْهُ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَزْلِهِ وَالِاسْتِبْدَالِ بِهِ، بِحَسَبِ مَا يؤديه الاجتهاد إليه من النظر في الأصلح. ولو أطلق تَقْلِيدَ هَذَا الْأَمِيرِ، فَلَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِأَنَّهُ عن نفسه ولا عن الخليفة، كَانَ التَّقْلِيدُ عَنْ نَفْسِهِ، وَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بعزله، متى عزل الوزير انعزل هذا الأمير، إلا أن يقرّه الخليفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 عَلَى إمَارَتِهِ، فَيَكُونَ ذَلِكَ تَجْدِيدَ وِلَايَةٍ وَاسْتِئْنَافَ تقليد، غير أنه لا يحتاج في ألفاظ الْعَقْدِ إلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ ابْتِدَاءُ الْعَقْدِ من الشروط. ويكفي أن يقول الخليفة " قد أقررتك على ولايتك". ويحتاج في ابتداء تقليدها أن يقول " قَلَّدْتُكَ نَاحِيَةَ كَذَا إمَارَةً عَلَى أَهْلِهَا" وَنَظَرًا في جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهَا، عَلَى تَفْصِيلٍ لَا يدخله إجمال، ولا يتناوله احتمال". وإذا قلد الخليفة هذه الأمور لم يكن فيها غزل لِلْوَزِيرِ عَنْ تَصَفُّحِهَا وَمُرَاعَاتِهَا، وَإِذَا قَلَّدَ الْوَزَارَةَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا عَزْلٌ لِهَذَا الْأَمِيرِ عَنْ إمَارَتِهِ، لِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ عُمُومُ التَّقْلِيدِ وَخُصُوصُهُ فِي الْوِلَايَاتِ السُّلْطَانِيَّةِ كَانَ عُمُومُ التَّقْلِيدِ مَحْمُولًا فِي الْعُرْفِ عَلَى مُرَاعَاةِ الْأَخَصِّ وَتَصَفُّحِهِ، وَكَانَ خُصُوصُ التَّقْلِيدِ مَحْمُولًا عَلَى مُبَاشَرَةِ الْعَمَلِ وَتَنْفِيذِهِ. ولا يجوز لهذا الوزير أن يستوزر وزيراً إلا عن إذن الخليفة وبأمره، لِأَنَّ وَزِيرَ التَّنْفِيذِ مُعَيَّنٌ، وَوَزِيرَ التَّفْوِيضِ مُسْتَبِدٌّ. وَإِذَا أَرَادَ هَذَا الْأَمِيرُ أَنْ يَزِيدَ فِي أرزاق الجيش لِغَيْرِ سَبَبٍ لَمْ يَجُزْ، لِمَا فِيهِ مِنْ استهلاك مال في غر حَقٍّ، وَإِنْ زَادَهُمْ لِحُدُوثِ سَبَبٍ يَقْتَضِيهِ نُظِرَ فِي السَّبَبِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا يُرْجَى زَوَالُهُ. كَالزِّيَادَةِ لِغَلَاءِ سِعْرٍ، أَوْ حُدُوثِ حَدَثٍ، أَوْ نَفَقَةٍ فِي حَرْبٍ، جَازَ لِلْأَمِيرِ أَنْ يَدْفَعَ هَذِهِ الزِّيَادَةَ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، وَلَا يَلْزَمُهُ استثمار الخليفة فيها، لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقٍ السِّيَاسَةِ الْمَوْكُولَةِ إلَى اجْتِهَادِهِ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الزِّيَادَةِ مِمَّا يَقْتَضِي اسْتِقْرَارَهَا على التأبيد، كالزيادة في الحرب أبلوا فيها وقاموا بالنصر حتى انجلت، وقف ذلك على استثمار الخليفة، ولم يكن له التفرد بإمضائها. ويجوز له أَنْ يَرْزُقَ مَنْ بَلَغَ مِنْ أَوْلَادِ الْجَيْشِ وَيَفْرِضَ لَهُمْ الْعَطَاءَ بِغَيْرِ أَمْرٍ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْرِضَ لِجَيْشٍ مُبْتَدَإٍ إلَّا بِأَمْرٍ. وَإِذَا فَضَلَ مِنْ مَالِ الْخَرَاجِ فَاضِلٌ عَنْ أَرْزَاقِ جَيْشِهِ حَمَلَهُ إلَى الْخَلِيفَةِ، لِيَضَعَهُ فِي بَيْتِ المال العالم الْمُعَدِّ لِلْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. وَإِذَا فَضَلَ مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ فَاضِلٌ عَنْ أَهْلِ عَمَلِهِ لَمْ يَلْزَمْهُ حَمْلُهُ إلَى الْخَلِيفَةِ، وَصَرْفُهُ فِي أَقْرَبِ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ مِنْ عَمَلِهِ. وَإِذَا نَقَصَ مَالُ الْخَرَاجِ عن أرزاق جيشه طالب الخليفة بتمامها من بيت المال، وإن نَقَصَ مَالُ الصَّدَقَاتِ عَنْ أَهْلِ عَمَلِهِ لَمْ يكن له مطالبة الخليفة بتمامها، لِأَنَّ أَرْزَاقَ الْجَيْشِ مُقَدَّرَةٌ بِالْكِفَايَةِ، وَحُقُوقُ أَهْلِ الصدقات معتبرة بالوجود. وإذا تقلد الْأَمِيرِ مِنْ قِبَلِ الْخَلِيفَةِ، لَمْ يَنْعَزِلْ بِمَوْتِ الْخَلِيفَةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ قِبَلِ الْوَزِيرِ انْعَزَلَ بِمَوْتِ الْوَزِيرِ، لِأَنَّ تَقْلِيدَ الْخَلِيفَةِ نِيَابَةٌ عَنْ الْمُسْلِمِينَ، وَتَقْلِيدَ الْوَزِيرِ نِيَابَةٌ عَنْ نَفْسِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 وَيَنْعَزِلُ الْوَزِيرُ بِمَوْتِ الْخَلِيفَةِ وَإِنْ لَمْ يَنْعَزِلْ به الأمير، لأن الوزارة نيابة عن المسلمين. فهذا حكم الْإِمَارَةِ الْعَامَّةِ، وَهِيَ إمَارَةُ الِاسْتِكْفَاءِ الْمَعْقُودَةِ عَنْ اختيار وتقدم. فأما إمارة الْخَاصَّةُ: فَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْأَمِيرُ مَقْصُورَ الْإِمَارَةِ على تدبير الجيوش، وسياسة الرعية، حماية الْبَيْضَةِ، وَالذَّبِّ عَنْ الْحَرِيمِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يتعرض للقضاء والأحكام، ولا لجباية الْخَرَاجِ وَالصَّدَقَاتِ. فَأَمَّا إقَامَةُ الْحُدُودِ، فَمَا افْتَقَرَ منها إلى اجتهاد لاختلاف الفقهاء، أما افتقر إلى إقامة بينة، لتناكر المتنازعين فيه لم يكن لَهُ التَّعَرُّضُ لِإِقَامَتِهَا، لِأَنَّهَا مِنْ الْأَحْكَامِ الْخَارِجَةِ عَنْ خُصُوصِ إمَارَتِهِ. وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرْ إلَى اجتهاد وَلَا بَيِّنَةٍ، أَوْ افْتَقَرَ إلَيْهِمَا فَنَفَذَ فِيهِ اجتهاد الحاكم، أو قامت به البينة عنده، نظرت، فَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ - كَحَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ - كَانَ ذَلِكَ مُعْتَبَرًا بِحَالِ الطَّالِبِ، فَإِنْ عَدَلَ عَنْهُ إلَى الحاكم كان الحاكم أحق باستيفائه له، لدخوله في جملة الحقوق التي ندب الحكام إلَى اسْتِيفَائِهَا. وَإِنْ عَدَلَ الطَّالِبُ بِاسْتِيفَاءِ الْحَدِّ أو القصاص إلَى هَذَا الْأَمِيرِ كَانَ الْأَمِيرُ أَحَقَّ بِاسْتِيفَائِهِ، لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُكْمٍ، وَإِنَّمَا هُوَ مَعُونَةٌ عَلَى استيفاء حق، وصاحب المعونة هو الأمير أحق باستيفائه، لأنه ليس يحكم، وإنما هو معونة على استيفاء حق، وصاحب المعونة هو الأمير دون الحاكم، وإن كَانَ هَذَا الْحَدُّ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى المحضة، كحدّ الزنا: جلد أو رجم، فَالْأَمِيرُ أَحَقُّ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ الْحَاكِمِ، لِدُخُولِهِ فِي قَوَانِينِ السِّيَاسَةِ، وَمُوجِبَاتِ الْحِمَايَةِ، وَالذَّبِّ عَنْ الْمِلَّةِ فَدَخَلَ فِي حُقُوقِ الْإِمَارَةِ، وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا إلَّا بِنَصٍّ، وَخَرَجَ مِنْ حُقُوقِ الْقَضَاءِ، فَلَمْ يَدْخُلْ فِيهَا إلَّا بِنَصٍّ. وَأَمَّا نَظَرُهُ فِي الْمَظَالِمِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا نَفَذَتْ فِيهِ الْأَحْكَامُ، وَأَمْضَاهُ الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ جَازَ لَهُ النَّظَرُ فِي استيفائه، معونة للمحق على المبطل، وانتزاعا للحق من المعترف المماطل، لأنه موكول إليه الْمَنْعِ مِنْ التَّظَالُمِ وَالتَّغَالُبِ، وَمَنْدُوبٌ إلَى الْأَخْذِ بالتعاطف والتناصف. وإن كَانَتْ الْمَظَالِمُ مِمَّا تُسْتَأْنَفُ فِيهَا الْأَحْكَامُ وَيُبْتَدَأُ فيها بالقضاء، مُنِعَ مِنْهُ هَذَا الْأَمِيرُ، لِأَنَّهُ مِنْ الْأَحْكَامِ الَّتِي لَمْ يَتَضَمَّنْهَا عَقْدُ إمَارَتِهِ، وَرَدَّهُمْ إلَى حَاكِمِ بَلَدِهِ، فَإِنْ نَفَذَ حُكْمُهُ لِأَحَدِهِمْ بِحَقٍّ قَامَ بِاسْتِيفَائِهِ إنْ ضَعُفَ عَنْهُ الْحَاكِمُ، فَإِنْ لم يكن في بلده حاكم عدل بهما إلَى أَقْرَبِ الْحُكَّامِ مِنْ بَلَدِهِ، إنْ لَمْ يَلْحَقْهُمَا فِي الْمَصِيرِ إلَيْهِ مَشَقَّةٌ، فَإِنْ لَحِقَتْ لم يكلفهما ذلك، واستأمير الخليفة فيما تنازعاه ونفذ فيه حكمه. وَأَمَّا تَسْيِيرُ الْحَجِيجِ مِنْ عَمَلِهِ فَدَاخِلٌ فِي أَحْكَامِ إمَارَتِهِ، لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ الْمَعُونَاتِ الَّتِي ندب إليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 وأما إمارة الصلاة في الجمع والأعياد والجنائز فالأمراء أخص بها من القضاة وقد قال: أحمد في رواية ابن القاسم "إذا حضر الأمير فهو أحق على ما فعل الحسين بن علي". فَإِنْ تَاخَمَتْ وِلَايَةُ هَذَا الْأَمِيرِ ثَغْرًا، لَمْ يَبْتَدِئَ جِهَادَ أَهْلِهِ إلَّا بِإِذْنِ الْخَلِيفَةِ، وَكَانَ عليه دفعهم وحربهم إن هجموا عليه بغير إذن، لِأَنَّ دَفْعَهُمْ مِنْ حُقُوقِ الْحِمَايَةِ، وَمُقْتَضَى الذَّبِّ عَنْ الْحَرِيمِ. وَيُعْتَبَرُ فِي وِلَايَةِ هَذِهِ الْإِمَارَةِ الشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي وَزَارَةِ التَّنْفِيذِ، وَزِيَادَةُ شَرْطَيْنِ، هما: الإسلام، والحرية، لأجل ما تضمنتها من الولاية على الأمور الدينية التي لَا تَصِحُّ مَعَ الْكُفْرِ وَالرِّقِّ، وَلَا يُعْتَبَرُ فيها العمل والفقه، فإن كَانَ فَزِيَادَةُ فَضْلٍ. فَصَارَتْ شُرُوطُ الْإِمَارَةِ الْعَامَّةِ معتبرة بشرو وزارة التفويض، لاستوائهما في عموم النظر، وإن افترقا فِي خُصُوصِ الْعَمَلِ. وَشُرُوطُ الْإِمَارَةِ الْخَاصَّةِ تَقْصُرُ عَنْ شُرُوطِ الْإِمَارَةِ الْعَامَّةِ، بِشَرْطٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْعِلْمُ، لِأَنَّ لِمَنْ عَمَّتْ إمَارَتُهُ أَنْ يَحْكُمَ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِمَنْ خَصَّتْ إمَارَتُهُ. وَلَيْسَ عَلَى أحد من هذين الأمرين مطالعة الخليفة بما أمضياه في عملهما على مقتضى إمارتهما إلا على وجه الاحتياط، فإن حدث غير معهود وقفاه على مطالعة الإمام، وعملا فيه برأيه. فإن خافا من اتساع الخرق - إن وقفاه - قاما بما يدفع الخصومة، حتى يرد عليهما أمر الْخَلِيفَةِ فِيمَا يَعْمَلَانِ بِهِ، لِأَنَّ رَأْيَ الْخَلِيفَةِ أمضى في الحوادث النازلة لإشرافه على عموم الأمور. فأما إمارة الاستيلاء التي تعقد على اضْطِرَارٍ فَهِيَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ الْأَمِيرُ بِالْقُوَّةِ عَلَى بلاده يُقَلِّدُهُ الْخَلِيفَةُ إمَارَتَهَا، وَيُفَوِّضُ إلَيْهِ تَدْبِيرَهَا وَسِيَاسَتَهَا فيكون الأمير باستيلائه مستبداً بالخليفة في تدبير السياسة، وتنفيذ الأحكام الدينية ليخرج عن الفساد إلى الصحة، وعن الْحَظْرِ إلَى الْإِبَاحَةِ. وَهَذَا وَإِنْ خَرَجَ عَنْ عرف التقليد المطلق، ففيه من حقظ القوانين الشرعية ما لا يجوز أن يترك فاسدا، فَجَازَ فِيهِ مَعَ الِاسْتِيلَاءِ وَالِاضْطِرَارِ مَا امْتَنَعَ في تقليد الاستكفاء والاختيار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 والذي يتحفظ بقليد المستولي من قوانين الشرع سبعة: أَحَدُهَا: حِفْظُ مَنْصِبِ الْإِمَامَةِ فِي خِلَافَةِ النُّبُوَّةِ، وتدبير أمور الملة. الثاني: ظهور الطاعة التي يزول معها حكم العناد، وينتفى بها مأثم المباينة. الثالث: اجتماع الكلمة على الألفة والتناصر، ليكون المسلمون يداً على من سواهم. الرابع: أن تكون عقود الولايات الدينية جائزة، وأحكام القضاة نافذة فيها. الخامس: أن يكون استيفاء الأموال بحق، على وجه يبرأ منه المؤدي لها. السادس: أن تكون الحدود مستوفاة بحق. السابع: أن يكون حافظاً للدين، يأمر بحقوق الله، ويدعو إلى طاعته من عصى. فإذا كملت فيه شروط الاختيار كان تقليده حتماً، استدعاء لطاعته، ودفعاً لمشاقته، وَصَارَ بِالْإِذْنِ لَهُ نَافِذَ التَّصَرُّفِ فِي حُقُوقِ الملة، وأحكام الأمة، وجاز له أَنْ يَسْتَوْزِرَ وَزِيرَ تَفْوِيضٍ وَوَزِيرَ تَنْفِيذٍ. فَإِنْ لم يكمل في المستولى شروط الاختيار جاز إظْهَارُ تَقْلِيدِهِ اسْتِدْعَاءً لِطَاعَتِهِ، وَحَسْمًا لِمُخَالَفَتِهِ وَمُعَانَدَتِهِ، وكان نفوذ تصرفه في الحقوق والأحكام موقوفا على أن يستنيب لهم الخليفة فيها من قَدْ تَكَامَلَتْ فِيهِ شُرُوطُهَا، لِيَكُونَ كَمَالُ الشُّرُوطِ فيمن أضيف إلى نيابته جبراناً لِمَا أَعْوَزَ مِنْ شُرُوطِهَا فِي نَفْسِهِ، فَيَصِيرُ التقليد للمستولى، والتنفيذ من المستناب، لأن الضَّرُورَةَ تُسْقِطُ مَا أَعْوَزَ مِنْ شُرُوطِ الْمُكْنَةِ. وإذا صَحَّتْ إمَارَةُ الِاسْتِيلَاءِ كَانَ الْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ إمَارَةِ الِاسْتِكْفَاءِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ إمارة الاستيلاء متعينة في المستولى، وإمارة الاستكفاء مقصورة على اختيار المستكفى. الثاني: أَنَّ إمَارَةَ الِاسْتِيلَاءِ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي غلب عليها المستولي، وَإِمَارَةَ الِاسْتِكْفَاءِ مَقْصُورَةٌ عَلَى الْبِلَادِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا عهد المستكفي. الثالث: إمَارَةَ الِاسْتِيلَاءِ تَشْتَمِلُ عَلَى مَعْهُودِ النَّظَرِ وَنَادِرِهِ، وَإِمَارَةُ الِاسْتِكْفَاءِ مَقْصُورَةٌ عَلَى مَعْهُودِ النَّظَرِ دُونَ نادره. الرابع: أَنَّ وَزَارَةَ التَّفْوِيضِ تَصِحُّ فِي إمَارَةِ الِاسْتِيلَاءِ ولا تصح في إمارة الاستكفاء، ليقع الْفَرْقِ بَيْنَ الْمُسْتَوْلِي وَوَزِيرِهِ فِي النَّظَرِ، لِأَنَّ نَظَرَ الْوَزِيرِ مَقْصُورٌ عَلَى الْمَعْهُودِ، وَلِلْمُسْتَوْلِي أَنْ يَنْظُرَ فِي النَّادِرِ وَالْمَعْهُودِ، وَإِمَارَةُ الِاسْتِكْفَاءِ مَقْصُورَةٌ على النظر في الْمَعْهُودِ، فَلَمْ تَصِحَّ مَعَهَا وَزَارَةٌ تَشْتَمِلُ عَلَى مثلها من النظر في المعهود، لاشتباه حال الوزير والمستوزر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 [تقليد الإمارة على الجهاد] فأما الإمارة على الجهاد فهي مختصة بِقِتَالِ الْمُشْرِكِينَ. وَهِيَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ مَقْصُورَةً عَلَى سِيَاسَةِ الْجَيْشِ، وَتَدْبِيرِ الْحَرْبِ، فيعتبر فيها شروط الإمارة الخاصة. والثاني: أَنْ يُفَوَّضَ إلَى الْأَمِيرِ فِيهَا جَمِيعُ أَحْكَامِهَا: مِنْ قَسْمِ الْغَنَائِمِ، وَعَقْدِ الصُّلْحِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا شروط الإمارة العامة، وهي أكثر الولايات الخاصة أحكاماً، وأوفرها فصولاً. وَحُكْمُهَا إذَا خُصَّتْ دَاخِلٌ فِي حُكْمِهَا إذَا عمت. وَاَلَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ الْأَحْكَامِ إذَا عَمَّتْ ستة: الأول: في تسيير الجيش، وعليه في ذلك سَبْعَةُ حُقُوقٍ: أَحَدُهَا: الرِّفْقُ بِهِمْ فِي السَّيْرِ الذي يقدر عليه أضعفهم، ويحفظ بِهِ قُوَّةُ أَقْوَاهُمْ، وَلَا يَجِدَّ السَّيْرَ، فَيَهْلَكْ الضعيف. الثاني: أن يتفقد خيلهم التي يجاهدون عليها، فلا يدخل في خيل الجهاد كبيراً أو صغيراً ولا أعجب هزيلاً، لأنه ربما كان ضعفها وهنا. وقد قال تَعَالَى (8: 60 - وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ومن رباط الخيل) ويمنع من حمل زائد على طاقتها. الثالث: أَنْ يُرَاعِيَ مَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ. وَهُمْ صنفان: مسترزقة، ومتطوعة. أما الْمُسْتَرْزِقَةُ فَهُمْ أَصْحَابُ الدِّيوَانِ، مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ، فيفرض لهم العطاء من بيت المال بحسب الغناء وَالْحَاجَةِ. وَأَمَّا الْمُتَطَوِّعَةُ، فَهُمْ الْخَارِجُونَ عَنْ الدِّيوَانِ من البوادي وَسُكَّانِ الْقُرَى وَالْأَمْصَارِ، الَّذِينَ خَرَجُوا فِي النَّفِيرِ، اتباعا لقوله تعالى (9: 41 - انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا في بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله) . وقد قيل في تأويل قوله تعالى " خفافاً وثقالاً ". أربعة أوجه: أَحَدُهَا: شُبَّانًا وَشُيُوخًا، قَالَهُ الْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ. وَالثَّانِي: أَغْنِيَاءَ وَفُقَرَاءَ، قَالَهُ أَبُو صَالِحٍ. وَالثَّالِثُ: رُكْبَانًا ومشاة، قاله أبو عمرو. الرابع: ذَا عِيَالٍ، وَغَيْرِ ذِي عِيَالٍ، قَالَهُ الْفَرَّاءُ. وقد قيل: إن هؤلاء يعطون من الصدقات ولا يعطون من الفيء، من سهم سبيل الله المذكور في آية الصدقات ولا يعطون مِنْ الْفَيْءِ، لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الصَّدَقَاتِ، وَلَا يعطى أهل الفيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 المسترزقة في الدِّيوَانِ مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ لِأَنَّ حَقَّهُمْ فِي الفيء. وظاهر كلام أحمد رحمه الله يقتضي جواز صَرْفَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ إلَى كُلِّ واحد من الفريقين، بحسب الحاجة، فقال في رواية الأثرم " يحمل من الزكاة في السبيل". قال الله تعالى (وفي سبيل الله) قال: وبلغني أن قوما يقولون: لا يحمل منها في السبيل، لا أدري يعني لأي شيء يذهبون". وقال في رواية عبد الله - في الغني إذا خرج في سبيل الله " يأكل من الصدقة". فقد أجاز دفعها في سبيل الله، ولم يفرق بين أهل الديوان وبين المتطوعة، واحتج بالآية، وهي عامة. الرابع: أن يعرّف على الفريقين العرفاء، وينقب عليهم النُّقَبَاءَ، لِيَعْرِفَ مِنْ عُرَفَائِهِمْ وَنُقَبَائِهِمْ أَحْوَالَهُمْ، وَيَقْرَبُونَ عليه إذا دعاهم. وقد فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في مغازيه. وقال تعالى (49: 13 - وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا) . قيل: إن الشعوب: النسب الأبعد، والقبائل: النسب الأقرب قاله مجاهد. وقيل الشعوب: عرب قحطان، والقبائل: عرب عدنان. وقيل: الشُّعُوبَ: بُطُونُ الْعَجَمِ، وَالْقَبَائِلَ: بُطُونُ الْعَرَبِ. وَالْخَامِسُ: أن يجعل لك طائفة شعاراً يتداعون إليه ليصيروا به متميزين، وبالاجتماع فيه متظاهرين، وقد رَوَى عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ شِعَارَ الْمُهَاجِرِينَ: يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ، وَشِعَارَ الْخَزْرَجِ: يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ، وَشِعَارَ الْأَوْسِ: يَا بَنِي عُبَيْدِ اللَّهِ، وَسَمَّى خَيْلَهُ خَيْلَ اللَّهِ". السادس: أن يتصفح الجيش ومن فيه، فيخرج مِنْهُمْ مَنْ كَانَ فِيهِ تَخْذِيلٌ لِلْمُجَاهِدِينَ، وَإِرْجَافٌ بالمسلمين، أو عين عليهم للمشركين، قد رَدَّ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ابن أبيّ بن سلول في بعض غزواته، لتخذيله المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 السابع: أَنْ لَا يُمَالِئَ مَنْ نَاسَبَهُ، أَوْ وَافَقَ رَأْيَهُ وَمَذْهَبَهُ عَلَى مَنْ بَايَنَهُ فِي نَسَبٍ، أَوْ خَالَفَهُ فِي رَأْيٍ وَمَذْهَبٍ، فَيُظْهِرُ مِنْ أحوال المباينة ما تفترق به الكلمة الجامعة، تشاغلاً بالتقاطع والاختلاف. قد أَغْضَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنْ الْمُنَافِقِينَ، وَهُمْ أَضْدَادٌ فِي الدِّينِ، وَأَجْرَى عَلَيْهِمْ حُكْمَ الظَّاهِرِ، حَتَّى قَوِيَتْ بِهِمْ الشَّوْكَةُ، وكثر بهم العدد، وقد قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (8: 46 - وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ ريحكم) قيل فيه: المراد بالريح الدولة، قاله أبو عبيد. وقيل: الْمُرَادَ بِهَا الْقُوَّةُ. فَضَرَبَ الرِّيحَ بِهَا مَثَلًا، لأن الريح لها قوة. ومن أحكام هذه الإمارة: تدبير الحرب. والمشركون في دار الحرب على ضربين: أحدهما: من بلغتهم الدعوة، وقلّ أن يكون اليوم قوم لم تبلغهم الدعوة، إلا أن يكون قوم من وراء الترك والروم في مبادي المشرق وأقاصي المغرب، فيحرم عليه الإقدام على قتالهم غرّة قبل إظهار الدعوة، وإعلامهم معجزات النبوة. وقال اللَّهُ تَعَالَى (16: 125 - اُدْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن) يعني: ادع إلى دين ربك بالحكمة، قيل: بالنبوة، وقيل: بالقرآن، وقيل: " والموعظة الحسنة": بالقرآن في لين من القول، وقيل: مَا فِيهِ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ " وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هي أحسن": أَيْ يُبَيِّنُ لَهُمْ الْحَقَّ، وَيُوَضِّحُ لَهُمْ الْحُجَّةَ. فَإِنْ بَدَأَ بِقِتَالِهِمْ قَبْلَ دُعَائِهِمْ إلَى الْإِسْلَامِ لم يضمن ديات نفوسهم، وكانت دماؤهم هدراً. وإذا تكاملت الصفوف في الحرب جاز لم قاتل من المسلمين أن يعلم بما يشتهر به في الصفوف ويتميز به من جميع الجيش، وأن يَرْكَبَ الْأَبْلَقَ. وَإِنْ كَانَتْ خُيُولُ النَّاسِ دُهْمًا أو شقرا وقد قال أحمد في رواية حنبل " والعصائب في الحرب تستحب. لقوله تعالى (مسوّمين) وذلك لما روي عبيد الله بن عون عن عمير بْنُ إِسْحَاقَ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ يَوْمَ بَدْرٍ: "تَسَوَّمُوا فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ قَدْ تَسَوَّمَتْ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 وَيَجُوزُ أَنْ يُجِيبَ إلَى الْبِرَازِ إذَا دُعِيَ إليه، ويدعو إليه ابتداء، نص عليه في رواية المهموني وابن مشيش: في الرجل يعرف نفسه بالجلد يدعو إلى البراز. والوجه فيه ماروي" أن أبيّ بن خلف دعا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ أُحُدٍ، فَبَرَزَ إلَيْهِ فَقَتَلَهُ". وَأَوَّلُ حَرْبٍ شَهِدَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَوْمَ بدر "بزر فيها من المشركين: عتبة ابن ربيعة، وابنه الوليد، وأخوه شيبة، ودعوا للبراز، فبرز إليهم من الأنصار: عَوْفٌ وَمَسْعُودٌ ابْنَا عَفْرَاءَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ رواحة، فقالوا: ليبرز إلينا أكفاؤنا من قومنا. فبرز إليهم ثلاثة من بني هاشم: علي ابن أَبِي طَالِبٍ إلَى الْوَلِيدِ، فَقَتَلَهُ، وَبَرَزَ حَمْزَةُ إلى شيبة، فقتله. وبرز عبيدة بن الحارث إلى عتبة، فاختلفا ضربتين ". ولأن في الدعاء إلى البراز قُوَّةٍ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، وَنُصْرَةِ رَسُولِهِ. وقد ندب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ظَاهَرَ يَوْمَ أُحُدٍ بَيْنَ دِرْعَيْنِ، وَأَخَذَ سَيْفًا فَهَزَّهُ، وَقَالَ: مَنْ يَأْخُذُ هَذَا السَّيْفَ بِحَقِّهِ؟ فَقَامَ إلَيْهِ أَبُو دُجَانَةَ، سِمَاكُ بْنُ خَرَشَةَ، فَقَالَ: وَمَا حَقُّهُ يا رسول الله؟ فقال: أن تضرب به فِي الْعَدُوِّ حَتَّى يَنْحَنِيَ، فَأَخَذَهُ مِنْهُ، وَأَعْلَمَ بِعِصَابَةٍ حَمْرَاءَ، كَانَ إذَا أَعْلَمَ بِهَا عَلِمَ الناس أنه سيقاتل ويبلي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 وتجوز المبارزة بشرطين: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ ذَا نَجْدَةٍ وَشَجَاعَةٍ، يَعْلَمُ من نفسه أن لن يعجز عن مقاومة عدو، فَإِنْ كَانَ بِخِلَافِهِ مُنِعَ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يَكُونَ زَعِيمًا لِلْجَيْشِ، يُؤَثِّرُ فَقْدُهُ فِيهِمْ. فَإِنَّ فقد الزعيم المدبر يفضي إلَى الْهَزِيمَةِ. وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- إنما أقدم على البراز ثقة بنصر الله تعالى، وَإِنْجَازِ وَعْدِهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ. وَيَجُوزُ لِأَمِيرِ الجيش إذا حضّ على الجهاد أن يعرّض لِلشَّهَادَةِ مِنْ الرَّاغِبِينَ فِيهَا مَنْ يَعْلَمُ أَنَّ قتله في المعركة يؤثر أَمْرَيْنِ: إمَّا تَحْرِيضُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الْقِتَالِ حَمِيَّةً له، أو تخذيل المشركين بالجرأة عليهم في نصر الدين. وقد روي مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ " أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- خَرَجَ مِنْ الْعَرِيشِ يَوْمَ بدر، فحرض الناس على الجهاد، وَقَالَ: وَاَلَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَا يُقَاتِلُهُمْ الْيَوْمَ رجل، فيقتل مُحْتَسِبًا، مُقْبِلًا غَيْرَ مُدْبِرٍ إلَّا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الجنة". وَلَا يَجُوزُ قَتْلُ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ فِي حَرْبٍ ولا غيرها، ما لم يقاتلوا، لنهي النبي - صلى الله عليه وسلم- عن قتلهم. وإذا تترسوا في الحرب بنسائهم وأطفالهم، ولم يوصل إلى قتالهم إلا بقتل النساء والأطفال جاز قتلهم، ولا يقصدون النساء والصبيان. وكذلك إن تترسوا بأسارى المسلمين، ولم يتوصل إلى قتلهم إلا بقتل الأسراء، ذكره أبو بكر في كتاب الخلاف. وقد أومأ إليه أحمد في رواية بكر بن محمد: "في القوم يحاصرون فيتقون بأولاد المسلمين، ينصبونهم أمامهم، فأحب إليّ أن لا يعرض لهم، إلا أن يخافوا أن يخرجوا عليهم، ويكون تركهم ضرراً للمسلمين، فيرميهم". وَيَجُوزُ عَقْرُ خَيْلِهِمْ مِنْ تَحْتِهِمْ إذَا قَاتَلُوا عليها، وقد عقر حنظلة بن أبي عامر فَرَسَ أَبِي سُفْيَانَ بْنِ حَرْبٍ يَوْمَ أُحُدٍ، واستعلى عليه ليقتله، فرآه ابن شعوب فثار إلى حنظلة. وَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ أَنْ يَعْقِرَ فَرَسَهُ، لأنها قُوَّةٌ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِإِعْدَادِهَا فِي جِهَادِ عدوه بقوله (8: 60 - وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ) . وقد روي " أن جعفر بن أبي طالب اقتحم يوم مؤتة عن فرس له شقراء حين التحم القتال، ثم نزل عنها وعقرها".فيحتمل أن يكون فعل ذلك لئلا يتقوى به المشركون على المسلمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 ومن أحكام هذه الإمارة ما يلزم أَمِيرِ الْجَيْشِ فِي سِيَاسَتِهِمْ، وَاَلَّذِي يَلْزَمُهُ فِيهِمْ عشرة أشياء: أحدها: حراسته من غرّة يظفر بها العدو. وذلك بأن يتتبع المكامن فيحفظها عليهم ويحوط أسوارهم بحرس من يؤمنون به على أنفسهم ورحالهم، لِيَسْكُنُوا فِي وَقْتِ الدَّعَةِ، وَيَأْمَنُوا مَا وَرَاءَهُمْ في وقت المحاربة. الثاني: أن يتخير لهم المنازل - موضع نزولهم- لمحاربة عدوهم، بأن يكون أوطأ الأرض مكاناً، وأكثرها مَرْعًى وَمَاءً، وَأَحْرَسَهَا أَكْنَافًا وَأَطْرَافًا، لِيَكُونَ أَعْوَنَ لهم على المنازلة. الثالث: إعداد ما يحتاج إليه الجيش: من زاد وعلوفة، تفرق عليهم في أوقات الْحَاجَةِ حَتَّى تَسْكُنَ نُفُوسُهُمْ إلَى مَادَّةٍ يَسْتَغْنُونَ بها عن طلبهم، لِيَكُونُوا عَلَى الْحَرْبِ أَوْفَرَ" وَعَلَى مُنَازَلَةِ الْعَدُوِّ أقدر. الرابع: أن يعرف أخبار عدوه، حتى يقف عليهم، ويتصفح أحوالهم، فيأمن مكرهم، ويلتمس الغرّة في الهجوم عليهم. الخامس: ترتيب الجيش في مصاف الحرب، والتعويل من كُلِّ جِهَةٍ عَلَى مَنْ يَرَاهُ كُفُؤًا لَهَا، ويتفقد الصفوف من خلل فِيهَا، وَيُرَاعِي كُلَّ جِهَةٍ يَمِيلُ الْعَدُوُّ عَلَيْهَا بمدد يكون عوناً لها. السادس: أَنْ يُقَوِّيَ نُفُوسَهُمْ بِمَا يُشْعِرُهُمْ مِنْ الظَّفَرِ، ويخيل لهم مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ، لِيَقِلَّ الْعَدُوُّ فِي أَعْيُنِهِمْ، فيكونون عليه أجرأ. قال تَعَالَى (8: 43 - إذْ يُرِيكَهُمْ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) . السابع: أَنْ يَعِدَ أَهْلَ الصَّبْرِ وَالْبَلَاءِ مِنْهُمْ بِثَوَابِ الله، إن كانوا من أهل الآخرة، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 والجزاء وَالنَّفَلِ مِنْ الْغَنِيمَةِ، إنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِ الدنيا. قال تَعَالَى (3: 145 - وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا ومن يرد ثواب الآخرة نؤته منها) . الثامن: أن يشاور ذوي الرأي فيما أعضل من الأمور، وَيَرْجِعَ إلَى أَهْلِ الْحَزْمِ فِيمَا أَشْكَلَ، لِيَأْمَنَ من الْخَطَأَ وَيَسْلَمَ مِنْ الزَّلَلِ، فَيَكُونَ مِنْ الظَّفَرِ أقرب. قال تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم- (3: 159 - وشاروهم فِي الْأَمْرِ، فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) فقد أمره بالمشاورة مع ما أمدّه من التوفيق، وأعانه من التأييد. التاسع: أَنْ يَأْخُذَ جَيْشَهُ بِمَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ تَعَالَى من حقوقه، حتى لا يكون بينهم تجوّز في الدين. العاشر: أَنْ لَا يُمَكِّنَ أَحَدًا مِنْ جَيْشِهِ أَنْ يتشاغل بتجارة أو زراعة، يصرفه الاهتمام بها عن مصابرة العدو. ومن أَحْكَامِ هَذِهِ الْإِمَارَةِ مَا يَلْزَمُ الْمُجَاهِدِينَ مَعَهُ مِنْ حُقُوقِ الْجِهَادِ. وَهُوَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا يَلْزَمُهُمْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: مَا يلزمهم في حق الأمير عليهم. أما اللَّازِمُ لَهُمْ فِي حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فَأَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: مُصَابَرَةُ الْعَدُوِّ عِنْدَ الْتِقَاءِ الْجَمْعَيْنِ، وأن لا ينهزم عدد من مثليه فما دون. فقد كَانَ اللَّهُ تَعَالَى فَرَضَ فِي أَوَّلِ الْإِسْلَامِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يُقَاتِلَ عَشَرَةً مِنْ الكفار، بقوله تعالى (8: 65 - الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا، فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مائتين، وإن يكن منكم ألفاً يغلبوا ألفين بإذن الله) . وَحَرَّمَ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَنْهَزِمَ مِنْ مِثْلَيْهِ، إلَّا لِإِحْدَى حَالَتَيْنِ: إمَّا أَنْ يَتَحَرَّفَ لِقِتَالٍ، فَيُوَلِّي لِاسْتِرَاحَةٍ أَوْ لِمَكِيدَةٍ وَيَعُودُ إلَى قتالهم، وإما أن تيحيز إلى فئة أخرى أو متحيزاً إلى فئة قتالهم لقوله تَعَالَى (8: 16 - وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بغضب من الله) . وسواء قربت الفئة التي تحيز إليها أو بعدت. فإن عجز عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 مقاومة مثليه وأشرف على القتال، إن ثبت لم يجز أن يولي عنهم منهزماً. قال الخرقي " ولا يجوز للمسلم أن يهرب من كافرين" ومباح له أن يهرب من ثلاثة فإن خشي الأسر قاتل حتى يقتل". الثاني: أَنْ يَقْصِدَ بِقِتَالِهِ نُصْرَةَ دَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى، وإبطال ما خالفه من الأديان، فيكون مطيعاً لله تعالى في أوامره. وَلَا يَقْصِدُ بِجِهَادِهِ اسْتِفَادَةَ الْمَغْنَمِ، فَيَصِيرُ مِنْ المتكسبين، لا من المجاهدين. والأصل فيه: أن النبي - صلى الله عليه وسلم- لما فادى أسارى بدر بالمال عاتب الله نبيه على ما فعل، فقال تعالى (8: 67 - مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حتى يثخن في الأرض) . يعني القتل (تريدون عرض الدنيا) يعني مال الفداء (الله يريد الآخرة) يعني العمل بما يوجب ثواب الآخرة. الثالث من حقوق الله: أَنْ يُؤَدِّيَ الْأَمَانَةَ فِيمَا حَازَهُ مِنْ الْغَنَائِمِ، ولا يغل أحد منه شيئاً حتى تقسم بين جميع الغانمين ممن شهد الوقعة، وكانوا على العدوّ يدا واحدة. لأن لكلّ واحد منهم فيها حقا. وَالرَّابِعُ: مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى: أَنْ لَا يمالئ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ذَا قُرْبَى، وَلَا يُحَابِي فِي نصرة الله ذا مودة. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (60: 1 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنْ الْحَقِّ) : نَزَلَتْ فِي حَاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ وَقَدْ كتب كتاباً إلى أهل مكة، يعلمهم فيه حال مسير النبي - صلى الله عليه وسلم- إليهم. فأما ما يلزمهم في حق الأمير عليهم أربعة أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: الْتِزَامُ طَاعَتِهِ، وَالدُّخُولُ فِي وِلَايَتِهِ. قال تَعَالَى (4: 59 - يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ والرسول وأولي الأمر منكم) .قيل: هم الأمراء. وقيل: هم العلماء. وروى أَبُو هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم- قال " مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى الله، ومن عصى أميري فقد عصاني". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 الثاني: أَنْ يُفَوِّضُوا الْأَمْرَ إلَى رَأْيِهِ، وَيَكِلُوهُ إلَى تدبيره حتى لا تختلف آراؤهم، وقد قَالَ تَعَالَى (4: 84 - وَلَوْ رَدُّوهُ إلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ) . فَإِنْ ظَهَرَ لَهُمْ صَوَابٌ خَفِيَ عَلَيْهِ بَيَّنُوهُ لهم، وأشاروا به عليه، وقد ندب الله تعالى إلى المشاورة. الثالث: أن يسارعوا إلى امتثال أمره، والوقوف عند نهيه وزجره، فإن توقفوا عما أمرهم، وأقدموا على ما نهاهم عنه، كان له تأديبهم على المخالفة حسب أحوالهم، ولا يغلط فينفر، وقد قال الله تعالى لنبيه (3: 159 - وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حولك) . وروى ابن المسيب عن النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "خَيْرُ دينكم أيسره". الرابع: أن لا ينارعوه في الغنائم إذا قسموها بينهم، ويرضوا فيها بتعديل القسمة عليهم. ومن أَحْكَامِ هَذِهِ الْإِمَارَةِ مُصَابَرَةُ الْأَمِيرِ قِتَالَ الْعَدُوِّ وأن يطاول به، ولا يولي عنهم وَفِيهِ قُوَّةٌ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (3: 200 - يَا أَيُّهَا الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا) . قيل فيه: اصْبِرُوا عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَصَابِرُوا أَعْدَاءَ اللَّهِ، ورابطوا في سبيل الله. وقيل: اصْبِرُوا عَلَى الْجِهَادِ، وَصَابِرُوا الْعَدُوَّ، وَرَابِطُوا بِمُلَازَمَةِ الثغر. وَإِذَا كَانَتْ مُصَابَرَةُ الْقِتَالِ مِنْ حُقُوقِ الْجِهَادِ، فَهِيَ لَازِمَةٌ حَتَّى يُظْفَرَ بِخَصْلَةٍ مِنْ أَرْبَعِ خصال: إحداهن: أن يسلموا، فيحرزوا بالإسلام دماءهم وأموالهم. ويتبعهم في الإسلام صغار الأولاد. الثانية: أن يظفره الله تعالى، فيسبي ذراريهم، ويغنم أموالهمن ويقتل من لم يحصل في الأسر. وَيَكُونُ فِي الْأَسْرَى مُخَيَّرًا فِي اسْتِعْمَالِ الْأَصْلَحِ من أربعة أشياء: أن يقتلهم صبراً، فيضرب العنق. الثاني: أن يسرقهم، وَيُجْرِيَ عَلَيْهِمْ أَحْكَامَ الرِّقِّ: مِنْ بَيْعٍ، أَوْ عتق. الثالث: أَنْ يُفَادِيَ بِهِمْ عَلَى مَالٍ أَوْ أَسْرَى. الرابع: أن يمن عليهم، ويعفو عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الخصلة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَبْذُلُوا مَالًا عَلَى الْمَسْأَلَةِ وَالْمُوَادَعَةِ، فيجوز أن يقبله منهم، ويوادعهم عليه، وهو عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَبْذُلُوهُ لِوَقْتِهِمْ، وَلَا يَجْعَلُوهُ خَرَاجًا مُسْتَمِرًّا، فَهَذَا الْمَالُ غَنِيمَةٌ، لِأَنَّهُ مأخوذ بإيجاف الخيل والركاب، فَيُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَيَكُونُ ذَلِكَ أَمَانًا لَهُمْ فِي الِانْكِفَافِ بِهِ عَنْ قِتَالِهِمْ فِي هَذَا الْجِهَادِ، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ جِهَادِهِمْ فِيمَا بَعْدُ. الضرب الثَّانِي: أَنْ يَبْذُلُوهُ فِي كُلِّ عَامٍ، فَيَكُونُ خراجا مستمراً، ويستقر به الأمان، والمأخوذ منهم في العام الأول وغنيمة تُقَسَّمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَمَا يُؤْخَذُ فِي الْأَعْوَامِ المستقبلة هو فيء يُقَسَّمُ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يعاد جِهَادَهُمْ مَا كَانُوا مُقِيمِينَ عَلَى بَذْلِ الْمَالِ، لاستقرار الموادعة بالأمان عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَإِنْ مَنَعُوا الْمَالَ زَالَتْ الموادعة، وارتفع الأمان، ولزم جهادهم وهم كغيرهم من أهل الحرب. فإن حمل أهل الحرب هدية، ابتدأوا بها، لم يحصل لهم بالهداية عهد، وجاز حربهم بعدها، لأن العهد كناية عن عقد. الخصلة الرابعة: أن يسألوا الأمان والمهادنة. فيجوز ذلك، عند تعذر الظفر بهم، وعند أخذ المال منهم. وقد هَادَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قريشاً عام الحديبية عشر سنين ذكره أبو بكر في كتاب الخلاف. فإن هادنهم أكثر منها بطلت الهدنة فيما زاد. وإذا نقضوا العهد صاروا حربا، يجاهدون من غير إيذان. قَدْ نَقَضَتْ قُرَيْشٌ صُلْحَ الْحُدَيْبِيَةِ فَسَارَ إلَيْهِمْ رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عام الفتح، حتى فتح مكة عنوة. وإذا نقضوا العهد لم يجز قتل من في أيدينا من رهائنهم. ذكره أبو بكر في الخلاف - في أواخر أبواب السير- فقال: أخبرني أحمد بن الحسين قال: وجدت في كتاب أخي: حدثني المبارك بن سليمان قال " سئل أحمد بن حنبل عن قوم من المشركين، بيننا وبينهم كتاب، لا يغزونا ولا نغزوهم، ولا يقتلون لنا تاجراً، ولا نقتل لهم، ويعطونا على ذلك الرهائن. ثم إنهم نكثوا وقتلوا، فما تقول في الرهائن؟ قال: ليس عليهم شيء". وظاهر هذه منع قتلهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 ونقلت من مسائل أبي عبد الله النيسابوري - بطالقان - عن أحمد " أنه سئل عن أهل الحرب، إذا أخذوا من المسلمين رهائن وأعطوا رهنا، ثم قتلوا رهننا، هل لنا أن نقتل رهنهم كما قتلوا؟ فكأنه ذهب إلى أن نقتل رهنهم". والدلالة على أنهم لا يقتلون: ما رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال " أدّ الأمانة إلى من ائتمنك، ولا تخن من خانك". وروي أن الروم نقضوا عَهْدَهُمْ زَمَنَ مُعَاوِيَةَ، وَفِي يَدِهِ رَهَائِنُ، فَامْتَنَعَ الْمُسْلِمُونَ جَمِيعًا مِنْ قَتْلِهِمْ، وَخَلَّوْا سَبِيلَهُمْ، وَقَالُوا " وفاء بغدر خير من غدر بغدر". وإذا لم يجز قتل الرهائن لم يجب إطلاقهم، ما لم نحاربهم، إذا حوربوا وجب إطلاق رهائنهم، وألحقوا بمأمنهم. ويجوز أن يشترط فِي عَقْدِ الْهُدْنَةِ رَدَّ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ رجالهم، إذا أمنوا على رده، فإن لم يأمنوا لم يجز رده عليهم. ولا يجوز رد من أسلم من نسائهم، فإن شرط رد رهن لم يجز رد رهن. وإذا لم تدع الضرورة إلى عقد الهدنة لم تجز مهادنتهم، ويجوز موادعتهم أربعة أشهر. ويصح الأمان الخاص من الرجل والمرأة والحر والعبد. ومن أحكام هذه الإمارة أنه يجوز لأمير الجيش، في حصار العدو عليهم العرادات والمنجنيقات وقد نصب النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَهْلِ الطَّائِفِ مَنْجَنِيقًا. وَيَجُوزُ أَنْ يَهْدِمَ عَلَيْهِمْ مَنَازِلَهُمْ، وَيَضَعَ عليهم البيات والتحريق. وإن رأى في قطع نخلهم وشجرهم صلاحاً يضعفهم به ليظفر بهم، أو يدخلوا في السلم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 فعل، وإن لم ير ذلك صلاحاً لم يفعله. وقد قطع النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كُرُومَ أَهْلِ الطَّائِفِ فكان سببا لإسلامهم. وَأَمَرَ فِي حَرْبِ بَنِي النَّضِيرِ بِقَطْعِ نَوْعٍ مِنْ النَّخْلِ يُقَالُ لَهُ الْأَصْفَرُ، يُرَى نَوَاهُ من وراء اللحاء، وكانت النخلة منها أحب إليهم من الوصيف. وقد نقل الجماعة عن أحمد، منهم المروزي، قال "إن فعلوا بنا فعلنا بهم" وقال " لا أذهب إليه إلا إذا فعلوا بنا ذلك". وقد منع من البداية وأجازه على المقابلة. ونقل الأثرم عنه قال " أكرهه، إلا أن يكون ذلك يغيظهم ويبلغ منهم". وقال الميموني: سئل أبو عبد الله " أيماء أكثر: يحرق في بلاد الروم، أو لا يحرق؟ قال: التحريق أكثر وأثبت". وظاهر هذا: جواز ذلك، إذا كان فيه نكاية. وَيَجُوزُ أَنْ يُغَوِّرَ عَلَيْهِمْ الْمِيَاهَ، وَيَقْطَعَهَا عَنْهُمْ، وإن كان فيهم نساء وأطفال، لأنه أبلغ في الظفر بهم. وَإِذَا اسْتَسْقَى مِنْهُمْ عَطْشَانُ، كَانَ الْأَمِيرُ مُخَيَّرًا بين سقيه ومنعه، كما كان مخيرا بين قتله وتركه. وَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وَارَاهُ عَنْ الْأَبْصَارِ، وَلَمْ يلزمه تكفينه. قد أمر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِقَتْلَى بَدْرٍ، فَأُلْقُوا فِي الْقَلِيبِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحَرِّقَ بِالنَّارِ حياً أو ميتاً، لقوله - صلى الله عليه وسلم- " لَا تُعَذِّبُوا عِبَادَ اللَّهِ بِعَذَابِ اللَّهِ ". وَقَدْ حرق أَبُو بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - قَوْمًا مِنْ أهل الردة. وَمَنْ قُتِلَ مِنْ شُهَدَاءِ الْمُسْلِمِينَ زُمِّلَ فِي ثِيَابِهِ الَّتِي قُتِلَ فِيهَا، وَدُفِنَ بِهَا، وَلَمْ يغسل. وفي الصلاة عليه روايتان. ولا يمنع الجيش من أكل طعامهم، وعلوفة دوابهم في ذلك الحرب، غَيْرَ مُحْتَسِبٍ بِهِ عَلَيْهِمْ وَلَا يَتَعَدَّوْا الْقُوتَ والعلوفة إلى ما سواها من ملبوس ومركوب، فإن دعتهم ضرورة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 إلى ذلك كان ما لبسوه وركبوه مُسْتَرْجَعًا مِنْهُمْ فِي الْمَغْنَمِ، إنْ كَانَ بَاقِيًا، وَمُحْتَسَبًا عَلَيْهِمْ مِنْ سَهْمِهِمْ إنْ كَانَ مُسْتَهْلَكًا. وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب، في (الصابون) يوجد في بلاد الروم يغسل به الرجل قال " لا"، ليس هو طعام، ولا يغسل به". وقال أيضاً - في رواية إسحاق بن إبراهيم - في الرجل يسقطه سوطه يأخذ قضيبا من الشجر يعمل منه مقرعة، فقال "أرى أن يطرح في المغنم، أو يطرح ثمنها في المغنم". ونقلت من مسائل إسحاق بن إبراهيم - في الرجل يحتاج إلى الدابة من دواب السبي يركبها؟ قال: نعم، ولا يعجفها قيل له: يأخذ السيف، ويلبس الثياب؟ قال: نعم، واحتج بحديث ابن مسعود "أنه أخذ سيف أبي جهل فضربه به". وقد عمل به في ذلك الوقت. وسئل عن الثياب يحتاج إليها، قال "يلبس ثيابهم، فإذا بلغ المغنم طرحها فيه". وظاهر هذا، أنه جعل له الثياب والسلاح. وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَطَأَ جَارِيَةً من السبي إلا أن يعطاها بسهمه، ويطؤها بَعْدَ الِاسْتِبْرَاءِ. فَإِنْ وَطِئَهَا قَبْلَ الْقِسْمَةِ عُزِّرَ، ولم يُحَدُّ، لِأَنَّ لَهُ فِيهَا سَهْمًا، وَوَجَبَ عَلَيْهِ مهرها، يضاف إلَى الْغَنِيمَةِ. فَإِنْ أَحْبَلَهَا لَحِقَ بِهِ وَلَدُهَا، وصارت أم ولد لهم إن ملكها، فإن وَطِئَ مَنْ لَمْ يَدْخُلْ فِي السَّبْيِ حُدَّ، ولم يلحق به ولدها إن علقت. وإذا عقدت هذه الإمارة على غزاة وَاحِدَةٍ لَمْ يَكُنْ لِأَمِيرِهَا أَنْ يَغْزُوَ غَيْرَهَا سَوَاءٌ غَنِمَ فِيهَا أَوْ لَمْ يَغْنَمْ. وَإِذَا عُقِدَتْ عُمُومًا عَامًا بَعْدَ عَامٍ، لَزِمَهُ مُعَاوَدَةُ الغزو في كل وقت يقدر عليه، وَلَا يَفْتُرُ عَنْهُ مَعَ ارْتِفَاعِ الْمَوَانِعِ إلَّا قَدْرَ الِاسْتِرَاحَةِ. وَأَقَلُّ مَا يَجْزِيهِ: أَنْ لَا يعطل عاما من جهاد. ويلزم هذا الأمير: أن ينظر في أحوال المجاهدين، ويقيم الحدود عليهم، وَلَا يَنْظُرُ فِي أَحْكَامِ غَيْرِهِمْ مَا كَانَ سائرا إلى ثغره. فإن اسْتَقَرَّ فِي الثَّغْرِ الَّذِي تَقَلَّدَهُ جَازَ أَنْ ينظر في أحكام جميع أهله من مقاتلة ورعية. وإن كانت إمارته خاصة أجرى عليه أحكام الخصوص. فأما قتال أهل الردة فإنه واجب بعد إنذارهم ثلاثة أيام، سواء كان المرتد رجلاً أو امرأة. وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمُرْتَدِّ عَلَى رِدَّتِهِ بِجِزْيَةٍ ولا عهد، ولا تؤكل لهم ذبيحة، ولا تنكح منهم امرأة. وَإِذَا قُتِلَ لَمْ يُغَسَّلْ وَلَمْ يُصَلَّ عَلَيْهِ، وَلَا يُدْفَنُ فِي مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، لِخُرُوجِهِ بِالرِّدَّةِ عنهم، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 ولا في مقابر المشركين، لما تقدمت له من حرمة الإسلام، ولكن يوارى مقبوراً، وَيَكُونُ مَالُهُ فَيْئًا فِي بَيْتِ مَالِ الْمُسْلِمِينَ، مصروفا في أهل الفيء، ولا يرثه عنه وارث مسلم ولا كافر. وإذا لَحِقَ الْمُرْتَدُّ بِدَارِ الْحَرْبِ كَانَ مَالُهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، فَإِنْ عَادَ إلَى الإسلام أعيد إليه، وإن هلك على الردة صار فيئا. فإن انحازوا في دار ينفردون بها عن المسلمين حتى صاروا فيها ممتنعين، نحو بلد القرمطي وجب قِتَالُهُمْ عَلَى الرِّدَّةِ بَعْدَ مُنَاظَرَتِهِمْ عَلَى الْإِسْلَامِ واستتابتهم، ويقاتلون قتال أهل الحرب مقبلين ومدبرين. ومن أسر منهم قتل صَبْرًا إنْ لَمْ يَتُبْ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يسترق رجالهم، وتغنم أموالهمن وتسبى ذراريهم الذين حدثوا بعد الردة. وقد قال أحمد - رضي الله عنه - في رواية أبي طالب في خرّمية كان لهم سهم في قرية، فخرجوا يقاتلون المسلمين. هم المسلمون فأرضوهم فيء للمسلمين من قاتل عليه حتى أخذ، فيؤخذ خمسة يقسم على خمسة أسهم وأربعة أخماس الذين فاءوا مثل ما أخذ عمر السواد، فقد وقفه على المسلمين. وقال - في رواية الفضل - في رجل ارتد في أرض الترك وتزوج فيهم وولد له " يردّون إلى الإسلام إلا أنهم يكونون عبيداً للمسلمين". وقال في رواية أحمد بن سعيد في المحمرة الخرمية إذا خرجوا حتى ذراري المرتدين سبا الولدان. والوجه في سبي الولدان والذراري والأموال: أنها دار تجري فيها أحكام أهل الحرب فكانت دار حرب دليله أهل الحرب بالكفر الأصلي. والوجه في استرقاق الولد الحادث بعد الردة: أنه كافر ولد من كافرين فجاز استرقاقه كسائر أولاد أهل الحرب. وما أتلفوا من الأولاد والأنفس في حال تحيزهم بالدار أخذوا بذلك. قال في رواية ابن منصور - في مرتد دار الحرب فقتل أو زنى أو سرق - " يعجبني أن يقام عليه حد ما أصاب هناك". وكذلك قال في رواية مهنا، في المرتد إذا قطع الطريق ولحق بدار الحرب، فأخذه المسلمون: يقام عليه ويقتص منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 والوجه فيه: أنهم قد التزموا أحكام المسلمين، وليس لهم تأويل سائغ، فكان عليهم الضمان. دليله المحاربون في قطع الطريق. ولا يلزم أهل دار الحرب، لأنهم لم يلزموا أحكام المسلمين، ولا يلزم عليه البغاة، لأن لهم تأويلاً سائغاً. ولا يجوز أن يهادنوا على الموادعة، بخلاف أهل دار الحرب. ولا يصالحون على مال يقروا به على ردتهم، بخلاف أهل دار الحرب. ومن ادعيت عليه الردة فأنكرها، كان القول قوله بغير يمين. ولو قامت البينة عليه بِالرِّدَّةِ لَمْ يَصِرْ مُسْلِمًا بِالْإِنْكَارِ، حَتَّى يَتَلَفَّظَ بِالشَّهَادَتَيْنِ. وَإِذَا امْتَنَعَ قَوْمٌ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ إلى الإمام العادل جاحدين لها، كانوا مرتدين يجري عليهم حكم أهل الردة. وإن منعوها مع اعترافهم بها بخلا، قاتلهم الإمام، كما قاتلهم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، لما منعوا الزكاة ن حتى قال قائلهم: أطعنا رسول الله ما كَانَ بَيْنَنَا فَيَا عَجَبًا، مَا بَالُ مُلْكِ أبو بكر؟. فإن امتنعوا قتلهم على ملة الإسلام، كما يقتل المحاربين بعد أن يستتيبهم ثلاثة أيام، وقد قال أحمد في رواية أبي طالب " إذا قال: الزكاة علىّ ولا أزكي، يقال له، مرتين أو ثلاثاً زكّ. فإن لم يزكّ، يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا ضربت عنقه". فقد نص على قتلهم. وقال في رواية الميموني " إذا منعوا الزكاة، كما منعوا أبا بكر، وقاتلوا عليها، لم يورّثوا ولم يصلّ عليهم". وهذا محمول على أنهم منعوا مع عدم اعتقاد الوجوب، كما منع أهل الردة، فأما مع الاعتقاد فلا يكفرون. وقد قال في رواية عبدوس " من ترك الصلاة فقد كفر وليس من الأعمال شيء تركه كفر إلا الصلاة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 وأما قتال أهل البغي وهم الذين يخرجون على الإمام، ويخالفون الجماعة، وينفردون بمذهب ابتدعوه، نظرت. فإن لم يخرجوا به عن المظاهرة بِطَاعَةِ الْإِمَامِ، وَلَا تَحَيَّزُوا بِدَارٍ اعْتَزَلُوا فِيهَا، وَكَانُوا أَفْرَادًا مُتَفَرِّقِينَ تَنَالُهُمْ الْقُدْرَةُ، وَتَمْتَدُّ إلَيْهِمْ اليد، تركوا ولم يحابوا، وأجريت عليهم أحكام أهل العدل في الْحُقُوقِ وَالْحُدُودِ. وَقَدْ عَرَضَ قَوْمٌ مِنْ الْخَوَارِجِ لعلي - رضي الله عنه - بمخالفة رَأْيِهِ، وَقَالَ أَحَدُهُمْ وَهُوَ يَخْطُبُ عَلَى مِنْبَرِهِ "لا حكم إلا لله تعالى". فقال عليّ "كَلِمَةُ حَقٍّ أُرِيدَ بِهَا بَاطِلٌ، لَكُمْ عَلَيْنَا ثَلَاثٌ: لَا نَمْنَعُكُمْ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ تَذْكُرُوا فِيهَا اسْمَ اللَّهِ، وَلَا نَبْدَؤُكُمْ بِقِتَالٍ، وَلَا نَمْنَعُكُمْ الْفَيْءَ مَا دَامَتْ أَيْدِيكُمْ مَعَنَا". فَإِنْ تَظَاهَرُوا بِاعْتِقَادِهِمْ، وَهُمْ عَلَى اخْتِلَاطِهِمْ بِأَهْلِ الْعَدْلِ، أوضح لهم الإمام فساد ما اعتقدوه، وبطلان ما ابتدعوه، لِيَرْجِعُوا عَنْهُ إلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ، وَمُوَافَقَةِ الْجَمَاعَةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 وجاز للإمام أن يعزّر من تظاهر بالعناد، أدباً وتعزيراً، ولم يتجاوزه إلى قتل ولا حدّ. لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- " لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كفر بعد إيمان، وزنا بعد 'إحصان، وقتل نفس بغير نفس". وإن اعتزلت هذه الطائفة الْبَاغِيَةُ أَهْلَ الْعَدْلِ، وَتَحَيَّزَتْ بِدَارٍ تَمَيَّزَتْ فِيهَا. نظرت، فإن لم تمتنع من حَقٍّ، وَلَمْ تَخْرُجْ عَنْ طَاعَةٍ، لَمْ يُحَارَبُوا، ما داموا مقيمين على الطاعة، وتأدية الحقوق. وقد اعتزلت طائفة من الخوارج عليا - رضي الله عنه - بِالنَّهْرَوَانِ، فَوَلَّى عَلَيْهِمْ عَامِلًا أَقَامُوا عَلَى طَاعَتِهِ زمانا، وهولهم موادع إلى أن قتلوه، فأرسل إليهم سلموا قَاتِلَهُ، فَأَبَوْا، وَقَالُوا: كُلُّنَا قَتَلَهُ. قَالَ: فَاسْتَسْلِمُوا إذا أقتلكم. فسار إليهم فقتل أكثرهم. فإن امْتَنَعَتْ هَذِهِ الطَّائِفَةُ الْبَاغِيَةُ مِنْ طَاعَةِ الْإِمَامِ، وَمَنَعُوا مَا عَلَيْهِمْ مِنْ الْحُقُوقِ، وَتَفَرَّدُوا بِاجْتِبَاءِ الأموال، وتنفيذ الأحكام. نظرت، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ، وَلَمْ يُنَصِّبُوا لِأَنْفُسِهِمْ إمَامًا، كان ما اجتنبوه مِنْ الْأَمْوَالِ غَصْبًا، لَا تَبْرَأُ مِنْهُ ذِمَّةٌ، وما نفذوه من الأحكام مردودا، ولا يثبت به حق، وإن نصبوا إمَامًا اجْتَبَوْا بِقَوْلِهِ الْأَمْوَالَ، وَنَفَّذُوا بِأَمْرِهِ الْأَحْكَامَ، لم يتعرض على أحكامهم بالرد، ولا على ما اجتبوه بالمطالبة، وحوربوا حتى يفيئوا إلى الطاعة. قال تعالى (49: 9 - وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) . وإذا قلد الإمام أميراً على قتال البغاة، قدم قبل القتال إنذارهم وإعزارهم، ولا يهجم عليهم غرة، ويكون قصده بالقتال ردعهم، ولا يتعمد به قتلهم، بخلاف قتال المشركين والمرتدين، ويقاتلهم مقبلين، ويكف عنهم مدبرين، بخلاف أهل الحرب والمرتدين. ولا يقتل أسراهم، ويجوز قتل أسرى أهل الحرب وَالْمُرْتَدِّينَ. وَيَعْتَبِرَ أَحْوَالَ مَنْ فِي الْأَسْرِ مِنْهُمْ. فَمَنْ أَمِنَتْ رَجْعَتُهُ إلَى الْقِتَالِ أُطْلِقَ، وَمَنْ لم تؤمن منه الرجعة حبس حتى ينجلي الحرب، ثم يطلق ولا يحبس بعدها، ولا تغنم أموالهم، ولا تسبى ذراريهم، ولا يستعين على قتالهم بمشرك معاهد، ولا ذمي. وقد منع أحمد من ذلك في قتال أهل الحرب، فأولى في قتال البغاة. ولا يُهَادِنَهُمْ إلَى مُدَّةٍ، وَلَا يُوَادِعَهُمْ عَلَى مَالٍ، فإن هادنهم إلى مدة لم تلزم، وإن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 ضَعُفَ عَنْ قِتَالِهِمْ انْتَظَرَ بِهِمْ الْقُوَّةَ عَلَيْهِمْ، وَإِنْ وَادَعَهُمْ عَلَى مَالٍ بَطَلَتْ الْمُوَادَعَةُ، وَنُظِرَ فِي الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ مِنْ فَيْئِهِمْ أَوْ مِنْ صَدَقَاتِهِمْ، لَمْ يَرُدَّهُ عَلَيْهِمْ، وَصَرَفَ الصَّدَقَاتِ في أهلها. والفيء في مستحقه. وَإِنْ كَانَ مِنْ خَالِصِ أَمْوَالِهِمْ لَمْ يَجُزْ أني يتملكه عليهم، ووجب رده إليهم، لأنهم بذلوه على ما قد منعوه. ولا يَنْصِبَ عَلَيْهِمْ الْعَرَّادَاتِ، وَلَا يُحْرِقُ عَلَيْهِمْ الْمَسَاكِنَ، ولا يقطع الشجر، لأنها دار الإسلام. وقد حكاه أبو بكر في كتاب الخلاف عن أحمد، في رواية محمد بن الحكم. ولا يرمون بالمنجنيق إذا قاتلوا المحمرة. فإن أحاطوا بأهل العدل، وخافوا منهم الاصطدام، جاز أن يدفعوا عن أنفسهم بما استطاعوا، من اعتمادهم قتلهم، ونصب العرادات عليهم، لأن للمسلم أن يدفع عن نفسه بقتل طالبها، إذا لم يندفع إلا به. ولا يجوز أن يستمتع بدوابهم، ولا بسلاحهم في قتالهم، ولا في غيره. وإذا انجلت الحرب - ومع أهل العدل أموال - ردت عليهم، وما يتلف منها في غير القتال فهو مضمون على متلفه، وما أتلف عليهم فِي نَائِرَةِ الْحَرْبِ مِنْ نَفْسٍ وَمَالٍ، فَهُوَ هدر، وما أتلفه أَهْلِ الْعَدْلِ فِي غَيْرِ نَائِرَةِ الْحَرْبِ مِنْ نفس أو مال، فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَتْلَفُوهُ فِي نَائِرَةِ الحرب فلا ضمان عليهم، وهو هدر. ويصلى على قتلى أهل البغي، ويغسلون. وأما قتلى أهل العلد ففي غسلهم والصلاة عليهم روايتان: إحداهما: لا يغسلون ولا يصلى عليهم، لأن قتالهم للذب عن الدين فهو كقتال الكفار. والثانية: يغسلون ويصلى عليهم، قد صلوا على عمر، وعثمان، وعلي، وغسلوهم، وإن كان قتلهم ظلما. وَإِذَا مَرَّ تُجَّارُ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِعَشَّارِ أَهْلِ الْبَغْيِ، فَعَشَّرَ أَمْوَالَهُمْ، ثُمَّ قُدِرَ عَلَيْهِمْ عُشِّرُوا، وَلَمْ يُجْزِهِمْ الْمَأْخُوذُ مِنْهُمْ بِخِلَافِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الزكوات، لأنهم مروا بهم مجتازين، والزكاة تؤخذ من المقيمين. وإاذ أَتَى أَهْلُ الْبَغْيِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ حُدُودًا، أقيمت عليهم بعد القدرة عليهم. ولا يرث باغ قتل عادلاً، وأما العادل فإذا قتل باغياً ورثه، وكذلك كل قتل بحق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 كالقتل قصاصا، أو دفعا عن نفسه، أو قتل الإمام مورثه، لأنه أقر عنده بقصاص، أو زنا، أو في قطع الطريق. وقد قال أحمد في رواية أبي النضر وبكر بن محمد: في أربعة شهدوا على أختهم بالزنا، فرجمت ورجموا مع الناس، فهم غير قتلة. يرثونها. وقال أبو بكر في كتاب الخلاف: إذا قتل العادل الباغي في الحرب، فإنهما يتوارثان. والوجه فيه: أن أحكام القتل: القصاص، والمأثم، والدم، والكفارة. وهذه الأحكام لا تعلق بالقتل، كذلك حرمان الميراث. وأما قتال المحاربين وقطاع الطريق فإذا اجْتَمَعَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْفَسَادِ عَلَى شَهْرِ السِّلَاحِ، وَقَطْعِ الطَّرِيقِ، وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ، وَقَتْلِ النُّفُوسِ، وقتل السابلة، فحدودهم مرتبة باختلاف أحوالهم، لَا بِاخْتِلَافِ صِفَاتِهِمْ. فَمَنْ قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ: قُتِلَ وَصُلِبَ. وَمَنْ قَتَلَ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ: قُتِلَ وَلَمْ يُصْلَبْ. وَمَنْ أَخَذَ الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ: قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خِلَافٍ. وَمَنْ أظهر السلاح، ولم يأخذ المال عزر، ولم يقتل. وتعزيره: نفيه من بلد إلى بلد، ومن قرية إلى قرية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 فإن تابوا قبل أن يقدر عليهم الإمام: سقطت عنهم حدود الله تعالى، ولا تسقط حقوق الآدميين. وقتالهم مخالف لقتال أهل البغي من خمسة أوجه: أحدها: يَجُوزُ قِتَالُهُمْ مُقْبِلِينَ وَمُدْبِرِينَ، لِاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ اتِّبَاعُ مَنْ وَلَّى مِنْ أَهْلِ البغي. وقد قال أحمد في رواية ابن منصور، والفضل، وبكر بن محمد: " إذا ولي فلا تتبعاه". وهذا محمول على ما إذا ولي ولم يتعلق به حق من قصاص أو مال، لأنه قال في رواية أبي طالب " إذا أخذ المال وهرب اتبعه، فإن ألقاه فلا تتبعه". الثاني: أنه يجوز أن يتعمد في الحرب قَتْلِ مَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يتعمد قتل أهل البغي. الثالث: أنهم يؤاخذون بما استهلكوه من مال، ودم في الحرب وغيرها، بخلاف أهل البغي. الرابع: يَجُوزُ حَبْسُ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ، لِاسْتِبْرَاءِ حَالِهِ، وَإِنْ لَمْ يَجُزْ حَبْسُ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ البغي. الخامس: أَنَّ مَا اجْتَبَوْهُ مِنْ خَرَاجٍ، وَأَخَذُوهُ مِنْ صدقات، فهو كالمأخوذ غصبا: لايسقط عن أهل الخراج والصدقات حقاً، بخلاف أهل البغي. وَإِذَا كَانَ الْمَوْلَى عَلَى قِتَالِهِمْ مَقْصُورَ الْوِلَايَةِ عَلَى مُحَارَبَتِهِمْ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ الْقُدْرَةِ أَنْ يقيم عليهم الحدود، ولا أن يستوفي منهم حقا، ولزمه حَمْلُهُمْ إلَى الْإِمَامِ لِيَأْمُرَ بِإِقَامَةِ الْحُدُودِ عَلَيْهِمْ واستيفاء الحقوق منهم وإذا كَانَتْ وِلَايَتُهُ عَامَّةً عَلَى قِتَالِهِمْ، وَاسْتِيفَاءِ الْحُدُودِ والحقوق منهم: فلابدّ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالْعَدَالَةِ لِيَنْفُذَ حكمه فيما يقيمه من حدود، ويستوفيه من حقوق. والكشف عَنْ أَحْوَالِهِمْ مِنْ أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا بِإِقْرَارِهِمْ طوعا من غير إكراه، ولا ضرب، أو بِقِيَامِ الْبَيِّنَةِ الْعَادِلَةِ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ. فَإِذَا عَلِمَ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ مَا فَعَلَهُ كل واحد منهم من جرائم نظر. فمن كان منهم قَتَلَ وَأَخَذَ الْمَالَ قَتَلَهُ وَصَلَبَهُ بَعْدَ الْقَتْلِ. وهذا القتل محتوم لا يجوز العفو عنه، وإن عفي ولي الدم كان عفوه لغوا، ويصلبه ثلاثة أيام لا يتجاوزها، ثم يحطه. وَمَنْ قَتَلَ مِنْهُمْ وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ قَتَلَهُ، ولم يصلبه، غسله وصلى عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 ومن أخذ منهم الْمَالَ وَلَمْ يَقْتُلْ، قُطِعَتْ يَدُهُ وَرِجْلُهُ مِنْ خلاف، وكان قَطْعُ يَدِهِ الْيُمْنَى لِسَرِقَتِهِ، وَقَطْعُ رِجْلِهِ الْيُسْرَى لمجاهرته. ومن خرج مِنْهُمْ وَلَمْ يَقْتُلْ، وَلَمْ يَأْخُذْ الْمَالَ اقْتَصَّ منه بالخراج، إن كان في مثله قصاص وهو إلى خيار مستحقه يجب بمطالبته، ويسقط بعفوه وليس بمحتم، وإن كان مما لاقصاص فيه وجبت ديته للمجروح إن طالب بها، وتسقط إذا عفاه. ومن كان منهم ردءا أجرى عليهم أحكام قطاع الطريق، وإن لم يباشروا بالفعل. وإن تابوا من جرائمهم بعد القوة عليهم، سقطت عنهم المآثم، دون المظالم، فيؤخذون بما وجب عليهم من الحدود والحقوق. وإن تَابُوا قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، سَقَطَتْ عَنْهُمْ مَعَ المآثم حدود الله تعالى، ولم تسقط حقوق الآدميين. فمن كان قد قتل منهم فالخيار إلى وليّ الدم في القصاص أو العفو، ويسقط بالتوبة انحتام القتل، والقطع، والصلب. وتجري أحكام قطاع الطريق والمحاربين في الأمصار، كما تجري عليهم في الصحاري. وقد سئل أحمد رحمه الله تعالى عن المحاربين في المصر، فتوقف عن الجواب فيهم. وقال الخرقي في مختصره: والمحاربون الذين يعرضون للقوم في الصحراء بالصلاح. وإذا دعوا التوبة قبل القدرة عليهم نظرت، فَإِنْ لَمْ تَقْتَرِنْ بِالدَّعْوَى أَمَارَاتٌ تَدُلُّ عَلَى التوبة لم تقبل دعواهم لها في سقوط حدود، وإن اقترفت بدعواهم أمارات تدل على التوبة قبلت، ليكون ذلك شبهة يصح بها درء الحد. وأصل هذا من كلام أحمد رحمه الله ما قاله في رواية أي داود ومهنا، فقال في رواية أبي داود في سرية دخلت بلاد الروم فاستقبلهم أعلاج، فأخذوهم فقالوا: جئنا مستأمنين، فإن استدل عليهم بشيء قيل له: إنهم وقفوا فلم يجردوا سلاحاً. فرأى أن لهم الأمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 وقال في رواية مهنا في سفينة أخذت في البحر فيها روم، فقالوا: نحن جئنا بأمان، فقال: " ينظر في حالهم، إن كان معهم سلاح". فقد اعتبر الظاهر في حقن دمائهم، وهذا مثله هاهنا. ويتخرج فيه وجه آخر: لا يقبل قولهم في التوبة إلا ببينة تَشْهَدُ لَهُمْ بِالتَّوْبَةِ قَبْلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهَا حدود قد وجبت، والشبهة ما اقترفت بالفعل، بل تأخرت عنه. وأصل هذا من كلام أحمد رحمه الله تعالى: ما قاله في رواية يعقوب بن بختان في الرجل من المسلمين جاء برجل من العدو، فقال أسرته، وقال العلج: بل أعطاني الأمان، فقال: إذا كان الرجل صالحاً لم يقبل قول العلج. وكذلك قال في رواية محمد بن يحيي الكحال في الأسير يخرج من بلاد الروم ومعه علج، فيقول العلج: أنا خرجب به، ويقول الأسير: أنا خرجت به، فقالك "أولى أن يقبل قول المسلم". فلم يقبل قوله وإن كان ذلك يعود بحقن دمه. فصل فأما ولاية القضاة فلا يجوز تقليد القضاء إلا لمن كملت في سبع شرائط: الذكورية، والبلوغ، والعقل، والحرية، والإسلام، والعدالة، والسلامة في السمع والبصر، والعلم. أما الذكورية فلأن المرأة تنقص عن كمال الولايات، وقبول الشهادات. أما البلوغ والعقل، فلأن الصبي والمجنون لا يليان على أنفسهما، فأولى أن لا يليان على غيرهما، ولأن طريق الاجتهاد في الحوادث، وأعيان الشهور معدومة فيهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 وأما الحرية فلأن العبد ليس من أهل الولايات، ولا كامل الشهادات. وأما الإسلام، فلأن الفاسق المسلم لا يجوز أن يلي فأولى أن لا يلي الكافر. وأما العدالة، فلأن الفاسق متهم في دينه، والقضاء طريقه الأمانات. وأما السلامة في السمع والبصر، فليعرف المدّعي من المنكر، ولا يتحصل هذا للضرير والأطروش. وأما السلامة في بقية الأعضاء فغير معتبرة، لأنه يتأتى منه الحكم. ويفارق الإمامة الكبرى بأن فقد بعض الأعضاء لأنه لا يتأتى استيفاء الحقوق مع عدمها من الوجه الذي ذكرنا فيما قبل. وأما العلم فلا بدّ أن يكون عالما بالأحكام الشرعية، ومعرفتها تقف على معرفة أصول أربعة: أحدها: المعرفة من كتاب الله بما تَضَمَّنَهُ مِنْ الْأَحْكَامِ نَاسِخًا وَمَنْسُوخًا، وَمُحْكَمًا وَمُتَشَابِهًا وعموماً وخصوصاً، ومجملاً ومفسراً. الثاني: عِلْمُهُ بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- الثابتة من أفعاله وأقواله، وَطُرُقِ مَجِيئِهَا فِي التَّوَاتُرِ وَالْآحَادِ، وَالصِّحَّةِ وَالْفَسَادِ، وما كان على سبب أو إطلاق. الثالث: علمه بأقاويل السلف فيما أجمعوا عليه، واختلفوا فيه، ليتبع الإجماع، ويجتهد رأيه مع الاختلاف. الرابع: عِلْمُهُ بِالْقِيَاسِ الْمُوجِبِ لِرَدِّ الْفُرُوعِ الْمَسْكُوتِ عَنْهَا إلى الأصول المنطوق بها والجمع عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 فإذا عرف ذلك صار من أهل الاجتهاد، وجاز له أن يفتي ويقضي. ومن لم يعرف ذلك لم يكن من أهل الاجتهاد ولم يجز له أن يفتي ولا يقضي، فإن قلد القضاء كان حكمه باطلا، وإن وافق الصواب. لعدم الشرط. والعلم بأنه من أهل الاجتهاد يحصل بمعرفة متقدمة، وباختباره، ومسألته. قَدْ قَلَّدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم- علياً قضاء اليمن، ولم يختبره لعلمه به. ولكن صار تَنْبِيهًا عَلَى وَجْهِ الْقَضَاءِ. فَقَالَ "إذَا حَضَرَ الخصمان بَيْنَ يَدَيْكَ فَلَا تَقْضِ لِأَحَدِهِمَا حَتَّى تَسْمَعَ من الآخر، قال عليّ فما أشكلت على قضية بعد". وبعث معاذاً إلى ناحية اليمن فاختبره. فقال له " بم تقض؟ قَالَ: بِكِتَابِ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنْ لَمْ تَجِدْ؟ قال: بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال: فإن لم تجد؟ قال أجتهد رأيي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 فأما نفاة القياس فهل يجوز أن يولوا القضاء؟ نظرت، فإن نَفَوْهُ وَاتَّبَعُوا ظَاهِرَ النَّصِّ، وَأَخَذُوا بِأَقَاوِيلِ سَلَفِهِمْ فيما لم يرد فيه نص، واطرحوا الاجتهاد، وعدولوا عن الفكر والاستنباط لم يجز تقليدهم القضاء، لقصورهم عن طرق الأححام. وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية بكر ابن محمد بن الحكم في الإمام والحاكم يرد عليه أمر من أمور المسلمين، فلا بدّ للإمام والحاكم من أن يجمع له الناس، ويقيس ويشبه، لأن هذا عليه وعلى الحاكم، لما كتب عمر إلى شريح " أن قس الأمور". وإن نفى القياس ولكن اجتهد في الأحكام تعلقاً بمضمون الكلام، ومفهوم الخطاب، كأهل الظاهر. احتمل المنع أيضاً للمعنى الذي ذكرنا. وهو ظاهر كلام أحمد، لأنه قال" يقيس ويشبه". ويحتمل الجواز. لأنهم يعتبرون وَاضِحَ الْمَعَانِي، وَإِنْ عَدَلُوا عَنْ خَفِيِّ الْقِيَاسِ. ويجوز لمن يعقد مذهب أحمد أن يقلد القضاء من يعتقد مذهب الشافعي، لأن على القاضي أن يجتهد رأيه فِي قَضَائِهِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَنْ يُقَلِّدَ فِي النوازل والأحكام من اعتزى إلى مذهبه. وَإِذَا نَفَذَ قَضَاؤُهُ بِحُكْمٍ وَتَجَدَّدَ مِثْلُهُ مِنْ بعد أعاد الاجتهاد فيه. ونص بِمَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ. وَإِنْ خَالَفَ مَا تقدم من حكمه، لأن عمر - رضي الله عنه - قضى في المشتركة بِالتَّشْرِيكِ فِي عَامٍ، وَتَرَكَ التَّشْرِيكَ فِي غَيْرِهِ. فَقِيلَ لَهُ: مَا هَكَذَا حَكَمْتَ فِي الْعَامِ الْمَاضِي؟ فَقَالَ: تِلْكَ عَلَى مَا قَضَيْنَا وَهَذِهِ على ما نقضي". فإن كان المولى على مذهب فشرط عَلَى مَنْ وَلَّاهُ الْقَضَاءَ أَنْ لَا يَحْكُمَ إلا بمذهبه. فهذا شرط باطل. وهل تبطل الولاية؟ نظرت. فإن لم يجعله شرطاً فيها، لكن أخرجه مخرج الأمر والنهي، بأن قال له: قد قلدتك القضاء فاحكم بمذهب أحمد على وجه الأمر، ولا تَحْكُمُ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى وَجْهِ النَّهْيِ فالولاية صحيحة. والشرط فاسد. وإن أخرجه مَخْرَجَ الشَّرْطِ فِي عَقْدِ الْوِلَايَةِ، فَقَالَ: قَدْ قَلَّدْتُكَ الْقَضَاءَ عَلَى أَنْ لَا تَحْكُمَ فِيهِ بمذهب أحمد، فهذا عقد شرط فيه شرطا فاسداً، فهل يبطل العقد؟ على روايتين بناء على البيع إذا قارنه شرط فاسد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 فإن كان الشرط خاصا في حكم بعينه نظرت أيضا. فإن لم يخرجه مخرج الشرط، لكن أخرجه مخرج الأمر. فقال: أَقِدْ مِنْ الْعَبْدِ بِالْحُرِّ، وَمِنْ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ. فالشرط باطل، والعقد صحيح، وإن جعله شرطا فهل يبطل العقد؟ على الروايتين. وإن كان نهياً، فإن نهاه عَنْ الْحُكْمِ فِي قَتْلِ الْمُسْلِمِ بِالْكَافِرِ، وَالْحُرِّ بالعبد، وأن لا يقضى فيه بوجوب قود، ولا بإسقاطه، جاز لأنه اقتصر بولايته على ما عداه. وإن لم ينه عن الحكم فيه، ونهاه عن القضاء بالقصاص، احتمل أن يكون صرفا عن الحكم فَلَا يَحْكُمُ فِيهِ بِإِثْبَاتِ قَوَدٍ وَلَا بِإِسْقَاطِهِ. ويحتمل أن لايقضي الصرف، ويجري عليه حكم الأمر به، فيبطل حكم الأمر ن ويثبت صحة النظر إذا لم يجعله شرطاً في التقليد، ويحكم بما يؤديه اجتهاده إليه. ولاية القضاء وتنعقد مع الحضور بالمشافهة، ومع الغيبة بالمراسلة والمكاتبة. وَالْأَلْفَاظُ الَّتِي تَنْعَقِدُ بِهَا الْوِلَايَةُ ضَرْبَانِ: صَرِيحٌ، وكناية. فالصريح أربعة ألفاظ " قد وليتك، وقلدتك، واستخلفتك، واستنبتك". فإذا وجد أحد هذه الألفاظ انعقدت به ولاية القضاء وغيرها من الولاياتن ولا يحتاج معها إلى قرينة. وأما الكتابة فقد قيل: إنهها سَبْعَةُ أَلْفَاظٍ: " قَدْ اعْتَمَدْتُ عَلَيْكَ، وَعَوَّلَتْ عَلَيْكَ، وَرَدَدْتُ إلَيْكَ، وَجَعَلْتُ إلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ إلَيْكَ، وَوَكَّلْتُ إليك، وأسندت إليك". فإن اقترن بها قرينة صارت في حكم الصريح، نحو قوله "قانظر فيما وكلته إليك. واحكم فيها اعتمدت فيه عليك". فَإِنْ كَانَ التَّقْلِيدُ مُشَافَهَةً فَقَبُولُهُ عَلَى الْفَوْرِ لَفْظًا، وَإِنْ كَانَ مُرَاسَلَةً، أَوْ مُكَاتَبَةً: جَازَ أن يكون على التراخي. فإن لم يوجد منه القبول لفظا، لكن وجد منه الشروع في النظر، احتمل أن يجري ذلك مجرى النطق، واحتمل لا يجري لِأَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّظَرِ فَرْعٌ لِعَقْدِ الْوِلَايَةِ فلم ينعقد به قبولها. ويفتقر صحة الولاية إلى شروط: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 أحدها: معرفة المولي للمولى، وأنه عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي يَجُوزُ أَنْ يُوَلَّى مَعَهَا. فَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ عَلَى الصِّفَةِ الَّتِي تَجُوزُ مَعَهَا تِلْكَ الْوِلَايَةُ لَمْ يَصِحَّ تَقْلِيدُهُ. فإن عرفها بعد التقليد استأنفها، ولم يعول على ما تقدمها. الثاني: معرفة المولي أن المولى على الصفة التي تستحق الولاية. الثَّالِثُ: ذِكْرُ مَا تَضْمَنَّهُ التَّقْلِيدُ. مِنْ وِلَايَةِ القضاء، أم إمارة البلاد، أو جباية الخراج، لينظر على أيّ صفة انعقدت. الرابع: ذكر البلاد التي انعقدت الولاية عليها. فإن عقدت مع الجهل لم يصح. ويحتاج فِي لُزُومِ النَّظَرِ إلَى شَرْطٍ زَائِدٍ عَلَى شُرُوطِ الْعَقْدِ، وَهُوَ إشَاعَةُ تَقْلِيدِ الْمُوَلَّى فِي أهل عمله، ليذعنوا بالطاعة له، وَيَنْقَادُوا إلَى حُكْمِهِ، وَهُوَ شَرْطٌ فِي لُزُومِ الطاعة، وليس بشرط في نفوذ الحكم. وإذا صحت الولاية بما ذكرنا. فقد قيل: إن نَظَرُ الْمُوَلِّي وَالْمُوَلَّى كَالْوَكَالَةِ، لِأَنَّهُمَا مَعًا اسْتِنَابَةٌ، وَلَمْ يَلْزَمْ الْمَقَامُ عَلَيْهَا مِنْ جِهَةِ الْمُوَلَّى، وكان للمولي عزله متى شاء، وللمولى الانعزال عَنْهَا إذَا شَاءَ، غَيْرَ أَنَّ الْأَوْلَى بِالْمُوَلِّي أن لا يعزله إلا بعذر. وأن لا يعتزل المتولي إلَّا مِنْ عُذْرٍ، لِمَا فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ من حقوق المسلمين. وقد قيل: ليس للمولي عزله ما كان مقيماً على الشرائط، لأنه بالولاية يصير ناظراً للمسلمين على سبيل المصلحة لا عن الإمام. ويفارق الموكل، فإن له عزله وكيله، لأنه ينظر في حق موكله خاصة. وقد قال أحمد في رواية يوسف بن موسى، وقد سئل عن الإمام يعزل، فيصلي بالناس الجمعة؟ قال " لا بأس: قد كان الحسن يأمر من يصلى بالناس في فتنة المهلب". وظاهر هذا أنه أجاز عزله. لأنه لم ينكر سؤالهم عزله. والظاهر: أن المراد به عزل إمامة الخلافة.لأنه استشهد بفعل الحسن في قصة المهلب. وإذا عَزَلَ أَوْ اعْتَزَلَ وَجَبَ إظْهَارُ الْعَزْلِ، كَمَا وَجَبَ إظْهَارُ التَّقْلِيدِ، حَتَّى لَا يَقْدَمُ عَلَى إنْفَاذِ حُكْمٍ، وَلَا يَغْتَرُّ بِالتَّرَافُعِ إلَيْهِ خَصْمٌ. فإن حكم بعد عزله - وقد عرف العزل - لَمْ يَنْفُذْ حُكْمُهُ، وَإِنْ حَكَمَ غَيْرَ عَالِمٍ بعزله كان في نفوذه حكمه وجهان مبنيان على الوكالة، إذا تصرف الوكيل بعد العزل وقبل العلم. وإذا كانت ولاية القاضي عامة فنظره يشتمل على عشرة أحكام: أحدها: فصل الْمُنَازَعَاتِ، وَقَطْعُ التَّشَاجُرِ، وَالْخُصُومَاتِ. إمَّا صُلْحًا عَنْ تراض، أو إجباراً بحكم بات. الثاني: استيفاء الحقوق من الممتنع منها وإيصالها إلى مستحقها بعد ثبوت استحقاقها بالإقرار، أو البينة، ولا يجوز الحكم بعلمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 الثالث: ثبوت الولاية على من كان ممنوعاً من التصرف لجنون أَوْ صِغَرٍ، وَالْحَجْرُ عَلَى مَنْ يَرَى الْحَجْرَ عَلَيْهِ لِسَفَهٍ أَوْ فَلَسٍ، حِفْظًا لِلْأَمْوَالِ عَلَى مسحقيها. الرابع: النظر في الأوقاف بحفظ أصولها، وتنمية فروعها، وقبض غلتها، وصرفها في سبلها، فإن كان عليها مستحق للنظر راعاه، وإن لم يكن تولاه. الخامس: تَنْفِيذُ الْوَصَايَا عَلَى شُرُوطِ الْمُوصِي فِيمَا أَبَاحَهُ الشرع، فإن كانت لمعينين نفذها بالإقباض، وإن كانت لغير معينين كان تنفيذها إلى اجتهاد النظر. السادس: تزويج الأيامى بالأكفاء، إذا عدم الأولياء، ودعين إلى النكاح. السابع: إقَامَةُ الْحُدُودِ عَلَى مُسْتَحَقِّيهَا، فَإِنْ كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى تَفَرَّدَ بِاسْتِيفَائِهِ مِنْ غَيْرِ مطالب، إذا ثبت بالإقرار أو البينة، وإن كانت من حقوق الآدميين وقفت على طلب مستحقيها. الثامن: النَّظَرُ فِي مَصَالِحِ عَمَلِهِ، مِنْ الْكَفِّ عَنْ التعدى في الطرقات والأفنية، وإخراج الْأَجْنِحَةِ وَالْأَبْنِيَةِ، وَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّظَرِ فِيهَا، وإن لم يحضر خصم. التاسع: تصفح شهوده وأمنائه، واختبار النَّائِبِينَ عَنْهُ مِنْ خُلَفَائِهِ، فِي إقْرَارِهِمْ وَالتَّعْوِيلِ عليهم، مع السَّلَامَةِ وَالِاسْتِقَامَةِ، وَصَرْفِهِمْ وَالِاسْتِبْدَالِ بِهِمْ، مَعَ ظُهُورِ الْجُرْحِ وَالْخِيَانَةِ، وَمَنْ ضَعُفَ مِنْهُمْ عَمَّا يُعَانِيهِ كان بالخيار، بين أَنْ يَسْتَبْدِلَ بِهِ مَنْ هُوَ أَقْوَى مِنْهُ، أو يضم إليه غيره. وقد قال أحمد، في رواية حنبل " ينبغي للرجل أن يسأل عن شهوده كل قليل، لأن الرجل يتغير حاله إلى حال". العاشر: التسوية في الحكم بين القوي والضعيف، والشريف والمشروف، ولا يتبع هواه في الحكم. وقد روي عن شريح أنه قال " أصاب أمير المؤمنين علي - رضي الله عنه - درعاً له - سقطت منه، وهو يريد صفين - مع يهودي، فقال: يا يهودي هذه الدرع سقطت مني ليلاً، وأنا أريد صفين، فقال: بل هي درعي وفي يدي، فقدمه إلى شريح، فارتفع عليّ على اليهودي. ثم قال لشريح: لولا أنه ذميّ لجلست معه مجلس الخصوم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 وليس هذا الْقَاضِي - وَإِنْ عَمَّتْ وِلَايَتُهُ - جِبَايَةُ الْخَرَاجِ، لِأَنَّ مصرفه موقوف على رأي ولاة الجيوش. وأما أموال الصدقات، فإن اختصت بناظر خرجت من عُمُومِ وِلَايَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُنْدَبْ لَهَا نَاظِرٌ، فقد قيل: تدخل في عموم ولايته، لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فِيمَنْ سَمَّاهُ، وقيل: لا تدخل في ولايته، لِأَنَّهَا مِنْ حُقُوقِ الْأَمْوَالِ الَّتِي تُحْمَلُ عَلَى اجتهاد الأئمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وكذلك القول في إمامة الجمعة والأعياد. فإن كانت ولايته خاصة فيه مقصورة النظر على ما تصمنته، كمن جعل له الْقَضَاءَ فِي بَعْضِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَحْكَامِ، أو في الحكم بالإقرار دُونَ الْبَيِّنَةِ، أَوْ فِي الدُّيُونِ دُونَ الْمَنَاكِحِ، أو في مقدار من المال، فيصح التقليد، ولا يجوز أن يتعداه، لأنها ولاية فصحت عموماً وخصوصاً كالوكالة. وقد نص أحمد على صحتها في قدر المال، فقال، في رواية أحمد بن النضر: في رجل أشهد على ألف درهم، وكان الحاكم لا يحكم إلا في مائة ومائتين، فقال: "لا تشهد إلا ما أشهدت عليه". وكذلك قال، في رواية الحسن بن محمد، في رجل أشهد على ألف، ولا يحكم في البلاد إلا على مائة " لا تشهد إلا بألف". فقد نص على جواز القضاء في قدر من المال. ووجهه: ما ذكرنا. ومنع من تبعيض الشهادة إذا كانت بقدر يزيد على ما جعل له فيه، بل يشهد بذلك، ويحكم الحاكم من ذلك بما جعل له لأنه إذا شهد بخمسمائة عند هذا القاضي، وشهد بالخمس المائة الأخرى عند قاض آخر، ربما ادعى المقر أن هذه الخمس المائة الثانية هي التي شهد بها أولاً، فتسقط إحداهما على قول من يحمل تكرار الإقرار في مجلسين بألف واحدة، وقد شهد لذلك قوله تعالى (5: 108 - ذلك أدنى أن يأتوا بالشهادة على وجهها) . وإذا بعضها فلم يأت بها على وجهها. ويجوز أن يكون القاضي عام النظر في خصوص الْعَمَلِ فَيُقَلَّدُ النَّظَرَ فِي جَمِيعِ الْأَحْكَامِ فِي محلة من البلد، فتنفذ جميع أحكامه في المحلة التي عينت له، وله أن يحكم فيه بين ساكنيه والطارئين إلَيْهِ، لِأَنَّ الطَّارِئَ إلَيْهِ كَالسَّاكِنِ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَقْتَصِرَ بِهِ عَلَى النَّظَرِ بَيْنَ سَاكِنِيهِ دون الطارئ إليه فلا يتعداهم. وقد نص أحمد على صحتها في مكان مخصوص، فقال في رواية مهنا في قرية مثل قطر بل والربذة والتغلبية وأشباهها من القرى - يكون فيها القاضي: يجوز فيها قضاؤه. وإن استخلفه قاض آخر، ولم يستخلفه الخليفة، فقد نص أحمد على جواز القضاء في قرية مفردة. والوجه فيه: ما ذكرنا من جواز تخصيصه بقدر من المال. ونص على جواز استخلاف القاضي لقاض آخر، ولم يفرق بين أن يكون الخليفة أذن له في ذلك أو أطلق من غير إذن ولا نهي، لأنه إذا ولاه صار ناظراً للمسلمين، لا عن من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 ولاه، فيكون في البلد في حكم الإمام في كل بلد، وإذا كان الإمام وجب أن يولي من ينوب عنه في موضع نظره. ويفارق الوكيل، لأنه لا يوكل على الروايتين، لأنه في حق موكله، بدليل أن له عزله، وليس للإمام عزله ما كان على الصفات المشروطة. فإن قلد جميع البلد كان له أن يحكم في أي موضع شاء منه، فإن شرط عليه في عقد الولاية موضعا مخصوصا، إما في داره أو مسجده بطلت الولاية، لأن الولاية عامة، فلا يجوز الحجر عليه في موضع جلوسه. فإن قلد الحكم بين من ورد إليه في داره أو مسجده، صح، ولم يجز له أَنْ يَحْكُمَ فِي غَيْرِ دَارِهِ وَلَا فِي غَيْرِ مَسْجِدِهِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ وِلَايَتَهُ مَقْصُورَةً عَلَى من ورد إلى داره ومسجده، وهم لا يتعينون إلا بالورود إليها. فإن قلد قاضيين على بلد، نظرت فإن رد إلَى أَحَدِهِمَا، مَوْضِعًا مِنْهُ، وَإِلَى الْآخَرِ غَيْرُهُ صح، وَيَقْتَصِرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى النَّظَرِ فِي موضعه، وكذلك إن رد إلَى أَحَدِهِمَا نَوْعٌ مِنْ الْأَحْكَامِ وَإِلَى الْآخَرِ غَيْرُهُ، كَرَدِّ الْمُدَايَنَاتِ إلَى أَحَدِهِمَا، وَالْمَنَاكِحِ إلَى الآخر، فيجوز ذلك ويقتصر كل واحد منها عَلَى النَّظَرِ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ الْخَاصِّ فِي البلد كله. وإن ردّ إلى كل واحد منهما جميع البلد، فقد قيل: لا يصح، لأنه يفضي إلى التشاجر في تجاذب الخصوم إليهما. وقيل: يصح لأنها استنابة فهي كَالْوَكَالَةِ، وَيَكُونُ الْقَوْلُ عِنْدَ تَجَاذُبِ الْخُصُومِ قَوْلَ الطالب غير الْمَطْلُوبِ، فَإِنْ تَسَاوَيَا اُعْتُبِرَ أَقْرَبُ الْحَاكِمَيْنِ إلَيْهِمَا، فإن تساويا أقرع بينهما، وقيل: يمنعان من التخاصم حتى يتفقا على أحدهما، والأول أشبه بقولنا. وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وِلَايَةُ الْقَاضِي مَقْصُورَةً عَلَى حكومة معينة بين خصمين، وتكون ولايته عليهما بَاقِيَةً مَا كَانَ التَّشَاجُرُ بَيْنَهُمَا بَاقِيًا، فَإِذَا بتّ الحكم بينهما زالت ولايته، فإن تَجَدَّدَتْ بَيْنَهُمَا مُشَاجَرَةٌ أُخْرَى لَمْ يَنْظُرْ بَيْنَهُمَا إلا بإذن مجدد. فإن لم يعين الخصوم، لكن جعل النظر مقصوراً على الأيام، فقال " قد قَلَّدْتُكَ النَّظَرَ بَيْنَ الْخُصُومِ فِي يَوْمِ السَّبْتِ خاصة" جاز نظره فيه بين جميع الْخُصُومِ فِي جَمِيعِ الدَّعَاوَى، وَتَزُولُ وِلَايَتُهُ بِغُرُوبِ الشمس منه. فإن قلد النَّظَرَ فِي كُلِّ يَوْمِ سَبْتٍ جَازَ أَيْضًا، وكان مقصوراً على النَّظَرِ فِيهِ، فَإِذَا خَرَجَ يَوْمُ السَّبْتِ لَمْ تَزُلْ وِلَايَتُهُ، لِبَقَائِهَا عَلَى أَمْثَالِهِ مِنْ الْأَيَّامِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 فإن قال ولم يسم أحدا - من نظر يَوْمِ السَّبْتِ بَيْنَ الْخُصُومِ فَهُوَ خَلِيفَتِي، لَمْ يَجُزْ، لِلْجَهْلِ بِالْمُوَلَّى، وَلِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ مَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ. فإن قَالَ: مَنْ نَظَرَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فَهُوَ خَلِيفَتِي لَمْ يَجُزْ أَيْضًا لِلْجَهْلِ بِهِ، ولأنه يكون تَمْيِيزَ الْمُجْتَهِدِ، مَوْكُولًا إلَى رَأْيِ غَيْرِهِ مِنْ الخصوم. فإن قلت: من نظر فيه من مفتي أصحاب أحمد، أو أصحاب أبي حنيفة، أو أصحاب الشافعي لَمْ يَجُزْ. وَكَذَلِكَ لَوْ سَمَّى عَدَدًا، فَقَالَ: مَنْ نَظَرَ فِيهِ مِنْ فُلَانٍ، أَوْ فُلَانٍ، فَهُوَ خَلِيفَتِي لَمْ يَجُزْ، سَوَاءٌ قَلَّ الْعَدَدُ أو كثر، لأن المولي منهم مجهول. فإن قال: قد وردت النظر فيه إلى فلان وفلان، فأيهم نظر فيه فهو خليفتي، جَازَ، سَوَاءٌ قَلَّ الْعَدَدُ أَوْ كَثُرَ، لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ مُوَلَّى. فَإِذَا نَظَرَ فِيهِ أَحَدُهُمْ تَعَيَّنَ وَزَالَ نَظَرُ الْبَاقِينَ، لِأَنَّهُ لَمْ يَجْمَعْهُمْ عَلَى النَّظَرِ، وَإِنَّمَا أَفْرَدَ بِهِ أَحَدَهُمْ، فَإِنْ جَمَعَهُمْ على النظر فيه، لم يجز مع كثرتهم. وهل يجوز مع قلتهم على الاحتمال الذي ذكرنا في الجمع بين قاضيين. فأما طلب القضاء وخطبة الولاة عليه، نظرت، فإن كان من غير أهل الاجتهاد كان تعرضه لطلبه محظورا، وكان بذلك مجروحا، وإن كان من أهله وممن يجوز له النظر فيه، نظرت. فإن كان الْقَضَاءُ فِي غَيْرِ مُسْتَحِقِّهِ، إمَّا لِنَقْصِ عِلْمِهِ، أو لِظُهُورِ جَوْرِهِ، فَيَخْطُبُ الْقَضَاءَ دَفْعًا لِمَنْ لَا يستحقه، ليكون فيمن هو بالقضاء أحق، ففيه روايتان: إحداهما: يكره له طلب القضاء. وأصل هذا من كلام أحمد رحمه الله: ما قاله في رواية ابنه عبد الله، في الرجل يكون في بلد لا يكون فيه أحد أولى بالقضاء منه، لعلمه ومعرفته، فقال " لا يعجبني أن يدخل الرجل في القضاء، هو أسلم له". فقد كره له الدخول فيه مع الحاجة إليه. والوجه فيه: ما رواه أبو حفص بإسناده، عن أنس قَالَ: رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- " من سأل القضاء وكل إلى نفسه. ومن أجبر عليه نزل ملك يسدد". وفي لفظ آخر " من ابتغى القضاء وسأل فيه الشفعاء وكل إلى نفسه، ومن أكره عليه أنزل عليه ملك يسدد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 وبإسناده عن عبد الرحمن بن سمرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال له " يا أبا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة، فإنك إن أعطيتها من غير مسئلة أعنت عليها". وذكر مسلم في صحيحه بإسناده عن أبي بردة بن أبي موسى عن أبيه أبي موسى الأشعري قال " دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم، أنا ورجلان من بني عمى. فقال أحد الرجلين لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرنا على بعض ما ولاك الله، وقال الآخر مثل ذلك، فقال: إنا والله لا نولي هذا العمل أحداً سأله. فما ولى أحد". والثانية: لا يكره. وأصل هذا من كلامه: ما قاله في رواية المروذي " لابدّ للمسلمين من حاكم، أفتذهب حقوق الناس". والوجه فيه: أن هذا رفع منكر. فعلى هذه الرواية ينظر. فإن كان أكثر قصده به إزَالَةَ غَيْرِ الْمُسْتَحِقِّ كَانَ مَأْجُورًا. وَإِنْ كَانَ أكثره اختصاصه بالنظر فيه كان مكروهاً أو مباحاً. وإن كان القضاء في مستحقه، وهو من أَهْلُهُ، وَيُرِيدُ أَنْ يَعْزِلَهُ عَنْهُ إمَّا لِعَدَاوَةٍ بينهما، أو لِيَجُرَّ بِالْقَضَاءِ إلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، فَهَذَا الطَّلَبُ محظور، وهو مجروح بذلك. وإن لم يكن في القضاء ناظر، نظرت. فإن كان له رغبة في إقامة الحق، وخوفه من أن يتعرض له غير مستحق، تخرج على الروايتين اللتين تقدّمتا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 وإن قصد بطلبه المنزلة والمباهاة كره له ذلك، رواية واحدة، لأن طلب المباهاة فِي الدُّنْيَا مَكْرُوهٌ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى (28: 83 - تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين) . وذهب قوم إلى نفي الكراهة، لأن نبي الله يوسف عليه السلام رغب إلَى فِرْعَوْنَ فِي الْوِلَايَةِ وَالْخِلَافَةِ، فَقَالَ (12: 55 - اجْعَلْنِي على خزائن الأرض إني حفيظ عليم) . وهذا لا يدل على جواز الطلب من غيره، لأن يوسف عليه السلام كان نبياً معصوماً من الظلم والجور فيما يليه من الأعمال. وهذا المعنى غير مأمون في حق غيره. فأما بذل المال على طلب القضاء فمحظور في حق الباذل والمبذول لفه، لما روي أنس عن النبي - صلى الله عليه وسلم- قال: " لعن الله الراشي والمرتشي". فالراشي: باذل الرشوة، والمرتشي: قابلها. ولا يَجُوزُ لِمَنْ تَقَلَّدَ الْقَضَاءَ أَنْ يَقْبَلَ هَدِيَّةً من أهل عمله، لم تجر عادته بمهاداته، سواء كان خصماً أو غيره، لأنه قد يستعديه فيما يليه. وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: " هَدَايَا الْأُمَرَاءِ غُلُولٌ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 فَإِنْ قَبِلَهَا وَعَجَّلَ الْمُكَافَأَةَ عَلَيْهَا مَلَكَهَا. وَإِنْ لم يعجل المكافأة عليها كانت لبيت المال، إن تعذر ردها على المهدي لها. وَلَيْسَ لِلْقَاضِي تَأْخِيرُ الْخُصُومِ إذَا تَنَازَعُوا إلَيْهِ إلَّا مِنْ عُذْرٍ. وَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يحتجب إلَّا فِي أَوْقَاتِ الِاسْتِرَاحَةِ. وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يحكم لأحد من والديه، ولا من مولوديه لِأَجْلِ التُّهْمَةِ، وَيَحْكُمُ عَلَيْهِمْ لِارْتِفَاعِهَا. وَكَذَلِكَ لَا يشهد لهم، ويشهد عليهم، ولا يشهد على عدوه، ويشهد له، ويحكم لعدوه، ولا يحكم عليه. وقال أبو بكر في كتاب الخلاف " يحكم عليهم ولهم، لأن أسباب الحكم ظاهرة، وأسباب الشهادة خفية، فانتفت التهمة عنه بالحكم، وَتَوَجَّهَتْ إلَيْهِ فِي الشَّهَادَةِ". وَإِذَا مَاتَ الْقَاضِي، فقد قيل: انعزل خلفاؤه. ولو مات الإمام لم ينعزل قضاته، وقيل: لا ينعزلون لأنه ناظر للمسلمين لا لمن ولاه. ولهذا لو أراد عزله لم يملك ذلك. ولو أن أهل بلد قد خلا من قاض أجمعوا على أن قلدوا عليهم قاضيا، نظرت. فإن كان الإمام مَوْجُودًا بَطَلَ التَّقْلِيدُ. وَإِنْ كَانَ مَفْقُودًا صَحَّ، وَنَفَذَتْ أَحْكَامُهُ عَلَيْهِمْ. فَإِنْ تَجَدَّدَ بَعْدَ نَظَرِهِ إمام، لم يستدم النظر إلا بعد إذنه، ولم ينقض ما تقدم من حكمه. وقد نص أحمد رحمه الله تعالى على أن نفسين لوحكما عليهما نفذ حكمه عليهما. ونص أيضا على الرفقة إذا مات بهم ميت في موضع لا حاكم فيه وكان معه ما يخاف عليه، جاز لأهل الرفقة أن يتولوا بيع ذلك سوى الجواري. فصل فأما ولاية المظالم والنظر في المظالم: هو قود المتظلمين إلَى التَّنَاصُفِ بِالرَّهْبَةِ، وَزَجْرُ الْمُتَنَازِعَيْنِ عَنْ التَّجَاحُدِ بالهيبة. ومن شرط النَّاظِرِ فِيهَا أَنْ يَكُونَ جَلِيلَ الْقَدْرِ، نَافِذَ الأمر، عظيم الهيبة، ظاهراً الْعِفَّةِ، قَلِيلَ الطَّمَعِ كَثِيرَ الْوَرَعِ. لِأَنَّهُ يَحْتَاجُ في نظره إلى سطوة الحماة، وتثبت القضاة. فاحتاج إلى الجمع بين صفتي الفريقين. فإن كان ممن يملك الأمور العامة كالخلفاء، أو من فوض إليه الخلفاء في الأمور العالمة كَالْوُزَرَاءِ وَالْأُمَرَاءِ، لَمْ يَحْتَجْ النَّظَرُ فِيهَا إلَى تقليد. وكان له - لعموم وِلَايَتِهِ - النَّظَرُ فِيهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 وَإِنْ كَانَ مِمَّنْ لَمْ يُفَوَّضْ إلَيْهِ عُمُومُ النَّظَرِ. احْتَاجَ إلَى تَقْلِيدٍ وَتَوْلِيَةٍ، إذَا اجْتَمَعَتْ فيه الشروط المتقدمة. وإنما يصح هذا فِيمَنْ يَجُوزُ أَنْ يُخْتَارَ لِوِلَايَةِ الْعَهْدِ، أَوْ لِوِزَارَةِ التَّفْوِيضِ، أَوْ لِإِمَارَةِ الْأَقَالِيمِ، إذَا كَانَ نَظَرُهُ فِي الْمَظَالِمِ عَامًّا. فَإِنْ اقْتَصَرَ بِهِ على تنفيذ ما عجز القضاء عن تنفيذه جاز أن يكون دون هذه المرتبة في القدر والخطر، بعد أن لا يستخفه الطمع إلى رشوة. وقد نظر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَظَالِمَ فِي الشُّرْبِ الذي تنازعه الزبير بن العوام، ورجل من الأنصار. فحضره بنفسه، وقال لِلزُّبَيْرِ: " اسْقِ أَنْتَ يَا زُبَيْرُ. ثُمَّ الْأَنْصَارِيُّ. فقال الأنصاري: أن كان ابن عمتك يا رسول الله، فغضب رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من قَوْلِهِ وَقَالَ: يَا زُبَيْرُ أَجْرِهِ عَلَى بَطْنِهِ حتى يبلغ الماء الكعبين". وإنما "أجره على بطنه" أدباً لجرأته عليه. وَلَمْ يُنْتَدَبْ لِلْمَظَالِمِ مِنْ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ أَحَدٌ. لأنهم في الصدر الأول، وظهور الدين عليهم بين، يقودهم إلى التناصف وإلى الحق. وَإِنَّمَا كَانَتْ الْمُنَازَعَاتُ تَجْرِي بَيْنَهُمْ فِي أُمُورٍ مشتبهة يوضحها حكم القضاة. فإن تجور من جفاة أعرابهم متجور لناه الوعظ أن يدبر، وقاده العنف أن يخشن. فَاقْتَصَرَ خُلَفَاءُ السَّلَفِ عَلَى فَصْلِ التَّشَاجُرِ بَيْنَهُمْ بالحكم والقضاء. وَاحْتَاجَ عَلِيٌّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - حِينَ تَأَخَّرَتْ إمامته، واختلط الناس فيها، وتجوروا إلى فضل صرامة في السياسة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 ثم انتشر الأمر من بعده حتى تجاهر الناس بالظلم، ولم تكفهم زواجر الفطنة، فاحتاجوا في ردع المتغلبين إلى ناظر المظالم الذي يمتزج به قوة السلطنة. فكان أول من أفرد للظلامات يوماً تصفح فيه قصص المتظلمين - من غير مباشرة النظر - عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ. فَكَانَ إذَا وَقَفَ مِنْهَا عَلَى مُشْكِلٍ، أَوْ احْتَاجَ فِيهَا إلَى حُكْمٍ مُنَفَّذٍ، رَدَّهُ إلَى قَاضِيهِ أَبِي إدْرِيسَ الأودي، فينفذ فيه أحكامه. فَكَانَ أَبُو إدْرِيسَ هُوَ الْمُبَاشِرُ، وَعَبْدُ الْمَلِكِ هُوَ الْآمِرُ. ثُمَّ زَادَ مِنْ جَوْرِ الْوُلَاةِ، وَظُلْمِ الْعُتَاةِ مَا لَمْ يَكْفِهِمْ عَنْهُ إلَّا أقوى الأيادي، فكان عمر ابن عبد العزيز أول من ندب نفسه للمظالم، وردّ مظالم بني أمية على أهلها. ثم جلس لها خُلَفَاءِ بَنِي الْعَبَّاسِ جَمَاعَةٌ. فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ جلس لها منهم: الْمَهْدِيُّ، ثُمَّ الْهَادِي، ثُمَّ الرَّشِيدُ، ثُمَّ الْمَأْمُونُ، وآخر من جلس لها منهم، الْمُهْتَدِي، حَتَّى عَادَتْ الْأَمْلَاكُ إلَى مُسْتَحِقِّيهَا. وَقَدْ كَانَ مُلُوكُ الْفُرْسِ يَرَوْنَ ذَلِكَ مِنْ قَوَاعِدِ الملك، وقوانين العدل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 وإذا نَظَرَ فِي الْمَظَالِمِ مَنْ اُنْتُدِبَ لَهَا جُعِلَ لنظره يوما معروفا، يقصده فيه المتظلمون. ليكون سِوَاهُ مِنْ الْأَيَّامِ لِمَا هُوَ مَوْكُولٌ إلَيْهِ مِنْ السِّيَاسَةِ وَالتَّدْبِيرِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ مِنْ عمال المظالم المتفردين بها، فَيَكُونُ مَنْدُوبًا لِلنَّظَرِ فِي جَمِيعِ الْأَيَّامِ. وَلْيَكُنْ سَهْلَ الْحِجَابِ، نَزِهَ الْأَصْحَابِ. وَيُسْتَكْمَلُ مَجْلِسُ نَظَرِهِ بِحُضُورِ خَمْسَةِ أَصْنَافٍ لَا يَسْتَغْنِي عَنْهُمْ، وَلَا يَنْتَظِمُ نَظَرُهُ إلَّا بِهِمْ. أَحَدُهُمْ. الْحُمَاةُ، وَالْأَعْوَانُ، لجذب القوي، وتقويم الجريء. الثَّانِي: الْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ، لِاسْتِعْلَامِ مَا يَثْبُتُ عِنْدَهُمْ من الحقوق. الثَّالِثُ: الْفُقَهَاءُ، لِيَرْجِعَ إلَيْهِمْ فِيمَا أَشْكَلَ، وَيَسْأَلَهُمْ عما اشتبه. الرَّابِعُ: الْكُتَّابُ: لِيُثْبِتُوا مَا جَرَى بَيْنَ الْخُصُومِ، وما توجه لهم أو عليهم من الحقوق. الْخَامِسُ: الشُّهُودُ، لِيُشْهِدَهُمْ عَلَى مَا أَوْجَبَهُ مِنْ حَقٍّ، وَأَمْضَاهُ مِنْ حُكْمٍ. فَإِذَا اسْتَكْمَلَ مَجْلِسَ الْمَظَالِمِ بِمَنْ ذَكَرْنَا مِنْ الْأَصْنَافِ الْخَمْسَةِ شَرَعَ حينئذ في نظره ويشتمل النظر في المظالم عن عشرة أقسام. الْأَوَّلُ: النَّظَرُ فِي تَعَدِّي الْوُلَاةِ عَلَى الرَّعِيَّةِ، فيتصفح عن أحوالهم، لِيُقَوِّيَهُمْ إنْ أَنْصَفُوا، وَيَكُفَّهُمْ إنْ عَسَفُوا، وَيَسْتَبْدِلَ بهم إن لم ينصفوا. الثاني: جور العمال فيما يحتبونه من الأموال. فيرجع فيه إلى القوانين العادلة في دواوين الأئمة، فيحمل الناس عليها. وَيَنْظُرُ فِيمَا اسْتَزَادُوهُ، فَإِنْ رَفَعُوهُ إلَى بَيْتِ الأموال أَمَرَ بِرَدِّهِ. وَإِنْ أَخَذُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ اسْتَرْجَعَهُ لِأَرْبَابِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 والثالث: كتاب الدواوين. لأنهم أمناء المسلمين على بيوت الأموال فيما يستوفونه، ويوفونه، فيتصفح أحوالهم فيما وكل من زيادة أو نقصان. الرَّابِعُ: تَظَلُّمُ الْمُسْتَرْزِقَةِ مِنْ نَقْصِ أَرْزَاقِهِمْ، أَوْ تأخرها عنهم، وإجحاف النظار بِهِمْ فَيَرْجِعُ إلَى دِيوَانِهِ فِي فَرْضِ الْعَطَاءِ الْعَادِلِ، فَيُجْرِيهِمْ عَلَيْهِ: وَيَنْظُرُ فِيمَا نَقَصُوهُ أَوْ مَنَعُوهُ مِنْ قَبْلُ: فَإِنْ أَخَذَهُ وُلَاةُ أُمُورِهِمْ استرجعه لهم، وإن لم يأخذوه قضاهم من بيت المال. الخامس: رد المغصوب , وَهِيَ ضَرْبَانِ. أَحَدُهُمَا: غُصُوبٌ سُلْطَانِيَّةٌ قَدْ تَغَلَّبَ عَلَيْهَا وُلَاةُ الْجَوْرِ، كَالْأَمْلَاكِ الْمَقْبُوضَةِ عَنْ أَرْبَابِهَا، تعديا على أهلها. فإن عَلِمَ بِهِ وَالِي الْمَظَالِمِ عِنْدَ تَصَفُّحِ الْأُمُورِ أَمَرَ بِرَدِّهِ قَبْلَ التَّظَلُّمِ إلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَعْلَمْ بِهِ فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَرْبَابِهِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَرْجِعَ فِيهِ عِنْدَ تَظَلُّمِهِمْ إلَى دِيوَانِ السَّلْطَنَةِ. فَإِذَا وَجَدَ فِيهِ ذِكْرَ قَبْضِهَا عن مالكها عمل عليه، وأمر بردها إليه، ويرجع فيه إلَى بَيِّنَةٍ تَشْهَدُ بِهِ وَكَانَ مَا وَجَدَهُ في الديوان كافياً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الضرب الثاني من المغصوب: ما تغلب عليه ذوو الأيدي القوية، وتصرفوا فيه تصرف المالكين بالقهر والغلبة، فهو مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَرْبَابِهِ , وَلَا يُنْتَزَعُ مِنْ أحدهم إلَّا بِأَحَدِ أَرْبَعَةِ أُمُورٍ. إمَّا بِاعْتِرَافِ الْغَاصِبِ. وإما بِعِلْمِ وَالِي الْمَظَالِمِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ عليه بعلمه، على اختلاف فيه. وإما ببينة الأخبار التي ينتفي عنها التواطؤ. لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ لِلشُّهُودِ أَنْ يَشْهَدُوا فِي الْأَمْلَاكِ بِتَظَاهُرِ الْأَخْبَارِ كَانَ حُكْمُ وُلَاةِ الْمَظَالِمِ بذلك أحق. السَّادِسُ: مُشَارَفَةُ الْوُقُوفِ. وَهِيَ ضَرْبَانِ: عَامَّةٌ، وَخَاصَّةٌ. أما الْعَامَّةُ فَيَبْدَأُ بِتَصَفُّحِهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا متظلم، ليجريها على سبلها، ويمضيها على شروط واقفيها، إذَا عَرَفَهَا مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. إمَّا مِنْ دَوَاوِينِ الْحُكَّامِ الْمَنْدُوبِينَ لِحِرَاسَةِ الْأَحْكَامِ. وَإِمَّا مِنْ دَوَاوِينِ السَّلْطَنَةِ، عَلَى مَا جَرَى فِيهَا مِنْ مُعَامَلَةٍ، أَوْ ثَبَتَ لَهَا مِنْ ذِكْرٍ وتسمية. وإما من كتب فيها قديمة يقع في النفس صحتها، وإن لم يشهد بِهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ يَتَعَيَّنُ الْخَصْمُ فِيهَا، فَكَانَ الحكم فيها أوسع منه من الْوُقُوفِ الْخَاصَّةِ. وَأَمَّا الْوُقُوفُ الْخَاصَّةُ، فَإِنَّ نَظَرَهُ فِيهَا مَوْقُوفٌ عَلَى تَظَلُّمِ أَهْلِهَا عِنْدَ التَّنَازُعِ فيها، لوقوفها عَلَى خُصُومٍ مُتَعَيِّنِينَ، فَيَعْمَلُ عِنْدَ التَّشَاجُرِ فِيهَا على ما تثبت به الحقوق عند الحكام. ولا يجوز أن يرجع فيها إلَى دِيوَانِ السَّلْطَنَةِ، وَلَا إلَى مَا يَثْبُتُ مِنْ ذِكْرِهَا فِي الْكُتُبِ الْقَدِيمَةِ إذَا لَمْ يشهد بها شهود معدّلون. السابع: تنفيذ ما وقف من أحكام القضاة، لضعفهم عن إنفاذه، وَعَجْزِهِمْ عَنْ الْمَحْكُومِ عَلَيْهِ لِتَعَزُّزِهِ، وَقُوَّةِ يَدِهِ، أَوْ لِعُلُوِّ قَدْرِهِ، وَعِظَمِ خَطَرِهِ، فَيَكُونُ نَاظِرُ المظالم أقوى يد، وَأَنْفَذَ أَمْرًا، فَيُنَفِّذُ الْحُكْمَ عَلَى مَنْ تَوَجَّهَ عليه، بِانْتِزَاعِ مَا فِي يَدِهِ، أَوْ بِإِلْزَامِهِ الْخُرُوجَ مما في ذمته. الثامن: النظر فيما عجز عنه الناظرون في الحسبة، من الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ، كَالْمُجَاهَرَةِ بِمُنْكَرٍ ضَعُفَ عَنْ دَفْعِهِ، وَالتَّعَدِّي فِي طَرِيقٍ عَجَزَ عَنْ مَنْعِهِ. وَالتَّحَيُّفِ في حق لم يقدر على ردعه، فَيَأْخُذُهُمْ بِحَقِّ اللَّهِ تَعَالَى فِي جَمِيعِهِ. وَيَأْمُرُ بحملهم على موجبه. التَّاسِعُ: مُرَاعَاةُ الْعِبَادَاتِ الظَّاهِرَةِ. كَالْجُمَعِ، وَالْأَعْيَادِ، وَالْحَجِّ، والجهاد، من تقصير فيها، أو إخلال بشروطها، فإن حقوق الله تعالى أَوْلَى أَنْ تُسْتَوْفَى، وَفُرُوضَهُ أَحَقُّ أَنْ تُؤَدَّى. الْعَاشِرُ: النَّظَرُ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرِينَ، وَالْحُكْمُ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، فَلَا يَخْرُجُ فِي النَّظَرِ بَيْنَهُمْ عَنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 موجب الحق ومقتضاه، ولا يجوز أن يحكم بينهم بما لا يَحْكُمُ بِهِ الْحُكَّامُ وَالْقُضَاةُ. وَرُبَّمَا اشْتَبَهَ حُكْمُ المظالم على الناظرين فيها. فيجوز في أحكامهم، ويخرجون إلى الحد الذي لا يسوغ منها. [الفرق بين نظر القضاة ونظر ناظر المظالم] وقد ذكر بعض أهل العلم الفرق بَيْنَ نَظَرِ الْمَظَالِمِ وَنَظَرِ الْقُضَاةِ مِنْ عَشَرَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ لِنَاظِرِ الْمَظَالِمِ مِنْ فَضْلِ الهيية، وَقُوَّةِ الْيَدِ مَا لَيْسَ لِلْقُضَاةِ فِي كَفِّ الخصوم عن التجاحد، ومنع الظلمة عن التغالب والتجاذب. الثاني: أَنَّ نَظَرَ الْمَظَالِمِ يَخْرُجُ مِنْ ضِيقِ الْوُجُوبِ إلَى سِعَةِ الْجَوَازِ فَيَكُونُ النَّاظِرُ فِيهِ أَفْسَحَ مجالا، وأوسع مقالاً. الثالث: أنه يستعمل في فَضْلِ الْإِرْهَابِ، وَكَشْفِ الْأَسْبَابِ بِالْأَمَارَاتِ الدَّالَّةِ، وَشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ اللَّائِحَةِ: مَا يُضَيِّقُ عَلَى الْحُكَّامِ، فَيَصِلُ بِهِ إلَى ظُهُورِ الْحَقِّ، وَمَعْرِفَةِ الْمُبْطِلِ مِنْ المحق. الرابع: أَنْ يُقَابِلَ مَنْ ظَهَرَ ظُلْمُهُ بِالتَّأْدِيبِ، وَيَأْخُذَ من بان عداوته بالتقويم والتهذيب. الخامس: أَنَّ لَهُ مِنْ التَّأَنِّي فِي تَرْدَادِ الْخُصُومِ عند اشتباه أمورهم، لِيُمْعِنَ فِي الْكَشْفِ عَنْ أَسْبَابِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ -: مَا لَيْسَ لِلْحُكَّامِ إذَا سَأَلَهُمْ أَحَدُ الْخَصْمَيْنِ فَصْلَ الْحُكْمِ، فَلَا يَسُوغُ أَنْ يُؤَخِّرَهُ الْحَاكِمُ، وَيَسُوغُ أن يؤخره والى المظالم. السادس: أن له رد الخصوم إذا أعضلوا إلى وَسَاطَةَ الْأُمَنَاءِ، لِيَفْصِلُوا التَّنَازُعَ بَيْنَهُمْ صُلْحًا عَنْ تَرَاضٍ، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي ذَلِكَ إلَّا عَنْ رَضِيَ الخصمين بالرد. السابع: أنه يُفْسِحَ فِي مُلَازَمَةِ الْخَصْمَيْنِ إذَا وَضَحَتْ أَمَارَاتُ التَّجَاحُدِ، وَيَأْذَنَ فِي إلْزَامِ الْكَفَالَةِ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ التَّكَفُّلُ، لِيَنْقَادَ الْخُصُومُ إلَى التَّنَاصُفِ، وَيَعْدِلُوا عن التجاحد والتكاذب. الثامن: أَنَّهُ يَسْمَعُ مِنْ شَهَادَاتِ الْمَسْتُورِينَ مَا يَخْرُجُ عن عرف القضاة في شهادة المعدلين. التاسع: أَنَّهُ يَجُوزُ لَهُ إحْلَافُ الشُّهُودِ عِنْدَ ارْتِيَابِهِ بهم إذا بذلوا أَيْمَانَهُمْ طَوْعًا، وَيَسْتَكْثِرُ مِنْ عَدَدِهِمْ، لِيَزُولَ عَنْهُ الشك وينتفي عنه الارتياب وليس كذلك الحكام. العاشر: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَبْتَدِئَ بِاسْتِدْعَاءِ الشُّهُودِ، وَيَسْأَلَهُمْ عما عندهم في تنازع الخصوم فهذه الوجه العشرة يقع الفلق بها بين نظر المظالم ونظر القضاة في التشاجر والتنازع، وسنوضح من تفصيلها ما يبين بِهِ إطْلَاقَ مَا بَيْنَهُمَا مِنْ هَذِهِ الْفُرُوقِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 [فصل] وإذا كان كذلك فلا يخلو حَالُ الدَّعْوَى عِنْدَ التَّرَافُعِ فِيهَا إلَى وَالِي المظالم من ثلاثة أوجه: إما أن يقترن بها من يقويها، أو مَا يُضْعِفُهَا، أَوْ تَخْلُوَ مِنْ الْأَمْرَيْنِ. فَإِنْ اقترن بها ما يقويها، فلوجوه الْقُوَّةِ سِتَّةُ أَحْوَالٍ، تَخْتَلِفُ بِهَا قُوَّةُ الدَّعْوَى على التدريج. أحدها: أن تظهر معها كتاب فيه شهود معدلون حضور. فإذا حضر الشُّهُودُ، فَإِنْ كَانَ النَّاظِرُ فِي الْمَظَالِمِ مِمَّنْ يُجَلُّ قَدْرُهُ، كَالْخَلِيفَةِ أَوْ وَزِيرِ التَّفْوِيضِ، أَوْ أمير الإقليم، راعى من أحوال المتنازعين ما تقضيه السياسة في مباشرة النظر بَيْنَهُمَا، إنْ جَلَّ قَدْرُهُمَا، أَوْ رَدَّ ذَلِكَ إلَى قَاضِيهِ بِمَشْهَدٍ مِنْهُ، إنْ كَانَا مُتَوَسِّطَيْنِ، أَوْ عَلَى بُعْدٍ مِنْهُ، إنْ كَانَا خَامِلَيْنِ. الحالة الثَّانِيَةُ: فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى: أَنْ يَقْتَرِنَ بِهَا كِتَابٌ فِيهِ مِنْ الشُّهُودِ الْمُعَدَّلِينَ مَنْ هُوَ غَائِبٌ، فَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِنَظَرِ الْمَظَالِمِ، فِي مِثْلِ هذه الدعوى أربعة أشياء. إرهاب الخصم المدعى عليه. فربما يعجل مِنْ إقْرَارِهِ بِقُوَّةِ الْهَيْبَةِ مَا يُغْنِي عَنْ سماع البينة، والتقدم بِإِحْضَارِ الشُّهُودِ، إذَا عَرَفَ مَكَانَهُمْ، وَلَمْ يُدْخِلْ الضرر الشاق عليهم. والأمر بملازمة المدعى عليه، ثلاثاً، ويجتهد رأيه في الزيادة عليها. وأن يَنْظُرَ فِي الدَّعْوَى، فَإِنْ كَانَتْ مَالًا فِي الذِّمَّةِ، كَلَّفَهُ إقَامَةَ كَفِيلٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنًا قائمة كالعقار حجر عليه فيها حجرا لا يرتفع بِهِ حُكْمُ يَدِهِ، وَرَدَّ اسْتِغْلَالَهَا إلَى أَمِينٍ يحفظه على مستحقه منهما. وإن تَطَاوَلَتْ الْمُدَّةُ وَوَقَعَ الْإِيَاسُ مِنْ حُضُورِ الشُّهُودِ جَازَ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَسْأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ دُخُولِ يَدِهِ، مَعَ تَجْدِيدِ إرْهَابِهِ، فَإِنَّ مالك بن أنس كان يرى في مثل هذه الْحَالِ سُؤَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ سَبَبِ دُخُولِ يده، وإن كان غيره من الفقهاء لم يره، فللناظر في المظالم استعمال الحالين. فَإِنْ أَجَابَ بِمَا يَقْطَعُ التَّنَازُعَ أَمْضَاهُ، وَإِلَّا فصل بينهما بموجب الشرع ومقتضاه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الحالة الثَّالِثَةُ: فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى: أَنْ يَكُونَ فِي الكتاب المقترن بها شهود حضور لكنهم عير معدلين عند الحاكم، فالذي يختص بالمظالم: أن يتقدم الناظر فيها بإحضارهم وسير أحوالهم، فإنه يجدهم على أحوال ثلاث: إمَّا أَنْ يَكُونُوا مِنْ ذَوِي الْهَيْئَاتِ، وَأَهْلِ الصيانات، فالثقة بشهادتهم أقوى. وإما أن يكونوا أرذالا، فلا يعول عليهم، لكن يقوى إرهاب الخصم بهم. وإما أن يكونوا أوساطا: فيجوز في نظر المظالم - بعد الكشف عن أحوالهم - أن يستظهر بأخلاقهم، إنْ رَأَى قَبْلَ الشَّهَادَةِ أَوْ بَعْدَهَا. ثُمَّ هو في شهادة هذين الصنفين بين ثلاثة أمور: إمَّا أَنْ يَسْمَعَهَا بِنَفْسِهِ، فَيَحْكُمُ بِهَا. وَإِمَّا أيَرُدَّ إلَى الْقَاضِي سَمَاعَهَا لِيُؤَدِّيَهَا الْقَاضِي إلَيْهِ، وَيَكُونُ الْحُكْمُ بِهَا مَوْقُوفًا عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْقَاضِيَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ إلَّا بِشَهَادَةِ مَنْ تثبت عِنْدَهُ عَدَالَتُهُ. وَإِمَّا أَنْ يَرُدَّ سَمَاعَهَا إلَى الشهود المعدلين، فإذا رَدَّ إلَيْهِمْ نَقْلَ شَهَادَتِهِمْ إلَيْهِ لَمْ يُلْزِمْهُمْ استكشاف أحوالهم، وإن رد إليهم الشهادة عنده بما يصح عنده من شهادتهم، لزمهم الكشف عما يقتضيه قبول شهادتهم، ليشهدوا بها بعد العلم بصحتهان ليكون تنفيذه الحكم بحسبها. الحالة الرَّابِعَةُ، فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى: أَنْ يَكُونَ فِي الكتاب المقترن بها شهود موتى معدلون، وَالْكِتَابُ مَوْثُوقٌ بِصِحَّتِهِ، فَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بِنَظَرِ الْمَظَالِمِ فيها ثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: إرْهَابُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا يضطره إلى الصدق والاعتراف بالحق. الثاني: سُؤَالُهُ عَنْ دُخُولِ يَدِهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ من جوابه ما يتضح به الحق، ويعرف به المحق من المبطل. الثالث: أَنْ يَكْشِفَ عَنْ الْحَالِ مِنْ جِيرَانِ الْمِلْكِ، ومن جيران المتنازعين فيه، ليتوصل بهم إلَى وُضُوحِ الْحَقِّ، وَمَعْرِفَةِ الْمُحِقِّ. فَإِنْ لَمْ يصل إليه بواحد من هذه الثلاثة، ردهما إلَى وَسَاطَةِ مُحْتَشَمٍ مُطَاعٍ، لَهُ بِهِمَا مَعْرِفَةً، وبما تنازعاه خبرة، ليضطرهما بطول المدى وكثرة التردد إلى التصادق أو التصالح، فإن أفضى الأمر بهما إلى أحدهما، وإلا بت الحكم بينهما على ما يوجبه حكم القضاة. الْخَامِسَةُ، فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى: أَنْ يَكُونَ مَعَ المدعي خط المدعى عليه بما يتضمنه الدَّعْوَى، فَنَظَرُ الْمَظَالِمِ فِيهِ يَقْتَضِي سُؤَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَنْ الْخَطِّ، وَأَنْ يُقَالَ لَهُ: أَهَذَا خَطُّكَ؟ فَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ، يُسْأَلُ بَعْدَ اعْتِرَافِهِ عن صحته ماتضمنه، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِصِحَّتِهِ صَارَ مُقِرًّا وَأُلْزِمَ حُكْمَ إقْرَارِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِصِحَّتِهِ، فَمِنْ وُلَاةِ المظالم من يحكم عَلَيْهِ بِخَطِّهِ إذَا اعْتَرَفَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ بِصِحَّتِهِ، وَجَعَلَ ذَلِكَ مِنْ شَوَاهِدِ الْحُقُوقِ، اعتباراً بالعرف. وذهب جماعة - وهم الأكثر_ إلى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ مِنْهُمْ، أَنْ يَحْكُمَ بِمُجَرَّدِ الْخَطِّ، حَتَّى يَعْتَرِفَ بِصِحَّةِ مَا فِيهِ، لِأَنَّ نَظَرَ الْمَظَالِمِ لَا يُبِيحُ مِنْ الْأَحْكَامِ مَا حَظَرَهُ الشَّرْعُ، وَنَظَرُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 الْمَظَالِمِ فِيهِ: أَنْ يَرْجِعَ إلَى مَا يَذْكُرُهُ من في خَطِّهِ، فَإِنْ قَالَ: كَتَبْتُهُ لِيُقْرِضَنِي وَمَا أَقْرَضَنِي، أَوْ لِيَدْفَعَ إلَيَّ ثَمَنَ مَا بِعْتُهُ، وَمَا ذفع إليّ، فَهَذَا مِمَّا يَفْعَلُهُ النَّاسُ أَحْيَانًا، وَنَظَرُ الْمَظَالِمِ فِي مِثْلِهِ: أَنْ يُسْتَعْمَلَ فِيهِ مِنْ الْإِرْهَابِ بِحَسَبِ مَا يَشْهَدُ بِهِ الْحَالُ، وَتَقْوَى بِهِ الْأَمَارَةُ، ثُمَّ يُرَدُّ إلَى الْوَسَاطَةِ، فَإِنْ أَفْضَتْ إلَى الصُّلْحِ، وَإِلَّا بَتَّ الْقَاضِي الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا بِالتَّحَالُفِ. وَإِنْ أَنْكَرَ الْخَطَّ، فَمِنْ وُلَاةِ الْمَظَالِمِ مَنْ يَخْتَبِرُ الْخَطَّ بِخُطُوطِهِ الَّتِي كَتَبَهَا، وَيُكَلِّفُهُ من كثرة الكتابة ما يمنع التَّصَنُّعِ فِيهَا، ثُمَّ يَجْمَعُ بَيْنَ الْخَطَّيْنِ، فَإِذَا تَشَابَهَا حَكَمَ بِهِ عَلَيْهِ، وَهَذَا قَوْلُ مَنْ جعل اعترافه بالخط مُوجِبًا لِلْحُكْمِ بِهِ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْمُحَقِّقُونَ مِنْهُمْ أنهم لا يفعلون ذلك الحكم عَلَيْهِ، وَلَكِنْ لِإِرْهَابِهِ. وَتَكُونُ الشُّبْهَةُ مَعَ إنْكَارِهِ للخط أضعف منها مع اعترافهخ به، وترتفع الشُّبْهَةُ إنْ كَانَ الْخَطُّ مُنَافِيًا لِخَطِّهِ، وَيَعُودُ الْإِرْهَابُ عَلَى الْمُدَّعِي، ثُمَّ يُرَدَّانِ إلَى الْوَسَاطَةِ، فإن أفضت إلى الصلح، وإلا بتّ الحاكم الحكم بينهما بالأيمان. الحالة السَّادِسَةُ" فِي قُوَّةِ الدَّعْوَى: إظْهَارُ الْحِسَابِ بِمَا تقتضيه الدعوى، وهكذا يَكُونُ فِي الْمُعَامَلَاتِ. وَلَا يَخْلُو حَالُ الْحِسَابِ من أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ حِسَابَ الْمُدَّعِي أَوْ حِسَابَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ حِسَابَ الْمُدَّعِي فالشبهة فيه أضعف، ونظر المظالم يرفع فِي مِثْلِهِ إلَى مُرَاعَاةِ نَظْمِ الْحِسَابِ، فَإِنْ كان مجملاً، ويظن فيه الإدغال كان مطرحا، وهو يضعف الدَّعْوَى أَشْبَهُ مِنْهُ بِقُوَّتِهَا وَإِنْ كَانَ نَظْمُهُ مُتَّسِقًا وَنَقْلُهُ صَحِيحًا، فَالثِّقَةُ بِهِ أَقْوَى، فَيَقْتَضِي مِنْ الْإِرْهَابِ بِحَسَبِ شَوَاهِدِهِ، ثُمَّ يُرَدَّانِ إلَى الوساطة، ثم إلى الحاكم الْبَاتِّ. وَإِنْ كَانَ الْحِسَابُ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، كَانَتْ الدعوى به أقوى، ولا يخلو إما أَنْ يَكُونَ مَنْسُوبًا إلَى خَطِّهِ أَوْ خَطِّ كاتبه، فإن كان منسوبا إلى خطه، فنظر الْمَظَالِمِ فِيهِ، أَنْ يَسْأَلَ عَنْهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ: أهو خَطُّكَ؟ فَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ قِيلَ: أَتَعْلَمُ مَا فيه؟ فإن أقر بمعرفته، قال له: أَتَعْلَمُ صِحَّتَهُ؟ فَإِنْ أَقَرَّ بِصِحَّتِهِ صَارَ بِهَذِهِ الثلاثة مقرا بمقتضى الحساب فيؤخذ بما فيه، وإن اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ خَطُّهُ وَأَنَّهُ لَمْ يَعْلَمْ مَا فِيهِ، وَلَمْ يَعْتَرِفْ بِصِحَّتِهِ، فَمَنْ حَكَمَ بِالْخَطِّ مِنْ وُلَاةِ الْمَظَالِمِ حَكَمَ عَلَيْهِ بِمُوجَبِ حِسَابِهِ، وإن لم يعترف بصحته لم يحكم به، لِأَنَّ الْحِسَابَ لَا يَثْبُتُ فِيهِ قَبْضُ مَا لم يقبض. وذهب الأكثر إلى أنه لا يحكم به، لأن الحساب بالذي لم يعترف بصحة ما فيه لكن يَقْتَضِي مِنْ فَضْلِ الْإِرْهَابِ بِهِ أَكْثَرَ مِمَّا اقتضاه الخط المرسل، ثُمَّ يُرَدَّانِ بَعْدَهُ إلَى الْوَسَاطَةِ، ثُمَّ إلَى بتّ القضاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وإذا كَانَ الْخَطُّ مَنْسُوبًا إلَى كَاتِبِهِ، سُئِلَ عَنْهُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ قَبْلَ سُؤَالِ كَاتِبِهِ، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِمَا فِيهِ أُخِذَ بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْتَرِفْ سئل عنه كاتبه، فإن أنكر ضعفت الشبهة بإنكاره. وأرهب إن كان متهوما" وَلَمْ يُرْهَبْ إنْ كَانَ مَأْمُونًا، فَإِنْ اعْتَرَفَ بِهِ وَبِصِحَّتِهِ، صَارَ شَاهِدًا بِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عليه، فيحكم عليه بشهادته، إن كان ممن يقضي بالشاهد وباليمين، إما مذهبا أو سِيَاسَةً تَقْتَضِيهَا شَوَاهِدُ الْحَالِ، فَإِنَّ لِشَوَاهِدِ الْحَالِ فِي الْمَظَالِمِ تَأْثِيرًا فِي اخْتِلَافِ الْأَحْكَامِ، وَلِكُلِّ حَالٍ مِنْهَا فِي الْإِرْهَابِ حَدٌّ لَا يَتَجَاوَزُهُ. تمييزا بين الأحوال بمقتضى شواهدها. فأما إن اقترن بالدعوى ما يضعفها، وذلك من سِتَّةُ أَحْوَالٍ تُنَافِي أَحْوَالَ الْقُوَّةِ، فَيَنْتَقِلُ الْإِرْهَابُ بِهَا مِنْ جَنْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إلَى جَنْبَةِ المدعي. الأولى: أن يقابل الدعوى بكتاب فيه شهود حُضُورٌ مُعَدَّلُونَ، يَشْهَدُونَ بِمَا يُوجِبُ بُطْلَانَ الدَّعْوَى، وَذَلِكَ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَشْهَدُوا عليه ببيع ما ادعاه. الثاني: أن يشهدوا على إقراره أن لا حق له فيما ادعاه. الثالث: أَنْ يَشْهَدُوا عَلَى إقْرَارِ أَبِيهِ ... الَّذِي ذَكَرَ أنه انتقل الملك عنه أن لا حق له فيما ادعاه. الرابع: أَنْ يَشْهَدُوا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّهُ مَالِكٌ لِمَا ادعاه عليه، فتبطل دعواه بهذه الشهادة ويقتضي نظر المظالم تَأْدِيبِهِ بِحَسَبِ حَالِهِ. فَإِنْ ذَكَرَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عليه بالابتياع، كان على سبيل الرهب والإلجاء، وهذا يَفْعَلُهُ النَّاسُ أَحْيَانًا فَيُنْظَرُ فِي كِتَابِ الِابْتِيَاعِ، فإن ذكر فيه أنه غَيْرِ رَهَبٍ وَلَا إلْجَاءٍ ضَعُفَتْ شُبْهَةُ هَذِهِ الدَّعْوَى، وَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ ذَلِكَ فِيهِ قَوِيَتْ به الشبهة للدعوى، وَكَانَ الْإِرْهَابُ فِي الْجِهَتَيْنِ بِمُقْتَضَى شَوَاهِدِ الْحَالَيْنِ، ورجع إلى الكشف بالمجاورين وبالخلطاء. فَإِنْ بَانَ مَا يُوجِبُ الْعُدُولَ عَنْ ظَاهِرِ الْكِتَابِ عَمِلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَبْنِ كَانَ إمْضَاءُ الْحُكْمِ بِمَا شَهِدَ بِهِ شُهُودُ الِابْتِيَاعِ أَحَقَّ، فَإِنْ سَأَلَ إحْلَافَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِأَنَّ ابْتِيَاعَهُ كَانَ حَقًّا وَلَمْ يَكُنْ عَلَى سَبِيلِ الرهب ولا تلجئة، احتمل إحلافه لأن ما ادعاه ممكن، واحتمل أن لايحلف، لأن متقدم إقراره يكذب متأخر دعواه، ولولي المظالم أن يعمل بما تقتضيه شواهد الحالين. وكذلك لَوْ كَانَتْ الدَّعْوَى دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ، فَأَظْهَرَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ كِتَابَ بَرَاءَةٍ مِنْهُ، فَذَكَرَ الْمُدَّعِي أَنَّهُ أَشْهَدَ عَلَى نَفْسِهِ قَبْلَ أَنْ يَقْبِضَ وَلَمْ يَقْبِضْ، كَانَ إحْلَافُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ عَلَى ما تقدم. الحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ شُهُودُ الْكِتَابِ الْمُقَابِلِ لِلدَّعْوَى عُدُولًا غَائِبِينَ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتَضَمَّنَ إنْكَارُهُ اعْتِرَافًا بِالسَّبَبِ، كَقَوْلِهِ: لَا حَقَّ له في هذه الصيغة، لأني ابتعتها منه ودفعت إليه ثمنها، وَهَذَا كِتَابُ عَهْدِي بِالْإِشْهَادِ عَلَيْهِ، فَيَصِيرُ الْمُدَّعِي عليه مُدَّعِيًا بِكِتَابٍ قَدْ غَابَ شُهُودُهُ، فَيَكُونُ عَلَى مَضَى، وَلَهُ زِيَادَةُ يَدٍ وَتَصَرُّفٍ، فَتَكُونُ الْأَمَارَةُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 أَقْوَى، وَشَاهِدُ الْحَالِ أَظْهَرَ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ بها ملك، فيرهبهما حسبما تَقْتَضِيهِ شَوَاهِدُ أَحْوَالِهِمَا، وَيَأْمُرُ بِإِحْضَارِ الشُّهُودِ إنْ أَمْكَنَ، وَيَضْرِبُ لِحُضُورِهِمْ أَجَلًا يَرُدُّهُمَا فِيهِ إلَى الْوَسَاطَةِ، فَإِنْ أَفْضَتْ إلَى صُلْحٍ عَنْ تَرَاضٍ استقر به الحكم، وعدل عن سماع الشهادة إذا حضرت، فإن لم يتبرم بينهما صلح أمعن في الكشف من جِيرَانِهِمَا وَجِيرَانِ الْمِلْكِ. وَكَانَ لِوَالِي الْمَظَالِمِ رَأْيُهُ في زمن الكشف، في خصلة من ثلاث، يفعل منها ما يؤدي اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، بِحَسَبِ الْأَمَارَاتِ وَشَوَاهِدِ الْأَحْوَالِ. إمَّا أَنْ يَرَى انْتِزَاعَ الضَّيْعَةِ مِنْ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَتَسْلِيمَهَا إلَى الْمُدَّعِي إلَى أَنْ تَقُومَ عليه بينة بالبيع أالإبراء، ويسلمها إلَى أَمِينٍ تَكُونُ فِي يَدِهِ، وَيَحْفَظُ اسْتِغْلَالَهَا عَلَى مُسْتَحَقِّهِ. وَإِمَّا أَنْ يُقِرَّهَا فِي يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَيَحْجُرَ عَلَيْهِ فِيهَا، وَيُنَصِّبَ أَمِينًا لاستغلالها. ويكون حالها عَلَى مَا يَرَاهُ وَالِي الْمَظَالِمِ فِي خَصْلَةٍ مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثِ مَا كَانَ رَاجِيًا أَحَدَ أَمْرَيْنِ: مِنْ ظُهُورِ الْحَقِّ بِالْكَشْفِ، أَوْ حُضُورِ الشهود للأداء، فإن وقع اليأس منهما بَتَّ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا، فَلَوْ سَأَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ إحلاف المدعي أحلفه له، وكان ذلك بناء للحكم بينهما. الضرب الثاني: أن لا تضمن إنْكَارُهُ اعْتِرَافًا بِالسَّبَبِ، وَيَقُولُ: هَذِهِ الضَّيْعَةُ لِي لا حق فيها لهذا المدعي، وتكون شهادة الكتاب على المعي من أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إمَّا عَلَى إقْرَارِهِ بِأَنْ لَا حقّ له فيها. وإما على إقراره أنها مِلْكُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. فَالضَّيْعَةُ مُقَرَّةٌ فِي يَدِ المدعى عليه، ولا ينتزعها مِنْهُ، فَأَمَّا الْحَجْرُ عَلَيْهِ فِيهَا وَحِفْظُ اسْتِغْلَالِهَا مُدَّةَ الْكَشْفِ وَالْوَسَاطَةِ فَمُعْتَبَرٌ بِشَوَاهِدِ أَحْوَالِهِمَا، وَاجْتِهَادِ والي المظالم فيها يَرَاهُ بَيْنَهُمَا إلَى أَنْ يَثْبُتَ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا. الحالة الثالثة: أن يكون شهود الكتاب المقابل لهذه الدعوى حضوراً غَيْرُ مُعَدَّلِينَ، فَيُرَاعِي وَالِي الْمَظَالِمِ فِيهِمْ مَا قدمناه فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعِي مِنْ أَحْوَالِهِمْ الثَّلَاثِ، وَيُرَاعَى حال إنكاره هل يتضمن اعترافاً بالسبب أولاً؟ فيعمل والي المظالم في ذلك بما قدمنا، تعويلاً على اجتهاد رأيه في شواهد الأحوال. الحالة الرَّابِعَةُ: أَنْ يَكُونَ شُهُودُ الْكِتَابِ مَوْتَى مُعَدَّلِينَ، فَلَيْسَ يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ إلَّا فِي الْإِرْهَابِ المجرد الذي يقتضي فضل الكشف، ثم يعمل فِي بَتِّ الْحُكْمِ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ الْإِنْكَارُ من الاعتراف بالسبب أم لا. الحالة الْخَامِسَةُ: أَنْ يُقَابِلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِخَطِّ الْمُدَّعِي بما يوجب إكذابه في الدعوى، فيعمل فيه بما قدمناه في الخطوط، ويكون الإرهاب معتبراً بشاهد الحال. الحالة السَّادِسَةُ: أَنْ يَظْهَرَ فِي الدَّعْوَى حِسَابٌ يَقْتَضِي بطلان الدعوى، فيعمل فيه بما قدمناه في الحساب، ويكون الإرهاب والكشف والمطاولة معتبراً بشواهد الأحوال، ثم بتّ الحكم بعد الإياس قطعاً للنزاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 فَأَمَّا إنْ تَجَرَّدَتْ الدَّعْوَى عَنْ أَسْبَابِ الْقُوَّةِ وَالضَّعْفِ، فَلَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا مَا يُقَوِّيهَا، وَلَا ما يضعفها، فنظر المظالم يقتضي اعتبار حَالِ الْمُتَنَازِعَيْنِ فِي غَلَبَةِ الظَّنِّ، وَلَا يَخْلُو حَالُهُمَا فِيهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعِي. وَالثَّانِي: أَنْ تَكُونَ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أن يعتدلا فِيهِ. وَاَلَّذِي يُؤْثِرُهُ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي إحْدَى الجهتين: هو إرهابهما، وتغليب الكشف من وجهتها، وَلَيْسَ لِفَصْلِ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا تَأْثِيرٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الظنوم الْغَالِبَةُ. فَإِنْ كَانَتْ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعِي، وَكَانَتْ الرِّيبَةُ مُتَوَجِّهَةً إلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَدْ يَكُونُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يكون المدعي - مع خلوه من حجة يظهرها- ضعيف الْيَدِ، مُسْتَلَانَ الْجَنْبَةِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، ذَا بَأْسٍ وقدرة، فإذا دعى عَلَيْهِ غَصْبَ دَارٍ أَوْ ضَيْعَةٍ، غَلَبَ فِي الظَّنِّ أَنَّ مِثْلَهُ مَعَ لِينِهِ وَاسْتِضْعَافِهِ لَا يَتَجَوَّزُ فِي دَعْوَاهُ عَلَى مَنْ كَانَ ذَا نجدة وبأس وسطوة. الثاني: أَنْ يَكُونَ الْمُدَّعِي مَشْهُورًا بِالصِّدْقِ وَالْأَمَانَةِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَشْهُورًا بِالْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ، فَيَغْلِبُ فِي الظَّنِّ صدق المدعى في دعواه. الثالث: أَنْ تَتَسَاوَى أَحْوَالُهُمَا، غَيْرَ أَنَّهُ قَدْ عُرِفَ أن للمدعي يداً مُتَقَدِّمَةٌ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِدُخُولِ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَبَبٌ حَادِثٌ. فَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ نَظَرُ الْمَظَالِمِ فِي هذه الأحوال الثلاث شَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: إرْهَابُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لِتَوَجُّهِ الرِّيبَةِ إليه. وَالثَّانِي: سُؤَالُهُ عَنْ سَبَبِ دُخُولِ يَدِهِ، وَحُدُوثِ ملكه، فإن مالكا يَرَى ذَلِكَ مَذْهَبًا فِي الْقَضَاءِ مَعَ الِارْتِيَابِ، فكان نظر المظالم به أولى، وربما أنف المدعى عليه لنفسه مَعَ عُلُوِّ مَنْزِلَتِهِ عَنْ مُسَاوَاةِ خَصْمِهِ فِي المحاكمة، فيترك ما في يده لخصمه عفوا وَرُبَّمَا تَلَطَّفَ وَالِي الْمَظَالِمِ فِي إيصَالِ الْمُتَظَلِّمِ إلى حقه بما يحفظ معه حشمه المتظلم منه، أَوْ مُوَاضَعَةَ الْمَطْلُوبِ عَلَى مَا يَحْفَظُ بِهِ حشمة نفسه، أن يكون منسوباً إلى تحيف ومنع من حق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 فأما إنْ كَانَ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أحدها: أن يكون المدعي مشهورا بالتظلم وَالْخِيَانَةِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَشْهُورًا بِالنَّصَفَةِ وَالْأَمَانَةِ. وَالثَّانِي: أن يكون المدعي دنيئاً متبذلا، والمدعى عليه نزها مصونا، فَيَطْلُبُ إحْلَافَهُ قَصْدًا لِبِذْلَتِهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ لِدُخُولِ يَدِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ سَبَبٌ مَعْرُوفٌ، وَلَيْسَ يُعْرَفُ لِدَعْوَى الْمُدَّعِي سَبَبٌ. فَيَكُونُ غَلَبَةُ الظَّنِّ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ فِي جَنْبَةِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَالرِّيبَةُ مُتَوَجِّهَةٌ إلَى الْمُدَّعِي. فَمَذْهَبُ مَالِكٍ: إن كانت دعواه في مثل هذه الأحوال لعين قَائِمَةٍ، لَمْ يَسْمَعْهَا إلَّا بَعْدَ ذِكْرِ السَّبَبِ الموجب لها، وإن كانت في مال في الذِّمَّةِ، لَمْ يَسْمَعْهَا إلَّا بَعْدَ أَنْ يُقِيمَ الْمُدَّعِي بَيِّنَةَ أَنَّهُ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُدَّعَى عليه معاملة، وقد روي عن أحمد نحو هذا. فأما في نَظَرُ الْمَظَالِمِ الْمَوْضُوعُ عَلَى الْأَصْلَحِ، فَعَلَى الْجَائِزِ دون الواجب، فيسوغ فيه مثل هذه عِنْدَ ظُهُورِ الرِّيبَةِ وَقَصْدِ الْعِنَادِ. وَيُبَالِغُ فِي الْكَشْفِ بِالْأَسْبَابِ الْمُؤَدِّيَةِ إلَى ظُهُورِ الْحَقِّ، وَيَصُونُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا اتَّسَعَ فِي الْحُكْمِ. فَإِنْ وقع الأمر على التحالف، فهو غَايَةُ الْحُكْمِ الْبَاتِّ الَّذِي لَا يَجُوزُ دَفْعُ طَالِبٍ عَنْهُ فِي نَظَرِ الْقَضَاءِ، وَلَا فِي نظر المظالم، إذا لم يكفه عنه إرهاب ولا وعظ. فَإِنْ فَرَّقَ دَعَاوِيَهُ وَأَرَادَ أَنْ يَحْلِفَ فِي كل مجلس منها على يعضها قصداً لإعناته وبذلته. فإنه يمنع من ذلك ويؤمر بِجَمْعِ دَعَاوِيهِ عِنْدَ ظُهُورِ الْإِعْنَاتِ مِنْهُ، وَإِحْلَافِ الْخَصْمِ عَلَى جَمِيعِهَا يَمِينًا وَاحِدَةً. فَأَمَّا إنْ اعْتَدَلَتْ حَالُ الْمُتَنَازِعَيْنِ وَتَقَابَلَتْ بَيِّنَةُ الْمُتَشَاجِرَيْنِ، وَلَمْ يترجح أحدهما بأمارة، أو ظنة فيساوى بينهما في العظة. وتختص ولاية المظالم - بعد العظة - بالإرهاب لهما معا، ليساويهما. ثُمَّ بِالْكَشْفِ عَنْ أَصْلِ الدَّعْوَى وَانْتِقَالِ الْمِلْكِ، فإن ظهر بالكشف ما يعرف به المحق مِنْهُمَا عَمِلَ عَلَيْهِ. وَإِنْ لَمْ يَظْهَرْ بِالْكَشْفِ ما يفصل تَنَازُعُهُمَا، رَدَّهُمَا إلَى وَسَاطَةِ وُجُوهِ الْجِيرَانِ وَأَكَابِرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 الْعَشَائِرِ. فَإِنْ نَجَزَ بِهَا مَا بَيْنَهُمَا؛ وَإِلَّا كان فصل القضاء بينهما هو غاية أَمْرِهِمَا بِحَسَبِ مَا يَرَاهُ مِنْ الْمُبَاشَرَةِ لِبَتِّ الْحُكْمِ وَالِاسْتِنَابَةِ فِيهِ. وَرُبَّمَا تَرَافَعَ إلَى وُلَاةِ المظالم في غوامض الأحكام، ومشكلات الخصومات ما يرشده إليه الْجُلَسَاءِ، وَيَفْتَحُهُ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ، فَلَا يُنْكِرُ مِنْهُمْ الابتداء، ولا يستكبر أن يعمل به الانتهاء. [توقيعات الناظر في المظالم] فأما توقيعات النَّاظِرُ فِي الْمَظَالِمِ فِي قَصَصِ الْمُتَظَلِّمِينَ إلَيْهِ بالنظر بينهم، فلا يخلو حَالُ الْمُوَقَّعِ إلَيْهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ وَالِيًا عَلَى مَا وُقِّعَ بِهِ إلَيْهِ، أَوْ غَيْرَ والٍ عَلَيْهِ. فَإِنْ كَانَ والياً عليه، كتوقيعه إلى القاضي بأن ينظر بينهما، فلا يخلو حال ما تضمنه المتوقع مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ إذْنًا بِالْحُكْمِ، أَوْ إذْنًا بِالْكَشْفِ وَالْوَسَاطَةِ، فَإِنْ كَانَ إذْنًا بِالْحُكْمِ جَازَ لَهُ الْحُكْمُ بَيْنَهُمَا بِأَصْلِ الولاية، ويكوم التَّوْقِيعُ تَأْكِيدًا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ قُصُورُ مَعَانِيهِ، وإن كان إذناً في كشف الصورة أو التوسط بين الخصمين، فإن كان التَّوْقِيعِ بِذَلِكَ نَهْيُهُ عَنْ الْحُكْمِ فِيهِ، لَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمَا، وَكَانَ هَذَا النَّهْيُ عَزْلًا لَهُ عَنْ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، وَهُوَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 هل عُمُومِ وِلَايَتِهِ فِيمَا عَدَاهَا، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أن تكون الولاية نوعين: عامة، أو خاصة. جاز أن يكون العزل عَامًّا وَخَاصًّا. وَإِنْ لَمْ يَنْهَهُ فِي التَّوْقِيعِ عن الحكم بينهما حين أمره بالكشف والوساطة، فقد قيل: إن نظرة عَلَى عُمُومِهِ فِي جَوَازِ حُكْمِهِ بَيْنَهُمَا، لِأَنَّ أَمْرَهُ بِبَعْضِ مَا إلَيْهِ لَا يَكُونُ مَنْعًا من غيره. وقيل: يَكُونُ مَمْنُوعًا مِنْ الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، مَقْصُورًا عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ التَّوْقِيعُ مِنْ الْكَشْفِ وَالْوَسَاطَةِ، لِأَنَّ فَحَوَى التَّوْقِيعِ دَلِيلٌ عَلَيْهِ. ثُمَّ يُنْظَرُ، فَإِنْ كان التوقيع بالوساطة، لم يلزم إنْهَاءُ الْحَالِ إلَيْهِ بَعْدَ الْوَسَاطَةِ، وَإِنْ كَانَ يكشف الصورة لزمه إنهاء حالها إلَيْهِ، لِأَنَّهُ اسْتِخْبَارٌ مِنْهُ، فَلَزِمَهُ إجَابَتُهُ عَنْهُ. فَهَذَا حُكْمُ تَوْقِيعِهِ إلَى مَنْ لَهُ الْوِلَايَةُ. فأما الْحَالَةُ الثَّانِيَةُ، وَهُوَ أَنْ يُوَقِّعَ إلَى مَنْ لَا وِلَايَةَ لَهُ، كَتَوْقِيعِهِ إلَى فَقِيهٍ، أَوْ شَاهِدٍ فَلَا يَخْلُو حَالُ تَوْقِيعِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أحوال: إما أن يكون بكشف الصورة، أو يكون بالوساطة، أو بِالْحُكْمِ. فَإِنْ كَانَ التَّوْقِيعُ بِكَشْفِ الصُّورَةِ، فَعَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَهَا، وَيُنْهِيَ مِنْهَا مَا يَصِحُّ أَنْ يَشْهَدَ بِهِ، لِيَجُوزَ لِلْمُوَقِّعِ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ؛ فَإِنْ أَنْهَى مَا لَا يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ يه، كَانَ خَبَرًا لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ بِهِ الْمُوَقِّعُ، وَلَكِنْ يَجْعَلُهُ فِي نَظَرِ الْمَظَالِمِ مِنْ الْأَمَارَاتِ الَّتِي يَغْلِبُ بِهَا حَالُ أَحَدِ الْخَصْمَيْنِ في الإرهاب وفضل الكشف. وإن كان التوقيع بالوساطة بينهما لم يَقِفْ عَلَى مَا تَضَمَّنَهُ التَّوْقِيعُ مِنْ تَخْصِيصِ الْوَسَاطَةِ، لِأَنَّ الْوَسَاطَةَ لَا تَفْتَقِرُ إلَى تَقْلِيدٍ ولا ولاية، وإنما يقيد بِالْوَسَاطَةِ تَعْيِينَ الْوَسِيطِ بِاخْتِيَارِ الْمُوَقِّعِ، وَقَوَدِ الْخَصْمَيْنِ إليه إجباراً. فإذا أَفْضَتْ الْوَسَاطَةُ إلَى صُلْحِ الْخَصْمَيْنِ لَمْ يَلْزَمْهُ إنهاؤها، وكان شاهداً فيها، متى استدعوه لِلشَّهَادَةِ أَدَّاهَا، وَإِنْ لَمْ تُفْضِ الْوَسَاطَةُ إلَى صُلْحِهِمَا كَانَ شَاهِدًا عَلَيْهِمَا فِيمَا اعْتَرَفَا بِهِ عِنْدَهُ، يُؤَدِّيهِ إلَى النَّاظِرِ فِي الْمَظَالِمِ، إنْ عَادَ الْخَصْمَانِ إلَى التَّظَلُّمِ، وَلَا يَلْزَمُهُ أَدَاؤُهُ إنْ لَمْ يَعُودَا. وَإِنْ كَانَ التَّوْقِيعُ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمَا، فَهَذِهِ وِلَايَةٌ يُرَاعَى فِيهَا مَعَانِي التَّوْقِيعِ، ليكون نظره محمولا على ما يوجبه. وإذا كان كذلك فللتوقيع حالتان: إحداهما: أَنْ يُحَالَ بِهِ عَلَى إجَابَةِ الْخَصْمِ إلَى ملتمسه، فيعتبر حينئذ فيه مَا سَأَلَ الْخَصْمُ فِي ظُلَامَتِهِ، وَيَصِيرُ النَّظَرُ مقصورا عليه، فإن سأل الوساطة، أو كشف الصورة، كَانَ التَّوْقِيعُ مُوجِبًا لَهُ، وَكَانَ النَّظَرُ مَقْصُورًا عليه، سواء خَرَجَ التَّوْقِيعُ مَخْرَجَ الْأَمْرِ، كَقَوْلِهِ: أَجِبْهُ إلَى ما يلتمسه، أَوْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْحِكَايَةِ، كَقَوْلِهِ: رَأْيُكَ فِي إجَابَتِهِ إلَى مُلْتَمَسِهِ، كَانَ مُوَقَّعًا، لِأَنَّهُ لَا يقتضي ولاية يلزم حكمها، وكان أمرها أخف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 وإن سَأَلَ الْمُتَظَلِّمُ فِي قِصَّتِهِ الْحُكْمَ بَيْنَهُمَا، فَلَا بد من أن يكون الخصم في القصة مُسَمًّى، وَالْخُصُومَةُ مَذْكُورَةً، لِتَصِحَّ الْوِلَايَةُ عَلَيْهَا، فَإِنْ لم يسم الخصم، ولم يذكر الْخُصُومَةُ لَمْ تَصِحَّ الْوِلَايَةُ، لِأَنَّهَا لَيْسَتْ وِلَايَةً عَامَّةً، فَيُحْمَلُ عَلَى عُمُومِهَا، وَلَا خَاصَّةً لِلْجَهْلِ بها. فإن سَمَّى رَافِعُ الْقِصَّةِ خَصْمَهُ وَذَكَرَ خُصُومَتَهُ، نُظِرَ فِي التَّوْقِيعِ بِإِجَابَتِهِ إلَى مُلْتَمَسِهِ فَإِنْ خَرَجَ مخرج الأمر فوقع " أجبه إلى ملتمسه" أو " اعمل بِمَا الْتَمَسَهُ" صَحَّتْ وِلَايَتُهُ فِي الْحُكْمِ بَيْنَهُمَا بهذا التَّوْقِيعُ. وَإِنْ خَرَجَ مَخْرَجَ الْحِكَايَةِ لِلْحَالِ، فَوَقَّعَ " رأيك في إجابته إلى ملتمسه موفقا". فَهَذَا التَّوْقِيعُ خَارِجٌ فِي الْأَعْمَالِ السُّلْطَانِيَّةِ مَخْرَجَ الْأَمْرِ، وَالْعُرْفُ بِاسْتِعْمَالِهِ فِيهَا مُعْتَادٌ. فَأَمَّا فِي الأحكام الدينية، فقد أجازه طائفة من الفقهاء، اعتبارا بالعرف فيه، وصحت الْوِلَايَةُ، وَمَنَعَتْ طَائِفَةٌ أُخْرَى مِنْ جَوَازِهِ، وَانْعِقَادِ الولاية، حتى يقترن به أمر تنعقد به الولاية، اعْتِبَارًا بِمَعَانِي الْأَلْفَاظِ. فَلَوْ كَانَ رَافِعُ الْقِصَّةِ سَأَلَ التَّوْقِيعَ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمَا فَوَقَّعَ بِإِجَابَتِهِ إلَى ملتمسه، فمن اعتبر العرف المعتاد صحح الولاية بهذا التوقيع. ومن اعتبر معاني الألفاظ لم يصحح بِهِ الْوِلَايَةُ، لِأَنَّهُ سَأَلَ التَّوْقِيعَ بِالْحُكْمِ، وَلَمْ يسأل الحكم. الحالة الثانية من التَّوْقِيعَاتِ: أَنْ يُحَالَ فِيهِ عَلَى إجَابَةِ الْخَصْمِ إلَى مَا سَأَلَ، وَيُسْتَأْنَفَ فِيهِ الْأَمْرُ بِمَا تَضَمَّنَهُ، فَيَصِيرُ مَا تَضَمَّنَهُ التَّوْقِيعُ هُوَ الْمُعْتَبَرُ في الولاية. وإذا كَانَ كَذَلِكَ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: حَالُ كَمَالٍ، وحال جواز، وحال تخلو عن الأمرين: أما الحال الَّتِي يَكُونُ التَّوْقِيعُ فِيهَا كَمَالًا فِي صِحَّةِ الْوِلَايَةِ، فَهُوَ أَنْ يَتَضَمَّنَ شَيْئَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْأَمْرُ بالنظر. والثاني: الأمر بالحكم فيه، فَيَذْكُرُ فِيهِ " اُنْظُرْ بَيْنَ رَافِعِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ، وَاحْكُمْ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ، وَمُوجَبِ الشَّرْعِ". فهو أكمل التوقيعات. وإن لم يذكر في التوقيع " بالحق وموجب الشرع" جَازَ، لِأَنَّ الْحُكْمَ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْحَقِّ الذي يوجبه حُكْمُ الشَّرْعِ. وَإِنَّمَا يَذْكُرُ ذَلِكَ فِي التَّوْقِيعَاتِ، وصفاً لا شرطاً. فإذا كان التَّوْقِيعُ جَامِعًا لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ: مِنْ النَّظَرِ، وَالْحُكْمِ، فَهُوَ التَّوْقِيعُ الْكَامِلُ، وَيَصِحُّ بِهِ التَّقْلِيدُ وَالْوِلَايَةُ. وأما الحالة التي يكون التوقيع فيها جَائِزًا، مَعَ قُصُورِهِ عَنْ حَالِ الْكَمَالِ، فَهُوَ أن يتضمن الأمر بالحكم دون النظر فيه، فَيَذْكُرُ فِي تَوْقِيعِهِ " اُحْكُمْ بَيْنَ رَافِعِ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَبَيْنَ خَصْمِهِ" أَوْ يَقُولُ " اقْضِ بَيْنَهُمَا" فتصح الولاية بذلك، لأن الحكم والقضاء لَا يَكُونُ إلَّا بَعْدَ تَقَدُّمِ النَّظَرِ، فَصَارَ الْأَمْرُ بِهِ مُتَضَمِّنًا لِلنَّظَرِ، لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وأما الحال الَّتِي يَكُونُ التَّوْقِيعُ فِيهَا خَالِيًا مِنْ كَمَالٍ وجواز، فهو ان يذكر فيه " اُنْظُرْ بَيْنَهُمَا" فَلَا تَنْعَقِدُ بِهَذَا التَّوْقِيعِ وِلَايَةٌ، لِأَنَّ النَّظَرَ بَيْنَهُمَا قَدْ يَحْتَمِلُ الْوَسَاطَةَ الْجَائِزَةَ، وَيَحْتَمِلُ الْحُكْمَ اللَّازِمَ، وَهُمَا فِي الِاحْتِمَالِ سَوَاءٌ، فلم تنعقد به مع الاحتمال الولاية. فإن ذَكَرَ فِيهِ " اُنْظُرْ بَيْنَهُمَا بِالْحَقِّ" فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْوِلَايَةَ بِهِ مُنْعَقِدَةٌ، لِأَنَّ الْحَقَّ مَا لَزِمَ. وَقِيلَ: لَا تَنْعَقِدُ بِهِ لِأَنَّ الصُّلْحَ والوساطة حق وإن لم يلزم. فصل في ولاية النقابة على ذوي الأنساب وهي مَوْضُوعَةٌ عَلَى صِيَانَةِ ذَوِي الْأَنْسَابِ الشَّرِيفَةِ عَنْ وِلَايَةِ مَنْ لَا يُكَافِئُهُمْ فِي النَّسَبِ. وَلَا يساويهم في الشرف، ليكون عليهم أحنى، وأمره فيهم مضي. رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال " اعرفوا أنسابكم، تصلوا أرحامكن، فَإِنَّهُ لَا قُرْبَ بِالرَّحِمِ إذَا قُطِعَتْ وَإِنْ كَانَتْ قَرِيبَةً. وَلَا بُعْدَ بِهَا إذَا وُصِلَتْ وَإِنْ كَانَتْ بَعِيدَةً". وَوِلَايَةُ هَذِهِ النِّقَابَةِ: تَصِحُّ مِنْ إحْدَى ثَلَاثِ جِهَاتٍ: إمَّا مِنْ جِهَةِ الْخَلِيفَةِ الْمُسْتَوْلِي عَلَى كُلِّ الْأُمُورِ. وَإِمَّا مِمَّنْ فَوَّضَ الْخَلِيفَةُ إلَيْهِ تَدْبِيرَ الْأُمُورِ، كَوَزِيرِ التَّفْوِيضِ، أو أمير الإقليم. وإما من نقيب عام الولاية، واستخلف نقيبا جعله خَاصَّ الْوِلَايَةِ. فَإِذَا أَرَادَ الْمَوْلَى أَنْ يُوَلِّيَ على الطالبيين نقيبا، وعلى العباسيين نقيبا، تخير مِنْهُمْ أَجَلَّهُمْ بَيْتًا، وَأَكْثَرَهُمْ فَضْلًا، وَأَجْزَلَهُمْ رَأْيًا وولاه عليهم، ليجمع شُرُوطُ الرِّيَاسَةِ وَالسِّيَاسَةِ، فَيُسْرِعُوا إلَى طَاعَتِهِ بِرِيَاسَتِهِ، وَتَسْتَقِيمُ أُمُورُهُمْ بِسِيَاسَتِهِ. وَالنِّقَابَةُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: خَاصَّةٌ ,وعامة. فأما الخاصة: فهي أَنْ يَقْتَصِرَ بِنَظَرِهِ عَلَى مُجَرَّدِ النِّقَابَةِ مِنْ غَيْرِ تَجَاوُزٍ لَهَا إلَى حُكْمٍ، وَإِقَامَةِ حَدٍّ، فَلَا يَكُونُ الْعِلْمُ مُعْتَبَرًا فِي شُرُوطِهَا. وَيَلْزَمُهُ فِي النِّقَابَةِ عَلَى أَهْلِهِ مِنْ حُقُوقِ النَّظَرِ اثْنَا عَشَرَ حَقًّا: أَحَدُهَا: حِفْظُ أَنْسَابِهِمْ مَنْ دَاخِلٍ فِيهَا وَلَيْسَ مِنْهَا، أَوْ خَارِجٍ عَنْهَا وَهُوَ مِنْهَا. فَيَلْزَمُهُ حِفْظُ الْخَارِجِ مِنْهَا، كَمَا يَلْزَمُهُ حِفْظُ الدَّاخِلِ فِيهَا، لِيَكُونَ النَّسَبُ مَحْفُوظًا على صحته، معزوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 إلى جهته. والثاني: أن يميز بطونهم ومعرفة أنسابهم، حتى لا يخفى علهي منهم بنو أب، فيذكره على تمييز أنسابهم. الثالث: معرفة من يولد من ذكورهم وإناثهم فَيُثْبِتُهُ، وَمَعْرِفَةُ مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَيَذْكُرُهُ، حَتَّى لَا يَضِيعَ نَسَبُ الْمَوْلُودِ إنْ لَمْ يُثْبِتْهُ. وَلَا يَدَّعِي نَسَبَ الْمَيِّتِ غَيْرُهُ، إنْ لَمْ يذكره. الرابع: أن يأخذهم من الآداب بما يضاهي شريف أنسابهم، وكريم مُحْتَدِّهِمْ، لِتَكُونَ حِشْمَتُهُمْ فِي النُّفُوسِ مَوْفُورَةً، وَحُرْمَةُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهِمْ محفوظة. الخامس: أن ينزههم عن المكاسب الدنية، ويمنعهم من المطامع الخبيثة، حتى لا يستقل منهم متبذل، ولا يستضام منهم متذلل. السادس: أَنْ يَكُفَّهُمْ عَنْ ارْتِكَابِ الْمَآثِمِ، وَيَمْنَعَهُمْ مِنْ انتهاك المحامرم، لِيَكُونُوا عَلَى الدِّينِ الَّذِي نَصَرُوهُ أَغْيَرَ، وَلِلْمُنْكَرِ الذي أزالوه أنكر، فلا ينطلق بذمهم لسان. السابع: أَنْ يَمْنَعَهُمْ مِنْ التَّسَلُّطِ عَلَى الْعَامَّةِ لِشَرَفِهِمْ، وَالتَّشَطُّطِ عَلَيْهِمْ لِنَسَبِهِمْ، فَيَدْعُوهُمْ ذَلِكَ إلَى الْمَقْتِ وَالْبُغْضِ، وَيَبْعَثُهُمْ عَلَى الْمُنَاكَرَةِ وَالْبُعْدِ. وَيَنْدُبُهُمْ إلَى استعطاف القلوب، وتألف النُّفُوسِ، لِيَكُونَ الْمَيْلُ إلَيْهِمْ أَوْفَى، وَالْقُلُوبُ لَهُمْ أصفى. الثامن: أَنْ يَكُونَ عَوْنًا لَهُمْ فِي اسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، حَتَّى لَا يَضْعُفُوا عَنْهَا، وَعَوْنًا عَلَيْهِمْ فِي أَخْذِ الْحُقُوقِ مِنْهُمْ، حَتَّى لَا يُمْنَعُوا مِنْهَا، ليصيروا لهم منتصفين، وبالمعونة عليهم منصفين، لأن من عدل السيرة فيهم: إنصافهم وانتصافهم. التاسع: أَنْ يَنُوبَ عَنْهُمْ فِي الْمُطَالَبَةِ بِحُقُوقِهِمْ الْعَامَّةِ: من سَهْمِ ذَوِي الْقُرْبَى فِي الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ، الَّذِي يَخْتَصُّ بِهِ أَحَدُهُمْ، حَتَّى يُقَسَّمَ بَيْنَهُمْ، بِحَسَبِ ما أوجبه الله تعالى لهم. العاشر: أن يمنع الأيامى من نسائهم أن يتزوجن بغير الأكفاء، صِيَانَةً لِأَنْسَابِهِنَّ. وَتَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِنَّ أَنْ يُزَوِّجَهُنَّ غَيْرَ الولاة، أو ينكحهن غير الكفاة. الحادي عَشَرَ: أَنْ يَقُومَ ذَوِي الْهَفَوَاتِ مِنْهُمْ فِيمَا سِوَى الْحُدُودِ، بِمَا لَا يَبْلُغُ بِهِ حَدًّا، ولا ينهر به دما. ويقيل ذا الْهَيْئَةِ مِنْهُمْ عَثْرَتَهُ، وَيَغْفِرُ بَعْدَ الْوَعْظِ زَلَّتَهُ. الثاني عَشَرَ: مُرَاعَاةُ وُقُوفِهِمْ بِحِفْظِ أُصُولِهَا، وَتَنْمِيَةِ فُرُوعِهَا، وإذا لم ترد إليه جباتها راعى الجباة فِيمَا أَخَذُوهُ، وَرَاعَى قِسْمَتَهَا إذَا قَسَّمُوهُ، وَمَيَّزَ الْمُسْتَحِقِّينَ لَهَا إذَا خُصَّتْ وَرَاعَى أَوْصَافَهُمْ فِيهَا إذا شرطت، حتى لا يخرج منها مستحق، ولا يدخل فيها غير محق. وَأَمَّا النِّقَابَةُ الْعَامَّةُ: فَعُمُومُهَا أَنْ يُرَدَّ إلَيْهِ في النقابة عليهم مع ما قدمناه مِنْ حُقُوقِ النَّظَرِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 خمسة أشياء: أحدها: الحكم بينهم فيما تنازعوه. الثاني: الولاية على أيتامهم فيما ملكوه. الثالث: إقامة الحدود عليهم فيما ارتكبوه. الرابع: تزويج الأيامى اللائي لَا يَتَعَيَّنُ أَوْلِيَاؤُهُنَّ، أَوْ قَدْ تَعَيَّنُوا فَعَضَلُوهُنَّ. الخامس: إيقاع الحجر على من جن منهم أوسفه، وفكه إذا أفاق أو رشد. فيصير بهذه الخمسة عام النِّقَابَةِ، فَيُعْتَبَرُ حِينَئِذٍ فِي صِحَّةِ نِقَابَتِهِ وَعَقْدِ وِلَايَتِهِ. أَنْ يَكُونَ عَالِمًا، مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، ليصح حكمه، وينفذ قضاؤه. وإذا انْعَقَدَتْ وِلَايَتُهُ لَمْ يَخْلُ حَالُهَا مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَتَضَمَّنَ صَرْفَ الْقَاضِي عَنْ النظر في أحكامهم، أو لا يتضمن. فإذا كَانَتْ وِلَايَتُهُ مُطْلَقَةَ الْعُمُومِ، لَا تَتَضَمَّنُ صَرْفَ الْقَاضِي عَنْ النَّظَرِ فِي أَحْكَامِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ تَقْلِيدُ النَّقِيبِ لِلنَّظَرِ فِي أَحْكَامِهِمْ مُوجِبًا لِصَرْفِ الْقَاضِي عَنْهَا، جَازَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ النَّقِيبِ والقاضي الظر في أحكامهم. أما النقيب فبخصوص ولايته التي عينوا فيها. وأما القاضي فبعموم ولايته التي أوجبت دخولهم فيها. فأيهما حكم بينهم فِي تَنَازُعِهِمْ وَتَشَاجُرِهِمْ، وَفِي تَزْوِيجِ أَيَامَاهُمْ نَفَذَ حُكْمُهُ، وَجَرَى أَمْرُهُمَا فِي الْحُكْمِ عَلَى أَهْلِ هَذَا النَّسَبِ مَجْرَى قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ. فَأَيُّهُمَا حكم بين متنازعيه نفذ حكمه ولم يكن للآخر نقضه. فإن اخْتَلَفَ مُتَنَازِعَانِ مِنْهُمْ، فَدَعَا أَحَدُهُمَا إلَى حُكْمِ النَّقِيبِ وَدَعَا الْآخَرُ إلَى حُكْمِ الْقَاضِي. فَقَدْ قيل: إن الداعي إلى حكم النَّقِيبِ أَوْلَى لِخُصُوصِ وِلَايَتِهِ، وَقِيلَ: بَلْ هُمَا سَوَاءٌ فَيَكُونَانِ كَالْمُتَنَازِعِينَ فِي التَّحَاكُمِ إلَى قَاضِيَيْنِ فِي بَلَدٍ، فَيُغَلَّبُ قَوْلُ الطَّالِبِ عَلَى الْمَطْلُوبِ. فإن تساويا كانا على ما قدمناه، يُقْرَعُ بَيْنَهُمَا وَيُعْمَلُ عَلَى قَوْلِ مَنْ قَرَعَ منهما. فَإِنْ كَانَ فِي وِلَايَةِ النَّقِيبِ صَرْفُ الْقَاضِي عَنْ النَّظَرِ بَيْنَ أَهْلِ هَذَا النَّسَبِ، لَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلنَّظَرِ فِي أَحْكَامِهِمْ، سواء استدعى إليه منهم مستدع أو لم يستدع. وَخَالَفَ ذَلِكَ حَالَ الْقَاضِيَيْنِ فِي جَانِبَيْ بَلَدٍ، إذَا اسْتَعْدَى إلَيْهِ مِنْ الْجَانِبِ الْآخَرِ مُسْتَعْدٍ لزمه أن يعديه على خصمه، وذلك لأن وِلَايَةَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْقَاضِيَيْنِ مَحْصُورَةٌ بِمَكَانِهِ. فَاسْتَوَى حُكْمُ الطَّارِئِ إلَيْهِ وَالْقَاطِنِ فِيهِ، لِأَنَّهُمَا يَصِيرَانِ مِنْ أَهْلِهِ، وَوِلَايَةُ النِّقَابَةِ مَحْصُورَةٌ بِالنَّسَبِ الَّذِي لَا يَخْتَلِفُ حَالُهُ بِاخْتِلَافِ الْأَمَاكِنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 فَلَوْ تَرَاضَى الْمُتَنَازِعَانِ مِنْ أَهْلِ هَذَا النَّسَبِ بِحُكْمِ الْقَاضِي، لَمْ يَكُنْ لَهُ النَّظَرُ بَيْنَهُمَا ولا الحكم لَهُمَا أَوْ عَلَيْهِمَا، لِأَنَّهُ بِالصَّرْفِ مَنْهِيٌّ عَنْهُ، وَكَانَ النَّقِيبُ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا إذَا كَانَ التَّنَازُعُ بَيْنَهُمْ لَا يَتَعَدَّاهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ. فَإِنْ تَعَدَّاهُمْ، فَتَنَازَعَ طَالِبِيٌّ وَعَبَّاسِيٌّ، فَدَعَا الطَّالِبِيُّ إلَى حُكْمِ نَقِيبِهِ، وَدَعَا الْعَبَّاسِيُّ إلَى حُكْمِ نَقِيبِهِ، لم يجب على واحد منهما الإجابة إلى حكم نقيبه، لخروجه من وِلَايَتِهِ. فَإِذَا أَقَامَا عَلَى تَمَانُعِهِمَا مِنْ الْإِجَابَةِ إلى نقيب. اجتمع النقيبان وأحضر كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا صَاحِبَهُ. وَيَشْتَرِكَانِ فِي سَمَاعِ الدَّعْوَى، وَيَنْفَرِدُ بِالْحُكْمِ بَيْنَهُمَا نَقِيبُ الْمَطْلُوبِ دُونَ الطَّالِبِ، لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْ أَهْلِهِ حُقُوقَ مُسْتَحِقِّيهَا. فَإِنْ تَعَلَّقَ ثُبُوتُ الْحَقِّ بِبَيِّنَةٍ تُسْمَعُ عَلَى أَحَدِهِمَا، أَوْ يَمِينٍ يَحْلِفُ بِهَا أَحَدُهُمَا سَمِعَ الْبَيِّنَةَ نَقِيبُ الْمَشْهُودِ عَلَيْهِ دُونَ نَقِيبِ الْمَشْهُودِ لَهُ، وَأَحْلَفَ نَقِيبَ الْحَالِفِ دُونَ نَقِيبِ الْمُسْتَحْلِفِ لِيَصِيرَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا هُوَ نقيب المطلوب دون الطالب. فإن تَمَانَعَ النَّقِيبَانِ أَنْ يَجْتَمِعَا، لَمْ يَتَوَجَّهْ عَلَيْهِمَا في الوجه الأول مأثم، ويتوجه عَلَيْهِمَا الْمَأْثَمُ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي، وَكَانَ أَغْلَظَ النَّقِيبَيْنِ مَأْثَمًا نَقِيبُ الْمَطْلُوبِ مِنْهُمَا، لِاخْتِصَاصِهِ بِتَنْفِيذِ الْحُكْمِ. فَلَوْ تَرَاضَى الطَّالِبِيُّ وَالْعَبَّاسِيُّ بِالتَّحَاكُمِ إلَى أَحَدِ النَّقِيبَيْنِ فَحَكَمَ بَيْنَهُمَا نَقِيبُ أَحَدِهِمَا. نُظِرَ فَإِنْ كَانَ الْحَاكِمُ بَيْنَهُمَا نَقِيبَ الْمَطْلُوبِ، صَحَّ حُكْمُهُ، وَأَخَذَ بِهِ خَصْمُهُ، وَإِنْ حَكَمَ بَيْنَهُمَا نقيب الطالب، احتمل تنفيذ حكمه، واحتمل رده. فإن أَحْضَرَ أَحَدُهُمَا بَيِّنَةً عِنْدَ الْقَاضِي، لِيَسْمَعَهَا عَلَى خصمه ويكتب بها إلى نقيبه، وهو مصروف عَنْ النَّظَرِ بَيْنَهُمَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْمَعَ بينته وَإِنْ كَانَ يَرَى الْقَضَاءَ عَلَى الْغَائِبِ، لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَنْفُذُ عَلَى مَنْ تَقُومُ عَلَيْهِ البينة لو حضر، فأولى أن ينفذ حكمه عليه مع الغيبة. فإن أراد القاضي - الذي يرى القضاء على الغالب - سماع بينة على رجل في غَيْرِ عَمَلِهِ، لِيَكْتُبَ بِمَا ثَبَتَ عِنْدَهُ مِنْهَا إلَى قَاضِي بَلَدِهِ جَازَ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا: إنْ من كَانَ فِي غَيْرِ عَمَلِهِ لَوْ حَضَرَ عِنْدَهُ، نفذ حكمه عليه، لذلك جَازَ سَمَاعُ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ. وَأَهْلُ هَذَيْنِ النَّسَبَيْنِ لو حضر أحدهما عنده لم ينفذ حكمه عليه فلذلك لم يجز أن يسمع البينة عليه. فإن كَانَ أَحَدُ هَذَيْنِ أَقَرَّ عِنْدَ الْقَاضِي لِصَاحِبِهِ بِحَقٍّ جَازَ أَنْ يَكُونَ الْقَاضِي شَاهِدًا بِهِ عليه عند نقيبه، ولم يجز أن يخبر بِهِ حُكْمًا، لِأَنَّ حُكْمَهُ لَا يَنْفُذُ عَلَيْهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 وكذلك لو أقر به عند النقيبين كان شاهدا فيه عند نقيبه. ولو أقر به عِنْدَ نَقِيبِهِ جَازَ وَكَانَ حَاكِمًا عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ. ولو أقر به عند نقيب خصمه احتمل أن يكون شاهدا عليه، واحتمل أن يكون حاكما فيه، لما بينا مِنْ الْفَرْقِ بَيْنَ نَقِيبِ الطَّالِبِ وَالْمَطْلُوبِ. وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي وِلَايَاتِ زُعَمَاءِ الْعَشَائِرِ، وَوُلَاةِ الْقَبَائِلِ المنفردين بالولايات على عشائرهم وقبائلهم. فصل في الولايات على إمامة الصلوات وذلك ينقسم ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. الثاني: الْإِمَامَةُ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ. وَالثَّالِثُ: الْإِمَامَةُ فِي صلاة النَّدْبِ. فَأَمَّا الْإِمَامَةُ فِي الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ. فَنَصْبُ الأئمة فيها معتبر بحال المساجد التي تقام الصلوات فيها. وهي ضربان: مساجد سلطانية، ومساجد عامية. أما المساجد السلطانية: فهي الجوامع وَالْمَشَاهِدُ، وَمَا عَظُمَ وَكَثُرَ أَهْلُهُ، مِنْ الْمَسَاجِدِ الَّتِي يَقُومُ السُّلْطَانُ بِمُرَاعَاتِهَا. فَلَا يَجُوزُ أَنْ ينتدب للإمامة فيها إلا من يندبه السلطان لها، لئلا تفتات الرعية عليه فيما هو موكول إليه. وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية مهنا، وقد سأله: هل يجتمع القاضي إذا لم يخرج الوالي؟ فقال " إذا أمره، فإن لم يأمره لا يخرج إلا بإذنه". فَإِذَا قَلَّدَ السُّلْطَانُ فِيهَا إمَامًا كَانَ أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ فِيهَا مِنْ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ أَفْضَلَ منه وأعلم. وهذه الولاية طريقها الأولى، لا طريق اللازم وَالْوُجُوبِ، بِخِلَافِ وِلَايَةِ الْقَضَاءِ وَالنِّقَابَةِ، لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ تَرَاضَى النَّاسُ بِإِمَامٍ وَصَلَّى بِهِمْ، أَجْزَأَهُمْ وَصَحَّتْ جَمَاعَتُهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجَمَاعَةَ فِي الصلوات الخمس من السنن المختارة، وليست من الفروض على قول كثير من الفقهاء، وإنما أوجبها أحمد وداود. فإذا ندب السلطان لها إمَامًا، لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ أَنْ يَتَقَدَّمَ فِيهَا مع مع حضوره، فإن غاب واستناب كان الذي استنابه فيها أحق بالإمامة، فإن لَمْ يَسْتَنِبْ فِي غَيْبَتِهِ اُسْتُؤْذِنَ الْإِمَامُ فِيمَنْ يقدم فيها إن أمكن، فإن تعذر استئذانه تراضى أهل المسجد فِيمَنْ يَؤُمُّهُمْ، لِئَلَّا تَتَعَطَّلَ جَمَاعَتُهُمْ، فَإِذَا حَضَرَتْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 صَلَاةٌ أُخْرَى - وَالْإِمَامُ عَلَى غَيْبَتِهِ - فَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْمُرْتَضَى لِلصَّلَاةِ الْأُولَى يَتَقَدَّمُ فِي الثَّانِيَةِ وَمَا بَعْدَهَا إلَى أَنْ يَحْضُرَ الْإِمَامُ الْمُوَلَّى. وقيل: يختار للصلاة الثانية: بأن يُرْتَضَى لَهَا غَيْرَ الْأَوَّلِ، لِئَلَّا يَصِيرَ هَذَا الاختيار تقليدا سلطانيا. والأولى أَنْ يُرَاعَى حَالُ الْجَمَاعَةِ فِي الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ، فإن حضرها مَنْ حَضَرَ فِي الْأُولَى كَانَ الْمُرْتَضَى فِي الأول أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ فِي الصَّلَاةِ الثَّانِيَةِ، وَإِنْ حَضَرَهَا غَيْرُهُمْ كَانَ الْأَوَّلُ كَأَحَدِهِمْ، وَاسْتَأْنَفُوا اخْتِيَارَ إمَامٍ يتقدمهم. فإذا صلى إمام هذا المسجد جماعة، وحضر من لم يدرك الْجَمَاعَةَ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يُصَلُّوا فِيهِ جماعة، وصلوا فُرَادَى، لِمَا فِيهِ مِنْ إظْهَارِ الْمُبَايَنَةِ وَالتُّهْمَةِ بِالْمُشَاقَّةِ وَالْمُخَالَفَةِ. وَإِذَا قَلَّدَ السُّلْطَانُ لِهَذَا الْمَسْجِدِ إمامين، فإن خص وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِبَعْضِ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ جَازَ، وَكَانَ كل واحد منهما مقصورا على ما خص بِهِ، كَتَقْلِيدِ أَحَدِهِمَا صَلَاةَ النَّهَارِ، وَتَقْلِيدِ الْآخَرِ صلاة الليل، فلا يتجاوز وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا رَدَّهُ إلَيْهِ. وَإِنْ قَلَّدَ الْإِمَامَةَ مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ببعض الصلوات، ولكن رد إلى كل مِنْهُمَا يَوْمًا غَيْرَ يَوْمِ صَاحِبِهِ، كَانَ كُلُّ واحد منهما في يوم أَحَقَّ بِالْإِمَامَةِ فِيهِ مِنْ صَاحِبِهِ. فَإِنْ أَطْلَقَ تَقْلِيدَهُمَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ كَانَا فِي الْإِمَامَةِ سَوَاءً، وَأَيُّهُمَا سَبَقَ إلَيْهَا كَانَ أَحَقَّ بِهَا وَلَمْ يَكُنْ لِلْآخَرِ أَنْ يَؤُمَّ فِي تِلْكَ الصَّلَاةِ بِقَوْمٍ آخَرِينَ، لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَامَ فِي الْمَسَاجِدِ السُّلْطَانِيَّةِ جَمَاعَتَانِ فِي صَلَاةٍ وَاحِدَةٍ. وَاخْتُلِفَ فِي السَّبْقِ الَّذِي يَسْتَحِقُّ بِهِ التقدم، فقيل: سبقه بالحضور في المسجد، وقيل: سَبْقُهُ بِالْإِمَامَةِ فِيهِ. فَإِنْ حَضَرَ الْإِمَامَانِ فِي حال واحدة، ولم يَسْبِقْ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ، فَإِنْ اتَّفَقَا عَلَى تَقْدِيمِ أحدهما كان أولى بالإمامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 وإن تنازعاها احتمل أن يقرع بينهما، ويقدم من قرع منهما، واحتمل أن يَرْجِعُ إلَى اخْتِيَارِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ لِأَحَدِهِمَا. وَيَدْخُلُ فِي وِلَايَةِ هَذَا الْإِمَامِ: تَقْلِيدُ الْمُؤَذِّنِينَ، مَا لم يصرح له بالصرف عنه، لأن الأذان من سنن الصلاة الَّتِي وَلِيَ الْقِيَامَ بِهَا فَصَارَ دَاخِلًا فِي الولاية عليها. وَلَهُ أَنْ يَأْخُذَ الْمُؤَذِّنِينَ بِمَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إليه في الوقت والأذان. فإن كان حنبليا يرى تعجيل الصلوات في أول الأوقات ولا يرجع الأذان، ويرى إفراد الْإِقَامَةِ، أَخَذَ الْمُؤَذِّنِينَ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُمْ خلاف ذلك. وَإِنْ كَانَ حَنَفِيًّا يَرَى تَأْخِيرَ الصَّلَوَاتِ إلَى آخِرِ الْأَوْقَاتِ، إلَّا الْمَغْرِبَ، وَيَرَى تَرْكَ التَّرْجِيعِ في الأذان، ويرى تثنية الْإِقَامَةِ، أَخَذَهُمْ بِذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ رَأْيُهُمْ بِخِلَافِهِ. ويعمل الْإِمَامُ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ فِي أَحْكَامِ صَلَاتِهِ، فإن كان حنبليا يَرَى تَرْكَ الْقُنُوتِ فِي الصُّبْحِ وَتَرْكَ الْجَهْرِ بِالْبَسْمَلَةِ، عُمِلَ عَلَى رَأْيِهِ وَلَمْ يُعَارَضْ فِيهِ، وكذلك إن كان شافعيا يرى الجهر بالبسملة والقنوت في الصبح لم يعرض له. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالْأَذَانِ: أَنَّهُ يُؤَدِّي الصَّلَاةَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَارَضَ في اجتهاده والمؤذن يؤدي في حق غيره، فجاز أن يعارض على اجتهاده. وَالصِّفَاتُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي تَقْلِيدِ هَذَا الْإِمَامِ خَمْسٌ: أن يكون رجلا، عدلا، قَارِئًا، فَقِيهًا، سَلِيمَ اللَّفْظِ مِنْ نَقْصٍ أَوْ لثغ، فإن كان صبيا أو فاسقا أو امرأة أو خنثي، أو أخرس، أو ألثغ، لم تصح إمامة الصبي في الفرض، وصحت في النفل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ولم تصح إمامة الفاسق في فرض ولا نفل لعدل ولا لفاسق. ولا تصح إمامة المرأة بالرجال، وكذلك الخنثي. وإن أمّ أخرس أو ألثغ، يُبَدِّلُ الْحُرُوفَ بِأَغْيَارِهَا، بَطَلَتْ صَلَاةُ مَنْ ائْتَمَّ بِهِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى مِثْلِ خَرَسِهِ، أَوْ لَثَغِهِ. وَأَقَلُّ مَا عَلَى هَذَا الْإِمَامِ مِنْ الْقِرَاءَةِ وَالْفِقْهِ: أَنْ يَكُونَ حَافِظًا لِأُمِّ الْقُرْآنِ، عَالِمًا بِأَحْكَامِ الصَّلَاةِ، لِأَنَّهُ الْقَدْرُ الْمُسْتَحَقُّ فيها، ولأن يكون حافظا لجميع القرآن، عالما بجميع الأحكام أَوْلَى. وَإِذَا اجْتَمَعَ فَقِيهٌ لَيْسَ بِقَارِئٍ، وَقَارِئٌ ليس بفقيه، كان القارئ أولى من الفقيه إذا كان عالما بأحكام الصلاة لأن القراءة والإكثار منها متحقق وَمَا يَنُوبُهُ مِنْ الْحَوَادِثِ فِي الصَّلَاةِ غَيْرُ متحقق، مع أنا قد اعتبرنا العلم بأحكامها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 ويجوز أن يأخذ هذا، لإمام ومؤذنوه رِزْقًا عَلَى الْإِمَامَةِ وَالْأَذَانِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، من سهم المصالح، لأن هذا ليس بأجرة على الصلاة والأذان، وإنما هو حق ثابت في بيت المال. وقد ذكر أبو عبد الله بن بطة في كتاب تعظيم حرمة الصلاة، قال: وقد كان على بن عيسى الوزير نصب للجوامع - مثل جامع الرمالة وغيره - أصحاب ابن مجاهد، في كل يوم رجلا يصلي بالناس الخمس الصلوات، وجعل لهم الأرزاق. قال أبو جعفر: وقد كان أبو بكر الخلال في مجلس في جامع الرصافة، وكان يصلي الجمعة والعصر خلف هؤلاء الذين يأخذون الأجرة، ثم خلفه بعده غلامه عبد العزيز، وأبو القاسم الخرقي. وقد ذكر أبو بكر الخلال في كتاب الإمامة " باب ذكر الصلاة خلف من يأخذ أجرا على الصلاة. وروي عن أحمد في رواية المروزي، وصالح، وأبي الحارث، ومهنا، وإسحاق بن إبراهيم " لايصلي خلفه" وذكر بعد أبواب أخر، فقال "باب الصلاة خلف من يأخذ الأجرة من السلطان على الإمامة في المساجد، وروي عن أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه وقد سأله عن الرجل يصلي في مسجد الجامع غير صلاة الجمعة والإمام يعطي أجر الإمامة والأذان - أحب إليك، أم يصلي في مساج القبائل؟ - فقال: مازلنا نصلي ف المسجد الجامع خلف هؤلاء الذين يعطوا أجرا". وإنما أراد بالأجر ههنا: الرزق، لأن السلطان يعطي رزقا. وأما المساجد العامية، الَّتِي يَبْنِيهَا أَهْلُ الشَّوَارِعِ وَالْقَبَائِلِ فِي شَوَارِعِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ، فَلَا اعْتِرَاضَ لِلسُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ فِي أَئِمَّةِ مَسَاجِدِهِمْ، وَتَكُونُ الْإِمَامَةُ فِيهَا لِمَنْ اتَّفَقُوا عَلَى الرِّضَا بِإِمَامَتِهِ وَلَيْسَ لَهُمْ بَعْدَ الرِّضَا بِهِ أَنْ يَصْرِفُوهُ عَنْ الْإِمَامَةِ إلَّا أَنْ يَتَغَيَّرَ حاله، وليس له بعد رضاهم به أن يستخلف مكانه نائبا عنه، ويكون أهل المسجد أحق بِالِاخْتِيَارِ. وَإِذَا اخْتَلَفَ أَهْلُ الْمَسْجِدِ فِي اخْتِيَارِ إمام أو مؤذن، قرع بين المختلف فيهما، نص عليه في رواية أبي داود: في رجلين تشاحا في الأذان، وقالا: يجمع أهل المسجد، فينظر من يختارون. فقال أحمد " لا، ولكن يقترعا، على ما فعل سعد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 وقال في رواية حنبل " وإذا اختلفا في الإمامة يقرع بينهما، على ما فعل سعد". وقد قيل: يعمل على قول الأكثر، وقد أومأ إليه أحمد في رواية صالح والمروذي: في الإمام إذا كرهه قوم ورضي به قوم، فإن أكثرهم قد رضي به يؤمهم. فاعتبر رضا الأكثر في الواحد اختلفوا فيه. فعلى هذه الرواية: إن تكافأ المختلفون احتمل القرعة، واحتمل أن يختار السُّلْطَانُ لَهُمْ - قَطْعًا لِتَشَاجُرِهِمْ - مَنْ هُوَ أَدْيَنُ وأسنّ وأقرأ فيه. وَهَلْ يَكُونُ اخْتِيَارُهُ مَقْصُورًا عَلَى الْعَدَدِ الْمُخْتَلَفِ فيهم، أو يكون عاما في أهل المسجد! يحتمل أن يَكُونُ مَقْصُورًا عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ الْمُخْتَلِفِ فِي اختيار أَحَدُهُمْ، وَلَا يَتَعَدَّاهُمْ إلَى غَيْرِهِمْ، لِاتِّفَاقِهِمْ عَلَى ترك من عداهم. ويحتمل أن يَخْتَارُ مِنْ جَمِيعِ أَهْلِ الْمَسْجِدِ مَنْ يَرَاهُ لإمامته، لأن السلطان لا يضيق عليه الاختيار. فإن بَنَى رَجُلٌ مَسْجِدًا لَمْ يَسْتَحِقَّ الْإِمَامَةَ فِيهِ، وكان هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ جِيرَانِ الْمَسْجِدِ سَوَاءً فِي إمامته، وأذانه، نص عليه في رواية حرب ويعقوب بن بختان. وقد سئل عن المؤذن وما رضيه أهل المسجد، أو الذي بنى المسجد؟ فقال: "هو ما رضيه أهل المسجد، ليس الذي بناه". فإن حضر جماعة بمنزل، رَجُلٍ لِلصَّلَاةِ فِيهِ، كَانَ مَالِكُ الْمَنْزِلِ أَحَقَّهُمْ بِالْإِمَامَةِ فِيهِ وَإِنْ كَانَ دُونَهُمْ فِي الْفَضْلِ. فإن حضر السلطان كان أحق من المالك، لعموم ولايته عليه، ولهذا يقدم على الولي في صلاة الجنازة. صـ 99 وأما الإمامة في صلاة الجمعة فقد اختلفت الرواية عن أحمد في وجوب تقليدها فروي عنه أن التقليد فيها ندب، وحضور السلطان فيها ليس بشرط، وإن أقامها الناس على شروطها انعقدت وصحت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وروي عنه: أَنَّهَا مِنْ الْوِلَايَاتِ الْوَاجِبَاتِ، وَأَنَّ صَلَاةَ الْجُمُعَةِ لَا تَصِحُّ إلَّا بِحُضُورِ السُّلْطَانِ، أَوْ مَنْ يستنيبه فيها. وهل يجوز أن يكون الإمام فيها عبدا؟ على روايتين، بناء على وجوبها على العبد. فإن قلنا: لا تجب على العبد لم يجز أن يؤم فيها، وإن قلنا: تجب عليه، جاز أن يكون إماما فيها. ولا تجوز إمامة الصبي فيها. ولا تجوز إقامتها إلا في وطن يجمع الْمَنَازِلِ، يَسْكُنُهُ مَنْ تَنْعَقِدُ بِهِمْ الْجُمُعَةُ، لَا يَظْعَنُونَ عَنْهُ شِتَاءً وَلَا صَيْفًا، إلَّا ظَعْنَ حاجة، سواء كان مصرا أو قرية. وقد قال أحمد في رواية ابن القاسم وقد سئل: على من تجب، يعني الجمعة؟ قال " أما الواجب فالذي يسمع النداء أو أهل القرية إذا كانت مجتمعة" فقد اعتبر اجتماع المنازل في القرية. وقال في رواية أبي النضر العجلي " ليس على أهل البادية جمعة، لأنهم ينتقلون". فقد أسقط عنهم الجمعة، وعلل بأنه غير مستوطنين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وتجب الجمعة على من كان خارج المصر إذا سمعوا نداءها منه، وقد حدّه أحمد بفرسخ، ولا تنعقد الجمعة بأقل من أربعين رجلا من أهل القرية، ليس فيهم امرأة، ولا مسافر، وإن كان فيهم عبد ففيه روايتان بناء على وجوبها على العبد. وهل يكون الإمام زائدا على العدد. قال في رواية عبد الله " أقل ما يجزئ الإمام يوم الجمعة أن يصلي معه أربعون رجلا". فاعتبر أربعين غيره. وذلك لما روي عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه " أن أسعد بن زرارة صلى بهم بالمدينة وهم يومئذ أربعون رجلا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وهذا يقتضي أن الأربعين غيره، كما لو قال: أطعمنا ونحن أربعون، ولأن ما اعتبر في كان المتبوع غيره. دليله: الشهود في عقد النكاح، غير الولي، وكذلك الشهود عند الحاكم بالحق هم غير الحاكم، وهذا يلزمه عليه الجماعة. والثانية: يكونون أربعين مع الإمام. قال في رواية الأثرم " إذا كانوا أربعين يجمعون" وكذلك قال في رواية الميموني " إذا كانوا أربعين" وكذلك قال في رواية ابن القاسم " تجب الجماعة إذا كان أهل القرية أربعين رجلا". فاعتبر جملة العدد أربعين. والوجه فيه: ما وري عطاء عن جابر أنه قال " مضت السنة أن في كل ثلاثة إمام، وفي كل أربعين فما فوقها جمعة". فأخبر أن السنة في الأربعين، وإذا كان الإمام أحدهم فقد وجد الأربعون، ولأن العدد الذي يعتبر في الجماعة يكون الإمام واحدا منهم، كذلك في عدد الجمعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وَإِذَا كَانَ الْإِمَامُ فِي الْجُمُعَةِ، يَرَى أَنَّهَا لا تنعقد بأقل من أربعين، وكان المأمون - وهم أقل من أربعين - يَرَوْنَ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَؤُمَّهُمْ، وَوَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِمْ أَحَدَهُمْ. وَلَوْ كَانَ الْإِمَامُ يَرَى أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِأَقَلَّ من أربعين، والمأمون لَا يَرَوْنَهُ - وَهُمْ أَقَلُّ- لَمْ يَلْزَمْ الْإِمَامَ ولا المأمومين إقامتها، لأن المأمومين لا يرونها ولا الإمام يَجِدْ مَعَهُ مَنْ يُصَلِّيهَا. وَإِذَا أَمَرَ السُّلْطَانُ الإمام في الجمعة أن لا يصلي إلا بأربعين، لم يجز أَنْ يُصَلِّيَهَا بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ وَإِنْ كَانَ يراه مذهبا، لأنه مقصور الولاية على الأربعين، ومصروف عما دونها. ولا يجوز أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِمْ مَنْ يُصَلِّيهَا، لِصَرْفِ وِلَايَتِهِ عنها. فإن أَمَرَهُ السُّلْطَانُ أَنْ يُصَلِّيَ بِأَقَلَّ مِنْ أَرْبَعِينَ وهو لا يراه، فالولايه باطلة، لتعذرها من جهته. وَإِذَا كَانَ الْمِصْرُ جَامِعًا لِقُرًى قَدْ اتَّصَلَ بنيانها حتى اتسع بكثرة أهله كَبَغْدَادَ، جَازَ إقَامَةُ الْجُمُعَةِ فِي مَوَاضِعِهِ الْقَدِيمَةِ، ولا يمنع البنيان من إقامتها في مواضعها. وقد نقل أو داود أن أحمد سئل عن المسجدين اللذين يجمع فيهما ببغداد: هل فيه شيء متقدم؟ فقال: " أكثر ما فيه: أمر علي - رضي الله عنه - أن يصلي بالضعفة". وإن كان المصر واحدا موضوعا في الأصل على سعة وجامعه يسع جميع أهله، كمكة والمدينة لَمْ يَجُزْ أَنْ تُقَامَ الْجُمُعَةُ فِيهِ إلَّا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ مِنْهُ. وَإِنْ كَانَ الْمِصْرُ وَاحِدًا مُتَّصِلَ الْأَبْنِيَةِ لَا يَسَعُ جَامِعُهُ جَمِيعَ أهله لكثرتهم كالبصرة، ففيه روايتان: إحداهما: تجوز إقامة الجمعة في موضعين منه للضرورة. لكثرة أهله. وقد أومأ إليه أحمد في رواية المروذي. وقد سئل عن الصلاة يوم الجمعة في موضع يكون فيه مسجدان. فقال " صل. أذهب إلى قول على في العيد إنه أمر رجلا يصلي بضعفة الناس". وهو اختيار الخرقي؛ لأنه قال: " وإذا كان البلد كبيرا يحتاج إلى جوامع، فصلاة الجمعة في جميعها جائزة". وفيه رواية أخرى: لا يجوز. فإن ضَاقَ بِهِمْ اتَّسَعَتْ لَهُمْ الطُّرُقَاتُ، فَلَمْ يُضْطَرُّوا إلى تفريق الجمعة في مواضع منه. وقد أومأ إليه أحمد في رواية الأثرم وقد سئل: " هل علمت أن أحدا جمع جمعتين في مصر واحد؟ قال: لا أعلم أحدا فعله - أي من الماضين - وجمعة بعد جمعة لا أعرف". فعلى هذه الرواية: إن أقيمت الجمعة في موضعين من مِصْرٍ قَدْ مُنِعَ أَهْلُهُ مِنْ تَفْرِيقِ الْجُمُعَةِ، فقد قيل: أَنَّ الْجُمُعَةَ لِأَسْبَقِهِمَا بِإِقَامَتِهَا، وَعَلَى الْمَسْبُوقِ أَنْ يعيد صلاته ظهرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 وقيل: الْجُمُعَةَ لِلْمَسْجِدِ الْأَعْظَمِ الَّذِي يَحْضُرُهُ السُّلْطَانُ، سَابِقًا كان أو مسبوقا، على من صلى في الأصغر إعادة صلاتهم ظهرا. وجه القائل الأول: أن الثانية استفتاج جمعة بمصر بعد انعقاد غيرها فيه لغير ضرورة، فأشبه إذا لم يحضر الثانية سلطان. ووجه القائل الثاني: أنا لو قلنا: إن جمعة الرعية أولى لافتتنا على الإمام وفوتنا الجمعة عليه، وذلك أنه لا يشاء شاء أن يخرج على الإمام إلا جمع بأربعين قبله، فيفوتها عليه. وهذا أشبه بقول أحمد لأنه قال في بعض رواياته في صوم يوم الشك " إنه يتبع الإمام في ذلك". وليس لمن قلد الجمعة أن يؤم في الصلوات الخمس، وكذلك من قلد الصلوات الخمس لا يستحق الإمامة في صلاة الجمعة بنا على الأصل، وهو أن الجمعة فرض مبتدأ وليس بظهر مقصورة. ويشهد له أيضا ما قاله في رواية مهنا - وقد سأله " هل يجمع القاضي إذا لم يخرج الوالي؟ فقال: إذا أمره، فإن لم يأمره لم يجمع". [الإمامة في غير الصلوات الخمس] وأما الإمامة في صلوات الندب المنسوبة إلى الجماعة فخمس: صلاة العيدين، والخسوفين، والاستسقاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 فتقليد الإمام فيها ندب لجوازها جماعة وفرادى. وَلَيْسَ لِمَنْ قُلِّدَ إمَامَةَ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ أَوْ إقامة الجمعة حتى فِي إقَامَتِهَا إلَّا أَنْ يُقَلَّدَ جَمِيعَ الصَّلَوَاتِ، فتدخل في عمومها. [صلاة العيد] فأما صلاة العيد، فوقتها بين طلوع الشمس وزوالها، ويختار له تَعْجِيلُ الْأَضْحَى، وَتَأْخِيرُ الْفِطْرِ. وَيُكَبِّرُ النَّاسُ فِي لَيْلَتَيْ الْعِيدَيْنِ مِنْ بَعْدِ غُرُوبِ الشَّمْسِ إلَى حِينِ أَخْذِهِمْ فِي صَلَاةِ الْعِيدِ. وَيَخْتَصُّ عِيدُ الأضحى بالتكبير له في أعقاب الصلوات المفروضات، من بعد صلاة الصبح، من يوم عرفة إلى بعد صلاة العصر مِنْ آخِرِ أَيَّامِ التَّشْرِيقِ. وَيُصَلِّي الْعِيدَيْنِ قَبْلَ الخطبة والجمعة بعدها اتباعا للسنة فيهما. وتختص صلاة العيدين بالتكبيرات الزوائد، وهي في الأولى ست سوى تكبيرة الإحرام، وفي الثانية خمس سوى تكبيرة القيام قبل القراءة فيهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وَيَعْمَلُ الْإِمَامُ فِي هَذِهِ التَّكْبِيرَاتِ الزَّوَائِدِ عَلَى رَأْيِهِ وَاجْتِهَادِهِ، وَلَيْسَ لِمَنْ وَلَّاهُ أَنْ يَأْخُذَهُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْعَدَدِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ بِذِكْرِ الْعَدَدِ فِي صَلَاةِ الْجُمُعَةِ خَاصَّ الْوِلَايَةِ وَلَا يَصِيرُ بِذِكْرِ التَّكْبِيرِ فِي صلاة العيد خاص بالولاية، فافترقا. [صلاة الكسوف] وأما صلاة الخسوفين فيصليهما من ندبه السلطان، أو من عمت ولايته فاشتملت عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 وَهِيَ رَكْعَتَانِ، فِي كُلِّ رَكْعَةٍ رُكُوعَانِ وَقِيَامَانِ، يُطِيلُ الْقِرَاءَةَ فِيهِمَا، فَيَقْرَأُ فِي الْقِيَامِ الْأَوَّلِ من الركعة الأولى جهرا بعد الفاتحة سورة البقرة أو نحوها، ويركع مسبحا بقدر النصف، ثُمَّ يَرْفَعُ مُنْتَصِبًا، وَيَقْرَأُ بَعْدَ الْفَاتِحَةِ بِسُورَةِ آل عمران أو نحوها، ويركع مسبحا بقدر النصف، ويسجد سجدتين كسائر الصلاة، ثم يصنع في الركعة الثانية كذلك ويقرأ في قيامها، ويسبح في ركوعها على النصف مما قرأ وسبح في الأولى. وهل يخطب بعدها؟ على روايتين مذكورتين في صلاة الاستسقاء. [صلاة الاستسقاء] وأما صلاة الاستسقاء فمندوب إلَيْهَا عِنْدَ انْقِطَاعِ الْمَطَرِ، وَخَوْفِ الْجَدْبِ. يَتَقَدَّمُ من قلدها بصيام ثلاثة أيام قبلها يكف فيها عن المظالم والتخاصم، ويصلح فيما بين المتشاحن والمتشاجر. وَهِيَ كَصَلَاةِ الْعِيدِ فِي وَقْتِهَا. وَإِذَا قُلِّدَ صَلَاةَ الْعِيدِ فِي عَامٍ جَازَ - مَعَ إطْلَاقِ وِلَايَتِهِ - أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي كُلِّ عَامٍ مَا لم يصرف. وإذا قلد صلاة الخسوف والاستسقاء في عام ولم يَكُنْ لَهُ مَعَ إطْلَاقِ وِلَايَتِهِ أَنْ يُصَلِّيَهَا فِي غَيْرِهِ إلَّا أَنْ يُقَلَّدَ، لِأَنَّ صَلَاةَ الْعِيدِ رَاتِبَةٌ، وَصَلَاةَ الْخُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ عَارِضَةٌ. وَإِذَا مطروا في صلاة الاستسقاء أتموها. وهل يخطب بعدها شكرا على روايتين: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وَلَوْ مُطِرُوا قَبْلَ الدُّخُولِ فِيهَا لَمْ يُصَلُّوا، وشكروا بغير خطبة رواية واحدة. وكذلك في الخسوف إذا تجلى. وَلَوْ اقْتَصَرَ فِي الِاسْتِسْقَاءِ عَلَى الدُّعَاءِ أَجْزَأَ. روي أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ " أَنَّ أَعْرَابِيًّا أَتَى رَسُولَ الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله، أَتَيْنَاكَ وَمَا لَنَا بَعِيرٌ يَئِطُّ، وَلَا صَبِيٌّ يصطبح، فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجُرُّ رِدَاءَهُ حَتَّى صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَحَمِدَ اللَّهَ وأثنى عليه، ثم قال: اللَّهُمَّ اسْقِنَا غَيْثًا غَدَقًا مُغِيثًا سَحًّا طَبَقًا " وذكر الخبر. فصل: في ولاية الحج وهذه الولاية ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ عَلَى تَسْيِيرِ الْحَجِيجِ. وَالثَّانِي: عَلَى إقَامَةِ الْحَجِّ. فَأَمَّا تَسْيِيرُ الْحَجِيجِ فهو ولاية سياسية، وزعامة تدبير. وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْمُوَلَّى أَنْ يَكُونَ مُطَاعًا، ذَا رَأْيٍ، وَشَجَاعَةٍ وَهَيْبَةٍ وَهِدَايَةٍ وَاَلَّذِي عَلَيْهِ من حُقُوقِ هَذِهِ الْوِلَايَةِ عَشَرَةُ أَشْيَاءَ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 أَحَدُهَا: جَمْعُ النَّاسِ فِي مَسِيرِهِمْ وَنُزُولِهِمْ حَتَّى لا يتفرقوا، فيخاف عليهم النَّوَى وَالتَّغْرِيرَ. وَالثَّانِي: تَرْتِيبُهُمْ فِي الْمَسِيرِ وَالنُّزُولِ، بِإِعْطَاءِ كُلِّ طَائِفَةٍ مِنْهُمْ مُقَادًا حَتَّى يَعْرِفَ كل قوم مِنْهُمْ مُقَادَهُ إذَا سَارَ، وَيَأْلَفَ مَكَانَهُ إذَا نَزَلَ، فَلَا يَتَنَازَعُونَ فِيهِ وَلَا يَضِلُّونَ عَنْهُ. الثالث: أن يرفق بهم في المسير حَتَّى لَا يَعْجِزَ عَنْهُ ضَعِيفُهُمْ، وَلَا يَضِلَّ عنه منقطعهم. رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قال " المضعف أميرا لرفقه" يريد مَنْ ضَعُفَتْ دَابَّتُهُ كَانَ عَلَى الْقَوْمِ أَنْ يَسِيرُوا بِسَيْرِهِ. الرَّابِعُ: أَنْ يَسْلُكَ بِهِمْ أَوْضَحَ الطرق وأخصبها، ويتجنب أوعرها وأجدبها. الخامس: أَنْ يَرْتَادَ لَهُمْ الْمِيَاهَ إذَا انْقَطَعَتْ، وَالْمَرَاعِيَ إذا قلت. السادس: أَنْ يَحْرُسَهُمْ إذَا نَزَلُوا، وَيَحُوطَهُمْ إذَا رَحَلُوا، حتى لا يتخطفهم داغل ولا يطمع فيهم متلصص. السابع: أَنْ يَمْنَعَ عَنْهُمْ مَنْ يَصُدُّهُمْ عَنْ الْمَسِيرِ، وَيَدْفَعَ عَنْهُمْ مَنْ يَحْصُرُهُمْ عَنْ الْحَجِّ بِقِتَالٍ، إن قدر عليه، وببذل مَالٍ إنْ أَجَابَ الْحَجِيجُ إلَيْهِ. وَلَا يَسَعُهُ أَنْ يُجْبِرَ أَحَدًا عَلَى بَذْلِ الْخَفَارَةِ إنْ امْتَنَعَ مِنْهَا حَتَّى يَكُونَ بَاذِلًا لَهَا عَفْوًا، ومحيبا إلَيْهَا طَوْعًا، فَإِنْ بَذَلَ الْمَالَ عَلَى التَّمْكِينِ من الحج لا يجب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 الثامن: أَنْ يُصْلِحَ بَيْنَ الْمُتَشَاجِرِينَ، وَيُتَوَسَّطَ بَيْنَ الْمُتَنَازِعِينَ، وَلَا يَتَعَرَّضَ لِلْحُكْمِ بَيْنَهُمْ إجْبَارًا، إلَّا أَنْ يفوض إليه الحكم، فَيُعْتَبَرُ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِهِ. فَيَجُوزُ له حينئذ أن يحكم بَيْنَهُمْ، فَإِنْ دَخَلُوا بَلَدًا فِيهِ حَاكِمٌ جَازَ له ولحاكم البلد أن يحك بَيْنَهُمْ، فَأَيُّهُمَا حَكَمَ نَفَذَ حُكْمُهُ، وَلَوْ كَانَ التنازع بين أحد الحجيج وأهل البلد لم يحكم بينهما إلا حاكم البلد. التاسع: أن يقوم زائغهم، ويؤدب جانبهم، ولا يتجاوز التعزير إلى حد، إلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَهُ فِيهِ فَيَسْتَوْفِيَهُ إذَا كان من أهل الاجتهاد، فَإِنْ دَخَلَ بَلَدًا فِيهِ مَنْ يَتَوَلَّى إقَامَةَ الْحُدُودِ عَلَى أَهْلِهِ نَظَرَ، فَإِنْ كَانَ مَا أَتَاهُ الْمَحْدُودُ قَبْلَ دُخُولِ الْبَلَدِ، فَوَالِي الْحَجِيجِ أَوْلَى بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ مِنْ وَالِي الْبَلَدِ، وَإِنْ كَانَ مَا أَتَاهُ الْمَحْدُودُ فِي الْبَلَدِ، فَوَالِي الْبَلَدِ أَوْلَى بِإِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ مِنْ والي الحجيج. العاشر: أَنْ يُرَاعِيَ اتِّسَاعَ الْوَقْتِ حَتَّى يُؤْمَنَ الْفَوَاتَ، وَلَا يُلْجِئَهُمْ ضِيقُهُ إلَى الْحَثِّ فِي السَّيْرِ. فَإِذَا وَصَلَ إلَى الْمِيقَاتِ أَمْهَلَهُمْ لِلْإِحْرَامِ وَإِقَامَةِ سُنَنِهِ، فَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ مُتَّسِعًا عَدَلَ بِهِمْ إلَى مَكَّةَ لِيَخْرُجُوا مَعَ أَهْلِهَا إلَى الْمَوَاقِفِ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْتُ ضَيِّقًا عَدَلَ بِهِمْ عَنْ مَكَّةَ إلَى عَرَفَةَ خَوْفًا مِنْ فَوَاتِهَا فَيَفُوتَ الْحَجُّ بِهَا، فَإِنَّ زَمَانَ الْوُقُوفِ بِعَرَفَةَ مَا بَيْنَ زَوَالِ الشَّمْسِ مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ إلَى طلوع الفجر مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ، فَمَنْ أَدْرَكَ الْوُقُوفَ بِهَا فِي شَيْءٍ مِنْ هَذَا الزَّمَانِ، مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فَقَدْ أَدْرَكَ الْحَجَّ، وَإِنْ فَاتَهُ الْوُقُوفُ بِهَا حَتَّى طَلَعَ الْفَجْرُ مِنْ يَوْمِ النحر فقد فاته الحج ويتحلل بعمرة. وقيل: يصير إحرامه بالفوات عمرة، جبرة بدم، وقضاة في العالم المقبل إن أمكن، وفيما بعد إن تعذر عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وإذا وصل الْحَجِيجَ إلَى مَكَّةَ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى العود منهم فقد زال عنه ولاية الوالي على الحجيج فلم يكن له عليه يد، ومن كان منه عَلَى الْعَوْدِ فَهُوَ تَحْتَ وِلَايَتِهِ، وَمُلْتَزِمٌ أَحْكَامَ طاعته. وإذا قَضَى النَّاسُ حَجَّهُمْ أَمْهَلَهُمْ الْأَيَّامَ الَّتِي جَرَتْ بِهَا الْعَادَةُ فِي إنْجَازِ عَلَائِقِهِمْ، وَلَا يُرْهِقُهُمْ فِي الْخُرُوجِ، فَيَضُرَّ بِهِمْ. فَإِذَا عَادَ بِهِمْ سار على طَرِيقَ الْمَدِينَةِ لِزِيَارَةِ قَبْرِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، رِعَايَةً لِحُرْمَتِهِ، وَقِيَامًا بِحُقُوقِ طاعته. وإن لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مِنْ فُرُوضِ الْحَجِّ فَهُوَ من مندوبات الشرع المستحبة، وعادات الحجيج المستحسنة. روى عمر أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ " من زار قبري وجبت له شفاعتي". ثم يكون في عوده بهم ملتزم فيهم من الحقوق ما التزمه في صدري حتى يصل بهم البلد فتنقطع ولايته عنهم بالعود إليه. وإن كان الْوِلَايَةُ عَلَى إقَامَةِ الْحَجِّ فَهُوَ فِيهِ بِمَنْزِلَةِ الإمام في إقامة الصلاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 فمن شروط الولاية عليها، مع شروط الْمُعْتَبَرَةِ فِي أَئِمَّةِ الصَّلَوَاتِ. أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَنَاسِكِ الْحَجِّ وَأَحْكَامِهِ، عَارِفًا بِمَوَاقِيتِهِ وَأَيَّامِهِ. وَتَكُونُ مُدَّةُ وِلَايَتِهِ مُقَدَّرَةً بِسَبْعَةِ أَيَّامٍ. أَوَّلُهَا: مِنْ صَلَاةِ الظُّهْرِ فِي الْيَوْمِ السَّابِعِ مِنْ ذِي الحجة. وآخرها: يوم النفر الثاني: وهو الثَّالِثَ عَشَرَ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ، وَهُوَ فِيمَا قَبْلَهَا وَبَعْدَهَا أَحَدُ الرَّعَايَا، وَلَيْسَ مِنْ الْوُلَاةِ. فإذا كَانَ مُطْلَقَ الْوِلَايَةِ عَلَى إقَامَةِ الْحَجِّ، فَلَهُ إقَامَتُهُ فِي كُلِّ عَامٍ، مَا لَمْ يُصْرَفْ عَنْهُ. وَإِنْ عُقِدَتْ لَهُ خَاصَّةً عَلَى عَامٍ لم يتعداه إلَى غَيْرِهِ إلَّا عَنْ وِلَايَةٍ. وَاَلَّذِي يَخْتَصُّ بولايته ويكون نظره نظره عليه مقصورا خَمْسَةُ أَحْكَامٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهَا، وَسَادِسٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ. أَحَدُهَا: إشْعَارُ النَّاسِ بِوَقْتِ إحْرَامِهِمْ، وَالْخُرُوجُ إلَى مشاعرهم ليكونوا له متبعين، وبأفعاله مقتدين. الثاني: ترتيبه لِلْمَنَاسِكِ عَلَى مَا اسْتَقَرَّ الشَّرْعُ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ مَتْبُوعٌ فِيهَا فَلَا يُقَدِّمُ مُؤَخَّرًا وَلَا يُؤَخِّرُ مُقَدَّمًا، سَوَاءٌ كَانَ التَّرْتِيبُ مُسْتَحَقًّا أَوْ مُسْتَحَبًّا. الثالث: تقدر المواقيت بمقامه فيها، ومسيره عنها كما تتقدم صلاة المأمومين بصلاة الإمام. الرابع: اتباعه على الأذكار الْمَشْرُوعَةِ فِيهَا، وَالتَّأْمِينُ عَلَى أَدْعِيَتِهِ بِهَا لِيَتَّبِعُوهُ فِي الْقَوْلِ كَمَا اتَّبَعُوهُ فِي الْعَمَلِ، وَلِيَكُونَ اجتماع أدعيتهم أفتح لأبواب الإجابة. الخامس: إمامتهم في الصلوات التي شرعت خطب الحج فيها ويجتمع الحجيج عليها وهي خطبتان: يوم عرفة، ويوم النفر الأول، على ما نشرحه. ويستحب له في اليوم الثامن: أن يخرج من مكة فينزل بمنى، بخيف بني كِنَانَةَ حَيْثُ نَزَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم- ويبيت بها، ويسير بهم من عنده، - وهو اليوم التاسع - مع طلوع الشمس إلى يوم عَرَفَةَ عَلَى طَرِيقِ ضَبٍّ، وَيَعُودُ عَلَى طَرِيقِ الْمَأْزِمَيْنِ، اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم-، وليكون عائدا في غير طريق التي صدر منها. فَإِذَا أَشْرَفَ عَلَى عَرَفَةَ نَزَلَ بِبَطْنِ عَرَفَةَ وأقام بها حتى نزول الشمس، ثم سار منها إلى مسجد إبراهيم عليه السلام بوادي عرفة، فخظب الخطبة الأولة من خطب الحج قبل الصلاة الجمعة وجميع الْخُطَبِ مَشْرُوعَةٌ بَعْدَ الصَّلَاةِ إلَّا خُطْبَتَيْنِ: خُطْبَةُ الْجُمُعَةِ، وَخُطْبَةُ عَرَفَةَ، فَإِذَا خَطَبَهَا ذَكَّرَ النَّاسَ فِيهَا مَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ أَرْكَانِ الْحَجِّ وَمَنَاسِكِهِ، وَمَا يَحْرُمُ عَلَيْهِمْ مِنْ مَحْظُورَاتِهِ، ثُمَّ يُصَلِّي بِهِمْ بَعْدَ الْخُطْبَةِ صَلَاةَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ، جَامِعًا بينهما في وقت الظهر، ويقصرها الْمُسَافِرُونَ , وَيُتِمُّهَا الْمُقِيمُونَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 اقْتِدَاءً بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي جَمْعِهِ وَقَصْرِهِ، ثُمَّ يَسِيرُ بَعْدَ فَرَاغِهِ منها إلى عرفة. وهي الموقف المفروض. وحد عرفة ما جاوز وادي عرنة الَّذِي فِيهِ الْمَسْجِدُ. وَلَيْسَ الْمَسْجِدُ وَلَا وَادِي عرنة مِنْ عَرَفَةَ إلَى الْجِبَالِ الْمُقَابِلَةِ عَلَى عَرَفَةَ كلها. فيقف منها عند الأجبل الثلاثة: النبعه، والنبيعة، والنابت. فقد وقف النبي - صلى الله عليه وسلم- عند النابت وجعل بطن ناقته إلَى الْمِحْرَابِ، فَهَذَا أَحَبُّ الْمَوَاقِفِ أَنْ يَقِفَ فيه الإمام. وأين وَقَفَ مِنْ عَرَفَةَ وَالنَّاسُ أَجْزَأَهُمْ. وَوُقُوفُهُ عَلَى رَاحِلَتِهِ لِيَقْتَدِيَ بِهِ النَّاسُ أَوْلَى. ثُمَّ يَسِيرُ بعد غروب الشمس إلى مزدلفة، فيؤخر صَلَاةَ الْمَغْرِبِ حَتَّى يَجْمَعَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْعِشَاءِ الآخرة بمزدلفة، ويؤم الناس فيها، ويبيت بمزدلفة وحدها من حيث يفضي مِنْ مَأْزِمَيْ عَرَفَةَ، وَلَيْسَ الْمَأْزِمَانِ مِنْهَا إلَى أَنْ يَأْتِيَ إلَى قَرْنِ مُحَسِّرٍ، وَلَيْسَ الْقَرْنُ منها، ويلتقط والناس منها حصى الجمار لعدد الأيام، مثل حصى الحذف، وَيَسِيرُ مِنْهَا بَعْدَ الْفَجْرِ. وَلَوْ سَارَ قَبْلَهُ وَبَعْدَ نِصْفِ اللَّيْلِ أَجْزَأَ، وَلَيْسَ الْمَبِيتُ بِهَا ركن، ويجبر بدم إن تركه. ثم يتوجه إذا سار منها إلى المشعر الحرام، فيقف فيه بِقُزَحَ دَاعِيًا، وَلَيْسَ الْوُقُوفُ بِهِ فَرْضًا. ثُمَّ يَسِيرُ إلَى مِنًى، فَيَبْدَأُ بِرَمْيِ جَمْرَةِ الْعَقَبَةِ قبل الزوال بسبع حصيات، ثم ينحر هو ومن ساق هَدْيًا مِنْ الْحَجِيجِ، ثُمَّ يَحْلِقُ أَوْ يُقَصِّرُ، يَفْعَلُ مِنْهُمَا مَا شَاءَ، وَالْحَلْقُ أَفْضَلُ. ثُمَّ يَتَوَجَّهُ إلَى مَكَّةَ، فَيَطُوفُ بِهَا طَوَافَ الْإِفَاضَةِ، وَيَسْعَى بَعْدَ طَوَافِهِ إنْ لَمْ يَسْعَ قَبْلَ عرفة، ويجزيه سعيه قبل عرفة، ولا يجزيه طَوَافُهُ قَبْلَهَا. ثُمَّ يَعُودُ إلَى مِنًى، فَيُصَلِّي بالناس الظهر، وليس فيه خطبة مسنونة بعد الصلاة، لأن الإمام يعلمهم في خطبة يوم عرفة ما يحتاجون إليه في يوم عرفة ما يبقى عليهم من مناسكهم فلا حاجة به إلى ذلك، ويبيت بمنى ليلة ليرمي من غدها - وهو يوم النفر الْحَادِيَ عَشَرَ - بَعْدَ الزَّوَالِ الْجِمَارَ الثَّلَاثَ، بِإِحْدَى وعشرين حصاة، كل جمرة بسبع، وَيَبِيتُ بِهَا لَيْلَتَهُ الثَّانِيَةَ، وَيَرْمِي مِنْ غَدِهَا - وَهُوَ يَوْمُ النَّفْرِ - الْجِمَارَ الثَّلَاثَ، ثُمَّ يَخْطُبُ بعد صلاة الظهر الخطبة الثانية، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وَهِيَ آخِرُ الْخُطَبِ الْمَشْرُوعَةِ فِي الْحَجِّ. وَيُعْلِمُ الناس أن لهم في الحج نفرين، خيرهم الله تعالى فيهما بقوله (2: 203 - فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إثْمَ عَلَيْهِ، ومن تأخر فلا إثم عليه) وَيُعْلِمُهُمْ أَنَّ مَنْ نَفَرَ مِنْ مِنَى قَبْلَ غروب الشمس فقط سقط عنه المبيت بها ورمى الجمار مِنْ غَدِهِ، وَمَنْ أَقَامَ بِهَا حَتَّى غَرَبَتْ الشمس لزمه المبيت بها والرمي من غده. وليس في اليوم السابع من العشر خطبة، لأنه يوم لم يشرع في نسك من مناسك الحج، فلم يشرع فيه خطبة كليلة اليوم الأخير من أيام التشريق، ولا يلزمه عليه يوم عرفة ويوم النفر الأول لأنه شرع فيه النسك. ولا في يوم النحر خطبة، لأن الإمام يعلمهم في خطبة يوم عرفة ما يحتاجون إليه في الغد وهو النفر الثاني، لم يحتج إلى إعادة الخطبة فيه. وليس لهذا الإمام يحكم وِلَايَتِهِ أَنْ يَنْفِرَ فِي النَّفْرِ الْأَوَّلِ، وَيُقِيمَ بمنى لِيَبِيتَ بِهَا، وَيَنْفِرُ فِي النَّفْرِ الثَّانِي مِنْ غده من يوم الحلاق، وهو الثَّالِثَ عَشَرَ بَعْدَ رَمْيِ الْجِمَارِ الثَّلَاثِ، لِأَنَّهُ متبوع، فلا يَنْفِرْ إلَّا بَعْدَ اسْتِكْمَالِ الْمَنَاسِكِ. فَإِذَا اسْتَقَرَّ حكم النفر الثاني انقضت ولايته وأدى مَا لَزِمَهُ. فَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ الْمُتَعَلِّقَةُ بِوِلَايَتِهِ. فأما السَّادِسُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ فَثَلَاثَةُ أَشْيَاءَ: أَحَدُهَا: إنْ فعل أحد الحجيج ما يقتضي تعزيره أو يوجب حدا، فينظر، فإن كان مما لا تعلق له بِالْحَجِّ لَمْ يَكُنْ لَهُ تَعْزِيرُهُ وَلَا حَدُّهُ، وإن كان مما يتعلق بالحج مثل أن .... فله تعزيره زجرا وتأديبا، وأما الحد فليس له إقامته، لأنه خارج عن أفعال الحج، وقد قيل له ذلك لأنه من أحكام الحج. الثاني: أنه لا يجوز له أن يحكم بين الحجيج فيما يتنازعونه من غير أحكام الحج، فأما حكمه بينهم فيما يتنازعونه مِنْ أَحْكَامِ الْحَجِّ، كَالزَّوْجَيْنِ إذَا تَنَازَعَا فِي إيجاب الكفارة للوطء ومؤنة القضاء، فعلى ما ذكرنا من الاحتمال الثالث أن يأتي أحد الحجيج بما يوجب الفدية فله أن يخبره بموجبها ويأمره بإخراجها، وهل يستحق إلزامه له ويصير خصما له في المطالبة؟ عل ما ذكرنا من الاحتمال في إقامة الحد. ويجوز لوالي الحجيج أَنْ يُفْتِيَ مَنْ اسْتَفْتَاهُ إذَا كَانَ فَقِيهًا وإن لم يجز له أَنْ يَحْكُمَ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُنْكِرَ عَلَيْهِمْ ما يسوغ فعله، إلا ما يخاف أن يجعله الجاهل قدرة فيه، فقد أنكر عمر على طلحة لُبْسَ الْمُضَرَّجِ فِي الْحَجِّ، وَقَالَ " أَخَافُ أَنْ يَقْتَدِيَ بِكَ الْجَاهِلُ". وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَحْمِلَ النَّاسَ فِي الْمَنَاسِكِ عَلَى مَذْهَبِهِ. وَلَوْ أَقَامَ للناس الحج - وهو حلال غَيْرُ مُحْرِمٍ - كُرِهَ لَهُ ذَلِكَ، وَصَحَّ الْحَجُّ معه بِخِلَافِ الصَّلَاةِ الَّتِي لَا يَصِحُّ أَنْ يَؤُمَّهُمْ فِيهَا وَهُوَ غَيْرُ مُصَلٍّ لَهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 وَلَوْ قَصَدَ النَّاسُ فِي الْحَجِّ التَّقَدُّمَ عَلَى إمامتهم فيه أو التأخر فيه جَازَ وَإِنْ كَانَتْ مُخَالَفَةُ الْمَتْبُوعِ مَكْرُوهَةً، وَلَوْ قصدوا مخالفته في الصلاة فسدت عليهم، لِارْتِبَاطِ صَلَاةِ الْمَأْمُومِ بِصَلَاةِ الْإِمَامِ، وَانْفِصَالِ حَجِّ الناس عن حج الإمام. فصل: في ولايات الصدقات الزكاة تجب في الأموال المرصدة للنماء، إما بنفسها وإما بِالْعَمَلِ فِيهَا، طُهْرَةً لِأَهْلِهَا، وَمَعُونَةً لِأَهْلِ السَّهْمَانِ. وَالْأَمْوَالُ الْمُزَكَّاةُ ضَرْبَانِ: ظَاهِرَةٌ وَبَاطِنَةٌ. فَالظَّاهِرَةُ: مَا لا يمكن إخفاؤه: من الزروع، وَالثِّمَارِ، وَالْمَوَاشِي. وَالْبَاطِنَةُ: مَا أَمْكَنَ إخْفَاؤُهُ: مِنْ الذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَعُرُوضِ التِّجَارَةِ. وَلَيْسَ لِوَالِي الصَّدَقَاتِ نظر في زكاة المال الباطني، وَأَرْبَابُهُ أَحَقُّ بِإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ مِنْهُ، إلَّا أَنْ يَبْذُلَهَا أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ طَوْعًا، فَيَقْبَلُهَا مِنْهُمْ، وَيَكُونُ في تفرقتها عونا لهم، ونظره مخصوص بزكاة المال الظاهر، يؤمر أرباب الأموال بدفعها إليه إذا طلبها، فإن لم يطلبها جاز دفعها إليه. والأفضل أن يتولى أرباب المال تفرقتها بأنفسهم، نص عليه، فإن طالبهم الإمام بدفعها إليه فامتنعوا من ذلك وأجابوا إلى إخراجها بأنفسهم لم يكن له قتالهم، والمنصوص عليه في قتالهم: إذا منعوا إخراجها في رواية منصور، والمروذي، والميموني، والأثرم. وَالشُّرُوطُ الْمُعْتَبَرَةُ فِي هَذِهِ الْوِلَايَةِ: أَنْ يَكُونَ مسلما، عدلا، عَالِمًا بِأَحْكَامِ الزَّكَاةِ ' إنْ كَانَ مِنْ عُمَّالِ التفويض. وقد قال في رواية أبي طالب - وقد سأله: يستعمل اليهودي والنصراني في أعمال المسلمين مثل الخراج؟ - فقال " لا يستعان بهم في شيء". وَإِنْ كَانَ مُنَفِّذًا قَدْ عَيَّنَهُ الْإِمَامُ عَلَى قَدْرٍ يَأْخُذُهُ، جَازَ أَنْ لَا يَكُونَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِهَا. وَيَجُوزُ أَنْ يَتَقَلَّدَهَا مَنْ تحرم عليه الصدقات من ذوي القربى، والعبيد، ويكون رزقه منها، لأن ما يأخذه أجرة زكاة، ولهذا يتقدر بقدر عمله. وقد قال الخرقي " ولا تدفع الصدقة لبني هاشم، ولا لكافر ولا لعبد، إلا أن يكونوا من العاملين عليها فيعطون بحق ما عملوا ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 وقال أبو حفص " ويدفع إلى العبد إذا كان من العاملين عليها". وقد سأل المروذي أحمد: العاملون عليها قوم خاص؟ قال: لا، بل عام". وقال له أبو طالب: بعض الناس يقول. للعامل الثمن، فقال " ليس كذا، إن ولي رجل على البصرة يأخذ الثمن، لكن يأخذ على قدر عمالته". وقال أبو حفص " يعطي منها وإن كان غنيا" وذكر الحديث بإسناده عن أبي سعيد قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - " لا تحل الصدقة إلا الخمسة: لعامل عليها" وذكر الخبر. وإذا قلده أخذها، نظرت، فإن قلد أخذها وقسمتها، فله الجمع بين الأمرين. وإن قلده أخذها، ونهاه عن قسمتها، لم يجز له قسمتها. وإن أطلق التقليد فلم يأمره ولم ينهه، جاز له قسمتها، وهذا ظاهر كلام أحمد رحمه الله، في رواية الميموني. فقال " والذي فارقته عليه: أن المصدق إذا جاءهم وأخذ صدقات أموالهم، فإن كانوا أغنياء عنها أخرجها، وردها إلى الإمام، وإن كانوا فقراء أعطاهم ما يغنيهم، فإن فضل عنهم شيء أخرجه عنهم". والأموال الْمُزَكَّاةَ أَرْبَعَةٌ أَحَدُهَا: الْمَوَاشِي، وَهِيَ الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ والغنم، سميت مَاشِيَةً لِرَعْيِهَا وَهِيَ مَاشِيَةٌ. فَأَمَّا الْإِبِلُ فَأَوَّلُ نصابها: خمس، وفيها شَاةٌ جَذَعَةٌ مِنْ الضَّأْنِ، أَوْ ثَنِيَّةٌ مِنْ المعز، والجذع من الغنم: ماله ستة أشهر، وفيها، والثني منها: ما استكمل ستة إلى سبعة. فإذا بلغت الإبل عشرا، ففيها شاتان، إلى أربع عشرة، فإذا بلغت خمس عشرة، ففيها ثلاث شياه، إلى تسع عشرة، فإذا بلغت عشرين، ففيها أربع شياه إلى أربع وعشرين. فَإِذَا بَلَغَتْ خَمْسًا وَعِشْرِينَ، عَدَلَ فِي فَرْضِهَا عن الغنم، وكان فيها ابنة مخاض، وهي: ما استكملت سنة، فإن عدمها فابن لبون ذكر إلى خمس وثلاثين. فإذا بلغت ستا وثلاثين، ففيها ابنة لبون، وهي ما استكملت سنتين، إلى خمس وأربعين. فإذا بلغت ستا وأربعين، ففيها حِقَّةٌ وَهِيَ مَا اسْتَكْمَلَتْ ثَلَاثَ سِنِينَ، وَاسْتَحَقَّتْ الركوب وطرق الفحل إلى ستين، فإذا بلغت إحدى وستين ففيها جذعة، وهي ما استكملت أربع سنين إلى خمس وسبعين، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 فإذا بلغت ستا وسبعين ففيها بنتا لبون إلى تسعين. فإذا بلغت إحدى وتسعين ففيها حقتان إلى مائة وعشرين، هذا مَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ، وَانْعَقَدَ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ. فإذا زَادَتْ عَلَى مِائَةٍ وَعِشْرِينَ وَاحِدَةً، كَانَ فِي كل أربعين ابنة لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ، فَيَكُونُ فِي مِائَةٍ وَإِحْدَى وَعِشْرِينَ ثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَفِي مائة وأربعين حقتان وبنت لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَخَمْسِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ، وَفِي مِائَةٍ وَسِتِّينَ: أَرْبَعُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَسَبْعِينَ حِقَّةٌ وَثَلَاثُ بَنَاتِ لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَثَمَانِينَ حِقَّتَانِ وَبِنْتَا لَبُونٍ، وَفِي مِائَةٍ وَتِسْعِينَ ثَلَاثُ حِقَاقٍ وَبِنْتُ لَبُونٍ، فَإِذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْنِ: ففيها أحد فرضين، إما أربع حقاق، وإما خَمْسُ بَنَاتِ لَبُونٍ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ فِيهَا إلا أحد الفرضين أخذا. وإن واجدا مَعًا أَخَذَ الْعَامِلُ أَفْضَلَهُمَا وَقِيلَ يَأْخُذُ الْحِقَاقَ لأنها أكثر منفعة وأقل مؤونة، وعلى هَذَا الْقِيَاسُ فِيمَا زَادَ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابنة لَبُونٍ، وَفِي كُلِّ خَمْسِينَ حِقَّةٌ. وَأَمَّا الْبَقَرُ فأول نصابها ثلاثون. وفينا تبيع ذكر، وهو ما استكمل ستة أشره وَقَدَرَ عَلَى اتِّبَاعِ أُمِّهِ، فَإِنْ أَعْطَى تَبِيعَةً أنثى قبلت إلى تسعة وثلاثين. فَإِذَا بَلَغَتْ أَرْبَعِينَ فَفِيهَا مُسِنَّةٌ أُنْثَى، وَهِيَ التي اسْتَكْمَلَتْ سَنَةً. فَإِنْ أَعْطَى مُسِنًّا ذَكَرًا لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ إنْ كَانَ فِي بَقَرِهِ أُنْثَى. فإن كَانَتْ كُلُّهَا ذُكُورًا، فَقَدْ قِيلَ: يُقْبَلُ الْمُسِنُّ الذكر. وقيل: لا يقبل. فإذا زادت على الأربعين من البقر فلا شيء فيها، حَتَّى تَبْلُغَ سِتِّينَ فَيَجِبُ فِيهَا تَبِيعَانِ. ثُمَّ فِيمَا بَعْدَ السِّتِّينَ فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ. وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ مُسِنَّةٌ. فَيَكُونُ فِي سَبْعِينَ تبيع ومسنة وَفِي ثَمَانِينَ مُسِنَّتَانِ. وَفِي تِسْعِينَ ثَلَاثَةُ أَتْبِعَةٍ. وَفِي مِائَةٍ تَبِيعَانِ وَمُسِنَّةٌ, وَفِي مِائَةٍ وَعَشَرَةٍ مسنتان وتبيع. وفي مائة وعشرين أحد فرضين. كالمئتين مِنْ الْإِبِلِ إمَّا أَرْبَعَةُ أَتْبِعَةٍ. أَوْ ثَلَاثُ مسنات. وقيل: يأخذ العامل منها مَا وَجَدَ. فَإِنْ وَجَدَهُمَا أَخَذَ أَفْضَلَهُمَا. وَقِيلَ: يَأْخُذُ الْمُسِنَّاتِ. ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسُ فِيمَا زَادَ، فِي كُلِّ ثَلَاثِينَ تَبِيعٌ، وَفِي كُلِّ أَرْبَعِينَ: مُسِنَّةٌ. وَأَمَّا الْغَنَمُ، فَأَوَّلُ نِصَابِهَا أَرْبَعُونَ. وفيها جَذَعَةٌ أَوْ ثَنِيَّةٌ مِنْ الْمَعْزِ، إلَّا أَنْ تَكُونَ كُلُّهَا صِغَارًا دُونَ الْجِذَاعِ وَالثَّنَايَا. فَيُؤْخَذُ منها صغيرة دون الجذعة والثنية. وقيل: لا يؤخذ إلا جذعة أو ثنية إلى مائة وعشرين. فإذا زادت واحدة ففيها شاتان إلى مائة وتسعة وتسعين. فإذا صارت مائتي شاة. ففيها ثلاث أشياء إلى أن تبلغ أربعمائة. فإذا بلغتها ففيها أربع شياه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وبضم الضَّأْنُ إلَى الْمَعْزِ، وَالْجَوَامِيسُ إلَى الْبَقَرِ، وَالْبَخَاتِيُّ إلى العرب لأنهما نوعان من جنس واحد. ولا تضم الْإِبِلُ إلَى الْبَقَرِ وَلَا الْبَقَرُ إلَى الْغَنَمِ، لاختلاف الجنس. والخلطاء في الزكاة يزكون زكاة الواحد إذا اجتمعت فيهم شروط الخلطة. ولا يجمع مال الإنسان من الماشية إذا تفرقت أماكنه بحيث تقصر الصلاة. فإذا كان له نصاب واحد في بلدين لم تجب الزكاة، وإن كان له نصابان في بلدين وجبت زكاتان. وزكاة المواشي تجب إذا بلغت نصابا، بِشَرْطَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ سَائِمَةً تَرْعَى الْكَلَأَ. فتقل مؤونتها، وَيَتَوَفَّرُ دَرُّهَا وَنَسْلُهَا، فَإِنْ كَانَتْ عَامِلَةً أَوْ معلوفة لم تجب فيها الزكاة. الثاني: أن يحول عليها الحول الذي تستكمل فيه النسل. والسخال فتزلى بزكاة أُمَّهَاتِهَا إذَا وُلِدَتْ قَبْلَ الْحَوْلِ وَكَانَتْ الْأُمَّهَاتُ نصابا. فإن نقصت الأمهات عن النصاب استؤنف بِهَا الْحَوْلُ بَعْدَ اسْتِكْمَالِ النِّصَابِ. وَلَا زَكَاةَ في الخيل والبغال والحمير. وَإِذَا كَانَ وَالِي الصَّدَقَاتِ مِنْ عُمَّالِ التَّفْوِيضِ أخذها - مما اختلف الفقهاء فيه - على رأيه واجتهاده الإمام، ولا على أرباب الأموال، ولا يلزم الإمالم أَنْ يَنُصَّ لَهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَأْخُذُهُ. وَإِنْ كَانَ مِنْ عُمَّالِ التَّنْفِيذِ عَمِلَ فِيمَا اُخْتُلِفَ فِيهِ عَلَى اجْتِهَادِ الْإِمَامِ دُونَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَجُزْ لِهَذَا الْعَامِلِ أَنْ يَجْتَهِدَ، وَلَزِمَ الْإِمَامَ أَنْ يَنُصَّ لَهُ عَلَى الْقَدْرِ المأخوذ، ويكون رسولا في القبض، منفذا الاجتهاد الإمام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 فعلى هذا: إن كان العامل ذميا نظرت، فَإِنْ كَانَ فِي زَكَاةٍ عَامَّةٍ لَمْ يَجُزْ، لأن فيها ولاية ولا يصح ثبوتها مع الكفر، وإن كان في زكاة خاصة نظرت. فَإِنْ كَانَ فِي مَالٍ قَدْ عَرَفَ مَبْلَغَ أصله وقدر زكاته، جاز أن يكون المأمور بقبضه ذميا، لأنه تجرد عن حُكْمِ الْوِلَايَةِ، وَتَخَصَّصَ بِأَحْكَامِ الرِّسَالَةِ. وَإِنْ كَانَ فِي مَالٍ لَمْ يَعْرِفْ مَبْلَغَهُ، وَلَا قَدْرَ زكاته لم يجز أن يكون المأمور ذميا، لأنه يحتاج إلى عد مال لا يقبل فيه خبره. فإذا تَأَخَّرَ عَامِلُ الصَّدَقَاتِ عَنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ بَعْدَ وُجُوبِ زَكَاتِهِمْ. فَإِنْ كَانَ بَعْدَ وُرُودِ عَمَلِهِ وتشاغله بغيرهم أنظروه لِأَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى أَخْذِهَا إلَّا مِنْ طَائِفَةٍ بَعْدَ طَائِفَةٍ. وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنْ جَمِيعِهِمْ وَتَجَاوَزَ الْعُرْفَ فِي وَقْتِ زَكَاتِهِمْ أَخْرَجُوهَا بِأَنْفُسِهِمْ، لأن الأمر بدفعها إليه معلق بطلبها، وَسَاقِطٌ مَعَ عَدَمِ الْإِمْكَانِ. وَجَازَ لِمَنْ يَتَوَلَّى إخْرَاجَهَا مِنْ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ أَنْ يَعْمَلَ فِيهَا على اجتهاد نفسه إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ اسْتَفْتَى مِنْ الْفُقَهَاءِ مَنْ يأخذ بقوله ولا يلزمه أن يستفتى فقيهين. فإن استفتى فقيهين فأفتاه أحدهما بوجوبها وَأَفْتَاهُ الْآخَرُ بِإِسْقَاطِهَا. أَوْ أَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِقَدْرٍ، وأفتاه الآخر بأكثر منه احتمل وجهين: أحدهما: أن يأخذ بأغلظ القولين بناء على قوله: إن أرباب الأموال يقومون السلع بما فيه الحظ، ولا يعتبر الثمن الذي اشتريت به. والثاني: يَكُونُ مُخَيَّرًا فِي الْأَخْذِ بِقَوْلِ مَنْ شَاءَ منهما بناء على قوله فيمن سأله عن طلاق فأرشده إلى أصحاب مالك طلبا للرخصة. وقال في موضع آخر " لا تحمل الناس على مذهبك". وإذا حَضَرَ الْعَامِلُ بَعْدَ أَنْ عَمِلَ رَبُّ الْمَالِ عَلَى اجْتِهَادِ نَفْسِهِ، أَوْ اجْتِهَادِ مَنْ اسْتَفْتَاهُ وَكَانَ اجْتِهَادُ الْعَامِلِ مُؤَدِّيًا إلَى إيجَابِ مَا أسقط أَوْ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَخْرَجَهُ كَانَ اجْتِهَادُ الْعَامِلِ أَمْضَى، إنْ كَانَ وَقْتُ الْإِمْكَانِ بَاقِيًا، وَاجْتِهَادُ رَبِّ الْمَالِ أَنْفَذَ، إنْ كَانَ وَقْتُ الإمكان فانيا. وَلَوْ أَخَذَ الْعَامِلُ الزَّكَاةَ بِاجْتِهَادِهِ، وَعَمِلَ فِي وجوبها وإسقاطها عَلَى رَأْيِهِ، وَأَدَّى اجْتِهَادُ رَبِّ الْمَالِ إلَى إيجَابِ مَا أَسْقَطَهُ، أَوْ الزِّيَادَةِ عَلَى مَا أَخَذَهُ لَزِمَ رَبُّ الْمَالِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى إخْرَاجُ مَا أَسْقَطَهُ مِنْ أَصْلٍ أو تركه من زيادة، لأنه معترف بوجوب ما عليه لأهل السهمان. وقد قال أحمد في رواية حرب " إذا لم يأخذ السلطان منه تمام العشر يخرج تمام العشر، يتصدق به". وَالْمَالُ الثَّانِي: مِنْ أَمْوَالِ الزَّكَاةِ ثِمَارُ النَّخْلِ والكرم وما في معناها مما يكال ويدخر، كاللوز، والفستق، والبندق. ولا تجب في غير ذلك في جميع الفواكه والثمار زكاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 وقد نص على ثمرة النخل والكرم في غير موضع. ونص على ثمرة اللوز، وأسقطها في الجوز في رواية أبي طالب. وأسقطها فيما عدا ذلك من الفواكه. وأوجبها في الزيتون، في رواية المروزي، وصالح. وزكاتها تجب بشرطين: أحدهما: بدو الصلاح فيها، وَاسْتِطَابَةُ أَكْلِهَا، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ قَطَعَهَا قَبْلَ بدو صلاحها زكاة إذا كان لحاجة، فإن فعله فرارا من الزكاة لم تسقط. والثاني: أن يبلغ خمسة أوسق. ولا زكاة فيها إنْ كَانَتْ أَقَلَّ مِنْ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ. وَالْوَسْقُ ستو صاعا. والصاع خمسة أرطال وثلث بالعراق. ويجوز خرص الثمار على أصلها بقدر الزكاة، واستظهارا لأهال السهمان. وقد وَلَّى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خَرْصِ الثِّمَارِ عُمَّالًا. وَقَالَ لَهُمْ " خَفِّفُوا الْخَرْصَ، فَإِنَّ فِي الْمَالِ الْوَصِيَّةَ وَالْعَرِيَّةَ، وَالْوَاطِئَةَ، وَالنَّائِبَةَ". فَالْوَصِيَّةُ: مَا يُوصِي بِهَا أَرْبَابُهَا بَعْدَ الوفاة. " والعرية": ما يعرى للصلاة في الحياة. " والواطئة": ما تأكله السابلة منه. سموا وَاطِئَةً لِوَطْئِهِمْ الْأَرْضَ. " وَالنَّائِبَةُ": مَا يَنُوبُ الثِّمَارَ من الجوائح. فأما ثمار البصرة فحكمها حكم غيرها في خرص النخل والكرم. ولا يجوز خرص النخل والكرم إلا بعد بدو صلاحها. فيخرصان بسرا وعنبا على روايتين. إحداهما: يعتبر كونه رطبا وعنبا. والثانية: تعتبر مَا يَرْجِعَانِ إلَيْهِ تَمْرًا وَزَبِيبًا ثُمَّ يُخَيَّرُ أَرْبَابُهَا إذَا كَانُوا أُمَنَاءَ بَيْنَ ضَمَانِهَا بِمَبْلَغِ خرصها، ليتصرفوا فيا وَيَضْمَنُوا قَدْرَ زَكَاتِهَا. وَبَيْنَ أَنْ تَكُونَ فِي أَيْدِيهِمْ أَمَانَةٌ، يُمْنَعُونَ مِنْ التَّصَرُّفِ فِيهَا حَتَّى تتناهى فتؤخذ زكاتها ما بلغت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وقدر الزكاة: العشر إن سقيت عثريا أَوْ سَيْحًا. وَنِصْفُ الْعُشْرِ إنْ سُقِيَتْ غَرْبًا أو تضحا. فإن سقيت بهما فقد قيل: يعتبر أغلبهما. وَقِيلَ: يُؤْخَذُ بِقِسْطِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَإِذَا اختلف ربها وَالْعَامِلُ فِيمَا سُقِيَتْ بِهِ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ ربها. فإن رأي العامل يستحلفه استظهارا فعل، فَإِنْ نَكَلَ لَمْ يَلْزَمْهُ إلَّا مَا اعْتَرَفَ به. وبضم أَنْوَاعَ النَّخْلِ بَعْضُهَا إلَى بَعْضٍ، وَكَذَلِكَ أَنْوَاعُ الْكَرْمِ، لِأَنَّ جَمِيعَهَا جِنْسٌ وَاحِدٌ، وَلَا يُضَمُّ النخل إلى الكرم. ويضم الملك إذا كان لواحد بعضه إلى بعض من الزرع، والثمار إذات كان في بلدين. نص عليه في رواية الأثرم في زروع في بلدان شتى، في كل بلد ثلاثة أوسق، أيجمعها فيزكيها؟ فقال " الزرع غير الماشية، إنما سمعنا في الماشية ولم نسمع في الزرع". ومعناه: أن الماشية يجمع المتفرق منها، وقد نص عليه أيضا في رواية حنبل. وَإِذَا كَانَتْ ثِمَارُ النَّخْلِ وَالْكَرْمِ تَصِيرُ تَمْرًا وزبيبا لم يأخذ زكاتها إلا بعد تناهي جفافها تَمْرًا أَوْ زَبِيبًا. وَإِنْ كَانَتْ مِمَّا لَا يؤخذ إلا رطبا أو عنبا أخذ عشرها. وقد أطلق أحمد القول في ذلك، سواء قلنا: إن القسمة إفراز حق، وهو المنصوص في رواية الأثرم. أو بيع لأن بيع الثمرة بعضها ببعض جائز عندنا. فإن أخرج عشر ثمنها إذا بيعت، فقد أطلق أحمد القول في ذلك، فقال في رواية صالح ابن منصور " وإذا باع نخلة أو ثمرة أو زرعهخ وقد بلغ في ثمنه العشر أو نصف العشر أخرجه". وكذلك قال في رواية أبي طالب "إذا ابيض السنبل فباعه بألف درهم يتصدق بعشرها، بمائة". فقد أطلق القول هاهنا أن العشر في الثمن. وقال في رواية أبي داود " إذا باع ثمرة نخلة عشره على الذي باعه، إن شاء أخرج تمرا، وإن شاء أخرج من الثمن". فقد خيره هاهنا، وإنما أخذ عشر ثمنها. ورأيت في تعاليق أبي بكر بن مشكايا عن أبي حفص البرمكي قال " إذا باع الرجل الثمر فالزكاة في الثمن، وإن لم يبعها فالزكاة في الثمرة". قال أبو بكر: وكان أبو إسحاق قد قال إن للأثرم كلاما يجيء بخلاف هذا المعنى. قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 أبو إسحاق "وقد أخرجنا هذه المسألة عن الكوسج: أن الزكاة في الثمن إذا باعها، فقال يجيء على هذا روايتان. قال: لأن من أصلنا لا تؤخذ القيمة في الزكاة". والأمر على ما قال أبو إسحاق، وأنه متى ثبت جواز إخراج القيمة إ ... ذا باع النصاب ثبت جوازه إذا كان باقيا، ولا فرق بينهما. وَإِذَا هَلَكَتْ الثِّمَارُ بَعْدَ خَرْصِهَا بِجَائِحَةٍ مِنْ أَرْضٍ أَوْ سَمَاءٍ قَبْلَ إمْكَانِ أَدَاءِ الزَّكَاةِ سَقَطَتْ وَإِنْ هَلَكَتْ بَعْدَ إمْكَانِ أَدَائِهَا أُخِذَتْ. وقد قال أحمد في رواية حنبل " إذا خرص عليهم، وترك في رءوس النخل فعليهم حفظه. فإن أصابته جائحة من السماء فذهبت بالثمرة لم يؤخذ، وسقط عنهم الخرص ". المال الثالث: الزرع فتجب الزكاة في المكيل المدخر: كالبر وَالشَّعِيرُ، وَالْأَرُزُّ، وَالذُّرَةُ وَالْبَاقِلَّاءُ، وَاللُّوبْيَاءُ، وَالْحِمَّصُ، وَالْعَدَسُ، والدهن، والجلبا،. فَأَمَّا الْعَلَسُ فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الْبُرِّ يُضَمُّ إليه، وعليه قشرتان لا تجب فيه الزكاة بِقِشْرَتِهِ إلَّا إذَا بَلَغَ عَشَرَةَ أَوْسُقٍ. وَكَذَلِكَ الأرز في قشره. وَأَمَّا السُّلْتُ فَهُوَ نَوْعٌ مِنْ الشَّعِيرِ يُضَمُّ إلَيْهِ، وَالْجَاوَرْسُ: نَوْعٌ مِنْ الدُّخْنِ يُضَمُّ إلَيْهِ. وتجب أيضا في السمسم، وبزر الكتان، والخردل والشهدانج، والكمون، والكراويا. وتجب فيما لا يؤكل، كالقطن، والكتان في إحدى الروايتين، نقلها يعقوب بن يختان. ونقل أبو داود: لا زكاة في القطن. وقد قال في رواية أبي طالب " يعطي من كل شيء يكال ويدخر، مثل الحنطة، والشعير، والذرة والسلت، والزبيب، والتمر، والعدس، والحمص، والخردل، وأشباهه". وقال في رواية الأثرم " في الباقلاء والأرز واللوبيا". وقال في رواية مهنا " في السمسم والشهدانج". ولا تجب العشر في القبول والخضر، كالقثاء، والخيار، والباذنجان، والبطيخ. فأما ما لم يزرعه الآدميون من نبات الأودية والجبال مما يكال ويدخر، كاللوز، والفستق، والبندق، والسماق ,وحبة الخضراء والغبيراء، والعناب. فقياس قوله: يجب من العشر. لأنه نص على وجوب الزكاة في العسل المأخوذ من هذه المواضع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 فقال في رواية صالح " والعسل إذا كان في أرض العشر أو الخراج، حيث كان. ففيه العشر". وجعل نصابه عشر قرب، ذكره في رواية أبي داود. وقال: قال الزهري " في كل عشرة أفراق فرق". والفرق: ستة عشر رطلا. وَزَكَاةُ الزَّرْعِ تَجِبُ فِيهِ بَعْدَ قُوَّتِهِ وَاشْتِدَادِهِ. ولا يؤخذ مِنْهُ إلَّا بَعْدَ دِيَاسِهِ وَتَصْفِيَتِهِ، إذَا بَلَغَ الصنف منها خمسة أوسق. ولا زكاة فيما دونها. وقد قال أحمد في رواية صالح " مكروه أن يبيع الثمر حتى يطيب ... وإن باع ثمرة قد طابت فالزكاة على البائع". وقد اختلفت الرواية عنه في ضم الحنطة إلى الشعير والقطاني، بعضها إلى بعض، كالعدس إلى الأرز، والعدس إلى الباقلاء. على روايتين. إحداهما: تضم كما تضم العلس إلى الحنطة، والسلت إلى الشعير. والثانية: لا تضم، كما لا يضم التمر إلى الشعير. وَإِذَا جَزَّ الْمَالِكُ زَرْعَهُ: بَقْلًا أَوْ قَصِيلًا. نظرت. فإن قصد الفرار من الزكاة لم تسقط. وإن كان لحاجة سقطت. وإذا ملك الذمي أرض عشر فزرعها، أخذ منه ضعف الصدقة المأخوذة من المسلم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 نص عليه الميموني، وأبي طالب، وأبي بكر بن هانئ. فإن أسلم سقطت عنها مضاعفة الصدقة. وَإِذَا زَرَعَ الْمُسْلِمُ أَرْضَ خَرَاجٍ أُخِذَ مِنْهُ عشر الزرع، مع خراج الأرض. وإذا استأجر أرض خراج فزرعها فالخراج على مؤجرها. العشر على مستأجرها. المال الرابع: الذهب والفضة وَهُمَا مِنْ الْأَمْوَالِ الْبَاطِنَةِ. وَزَكَاتُهُمَا: رُبُعُ الْعُشْرِ. وَنِصَابُ الْفِضَّةِ: مِائَتَا دِرْهَمٍ بِوَزْنِ الْإِسْلَامِ، الَّذِي وزن كل درهم منه ستة دوانيق وكل عشرة منها سبع مثاقيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وَفِيهَا إذَا بَلَغَتْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ خَمْسَةُ دَرَاهِمَ هي ربع عشرها. ولا زكاة فيها إن نقصت عن مائتي درهم. وفيما زاد بحسابه. وَأَمَّا الذَّهَبُ فَنِصَابُهُ عِشْرُونَ مِثْقَالًا بِمَثَاقِيلِ الْإِسْلَامِ يَجِبُ فِيهِ رُبُعُ عُشْرِهِ، وَهُوَ نِصْفُ مِثْقَالٍ، وَفِيمَا زَادَ بِحِسَابِهِ. وَيَسْتَوِي فِيهِ خَالِصُهُ وَمَطْبُوعُهُ. واختلفت الرواية في ضم الفضة إلى الذهب. فروي عنه أنها لا تضم. وروي عنه أنها تضم. وفي ضمها روايتان. إحداهما. بضم الأقل إلى الأكثر، ويقوم بقيمة الأكثر. وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية أبي عبد الله النيسابوري. وقد سئل: إذا كان عنده مائة درهم، وعشرة دنانير، وأربعةى من الإبل، وأوساق من طعام هل يضم بعضها إلى بعض فيزكيها؟ فقال أحمد " أما الدراهم والدنانير فأحب له أن يضم بعضها إلى بعض، فيضم الأقل إلى الأكثر، فيحسبها، ويزكيها". والثانية: تضم بالأجزاء إذا كان معه عشرة دنانير ومائة درهم ضم بعضها إلى بعض. ولا تعتبر القيمة. وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم: في رجل عنده مائة درهم وثمانية دنانير. فقال " هذه مسألة فيها اختلاف، وإنما قال من قال فيها: الزكاة إذا كانت عشرة دنانير ومائة درهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 وظاهر هذا أنه إنما يصح الضم على هذا الوجه. وإذا اتجر بالدراهم والدنانير زكاها، وربحها تبع لها إذا حال الحول. وإذا اتخذ من الذهب والفضة حليا مباحا سقطت زكاته إذا كان يعار ويلبس وإن كان للكراء وجبت فيه الزكاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وإن اتخذ منهما ما يحظر من الحلي والأواني وجبت زكاته. فأما المعادن فهي من الأموال الظاهرة: وتجب الزكاة في جميع الخارج منها. سواء كان مما يطبع: الذهب، والفضة، والحديد، والرصاص، والصفر، والنحاس، أو مما لا يطبع: من مائع، كالقبر، والنفظ، أو حجر: كالجواهر، والكحل، والمغرة - إذا بلغ المأخوذ من الذهب والفضة بعد السبك والتصفية نصابا، أو بلغ قيمة المأخوذ من غيرهما نصابا. وقدر المأخوذ: ربع العشر، كالمقتنى من الذهب، والفضة، وعروض التجارة. فأما الرِّكَازُ فَهُوَ كُلُّ مَالٍ وُجِدَ مَدْفُونًا مِنْ ضَرْبِ الْجَاهِلِيَّةِ، فِي مَوَاتٍ، أَوْ طَرِيقٍ سَابِلٍ، يكون لواجده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 وعليه الخمس، يصرف مصرف الزكاة. ونقل بكر بن محمد عن أحمد أنه يصرف مصرف الفيء. ويجب المأخوذ من الركاز في جميع ما كان من أموالهم: كالذهب والفضة، والعروض وما وجد من الركاز مدفونا في أرض مملوكة ففيه روايتان إحداهما: هو لمالك الأرض لا حق فيه لواجده، وعلى مالكه الخمس. وقد نص على أنه لمالك الأرض دون واجده في رواية أبي الحارث: فيمن استأجر حفارا يحفر له بئرا في داره، فحفر فأصاب كنزا في البئر: ركازا عاديا فهو لصاحب الدار. وإن كان ضرب الإسلام عرّفه" فقد نص على أنه لمالك الأرض. وأما إيجاب الخمس: فقد نص على أن حق المعدن يجب على من وجده في أرضه، في رواية أبي الحارث، وصالح، فالركازمثله. وفيه رواية أخرى: يكون لمن وجده دون مالك الأرض، وفيه الخمس، نص عليه في رواية ابن منصور: فيمن اشترى دارا، فوجد فيها دراهم فيه لقطة حتى تكون ضرب الأكاسرة، فتكون لمن وجدها. فقد نص على أنه للواجد وهو المشتري، ولم يسأل من انتقلت عنه الدار، ولو كان لمالك الدار لوجب السؤال له. وجه الرواية الأولة، وأنه يكون لصاحب الأرض: أن الركاز مودع في الأرض، فلم يملك بالظهور. دليله: إذا وجد فيها دفن الإسلام، ولا يلزم عليه المعدن، لأنه غير مودع بل هو من تربة الأرض. والدلالة على إيجاب الخمس: أن ما يوجب الحق لا يختلف أن يستخرجه من أرض فلاة، أو من داره، كالمعدن. وقد ثبت من أصلنا وجوب الحق فيما وجده في داره، كذلك الركاز. ووجه الرواية الثانية، وأنه لمن وجده: أنه مال مخموس، فوجب أن يحصل ملكه بالظهور عليه، كمن دخل دار الحرب بغير إذن الإمام وأخذ مالا، فإنه يخمسه ويكون بقيته له، والحصول حصل هاهنا من واجده. فأما من وُجِدَ مِنْ ضَرْبِ الْإِسْلَامِ مَدْفُونًا أَوْ غَيْرَ مَدْفُونٍ فَهُوَ لُقَطَةٌ يَجِبُ تَعْرِيفُهَا حَوْلًا، فَإِنْ جاء صاحبها وإلا فللواحد أَنْ يَتَمَلَّكَهَا مَضْمُونَةً فِي ذِمَّتِهِ لِمَالِكِهَا إذَا ظهر. فإن وجد في داره معدنا - ذهبا أو فضة - ففيه الزكاة؛ لأنه مستخرج من المعدن، فتعلق الحق به.دليله: إذا كان المعدن في موات الأرض فاستخرج ولأنه غير ممتنع أن يكون ملكا له، ويتعلق به كالعشر في الخضراوات. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 [فَصْلٌ] وَعَلَى عَامِلِ الصَّدَقَةِ أَنْ يَدْعُوَ لِأَهْلِهَا عند دفعها، تَرْغِيبًا لَهُمْ فِي الْمُسَارَعَةِ، وَتَمْيِيزًا لَهُمْ مِنْ أهل الذمة، وَامْتِثَالًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى (9: 103 خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إنَّ صَلَاتَكَ سكن لهم) . وروي عبد الله بن أبي أوفى وكان من أصحاب الشجرة، قال " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذا أتاه قوم بصدقتهم قال: اللهم صل عليهم. قال: فأتاه أبي بصدقته، فقال: الله صل على آل أبي أوفى". وإذا كتم رجل زَكَاةَ مَالِهِ وَأَخْفَاهَا عَنْ الْعَامِلِ مَعَ عَدْلِهِ، أَخَذَهَا الْعَامِلُ مِنْهُ إذَا ظَهَرَ عَلَيْهَا وَنَظَرَ في سبب إخفائها. فإن كان يتولى إخْرَاجَهَا بِنَفْسِهِ، لَمْ يُعَزِّرْهُ. وَإِنْ أَخْفَاهَا لِيَغُلَّهَا ويمنع حق الله تعالى منها، عزره. وهل يغرمه زيادة عليها؟ المنصوص عن أحمد " لا زيادة عليه". قال في رواية بكر بن محمد عن أبيه " إذا منع الصدقة آخذها منه. ولا آخذ غير ما وجب عليه، فقال له: كيف تصنع بهذا الحديث؟ قال: لا أدري ما وجهه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وقال أبو بكر بن جعفر - من أصحابنا - يأخذ الزكاة منه الزكاة وشطر ماله. لحديث بهز بن الحكم " من منعها فإنا آخذوها وشطر ماله". وإذا كان العامل جائرا في أخذ الصدقات، عَادِلًا فِي قِسْمَتِهَا، جَازَ كَتْمُهَا، وَأَجْزَأَ دَفْعُهَا إليه. وإن كَانَ عَادِلًا فِي أَخْذِهَا جَائِرًا فِي قِسْمَتِهَا، وجب كتمها مِنْهُ. وَلَمْ يَجُزْ دَفْعُهَا إلَيْهِ. فَإِنْ أَخَذَهَا طوعا واختيارا أجزأتهم، ولا يلزمهم إعادتها. وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية المروزي؛ لأنه قال " قد قيل لابن عمر: إنهم يقلدون بها الكلاب، ويشربون بها الخمر؟ فقال: ادفعوها إليهم". وقد روي عن أبي هريرة وغير واحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أنهم قالوا " ادفعوها إليهم" إلا عبيد بن عمير قال " لا تدفعوها إليهم". فحكى قول ابن عمر، ولم ينكره، ولا خالفه. وقد صرح بأخذه به في رواية إسحاق بن هانئ: إذا غلبت الخوارج على موضع قوم وأخذوا زكاة أموالهم، هل يجزئ عنهم؟ فقال: "أقول لك فيه عن ابن عمر وتقول لي: تذهب إليه؟ ". وقال في رواية حنبل: وذكر حديث خيار بن سلمة قلت لابن عمر " يجيء مصدق ابن الزبير فيأخذ مني صدقة مالي، ويجيئني مصدق نجدة، فيأخذ مني. فقال: لأيهما أعطيت أجزأ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 عنك" فقال حنبل " سمعت أبا عبد الله يقول " لأيهما أعطى أجزأه إذا أداها على حقها إن شاء الله". وبهذا قال مالك. وقال الشافعي: لم يجزهم، ولزمهم إخراجها بأنفسهم إلى مستحقها. والدلالة عليه ما رواه أبو حفص بإسناده عن سهل بن أبي صالح عن أبيه قال " اجتمع عندي مال فأحببت أن أؤدي زكاته، فلقيت سعد بن أبي وقاص، فقلت: يا أبا إسحاق قد اجتمع عندي مال، وأنا أحب أن أؤدي زكاته، وهؤلاء يصنعون في الزكاة ما يصنعون؟ قال: أدّه إليهم. قال: ثم لقيت أبا سعيد الخدري، فقلت له مثل ذلك. فقال: أدّه إليهم. ثم لقيت أبا هريرة، فقلت له مثل ذلك. فقال: أدّه إليهم، فلقيت ابن عمر، فقلت له مثل ذلك. فقال: أدّه إليهم". وبإسناده عن نافع " أن الأنصار سألوا ابن عمر عن الصدقة، فقال: ادفعوها إلى العمال فقالوا: إن أهل الشام يظهرون مرة، وهؤلاء يظهرون مرة، فقال: ادفعوها إلى من غلب " وَإِذَا أَقَرَّ عَامِلُ الصَّدَقَاتِ بِقَبْضِهَا مِنْ أَهْلِهَا قُبِلَ قَوْلُهُ وَقْتَ وِلَايَتِهِ، سَوَاءٌ كَانَ مِنْ عمال التفويض أو من عمال التنفيذ. ويقبل قوله بعد عزله أيضا، بناء على أصلين، أحدهما: أن دفعها إليه مستحب، وليس بواجب، الثاني: إذا عزل القاضي، وقال: قد كنت حكمت لفلان في ولايتي. يقبل قوله. وإذا ادعى رب المال إخراجها قبل قوله، مع تأخر العامل عنه بعد إمكان أدائها، ومع حضور العامل بناء على أصل. وهو أن دفعها إليه مستحب وليس بواجب. ولا يحلف رب المال على ذلك. وظاهر كلام أحمد أنها لا تجب ولا تستحب. فقال في رواية ابن منصور - وقد سأله: هل يستحلف الناس على صدقاتهم، أو ما جاءوا به أخذ منهم؟ قال " ما جاءوا من شيء أخذ منهم، ولا يستحلفون". وقال في رواية حنبل " ولا يسأل المصدق عن شيء، ولا يبحث، إنما يأخذ مما وجد وكل ما أصابه مجتمعا وكان مما تجب فيه الصدقة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 فأما قسمة الصدقات فَهِيَ لِمَنْ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى فِي كِتَابِهِ. وهم الأصناف الثمانية (9: 69 لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا، وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ، وَفِي الرِّقَابِ، وَالْغَارِمِينَ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ) . ويجوز أن يصرفها في أحد الأصناف الثمانية، مع وجودهم. أما الفقراء: فهم الذين لا شيء لهم. وأما المساكين: فهم الذين قد أسكنهم العدم، وهم أحسن حالا من الفقراء. فيدفع إلى كل منهما ما يخرج به عن اسْمِ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ إلَى أَدْنَى مَرَاتِبِ الْغِنَى، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ بِحَسَبِ حَالِهِمْ. فَمِنْهُمْ مِنْ يَصِيرُ بِالدِّينَارِ الْوَاحِدِ غَنِيًّا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الأسواق، يربح فيه قدر كفايته لا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ عَلَيْهِ. وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يستغني إلا بمائة دينار، فيدفع إليه قيمة ذلك عروضا أو حبوبا. فإن دفع إليه دنانير دفع إليه خمسة دنانير، أو خمسين درهما وإن لم يكن قدر كفايته. للخبر المروي في ذلك. وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ ذَا جَلَدٍ يَكْتَسِبُ بِصِنَاعَتِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى، وَإِنْ كان لا يملك شيئا. وأما العاملون عليها: فهم صنفان. أحدهما: المقيمون بأخذها وجباتها. وَالثَّانِي. الْمُقِيمُونَ بِقِسْمَتِهَا وَتَفْرِيقِهَا: مِنْ أَمِينٍ، وَمُبَاشِرٍ، وتابع، ومتبوع، يعطون بقدر أمثالهم. وأما المؤلفة قلوبهم. وهم أربعة أصناف: صنف منهم تتألف قلوبهم لمعونة المسلمين وصنف تتألف للكف عن المسلمين، وصنف ليرغبهم في الإسلام. وصنف يتألفهم ترغيبا لقومهم وعشائرهم في الإسلام. فيجوز أن يعطى كل واحد من هذه الأصناف من سهم المؤلفة، مسلما كان أو مشركا. وفيه رواية أخرى " يعطى المسلم منهم" فأما المشرك فيعطى من سهم المصالح من الفيء والغنيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وأما سهم الرقاب: فهو مَصْرُوفٌ فِي الْمُكَاتَبِينَ، يُدْفَعُ إلَيْهِمْ قَدْرَ مَا يعتقون به. وروي عنه رواية أخرى " يجوز أن يصرف في شراء عبيد يعتقون". وأما الغارمون. فهم صِنْفَانِ: صِنْفٌ مِنْهُمْ اسْتَدَانُوا فِي مَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ، فَيُدْفَعُ إلَيْهِمْ مَعَ الْفَقْرِ، دُونَ الْغِنَى مَا يقضون به ديونهم، وقد قال أحمد في رواية بكر بن محمد " والغارم يكون عليه غرم وهو غني فقال: في هذا حجة عندي , يعطى وهو غني". وقوله " في هذه حجة" أشار به إلى ما رواه أحمد بإسناده عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسه" فذكر الغارم منها. وهذا محمول على أنه غني بقدر كفايته؛ لأن من أصلنا أن الغريم يترك له من ماله بقدر كفايته. وصنف اسْتَدَانُوا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، فَيُدْفَعُ إلَيْهِمْ - مَعَ الْفَقْرِ وَالْغِنَى - قَدْرَ دُيُونِهِمْ مِنْ غَيْرِ فَضْلٍ. وأما سهم سبيل الله: فهم الغزاة، يدفع إليهم قدر حاجتهم في جهادهم، فإن كانوا مرابطين في الثغر دفع إليهم نفقة ذهابهم وعودهم. وأما سهم ابن السبيل: فهم المسافرون لا يجدون نفقة سفرهم، يدفع إلى المجتاز دون المنشئ المبتدئ بالسفر. ويفرق زَكَاةُ كُلِّ نَاحِيَةٍ فِي أَهْلِهَا. وَلَا يَجُوزُ أن تنتقل زَكَاةُ بَلَدٍ إلَى غَيْرِهِ، إلَّا عِنْدَ عَدَمِ السهمان فيه، وإن نقلها عنه مع وجودهم فيه لم يجزه. واختلفت الرواية عنه في سهم سبيل الله، هل يجوز نقلها إلى الناظر في الثغر؟ على روايتين. ولا يجوز دفع الزكاة إلى كافر. وَلَا يَجُوزُ دَفْعُهَا إلَى ذَوِي الْقُرْبَى مِنْ بني هاشم وبني المطلب، تنزيها لهم عن أوساخ الذنوب. ولا يجوز دفعها إلى من بعضه رقيق على قياس قولهم: إنه يرث بقدر ما فيه من الحرية. ويدفع إليه نصف كفايته إذا كان نصفه حرّ، لأنه في كفاسته بنفقة سيده في النصف الآخر ولا يدفعها الرجل إلى زوجته. وهل يجوز أن تدفع المرأة زكاتها إلى زوجها؟ على روايتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَدْفَعَ أَحَدٌ زَكَاتَهُ إلَى من تجب عليه نفقته: من والد، وولد، وأخ ,وأخت، وعم، لغنائهم به. ولا يدفع إليهم مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ إذَا كَانُوا مِنْهُمْ. وَيَجُوزُ دفعها من أقاربه إلى من لا تلزمه نفقته، كذوي الأرحام: كالخالة، والعمة، والخال، وأولادهم، وَصَرْفُهَا فِيهِمْ أَفْضَلُ مِنْ الْأَجَانِبِ. وَفِي جِيرَانِ المالك أَفْضَلُ مِنْ الْأَبَاعِدِ. وَإِذَا أَحْضَرَ رَبُّ الْمَالِ أقاربه إلى العامل ليخصم بزكاة ماله. فإن لم يخلط زكاته بزكاة غيره خصهم بها. وإن اخْتَلَطَتْ كَانُوا فِي الْمُخْتَلَطِ أُسْوَةَ غَيْرِهِمْ، لَكِنْ لَا يُخْرِجُهُمْ مِنْهَا لِأَنَّ فِيهَا مَا هُمْ به أخص. وَإِذَا اسْتَرَابَ رَبُّ الْمَالِ بِالْعَامِلِ فِي مَصْرِفِ الزكاة وَسَأَلَهُ أَنْ يُشْرِفَ عَلَى قِسْمَتِهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ إجَابَتُهُ إلَى ذَلِكَ، لِأَنَّهُ قَدْ بَرِئَ مِنْهَا بِدَفْعِهَا إلَيْهِ. وَلَوْ سَأَلَ الْعَامِلُ رَبَّ الْمَالِ أَنْ يَحْضُرَ قِسْمَتَهَا، لَمْ يَلْزَمْهُ الْحُضُورُ، لِبَرَاءَتِهِ مِنْهَا بِالدَّفْعِ. وَإِذَا هَلَكَتْ الزَّكَاةُ فِي يَدِ الْعَامِلِ قَبْلَ قِسْمَتِهَا، أَجْزَأَتْ رَبَّ الْمَالِ، وَلَمْ يَضْمَنْهَا الْعَامِلُ إلَّا بِالْعُدْوَانِ. وَإِذَا تَلِفَتْ الزَّكَاةُ فِي يَدِ رَبِّ الْمَالِ قَبْلَ وُصُولِهَا إلَى الْعَامِلِ، لَمْ تُجْزِهِ وَأَعَادَهَا. وَلَوْ تَلِفَ مَالُهُ قبل إخراج زكاته لم تسقط عن، سواء تلف قبل إمكان أدائها، أو بعد الإمكان. وإذ ادَّعَى رَبُّ الْمَالِ تَلَفَ مَالِهِ قَبْلَ ضَمَانِ زكاته. كان القول قوله، ولا تلزمه اليمين. وَلَا يَجُوزُ لِلْعَامِلِ أَنْ يَأْخُذَ رِشْوَةَ أَرْبَابِ الأموال، ولا يقبل هداياهم، قال - صلى الله عليه وسلم - " هدايا الأمراء غُلُولٌ". وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالْهَدِيَّةِ: أَنَّ الرِّشْوَةَ مَا أُخِذَتْ طَلَبًا، وَالْهَدِيَّةَ مَا بُذِلَتْ عَفْوًا. وإذا ظهرت خيانة العامل كان الإمام هو الْمُسْتَدْرِكُ لِخِيَانَتِهِ دُونَ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 أهل السَّهْمَانِ فِي خُصُومَتِهِ، إلَّا أَنْ يَتَظَلَّمُوا إلَى الإمام ظلامة ذوي الْحَاجَاتِ، وَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ عَلَى الْعَامِلِ لِلتُّهْمَةِ اللَّاحِقَةِ بِهِمْ، فَأَمَّا شَهَادَةُ أَرْبَابِ الْأَمْوَالِ عَلَيْهِ، فَإِنْ كَانَتْ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُمْ لَمْ تُسْمَعْ شَهَادَتُهُمْ، وَإِنْ كَانَتْ فِي وَضْعِهِ لَهَا في غَيْرَ حَقِّهَا سُمِعَتْ. وَإِذَا ادَّعَى أَرْبَابُ الْأَمْوَالِ دفع الزكاة إلى العامل وأنكرها العامل، فالقول قول أرباب الأموال بغير يمين، بناء على ما تقدم وأنهم لا يستحلفون، وأحلف العامل على ما أنكره وبرئ، لأن كونه أمينا لا يمنع يمينه كالمودع. فإن شهد بعض أرباب الأموال لبعض في الدفع إلى العامل نظرت، فَإِنْ كَانَ بَعْدَ التَّنَاكُرِ وَالتَّخَاصُمِ لَمْ تُسْمَعْ شهادتهم، وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُمَا سُمِعَتْ وَحُكِمَ عَلَى الْعَامِلِ بالغرم. وإن ادَّعَى بَعْدَ الشَّهَادَةِ أَنَّهُ قَسَمَهَا فِي أَهْلِ السَّهْمَانِ، لَمْ يُقْبَلْ مِنْهُ لِأَنَّهُ قَدْ أَكْذَبَ هَذِهِ الدَّعْوَى بِإِنْكَارِهِ، فَإِنْ شَهِدَ لَهُ أَهْلُ السهمان بأخذها منه لم تسمع شهادتهم، لأنه قد أكذبها بِإِنْكَارِ الْأَخْذِ. وَإِذَا أَقَرَّ الْعَامِلُ بِقَبْضِ الزَّكَاةِ وَادَّعَى قِسْمَتَهَا فِي أَهْلِ السَّهْمَانِ فَأَنْكَرُوهُ كَانَ قوله في قسمتها مقبولا لأنه مؤتمن فيها، وقولهم في الإنكار مقبولا فِي بَقَاءِ فَقْرِهِمْ وَحَاجَتِهِمْ. وَمَنْ ادَّعَى مِنْ أَهْلِ السَّهْمَانِ فَقْرًا قُبِلَ مِنْهُ. وَمَنْ ادَّعَى غرما لم يقبل منه إلا بِبَيِّنَةٍ. وَإِذَا أَقَرَّ رَبُّ الْمَالِ عِنْدَ الْعَامِلِ بقدر زكاته ولم يخبره مبلغ مَالِهِ، جَازَ أَنْ يَأْخُذَهَا مِنْهُ عَلَى قَوْلِهِ، ولم يجبره بإحضار ماله. وإذا أخطأ رب المال قسمة الزكاة، ووضعها في غير مستحق نظرت، فإن كان مما يخفى حاله من الأغنياء فهل يضمنها؟ على روايتين، وإن كان ممن لا يخفى حاله من ذوي القربى والكفار والعبيد ضمنها رواية واحدة. ولو كان العامل هو الخاطئ في قسمتها، فقياس قوله أنه يضمن لرب المال فيما لا يخفى، وهل يضمن فيما يخفى؟ على الروايتين لأن أحمد قال في رب المال " إذا دفعها إلى غنى يضمن". جعل العلة فيه أنها للفقراء وهذا غني، وهذا المعنى موجود في العامل، فقال في رواية المروزي " يعيد إنما هي للفقراء". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 فصل في قسمة الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ وَأَمْوَالُ الْفَيْءِ وَالْغَنَائِمِ: مَا وَصَلَتْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ، أَوْ كَانُوا سَبَبَ وُصُولِهَا. وَيَخْتَلِفُ الْمَالَانِ فِي حُكْمِهِمَا , وَهُمَا مُخَالِفَانِ لِأَمْوَالِ الصَّدَقَاتِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الصَّدَقَاتِ مَأْخُوذَةٌ من المسلمين، تطهيرا لهم. الفيء وَالْغَنِيمَةَ مَأْخُوذَانِ مِنْ الْكُفَّارِ انْتِقَامًا مِنْهُمْ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَصْرِفَ الصَّدَقَاتِ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ، لَيْسَ لِلْأَئِمَّةِ اجْتِهَادٌ فِيهِ. وَفِي أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ مَا يَقِفُ مَصْرِفُهُ عَلَى اجْتِهَادِ الْأَئِمَّةِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ أَمْوَالَ الصَّدَقَاتِ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ أَرْبَابُهَا بِقِسْمَتِهَا في أهلها. ولا يجوز لأهل الفيء أَنْ يَنْفَرِدُوا بِوَضْعِهِ فِي مُسْتَحِقِّهِ حَتَّى يَتَوَلَّاهُ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ مِنْ الْوُلَاةِ. وَالرَّابِعُ: اخْتِلَافُ الْمَصْرِفَيْنِ، على ما نذكره. والفيء والغنيمة متفقان من وجهين، مختلفان من وجهين. أما وجها افتراقهما: فَأَحَدُهُمَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْمَالَيْنِ وَاصِلٌ بِالْكُفْرِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَصْرِفَ خُمُسِهِمَا وَاحِدٌ. وَأَمَّا وجها افتراقهما: فأحدهما: أن مال الفيءمأخوذ عَفْوًا، وَمَالَ الْغَنِيمَةِ مَأْخُوذٌ قَهْرًا. وَالثَّانِي: أَنَّ مصرف أربعة أخماس الفيء مخالف لمصرف أربعة أخماس الغنيمة على ما نذكره. فنبدأ بِمَالِ الْفَيْءِ فَنَقُولُ: إنَّ كُلَّ مَالٍ وَصَلَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ عَفْوًا مِنْ غَيْرِ قِتَالٍ، وَلَا بإيجاف خيل ولا ركاب: كَمَالِ الْهُدْنَةِ وَالْجِزْيَةِ وَأَعْشَارِ مَتَاجِرِهِمْ، أَوْ كَانَ واصلا بسبب من جهتهم، كمال الخراج، فظاهر كلام أحمد: أن ما أخذ بسبب من جهتهم جار مجرى ما أخذ منهم، لأنه قال في رواية إسحاق ". الفيء ما صولحوا عليه، وهو جزية الرءوس. وخراج الأرضين السواد، وغيرها. وهذا لكل المسلمين فيه حق". وقال في رواية ابن منصور وصالح " الخراج على الأرض مثل الجزية على الرقبة". فقد نص على أن الخراج من جملة الفيء وأنه للمسلمين. وإذا ثبت أن حكمه حكم الفيء، فهل يخمس ذلك أم لا؟ المنصوص عنه، أنه لا يخمس، ويصرف جميعه في المصالح العامة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 قال في رواية أبي طالب - في قوم حملتهم الريح فألقتهم في بعض السواحل، فقالوا جئنا للتجارة " فإن لم يعرفوا بالتجارة ولا يشبهون التجار لم يصدقوا ولا يخمس مالهم، إنما الخمس في الغنيمة وما قاتلوا عليه، وهذا لم يقاتلوت عليه، فلا يكون غنيمة ولا فيه خمس". وذكر الخرقي أن فيه الخمس لأهل الخمس، مقسوما عَلَى خَمْسَةِ أَسْهُمٍ مُتَسَاوِيَةٍ. سَهْمٌ مِنْهَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَيَاتِهِ، يُنْفِقُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأَزْوَاجِهِ، وَيَصْرِفُهُ في مصالح المسلمين. وأما بعد موته فالمنصوص عنه أن مصرفه إلى أهل الديوان وهم الذين نصبوا أنفسهم للقتال في الثغور على قدر كفاياتهم. قال في رواية أبي طالب " سهم الله والرسول واحد فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعله أبو بكر في الكراع والسلاح فهو فيما جعله، لا يجوز صرفه لغير أهل الديوان". وظاهر كلام الخرقي: أنه مصروف إلى مصالح المسلمين عامة، كأرزاق الجيش ن وَإِعْدَادِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَبِنَاءِ الْحُصُونِ وَالْقَنَاطِرِ، وَأَرْزَاقِ القضاة وَالْأَئِمَّةِ، وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِنْ وُجُوهِ المصالح، يبدأ بالأهم فالأهم، لأنه قال" سهم الرسول مصروف في الكراع والسلاح ومصالح المسلمين". السهم الثاني: سهم ذوي القربى، وحقهم فيه ثابت وهم بنو هاشم، وبنو المطلب ابنا عبد مناف خاصة، ولا حَقَّ فِيهِ لِمَنْ سِوَاهُمْ مِنْ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، يُسَوَّى فِيهِ بَيْنَ صِغَارِهِمْ وَكِبَارِهِمْ وَأَغْنِيَائِهِمْ وَفُقَرَائِهِمْ، ويفضل فيه بين الرجال والنساء، للذكر مِثْلَ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ، لِأَنَّهُمْ أَعْطَوْهُ بِاسْمِ الْقَرَابَةِ، وَلَا حَقَّ فِيهِ لِمَوَالِيهِمْ وَلَا لِأَوْلَادِ بَنَاتِهِمْ. وقد قال أحمد رواية حنبل وابن منصور " إذا وصى لبني هاشم لا يكون لمواليهم شيء". وهذا من كلامه يدل على أنه لا حق لهم في خمس الخمس، لأنه لما أسقط دخولهم في الوصية دل على أنهم لا يدخلون في خمس الخمس. وإنما لم يتبعوا مواليهم في استحقاق الفيء، لأنه مستحق بالقرابة ولا قرابة وتبعوهم في حرمان الزكاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 وَمَنْ مَاتَ مِنْهُمْ بَعْدَ حُصُولِ الْمَالِ وَقَبْلَ القسمة، كان سهمه مستحقا لورثته. السهم الثالث لليتامى من ذوي الحاجات. واليتيم: موت الأب مع الصغر، يستوي فِيهِ حُكْمُ الْغُلَامِ وَالْجَارِيَةِ، فَإِذَا بَلَغَا زَالَ اليتيم عنهما. السهم الرابع: للمساكين: وهم من لَا يَجِدُونَ مَا يَكْفِيهِمْ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ، لأن مساكين الفيء متميزون عن مساكين الصدقات، لاختلاف مصرفهما. السهم الْخَامِسُ. لِبَنِي السَّبِيلِ: وَهُمْ الْمُسَافِرُونَ مِنْ أَهْلِ الفيء، لا يجدون ما ينفقون، المجتاز منهم دون المنشئ للسفر، فهذا حكم خمس الفيء في القسمة. وأما أربعة أخماسه فهو مصروف في مصالح العامة الَّتِي مِنْهَا أَرْزَاقُ الْجَيْشِ وَمَا لَا غِنَى بالمسلمين عنه، ولا يختص ذلك بالجيش. وقد قال أحمد في رواية الحسن بن على بن الحسن الإسكافي - وقد سأله عن الفيء: للمسلمين عامة أو لقوم دون قوم؟ - فقال " للمسلمين عامة". فقد جوز أن تصرف الصدقة في أهل الفيء، ولا يصرف الفيء في أهل الصدقة. وقد قال محمد بن يحيي الكحال: قلت لأبي عبد الله " يوجه من زكاته إلى الثغر؟ قال: نعم". فقد أجاز صرفها إلى المرابطين من أهل الفيء، خلافا لأصحاب الشافعي في قولهم: لا يجوز ذلك. وقالوا: وأهل الصدقة من لا هجرة له، ولا هو من المقاتلة عن المسلين، ولا من حماة البيضة. وأهل الفيء ذوو الهجرة، الذوابون عَنْ الْبَيْضَةِ، وَالْمَانِعُونَ عَنْ الْحَرِيمِ، وَالْمُجَاهِدُونَ لِلْعَدُوِّ. وَكَانَ اسْمُ الْهِجْرَةِ لَا يَنْطَلِقُ إلَّا عَلَى من هاجر من وطنه إلى المدينة، طلبا للإسلام ثُمَّ سَقَطَ حُكْمُ الْهِجْرَةِ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَصَارَ الْمُسْلِمُونَ مُهَاجِرِينَ وَأَعْرَابًا، فَكَانَ أَهْلُ الصَّدَقَةِ يُسَمَّوْنَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - أعرابا، ويسمي أهل الفيء مهاجرين. فإذا أراد الإمام أن يصل قوما لما يعود بمصالح المسلمين، كالرسل والمؤلفة قلوبهم، جاز أن يصلهم من مال الفيء، كما أعطى النبي - صلى الله عليه وسلم - للمؤلفة يوم حنين، مثل عيينة بن حصن الفزاري، والأقرع بن حابس التميمي، والعباس بن مرداس السلمي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 وإن كان صلة لَا تَعُودُ بِمَصْلَحَةٍ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَكَانَ الْمَقْصُودُ بها نفع المعطي خاصة كانت الصلة من ماله. ويجوز للإمام أن يعطي ذكور أولاده من مَالَ الْفَيْءِ، لِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِهِ، فَإِنْ كَانُوا صغارا فالحكم فيهم، وفي صغار أولاد غيره، وفي إناث أولاده وإناث أولاد غيره سواء. وظاهر كلام أحمد: جواز العطاء لهم. قال في رواية بكر بن محمد عن أبيه " الأموال - كالفيء، والغنيمة، والصدقة - فالفيء ما صولح عليه من الأرضين وجزية الرءوس، وخراج الأرضين السواد وغيره، وهذا لكل المسلمين فيه حق، وهو على ما يرى - يعني الإمام أليس عمر - رضي الله عنه - قد فرض لأمهات المؤمنين في الفيء، ولأبناء المهاجرين سواء؟ وكان يقول: لكل أحد في هذا المال حق إلا العبد، وكان يقضي للمنفوس". فقد حكى قول عمر " لكل أحد فيه حق إلا العبد" وحكى فعله، وأنه فرض لنساء النبي - صلى الله عليه وسلم - ولأبناء المهاجرين وللمنفوس، ولم ينكر ذلك. والظاهر أنه أخذ بذلك. وَأَمَّا عَبِيدُهُ وَعَبِيدُ غَيْرِهِ؛ فَإِنْ لَمْ يَكُونُوا مقاتلة فنفقاتهم في ماله وأموال ساداتهم. وإن كانوا، فظاهر كلام أحمد: لا يَفْرِضُ لَهُمْ فِي الْعَطَاءِ، وَلَكِنْ تُزَادُ سَادَاتُهُمْ في العطاء لأجلهم. فَإِنْ عَتَقُوا جَازَ أَنْ يَفْرِضَ لَهُمْ فِي العطاء، وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية " لكل أحد في هذا المال حق إلا العبد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 وَيَجُوزُ أَنْ يَفْرِضَ لِنُقَبَاءِ أَهْلِ الْفَيْءِ فِي عَطَايَاهُمْ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَفْرِضَ لِعُمَّالِهِمْ، لِأَنَّ النُّقَبَاءَ مِنْهُمْ وَالْعُمَّالَ يَأْخُذُونَ أَجْرًا عَلَى عَمَلِهِمْ. وقد نقل المروزي عن أحمد في العاملين على الصدقة يكون الكتبة معهم قال: ما سمعت الكتبة". وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِلُ الْفَيْءِ مِنْ ذَوِي القربى من بني هاشم وبني المطلب. وكذلك العامل في الصدقات إذا أراد سهمه منها وقد ذكرنا فيما تقدم. وَلَا يَجُوزُ لِعَامِلِ الْفَيْءِ أَنْ يَقْسِمَ مَا جَبَاهُ إلَّا بِإِذْنِ. وَيَجُوزُ لِعَامِلِ الصَّدَقَاتِ أَنْ يقسم ما جباه بغير إذن مالم ينه عنه، لأن مصرف مَالِ الْفَيْءِ عَنْ اجْتِهَادِ الْإِمَامِ، وَمَصْرِفِ الصَّدَقَةِ بنص الكتاب. وولاية العامل تنقسم ثلاثة أقسام أَحَدُهَا: أَنْ يَتَوَلَّى تَقْدِيرَ أَمْوَالِ الْفَيْءِ وَتَقْدِيرَ وَضْعِهَا فِي الْجِهَاتِ الْمُسْتَحَقَّةِ مِنْهَا، كَوَضْعِ الْخَرَاجِ والجزية. فمن شرط هذه الولاية أربعة أوصاف: أن يكون مسلما، حرا، مجتهدا في أحكام الشريعة، متضلعا في الحساب وَالْمِسَاحَةِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَامَّ الْوِلَايَةِ على الجباية ما استقر من أموال الفيء، فلها ثلاثة أوصاف: الْإِسْلَامِ، وَالْحُرِّيَّةِ، وَالِاضْطِلَاعِ بِالْحِسَابِ وَالْمِسَاحَةِ, وَلَا يُعْتَبَرُ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا مُجْتَهِدًا؛ لِأَنَّهُ يَتَوَلَّى قَبْضَ ما استقر بوضع غيره. القسم الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ خَاصَّ الْوِلَايَةِ عَلَى نَوْعٍ مِنْ أَمْوَالِ الْفَيْءِ خَاصٍّ، فَيُعْتَبَرُ مَا وَلِيَهُ منها. فإن لم يستقر فِيهِ عَنْ اسْتِنَابَةٍ اُعْتُبِرَ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَالْحُرِّيَّةُ، مع اضطلاعه بشروط ما ولي من حساب أو مساحة، ولم يجز أن يكون ذميا. ويجوز أن يكون عبدا على قياس العامل في الصدقات. وقد قيل: لا يجوز لِأَنَّ فِيهَا وِلَايَةً. وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْ الِاسْتِنَابَةِ جَازَ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا، لِأَنَّهُ كَالرَّسُولِ الْمَأْمُورِ. فأما كونه ذميا فينظر فيما وليه مِنْ مَالِ الْفَيْءِ، فَإِنْ كَانَتْ مُعَامَلَتُهُ فِيهِ مَعَ أَهْلِ الذِّمَّةِ كَالْجِزْيَةِ، وَأَخْذِ الْعُشْرِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ جَازَ أَنْ يَكُونَ ذِمِّيًّا. وَإِنْ كَانَتْ معاملته مَعَ الْمُسْلِمِينَ، كَالْخَرَاجِ الْمَوْضُوعِ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضِينَ إذا صارت في أيدي المسلمين احتمل وجهين. وَإِذَا بَطَلَتْ وِلَايَةُ الْعَامِلِ فَقَبَضَ مَالَ الْفَيْءِ مَعَ فَسَادِ وِلَايَتِهِ بَرِئَ الدَّافِعُ مِمَّا عَلَيْهِ إذا لم ينه عن القبض، لأن القابض مأذون له مع فساد وِلَايَتُهُ، وَجَرَى فِي الْقَبْضِ مَجْرَى الرَّسُولِ. وَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ صِحَّةِ وِلَايَتِهِ وَفَسَادِهَا أَنَّ لَهُ الإجبار على الدفع مع صحة الولاية وليس له الْإِجْبَارُ مَعَ فَسَادِهَا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 فإن نهى عن القبض مع فساد الولاية لَمْ يَكُنْ لَهُ الْقَبْضُ وَلَا الْإِجْبَارُ، وَلَمْ يَبْرَأْ الدَّافِعُ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ إذَا عَلِمَ بِنَهْيِهِ. وفي براءته إن لم يعلم بالنهي وجهان: بناء على عزل الوكيل إذا تصرف من غير علم بالعزل, وفيه روايتان: فهذا حكم مال الفيء. فَأَمَّا الْغَنِيمَةُ فَهِيَ أَكْثَرُ أَقْسَامًا وَأَحْكَامًا، لِأَنَّهَا أصل تفرع عنه الفيء. وتشتمل على أربعة أقسام: أسرى، وسبي , وأرضين، وأموال. أما الأسرى: فهم الرجال الْمُقَاتِلُونَ مِنْ الْكُفَّارِ إذَا ظَفَرَ الْمُسْلِمُونَ بِأَسْرِهِمْ، فالإمام، أو من استنابه الإمام عليهم من أمراء الْجِهَادِ، مُخَيَّرٌ فِيهِمْ - إذَا أَقَامُوا عَلَى كُفْرِهِمْ - في فعل الْأَصْلَحِ: مِنْ أَحَدِ أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ. إمَّا الْقَتْلُ، وَإِمَّا الِاسْتِرْقَاقُ، وَإِمَّا الْفِدَاءُ بِمَالٍ أَوْ أَسْرَى، أو المن بِغَيْرِ فِدَاءٍ. فَإِنْ أَسْلَمُوا سَقَطَ الْقَتْلُ عَنْهُمْ، ورقوا في الحال، وسقط التخيير بين الرق والمن والفداء. وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية أبي طالب: في العرب إبذا أسلموا بعتد أن أخذوا صاروا في حيز المسلمين وقبضهم، يجري فيه سهام المسلمين يقسمون بين من قال الله عز وجل، وذلك أن الفداء عقوبة يؤخذ لأجل الكفر فسقطت بالإسلام كالقتل. ولا يلزم عليه الرق، لأنه لا تجب عقوبته، بدليل أنه يجري على النساء والصبيان وليسا من أهل العقوبة. وإذا ثبت خياره بين الأمورالأربعة تصفح أحوالهم، واجتهد رأيه فيهم فم علم منه قوة بأسه، وشدة نكايته، وأيس من إسلامه، وعلم ما في قلبه مِنْ وَهَنِ قَوْمِهِ قَتَلَهُ صَبْرًا مِنْ غَيْرِ مثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وَمَنْ رَآهُ مِنْهُمْ ذَا جَلَدٍ وَقُوَّةٍ عَلَى العمل، وكان مأمون الخيانة والجناية استرقه، فيكون عَوْنًا لِلْمُسْلِمِينَ. وَمَنْ رَآهُ مِنْهُمْ مَرْجُوَّ الْإِسْلَامِ، أَوْ مُطَاعًا فِي قَوْمِهِ، وَرَجَا بِالْمَنِّ عَلَيْهِ إما إسلامه، أو تألف قومه من عليه وأطلقه. ومن وجده منه ذَا مَالٍ وَجَدَّةٍ وَكَانَ بِالْمُسْلِمِينَ خُلَّةٌ وَحَاجَةٌ فاداه على مال، وجعله عدة للمسلمين وقوة للإسلام، وإن كان في أسرى عشيرته أحد م الْمُسْلِمِينَ مِنْ رِجَالٍ أَوْ نِسَاءٍ فَأَدَّاهُ عَلَى إطلاقهم. فيكون خياره في الأربعة على الوجه الأحظ والأصلح. ويكون المال المأخوذ في الفداء غنيمة يضاف إلى الغنائم، ولا يختص به من بين المسلمين. ومن أباح الإمام دمع من المشركين لعظم نكايته، وشدة بأسه وأذيته ثُمَّ أُسِرَ جَازَ لَهُ الْمَنُّ عَلَيْهِ وَالْعَفْوُ عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 فأما ضعفة الكفار: كالشيخ الهرم، والزمن، أو كان ممن قد تخلى من الرهبان، وأصحاب الصوامع، فينظر، فإن كانوا يمدون المقاتلة بآرائهم وَيُحَرِّضُونَهُمْ عَلَى الْقِتَالِ جَازَ قَتْلُهُمْ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهِمْ وَكَانُوا فِي حُكْمِ الْمُقَاتِلَةِ بَعْدَ الْأَسْرِ، وَإِنْ لَمْ يُخَالِطُوهُمْ فِي رَأْيٍ وَلَا تَحْرِيضٍ لم يجز قتلهم، فهذا حكم القتل. وَأَمَّا السَّبْيُ فَهُمْ النِّسَاءُ وَالْأَطْفَالُ. فَلَا يَجُوزُ قتلهم، سواء كانوا من أهل الكتاب، أو كانوا مِنْ قَوْمٍ لَيْسَ لَهُمْ كِتَابٌ، كَالدَّهْرِيَّةِ، وَعَبَدَةِ الأوثان. ويكونون سبيا مسترقا، يقسمون بين الغانمين , وهذا ظاره كلام الخرقي؛ لأنه قال " وإنما يكون له استراقاقهم إذا كانوا من أهل الكتاب أو مجوس. فأما ما سوى هؤلاء من العدو فلا يقبل من بالغي رجالهم إلا الإسلام أو السيف أو الفداء". وظاهر هذا أن غير البالغين من الرجال والنساء لا يقتلون. وليس يمتنع أن لا يجري القتل على النساء والصبيان من غير أهل الكتاب. ويجري على الرجال والبالغين، كما وجب حقن دماء أهل الكتاب ولم يجب حقن دماء الرجال منهم. ولا يفرق - ممن استرق - بين ذوي الرحم المحرم، كالوالدين، والمولودين، الإخوة، والأخوات. ولا يجوز أن يفادى بالسبي على مال. ولا يفادونهم على أسرى من المسلمين في أيدي قومهم. وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية بكر بن محمد عن أبيه: في الصغير يسبى، هل يفادى به، وهو مع أبويه، وهو على دينهم؟ قال " لا" وإن كان على دينهم، ولا يفادي وهم صغار، يطمع أن يموت أبواهم وهم صغار، فيكونون مسلمين".فقد نص على المنع في الصبيان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وحكم في النساء كذلك لاشتراكهم في المعنى، خلافا لأصحاب الشافعي في قولهم: يجوز الفداء بالمال، ويكون المال مغنوم. وإن كان الفداء بالأسارى عوض الغانمين مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ. وَإِنْ أَرَادَ الْمَنَّ عَلَيْهِمْ، لم يجز إلا باستطابة نفوس الغانمين بالعفو عنهم أو بمال يعوضهم من سهم المصالح. وَمَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْغَانِمِينَ عَنْ تَرْكِ حَقِّهِ، لم يجبر. وإنما لم يجز الفداء لأن حقهم ثابت في السبي، فلم تجز المعاوضة عليه. دليله سائر أموالهم، وكما لو قسمها بينهم، ولأنه لو جاز الفداء لجاز المن عليهم كالبالغين ولأن من أصلنا أنه لا يجوز بيع السبي من أهل الذمة، فالفداء كذلك، لأنه معاوضة. وإذا كان في السبايا ذوات أزواج، نظرت، فإن سُبِينَ مَعَ أَزْوَاجِهِنَّ فَهُنَّ عَلَى النِّكَاحِ، وَإِنْ سبين منفردات بطل النكاح. وإذا أَسْلَمَتْ مِنْهُنَّ ذَاتُ زَوْجٍ قَبْلَ حُصُولِهَا فِي السبي، فهي حرة، ونكاحها يبطل بانقضاء العدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 وَإِذَا قَسَمَ السَّبَايَا فِي الْغَانِمِينَ حَرُمَ وَطْؤُهُنَّ حتى يستبرئهن بِحَيْضَةٍ، إنْ كُنَّ مِنْ ذَوَاتِ الْأَقْرَاءِ أَوْ بوضع الحمل إن كن حوامل. وَمَا غَلَبَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ وأحرزوه ملكوه فإن أَدْرَكَهُ مَالِكُهُ قَبْلَ الْقِسْمَةِ كَانَ أَحَقَّ بِهِ، وإن أدركه بعدها فعلى روايتين: إحداهما: هو أحق به بالثمن. والثانية: لا حق له فيه، وغانمه أحق به. ويجوز شراء أولاد الْحَرْبِ مِنْهُمْ، كَمَا يَجُوزُ سَبْيُهُمْ. وَيَجُوزُ شِرَاءُ أولاد العهد منهم، ولا يجوز سبيهم. وما غنمه الواحد والاثنان هل يجري عليه حكم الغنيمة في أخذ خمسه؟ على ثلاث روايات: إحداها: يجري، والثانية: لا يؤخذ خمسه حتى يكونوا سرية عددا ممتنعا، والثالثة: لا حق للغانمين فيه، وجميعه فيء للمسلمين، عقوبة لهم لخروجهم بغير إذن الإمام. وإذا أسلم أحد الأبوين كان إسلاما لصغير أَوْلَادِهِمَا مِنْ ذُكُورٍ وَإِنَاثٍ وَلَا يَكُونُ إسْلَامًا لِلْبَالِغَيْنِ مِنْهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ الْبَالِغُ مَجْنُونًا، وكذلك من مات من الأبوين حكم بإسلام أولاده الأصاغر. وإذا كان الصغير مميزا فأسلم، صح إسلامه بنفسه، وتصح ردته، ولكن لا يقتل حتى يبلغ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 فأما الأرضون إذا استولى عليها المسلمون فتنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: ما ملكت عليهم عَنْوَةً وَقَهْرًا، حَتَّى فَارَقُوهَا بِقَتْلٍ أَوْ أَسْرٍ أو جلاء، ففيها روايتان، نقلهما عبد الله. إحداهما: أَنَّهَا تَكُونُ غَنِيمَةً، كَالْأَمْوَالِ تُقْسَمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، إلَّا أَنْ يَطِيبُوا نَفْسًا بِتَرْكِهَا فَتُوقَفُ عَلَى مصالح المسلمين. ولفظ كلام أحمد رحمه الله تعالى قال: " كل أرض تؤخذ عنوة فهي لم قاتل عليها بمنزلة الأموال: أربعة أسهم لمن قاتل عليها، وسهم لله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين، بمنزلة الأموال " نقلها أبو بكر الخلال في الأموال. والثانية: أن الإمام فيها بالخيار في قسمتها بين الغانمين، فتكون أرض عشر أَوْ يَقِفُهَا عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَتَصِيرُ هَذِهِ الْأَرْضُ دَارَ إسْلَامٍ، سَوَاءٌ سَكَنَهَا الْمُسْلِمُونَ أَوْ أعيد إليها المشركون. ولفظ كلام أحمد في ذلك أن قال " الأرض إذا كانت عنوة هي لمن قاتل عليها، إلا أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 يكون وقفها من فتحها على المسلمين، كما فعل عمر رضي اله عنه بالسواد، وضرب عليهم الخراج، فهي كما فعل الفاتح لها إذا كان من أئمة الهدى". وظاهر هذا أنها تصير وقفا بنفس الاستيلاء عليها حتى يقفها الإمام لفظا. وقد روي عنه ما دل على أنها تصير وقفا بالاستيلاء. فقال في رواية حرب " أرض الخراج ما فتحها المسلمون فصارت فيئا لهم ثم دفعوها إلى أهلها وأضافوا عليها وظيفة، فتلك الوظيفة جارية للمسلمين". وكذلك نقل محمد بن أبي حرب " أرض الخراج ما فتحها المسلمون، فصارت فيئا لهم". فقد أطلق القول أنها تصير فيئا، ويجب الخراج، ولم يعتبر لفظ الوقف، وهو اختيار أبي بكر بن عبد العزيز في الأموال فقال " كل ما فتحه المسلمون عنوة فعليه الخراج حق الرقبة". وإذا ثبت أنها تصير وقفا، إما لفظا، أو بنفس الاستيلاء، فإنه لا يجوز بيعها ولا رهنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 والإمام يضرب عليها خراجا يكون أجرة لرقابها، يؤخذ مِمَّنْ عُومِلَ عَلَيْهَا، مِنْ مُسْلِمٍ أَوْ مُعَاهَدٍ ويجمع بَيْنَ خَرَاجِهَا وَأَعْشَارِ زُرُوعِهَا وَثِمَارِهَا، إلَّا أَنْ تكون الثمار من نخل كان فيها عند الاستيلاء عليها، فيكون النَّخْلُ وَقْفًا مَعَهَا لَا يَجِبُ فِي ثَمَرِهَا عشر، ويضع الإمام عليها الخراج، ويكون ما استؤنف غرسه من النخل معشورا، وأرضه خراجا. والقسم الثاني فيها ما ملك عفوا، وهو إن أجلوا عنها خوفا فيكون وقفا. وقيل لا يصير وَقْفًا حَتَّى يَقِفَهَا الْإِمَامُ لَفْظًا وَيَضْرِبَ عَلَيْهَا خراجا يكون أجرة لرقابها، يؤخذ ممن عومل عليها من مسلم ومعاهد، وَيَجْمَعُ فِيهَا بَيْنَ خَرَاجِهَا وَأَعْشَارِ زُرُوعِهَا وَثِمَارِهَا، إلا أن يكون النخل من نخل كان فيها عند الِاسْتِيلَاءِ عَلَيْهَا، فَتَكُونُ تِلْكَ النَّخْلُ وَقْفًا مَعَهَا لَا يَجِبُ فِي ثَمَرِهَا عُشْرٌ، وَيَكُونُ الْإِمَامُ فِيهَا مُخَيَّرًا بَيْنَ وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا، أَوْ المساقاة على ثمرها، ويكون ما ستؤنف غرسه من النخل معشورا وأرضه خراجا. وظاهر كلام أحمد أنها تكون وقفا، لأنه قال في رواية أبي الحارث وصالح " كل أرض جلا عنها أهلها بغير قتال فيه فيء". ومعناه وقف، كما قال في رواية حنبل " ما فتح عنوة هو فيء للمسلمين". وقال في رواية حرب ومحمد بن أبي حرب " الأرض الخراج ما فتحها المسلمون فصارت فيئا لهم، ثم دفعها إلى أهلها وأضافوا عليها وظيفة، فتلك الوظيفة جارية للمسلمين أبدا". فقد سمى أرض الخراج العنوة فيئا. القسم الثَّالِثُ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهَا صُلْحًا عَلَى أَنْ تُقَرَّ فِي أَيْدِيهِمْ بِخَرَاجٍ يُؤَدُّونَهُ عَنْهَا، فَهَذَا على ضربين: أحدهما: أن تصالحهم عَلَى أَنَّ مِلْكَ الْأَرْضِ لَنَا، فَتَصِيرُ بِهَذَا الصلح وقفا من دار الإسلام، لا يَجُوزُ بَيْعُهَا وَلَا رَهْنُهَا، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ أُجْرَةً لا يسقط عنهم بإسلامهم، ويؤخذ خَرَاجُهَا إذَا انْتَقَلَتْ إلَى غَيْرِهِمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ صَارُوا بِهَذَا الصُّلْحِ أَهْلَ عَهْدٍ، فَإِنْ بذلوا الجزية عن رِقَابِهِمْ جَازَ إقْرَارُهُمْ فِيهَا عَلَى التَّأْبِيدِ، وَإِنْ منعوا الجزية لم يجبروا عليها، ولم يقروا فيها سنة بغير جزية. وقد قال أحمد في رواية " ما فتح عنوة فهو فيء للمسلمين، وما صولحوا عليه فهو لهم يؤدون إلى ما صولحوا عليه، ومن أسلم منهم تسقط عنه الجزية، والأرض فيء للمسلمين". فقد بين أن الأرض فيء وهذا محمول على أن الأرض لنا. والضرب الثاني: أن يصالحوا على أن ملك الْأَرْضِينَ لَهُمْ وَيُضْرَبُ عَلَيْهَا خَرَاجٌ يُؤَدُّونَهُ عَنْهَا، فهذا الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الْجِزْيَةِ مَتَى أَسْلَمُوا سَقَطَ عنهم، نص عليه في رواية ابن منصور وذكر له قول سفيان " ما كان من أرض صولح عليها ثم أسلم أهلها فقد وضع الخراج عنهم". قال أحمد " جيد" قيل له: وما كان من أرض أخذت عنوة ثم سلم صاحبها وضعت عنها وأقر على أرضه بالخراج؟ قال أحمد "جيد". فقد نص على أن الخراج يسقط عن أرض الصلح بالإسلام. وهذا محمول على ملك الأرضين لهم. وَلَا تَصِيرُ أَرْضُهُمْ دَارَ إسْلَامٍ، وَتَكُونُ دَارَ عَهْدٍ، وَلَهُمْ بَيْعُهَا وَرَهْنُهَا. وَإِذَا انْتَقَلَتْ إلَى مُسْلِمٍ لَمْ يُؤْخَذْ خَرَاجُهَا، الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 وَيُقَرُّونَ فِيهَا مَا أَقَامُوا عَلَى الصُّلْحِ، وَلَا تُؤْخَذُ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ، لِأَنَّهُمْ فِي غَيْرِ دَارِ الإسلام. فإن نقضوا الصلح بعد استقرارهم، نظرت، فإن ملكت غير فهل تكون على حكمها دار عهد؟ يخرج على وجهين: ذكر الخرقي أنه ينتقض في الدار، فتحصل دار حرب. وذكر أبو بكر أنه لاينتقض، فعلى هذا تكون دار عهد. وإن لم يملك صارت الدار حربا وجها واحدا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 فأما الأموال المنقولة فإذا جمعت لم تقسم مع غنائم الْحَرْبِ حَتَّى تَنْجَلِيَ، لِيُعْلَمَ بِانْجِلَائِهَا تَحَقُّقُ الظَّفَرِ، واستقرار الملك؛ لأن لا يَتَشَاغَلَ الْمُقَاتِلَةُ بِهَا فَيُهْزَمُوا. فَإِذَا انْجَلَتْ الْحَرْبُ جاز تعجيل قسمتها في دار الحرب، وجاز تأخيرها إلى دار الإسلام، بحسب ما يراه أمير الجيش من الصلاح. وإذا أَرَادَ قِسْمَتَهَا بَدَأَ بِأَسْلَابِ الْقَتْلَى، فَأَعْطَى كُلَّ قاتل سلب قتيله، سواء شرط الأمير له بذلك أو لم يشرطه. وعنه رواية أخرى: إن أشرطه لهم استحقوه، وإن لم يشرطه لهم كان غنيمة يشتركون فيه، ولا يخمس السلب. فإذا فرغ من إعطاء السلب، فإنه يَبْدَأُ بَعْدَ السَّلَبِ بِإِخْرَاجِ الْخُمُسِ مِنْ جَمِيعِ الْغَنِيمَةِ، فَيَقْسِمُهُ بَيْنَ أَهْلِ الْخُمُسِ عَلَى خَمْسَةٍ أسهم، وهذا لا تختلف الرواية فيه، وإنما اختلفت في مال الفيء هل يخمس؟ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وَأَهْلُ الْخُمُسِ فِي الْغَنِيمَةِ: هُمْ أَهْلُ الْخُمُسِ في الفيء على ما شرحناه هناك. وقد قال أحمد في رواية أبي طالب، وقد سئل: إذا جمعوا الغنائم هل يعطيهم النفل؟ قال: " لايعطيهم شيئا حتى يخمس جميع الغنيمة، فإذا خمس جميع الغنيمة أعطاهم النفل". وهو مقدم أيضا على أهل الرضخ، وهم مَنْ لَا سَهْمَ لَهُ مِنْ حَاضِرِي الْوَقْعَةِ: من العبيد، والنساء، والصبيان، والمرضى، و'أهل الذمة، على الرواية التي لا سهم لهم. فالخمس مقدم عليهم لا يرضخ لهم من الغنيمة بحسب غنائمهم. ولا يبلغ برضخ أحد منه سهم فارس ولا راجل. فإن زال نقص أهل الرضخ بعد حضور الواقعة، فعنق العبد، وبلغ الصبي، وأسلم الْكَافِرِ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ أسهم لهم ولم يرضخ،، وإن كان بَعْدَ انْقِضَائِهَا رَضَخَ لَهُمْ وَلَمْ يُسْهِمْ. ثُمَّ تُقْسَمُ الْغَنِيمَةُ، بَعْدَ إخْرَاجِ الْخُمُسِ وَالرَّضْخِ مِنْهَا، بَيْنَ مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ مِنْ أَهْلِ الْجِهَادِ، وَهُمْ الرِّجَالُ الْأَحْرَارُ الْمُسْلِمُونَ الْأَصِحَّاءُ، يَشْتَرِكُ فِيهَا من قاتل ومن لم يقاتل، لأن غير المقاتل عون للمقاتل وردء له عند الحاجة. وقسمة الغنيمة بينهم قسمة استحقاق، لا يرجع فيها إلى اختيار القاسم، ووالي الجهاد، ولا يجوز أن يشترك معهم غيرهم ممن لم يشهد الواقعة. واختلفت الرواية عن أحمد في تفضيل بعضهم على بعض، فروي عنه جواز ذلك، وروي عنه التسوية. وَإِذَا اخْتَصَّ بِهَا مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ وَجَبَ أن يفضل الفارس على الراجل بفضل غنائه، فيعطي الفارس ثلاثة أسهم، والراجل سهم واحد. وَلَا يُعْطَى سَهْمُ الْفَارِسِ إلَّا لِأَصْحَابِ الْخَيْلِ خاصة ويعطى لركاب البغال والحمير سهام الرجالة، ويعطى ركاب الإبل والفيلة سهام الهجين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 وفي سهم الهجين روايتان: إحداهما: مثل سهام عتاق الخيل. والثانية: يعطى الهجين سهمان. وإذا شهد الواقعة بفرسه أسهم له وإن لمن يُقَاتِلْ عَلَيْهِ، وَإِذَا خَلَّفَهُ فِي الْعَسْكَرِ لَمْ يسهم له، وإذا حضر الوقعة بأفراس أعطي سهم فرسين. وَمَنْ مَاتَ فَرَسُهُ بَعْدَ حُضُورِ الْوَقْعَةِ أَسْهَمَ له، ومن مات قبلها لم يسهم له، وكذلك إن كان هو الميت. وإذا جاءهم مدد قبل انجلاء الحرب شركوهم في الغنيمة وغن جاءوا بعد انجلائها لم يشركوهم. ويستوي في قسمة الغنيمة بين مرتزقة والجيش وبين متطوعة إذَا شَهِدَ جَمِيعُهُمْ الْوَقْعَةَ. وَإِذَا غَزَا قَوْمٌ بغير إذا الإمام كان ماغنموه مخموسا والباقي لهم. وفيه رواية أخرى: لا يخمس وجميعه لهم. وفيه رواية أخرى ثالثة: لا يملك كالغنيمة. وإذا دخل دَارَ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، أَوْ كَانَ مَأْسُورًا مَعَهُمْ فَأَطْلَقُوهُ وَأَمَّنُوهُ. لَمْ يَجُزْ أَنْ يَغْتَالَهُمْ فِي نفس ولا مال، وعليه أن يؤمنهم كما أمنوه. وإذا كان في المقاتلة من هر غناؤه، وَأَثَّرَ بَلَاؤُهُ؛ لِشَجَاعَتِهِ وَإِقْدَامِهِ، أَخَذَ سَهْمَهُ مِنْ الْغَنِيمَةِ أُسْوَةَ غَيْرِهِ، وَزِيدَ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ لأجل غنائه، وإن رأي تفضيله من سهم الغنيمة على إحدى الروايتين فله ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 فصل في وضع الخراج والجزية والجزية والخراج حقان أوصل الله تعالى الْمُسْلِمِينَ إلَيْهِمَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ. يَجْتَمِعَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ؛ وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ. ثُمَّ تَتَفَرَّعُ أَحْكَامُهُمَا. فَأَمَّا الْأَوْجُهُ الَّتِي يَجْتَمِعَانِ فِيهَا: فَأَحَدُهَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَأْخُوذٌ عَنْ مُشْرِكٍ صغارا له وذلة. والثاني: أنهما مالا فَيْءٍ يُصْرَفَانِ فِي أَهْلِ الْفَيْءِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمَا يَجِبَانِ بِحُلُولِ الْحَوْلِ، وَلَا يُسْتَحَقَّانِ قَبْلَهُ. وَأَمَّا الوجوه الَّتِي يَفْتَرِقَانِ فِيهَا. فَأَحَدُهَا: أَنَّ الْجِزْيَةَ نَصٌّ، والخراج اجْتِهَادٌ. وَالثَّانِي: أَنَّ أَقَلَّ الْجِزْيَةِ مُقَدَّرٌ بِالشَّرْعِ، وأكثرها مقدر بالاجتهاد. والخراج أكثره وأقله مُقَدَّرٌ بِالِاجْتِهَادِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مَعَ بقاء الكفر، وتسقط بحدوث الإسلام، والخراج قد يؤخذ مع الكفر والإسلام. فنبدأ بالجزية فنقول: هي مَوْضُوعَةٌ عَلَى الرُّءُوسِ، وَاسْمُهَا مُشْتَقٌّ مِنْ الْجَزَاءِ، إمَّا جَزَاءً عَلَى كُفْرِهِمْ لِأَخْذِهَا مِنْهُمْ صَغَارًا، أو جَزَاءً عَلَى أَمَانِنَا لَهُمْ لِأَخْذِهَا مِنْهُمْ رِفْقًا. وتؤخذ الجزية ممن له كتاب أو شبهة كتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى، وكتابهم التوراة والإنجيل؛ والعرب في أخذ الجزية منهم كغيرهم. وأما من له شبهة كتاب فهم المجوس، يجرون مجرى أهل الكتاب في أخذ الجزية وَإِنْ حَرُمَ أَكْلُ ذَبَائِحِهِمْ وَنِكَاحُ نِسَائِهِمْ. وَتُؤْخَذُ مِنْ الصَّابِئِينَ وَالسَّامِرَةِ إذَا وَافَقُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى في أصل معتقدهم وإن خالفوهم في فروعهم. ولا تؤخذ منهم إن خالفوا اليهود والنصارى في أصل معتقدهم. ولا تؤخذ جزية مرتد، ولا دهري، ولا عابد وثن. ومن دخل في اليهودية والنصرانية مقبل تَبْدِيلِهِمَا أُقِرَّ عَلَى مَا دَانَ بِهِ مِنْهُمَا، وَلَا يُقَرُّ إنْ دَخَلَ بَعْدَ تَبْدِيلِهِمَا. وَمَنْ جهلت حالة أخذت جزيته، ولم تؤكل ذبيحته، ولم تنكح نساؤه. وفيه رواية أخرى: تنكح، وتؤكل ذبيحته، نص عليها في نصارى بني تغلب. وَمَنْ انْتَقَلَ مِنْ يَهُودِيَّةٍ إلَى نَصْرَانِيَّةٍ لَمْ يقر في أحد الوجهين، وأخذ بالإسلام، وإن عَادَ إلَى دِينِهِ الَّذِي انْتَقَلَ عَنْهُ. فَفِي إقراره روايتان. ويهود خيبر وغيرهم في الجزية سواء. وَلَا تَجِبُ الْجِزْيَةُ إلَّا عَلَى الرِّجَالِ الْأَحْرَارِ الْعُقَلَاءِ. وَلَا تَجِبُ عَلَى امْرَأَةٍ وَلَا صَبِيٍّ ولا مجنون، ولو انفردت امرأة منهم على أن تكون تبعا لزوج أو لنسيب لَمْ تُؤْخَذْ مِنْهَا جِزْيَةٌ، لِأَنَّهَا تَبَعٌ لِرِجَالِ قومها وإن كانوا أجانب منها. ولو انفردت امرأة في دَارِ الْحَرْبِ فَبَذَلَتْ الْجِزْيَةَ لِلْمَقَامِ فِي دَارِ الإسلام ولم يَلْزَمْهَا مَا بَذَلَتْهُ وَكَانَ ذَلِكَ مِنْهَا كَالْهِبَةِ لا تؤخذ به إن امتنعت. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 وَلَا تُؤْخَذُ الْجِزْيَةُ مِنْ خُنْثَى مُشْكِلٍ. فَإِنْ زال إشكاله وبان رجلا، أخذ بها في مستقبل أمره دون ماضيه. واختلف عن أحمد في قدر الجزية على ثلاث روايات. أحدها: أنها مقدرة الأقل والأكثر. فيؤخذ من الفقير المعتمل اثنا عشر درهما. ومن المتوسط أربعة وعشرون. ومن الموسر ثمانية وأربعون، نقلها الجماعة. والثانية: أنها غير مقدرة الأكثر والأقل، وهي إلى اجتهاد الإمام في الزيادة والنقصان، نقلها الأثرم، فقال " تعاد الجزية على ما يطيقون، تزاد وتنقص. وما يرى الإمام". والثالثة: أنها مقدرة الأقل، غير مقدرة الأكثر، فيجوز للإمام أن يزيد على ما قدر عمر. ولا يجوز أن ينقص منه، نقلها يعقوب بن بختان فقال: " لا يجوز للإمام أن ينقص من ذلك، وله أن يزيد". والأولى: اختيار الخرقي، والثالثة: اختيار أبي بكر. وإذا صُولِحُوا عَلَى مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ عَلَيْهِمْ ضُوعِفَتْ، كَمَا فعل عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَعَ تَنُوخِ، وَبَهْرَاءَ، وَبَنِي تغلب بالشام. ويؤخذ من النساء والصبيان. والمنصوص عنه في الصبيان في رواية ابن القاسم، وذلك لأنها جزية مأخوذة على طريق الصلح فاستوى فيها النساء والصبيان. ويدل عليه: ما روي أبو عبيد بإسناده قال: كتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى معاذ " وفي الحالم والحالمة دينار أو عدله من المعافر". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 ومعلوم أن ذلك على وجه الصلح. ولا يلزم عليه الجزية لأنها غير مأخوذة على طريق الصلح، لأن الصلح ما اعتبر فيه رضى كل واحد من المتصالحين. والجزية لا يعتبر فيها ذلك لأنهم لو بذلوها لزم الإمام قبولها من طريق الشرع. وقد صرح أحمد أنها جزية في رواية محمد بن موسى وقد سأله عن نصارى بني تغلب، فقال: " تضاغف عليهم الجزية" فقد سماه جزية. وقد علق القول في رواية ابن القاسم فقال " المال والمواشي والأرض سواء الصغير والكبير، إنما هي الزكاة". فسماها زكاة، ومعناه: حكمها حكم الزكاة في أنها تجب على الصغير والكبير. وإذا صولحوا على ضيافة من يمر بهم من المسلمين قدرت عليهم، وأخذوا بها ثلاثة أيام لَا يُزَادُونَ عَلَيْهَا، كَمَا صَالَحَ عُمَرُ نَصَارَى الشَّامِ عَلَى ضِيَافَةِ مَنْ مَرَّ بِهِمْ مِنْ المسلمين ثلاثة أيام مما يأكلون. لا يكلفونهم ذبح شاة ولا دجاجة، وتبن دَوَابِّهِمْ مِنْ غَيْرِ شَعِيرٍ، وَجَعَلَ ذَلِكَ عَلَى أهل السواد دون المدن. وإن لَمْ يَشْتَرِطْ عَلَيْهِمْ الضِّيَافَةَ وَمُضَاعَفَةَ الصَّدَقَةِ، فَلَا صدقة عليهم في زرع ولا ثمر، ولا يلزمهم إضافة سائل ولا سابل. وقد روي عن أحمد كلام يدل على أن الذي شرط عليهم يوم وليلة. فقال حمدان بن علي: قلت لأحمد " عمر بن الخطاب جعل على أهل السواد يوما وليلة؟ قال: كنا إذا تولينا عليهم قالوا: شباشبا. قلت لأحمد: ما يوم وليلة؟ قال: يضيفونهم. قلت: ما قولهم: شباشبا؟ قال أحمد: هو بالفارسية ليلة ليلة". وقد رواه أبو بكر الخلال بإسناده عن الأحنف بن قيس " أن عمر - رضي الله عنه - اشترط الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة، وأن يصلحوا القناطر، وإن قتل رجل من المسلمين بأرضهم فعليهم ديته". وفي لفظ آخر " أن عمر اشترط على أهل الذمة ضيافة يوم وليلة، فإن حبسهم مطر أو مرض فيومين. فإن مكثوا أكثر من ذلك أنفقوا من أموالهم، ويكلفوا ما يطيقون". وكذلك الضيافة في حق المسلمين الواجب يوم وليلة. قال في رواية حنبل " قَدْ أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - بذلك، وهو دين له: قلت: كم مقدار ما يقدر له؟ قال: ما يمونه في الثلاثة الأيام التي قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: واليوم والليلة هو حق واجب". فقد بين أن المستحب ثلاثة أيام والواجب يوم وليلة. وقال في موضع آخر من مسائل حنبل وصالح " الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة". فكانت جائزته أوكد من الثلاثة. وقد روى أبو بكر الخلال ما دل على الاستحباب والإيجاب. فروى بإسناده عن أبي كريمة - المقدام بن معد يكرب - قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - " ليلة الضيف حق واجبة، فإن أصبح بفنائه فهو دين عليه إن شاء اقتضى الدين وإن شاء ترك ". يعني إذا لم يضف. وبإسناده عن أبي شريح الخزاعي قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - " الضيافة ثلاثة أيام، وجائزته يوم وليلة، ولا يحل لمسلم أن يقيم عند أخيه حتى يؤثمه. قالوا: يا رسول الله، كيف يوثمه؟ قال: يقيم عنده، وليس عنده ما يقربه". فحديث أبي كريمة يدل على وجوب اليوم والليلة. وحديث أبي شريح يدل على استحباب الثلاث. فالضيافة في حق الكفار والمسلمين، يتفقان في قدر الوجوب والاستحباب، ويختلفان في حكمين آخرين. أحدهما: أنها في حق المسلمين تجب ابتداء بالشرع، وفي حق الكفار تجب بالشرط. والثاني: أنها في حق المسلمين تعم أهل القرى والأمصار. وفي حق الكفار تختص بأهل القرى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 قال في رواية أبي الحارث " الضيافة تجب على كل مسلم، من كان من أهل الأمصار وغيرهم من المسلمين". وقال في موضع آخر " تجب الضيافة على المسلمين كلهم، ومن نزل به ضيف عليه أن يضيفه. والفرق بينهما " أن عمر شرط تلك على أهل القرى، والأخبار الواردة في حق المسلمين عامة لقوله - صلى الله عليه وسلم - " ليلة الضيف حق واجبة". وفي لفظ آخر " الضيافة ثلاثة أيام". وتجب الضيافة على المسلم للمسلمين والكفار، لعموم الخبر. وقد نص عليه أحمد في رواية حنبل - وقد سأله " إن أضاف الرجل ضيفان من أهل الكفر؟ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - " ليلة الضيف حق واجب على كل مسلم". دل على أن المسلم والمشرك مضاف. والضيافة معناها معنى الصدقة التطوع على المسلم والكافر. فقد احتج بعموم الخبر، وأنه يعم المسلم والكافر. وإذا نزل به الضيف فلم يضفه كان دينا له على المضاف به. نص عليه في رواية حنبل. فقال " إذا نزل القوم فلم يضافوا، فإن شاء طلبه. وإن شاء ترك". قال له " فكم مقدار ما يقدر له؟ قال " ما يمونه في الثلاثة الأيام، واليوم والليلة حق واجب".قال له: " فإن لم يضيفوه ترى له أن يأخذ من أموالهم بمقدار ما يضيفه؟ قال: لا يأخذ إلا بعلم أهله. وله أن يطالبهم بحقه". فقد نص على أن له المطالبة بذلك. وهذا يدل على ثبوته في ذمته، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أبي كريمة " فإن أصبح بفنائه فهو دين عليه، إن شاء اقتضى، وإن شاء ترك" ومنع من أن يأخذ من مال من تجب عليه الضيافة بغير إذنه، بناء على أصله، وهو " أن من كان له على رجل حق وامتنع من أدائه وقدر له على حق لم يجز له أن يأخذه بغير إذنه". ويلزم الذمي ترك ما فيه ضرر على المسلمين وآحادهم: في مال، أو نفس. وهي ثمانية أشياء: الاجتماع في قتال المسلمين، وأن لا يزني بمسلمة، ولا يصيبها باسم نكاح، ولا يفتن مسلما عن دينه. ولا يقطع عليه الطريق ولا يؤوي للمشركين عينا، أعني جاسوسا. ولا يعاون على المسلمين بدلالة، أعني لا يكاتب المشركين بأخبار المسلمين. لا يقتل مسلما ولا مسلمة. وكذلك يلزم ترك ما فيه غضاضة ونقص على الإسلام، وهي ثلاثة أشياء، ذكر الله تعالى، وكتابه، ودينه، ورسوله، بما لا ينبغي. فهذه الأشياء يلزمهم تركها، سواء شرط ذلك الإمام عليهم أو لم يشرط. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 فإن فعلوا ذلك أو شيئاً منه، نقض العهد في إحدى الروايتين. قال في رواية أبي الحارث: في نصراني استكره مسلمة على نفسها " يقتل، ليس على هذا صولحوا، وإن طاوعته يقتل، وعليها الحد". وقال في رواية حنبل " كل من ذكر شيئا يعرض به بالرب عز وجل فعليه القتل، مسلما كان أو كافرا". وقال في رواية أبي طالب: في يهودي شتم النبي - صلى الله عليه وسلم - " يقتل. قد نقض العهد". وفيه رواية أخرى " لا ينقض العهد إلا بالامتناع من بذل الجزية وجرى أحكامنا عليهم". وقال في رواية موسى بن عيسى الموصلي" في المشرك إذا قذف مسلما " يضرب". كذلك في رواية الميموني: في الرجل من أهل الكتاب يقذف العبد المسلم وينكل به " يضرب ما يرى الحاكم". وظاهر هذا: أنه لم يجعله ناقضا للعهد بقذف المسلم وإن كان ضرر على المسلمين. فأما ما ليس فيه ضرر على المسلمين، ولا غضاضة على الإسلام، مثل إظهار منكر في دار الإسلام، بإحداث البيع والكنائس في دار الإسلام، ورفع أصواتهم بكتبهم، والضرب بالنواقيس، وإطالة البنيان على المسلمين، وإظهار الخمر والخنزير، وترك ما أخذ عليهم تركه من التشبه بالمسلمين في ملبوسهم، ومركوبهم، وكناهم، وشعورهم، فهل ذلك واجب عليهم تركه، أم هو مستحب؟. فقال في رواية أبي الحارث " ينبغي أن يؤخذ أهل الذمة بالنواصي والزنانير، يذلون بذلك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 وقال في رواية أبي طالب " السواد فتح عنوة، فلا يكون فيه بيعة، ولا يضرب فيه بنا قوس ولا تتخذ فيه الخنازير، ولا تشرب في الخمر، ولا يرفعون أصواتهم في دورهم". وقال في رواية إبراهيم بن هانئ، ويعقوب بن بختان " لا يتركون أن يجتمعوا في كل أحد، ولا يظهرون خمرا ولا ناقوسا". فقد أطلق القول في ذلك. فيحتمل أن يقتضي الوجوب، ويلزم بعقد الذمة، لأنها إظهار منكر في دار الإسلام، فلزم تركه بعقد الذمة. دليله: ما كان فيه ضرر على الإسلام والمسلمين. ويحتمل أن يكون ترك هذه الأشياء مستحب، لأنه لا ضرر على الإسلام والمسلمين فيه. فعلى هذا لا يلزم حتى يشترط عليهم فيصير بالشرط ملتزما. فإن ارتكبها بعد الشرط، فهل يكون نقضا لعهدهم؟. ظاهر كلام الخرقي يكون نقضا لأنه قال " ومن نقض العهد بمخالفة شيء مما صولحوا عليه حل دمه وماله، لأنه بالشرط قد لزمهم، ويؤخذون به إجبارا، ويؤدبون على فعله" فكان ناقضا به، كالامتناع من أداء الجزية والأشياء التي في فعلها ضرر على الإسلام والمسلمين. ويثبت الإمام ما استقر من عهد الصُّلْحِ مَعَهُمْ فِي دَوَاوِينَ الْأَمْصَارِ لِيُؤْخَذُوا بِهِ إذَا تَرَكُوهُ فَإِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ صُلْحًا رُبَّمَا خَالَفَ مَا سِوَاهُ. وَلَا تَجِبُ الْجِزْيَةُ عَلَيْهِمْ في السنة إلا مرة بعد انقضائها بشهور الأهلة. ومن مات فِيهَا أُخِذَ مِنْ تَرِكَتِهِ بِقَدْرِ مَا مَضَى منها. ومن أسلم منهم كان ماله مقرا عليه، وجزيته ساقطة عنه. وكذلك إن مات قبل أدائها. وَمَنْ بَلَغَ مِنْ صِغَارِهِمْ أَوْ أَفَاقَ مِنْ مجانينهم استقبل به حول الجزية. وتسقط الجزية عن الفقير، وعن الشيخ، وعن الزمن. وَإِذَا تَشَاجَرُوا فِي دِينِهِمْ وَاخْتَلَفُوا فِي مُعْتَقَدِهِمْ، لَمْ يُعَارَضُوا فِيهِ، وَلَمْ يَكْشِفُوا عَنْهُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 وإذا تنازعوا في حق ارتفعوا فيه إلى حاكمهم لم يمنعوا منه. وإن تَرَافَعُوا فِيهِ إلَى حَاكِمِنَا حَكَمَ بَيْنَهُمْ بِمَا يُوجِبُهُ دِينُ الْإِسْلَامِ. وَتُقَامُ عَلَيْهِمْ الْحُدُودُ إذَا أتوها. ومن نقض منهم عهده لم يبلغ به مأمنه، وكان الإمام فيه بالخيار بين القتل والاسترقاق. هذا كلام أحمد في رواية أحمد بن سعيد " إذا منع الجزية ضربت عنقه". وقال في رواية أبي الحارث " إذا زنى بمسلمة قتل". وذلك لأنه عقد الذمة على أن يكف عنا ونكف عنه. فإذا نقض العهد عاد بمعناه الأول، فكأنه وجد لص حربي في دار الإسلام. وَلِأَهْلِ الْعَهْدِ - إذَا دَخَلُوا دَارَ الْإِسْلَامِ - الْأَمَانُ على نفوسهم وأموالهم، ولهم أن يقيموا أقل من سنة بِغَيْرِ جِزْيَةٍ، وَلَا يُقِيمُونَ سَنَةً إلَّا بِجِزْيَةٍ، وَيَلْزَمُ الْكَفُّ عَنْهُمْ كَأَهْلِ الذِّمَّةِ. وَلَا يَلْزَمُ الدَّفْعُ عَنْهُمْ، بِخِلَافِ أَهْلِ الذِّمَّةِ. وَإِذَا أَمَّنَ بالغ من عقلاء الْمُسْلِمِينَ حَرْبِيًّا لَزِمَ أَمَانُهُ كَافَّةَ الْمُسْلِمِينَ. وَالْمَرْأَةُ فِي بَذْلِ الْأَمَانِ كَالرَّجُلِ، وَالْعَبْدُ فِيهِ كَالْحُرِّ، سواء كان مأذونا له في القتال أو لم يكن. ويصح أمان الصبي، نص عليه. قال أبو بكر الخلال " إذا كان له سبع سنين وعقل التخيير بين أبويه فأمانه جائز". ولا يصح أمان المجنون، ومن أمنه فهو حرب، إلا أن يجهل حكم أمانه فيبلغه مأمنه. ثم يكون حربا. وإذا تظاهر أهل الذمة أو العهد بقتال المسلمين كانوا حربا لوقتهم تقتل مقاتلتهم. وإذا امتنع أهل الذمة من بذل الجزية كان نقضا لعهدهم. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُحْدِثُوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ بَيْعَةً وَلَا كَنِيسَةً، فَإِنْ أَحْدَثُوهَا هُدِمَتْ عَلَيْهِمْ. واختلفت الرواية عن أحمد في بناء ما استهدم من بيعهم وكنائسهم القديمة. فروي عنه، أنه ليس لهم ذلك. نقلها عبد الله. والثانية: لهم ذلك، والثالثة: إن خرب جميعها لم يكن لهم ذلك. وإن استهدم بعضها جاز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 وإذا نقض أهل الذمة عهدهم استبيح به قتلهم، وغنيمة أموالهم، وسبي ذراريهم. وهذا ظاهر ما نقلناه عنه في رواية أحمد بن سعيد " إذا امتنع الجزية ضربت عنقه". وفي رواية أبي الحارث " إذا زنى بمسلمة قتل". وقال الخرقي في أمر الجزية " ومن نقض العهد بمخالفة شيء مما صولحوا عليه حل دمه وماله " وهذا صريح من الخرقي في ذلك. فإن هرب إلى دار الحرب من ذمتنا، ناقضا للعهد - وله مال في دار الإسلام - هل يكون فيئا؟ ظاهر كلام الخرقي أنه يكون فيئا، لأنه قال " ومن هرب إلى دار الحرب من ذمتنا ناقضا للعهد عاد حربا. وقال أبو بكر الخلال في كتاب الخلاف " إذا أودع الحربي المستأمن في دار الإسلام مالا، ثم لحق بدار الحرب فأسر أو قتل: إنه يرد إلى ورثته". وظاهر هذا: أنه لم ينقض أمانه في ماله. وهذا الكلام في الجزية. فأما الكلام في الخراج فهو ما وضع على رقاب الأرضين من حقوق تؤدي عنها. وَالْأَرْضُونَ كُلُّهَا تَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا اسْتَأْنَفَ الْمُسْلِمُونَ إحْيَاءَهُ، فَهُوَ أَرْضُ عُشْرٍ لَا يجوز أن يوضع عليها الخراج. نص عليه في رواية أبي الصقر- وقد سأله عن أرض موات في الإسلام لا يعرف لها أرباب، ولا للسلطان عليها خراج، فأحياها رجل من المسلمين - فقال " من أحيا أرضا مواتا في غير أرض السواد كان للسلطان عليه فيها عشر، ليس له عليه غير ذلك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وقال في رواية ابن منصور " والأرضون التي يملكها ربها ليس فيها خراج، مثل هذه القطائع التي أقطعها عثمان في السواد لسعد، وابن مسعود، وخباب". وظاهر هذا أنه لم يوجب في قطائع السواد خراجا، وهذا محمول على أنه أقطعهم منافعها وخراجها، وللإمام أن يسقط الخراج على وجه المصالحة. القسم الثاني ما أسلم عليه أربابه، فَهُوَ أَرْضُ عُشْرٍ، لَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عليها خراج نص عليه في رواية حرب، فقال " إذا فتح المسلمون الأرض عنوة فصارت فيئا لهم فهو خراج ". وقال " أرض العشر: الرجل يسلم بنفسه من غير قتال وفي يده أرض، فهي عشر". وقال في موضع آخر" أرض العشر، الرجل يسلم وفي يده أرض فهي عشر، مثل مكة والمدينة ". وقد علق القول في رواية حنبل، فقال " من أسلم على شيء فهو له، ويؤخذ منه خراج الأرض". وهذا محمول على أنه كان في يده من أرض الخراج أقره الإمام في يده، كما أقر النبي - صلى الله عليه وسلم - أهل خيبر، فلا يسقط الخراج. القسم الثالث ما ملك عن المشركين عنوة وقهرا، ففيه روايتان: إحداهما: يكون غَنِيمَةً تُقْسَمُ بَيْنَ الْغَانِمِينَ، وَتَكُونُ أَرْضَ عُشْرٍ، لا يجوز أن يوضع عليها خراج، وفيه رواية أخرى: الإمام بالخيار بين أن يقسمها بين الغانمين، فلا يكون فيها خراج، وبين أن يقفها على جماعة المسلمين، فَتَصِيرُ وَقْفًا عَلَى مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ وَيُضْرَبُ عَلَيْهَا خراجا يكون أجرة يقر على الأبد، وإن لم يتقدر بِمُدَّةٍ، لِمَا فِيهَا مِنْ عُمُومِ الْمَصْلَحَةِ. وَلَا يجوز بيع رقابها، اعتبارا بحكم الوقف، وهي الأرض المختصة بوضع الخراج عليها. القسم الرَّابِعُ مَا صُولِحَ عَلَيْهِ الْمُشْرِكُونَ مِنْ أَرْضِهِمْ فهي على ضربين: أحدهما: ما جلا عنه أهله حتى خصلت للمسلمين بغير قتال فيكون وقفا على مصالح المسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 ويضرب عليها خراج يكون أجرة يقر على الأبد وإن لم يتقدر بمدة، لما فيها من عموم المصلحة، فلا يَتَغَيَّرُ بِإِسْلَامٍ وَلَا ذِمَّةٍ، وَلَا يَجُوزُ بَيْعُ رقابها، اعتبارا بحكم الوقف. وقد قال أحمد في رواية أبي الحارث وصالح " كل أرض جلا عنها أهلها بغير قتال فهي فيء". ومعناه: أنها وقف، وقد بينا ذلك من كلامه فيما قبل. الضرب الثاني: ما أقام فيه أهله، وصالحونا عَلَى إقْرَارِهِ فِي أَيْدِيهِمْ بِخَرَاجٍ يُضْرَبُ عَلَيْهِمْ فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَنْزِلُوا عَنْ مِلْكِهَا لَنَا عِنْدَ صُلْحِنَا، فَتَصِيرُ هَذِهِ الْأَرْضُ وَقْفًا عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَاَلَّذِي انْجَلَى عَنْهُ أَهْلُهُ، ويكون الخراج المضروب عليها أجرة، ولا تسقط بإسلامه، وَلَا يَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُ رِقَابِهَا، وَيَكُونُونَ أَحَقَّ بها ما أقاموا على صلحهم، لا تنقل من أيديهم سواء أقاموا على شركهم أو أسلموا، كما لا تنزع الأرض المستأجرة من مستأجرها، ولا تسقط عَنْهُمْ بِهَذَا الْخَرَاجِ جِزْيَةُ رِقَابِهِمْ إنْ صَارُوا أهل ذمة مستوطنين. وإن لم يستوطنوا ولم ينتقلوا إلى الذمة، وأقاموا على الْعَهْدِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُقَرُّوا فِيهَا سَنَةً بغير جزية. وقد قال أحمد في رواية حنبل " ما فتح عنوة فهو فيء للمسلمين، وما صولحوا عليه فهو لهم، يؤدون إلى المسلمين ما صولحوا عليه، ومن أسلم منهم تسقط عنه الجزية والأرض للمسلمين". فقد بين أن الأرض فيء، وهذا على أن الأرض لنا، فتكون فيئا: يعني وقفا. الضرب الثَّانِي: أَنْ يَسْتَبِقُوهَا عَلَى أَمْلَاكِهِمْ وَلَا يَنْزِلُوا عن رقابها، ويصالحونا عَنْهَا بِخَرَاجٍ يُوضَعُ عَلَيْهَا. فَهَذَا الْخَرَاجُ جِزْيَةٌ، يؤخذ منهم ما أقاموا على شركهم، ويسقط عنهم بإسلامهم وَيَجُوزُ لَهُمْ بَيْعُ هَذِهِ الْأَرْضِ عَلَى مَنْ شاءوا منهم، أو من أهل الذمة، أو من المسلمين فإن تبايعوها بَيْنَهُمْ كَانَتْ عَلَى حُكْمِهَا فِي الْخَرَاجِ، وَإِنْ بِيعَتْ عَلَى مُسْلِمٍ سَقَطَ عَنْهُ خَرَاجُهَا وَإِنْ بِيعَتْ عَلَى ذِمِّيٍّ احْتَمَلَ أَنْ لَا يَسْقُطَ عَنْهُ خَرَاجُهَا لِبَقَاءِ كُفْرِهِ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَسْقُطَ لخروجه بالذمة من عقد من صولح عليها. وقد قال أحمد في رواية ابن منصور، وذكر له قول سفيان " ما كان من أرض صولح عليها ثم أسلم أخلخا بعد وضع الخراج عنها، قال أحمد " جيد" قال " وما كان من أرض أخذت عنوة، ثم أسلم صاحبها، ووضعت عنه الجزية وأقر على أرضه بالخراج قال أحمد " جيد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 فقد نص على أن الخراج يسقط عن أرض الصلح بالإسلام، وهذا محمول على أن تلك الأرضين لهم، ولم يسقط عن أرض العنوة، لأنها لجماعة المسلمين هي أجرة عنها. فأما قدر الخراج المضروب فمعتبر بما تحتمله الأرض. نص عليه أحمد في رواية محمد بن داود - وقد سئل عن حديث عمر " وضع على جريب الكرم كذا وعلى جريب كذا كذا " هو شيء موصوف على الناس لا يزاد عليهم، أو إن رأى الإمام غير هذا زاد ونقص؟ - قال " بل هو على رأي الإمام، إن شاء زاد عليهم، وإن شاء نقص - وقال- هو بين في حديث عمر " إن زدت عليهم كذا لا يجهدهم؟ " إنما نظر عمر إلى ما تطيق الأرض". فقد نص على أن ذلك موقوف على اجتهاد الإمام، وليس بموقوف على تقدير عمر، بل تعتبر الطاقة في الزيادة والنقصان. واحتج بقول عمر " إن زدت عليهم لا تجهدهم". ونقل العباس بن محمد بن موسى الخلال عن أحمد: أنه قال " الخراج يقر في أيديهم مقاسمة على النصف، وأقل إذا رضي بذلك الأكرة، يحملهم بقدر ما يطيقون " وقال بعد " ليس للإمام أن يغيرها على ما أقرها عليه عمر". وقال في رواية يعقوب بن بختان " لا يجوز للإمام أن ينقص، وله أن يزيد". وقال في رواية ابن منصور " ووضع - يعني عمر - عليها - يعني السواد- الخراج: على كل جريب درهم وقفيز من الحنطة والشعير. وما سوى ذلك من القصب والزيتون والنخل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 أشياء موظفة يؤدونها". وقال " خراج السواد على حديث الحكم عن عمرو بن ميمون قفيز ودرهم". قال أبو بكر الخلال: أبو عبد الله يقول " إن للإمام النظر في ذلك، فيزيد عليهم وينقص على قدر ما يطيقون". وقد ذكر ذلك عنه غير واحد، وما قاله عباس الخلال عن أبي بكر فهو قول أول لأبي عبد الله. وقد اختلفت الرواية عن عمر في قدر الخراج: فروي أبو عبيد بإسناده عن عمرو بن ميمون قال " شهدت عمر بن الخطاب - وأتاه ابن حنيف - فجعل يكلمه، فسمعناه يقول له: آلله، لئن وضعت على كل جريب من الأرض درهما وقفيزا من طعام لا يشق ذلك عليهم، ولا يجهدهم؟ ". وبإسناده عن محمد بن عبد الله اليقفي قال " وضع عمر على أهل السواد على كل جريب عامر أو غامر درهما وقفيزا، وعلى جريب الرطبة خمسة دراهم". وروي أيضا بإسناده عن الشعبي " أن عمر بعث ابن حنيف إلى السواد، فطرز الخراج فوضع على جريب الشعير درهمين، وعلى جريب الحنطة أربعة دراهم وعلى جريب القصب ستة دراهم، وعلى جريب النخل ثمانية دراهم، وعلى جريب الكرم عشرة ". وروي أبو زيد عمر بن شبة النميري بإسناده عن عمرو بن ميمون " أنه وضع على كل جريب - وذكر الخبر إلى أن قال -: وعلى النخل: على الفارسية درهما، وعلى الدقلتين درهما ". وفي لفظ آخر عن عثمان بن حنيف حين بعثه عمر " فأخذ من الرطبة - وذكر الخبر إلى أن قال: وكان لا يعد النخل". وقد أخذ أحمد من هذه الأخبار بحديث عمرو بن ميمون في رواية على بن سعيد اللحياني وجعفر بن محمد، فقال " أعلى وأصح حديث في أرض السواد: حديث عمرو بن ميمون في الدرهم والقفيز". ويشهد لهذا: ما روي أبو هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - " إذا منعت العراق درهمها وقفيزها. ومنعت الشأم دينارها ومديها، ومنعت مصر دينارها وإردبها، وعدتم كما بدأتم فقد أثبت الجمع بين الدرهم والقفيز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 وهذا الاختلاف عن عمر يدل على اعتبار الطاقة، كذلك يجب أن يكون وضع الخراج مراعى في كل أرض تَحْتَمِلُهُ. فَإِنَّهَا تَخْتَلِفُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ، يُؤَثِّرُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي زِيَادَةِ الْخَرَاجِ وَنُقْصَانِهِ: أَحَدُهَا: مَا يَخْتَصُّ بِالْأَرْضِ مِنْ جَوْدَةٍ يَزْكُو بها زرعهم، أو رداءة يقل به ريعها. الثاني: ما يختص بالزرع من اختلاف أنواعه. فإن الحبوب والثمار ما يكثر ثمنه، ومنها ما لا يقل ثمنه، فيكون الخراج بحسبه. الثالث: ما يختص بالسقي والشرب، لأن ما التزمت المؤنة في سقيه بالدوالي والنواضح لا يحتمل من الخراج ما يحتمله ما سقي بالسيوح والأمطار. وشرب الزروع وَالْأَشْجَارِ يَنْقَسِمُ أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا سَقَاهُ الآدميون بغير آلة، كالسبةح من العيون والأنهار تساق إليها، فتسيح عليها عند الحاجة، وتمنع عنها عِنْدَ الِاسْتِغْنَاءِ، وَهَذَا أَوْفَرُ الْمِيَاهِ مَنْفَعَةً وَأَقَلُّهَا كلفة. القسم الثاني: ما سقاه الآدميون من نواضح أو دوالي، أو دواليب، وهذا أكثر المياه مؤنة وأشقها عملا. القسم الثالث: ما سقته السماء مطرا، أو ثلجا، أو طلا، ويسمى العذي. القسم الرابع: ما سقته الأرض بندواتها، وما أسكن من الماء قرارها، فشرب زَرْعُهَا وَشَجَرُهَا بِعُرُوقِهِ، وَيُسَمَّى الْبَعْلُ. فَأَمَّا الْغِيلُ: فهو مَا شَرِبَ بِالْقَنَاةِ، فَإِنْ سَاحَ فَهُوَ مِنْ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يَسِحْ فَهُوَ مِنْ الْقِسْمِ الثَّانِي. وَأَمَّا الْكَظَائِمُ: فَهُوَ مَا شَرِبَ مِنْ الْآبَارِ، فَإِنْ نُضِحَ مِنْهَا بِالْغُرُوبِ فَهُوَ من القسم الثاني وإن استخرج من القنى، فهو غيل يلحق بالقسم الأول. وإذا ثبت هذا فلابد لواضع الخراج من اعتبار ما وصفنا مِنْ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ مِنْ اخْتِلَافِ الْأَرْضِينَ، وَاخْتِلَافِ الزروع، واختلاف الشرب لِيَعْلَمَ قَدْرَ مَا تَحْمِلُهُ الْأَرْضُ مِنْ خَرَاجِهَا. فيقصد العدل فيما بين أهلها وأهل الْفَيْءِ، مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ تُجْحِفُ بِأَهْلِ الْخَرَاجِ، ولا نقصان يضر بأهل الفيء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 وَلَا يَسْتَقْصِي فِي وَضْعِ الْخَرَاجِ غَايَةَ مَا تحتمله، ليجعل فِيهِ لِأَرْبَابِ الْأَرْضِ بَقِيَّةً يُجْبِرُونَ بِهَا النَّوَائِبَ والجوائح. ويعتبر واضع الخراج أصلح الأمور من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يضعه على مسائح الأرض. الثاني: أن يضعه على مسائح الزرع. الثالث: أن يجعله مُقَاسَمَةً. فَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى مَسَائِحِ الْأَرْضِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِالسَّنَةِ الْهِلَالِيَّةِ. وَإِنْ وَضَعَهُ عَلَى مَسَائِحِ الزرع، فقد قيل: يكون مُعْتَبَرًا بِالسَّنَةِ الشَّمْسِيَّةِ. وَإِنْ جَعَلَهُ مُقَاسَمَةً كَانَ مُعْتَبَرًا بِكَمَالِ الزَّرْعِ وَتَصْفِيَتِهِ. فَإِذَا اسْتَقَرَّ عَلَى أحدها مقدار بشروطه الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ صَارَ ذَلِكَ مُؤَبَّدًا لَا يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ فِيهِ وَلَا يُنْقَصَ مِنْهُ، مَا كانت الأرضون على أحوالها، في شروبها ومصالحها. فإن تغيرت شروبها ومصالحها إلى زيادة أو نقصان فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ الزِّيَادَةِ وَالنُّقْصَانِ بِسَبَبٍ مِنْ جِهَتِهِمْ، كَزِيَادَةٍ حَدَثَتْ بِشَقِّ أنهار، واستنباط مياه، أو نقصان حدث لتقصير في عمارة، أو لعدول عن مصلحة. فَيَكُونُ الْخَرَاجُ عَلَيْهِمْ بِحَالِهِ، لَا يُزَادُ عَلَيْهِمْ فيه لزيادة عمارتهم، ولا ينقص منه لنقصانها. ويؤخذون بالعمارة نظرا لهم، ولأهل الفيء، لئلا يستديم خرابه فيتعطل. الضرب الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ حُدُوثُ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ جهتهم، فيكون النقصان بشق انفجر أَوْ نَهْرٍ تَعَطَّلَ. فَإِنْ كَانَ سَدُّهُ وَعَمَلُهُ مُمْكِنًا وَجَبَ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَعْمَلَهُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ مِنْ سَهْمِ الْمَصَالِحِ وَالْخَرَاجُ سَاقِطٌ عنهم ما لم يعمل. وإن لم يمكن عَمَلُهُ فَخَرَاجُ تِلْكَ الْأَرْضِ سَاقِطٌ عَنْ أَهْلِهَا إذَا عُدِمَ الِانْتِفَاعُ بِهَا، فَإِنْ أَمْكَنَ الِانْتِفَاعُ بها في غير الزراعة: لمصائد، أو مراع، جاز أن يستأنف وضع الخراج بحسب ما يحتمله الصيد والمراعي , وليست كأرض الْمَوَاتِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يُوضَعَ عَلَى مَصَائِدِهَا وَمَرَاعِيهَا خَرَاجٌ؛ لِأَنَّ هَذِهِ الْأَرْضَ مَمْلُوكَةٌ، وأرض الموات مباحة. وقد نقل خضر بن إسحاق: أن صيادا سأل أحمد عن الصيد في أجمة - يعني قطر بل - وأنهم يمنعون أن نصيد فيها حتى نعطيهم شيئا؟ فقال: " احرص أن لا تعطيهم فإن شارطتهم فلا تخنهم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 وقوله " احرص أن لا تعطيهم " محمول على أنها من أرض الموات، وقوله " فإن شارطتهم فلا تخنهم" محمول على قول من قال: ليس في أرض السواد موات. فأحب الخروج من الخلاف. وقد اختلفت الرواية عنه، هل في السواد موات يملك بالأحياء؟. فقال في رواية العباس بن محمد بن موسى الخلال - وقد سأله عما أحيى من أرض السواد: أيكون لمن أحياه-؟ فقال: " مثل التلول والرمال فيما بينك وبين الأنبار، فهو لمن أحياه". وقال في رواية ابنه عبد الله - وقد سأله: أيكون موات في أرض السواد؟ قال: " لا أعلمه يكون مواتا". وأما الزيادة التي أحدثها الله تعالى، كعين انفجر ينبوعها غالبا فساح ماؤها، أو أرض حفرها السيل حتى انخفضت وصارت سَائِحَةً بَعْدَ أَنْ كَانَتْ تُسْقَى بِآلَةٍ، فَإِنْ كان هذا عارضا ضالا يُوثَقُ بِدَوَامِهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُزَادَ فِي خراج تلك الأرض، وَإِنْ وُثِقَ بِدَوَامِهِ رَاعَى الْإِمَامُ فِيهِ الْمَصْلَحَةَ لِأَرْبَابِ الضِّيَاعِ وَأَهْلِ الْفَيْءِ، وَعَمِلَ فِي الزِّيَادَةِ أو المشاركة بِمَا يَكُونُ عَدْلًا بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ. وَخَرَاجُ الْأَرْضِ إذا أمكن زرعها مأخوذ وإن لم تزرع. نص عليه في رواية الأثرم، ومحمد بن أبي حرب، وقد سئل عن رجل يده أرض من أراضي الخراج ولم يزرعها، يكون عليه خراجها؟ قال: " نعم، العامر والغامر". وَإِذَا كَانَ خَرَاجُ مَا أَخَلَّ بِزَرْعِهِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الزُّرُوعِ أُخِذَ مِنْهُ فِيمَا أَخَلَّ بِزَرْعِهِ خراج أَقَلِّ مَا يُزْرَعُ فِيهَا لِأَنَّهُ لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى زَرْعِهِ لَمْ يُعَارَضْ فِيهِ. وَإِذَا كَانَتْ أَرْضُ الْخَرَاجِ لَا يُمْكِنُ زَرْعُهَا فِي كُلِّ عام حتى تراح في عم وتزرع في الآخر. رُوعِيَ حَالُهَا فِي ابْتِدَاءِ وَضْعِ الْخَرَاجِ عَلَيْهَا، واعتبر أصلح الأمور لِأَرْبَابِ الضِّيَاعِ، وَأَهْلِ الْفَيْءِ فِي خَصْلَةٍ مِنْ ثَلَاثٍ: - إمَّا أَنْ يَجْعَلَ خَرَاجَهَا عَلَى الشَّطْرِ مِنْ خَرَاجِ مَا يُزْرَعُ فِي كُلِّ عَامٍ، فَيُؤْخَذُ مِنْ الْمَزْرُوعِ وَالْمَتْرُوكِ، وَإِمَّا أَنْ يَمْسَحَ كُلَّ جَرِيبَيْنِ مِنْهَا بِجَرِيبٍ، لِيَكُونَ أَحَدُهُمَا لِلْمَزْرُوعِ وَالْآخَرُ لِلْمَتْرُوكِ. وَإِمَّا أَنْ يَضَعَهُ بِكَمَالِهِ عَلَى مساحة المتروك ويستوفي على أربابه الشطر من رزاعة أَرْضِهِمْ. وَإِذَا كَانَ خَرَاجُ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِ الْأَنْوَاعِ، فَزُرِعَ أَوْ غُرِسَ مَا لَمْ يُنَصَّ عَلَيْهِ، اُعْتُبِرَ خَرَاجُهُ بِأَقْرَبِ الْمَنْصُوصَاتِ بِهِ شبها أو نفعا. وَإِذَا زُرِعَتْ أَرْضُ الْخَرَاجِ مَا يُوجِبُ الْعُشْرَ لم يسقط عشر الأرض خراج الأرض وجمع فيها بين الحقين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 ولا يجوز أن ينقل أَرْضُ الْخَرَاجِ إلَى الْعُشْرِ، وَلَا أَرْضُ الْعُشْرِ إلى الخراج. وقد سئل أحمد في رواية إسحاق عن دار البطيخ بطرسوس: كانت بيروما كان عليها فهو لها على الأرمني إلى خارج الخندق. ووضع عليها الخراج فقال: الحمالون لا يحمل فيها لم يكن عليها خراج، وقد وضع عليها الآن خراج فلا يغير. فقال " قد أحسنوا فقد أنكر وضع الخراج على أرض لم يكن عليها". وإذا استقى بِمَاءِ الْخَرَاجِ أَرْضُ عُشْرٍ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهَا عُشْرًا. وَإِذَا سُقِيَ بِمَاءِ الْعُشْرِ أَرْضُ خَرَاجٍ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهَا خَرَاجًا، اعْتِبَارًا بِالْأَرْضِ دُونَ الماء. وعند أبي حَنِيفَةَ يُعْتَبَرُ حُكْمُ الْمَاءِ. فَيُؤْخَذُ بِمَاءِ الْخَرَاجِ مِنْ أَرْضِ الْعُشْرِ الْخَرَاجُ، وَيُؤْخَذُ بِمَاءِ الْعُشْرِ مِنْ أَرْضِ الْخَرَاجِ الْعُشْرُ، اعْتِبَارًا بِالْمَاءِ دُونَ الْأَرْضِ، وَاعْتِبَارُ الْأَرْضِ أَوْلَى مِنْ اعْتِبَارِ الْمَاءِ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ مَأْخُوذٌ عَنْ الْأَرْضِ، وَالْعُشْرُ مَأْخُوذٌ من الزَّرْعِ، وَلَيْسَ عَلَى الْمَاءِ خَرَاجٌ وَلَا عُشْرٌ، فلم يعتبر وَاحِدٍ مِنْهُمَا. وَعَلَى هَذَا الِاخْتِلَافِ مَنَعَ أَبُو حَنِيفَةَ صَاحِبَ الْخَرَاجِ أَنْ يَسْقِيَ بِمَاءِ الْعُشْرِ، وَمَنَعَ صَاحِبَ الْعُشْرِ أَنْ يَسْقِيَ بِمَاءِ الْخَرَاجِ، ولم يمنع أحمد وَاحِدًا مِنْهُمَا أَنْ يَسْقِيَ بِأَيِّ الْمَاءَيْنِ شَاءَ. وقد قال أحمد في رواية صالح " الخراج على الرقبة". وقال في رواية ابن منصور " إنما هو جزية رقبة الأرض". فقد بين في رواية ابن منصور أنه عن رقبتها. وفي رواية صالح أنه على الأرض مثل الجزية على الرقبة، فاقتضى أنه عن رقبتها، وإذا كان عن رقبة الأرض كان الاعتبار بها، لا بالماء الذي يسقى به. وإذا بني في أرض الخراج أبنية دورا وحوانيتا، كَانَ خَرَاجُ الْأَرْضِ مُسْتَحَقًّا، لِأَنَّ لِرَبِّ الْأَرْضِ أن ينتفع بها كيف شاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وهذا ظاهر كلام أحمد، وأن الخراج لا يقف على الزرع أو الغراس. قال في رواية يعقوب بن بختان - وقد سأله: ترى أن يخرج الرجل عما في يده من دار أو ضيعة على ما وصف عمر على كل جريب فيتصدق به؟ - قال: " ما أجود هذا " قال له: فإنه بلغني عنك أنك تعطي عن دارك الخراج، تتصدق به؟ قال: " نعم". وقد قيل: إن مالا يستغني في زراعتها عن بنائه في مقامه في أرض الخراج لزراعها عفو يسقط عنه خراجه، لأنه لا يسقر في زراعتها إلا بمسكن يستوطنه، وما جاز قدر حاجته مَأْخُوذٌ بِخَرَاجِهِ. وَإِذَا أُوجِرَتْ أَرْضُ الْخَرَاجِ، أَوْ أُعِيرَتْ، فَخَرَاجُهَا عَلَى الْمَالِكِ دُونَ الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَعِيرِ. وقد قال أحمد في رواية أبي الصقر - في أرض السواد تقبلها الرجل " يؤدي وظيفة عرم ويؤدي العشر بعد وظيفة عمر". وظاهر هذا: أن الخراج على المستأجر، لأن المتقبل مستأجر. وكذلك قال في رواية محمد بن أبي حرب " أرض السواد من استأجر منها شيئا ممن هي في يده فهو جائز، ويكون فيها مثله". فقد جعل المستأجر بمنزلة الموجر. وقد صرح به أبو حفص في الجزء الثاني من الإجارة، فقال: " باب الدليل على أن من استأجر أرضا فزرعها كان الخراج والعشر جميعا عليه، دون صاحب الأرض - وساق فيه رواية أبي صقر". وعندي أن كلام أحمد لا يقتضي ما قال، لأنه إنما نص على رجل تقبل أرضا من السلطان فدفعها إليه بالخراج، وجعل ذلك أجرتها، لأنها لم تكن في يد السلطان بأجرة، بل كانت لجماعة المسلمين، والمسألة التي ذكرناها إذا كانت في يد رجل من المسلمين بالخراج المضروب فأجرها فإن الثاني لا يجب عليه الخراج، بل يجب على الأول، لأنها في يده بأجرة، هي الخراج. وَإِذَا اخْتَلَفَ الْعَامِلُ وَرَبُّ الْأَرْضِ فِي حُكْمِهَا، فَادَّعَى الْعَامِلُ أَنَّهَا أَرْضُ خَرَاجٍ، وَادَّعَى رَبُّهَا أَنَّهَا أَرْضُ عُشْرٍ - وَقَوْلُهُمَا مُمَكَّنٌ - فَالْقَوْلُ قَوْلُ المالك دون العامل، فإن اتهم استحلف. وَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِي مِثْلِ هَذَا الِاخْتِلَافِ عَلَى شَوَاهِدِ الدَّوَاوِينِ السُّلْطَانِيَّةِ إذَا عَلِمَ صِحَّتَهَا، ووثق بكتابها. وَإِذَا ادَّعَى رَبُّ الْأَرْضِ دَفْعَ الْخَرَاجِ لَمْ يقبل قَوْلُهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَعْمَلَ فِي دَفْعِ الْخَرَاجِ على البروزات السُّلْطَانِيَّةِ إذَا عَرَفَ صِحَّتَهَا، اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمُعْتَادِ فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 ومن أعسر بخراجه أنظر به إلى يساره، ولم يسقط بالإعسار. وإذا مطل بالخراج مع يساره حبس، إلَّا أَنْ يُوجَدَ لَهُ مَالٌ فَيُبَاعُ عَلَيْهِ في خراجه، كالديون، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ غَيْرُ أَرْضِ الْخَرَاجِ؛ فَإِنْ كَانَ السُّلْطَانُ يَرَى جَوَازَ بَيْعِهَا بَاعَ منها بقدر خراجه. وإن كان لا يراه أجرها عَلَيْهِ وَاسْتَوْفَى الْخَرَاجَ مِنْ مُسْتَأْجِرِهَا فَإِنْ زَادَتْ الأجرة كان له زِيَادَتُهَا , وَإِنْ نَقَصَتْ كَانَ عَلَيْهِ نُقْصَانُهَا. وَإِذَا عَجَزَ رَبُّ الْأَرْضِ عَنْ عِمَارَتِهَا، قِيلَ لَهُ: إمَّا أَنْ تُؤَجِّرَهَا أَوْ تَرْفَعَ يَدَكَ عَنْهَا، لتدفع إلى من يقوم بعمارتها ولم تترك عَلَى خَرَابِهَا، وَإِنْ دَفَعَ خَرَاجَهَا لِئَلَّا تَصِيرَ بالخراب مواتا، أومأ إليه في رواية حنبل. فقال " من أسلم على شيء فهو له. ويؤخذ منه خراج الأرض، فإن ترك أرضه فلم يعمرها، فذلك إلى الإمام يدفعها إلى من يعمرها، لا تخرب، تصير فيئا للمسلمين". فقد منع من ترك عمارة أرض الخراج على وجه الخراب. وقال في رواية حرب " في رجل أحيا أرض الموات، فحفر فيها بئرا، أو ساق إليها الماء من موضع أو أحاط عليها حائطا ثم تركها فهي له، قيل له: فهل في ذلك وقت إذا تركها؟ قال: لا ". وكذلك قال في رواية أبي الصقر " إذا أحيا أرضا ميتة وزرعها ثم تركها حتى عادت خرابا فهي له، وليس لآخر أن يأخذها منه، وإنما جاز له لأن بإحيائها قد صارت ملكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 له، فهو مخير في الانتفاع بها أو تركه، ويفارق هذا أرض الخراج لأنها ليست بملك له، وإنما هي لجماعة المسلمين، ولهذا فرقنا بينهما. وَعَامِلُ الْخَرَاجِ، يُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ: الْحُرِّيَّةُ، والأمانة، ثم ينظر. فإن ولي وَضْعَ الْخَرَاجِ اُعْتُبِرَ فِيهِ أَنْ يَكُونَ فَقِيهًا من أهل الاجتهاد، وإن ولي جبابة الْخَرَاجِ صَحَّتْ وِلَايَتُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَقِيهًا مجتهدا. ورزق عامل الخراج من مَالِ الْخَرَاجِ، كَمَا أَنَّ رِزْقَ عَامِلِ الصَّدَقَةِ من مال الصدقة، من سهم العاملين، وكذلك أجرة المساح. فأما أجرة القسام في العشر والخراج فهي من الحق الذي استوفاه السلطان منهما. وَالْخَرَاجُ حَقٌّ مَعْلُومٌ عَلَى مِسَاحَةٍ مَعْلُومَةٍ فَاعْتُبِرَ في العلم بها ثلاثة مقادير: أحدها: مقدار الجريب بالذراع الممسوح بها. وَالثَّانِي: مِقْدَارُ الدِّرْهَمِ الْمَأْخُوذِ بِهِ. وَالثَّالِثُ: مِقْدَارُ الكيل المستوفى به. أما الْجَرِيبُ فَهُوَ عَشْرُ قَصَبَاتٍ فِي عَشْرِ قَصَبَاتٍ. وَالْقَفِيزُ: عَشْرُ قَصَبَاتٍ فِي قَصَبَةٍ. وَالْعَشِيرُ: قَصَبَةٌ فِي قَصَبَةٍ، وَالْقَصَبَةُ: سِتَّةُ أَذْرُعٍ. فَيَكُونُ الْجَرِيبُ ثَلَاثَةَ آلَافٍ وَسِتِّمِائَةِ ذِرَاعٍ مُكَسَّرَةٍ، وَالْقَفِيزُ: ثَلَاثُمِائَةٍ وستين ذِرَاعًا مُكَسَّرَةٌ، وَهُوَ عُشْرُ الْجَرِيبِ، وَالْعَشِيرُ: سِتَّةٌ وثلاثين ذراعا، وهو عشر القفيز. والأذرع سبعة أَقْصَرُهَا الْقَاضِيَةُ، ثُمَّ الْيُوسُفِيَّةُ، ثُمَّ السَّوْدَاءُ، ثُمَّ الْهَاشِمِيَّةُ الصُّغْرَى، وَهِيَ الْبِلَالِيَّةُ، ثُمَّ الْهَاشِمِيَّةُ الْكُبْرَى، وهي الزياديةن ثم العمرية، ثم الميزانية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 فأما القاضية - وهي تسمى ذِرَاعُ الدُّورِ - فَهِيَ أَقَلُّ مِنْ ذِرَاعِ السَّوْدَاءِ بأصبع وثلثي أصبع، وأول من ضعها ابْنُ أَبِي لَيْلَى الْقَاضِي، وَبِهَا يَتَعَامَلُ أَهْلُ كلواذى. وأما اليوسفية: فهي التي يذرع بها القضاة الدور بمدينة السلام، وهي أَقَلُّ مِنْ الذِّرَاعِ السَّوْدَاءِ بِثُلُثَيْ أُصْبُعٍ، وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَهَا أَبُو يُوسُفَ الْقَاضِي. وَأَمَّا الذِّرَاعُ السَّوْدَاءُ: فَهِيَ أَطْوَلُ مِنْ ذِرَاعِ الدُّورِ بِأُصْبُعٍ وثلثي أصبع، وأول من وضعها الرشيد، قَدَّرَهَا بِذِرَاعِ خَادِمٍ أَسْوَدَ كَانَ عَلَى رَأْسِهِ، وهي التي يتعامل بها الناس في ذرع الْبَزِّ وَالتِّجَارَةِ وَالْأَبْنِيَةِ وَقِيَاسِ نِيلِ مِصْرَ. وَأَمَّا الذراع الهاشمية الصغرى: فَهِيَ أَطْوَلُ مِنْ الذِّرَاعِ السَّوْدَاءِ بِأُصْبُعَيْنِ وَثُلُثَيْ أُصْبُعٍ. وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَهَا بِلَالُ بْنُ أَبِي بردة، وذكر أنه ذراع جده موسى الأشعري، وَهِيَ أَنْقَصُ مِنْ الزِّيَادِيَّةِ بِثَلَاثَةِ أَرْبَاعِ عُشْرٍ، وَبِهَا يَتَعَامَلُ النَّاسُ بِالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ. وَأَمَّا الْهَاشِمِيَّةُ الكبرى فهي ذِرَاعُ الْمِلْكِ، وَأَوَّلُ مَنْ نَقَلَهَا إلَى الْهَاشِمِيَّةِ المنصور، وهي أطول من ذراع السوداء بخمس أصابع وثلثي إصبع، يكون ذراعا وثمنا وعشرا بالسوداء وتنقص عنها بالهاشمية الصغرى ثلاثة أرباع عشرها، وسميت زيادية لأن زيادا مسح بها أرص السَّوَادِ، وَهِيَ الَّتِي يَذْرُعُ بِهَا أَهْلُ الْأَهْوَازِ. وَأَمَّا الذِّرَاعُ الْعُمَرِيَّةُ فَهِيَ ذِرَاعُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - الَّتِي مَسَحَ بِهَا أرض السواد قال موسى بن طلحة: رأيت ذراع عمر الَّتِي مَسَحَ بِهَا أَرْضَ السَّوَادِ، وَهِيَ ذِرَاعٌ وقبضة وإبهام قائمة". قال الحكم بن عتيبة " إنَّ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَمَدَ إلَى أطولها ذراعا وأقصرها، فَجَمَعَ مِنْهَا ثَلَاثَةً وَأَخَذَ الثُّلُثَ مِنْهَا، وَزَادَ عليها قَبْضَةً وَإِبْهَامًا قَائِمَةً، ثُمَّ خَتَمَ فِي طَرَفَيْهِ بِالرَّصَاصِ، وَبَعَثَ بِذَلِكَ إلَى حُذَيْفَةَ وَعُثْمَانَ بْنِ حُنَيْفٍ حَتَّى مَسَحَا بِهَا السَّوَادَ، وَكَانَ أَوَّلَ من مسح بها عمر بن هبيرة". وأما الذراع المأمونية: فتكون بالذراع السوداء ذراعين وثلثي ذراع وثلاث أصابع، وأول من وضعها المأمون، وهي التي يتعامل الناس بها في ذرع البرندات، والسكور، وكري الأنهار، والحفائر وقد اعتبر أصحابنا الذراع الهاشمي في مساحة الفراسخ التي تقصر فيها الصلاة. وَأَمَّا الدِّرْهَمُ فَيَحْتَاجُ فِيهِ إلَى مَعْرِفَةِ وَزْنِهِ ونقده. فأما وزنه فقد استقر فِي الْإِسْلَامِ عَلَى أَنَّ وَزْنَ الدِّرْهَمِ سِتَّةُ دوانيق، وزن كل عشرة منها سبعة مثاقيل. وقد نص على هذا في الزكاة في رواية الميموني - وقد سأله عمن عنده شيء وزنه درهم أسود، وشيء وزنه دانقين، وهي تخرج في مواضع: ذا مع نقصانه على الوزن سواء؟ فقال " يجمعها ثم يخرجها على وزن سبعة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 وقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه - وقد سأله عن الدراهم السود؟ فقال: " إذا حلت الزكاة في مئتين من درهمنا هذه أوجبت فيها الزكاة " فأخذ بالاحتياط " فأما الدية فأخاف عليه". وأعجبه في الزكاة أن يؤدي من مئتين من هذه الدراهم، وإن كان على رجل دية أن يعطي السود الوافية، وقال " هذا كلام لا يحتمله العامة". وظاهر هذا: أنه إنما اعتبر وزن سبعة في الزكاة، والخراج محمول عليها، واعتبر في الدية أوفى من ذلك. وقال في رواية المروذي - وذكر دراهم باليمن صغارا، في الدرهم منها دانقين ونصف - فقال: ترد إلى المثاقيل، كيف تزكى هذه؟. فقد نص على اعتبار كل عشرة منها سبع مثاقيل. واختلف في سبب استقرارها عَلَى هَذَا الْوَزْنِ. فَذَكَرَ قَوْمٌ: أَنَّ الدَّرَاهِمَ كَانَتْ فِي أَيَّامِ الْفُرْسِ مَضْرُوبَةٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْزَانٍ: مِنْهَا دِرْهَمٌ عَلَى وَزْنِ الْمِثْقَالِ عِشْرُونَ قيراطا، ودرهم وزنه عشرة قراريط، ودرهم وزنه اثنا عشر قيراطا، فَلَمَّا اُحْتِيجَ فِي الْإِسْلَامِ إلَى تَقْدِيرِهِ فِي الزَّكَاةِ أُخِذَ الْوَسَطُ مِنْ جَمِيعِ الْأَوْزَانِ الثَّلَاثَةِ، وَهُوَ اثْنَانِ وَأَرْبَعُونَ قِيرَاطًا، فَكَانَ أَرْبَعَةَ عَشَرَ قِيرَاطًا مِنْ قَرَارِيطِ الْمِثْقَالِ، فَلَمَّا ضُرِبَتْ الدَّرَاهِمُ الإسلامية على الوسط من هذا الوزن الأوسط من الْأَوْزَانِ الثَّلَاثَةِ قِيلَ فِي عَشَرَتِهَا: وَزْنُ سَبْعَةِ مثاقيل لأنها كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 وَذَكَرَ آخَرُونَ أَنَّ السَّبَبَ فِي ذَلِكَ: أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لَمَّا رَأَى اخْتِلَافَ الدَّرَاهِمِ، وَأَنَّ مِنْهَا الْبَغْلَيَّ وَهُوَ ثمانية دوانيق، ومنها الطبري، وهو أربعة دوانيق، ومنها اليمني هو دانق، قال: انظروا إلى أغلب ما يتعامل الناس به مِنْ أَعْلَاهَا وَأَدْنَاهَا، فَكَانَ الدِّرْهَمُ الْبَغْلِيُّ وَالدِّرْهَمُ الطَّبَرِيُّ فَجَمَعَ بَيْنَهُمَا، فَكَانَا اثْنَيْ عَشَرَ دَانَقًا، فأخذ نصفهما فكان ستة دوانيق، فَجَعَلَ الدِّرْهَمَ الْإِسْلَامِيَّ فِي سِتَّةِ دَوَانِيقَ، وَمَتَى زِدْتَ عَلَيْهِ ثَلَاثَةَ أَسْبَاعِهِ كَانَ مِثْقَالًا، وَمَتَى نَقَصْتَ مِنْ الْمِثْقَالِ ثَلَاثَةَ أَعْشَارِهِ كَانَ دِرْهَمًا، فَكُلُّ عَشَرَةِ دَرَاهِمَ سَبْعَةُ مَثَاقِيلَ، وَكُلُّ عَشَرَةِ مثاقيل أربعة عشر درهما وسبعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 وأما النقد فَمِنْ خَالِصِ الْفِضَّةِ، وَلَيْسَ لِمَغْشُوشِهِ مَدْخَلٌ فِي حُكْمِهِ. وَقَدْ كَانَ الْفُرْسُ عِنْدَ فَسَادِ أُمُورِهِمْ فَسَدَتْ نَقُودُهُمْ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَنَقُودُهُمْ مِنْ الْعَيْنِ وَالْوَرِقِ غَيْرُ خَالِصَةٍ، إلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تَقُومُ فِي الْمُعَامَلَاتِ مَقَامَ الْخَالِصَةِ، وَكَانَ غِشُّهَا عَفْوًا لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ بَيْنَهُمْ إلَى أَنْ ضُرِبَتْ الدَّرَاهِمُ الإسلامية فتميز المغشوش من الخالص. وقد قال أحمد في رواية حنبل: " ولو أن رجلا له على رجل ألف درهم أعطاه من هذه الدراهم كان قد قضاه، لأنها ليست على ما يعرف الناس من صحة السكة بينهم ونقاء الفضة ثم أرأيت لو اختلفا؟ فقال هذا: لم يقضني، وقال هذا: قد قضيتك، فرجعا إلى اليمن أكان يحلف أنه قد أوفاه، لأنها ليست بوافية إلا بالفضة التي يتعامل بها المسلمون بينهم؟ ". فأما إنفاق المغشوشة فينظر، فإن كان غشها يخفى لم يجز إنفاقها رواية واحدة، وإن كان عيبا ظاهرا فعلى روايتين: إحداهما: المنع أيضا، قال في رواية محمد بن إبراهيم) وقد سأله عن المزيفة فقال " لا يحل، قيل له: إنه يراها ويدري أي شيء هي؟ قال: الغش حرام وإن بين". وكذلك قال في رواية جعفر بن محمد " لا تنفق المكحلة حتى يغسلها. ولا المزيفة والزيوف حتى يسبقها". والرواية الثانية الجواز، قال في رواية الأثرم، وإيراهيم بن الحارث - في الرجل يبيع الدراهم فيها رديئة بدينار؟ قال " ما ينبغي له، لأنه يغر بها المسلمين " فقال له الأثرم: ولا تقول إنها حرام؟ فقال: لا أقول إنها حرام، وإنما كرهته لأنه يغر بها مسلما". وقال أيضا في رواية صالح: في دراهم ببخارى يقال لها المسيبية، عامتها نحاس إلا شيئا يسيرا منها فضة، فقال " إن كان شيئا قد اصطلحوا عليه فيما بينهم، مثل الفلوس التي قد اصطلح الناس عليها، أرجو أن لا يكون به بأس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 فوجه المنع: ما رواه أحد أن ابن مسعود باع نفاية بيت المال، فنهاه عمر، فسبكها. ووجه الإباحة: مارواه أبو بكر بإسناده عن عمر قال " من زافت عليه دراهم فليدخل السوق فيشتر بها سحق ثوب". وقد أجاب أحمد عن هذا الحديث في رواية حنبل فقال " قول عمر: من زافت عليه دراهم يعني نفيت " ولم يكن عمر يأمر بإنفاق الرديئة، وهذا لم يكن في عهد عمر، وإنما حدث بعده. وقد اختلف في أول من ضربها في الإسلام. فحكى سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ: إنَّ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ الْمَنْقُوشَةَ، عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ وَكَانَتْ الدَّنَانِيرُ ترد رومية، والدراهم كسروية. قال أبو الزناد: فأمر عبد الملك الحجاج أن يضرب الدراهم فَضَرَبَهَا سَنَةَ أَرْبَعٍ وَسَبْعِينَ وَقَالَ الْمَدَائِنِيُّ: بَلْ ضَرَبَهَا الْحَجَّاجُ فِي آخِرِ سَنَةِ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بِضَرْبِهَا فِي النَّوَاحِي سَنَةَ سِتٍّ وَسَبْعِينَ. وَقِيلَ: إنَّ الْحَجَّاجَ خَلَّصَهَا تَخْلِيصًا، لَمْ يستقصها، وكتب عليها " الله أحد الله الصمد" فسميت المكروهة. وَاخْتُلِفَ فِي تَسْمِيَتِهَا بِذَلِكَ. فَقَالَ قَوْمٌ: لِأَنَّ الْفُقَهَاءَ كَرِهُوهَا، لِمَا عَلَيْهَا مِنْ الْقُرْآنِ، وَقَدْ يحملها الجنب والمحدث. وقد اختلفت الرواية عن أحمد في حمل المحدث لها. فقال في رواية المروزي " لا يمس الدراهم إلا طاهرا، كما لو كان مكتوبا في ورقة". وقال في رواية أبي طالب وابن منصور " يجوز، لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، والبلوى تعم فعفي عنه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وقال آخرون: لأن الأعاجم كرهوا نقصها، فسميت مكروهة. ثم تولى بَعْدَ الْحَجَّاجِ عُمَرُ بْنُ هُبَيْرَةَ فِي أَيَّامِ يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ فَضَرَبَهَا أَجْوَدَ مِمَّا كانت. ثم تولى بَعْدَهُ خَالِدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْقَسْرِيُّ فَشَدَّدَ فِي تَجْوِيدِهَا. وَضَرَبَ بَعْدَهُ يُوسُفُ بْنُ عُمَرَ، فأفرط في التشديد فيها والتجويد، وكانت الهبيرية والخالدية واليوسفية أجود نقود بني أمية. وكان المنصور لا يأخذ في الخراج من الدراهم غيرها. وحكي يحيى بن النعمان عَنْ أَبِيهِ: أَنَّ أَوَّلَ مَنْ ضَرَبَ الدَّرَاهِمَ مصعب بن الزبير عن أمر عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ سَنَةَ سَبْعِينَ، عَلَى ضرب الأكاسرة، وعليها " بركة" من جانب و "الله" من جانب. ثم غيرها بَعْدَ سَنَةٍ وَكَتَبَ عَلَيْهَا " بِسْمِ اللَّهِ" فِي جانب و " الحجاج " في جانب وقد قال أحمد في رواية محمد بن عبد الله المنادي " ليس لأهل الإسلام أن يضربوا إلا جيدا". وذاك أنه كان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتعاملون بدراهم العجم، فكان إذا زافت عليهم أتوا بها السوق. فقالوا: من يبيعنا بهذه. وذاك أنه لم يضرب النبي - صلى الله عليه وسلم - ولا أبو بكر، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي، ولا معاوية. وَإِذَا خَلَصَ الْعَيْنُ وَالْوَرِقُ مِنْ غِشٍّ كَانَ هُوَ الْمُعْتَبَرَ فِي النُّقُودِ الْمُسْتَحَقَّةِ. وَالْمَطْبُوعِ مِنْهَا بالسكة السلطانية الموثوق بسلامة طبعها، المأمون من تبديلها وتلبيسها هي المستحقة، دُونَ نِقَارِ الْفِضَّةِ وَسَبَائِكِ الذَّهَبِ، لِأَنَّهُ لَا يوثق بهما إلا بالسبك وَالتَّصْفِيَةِ. وَالْمَطْبُوعُ مَوْثُوقٌ بِهِ. وَلِذَلِكَ كَانَ هُوَ الثَّابِتَ فِي الذِّمَمِ فِيمَا يُطْلَقُ مِنْ أَثْمَانِ الْمَبِيعَاتِ، وَقِيَمِ الْمُتْلَفَاتِ. وَلَوْ كَانَتْ الْمَطْبُوعَاتُ مُخْتَلِفَةَ القيم مَعَ اتِّفَاقِهَا فِي الْجَوْدَةِ فَطَالَبَ عَامِلُ الْخَرَاجِ بأعلاها قيمة نظر، فإن كانت من ضرب سلطان الوقت أجيب إليها، لِأَنَّ فِي الْعُدُولِ عَنْ ضَرْبِهِ مُبَايَنَةً لَهُ في الطاعة. وإن كانت من ضرب غيره نظر، فإن كانت هي المأخوذة في خراج من تقدمه. أجيب إليها استصحابا لما تقدم. وإن لم تكن مأخوذه فيما كانت المطالبة بها عبثا وحيفا. وقد قال أحمد، في رواية جعفر بن محمد " لا يصلح ضرب الدراهم إلا في دار الضرب بإذن السلطان، لأن الناس إن رخص لهم ركبوا العظائم". فقد منع من الضرب بغير إذن سلطان لما فيه من الافتيات عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 فأما مكسور الدراهم والدنانير فلا يلزم أخذه في الخراج؛ لالباسه، وَجَوَازِ اخْتِلَاطِهِ، وَلِذَلِكَ نَقَصَتْ قِيمَتُهَا عَنْ الْمَضْرُوبِ الصحيح. وقد قال أحمد، في رواية ابن منصور - وذكر له قول سفيان: إذا شهد رجل على رجل بألف درهم، أو مائة دينار فله دراهم ذلك البلد ودنانير ذلك البلد - قال أحمد " جيد": فقد اعتبر نقد البلد ولم يتعرض لذكر الصحاح. وقد كره أحمد كسره على الإطلاق، لحاجة ولغير حاجة. فقال في رواية جعفر بن محمد - وقد سئل عن كسر الدراهم - فقال " هو عندي من الفساد في الأرض". وقال في رواية المروزي - وقد سئل عن كسر الدراهم الرديئة - فكرهه كراهة شديدة. وقد قال في رواية حرب - وقد سئل عن كسر الدراهم - فكرهه كراهة شديدة. وقال في رواية أبي داود - وقد سئل عن رجل رأي سائلا ومعه درهم صحيح، فأراد أن يعطيه قطعة، هل يكسر منه؟ - فقال " لا، كسر الدراهم وقطعها مكروه". وسئل عن كسر المكسرة من الدراهم، فكرهه وقال " يزيدها كسرا". وقال في رواية بكر بن محمد - وقد سأله عن الرجل يقطع الدراهم والدنانير يصوغ منها - قال " لا تفعل، في هذا ضرر على الناس، ولكن يشتري تبرا مكسورا بالفضة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 فقد أطلق القول في رواية جعفر بن محمد والمروزي وحرب بالمنع. وصرح به في رواية أبي داود وبكر بالمنع مع الحاجة، وهو الصدقة والصياغة. وقد صرح في رواية أبي طالب أنها كراهة تنزيه. فقال: سألت أحمد عن الدراهم تقطع، فقال " لا نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن كسر سكة المسلمين " قيل له: فمن كسره عليه شيء؟ قال " لا، ولكن قد فعل ما نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ". وقوله " لا شيء عليه " معناه: لا مأثم عليه. والوجه في كراهة ذلك قوله تَعَالَى (11: 87 أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نشاء) روي عن محمد بن كعب القرظي قال " عذب قوم شعيب في قطعهم الدراهم. فقالوا: يا شعيب أصلاتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ؟ " وقال زيد بن أسلم " أو أ، نفعل في أموالنا نا نشاء. قال: كان مما نهاهم الله عنه حذف الدراهم، أو قطع الدراهم". وما روي المروزي بإسناده عن علقمة بن عبد الله عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم إلا من بأس ". قال أحمد في رواية المروزي، وحرب " البأس إذا كانت رديئة". واحتج بأن ابن مسعود كان يكسر الزيوف وهو على بيت المال. وَالسِّكَّةُ: هِيَ الْحَدِيدَةُ الَّتِي يُطْبَعُ عَلَيْهَا الدَّرَاهِمُ، فلذلك سميت الدراهم المضروبة سكة، وقد كان ينكره ولاة بني أمية حتى أسرفوا. فَحُكِيَ أَنَّ مَرْوَانَ بْنَ الْحَكَمِ أَخَذَ رَجُلًا قَطَعَ دِرْهَمًا مِنْ دَرَاهِمِ فَارِسٍ فَقَطَعَ يَدَهُ. وقال أحمد، في رواية أبي طالب " إنما كانت دراهمهم المثاقيل، هذه الدراهم البغلية الكبار، وكان يقطع الرجل من حوله وينفقه بالوافي فلذلك قطعه". وروى ابن منصور أنه قال لأحمد: إن ابن الزبير قدم مكة فوجد بها رجلا يقرض الدراهم، فقطع يده، فقال " كانت الدراهم تؤخذ برؤوسها بغير وزن فعده سارقا، وقال: هذا إفراط في التعزير". وَحَكَى الْوَاقِدِيُّ " أَنَّ أَبَانَ بْنَ عُثْمَانَ كَانَ على المدينة فعاقب من قطع الدراهم ثلاثين سوطا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 وهذا محمول على أنه دس المقطوعة مع الثقال فيكون تدليسا، فيكون أبان مصيبا في هذا القدر من التعزير، ولأن هذا إدخال النقص على المال فهو سفه إذا كان لغير حاجة، وقد تكلم قوم على الخبر في النهي عن كسرها، فَكَانَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيُّ - قَاضِي البصرة - يحمله على النهي عن كسره لتعود تبرا لتكون على حالها مرصدة للنفقة، وحمل آخرون النهي على كسرها لتتخذ منها أواني وزخزف. وحمل آخرون النهي على من أخذ أطرافها قرضا بالمقاريض؛ لأن كَانُوا فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ يَتَعَامَلُونَ بِهَا عَدَدًا، فصار أخذ أطرافها بخسا وتطفيفا. فأما الْكَيْلُ فَإِنْ كَانَ مُقَاسَمَةً، فَبِأَيِّ قَفِيزٍ كِيلَ تعدلت فيه القسمة. وقد اختلف كلام الإمام أحمد في المقاسمة. فقال في رواية العباس بن محمد بن موسى الخلال: فيمن كانت في يده أرض من أرض السواد: هل يأكل مما أخرجت من زرع أو تمر، إذا كان الإمام يأخذهم بالخراج مساحة أو صيرها في أيديهم مقاسمة على النصف أو الربع؟ فقال: " يأكل، إلا أن يخاف السلطان. وظاهر هذا: أنه قد أجاز المقاسمة في الخراج. وقال في رواية الحمال " السواد كله أرض خراج". وذكر المقاسمة فقال " المقاسمة لم تكن، إنما هو شيء أحدث". وظاهر هذا أنه لم ير ذلك، إلا أنه لم يصرح بالمنع، لكه أخبر أنه لم يكن في وقت عمر. وإن كان خراجا مقدرا بالقفيز الذي كان في وقت عمر، فَقَدْ حَكَى الْقَاسِمُ: أَنَّ الْقَفِيزَ الَّذِي وَضَعَهُ عُثْمَانُ بْنُ حُنَيْفٍ عَلَى أَرْضِ السَّوَادِ فَأَمْضَاهُ عمر بن الخطاب كان مكيلا لهم يعرف بالشابرقان، قيل وزنه ثمانية أرطال. وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية بكر بن محمد عن أبيه - وقد سأل عن القفيز - فقال: ينبغي أن يكون قفيزا صغيرا " وقال: " قفيز الحجاج صاع عمر ينبغي أن يكون ثمانية أرطال". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 فَإِنْ اُسْتُؤْنِفَ وَضْعُ الْخَرَاجِ كَيْلًا مُقَدَّرًا عَلَى نَاحِيَةٍ مُبْتَدَأَةٍ، رُوعِيَ فِيهِ مِنْ الْمَكَايِيلِ مَا اسْتَقَرَّ مَعَ أَهْلِهَا مِنْ مَشْهُورِ الْقُفْزَانِ بِتِلْكَ الناحية. وَكَانَ السَّوَادُ فِي أَوَّلِ أَيَّامِ الْفُرْسِ جَارِيًا على المقاسمة إلى أن وضع الخراج عليه قباذ ابن فيروز. فارتفع مائة وخمسين ألف ألف درهم بوزن المثقال. وكان الْفُرْسُ عَلَى هَذَا فِي بَقِيَّةِ أَيَّامِهِمْ. وَجَاءَ الإسلام فأقره عمر على المساحة والخراج، فبلغ خراجه في أيام مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ. وجباه زياد مائة ألف ألف وخمسة وعشرين ألف ألف. وَجَبَاهُ عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ مِائَةَ أَلْفِ ألف وخمسة وثلاثين ألف ألف. وجباه الحجاج ثمانية عشر ألف ألف، بغشمة وإخراجه. وجباه عمر بن عبد العزيز مائة وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفٍ بِعَدْلِهِ وَعِمَارَتِهِ. وَكَانَ ابْنُ هُبَيْرَةَ يَجْبِيهِ مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ، سِوَى طَعَامِ الجند وأرزاق الفعلة. وكان يوسف بن عمر يحمل مِنْهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِنْ سِتِّينَ أَلْفَ ألف إل سبعين ألف ألف، يحتسب بِعَطَاءِ مَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَهْلِ الشَّامِ سِتَّةَ عشر ألف ألف. ونفقة البريد أربعة آلاف ألف. وفي الطراز ألفي ألف، وفي بيوت الأحداث والعوانق عشرة آلاف ألف. وقال عبد الرحمن بن جعفر بن سليم: ارتفاع هذا الإقليم الحقير أَلْفَ أَلْفِ أَلْفٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ فَمَا نَقَصَ مِنْ مَالِ السُّلْطَانِ زَادَ فِي مَالِ الرَّعِيَّةِ. وَلَمْ يَزَلْ السَّوَادُ عَلَى الْمِسَاحَةِ وَالْخَرَاجِ إلَى أن عدل بهم المنصور في الدولة العباسية عن الخراج إلى القسمة، لأن السعر رخص فلم تقف الغلات بخراجها. وضرب السواد فجعله مقاسمة. وأشار أبو عبيد عَلِيُّ الْمَهْدِيِّ أَنْ يَجْعَلَ أَرْضَ الْخَرَاجِ مُقَاسَمَةً بِالنِّصْفِ إنْ سَقَى سَيْحًا، وَفِي الدَّوَالِي عَلَى الثلث، وفي الداليب عَلَى الرُّبْعِ لَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ سِوَاهُ، وَأَنْ يَعْمَلَ فِي النَّخْلِ وَالْكَرْمِ وَالشَّجَرِ مِسَاحَةَ خَرَاجٍ، يقرر بحسب قربه من الأسواق، والفرض وإذا بلغ حاصل الغلة ما بقي بخراجين ألزم خَرَاجًا كَامِلًا، وَإِذَا نَقَصَ تَرَكَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فَهَذَا مَا جَرَى فِي أَرْضِ السَّوَادِ. وَاَلَّذِي يُوجِبُهُ الْحُكْمُ: أَنَّ خَرَاجَهَا هُوَ الْمَضْرُوبُ عَلَيْهَا أولا، وتغييره إلى المقاسمة إذا كان سبب حادث اقتضاه اجتهاد الأئمة أمضي مع بقاء سببه. وأعيد إلَى حَالِهِ الْأَوَّلِ عِنْدَ زَوَالِ سَبَبِهِ، إذْ ليس للإمام أن ينقض اجتهاده من تقدمه. فأما تضمين العمال لأموال الخراج والعشر فَبَاطِلٌ لَا يَتَعَلَّقُ بِهِ فِي الشَّرْعِ حُكْمٌ، لأن العامل مؤتمن ليستوفي مَا وَجَبَ وَيُؤَدِّي مَا حَصَلَ، فَهُوَ كَالْوَكِيلِ الَّذِي إذَا أَدَّى الْأَمَانَةَ لَمْ يَضْمَنْ نُقْصَانًا ولم يملك زيادة، وضمان الأموال بمقدار معلوم يقتضي الاقتصاد عَلَيْهِ فِي تَمَلُّكِ مَا زَادَ، وَغُرْمِ مَا نقص وهذا مناف لموضوع العمالة وحكم الأمانة فبطل. وقد نبه أحمد رحمه الله على معنى هذا في رواية أبي طالب: في الذي يتقبل الآجام لا يدري ما فيها، والطسوج يتقبله لا يدري ما فيه من الطعام فهو أشر ما يكون. وكذلك قال في رواية حرب - وقد سئل عن تفسير حديث ابن عمر " القبالات ربا". قال: هو أن يتقبل بالقربة وفيها العلوج والنخل. ولفظ الحديث رواه سفيان عن الأعمش عن عبد الرحمن بن أبي الزناد عن ابن عمر " القبالة ربا " فسماه ربا. ومعناه: حكمه حكم الربا في البطلان وفساد العقد. وعن ابن عباس قال " إياكم والربا. وإياكم أيجعل الغل الذي جعل الله في أعناقهم في أعناقكم. ألا وهي القبالات، وهي الذل والصغار". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 وقد وصى عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - العمال بالرفق والعدل. فروى أبو بكر بإسناده عن القاسم أن عمر بن الخطاب كان إذا بعث عماله قال " إنما أبعثكم أئمة , لا تضربوا المسلمين فتذلوهم، ولا تحرموهم فتظلموهم. وأدروا اللقحة للمسلمين يعني عطاياهم". وبإسناده عن إبراهيم " أن عمر بن الخطاب كان إذا بلغه عن عامله أنه لا يعود المريض، ولا يدخل عليه الضعيف عزله". وبإسناده عن أبي مجلز لا حق بن حميد " أن عمر بن الخطاب بعث عمار بن ياسر أميرا على الكوفة على جيوشهم وعلى صلاتهم، وبعث عبد الله بن مسعود على قضائهم وبيت مالهم، وبعث عثمان بن حنيف على مساحة الأرض، وجعل لهم كل يوم شاة شطرها وسواقطها لعمار بن ياسروبقيتها لعبد الله بن مسعود، وعثمان ين حنيف، ثم قال عمر: ما أرى قرية يخرج منها كل يوم شاة لعمالها إلا سريعا خرابها .... ". فصل فيم تختلف أحكامه من البلاد وبلاد الإسلام تنقسم ثلاثة أقسام: حرم، وحجاز، وما عداهما. فأما مكة فقد ذَكَرَهَا اللَّهُ تَعَالَى بِاسْمَيْنِ فِي كِتَابِهِ " مَكَّةَ، وبكة ". فقال تعال (3: 96 إن أول بيت وضع الناس للذي ببكة مباركا وهدى للعالمين". وقال تعالى (48: 24 وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وكان الله بما تعملون بصيرا) . وقد اختلف الرواية عن أحمد في دخول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَكَّةَ عَامَ الْفَتْحِ هل دخلها عنوة أو صلحا؟ على الروايتين. إحداهما: أنه دخلها، ولم يغنم بها مالا، ولم يسب فيها ذرية، لأن الأمان حصل من النبي - صلى الله عليه وسلم - قبل تقضي الحرب، لأنه روي في الخبر " أن قائلا قال: لا قريش بعد اليوم". فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - " الأحمر والأسود آمن" فالحال لم يتصرم حتى حصل الأمان. وقال في رواية الميموني - وقد سئل عن مكة، هل فتحت صلحا؟ فالتفت إليّ وقال " أليس إنما أخذت بالسيف؟ ". وقال في رواية أبي داود - وقد سئل عن مكة: عنوة هي؟ قال " قد أقرت البلاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 في أيديهم، قيل له: بصلح؟ قال: ولكن أقرها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في أيدي أهلها بقوله " من دخل داره فهو آمن". وقال في رواية حنبل " مكة إنما كره إجارة بيوتها لأنها عنوة، دخلها النبي - صلى الله عليه وسلم - بالسيف، فكره من كره ذلك من أجل العنوة، فلما كانت عنوة كان المسلمون فيها شرعا واحدا، وقال عمر: لا تمنعوا نازلا بليل أو نهار، لأنه لم يجعل لهم ملكا دون الناس". وفيه رواية أخرى: دخلها صلحا عقده مع أبي سفيان، وكان المشروط فيه " أن من أغلق بابه فهو آمن، وَمَنْ تَعَلَّقَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ إلَّا ستة نفر استثنى قتلهم " وَلِأَجْلِ عَقْدِ الصُّلْحِ لَمْ يَغْنَمْ وَلَمْ يَسْبِ". قال في رواية حرب بن إسماعيل " أرض العشر: الرجل يسلم نفسه من غير قتال، وفي يده الأرض فهي عشر، مثل المدينة ومكة". وقال في رواية سعيد بن محمد الرفا - وقد سئل عن مكة قال " دخلت صلحا " واستدل بقوله - صلى الله عليه وسلم - " وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ ". وقال في رواية أبي طالب " إذا كانت أرض حرة: مثل مكة وخراسان، فإنما عليهم الصدقة، لأنهم يملكون رقبتها". قال أبو إسحاق: المسألة على روايتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 قال أبو بكر الخلال، في كتاب الأموال " مكة افتتحت بالسيف وأقرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد أن فتحها بالسيف في منازلهم ". فأما بيع دور مكة وإجارتها فذلك مبني على الروايتين، إن قلنا إنها فتحت عنوة لم يجز بيعها ولا إجارتها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 قال في رواية صالح - وقد سأله: ما تري في شراء المنازل بمكة؟ قال " لا يعجبني، فيه نهي كثير، وبعض الناس يتأول (سواء العاكف فيه والباد) ". وقال في رواية أبي طالب " لا تكرى بيوت مكة إلا أن يعطى لحفظ متاعه، فقيل: أليس اشترى عمر دارا للسجن؟ قال: اشتراها للمسلمين يحبس فيه الفساق، فقيل له: فإن سكن الرجل لا يعطيهم كراء؟ قال: لا يخرج حتى يعطيهم، أنا أكره كراء الحجام ولكن أعطيه أجرته، ولا ينبغي لهم أن يأخذوه". وقال في موضع آخر، من مسائل أبي طالب - وقد سأله عن كراء دور مكة؟ فقال " إنما كره في الأفنية والدور الكبار". ففي أول كلامه المنع من إجارتها للسكنى على الإطلاق، وأجاز إعطاء الكراء لحفظ المتاع، لأن الأجرة تحصل في مقابلة الحفظ ثم قال " فإن سكن أعطاهم ولا ينبغي لهم الأخذ " لأنه يعتقد أنه لا يجوز كراؤها، وقوله في آخر كلامه " إنما كره ذلك في الأفنية والدور والكبار". لا يقتضي أنه لا يكره ساكنوها بالسكنى فيها لحاجتهم إليها فلا يكرونها، وإنما يكرون الكبار، فصرف الكلام إلى ذلك لهذا المعنى. وقال في رواية جعفر بن محمد " شراء دورها مكروه، ويحتجون بأن عمر اشترى دار السجن، وفيه مرفق للمسلمين". وقال في رواية ابن منصور - وقد سأله، هل تكره أجور بيوت مكة وشراؤها والبناء بمنى-؟ فقال " أبوا الكراء، وأما الشراء فقد اشترى عمر دارا للسجن، وأما البناء فأكرهه". فظاهر هذا أنه كره الكراء وأجاز الشراء، وليس هذا على ظاهره، لأنه قد قال في رواية ابنه صالح - وقد سأله: ما ترى في شراء المنازل بمكة، فقال " لا يعجبني". وكذلك قال في رواية جعفر بن محمد " شراء دورها وبيعها مكروه". فسوى بين الشراءة والبيع في المنع. وقوله في رواية ابن منصور " أما الشراء فقد اشترى عمر " معناه: دارا للسجن. وقد بين ذلك في رواية أبي طالب، وقال " اشتراه للمسلمين " ولم يرد بذلك جواز شرائها على الإطلاق. ويحتمل أن يكون عمر اشترى بنيان دار للسجن فسمى ذلك دارا، كما يقال فلان باع داره إذا باع الإطلاق. وقال في موضع آخر من مسائل ابن منصور: في الرجل يسكن مكة بأجرة " إن قدر أن لا يعطيهم فليفعل " لأن عنده أنه لا يجوز إجارتها. وقوله " فإن أعطاهم لم يأثم" لأنه مختلف في جوازه. وقال في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحارث " لايعجبني أجور بيوت مكة " وذكر له عن سفيان أنه كان يكتري ويخرج ولا يعطيهم، فأنكر ذلك وقال " سبحان الله، كيف يجئ هذا؟ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وإنما أنكر هذا من فعل سفيان لأنه إذا اكترى فقد عقد عقدا مختلفا في صحته، فكره مخالفته لأجل اختلاف الناس، لأنه يقع الخبر بخلاف مخبره، لأنه بالعقد ملتزم. وإذا ثبت أنه لا يجوز بيعها ولا إجارتها، فمن سبق إلى شيء منها بقدر حاجته ليست لهم، والنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول يوم فتح مكة " من دخل دار أبي سفيان فهو آمن " ومن أغلق بابه فهو آمن " فكيف سماها داره، ودورهم، وليست لهم؟ وعمر اشترى من صفوان دارا للسجن كيف لا تكون لهم؟ ثم قال: يدخل على الرجل في منزله ومعه حرمته؟ ". وقال أيضا في رواية الأثرم وإبراهيم بن الحارث " أما ما يقول بعض الناس ينزلون معهم، فإنما يكون هذا إذا كان عنده فضل كثير، وكانت دارا عظيمة فيها دور، مثل دار صفوان ابن أمية وما أشبهها، فأما رجل له منزل فيه حرمته فلا ينبغي لأحد أن ينزل عليه وهو كاره". واستعظم ذلك ممن قاله. فأما ما طاف بمكة من نصب حرمها فحكمه في تحريم البيع والإجارة حكمها. قال في رواية مثنى الأنباري وقد سأله: هل يشتري من المضارب - يعني التي بمنى؟ - قال " لا يعجبني أن يشتري ولا يباع، وكذلك الحرم كله". فقد بين أن جميع الحرم حكمه حكم مكة. وقال في رواية أبي طالب " لم يكن لهم أن يتخذوا بمنى شيئا، فإذا اتخذوا فلا يدخله أحد إلا بإذنه، قد كان سفيان اتخذ بها حائطا وبنى فيه بيتين، وربما قال لأصحاب الحديث بقوها فلا يدخل رجل مضرب رجل إلا بإذنه". وظاهر هذا: أنه قد أجاز البناء بمنى على وجه ينفرد به. وقال في رواية ابن منصور " أما البناء بمنى فإني أكرهه". فظاهر هذا: المنع. فهذا كله إذا قلنا إنها فتحت عنوة. فأما إذا قلنا إنها فتحت عنوة صلحا فإنه يجوز بيعها وإجارتها. وقد قال أحمد في رواية أبي طالب فيما تقدم " إذا كان أرضا حرة مثل مكة وخراسان فعليهم الصدقة لأنهم يملكون رقبتها". فقد نص على ملك رقبة مكة وشبهها بخراسان، ومعلوم أن أرض خراسان يجوز بيعها. فأما الحرم فهو ما طاف بمكة من جوانبها. وحده من المدينة دون التنعيم، عند بيوت بني غفار، عَلَى ثَلَاثَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الْعِرَاقِ، عَلَى ثَنِيَّةِ جَبَلٍ بِالْمُنْقَطِعِ عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْ طريق الجعرانة: في شعب أبي عبد الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ابن خلدون عَلَى تِسْعَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ الطَّائِفِ عَلَى عَرَفَةَ مِنْ بَطْنِ نَمِرَةَ، عَلَى سَبْعَةِ أَمْيَالٍ، وَمِنْ طَرِيقِ جُدَّةَ، مُنْقَطِعُ الْعَشَائِرِ، عَلَى عَشَرَةِ أميال. فهذا ما جعله الله حراما لِمَا اخْتَصَّ بِهِ مِنْ التَّحْرِيمِ، وَبَايَنَ بِحُكْمِهِ سائر البلاد، قال الله تعالى (2: 126 وَإِذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا أمنا وارزق أهله من الثمرات) يعنى مكة وحرمها. وقد اختلف في مكة وما حولها، هل صارت حراما بسؤال إبراهيم، أو كانت قبله كذلك؟ فمن الناس من قال: لم تزل حرما آمنا من الجبابرة المسلطين، ومن الخسوف والزلازل، وإنما سأل إبراهيم ربه أن يجعله آمِنًا مِنْ الْجَدْبِ وَالْقَحْطِ، وَأَنْ يَرْزُقَ أَهْلَهُ من كل الثمرات. وهذا ظاهر كلام أحمد في رواية الأثرم، وقد سئل عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - " مكة أُحِلَّتْ لِي سَاعَةٌ مِنْ نَهَارٍ وَلَمْ تَحُلَّ لأحد قبلي " ما وجهه؟ قال: " وجهه أنها كانت حراما ولم تزل". فقد نص على أنها لم تزل حراما. والوجه فيه ما روى سعيد بن أبي سعيد - يعني المقبري - قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا شُرَيْحٍ الْخُزَاعِيَّ يَقُولُ: " إنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا افتتح مكة قام خطيبا، فقال: يا أيها الناس، إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات وَالْأَرْضَ، فَهِيَ حَرَامٌ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، لَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دَمًا، أَوْ يَعْضُدَ بِهَا شَجَرًا، ألا وَإِنَّهَا لَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي وَلَمْ تَحِلَّ لِي إلَّا هَذِهِ السَّاعَةَ غَضَبًا عَلَى أَهْلِهَا، أَلَا وَهِيَ قَدْ رَجَعَتْ عَلَى حَالِهَا بِالْأَمْسِ، أَلَا لِيُبَلِّغْ الشَّاهِدُ الْغَائِبَ، فَمَنْ قَالَ إنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قاتل بها، فقولوا إن الله قد أحلها لرسوله، ولم يحلها لك". ومن الناس من قال: أَنَّ مَكَّةَ كَانَتْ حَلَالًا قَبْلَ دَعْوَةِ إبْرَاهِيمَ كَسَائِرِ الْبِلَادِ، وَأَنَّهَا صَارَتْ بِدَعْوَتِهِ حَرَمًا آمِنًا، حِينَ حَرَّمَهَا، كَمَا صَارَتْ الْمَدِينَةُ بِتَحْرِيمِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - حرما بعد أن كانت حلالا، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - " إن إبراهيم كان عبد الله وخليله، وإني عبد الله ورسوله، وإن إبراهيم حرم مكة، وإني حرمت المدينة، ما بين لابتيها: عضاهها وصيدها، لا يحمل فيها السلاح لقتال، ولا يقطع فيها شجر إلا لعلف بغير". والذي يختص به الحرم م الأحكام التي تباين سائر البلاد خمسة أحكام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 أحدها: أن لَا يَدْخُلُهُ مُحِلٌّ قَدِمَ إلَيْهِ حَتَّى يُحْرِمَ لِدُخُولِهِ إمَّا بِحَجٍّ أَوْ بِعُمْرَةٍ يَتَحَلَّلُ بِهَا من إحرامه: إلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ يَكْثُرُ الدُّخُولُ إلَيْهَا لِمَنَافِعِ أَهْلِهَا، كَالْحَطَّابِينَ، وَالسَّقَّايِينَ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنْهَا غدوة ويعودون إليها عشاء، فَيَجُوزُ لَهُمْ دُخُولُهَا مُحَلِّينَ، لِدُخُولِ الْمَشَقَّةِ عَلَيْهِمْ في الإحرام كلما دخلوا. فَإِنْ دَخَلَ الْقَادِمُ إلَيْهَا حَلَالًا فَقَدْ أَثِمَ ولزمه إحرام على وجه القضاء. فإن أدّى به حجة الإسلام في سنته سقط عنه، وإن أخره إلى السنة الثانية لم يجز عن حجة الإسلام، ولزمه حجة أوعمرة. قال في رواية حرب: فيمن قدم من بلد بعيد تاجرا فدخل مكة بغير إحرام " يرجع إلى الميقات فيهل بعمرة إن كان في غير أيام الحج، وإن كان في أيام الحج أهل بحجة". والوجه فيه: أنه إذا أراد دخولها لزمه أن يحرم، فإذا لم يحرم فقد ترك إحراما قد لزمه، فعليه أن يأتي به، كما لو قال " لله عليّ إحرام" وتركه يلزمه الإتيان به. فإن قيل: إذَا خَرَجَ لِلْقَضَاءِ كَانَ إحْرَامُهُ الَّذِي يَسْتَأْنِفُهُ مُخْتَصًّا بِدُخُولِهِ الثَّانِي، فَلَمْ يَصِحَّ أَنْ يَكُونَ قضاء عن دخوله الأول، فيتعذر القضاء. قيل: إذا خرج للقضاء وحصل في الميقات لزمه أن يتجاوز إلى مكة محرما، فإذا فعل ذلك لم يلزمه معنى آخر. ومثل هذا ما نقوله جميعا لو أحرم بحجة الإسلام أو المنذورة صح، ولا نقول: قد لزمه بالدخول إحرام، وحجة الإسلام لازمة بالشرع، فيؤدي إلى تعذر الواجب. ولا دم عليه على ظاهر ما نقله جرب عنه، لأنه قد أتى بالواجب. الحكم الثَّانِي أَنْ لَا يُحَارَبَ أَهْلُهَا، لِتَحْرِيمِ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - قتالهم " لا يحل لامرئ مسلم يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يَسْفِكَ بِهَا دما". فإن بغوا على أهل العدل قاتلهم عَلَى بَغْيِهِمْ إذَا لَمْ يُمْكِنْ رَدُّهُمْ عَنْ البغي إلا بالقتال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 لِأَنَّ قِتَالَ أَهْلِ الْبَغْيِ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ التي لا تجوز أن تضاع، وكونها مَحْفُوظَةً فِي حَرَمِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ تَكُونَ مُضَاعَةً فِيهِ. فَأَمَّا إقَامَةُ الْحُدُودِ فِي الْحَرَمِ فينظر، فإن أتاها في الحرم أقيمت عليه فِيهِ. وَإِنْ أَتَاهَا فِي الْحِلِّ ثُمَّ لَجَأَ إلَى الْحَرَمِ لَمْ يُقَمْ عَلَيْهِ فِيهِ وَأُلْجِئَ إلى الخروج منه بترك مبايعته ومشاراته. فإذا خرج أقيمت عليه. الحكم الثَّالِثُ تَحْرِيمُ صَيْدِهِ9 عَلَى الْمُحْرِمِينَ وَالْمُحِلِّينَ مِنْ أهل الحرم ومن طرأ عليه. فمن أصاب من صيده وجب عليه فِي الْحِلِّ ضَمِنَهُ، لِأَنَّهُ قَاتِلٌ فِي الْحَرَمِ، ونقل ابن مسور عنه لا يضمنه، وَهَكَذَا لَوْ رَمَى مِنْ الْحِلِّ صَيْدًا فِي الحرم ضمنه لأنه مقتول في الحرم. ولو صيد في الحل قَتْلُ مَا كَانَ مُؤْذِيًا مِنْ السِّبَاعِ وَحَشَرَاتِ الأرض. فإن وقف طائر على غصن شجرة أصلها في الحرم والغصن في الحل فقتله محل في الحل، ففي ضمانه روايتان نقلهما ابن منصور. الحكم الرابع تحريم قطع الشجر الذي أنبته الله تعالى فيه، وَلَا يَحْرُمُ قَطْعُ مَا غَرَسَهُ الْآدَمِيُّونَ، كَمَا لَا يَحْرُمُ فِيهِ ذَبْحُ الْأَنِيسِ مِنْ الْحَيَوَانِ. ولا يجوز أن يرعى حشيش الحرم. قال في رواية الفضل " لا يجتش من حشيش الحرم". ويضمن الشجرة الكبيرة ببقرة، والصغيرة بشاة، والغصن من كل واحدة منهما بسقط من ضمان أصلها، ولا يكون ما استخلف من قَطْعِ الْأَصْلِ مُسْقِطًا لِضَمَانِ الْأَصْلِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 الحكم الخامس أن يمنع مَنْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ مِنْ ذِمِّيٍّ أَوْ معاهد أن يدخل الحرم، لا مقيما ولا مارا به، قال في رواية ابن منصور " ليس لليهودي والنصراني أن يدخل الحرم " فقد منع منه. فإن دخل مشرك عزر إذا دخله بغير إذن ولم يستبح به قتله، فإن دَخَلَهُ بِإِذْنٍ لَمْ يُعَزَّرْ وَأُنْكِرَ عَلَى الْآذِنِ له ولم يستبح به قتله، وَعُزِّرَ إنْ اقْتَضَتْ حَالُهُ التَّعْزِيرَ، وَأُخْرِجَ مِنْهُ المشرك آمنا. وإن أراد مشرك دخول لِيُسْلِمَ فِيهِ مُنِعَ مِنْهُ حَتَّى يُسْلِمَ قَبْلَ دُخُولِهِ. وَإِذَا مَاتَ مُشْرِكٌ فِي الْحَرَمِ حَرُمَ دَفْنُهُ فِيهِ، وَدُفِنَ فِي الْحِلِّ، فَإِنْ دُفِنَ فِي الْحَرَمِ نُقِلَ إلَى الْحِلِّ، إلَّا أَنْ يكون قد بلي فيترك كما ترك فيه أموات الجاهلية. قال أحمد في رواية أبي طالب: " فضلت مكة بغير شيء: يصلي فيها أي ساعة شاء من ليل أو نهار، ولا يقطع الصلاة فيها شيء، تمر المرأة بين يدي الرجل، ومن دخل كان آمنا، والصيد". فأما سائر المساجد فهل يجوز أن يؤذن لهم في دخولها؟ على روايتين إحداهما: جواز ذلك، ما لم يقصدوا بالدخول استبذالها بأكل ونوم، فإن قصدوا ذلك منعوا. والثانية: لا يجوز أن يؤذن لهم بحال. فأما الحجاز فقال الأصمعي: سمي حجازا لأنه حجز بين تهامة ونجد، فما سِوَى الْحَرَمِ مِنْهُ مَخْصُوصٌ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ بِأَرْبَعَةِ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ لَا يَسْتَوْطِنَهُ مُشْرِكٌ من ذمي ولا معاهد. قال أحمد في رواية بكر بن محمد - وقد سأله عن قول النبي - صلى الله عليه وسلم - الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 " أخرجوا المشركين من بلاد العرب" قال: " إنما الجزيرة موضع العرب، وأما الموضع الذي يكون فيه أهل السواد والفرس فليس هي جزيرة العرب". وقال أيضا في رواية عبد الله في حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - " لا يبقى دينان بجزيرة العرب " وتفسيره: ما لم يكن في يد فارس والروم". وقال في رواية حنبل" قال: عمر: جزيرة العرب - يعني المدينة وما والاها، لأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أوصى بإجلاء اليهود منها، فليس لهم أن يقيموا بها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وَقَدْ رَوَى عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن عتبة بن مسعود عن عائشة رضي الله عنها قَالَتْ " كَانَ آخِرُ مَا عَهِدَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: لَا يَجْتَمِعُ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ دِينَانِ". وَأَجْلَى عمر أَهْلَ الذِّمَّةِ عَنْ الْحِجَازِ وَضَرَبَ لِمَنْ قَدِمَ منهم: تاجرا، أوصانعا مقام ثلاثة أيام يخرجون بَعْدَ انْقِضَائِهَا. فَجَرَى بِهِ الْعَمَلُ وَاسْتَقَرَّ عَلَيْهِ الحكم. فيمنع أهل الذمة من استيطان الحجاز، ويمكنون مِنْ دُخُولِهِ، وَلَا يُقِيمُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ فِي مَوْضِعٍ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، فَإِذَا انْقَضَتْ صُرِفَ عَنْ مَوْضِعِهِ، وَجَازَ أَنْ يُقِيمَ فِي غَيْرِهِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ثُمَّ يُصْرَفَ إلَى غَيْرِهِ فَإِنْ أَقَامَ بِمَوْضِعٍ مِنْهُ أَكْثَرَ مِنْ ثلاثة أيام عزر، ولم يكن معذورا. الحكم الثاني أن لا يدفن فيه أمواتهم وينقلون - إنْ دُفِنُوا فِيهِ - إلَى غَيْرِهِ، لِأَنَّ دَفْنَهُمْ فيه مستدام فصار كالاستيطان إلا أن تبعد مَسَافَةُ إخْرَاجِهِمْ مِنْهُ، وَيَتَغَيَّرُوا إنْ أُخْرِجُوا، فَيَجُوزُ لأجل الضرورة أن يدفنوا فيه. الحكم الثالث أن لمدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - حرما محظورا بَيْنَ لَابَتَيْهَا، يُمْنَعُ مِنْ تَنْفِيرِ صَيْدِهِ، وَعَضُدِ شجره، كحرمة مكة. الحكم الرابع أرض الحجاز اختص رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِفَتْحِهَا، وهي تنقسم قسمين. أحدها: صدقات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - التي أخذها بحقيه. فإن حقيه: خمس الخمس من الفيء والغنائم. وأما أربعة أخماس الفيء مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب، فهل كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وحقا له؟ على وجهين: أحدهما: كان حقا له، ذكره أبو بكر في كتاب التفسير في سورة الحشر فقال: " جعل الله ما لَمْ يُوجِفْ عَلَيْهِ الْمُسْلِمُونَ بِخَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ لرسوله خاصة دون غيره , ولم يجعل فيه لأحد نصيبها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 واحتج بحديث عمر " كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله - صلى الله عليه وسلم - مما لم يوجف عليه بخيل ولا ركاب، فكانت لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - خالصا دون المسلمين". والوجه الثاني: لم يكن له بل كان لجماعة المسلمين، لأن أحمد قال في رواية أبي النضر وبكر بن محمد " والفيء ما صولح عليه من الأرضين، وجزية الرؤوس وخراج الأرضين. فهذا لكل المسلمين فيه حق الغني والفقير على ما يرى الإمام". واحتج بأن عمر فرض لأمهات المؤمنين في الفيء ولأبناء المهاجرين سوى العطاء. وكان يقول " لكل أحد في المال حق إلا العبد". فلو كان النبي - صلى الله عليه وسلم - خالصا لجعله بعد موته لأهل الديوان، كما جعل سهمه من خمس الغنيمة لأهل الديوان. فقال في رواية أبي طالب " سهم الله والرسول واحد، فلما مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعله أبو بكر في الكراع والسلاح، فهو كما جعله لا يجوز صرف لغير أهل الديوان". وكذلك قال في رواية صالح " يعزل الخمس، يعطاه أهل الديوان: المقاتلة دون غيرهم ". والوجه لهذا القائل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " ما لي مما أفاء الله عليكم إلا الخمس، والخمس مردود عليكم". وهذا ينبغي أن يكون له أربعة أخماسه. فما صار إليه من أحد هَذَيْنِ الْحَقَّيْنِ فَقَدْ رَضَخَ مِنْهُ لِبَعْضِ أَصْحَابِهِ وترك باقيه لنفقته وصلاته ومصالح المسلمين، وحكمه حين مات عنه: أَنَّهَا صَدَقَاتٌ مُحَرَّمَةُ الرِّقَابِ مَخْصُوصَةُ الْمَنَافِعِ، مَصْرُوفَةٌ الارتفاع فِي وُجُوهِ الْمَصَالِحِ الْعَامَّةِ. وَمَا سِوَى صَدَقَاتِهِ فإنها أَرْضُ عُشْرٍ لَا خَرَاجَ عَلَيْهَا لِأَنَّهَا مَا بَيْنَ مَغْنُومٍ، مُلِكَ عَلَى أَهْلِهِ، أَوْ مَتْرُوكٍ أسلم عليه أهله، وكلا الأرضين معشور لا خراج عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 فأما الصدقات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمحصورة، لأنه قيض عنها فتعينت. هي ثمانية: أحدها: - وَهِيَ أَوَّلُ أَرْضٍ مَلَكَهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - من وَصِيَّةُ مُخَيْرِيقٍ الْيَهُودِيِّ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ. حكى الواقدي: أن مخيريق الْيَهُودِيَّ كَانَ حَبْرًا، مِنْ عُلَمَاءِ بَنِي النَّضِيرِ، آمَنَ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَوْمَ أُحُدٍ. وَكَانَتْ لَهُ سَبْعَةُ حَوَائِطَ. وَهِيَ: المثبت، والصافية، والدلال وحسنى، وبرقة، والأعواف، والمشربة، فَوَصَّى بِهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أَسْلَمَ، وَقَاتَلَ مَعَهُ بِأُحُدٍ حَتَّى قتل. وَالصَّدَقَةُ الثَّانِيَةُ: أَرْضُهُ مِنْ أَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ بِالْمَدِينَةِ، وَهِيَ أَوَّلُ أَرْضٍ أَفَاءَهَا اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ فَأَجْلَاهُمْ عَنْهَا وَكَفَّ عَنْ دِمَائِهِمْ، وَجَعَلَ لَهُمْ مَا حَمَلَتْهُ الْإِبِلُ مِنْ أَمْوَالِهِمْ إلَّا الْحَلَقَةَ - وَهِيَ السِّلَاحُ - فَخَرَجُوا بِمَا اسْتَقَلَّتْ إبِلُهُمْ إلى الشام وخيبر، وحصلت أرضهم لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إلَّا ما كان ليامين بْنِ عُمَيْرٍ، وَأَبِي سَعْدِ بْنِ وَهْبٍ فَإِنَّهُمَا أسلما قبل المظفر، فَأَحْرَزَ لَهُمَا إسْلَامُهُمَا جَمِيعَ أَمْوَالِهِمَا، ثُمَّ قَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا سِوَى الْأَرْضَيْنِ مِنْ أَمْوَالِهِمْ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 عَلَى الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ، دُونَ الْأَنْصَارِ، إلَّا سَهْلَ بْنَ حُنَيْفٍ، وَأَبَا دُجَانَةَ سِمَاكَ بْنَ خَرَشَةَ، فإنهما ذكرا فقرا، فأعطاهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وحبس الأرض عَلَى نَفْسِهِ، فَكَانَتْ مِنْ صَدَقَاتِهِ، يَضَعُهَا حَيْثُ شاء، وَيُنْفِقُ مِنْهَا عَلَى أَزْوَاجِهِ ثُمَّ سَلَّمَهَا عُمَرُ إلَى الْعَبَّاسِ وَعَلِيٍّ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا لِيَقُومَا بمصرفها. الصدقة الثالثة، والرابعة، والخامسة: ثلاث حصون من خيبر، وكانت خيبر ثَمَانِيَةَ حُصُونٍ: نَاعِمَ، وَالْقُمُوصَ، وَشَقَّ، وَالنَّطَاةَ، وَالْكَتِيبَةَ، والوطيح، والسلالم، وحصن الصعب ابن مُعَاذٍ، وَكَانَ أَوَّلَ حِصْنٍ فَتَحَهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - منها: ناعم، ثم القموص، ثُمَّ حِصْنَ الصَّعْبِ بْنِ مُعَاذٍ. وَكَانَ أَعْظَمَ حُصُونِ خَيْبَرَ، وَأَكْثَرَهَا مَالًا وَطَعَامًا وَحَيَوَانًا، ثُمَّ شق، والنطاة والكتيبة، فهذه الحصون الستة فتحها عنوة، ثم افتتح الوطيح والسلالم، وهو آخِرُ فُتُوحِ خَيْبَرَ صُلْحًا بَعْدَ أَنْ حَاصَرَهُمْ، وَمَلَكَ مِنْ هَذِهِ الْحُصُونِ الثَّمَانِيَةِ: ثَلَاثَةَ حُصُونٍ: الكتيبة، والوطيح، وَالسَّلَالِمَ. أَمَّا الْكَتِيبَةُ: فَأَخَذَهَا بِخُمُسِ الْغَنِيمَةِ. وَأَمَّا الوطيح، وَالسَّلَالِمُ: فَهُمَا مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ؛ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 لأنه فتحهما صُلْحًا. فَصَارَتْ هَذِهِ الْحُصُونُ الثَّلَاثَةُ - بِالْفَيْءِ وَالْخُمُسِ - خَالِصَةً لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَتَصَدَّقَ بِهَا، وَكَانَتْ مِنْ صَدَقَاتِهِ. وَقَسَّمَ الْخَمْسَةَ الباقية بين الغانمين. الصدقة السادسة: النصف من فدك. كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما فتح خيبر خافه أَهْلُ فَدَكَ فَصَالَحُوهُ، بِسِفَارَةِ مُحَيِّصَةَ بْنِ مَسْعُودٍ، على أن له نصف أرضهم ونخيلهم. يُعَامِلُهُمْ عَلَيْهِ، وَلَهُمْ النِّصْفُ الْآخَرُ، فَصَارَ النِّصْفُ مِنْهَا مِنْ صَدَقَاتِهِ مُعَامَلَةً مَعَ أَهْلِهَا بِالنِّصْفِ من ثمرها، والنصف خالص لهم إلى أن أجلاهم عمر فِيمَنْ أَجْلَاهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَنْ الْحِجَازِ. فَقَوَّمَ فَدَكَ، وَدَفَعَ إلَيْهِمْ نِصْفَ الْقِيمَةِ فَبَلَغَ ذَلِكَ سِتِّينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ، وَكَانَ الَّذِي قَوَّمَهَا مالك ابن التَّيْهَانِ، وَسَهْلُ بْنُ أَبِي حَثْمَةَ، وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ، فَصَارَ نِصْفُهَا مِنْ صَدَقَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ونصفها لكافة المسلمين. ومصرف النصفين الآن سواء. الصدقة السابعة: الثلث من وَادِي الْقُرَى، لِأَنَّ ثُلُثَهَا كَانَ لِبَنِي عُذْرَةَ وثلثاها لليهود. فصالحهم رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى نِصْفِهِ، فَصَارَتْ أَثْلَاثًا: ثُلُثُهَا لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - هو صدقاته - وَثُلُثُهَا لِبَنِي عُذْرَةَ إلَى أَنْ أَجَلَاهُمْ عُمَرُ عنها، وقوم حقهم منها، فبلغت قيمته تسعين ألف دينار، فدفعها عمر إلَيْهِمْ وَقَالَ لِبَنِي عُذْرَةَ، " إنْ شِئْتُمْ أَدَّيْتُمْ نصف ما أعطيت ونعطيكم النصف" فأعطوا خمسة وأربعين أَلْفَ دِينَارٍ، فَصَارَ نِصْفُ الْوَادِي لِبَنِي عُذْرَةَ، وَالنِّصْفُ الْآخَرُ: الثُّلُثُ مِنْهُ فِي صَدَقَاتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالسُّدُسُ مِنْهُ لكافة المسلمين، ومصرف جميع النصف سواء. الصدقة الثامنة: موضع بسوق بالمدينة يقال له مهزور، استقطعها مروان من عثمان. فتقم بها الناس عليه. فاحتمل أن يكون إقطاع تصمين لَا تَمْلِيكٍ، لِيَكُونَ لَهُ فِي الْجَوَازِ وَجْهٌ. فَأَمَّا مَا سِوَى هَذِهِ الصَّدَقَاتِ الثَّمَانِيَةِ مِنْ أمواله، فذكر الْوَاقِدِيُّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِثَ مِنْ أَبِيهِ عَبْدِ اللَّهِ أُمَّ أيمن الحبشية، واسمها بركة خمسة أجمال، وقطعة من غنم، وَمَوْلَاهُ شُقْرَانَ وَابْنَهُ صَالِحًا، وَقَدْ شَهِدَ بَدْرًا. وورث من أمه آمنة بنت وهب دارها التي ولد فيه بمكة فِي شِعْبِ بَنِي عَلِيٍّ. وَوَرِثَ مِنْ زَوْجَتِهِ خديجة بنت خويلد دَارَهَا بِمَكَّةَ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ خَلْفَ سُوقِ الْعَطَّارِينَ، وَأَمْوَالًا. وَكَانَ حَكِيمُ بْنُ حِزَامٍ اشْتَرَى لِخَدِيجَةَ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ مِنْ سُوقِ عُكَاظٍ بِأَرْبَعِمِائَةِ دِرْهَمٍ، فَاسْتَوْهَبَهُ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى الله عليه وسلم - وأعتقه، وزوجه أم أيمن، فولدت منه أُسَامَةَ بَعْدَ النُّبُوَّةِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 فَأَمَّا الدَّارَانِ، فَإِنَّ عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ باعهما بد هجرة النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ قِيلَ لَهُ " فِي أَيِّ دورك تنزل؟ فقال: وهل ترك لنا عقيل من رباع؟ ". فلم يرجع فيما باعه عقيل لأنه غلب عَلَيْهِ، وَمَكَّةُ دَارُ حَرْبٍ يَوْمَئِذٍ، فَأَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْمُسْتَهْلَكِ، فَخَرَجَتْ هَاتَانِ الدَّارَانِ مِنْ صَدَقَاتِهِ. وأما دور أَزْوَاجَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة، فكان قد أعطى كل واحدة منهن الدار التي تسكنها، وَوَصَّى بِذَلِكَ لَهُنَّ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ عَطِيَّةَ تَمْلِيكٍ فَهِيَ خَارِجَةٌ مِنْ صَدَقَاتِهِ، وَإِنْ كَانَ عَطِيَّةَ سُكْنَى وَإِرْفَاقٍ فَهِيَ مِنْ جُمْلَةِ صدقاته، وقد دخلت اليوم في مسجده، وَلَا أَحْسَبُ مِنْهَا مَا هُوَ خَارِجٌ عَنْهُ. وَأَمَّا رَحْلُ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - فَقَدْ رَوَى هِشَامٌ الْكَلْبِيُّ عَنْ عَوَانَةَ بْنِ الحكم: أن أبا بكر دفع إلى علي آلَةَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ورايته وَحِذَاءَهُ، وَقَالَ " مَا سِوَى ذَلِكَ صَدَقَةٌ". وَرَوَى الْأَسْوَدُ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ " تُوُفِّيَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَدِرْعُهُ مَرْهُونَةٌ عِنْدَ يَهُودِيٍّ بِثَلَاثِينَ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ". فَإِنْ كَانَتْ دِرْعُهُ الْمَعْرُوفَةُ بِالْبَتْرَاءِ، فَقَدْ حُكِيَ أَنَّهَا كَانَتْ عَلَى الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ يَوْمَ قُتِلَ فَأَخَذَهَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ زِيَادٍ، فلما قتل المختار عبيد الله صار الدِّرْعُ إلَى عَبَّادِ بْنِ الْحُصَيْنِ الْحَنْظَلِيِّ ثُمَّ إن خالد بن عبد الله بن خالد بْنِ أُسَيْدٍ - وَكَانَ أَمِيرَ الْبَصْرَةِ - سَأَلَ عَبَّادًا عَنْهَا فَجَحَدَهُ إيَّاهَا فَضَرَبَهُ مِائَةَ سَوْطٍ، فَكَتَبَ إلَيْهِ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ " مِثْلُ عَبَّادٍ لا يضرب، إنما كان ينبغي أن تقتله، أو تعفو عنه" ثم لم يعرف للدرع خبر بعد ذلك. وأما البردة فقد حكى أبان بن تغلب: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان وهبها لكعب بن زهير فاشتراها منه معاوية، فهي التي تلبسها الْخُلَفَاءُ. وَحَكَى ضَمْرَةُ بْنُ رَبِيعَةَ: أَنَّ هَذِهِ البردة كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أعطاها أهل أيلة فأخذها منهم عبد الله بْنُ خَالِدِ بْنِ أَبِي أَوْفَى وَكَانَ عَامِلًا عليهم من قبل مروان ابن محمد وبعث بها إليه، وكانت في خزانته حَتَّى أُخِذَتْ بَعْدَ قَتْلِهِ. وَقِيلَ: اشْتَرَاهَا أَبُو الْعَبَّاسِ السَّفَّاحُ بِثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ. وَأَمَّا الْقَضِيبُ فَهُوَ مِنْ تَرِكَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الَّتِي هِيَ صَدَقَةٌ، وَقَدْ صَارَ مَعَ البردة من شعار الخلفاء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 وأما الْخَاتَمُ فَلَبِسَهُ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ عُمَرُ، ثُمَّ عثمان، حتى سقط من يد عثمان فِي بِئْرٍ فَلَمْ يَجِدْهُ. فَهَذَا شَرْحُ مَا قبض عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من صدقته وتركته، والله أعلم. فأما عَدَا الْحَرَمَ وَالْحِجَازَ مِنْ سَائِرِ الْبِلَادِ فَقَدْ تقدم ذكر انقسامه إلى أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ أَسْلَمَ عَلَيْهِ أَهْلُهُ، فَيَكُونُ أرض عشر. وقسم أحياه المسلمون فيكون ما أحيوه معشورا. وقسم ملكه الغانمون عنوة ولم يقفه الإمام فيكون معشورا. وقسم صولح عليه أهله فَيَكُونُ فَيْئًا يُوضَعُ عَلَيْهِ الْخَرَاجُ. وَهَذَا الْقِسْمُ يَنْقَسِمُ قِسْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا: مَا صُولِحُوا عَلَى زَوَالِ مُلْكِهِمْ عَنْهُ فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ، وَيَكُونُ الْخَرَاجُ أجرة لا تسقط بإسلام أهله، ويؤخذ من المسلم والذمي. وَالثَّانِي: مَا صُولِحُوا عَلَى بَقَاءِ مُلْكِهِمْ عَلَيْهِ فيجوز بيعه، ويكون الخراج أجرة يسقط بِإِسْلَامِهِمْ، وَيُؤْخَذُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ، وَلَا يُؤْخَذُ من المسلمين. فأما أَرْضِ السَّوَادِ فَإِنَّهَا أَصْلُ، حُكْمِ الْفُقَهَاءِ فِيهَا يعتبر به نظائرها. وهذا السواد مشاربه إلَى سَوَادِ كِسْرَى الَّذِي فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عهد عمر من أرض العراق، سمي سوادا، لسواده بالزروع وَالْأَشْجَارِ؛ لِأَنَّهُ حِينَ تَاخَمَ جَزِيرَةَ الْعَرَبِ الَّتِي لا زرع فيها ولا شجركانوا إذا خرجوا من أرضهم إليه ظهرت لهم خضرة الزروع وَالْأَشْجَارِ. وَهُمْ يَجْمَعُونَ بَيْنَ الْخُضْرَةِ وَالسَّوَادِ فِي الاسم. فَسَمُّوا خُضْرَةَ الْعِرَاقِ سَوَادًا. وَسُمِّيَ عِرَاقًا لِاسْتِوَاءِ أَرْضِهِ حِينَ خَلَتْ مِنْ جِبَالٍ تَعْلُو وَأَوْدِيَةٍ تَنْخَفِضُ. وَالْعِرَاقُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: هُوَ الِاسْتِوَاءُ. وَحَدُّ السَّوَادِ طُولًا: مِنْ حَدِيثَةِ الْمَوْصِلِ إلَى عبادان، وعرضا: مِنْ عُذَيْب الْقَادِسِيَّةِ إلَى حُلْوَانَ. يَكُونُ طُولُهُ مائة وستين فرسخا، وعرضه ثمانين فرسخا، إلا قريات قد سماها أحمد، وذكرها أبو عبيد: الحيرة، وبانقيا، وأرض بني صلوبا، وقرية أخرى كانوا صلحا. وروى أبو بكر بإسناده عن عمر أنه كتب: " إن الله عز وجل قد فتح ما بين العذيب إلى حلوان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 وأما العراق: فهو في العرض مستوعب لعرض السواد عرفا، ويقصر عن طوله في العرض، لأن أوله في شرقي دجلة: العلث. وعن غَرْبَيْهَا حَرْبِيٌّ، ثُمَّ يَمْتَدُّ إلَى آخِرِ أَعْمَالِ الْبَصْرَةِ مِنْ جَزِيرَةِ عَبَّادَانِ، فَيَكُونُ طُولُهُ مِائَةً وخمسة وعشرين فرسخا، يقصر عن طول السواد بخمسة وثلاثين فرسخا، وعرضه: ثَمَانُونَ فَرْسَخًا كَالسَّوَادِ. قَالَ قُدَامَةُ بْنُ جَعْفَرٍ: يكون ذلك مُكَسَّرًا عَشَرَةَ آلَافِ فَرْسَخٍ. وَطُولُ الْفَرْسَخِ: اثْنَا عَشَرَ أَلْفِ ذِرَاعٍ بِالذِّرَاعِ الْمُرْسَلَةِ، وَيَكُونُ بِذِرَاعِ الْمِسَاحَةِ – وَهِيَ الذِّرَاعُ الْهَاشِمِيَّةُ – تِسْعَةَ آلَافِ ذِرَاعٍ فيكون ذلك إذا ضرب في مثله، وهو تَكْسِيرُ فَرْسَخٍ فِي فَرْسَخِ: اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ أَلْفَ جَرِيبٍ وَخَمْسِمِائَةِ جَرِيبٍ، فَإِذَا ضُرِبَ ذَلِكَ فِي عَدَدِ الْفَرَاسِخِ، وَهِيَ عَشَرَةُ آلَافِ فَرْسَخٍ: بَلَغَ مِائَتَيْ أَلْفِ أَلْفٍ وَخَمْسَةً وَعِشْرِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ، يَسْقُطُ مِنْهَا بِالتَّخْمِينِ مَوَاضِعُ التِّلَالِ وَالْآكَامِ، والسباخ، والآجام ومدارس الطرق والمحاج، ومجاري الانهار، وعراص المدن والقرى، ومواضع الأرحاء، والبريدات والقناطر، والشاذروانات، والبيادر، ومطارح القصب وأتانين الآجر وغير ذلك، وَهُوَ خَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ يَصِيرُ الْبَاقِي مِنْ مِسَاحَةِ الْعِرَاقِ: مِائَةَ أَلْفِ أَلْفٍ جريب، وخمسين وسبعون أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ يُرَاحُ مِنْهَا النِّصْفُ، وَيَكُونُ النِّصْفُ مَزْرُوعًا مَعَ مَا فِي الْجَمِيعِ مِنْ المخل والكرم والأشجار. وإذا أضاف إلَى مَا ذَكَرَهُ قُدَامَةُ فِي مِسَاحَةِ الْعِرَاقِ ما زاد عليها من بَقِيَّةَ السَّوَادِ وَهُوَ خَمْسَةٌ وَثَلَاثُونَ فَرْسَخًا كَانَتْ الزيادة على تلك المساحة السواد قَدْرَ رُبْعِهَا، فَيَصِيرُ ذَلِكَ مِسَاحَةَ جَمِيعِ مَا يصلح للزرع والغرس من أرض السواد. وَقَدْ يَتَعَطَّلُ مِنْهُ بِالْعَوَارِضِ وَالْحَوَادِثِ مَا لَا ينحصر. وقد قيل: إنه كانت بلغت مساحة السواد أيام كسرى مائة ألف ألف وخمسين ألف ألف جريب، وكان مبلغ ارتفاعه مائتي ألف ألف وسبعة وثمانين أَلْفِ دِرْهَمٍ، بِوَزْنِ سَبْعَةٍ، لِأَنَّهُ كَانَ يَأْخُذُ عن كل جريب درهما وقفيزا، وأن مساحة ما كان يزرع عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، مِنْ اثْنَيْنِ وَثَلَاثِينَ أَلْفَ أَلْفِ جَرِيبٍ إلَى سِتَّةٍ وثلاثين ألف ألف جريب. وإذا ثبت بما ذكرنا حدود السواد ومساحة مزارعه فالكلام في فتحه وفي حكمه. فمذهب أحمد أنه فتح عنوة، ولم يقسمه عمر بين الغانمين، بل وقفه على كافة المسلمين وأقره في يد أَرْبَابِهِ بِخَرَاجٍ ضَرَبَهُ عَلَى رِقَابِ الْأَرْضَيْنِ، يَكُونُ أجرة لها، يؤدي في كل عام وإن لم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 يتقدر مدتها، لعموم المصلحة فيها؛ فصارت بِوَقْفِهِ لَهَا فِي حُكْمِ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ خَيْبَرَ وَالْعَوَالِي وَأَمْوَالِ بَنِي النَّضِيرِ، وَيَكُونُ الْمَأْخُوذُ مِنْ خَرَاجِهَا مَصْرُوفًا فِي الْمَصَالِحِ، وَلَا يَكُونُ فَيْئًا مَخْمُوسًا لِأَنَّهُ قَدْ خمس. ويكون مقصورا على الجيش لأنه وقف على جميع الْمُسْلِمِينَ. فَصَارَ مَصْرِفُهُ فِي عُمُومِ مَصَالِحِهِمْ الَّتِي منها أرزاق الجيش، وتحصين الثغور، وبناء القناطر والجوامع، وكرى الْأَنْهَارِ، وَأَرْزَاقُ مَنْ تَعُمُّ بِهِمْ الْمَصْلَحَةُ: مِنْ القضاة، والفقهاء، والقراء، والأئمة، والمؤذنين، فإن فضل بعد ذلك كان لجميع المسلمين ممن تعم بهم المصلحة ومن لا مصلحة فيه الغني والفقير. وقد نص أحمد على أن عمر لم يقسمه بين الغانمين، بل وقفه. فقال في رواية حنبل " أوقفه عمر ولم يقسمه. أشار علي عليه بذلك". وقال في رواية المروزي " إنما أذهب إلى أن السواد وقف وعمر ترك السواد ولم يقسمه". وقال في رواية الميموني " السواد إنما أوقف على من يجئ من المسلمين". وقال في رواية الأثرم، وذكر قوله تعالى (والذين جاءوا من بعدهم) " تأول عمر في ذلك أن الأرض موقوفة لمن يجئ من بعدهم". فقد نص على أنها وقف، وأن عمر لم يقسمها. فعلى هذا لا يجوز بيع رقابها، رواية واحدة. وهل يجوز شراؤها، مع منعه لبيعها؟ على روايتين: إحداهما لا يجوز نقل ذلك الجماعة فقال: في رواية المروزي - وقد سئل عن الرجل يريد الخروج إلى العراق، ترى له أن يبيع داره؟ فلم ير له، وقال " لا يفعل". وقال في رواية إسحاق - وقد سئل عن الرجل يكون له الضيعة في السواد، وعليه دين، هل يبيع ويقضي دينه؟ قال " لا ". وقال أيضا في رواية محمد بن أبي حرب مثل ذلك. وقال في رواية حنبل" السواد وقف، ولا أرى بيع أرضه، ولا شراءه". فقد نقل الجماعة عنه المنع على الإطلاق. والوجه فيه: أنها وقف عمر على جماعة المسلمين، فجرى مجرى سائر الوقوف وقد روى عن عمر منع الشراء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 فروى أبو بكر بإسناده عن الشعبي قال " جاء عتبة بن فرقد إلى عمر فقال: إني اشتريت أرضا من أرض السواد، قال: من أهلها؟ قال: نعم. قال: فإن أهل الكوفة هم أهلها". وبإسناده عن ابن عباس " أنه كره شراء أرض الحيرة. وقال في رواية يعقوب بن بختان - وقد سأله عن سكنى بغداد وشراء دورها - فقال " اشتر منه ولا تسكنه أو غلة بقيمة ولا يعجبني بيعه". وقال أيضا في رواية أبي طالب " يشتري ما يفوته ويقوت عياله، فما كان أكثر من القوت فلا". وقد أجاز شراء ما تدعو الحاجة إليه منها، وقد أطلق القول في رواية مهنا، وقد سأله عن بيع أرض السواد وشراءهان فرخص في الشراء ولم يعجبه البيع. فقد أطلق جواز الشراء. وهذا محمول على قدر الحاجة، لأن للحاجة تأثيرا في جواز البيع، بدليل بيع العرايا، وهو بيع رطب بتمر خرصا يجوز للحاجة إلى شراء الرطب، وإن كان ممنوعا منه في غير العرايا وكذلك قرض الخبز والعجين يجوز للحاجة وإن كان ممنوعا منه في غير القرض ويكون الشراء في الحقيقة استنقاذا وفداء وغير ممتنع أن يقع العقد على وجه الاستنقاذ فيكون جائزا في حق الباذل للعوض. وهو ممنوع منه في حق الأخذ، بدليل فك الأسير من أيدي المشركين بعوض بذله لهم، فهو استنقاذ وفداء مباح من جهة الباذل، ومحرم من جهة الأخذ، وهما سواء، لأن ذلك العقد مع مشرك، وكذلك هاهنا سبب عقد الخراج مع المشركين. وكذلك إذا شهد شاهد على رجل أنه أعتق عبده أو طلق زوجتهن ورد الحاكم شهادته ثم إنه ابتاع العبد من سيده وخالع المرأة من زوجها بعوض بذله له، فإن ذلك جائزا في حق الباذل؛ لأنه استنقاذ للعبد من الرق، وللزوجة من وطء الحرام، وهو عوض محرم من جهة السيدة والزوج لأنه يأخذه بغير حق، كذلك البائع للسواد. وقد قال أحمد في رواية المروزي " والحجة في شراء السواد ولا يباع فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، رخصوا في شراء المصاحف، وكرهوا بيعها". وهو استحسان، وليس هو القياس. وقد قيل: إن المعارضة عليها بالابتياع على طريق الإجارة. فتكون إجارة بلفظ البيع. وهذا لا يخرج عن قول أحمد؛ لأنه أجاز الشراء وكره البيع، ولأنه خص ذلك بالحاجة ولو كان على وجه الإجارة لم يمنع البائع منه، ولم يخصه بالحاجة. فأما المعاوضة على ما أحدث فيها من بناء وغراس، فالمنصوص عنه المنع في رواية يعقوب بن بختان، في الرجل يقول: أبيعك النقض ولا أبيعك رقبة الأرض " هذا خداع ". وكذلك قال في رواية المروزي إنه قالف " أبيعك النقض ولا أبيعك رقبة الأرض هذا خداع". فقد منع من ذلك، وقد قيل فيه: إنه إنما منع من ذلك لأن البناء في العادة يكون من تراب الأرض الوقف فلم يصح بيعه لأنه من جملته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 وتعليل أحمد خلاف هذا، لأنه قال " هذا خداع". ومعناه أنه يجعل بيع البناء طريقا إلى أخذ العوض عن الأرض، والذرائع معتبرة في الأصول. ونقل بكر بن محمد عن أبيه عن أحمد جواز بيع ذلك، فقال في رجل يري أن يوصي بثلث داره " أكره أن يبتاع الدار من أرض السواد، إلا أن يباع البناء فإذا كان لرجل مال وله دار نظر إلى بناء الدار والمال، فيكون قد أخرج ثلثه من المال والبناء". وهذه الرواية أصح؛ لأن البناء ملكه لم يدخل في الوقت فجاز له بيعه. فإن مات وعليه دين، وفي يده من أرض السواد، فهل فهل يتعلق قضاء دينه من إجازة ذلك؟ ظاهر كلام أحمد معلوم. قال المروزي وفوزان: مات أبو عبد الله وعليه خمسة وأربعون دينارا دين، فأوصى أن يعطي من الغلة واللفظ لفوزان. ولفظ المروزي " أن يعطي من الغلة حتى يستوفي حقه". والوجه فيه: أنها في يده بعقد الإجارة، والإجارة لا تبطل بموت المستأجر، فكانت باقية على حكم ملكه. فإن كان عليه صداق أوجبه أو دين في ذمته، فسلم الأرض لمن له عليه الدين، جاز نص عليه في رواية محمد بن حرب في رجل لامرأته عليه صداق، ولهي ضيعة بالسواد فقال " امرأته وغيرها سواء، يسلمها إليها". ومعناه: أنه يسلم حقه في منافعها، ولم يرد تسليم رقبتها. قال في رواية المروزي " أنت تعلم أن هذه لا تقيمنا، وإنما آخذها على الاضطرار " يعني غلة السواد. وقال " التجارة أحب إليّ من غلة بغداد، إنما أختار التجارة على غلة بغداد، لأن الأصل فيه أنها وقف، وقد تداولتها أيدي السلاطين وغيرهم بالبيع والإقطاع، ورفع أيدي القوم الذين أقرهم عمر فيها، والخراج الذي هو أجرة، فجعلها في حكم المغصوبة. ومن أصله: الزرع في الأرض المغصوبة لصاحب الأرض، ولهذا اختار النقل منها لأنها مال ضرورة، والضرورة قد تؤثر في الإباحة. قال في رواية المروزي - وقد سئل: هل ترى أن يرث الرجل من أرض السواد؟ فقال: " وهل يجري فيه ميراث؟ ". وإنما منع من الميراث لأنه يقتضي نقل الملك في الرقبة، ولا يجوز ذلك. وقال في رواية حنبل " السواد وقفة عمر على المسلمين، فمثله كمثل رجل أوقف دارا على رجل وعلى ولده لاتباع، وهي للذي أوقف عليه، فإذا مات الموقوف عليه كان لولده بالوقف الذي أوقف الأب لا يباع، وكذلك السواد لا يباع، ويكون الذي بعده يملك منه مثل الذي ملك قبله على ذلك، وقفا أبدا للمسلمين". فقد بين أنه يكون في يد الوارث على ما كان في يده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 فأما إجارة أرض السواد فيجوز نص عليه في رواية محمد بن أبي حرب والأثرم " إذا استأجر أرضا من أرض السواد ممن هي في يده بأجرة معلومة فجائز، ويكون فيها مثلهم " وذلك لأنها في يده بحكم الإجارة، لأن الخراج أجرة عنها، فجاز أن يؤجر ما استأجره كسائر الأشياء. ونقل الجماعة عنه في بيوت مكة " لا تكري". قال في رواية حنبل " مكة إنما كره إجارة بيوتها لأنها عنوة، دخلها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالسيف، فلما كانت عنوة كان المسلمون فيها شرعا واحدا، وعمر إنما ترك السواد لذلك". وقال في رواية أبي طالب والأثرم وابن منصور " لا تكرى بيوت مكة". فقد منع من إجارة بيوت مكة مع كونها عنوة. والفرق بينها وبين أرض السواد: أن الفاتح لأرض السواد - وهو عمر - أذن في إجارتها، وهو أن ضرب الخراج على من انتفع بها وهو أجرة عنها والفاتح لمكة - وهو النبي - صلى الله عليه وسلم - أذن في الانتفاع بها من غير أجرة فقال " مكة مناخ لا تباع رباعها ولا تؤجر بيوتها". فإن قيل: فإذا كان الخراج أجرة فلم سماه أحمد صغارا؟. وقد قال في رواية حنبل، وقد سئل عن شراء الضياع والمساكن بالسواد فقال " مالك يؤدي الخراج، وهو الصغار " قيل: لما روى أبو بكر بإسناده عن أبي عياض أن عمر ابن الخطاب قال " لا تشتروا من رقيق أهل الذمة شيئا، فإنهم أهل خرج، ولا من أراضيهم، ولا يقر أحدكم بالصغار في عنقه وقد نجاه الله منه". فسماه صغارا. وبإسناده عن عمر قال: " إنكم على شريعة حسنة من دينكم، ما لم تشاركوا الكفار في صغارهم وقد نجاكم الله من ذلك". وبإسناده عن رجل من جهينة قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - " من أقر بالطسق بعد إذ أنقذه الله منه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين". وبإسناده عن عبد الله بن عمرو قال " سأخبركم من المرتد على عقبيه: رجل أسلم فحسن إسلامه، ثم هاجر فحسنت هجرته ثم جاهد فحسن جهاده، ثم عمد إلى نبطي بيده أرض فأخذها غرسها وورقها، ثم أقبل عليها يعمرها وترك جهاده، فذلك المرتد على عقبيه". ولأنه قد أخذ شبها من الجزية، وهو أنه لا يبتدأ به المسلم، وإنما يبتدأ به الكفار ولأنه يلحق بمال الفيء. قال في رواية إسحاق، وقد سئل عن الرجل يستأجر أرضا من أرض السواد فقال: " يزارع رجلا أحب إلى من أن استأجر أرضا". إنما اختار أحمد المزارعة على الإجارة لأن الإجارة أخذ عوض عن المنفعة، وقد منع من المعاوضة عليها، والمزارعة هي بذل عوض منفعة العامل، فلهذا اختاره على الإجارة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 فصل في إحياء الموات، واستخراج المياه ومن أحيى مواتا ملكه بإذن الإمام وغير إذنه. والموات: مَا لَمْ يَكُنْ عَامِرًا، وَلَا حَرِيمًا لِعَامِرٍ وإن كان متصلا بعامر. وقد قال على بن سعيد: قلت لأحمد " يجعل للأرض حد من القرية حد من القربة في القرب والبعد؟ فقال: قد روى عن الليث بن سعد غلوة ونحوه، ولا أدري ما هذا؟. فقد أنكر قول الليث في اعتباره بعد الموات من العمارة بهذه المسافة. ويستوي في إحياء الموات بعده من العامر هذه المسافة وغيرها. وقد قال أحمد، في رواية أبي الصقر - وقد سئل عن رجل أحيى أرضا ميتة، وأحيى آخر إلى جنب أرضه قطعة أرض، وبقيت بين القطعتين رقعة، فجاء رجل، فدخل بينهما على الرقعة هل لهما أن يمنعاه؟ فقال " ليس لهما أن يمنعاه، إلا أن يكونا أحيوها". وقال أيضا في رواية على بن سعيد " إذا كانت أرض بجنب المدينة أو القرية، فإذا لم يكن في أخذها ضرر على أحد فهي لمن أحياها". وقال رواية يوسف بن موسى " الميتة التي لم يملكها أحد تكون في البرية، وإن كانت بين القرى فلا ". وهذا محمول على أنها حريم لعامر، أو متعلق بمصلحته. وصفة الإحياء فيما يراد للسكنى - حيازتها ببناء حائط، ولا يشترط فيه تسقيف البناء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 وفيما يراد للزرع والغرس أحد شيئين: إما حيازتها بحائط، أو سوق الماء إليها إن كانت يبسا، أو حبسه عَنْهَا إنْ كَانَتْ بَطَائِحَ، لِأَنَّ إحْيَاءَ الْيَبِسِ بِسَوْقِ الْمَاءِ إلَيْهِ، وَإِحْيَاءَ الْبَطَائِحِ بِحَبْسِ الْمَاءِ عنها حتى يمكن زرعها وغرسها. ولا يقوم جَمْعُ التُّرَابِ الْمُحِيطِ بِهَا حَتَّى يَصِيرَ حَاجِزًا بينها وبين غيرها مقام الحائط. ولا يشترط فيه حرثها، وهو يَجْمَعُ إثَارَةَ الْمُعْتَدِلِ، وَكَسْحَ الْمُسْتَعْلِي، وَطَمَّ الْمُنْخَفِضِ. وقد قال أحمد في رواية على بن سعيد، " الإحياء لا يكون إلا بأن يحوط عليها، فإن كرب حولها لم يستحق بذلك حتى يحوط" وقال " الإحياء من احتاط حائطا أو احتفر بئرا ومن احتاط يمنع الناس والدواب فهي له، زرع فيها أو لم يزرع، ومن حفر بئرا فحريمه خمسة وعشرون ذراعا، فلم يجعل جمع التراب بالكوب إحياء، واشترط الحائط أو حصول مائها. وكذلك قال في رواية عبد الله " والإحجار ليس بشيء إلا أن يرفعه بحائط" وكذلك قال في رواية أحمد بن أبي عبيدة في أرض سبخة لا رب ضرب عليها الناس، فقال: " هل بني عليها حائط؟.فقيل له: فقال: لا، إلا أن يبني عليها حائطا". وقال في رواية إسحاق " والأرض الموات إنما يكون إحياؤها بأن يعمل فيها أو يحفر، ويبني فيكون بهذا أحياها، ولا يكون بالزرع أحياها". وقد روى أبو بكر بإسناده عن جابر بن عبد الله عن النبي - صلى الله عليه وسلم - " من احتاط حائطا على أرض فهي له". فظاهر هذا: أنه يملكها بالحائط ولم يعتبر التسقيف في ذلك ولا الحرث، كما قال " من قتل قتيلا فله سلبه" ولأن الموات هو الذي لا منفعة فيه. وإذا أحاط عليها حائطا انتفع بها بجبر وطيج وجمع الماشية فخرج بذلك عن حكم الموات. فإن أقام عليها بعد الإحياء من قام بزرعها وحراثتها كَانَ الْمُحْيِي مَالِكًا لِلْأَرْضِ، وَالْمُثِيرُ مَالِكًا لِلْعِمَارَةِ، فَإِنْ أَرَادَ مَالِكُ الْأَرْضِ بَيْعَهَا جَازَ، وَإِنْ أراد مالك العمارة بيعها فقياس المذهب أنه يجوز له بيع العمارة التي هي الإثارة، سواء كان فيها أعيان قائمة: كشجر أو زرع أو لم يكن. ويكون الأكار شريكا في الأرض بعمارته لأنه قد قال في الغاصب " إذا كانت له آثار في العين كان شريكا بها ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 ونقل ابن المنصور عنه كلاما يدل على أنه لا يجوز بيع ذلك، فقال" قلت لأحمد: الأكار يريد أن يخرج من الأرض فيبيع الزرع؟ قال: لا يجوز بيعه حتى يبدو صلاحه. قلت: فيبيع عمل يديه وما عمل في الأرض وليس فيها زرع؟ قال: لم يجب له بعد شيء، إنما يجب بعد التمام". وَإِذَا تَحَجَّرَ عَلَى مَوَاتٍ كَانَ أَحَقَّ بِإِحْيَائِهِ مِنْ غَيْرِهِ. فَإِنْ تَغَلَّبَ عَلَيْهِ مَنْ أَحْيَاهُ كان المحيي أحق به من المتحجر. فلو أَرَادَ الْمُتَحَجِّرُ عَلَى الْأَرْضِ بَيْعَهَا قَبْلَ إحْيَائِهَا لم يجز على ظاهر كلام أحمد، لأنه قال في رواية على بن سعيد " فإن كرب حولها لم يستحق بذلك حتى يحوط". وقوله " لم يستحق بذلك" يعني لم يستحق الملك، وإذا لم يملك لم يصح البيع. فإن تَحَجَّرَ وَسَاقَ الْمَاءَ وَلَمْ يَحْرُثْ فَقَدْ مَلَكَ الماء وما يحري فِيهِ مِنْ الْمَوَاتِ وَحَرِيمَهُ، وَلَمْ يَمْلِكْ مَا سواه من المحجور. وما أحياه من الموات معشور لم يجز أن يضرب عليه الخراج، سواء سقي بماء الخراج أو بماء العشر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وقد قال أحمد في رواية أبي الصقر في أرض موات في دار الإسلام لا يعرف لها أرباب ولا للسلطان عليها خراج، أحياها رجل من المسلمين فقال " من أحيا أرضا في غير أرض السواد فإن للسلطان عليه فيها العشر، ليس له غير ذلك". فأما حَرِيمُ مَا أَحْيَاهُ مِنْ الْمَوَاتِ لِسُكْنَى أَوْ زرع فهو مُعْتَبَرٌ بِمَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ تِلْكَ الْأَرْضُ من طريقها وفنائها ومجرى مائها شربا ومغيضا. وقد قال في رواية يوسف بن موسى " الميتة التي لا يملكها أحد تكون في البرية في الصحراء وإن كانت بين القرى فلا ". وقال في رواية على بن سعيد) وقد سأله عن مروج قرب المدينة: هي مرعى للدواب، ويقبر فيها الموتى ولا يعرف لها مالك؟ قال: " لا أرى أن يتعرض لها إذا كانت بهذه الحال قريبة من القرية". وقال بعد ذلك، إذا لم يكن في أخذها ضرر على أحد فهي لمن أحياها". وإذا انحسر نهر عظيم " كدجلة، والفرات، النيل، عن موضع لم يجز لأحد أن يجيبه. نص عليه في رواية ابن إبراهيم في دجلة يصير في وسطها جزيرة فيها طرق فحازها قوم، فقال: " كيف يحوزونها وهي شيء لا يملكه أحد؟ ". وقال في رواية يوسف بن موسى " إذا نضب الماء عن جزيرة إلى فناء رجل، هل يبني فيها؟ قال: لا، فيه ضرر على غيره، لأن الماء يرجع". وقد مصرت الصحابة البصرة على عهد عمر، وَجَعَلُوهَا خُطَطًا لِقَبَائِلِ أَهْلِهَا، فَجَعَلُوا عَرْضَ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 شَارِعِهَا الْأَعْظَمِ - وَهُوَ مِرْبَدُهَا - سِتِّينَ ذِرَاعًا، وَجَعَلُوا عَرْضَ مَا سِوَاهُ مِنْ الشَّوَارِعِ عِشْرِينَ ذِرَاعًا، وَجَعَلُوا عَرْضَ كُلِّ زُقَاقٍ سَبْعَةَ أَذْرُعٍ، وَجَعَلُوا وسط كل خطة رحبة فسيحة لمربط خَيْلِهِمْ وَقُبُورِ مَوْتَاهُمْ، وَتَلَاصَقُوا فِي الْمَنَازِلِ، وَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ إلَّا عَنْ رَأْيٍ اتَّفَقُوا عَلَيْهِ أو نص لَا يَجُوزُ خِلَافُهُ. وَقَدْ رَوَى بَشِيرُ بْنُ كَعْبٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: " إذَا تَدَارَأَ القوم في طريق فلنجعل سبعة أذرع". وروى أبو حفص العكبري بإسناده عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " إذا اختلفتم في الطريق فاجعلوها سبعة أذرع". وفي لفظ آخر" إن اختصمتم في سكة فاجعلوها سبعة أذرع ثم ابنوا". وبإسناده عن عبادة بن الصامت قال: " إن من قضاء رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قضى في الرحبة تكون بين الناس ثم يريد أهلها البناء فيها قضى أن يترك الطريق منها سبعة أذرع، قال: وكانت تلك الطريق تسمى الميتاء". قال أحمد في رواية المروزي وقد سئل عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - " إذا اختلف في الطريق جعل سبعة أذرع" فقال " هذا قبل أن تقع الحدود، فإذا وقعت لم يحرك منها شيء". وقال في رواية ابن القاسم " إذا كان الطريق واسعا كبيرا مثل هذه الشوارع؟ قال " نعم وهو أشد ممن أخذ حدا بينه وبين شريكه، لأن هذا يأخذ من واحد، وهذا لجماعة المسلمين ". وقال أبو عبد الله بن بطة " إنما قال ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأرباب الأموال المشتركة إذا احتاجوا إلى قسمتها واختلفوا في مبلغ حاجاتهم، ومقدار مسالكهم، فقال " اجعلوها سبع أذرع" وذلك كله قبل إخراج الطريق، فأما إذا طرقت الطرق وعرفت المعالم فقد حرم الله على واضع أن يضع فيها شيئا إلا باتفاق الأئمة". فأما الْمِيَاهُ الْمُسْتَخْرَجَةُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: مِيَاهُ أَنْهَارٍ، وَمِيَاهُ آبَارٍ، وَمِيَاهُ عُيُونٍ فَأَمَّا الْأَنْهَارُ فَتَنْقَسِمُ ثلاثة أقسام: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 أحدها: ما أَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ كِبَارِ الْأَنْهَارِ الَّتِي لم يحفرها الآدميةن، كدجلة والفرات فماؤها يتسع للزرع والشاربة، وَلَيْسَ يُتَصَوَّرُ فِيهِ قُصُورٌ عَنْ كِفَايَةٍ، وَلَا ضرورة تدعو فيه إلى تنازع او مشاحة، فَيَجُوزُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ النَّاسِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهَا لِضَيْعَتِهِ شُرْبًا، وَيَجْعَلَ مِنْ ضَيْعَتِهِ إلَيْهَا مغيضا، لا يمنع من أخذ شربا، ولا من جعل لضيعته إليها مغيضا. والقسم الثاني: ما أجراه الله من صغار الأنهار، فهو عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَعْلُوَ مَاؤُهَا وَإِنْ لم يحبس، ويكفي جميع أهله منغير تَقْصِيرٍ، فَيَجُوزُ لِكُلِّ ذِي أَرْضٍ مِنْ أَهْلِهِ أن يأخذ من شراب أرضه في وقت حاجته، لا يُعَارِضُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، فَإِنْ أَرَادَ قَوْمٌ أَنْ يَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ نَهْرًا يُسَاقُ إلَى أَرْضٍ أُخْرَى أَوْ يَجْعَلُوا إلَيْهِ مَغِيضَ نَهْرٍ آخَرَ، نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مُضِرًّا بِأَهْلِ هَذَا النَّهْرِ منع منه، وإن لم يضر لَمْ يُمْنَعْ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَسْتَقِلَّ مَاءُ هَذَا النَّهْرِ وَلَا يَعْلُوَ لِلشُّرْبِ إلَّا بِحَبْسِهِ، فللأول من أهل هذا النهر أن يبتدئ يسقي أرضه حتى ي يكتفي منه ويرتوي ثُمَّ يَحْبِسَهُ مَنْ يَلِيهِ حَتَّى يَكُونَ آخِرُهُمْ أرضا آخرهم حبسا. وقدر ما يحبسه من الماء في أرضه إلى الكعبين، فإذا بلغ الكعبين أرسل إلى الآخر، نص عليه أحمد في رواية أبي طالب، فقال: " والماء الجاري فإنه يحبس على أهل العوالي بقدر الكعب " وذكر الحديث. ولفظ الحديث ما رواه أبو بكر بإسناده عن ثعلبة بن أبي مالك القرظي قال: " قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في مهزور، وادي بني قريظة، أن الماء إلى الكعبين، بحبس الأعلى على الأسفل. وبإسناده عن عَمْرو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " قضى في سيل مهزور أن يمسك حتى يبلغ الكعبين، ثم يرسل الأعلى على الأسفل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وقد قيل: إن هذا القضاء ليس على العموم في الأزمان والبلدان وإنما هو مقدر بالحاجة وقد تختلف من خمسة أوجه: أحدها: بِاخْتِلَافِ الْأَرْضِينَ: فَمِنْهَا مَا يَرْتَوِي بِالْيَسِيرِ، وَمِنْهَا مَا لَا يَرْتَوِي إلَّا بِالْكَثِيرِ. وَالثَّانِي: بِاخْتِلَافِ ما فيها فإن للزروع من الشرب قدرا، وللنخيل وَالْأَشْجَارِ قَدْرًا. وَالثَّالِثُ: بِاخْتِلَافِ الصَّيْفِ وَالشِّتَاءِ، فَإِنَّ لكل واحد من الزمانين قدرا. والرابع: باختلافهما فِي وَقْتِ الزَّرْعِ وَقَبْلِهِ، فَإِنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْوَقْتَيْنِ قَدْرًا. وَالْخَامِسُ: بِاخْتِلَافِ حَالِ الْمَاءِ فِي بَقَائِهِ وَانْقِطَاعِهِ، فَإِنَّ الْمُنْقَطِعَ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا يَدَّخِرُ وَالدَّائِمُ يُؤْخَذُ مِنْهُ مَا يُسْتَعْمَلُ. فلاختلافه من هذه الأوجه الخمسة لا يمكن تَحْدِيدُهُ بِمَا قَضَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - في أحدها، فكان معتبرا بالعرف والعادة المعهودة عند الحاجة إليه. فإن سَقَى رَجُلٌ أَرْضَهُ أَوْ فَجَّرَهَا فَسَالَ مِنْ مَائِهَا إلَى أَرْضِ جَارِهِ فَغَرَّقَهَا لَمْ يَضْمَنْ، لأنه تصرف في ملكه بمباح. وقد نص أحمد على نظير هذا في رواية البرزاطي " إذا أحرق حقلا له فتعدت النار إلى زرع غيره فأحرقه لا ضمان عليه". فَإِنْ اجْتَمَعَ فِي ذَلِكَ الْمَاءِ سَمَكٌ كَانَ الثاني أحق بصيده من الأول، لأنه في ملكه. وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية موسى بن أبي موسى " في رجل اشترى قطعة باقلي أو شيء ونضب الماء عنها فصار فيها سمك فالسمك لصاحب الأرض" فحكم به لصاحب الأرض دون مشتري الباقلي. القسم الثالث من الأنهار ما احتفر الآدميون مِنْ الْأَرْضِينَ، فَيَكُونُ النَّهْرُ بَيْنَهُمْ مِلْكًا مُشْتَرَكًا، كالرزق المشترك بَيْنَ أَهْلِهِ لَا يَخْتَصُّ أَحَدُهُمْ بِمِلْكِهِ. فَإِنْ كان النَّهْرُ بِالْبَصْرَةِ يَدْخُلُهُ مَاءُ الْمَدِّ فَهُوَ يَعُمُّ جَمِيعَ أَهْلِهِ لَا يَتَشَاحُّونَ فِيهِ لِاتِّسَاعِ مَائِهِ. وَلَا يَحْتَاجُونَ إلَى حَبْسِهِ لِعُلُوِّهِ بِالْمَدِّ إلَى الحد الذي يرتوي منه جميع الأرضين، ثم يغيض بعد الارتواء في الجزائر، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِ الْبَصْرَةِ مِنْ الْبِلَادِ الَّتِي لا مدّ فيها ولا يجوز، فالنهر مملوك لم احتفره من أرباب الأرضين، لا حقّ لِغَيْرِهِ فِي شُرْبٍ مِنْهُ وَلَا مَغِيضَ، وَلَا يجوز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 لِوَاحِدٍ مِنْ أَهْلِهِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِنَصْبِ عِبَارَةٍ عليه، ولا يرفع ماءه لإدارة رحى فيه إلا عن مرضاة جَمِيعِ أَهْلِهِ لِاشْتِرَاكِهِمْ فِيمَا هُوَ مَمْنُوعٌ مِنْ التَّفَرُّدِ بِهِ، كَمَا لَا يَجُوزُ فِي الزُّقَاقِ المشترك أَنْ يَفْتَحَ إلَيْهِ بَابًا، وَلَا أَنْ يُخْرِجَ إليه جَنَاحًا، وَلَا يَمُدَّ عَلَيْهِ سَابَاطًا إلَّا بِمُرَاضَاةِ جميعهم. وقد أومأ أحمد إلى هذا في رواية صالح: في نهر ماؤه عيون يخرج من فوق بقدر، والماء لأقوام معروفين لهم أرضون فوق المدينة وتحتها، والذين لهم ضياع فوق يحتاجون أن يأخذوا الماء لأرضهم من فوق المدينة، وفيه ضرر على أخل المدينة فقال " إن كان هذا النهر لهؤلاء القوم احتفروه وأنفقوا عليه، فليس لأحد أن يمنعهم وإن كان هذا شيئا لم يزل هكذا فللقوم أن يمنعوهم حتى يستوي الناس في شربهم على ما كانوا ". فقد نص على أنه إن كان ملكهم كان على ما اتفقوا عليه، وليس لأحدهم أن ينفرد بشيء منه. ثم لا يخلو حال شربهم مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَتَنَاوَبُوا عَلَيْهِ بالأيام إن قلوا، وبالساعات إن كثروا، أو يقترعوا إنْ تَنَازَعُوا فِي التَّرْتِيبِ، حَتَّى يَسْتَقِرَّ لَهُمْ تَرْتِيبُ الْأَوَّلِ وَمَنْ يَلِيهِ، وَيَخْتَصُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ بِنَوْبَتِهِ لَا يُشَارِكُهُ غَيْرُهُ فِيهَا، ثُمَّ هم من بعده على ما ترتبوا. القسم الثاني: أن يقتسموا فم النَّهْرِ عَرْضًا بِخَشَبَةٍ تَأْخُذُ جَانِبَيْ النَّهْرِ، وَيُقْسَمُ فيها حفور مقدرة بحقوقهم من الماء يدخل فِي كُلِّ حُفْرَةٍ مِنْهَا قَدْرُ مَا اسْتَحَقَّهُ صاحبها من خمس أو عشر، يأخذه إلى أرضه على الأدوار. القسم الثالث: أن يحتفر كل واحد منهم في وجه أرضه شربا مُقَدَّرًا لَهُمْ بِاتِّفَاقِهِمْ، أَوْ عَلَى مِسَاحَةِ أَمْلَاكِهِمْ، ليأخذ من ماء النهر قدر حقه ما يساوي فيه جميع شركائه، ثم ليس لَهُ أَنْ يَزِيدَ فِيهِ، وَلَا لَهُمْ أَنْ ينقصوا منه، وَلَا لِوَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤَخِّرَ شُرْبًا مُقَدَّمًا، كما ليس لواحد من أهل الزقاق المشترك أَنْ يُؤَخِّرَ بَابًا مُقَدَّمًا، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يُقَدِّمَ شُرْبًا مُؤَخَّرًا وَإِنْ جَازَ أَنْ يُقَدِّمَ بَابًا مُؤَخَّرًا، لِأَنَّ فِي تَقْدِيمِ الْبَابِ الْمُؤَخَّرِ اقْتِصَارًا عَلَى بَعْضِ الْحَقِّ، وَفِي تَقْدِيمِ الشُّرْبِ المؤخر زيادة عَلَى الْحَقِّ. فَأَمَّا حَرِيمُ هَذَا النَّهْرِ الْمَحْفُورِ في الموات فقد قيل: إنه يعتبر بعرف الناس في مثله، وكذلك القناة، لأن القناة نهر باطن، وقيل: حريم النهر ملقى طينه، وقيل: حريم الْقَنَاةِ مَا لَمْ يَسِحْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وكان جامعا للماء، وقد قلنا في حريم ما أحياه لسكنى أو زرع: إنه مُعْتَبَرٌ بِمَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْهُ تِلْكَ الْأَرْضُ في طريقها وفنائها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 فأما الْآبَارُ فَلِحَافِرِهَا ثَلَاثَةُ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَحْفِرَهَا للسابلة فَيَكُونُ مَاؤُهَا مُشْتَرَكًا، وَحَافِرُهَا فِيهِ كَأَحَدِهِمْ. قَدْ وَقَفَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - بِئْرَ رُومَةَ، وكان يَضْرِبُ بِدَلْوِهِ مَعَ النَّاسِ، وَيَشْتَرِكُ فِي مَائِهَا. إذا اتسع شرب وسقي الزروع. فإن ضاق عَنْهُمَا كَانَ شُرْبُ الْحَيَوَانِ أَوْلَى بِهِ مِنْ الزَّرْعِ، وَيَشْتَرِكُ فِيهَا الْآدَمِيُّونَ وَالْبَهَائِمُ. فَإِنْ ضَاقَ عَنْهُمَا كَانَ الْآدَمِيُّونَ بِمَائِهَا أَحَقَّ مِنْ الْبَهَائِمِ. الحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَحْتَفِرَهَا لِارْتِفَاقِهِ بِمَائِهَا، كَالْبَادِيَةِ إذَا انْتَجَعُوا أَرْضًا وَحَفَرُوا فِيهَا بِئْرًا لِشُرْبِهِمْ وَشُرْبِ مَوَاشِيهِمْ كَانُوا أَحَقَّ بِمَائِهَا مَا أَقَامُوا عَلَيْهَا في نجعهم، وَعَلَيْهِمْ بَذْلُ الْفَضْلِ مِنْ مَائِهَا لِلشَّارِبِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، فَإِذَا ارْتَحَلُوا عَنْهَا صَارَتْ الْبِئْرُ سَابِلَةً، فتكون خاصة الابتداء عامة الِانْتِهَاءِ، فَإِنْ عَادُوا إلَيْهَا بَعْدَ الِارْتِحَالِ عَنْهَا كانوا وغيرهم فيها سواء، ويكون السابق إليها أحق بها. وقد قال أحمد في رواية حرب: في رجل سبق إلى أفواه قني عتيبة، فذهب رجل فسبق إلى بعض أفواه القني من فوق أو من أسفل. فقال الأول: ليس لك ذلك لأني سبقت إلى أصل القناة. فقال أحمد: " إذا لم يكن ملكا لأحد فلكل إنسان ما سبق إليه". الحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَحْتَفِرَهَا لِنَفْسِهِ مِلْكًا، فَمَا لَمْ يبلغ بالحفر إلَى اسْتِنْبَاطِ مَائِهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهَا. وقد قال أحمد في رواية حرب " وإذا حفر بئرا ولم يبلغ الماء لا يكون إحياء". فقد نص على أنه لا يملكها بذلك. وإذا استنبط ماءها استقر ملكه عليها لكمال الْإِحْيَاءِ إلَّا أَنْ يَحْتَاجَ إلَى طَيٍّ فَيَكُونُ طَيُّهَا مِنْ كَمَالِ الْإِحْيَاءِ وَاسْتِقْرَارِ الْمِلْكِ. ثُمَّ يصير مالكها لها ولحريمها وهو خمسة وعشرون ذراعا سواء كانت بئر الناضح أو بئر العطن، وهي التي تحفر لشرب الماشية. وإن سبق إلى بئر قد حفرها الكفار صارت ملكا له بالسبق إليها بحريمها، وهو خمسون ذراعا. وقد نص على هذا التقدير في رواية حرب فقال " من حفر بئرا فله خمسة وعشرون ذراعا حاليها حريمها، والعادية خمسون ذراعا وهي التي لم تزل ". قيل له: فبئر الزرع؟ قال: " ما أدري كيف هذا؟ قد روى ثلاثمائة واختلفوا". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ويمكن أن يحمل هذا التقدير على قدر حاجته، وهو ممر الناضح، فأما إن كان دون حاجته فيكون له قدر الحاجة، والعدد المذكور. والوجه في هذا التقدير: ما روى أبو بكر الخلال في كتاب المزارعات والشرب قال: حدثنا الحسن - يعني ابن علي بن عفان - قال أخبرنا يحيى - يعني ابن آدم - قال أبنأنا أبو حماد عن سفيان بن سعيد عن إسماعيل بن أمية عن الزهري عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: " حريم البئر العادي خمسون ذراعا، وحريم البئر الهدئ خمسة وعشرون ذراعا". قال: وقال سعيد بن المسيب " حريم قليب الزرع ثلاثمائة ذراع". قال: وقال الزهري " للعين وما حولها ثلاثمائة ذراع". ورواه أبو الحسن الدارقطني في سننه بإسناده عن سعيد بن المسيب عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - " حريم البئر البدئ خمسة وعشرون ذراعا، وحريم البئر العادي خمسون ذراعا، وحريم العين السائحة ثلاثمائة ذراع، وحريم الزرع ستمائة ذراع". فقد رواه متصلا بهذه الزيادة. وإذا اسْتَقَرَّ مِلْكُهُ عَلَى الْبِئْرِ وَحَرِيمِهَا فَهُوَ أَحَقُّ بمائها، ولا تصير ملكا له قبل استقائه وحيازته، وإنما يملكه بعد الحيازة، وله أن يمنع من التصرف بالاستيفاء، فإن عاليه واستقى لم يسترجع فيه. وقد نص على هذا في رواية أبي طالب، فقال: " لا يبيع نقع ماء البئر لأحد، فإن استقاه وحمله فما باع يكون لعمله". وقال أيضا في رواية حرب في رجل له ماء في قناة أو شرب في قناة، وليست له أرض " فلا يبيع ذلك الماء، نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الماء، ولا نعلم أحدا رخص في بيع الماء إلا الحسن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 وقال أيضا في رواية أبي طالب - وقد سئل عن الرجل يكون له الماء فيشارك صاحب الأرض كرهه، وقال " نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الماء". فقد منع من المشاركة بالماء لصاحب الأرض، كما منع من بيعه لأنه في التحقيق معاوضة عن الماء. ونقل يعقوب بن بختان عن أحمد " أنه سئل عن رجل له أرض والآخر ماء، فقال صاحب الأرض لصاحب الماء: سق ماءك إلى أرضي والزرع بيننا قال: لا بأس به". فقد أجاز الشركة في الماء. وهذا يدل على أنه ملك له قبل استقائه وحيازته، وأنه يحدث عَلَى مِلْكِهِ فِي قَرَارِهِ قَبْلَ حِيَازَتِهِ كَمَا إذَا مَلَكَ مَعْدِنًا مَلَكَ مَا فِيهِ قَبْلَ أخذه، وعلى هذا يجوز قبل استقائه، ومن استقاه بغير إذنه استرجع منه، لأنه لما جاز الشركة فيه دل على أنه قد ملكه، وإذا لا يصح أن يشارك فيما لا يملك. واختار أبو بكر رواية يعقوب، وقال " الشركة ليست بيعا، وإنما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن بيع الماء". وفي هذا بعد، لأن الشركة معاوضة بالماء لما يحصل له من الزرع، وهذا يختص البيع. وإذا ثبت اختصاصه بها فله أن يسقي مواشيه وزرعه ونخله وَأَشْجَارِهِ، فَإِنْ لَمْ يَفْضُلْ عَنْ كِفَايَتِهِ فَضْلٌ لم يلزمه بذل شيء منه إلا لمضطر على نفس. وقد نقل ابن منصور عن أحمد أنه سئل عن رجل جاء إلى أهل أبيات فَاسْتَسْقَاهُمْ فَلَمْ يَسْقُوهُ حَتَّى مَاتَ فَأَغْرَمَهُمْ عُمَرُ الدية. قيل لأحمد: تقول به؟ قال: " أي شيء أقول؟ بقوله عمر، قيل له: تقول به أنت؟ قال: إي والله". ونقل الفضل بن زياد عنه - وقد سئل يوقف الماء؟ فقال " إن كان شيئا قد استجازوه بينهم جاز ذلك". وهذا محمول على وقف المكان الذي فيه الماء الدائم، لأن الماء لا ينتفع به إلا بإتلافه، فلا يصح وقفه. فإن فضل منه بعد كفايته فضل لزمه بذله للشاربة من أرباب المواشي والحيوان. وهل يلزم بذله للزرع؟ على روايتين: إحداهما: لا يلزمه نص عليه في رواية حرب في رجل في داره بستان صغير، وفي البستان قناة تجري في الأرض التراب يستقى من تلك القناة دلي، ويستقي بستانه، قال: " لا، إلا أن يكون له شرب من القناة، أو هو شريك، لايسقي إلا بإذن أهله". فقد منعه من ذلك، وهذا يدل على أنه لا يلزم صاحب الماء بذل الفضلة. والثانية: يلزمه، قال في رواية إسحق بن إبراهيم: في القوم يكون لهم نهر يشربون فيه، فيجئ رجل فيغرس على جنب النهر بستانا، فقال " إذا كان يفضل عن شرب القوم ولا يضر بغير فلا بأس أن يستقي البستان". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 فقد أجاز له أن يستقي بستانه من نهر مملوك بغير إذنهم، وهذا يدل على أنه يلزمه بذله للزرع. وقال في رواية البرزاطي: في الرجل يكون له الأرض وليس له فيها بئر ولجاره بئر في أرضه، فليس له أن يمنع جاره أن يسقي أرضه من بئره. والأولى أصح وأنه يلزمه بذله للحيوان دون الزروع. وقد روى أبو هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - قال: " مَنْ مَنَعَ فَضْلَ الْمَاءِ لِيَمْنَعَ بِهِ فَضْلَ الكلأ منعه الله رَحْمَتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". وَبَذْلُ هَذَا الْفَضْلِ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَعَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي قَرَارِ البئر، فإن استقاه لم يلزمه بذله وجاز بيعه. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا بِكَلَأٍ يَرْعَى، فَإِنْ لَمْ يَقْرُبْ مِنْ الْكَلَأِ لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ. والثالث: أن لا تجد المواشي غيره من. فإن وجدت غيره مباحا لَمْ يَلْزَمْهُ بَذْلُهُ، وَعَدَلَتْ الْمَوَاشِي إلَى الْمَاءِ الْمُبَاحِ، فَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ مِنْ الْمَوْجُودِ مَمْلُوكًا لَزِمَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ مَالِكِي الْمَاءَيْنِ أَنْ يَبْذُلَ فَضْلَ مَائِهِ لِمَنْ وَرَدَ إلَيْهِ، فَإِذَا اكْتَفَتْ الْمَوَاشِي بِفَضْلِ أَحَدِ الْمَاءَيْنِ سَقَطَ الْفَرْضُ عن الآخر. والرابع: أن لا يكون عليه في ورود الْمَوَاشِي إلَى مَائِهِ ضَرَرٌ يَلْحَقُهُ فِي زَرْعٍ وَلَا مَاشِيَةٍ. فَإِنْ لَحِقَهُ بِوُرُودِهَا ضَرَرٌ مُنِعَتْ، وَجَازَ لِلرُّعَاةِ اسْتِقَاءُ فَضْلِ الْمَاءِ لَهَا. فَإِذَا كملت هذا الشُّرُوطُ الْأَرْبَعَةُ لَزِمَهُ بَذْلُ الْفَضْلِ وَحَرُمَ عَلَيْهِ أن يأخذ له ثمنا، ويجوز الإخلال بهذا الشُّرُوطِ أَنْ يَأْخُذَ ثَمَنَهُ إذَا بَاعَهُ مُقَدَّرًا بكيل أو وزن، ولا يجوز بيعه جُزَافًا وَلَا مُقَدَّرًا بِرَيِّ مَاشِيَةٍ أَوْ زَرْعٍ. وقد قال أحمد في رواية أبي طالب " فإن كان له بئر في داره فيؤديه بالدخول عليه فلا بأس أن يمنع أو يكون له مكان يجعل فيه ماء السماء فلا يمنعه إذا خاف العطش". فقد أسقط عنه بذل الفضل إذا كان يتأذى ببذله. وقال في رواية صالح " ليس له أن يمنع الفضل لمن دعا إذا لم يجدوا ما يسقون، يكون قد منعهم شيئا مباحا". فقد اعتبر أن لا يجدوا غير ذلك في الماء وإذا احتفر بئر فملكها وحريمها، ثم احتفر بئرا فنصب ماء الأولة إليها وغار فيها، أو احتفرها لطهور فتغير بها ماء الأولة، فهل تطم عليه أم لا؟ فيه روايتان: إحداهما: تقر عليه ولا يمنع منها نص عليه في رواية أبي على الحسن بن ثواب: في رجل حفر في داره بئرا فجاء آخر فحفر في داره بئرا إلى جنب الحائط الذي بينه وبينه فجرت هذه البئر ماء تلك البئر فقال " لا تسد هذه من أجل تلك، هذه في ملك صاحبها". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فقيل له: إن أبا يوسف كان يقول: تسد هذه، فإن رجع ماء تلك البئر لم تفتح، وإن لم يرجع الماء فتحت فلم ير ذلك. وكذلك قال في رواية محمد بن يحيى المتطبب: في الرجل يحفر إلى جنب قناة الرجل فقال: " ليس له أن يمنعه إذا جاوز حريمه، أضرّ به ن أو لم يضر". والثانية: لا يقر عليها وتطم عليه. قال في رواية ابن منصور " لا يحفر بئرا إلى جنب بئره أو كنيفا إلى جنب حائطه وإن كان في حده، قيل له: فيقدر أن يمنعه؟ قال: نعم". وإذا كان له منعه اقتضى أن له طمها. وقد صرح به في رواية الميموني: فقال عن الشعبي: إنه حدث في قاض قضى بين رجلين، لكل واحد منهما بستان إلى جنب صاحبه، فاحتفر أحدهما في بستانه بئرا فساق ماء بئر جاره، فقضى أن تسد بئر هذا، فإن رجع ماؤه فذاك، وإن لم يرجع كلف أن يخرج ما ألقى في بئر جاره، فقال الشعبي: أصاب القضاء وأعجب أحمد قضاؤه، وهو اختيار أبي بكر ذكره أبو إسحاق في تعاليقه، فقال: " إن كان الخلاء عمل قبل البئر كان صاحب البئر مفرطا في عمل البئر، وإن كانت البئر قد عملت قبل الخلاء فأفسد الخلاء، ماء البئر وجب على صاحب الخلاء إزالته". قال: ويعتبر البئر بأن يجعل في الخلاء نقط، ثم يعتبر ماء البئر، فإن خرج ريح النفط في الماء علم أن فساد البئر من قبل الخلاء. وَأَمَّا الْعُيُونُ فَتَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ مِمَّا أَنَبَعَ اللَّهُ تَعَالَى مَاءَهَا وَلَمْ يَسْتَنْبِطْهُ الْآدَمِيُّونَ، فَحُكْمُهَا حُكْمُ مَا أَجْرَاهُ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْأَنْهَارِ، وَلِمَنْ أَحْيَا أَرْضًا بِمَائِهَا أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ قَدْرَ كِفَايَتِهِ، فَإِنْ تَشَاحُّوا فِيهِ لِضِيقِهِ رُوعِيَ مَا أُحْيِيَ بِمَائِهَا مِنْ الموات، فإذا تقدم به بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَانَ لِأَسْبَقِهِمْ إحْيَاءً أَنْ يَسْتَوْفِيَ مِنْهَا شُرْبَ أَرْضِهِ ثُمَّ لِمَنْ يَلِيهِ، فَإِنْ قَصُرَ الشُّرْبُ عَنْ بَعْضِهِمْ كَانَ نُقْصَانُهُ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 فِي حَقِّ الْأَخِيرِ، وَإِنْ اشْتَرَكُوا فِي الْإِحْيَاءِ عَلَى سَوَاءٍ وَلَمْ يَسْبِقْ بِهِ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، تَحَاصُّوا فِيهِ: إمَّا بِقِسْمَةِ الْمَاءِ وَإِمَّا بِالْمُهَايَأَةِ عليه. القسم الثَّانِي: أَنْ يَسْتَنْبِطَهَا الْآدَمِيُّونَ فَتَكُونَ مِلْكًا لِمَنْ استنبطها، ويملك معها حريمها وهو خمسمائة ذراع" كأنه ذهب إليه. وكذلك في رواية إبراهيم بن هانئ في الرجل يحفر العين إلى جنب عين الرجل قال: " يروى عن الزهري أنه قال: حريم العين خمسمائة ذراع " كأنه ذهب إليه ليس له منعه. وقد ذكرنا فيما تقدم حديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال " حريم العي السائحة ثلاثمائة ذراع، وحريم الزرع ستمائة ذِرَاعٍ". وَلِمُسْتَنْبِطِ هَذِهِ الْعَيْنِ سَوْقُ مَائِهَا إلَى حيث شاء، وكان ما جرى فيه ماؤه ملكا له وحريما لها. القسم الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَنْبِطَهَا الرَّجُلُ فِي مِلْكِهِ فَيَكُونَ أحق بمائها كشرب أَرْضِهِ، فَإِنْ كَانَ قَدْرَ كِفَايَتِهَا فَلَا حَقَّ له عليه فيها إلَّا لِشَارِبٍ مُضْطَرٍّ، وَإِنْ فَضَلَ عَنْ كِفَايَتِهِ وَأَرَادَ أَنْ يُحْيِيَ بِفَضْلِهِ أَرْضًا مَوَاتًا فَهُوَ أَحَقُّ بِهِ لِشُرْبِ مَا أَحْيَاهُ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ لِمَوَاتٍ أَحْيَاهُ لَزِمَهُ بَذْلُهُ لِأَرْبَابِ الْمَوَاشِي دون الزروع كَفَضْلِ مَاءِ الْبِئْرِ، فَإِنْ اعْتَاضَ عَلَيْهِ مِنْ أرباب الزروع جاز، وإن اعتاض عليه من أرباب المواشي لم يجز، ولا يجوز لِمَنْ احْتَفَرَ فِي الْبَادِيَةِ بِئْرًا فَمَلَكَهَا أَوْ عينا استنبطها أن يبيعها. وهذا على كلام أحمد في رواية أبي طالب " لا يبيع نقع ماء البئر لأحد، ولم يفرق بين أن يحفرها في البادية أو في ملكه لنفسه وقد قيل: يجوز بيعها". فصل في الحمي والإرفاق وَحِمَى الْمَوَاتِ: هُوَ الْمَنْعُ مِنْ إحْيَائِهِ إمْلَاكًا، لِيَكُونَ مُسْتَبْقَى الْإِبَاحَةِ لِنَبْتِ الْكَلَأِ، وَرَعْيِ الْمَوَاشِي، وقد حَمَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بالمدينة جبلا بالنقيع. وَقَالَ " هَذَا حِمَايَ " وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى الْقَاعِ، وَهُوَ قَدْرُ مِيلٍ فِي سِتَّةِ أَمْيَالٍ، حَمَاهُ لخيل المسلمين من الأنصار والمهاجرين. وأما حمي الأئمة بعده: فإن عموا بِهِ جَمِيعَ الْمَوَاتِ أَوْ أَكْثَرَهُ لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ حَمَوْا أَقَلَّهُ لِخَاصٍّ مِنْ النَّاسِ، أَوْ لأغنيائهم لم يجز، وإن حموا لكافة المسلمين أو للفقراء والمساكين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 فإنه لا يجوز حمي الأئمة بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال في رواية أبي الحارث " ويحمى الكلأ لإبل الصدقة، لأنه لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم". وقال أيضا في رواية عبد الله " ليس لرجل أن يحمي أرضا لا يملكها إلا ما كان لله عز وجل ولرسوله". قال: ومعنى ما كان لله ولرسوله: فالإبل يحمل عليها في سبيل الله، أمر رسول الله قال: ومعنى ما كان لله ولرسوله: فالإبل يحمل عليها في سبيل الله، أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أن يحمي لما ينوبه، فأما ما سوى ذلك فلا يحمى إلا من ملك أرضا لله أن يحميها". فقد منع أن يحمي الإنسان الموات لحاجته، وأجاز ذلك للمسلمين، وبين أن ذلك لله ولرسوله، فيكون تقدير قول النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لَا حِمَى إلَّا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ". فَمَعْنَاهُ: لَا حِمًى إلَّا عَلَى مثل ما حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لمصالح كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ لَا عَلَى مِثْلِ مَا كَانُوا عَلَيْهِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَفَرُّدِ الْعَزِيزِ مِنْهُمْ بالحمى لنفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 فإذا جَرَى عَلَى الْأَرْضِ حُكْمُ الْحِمَى اسْتِبْقَاءً لِمَوَاتِهَا، نظرت فيه. فإن كان لكافة الناس تَسَاوَى فِيهِ جَمِيعُهُمْ مِنْ غَنِيٍّ وَفَقِيرٍ، وَمُسْلِمٍ وذمي، في رعي كلئه لخيله وماشيته. وإن خُصَّ بِهِ الْمُسْلِمُونَ اشْتَرَكَ فِيهِ أَغْنِيَاؤُهُمْ وَفُقَرَاؤُهُمْ، ومنع منه أهل الذمة. وإن خص به فقراء المسلمين مُنِعَ مِنْهُ الْأَغْنِيَاءُ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُخَصَّ بِهِ الْأَغْنِيَاءُ دُونَ الْفُقَرَاءِ، وَلَا أَهْلُ الذِّمَّةِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ. وَإِنْ خَصَّ بِهِ نَعَمَ الصَّدَقَةِ أَوْ خَيْلَ الْمُجَاهِدِينَ، لَمْ يُشْرِكْهُمْ فِيهِ غَيْرُهُمْ. ثُمَّ يَكُونُ الْحِمَى جَارِيًا عَلَى مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مِنْ عُمُومٍ وَخُصُوصٍ، فَلَوْ اتَّسَعَ الْحِمَى الْمَخْصُوصُ لِعُمُومِ النَّاسِ جَازَ أَنْ يشتركوا فيه لارتفاع الضرر على من خَصَّ بِهِ، وَلَوْ ضَاقَ الْحِمَى الْعَامُّ عَنْ جَمِيعِ النَّاسِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ يَخْتَصَّ بِهِ أغنياؤهم. وفي جواز اختصاص فقرائهم احتمال. واذا استقر حكم الحمي عَلَى أَرْضٍ فَأَقْدَمَ عَلَيْهَا مَنْ أَحْيَاهَا وَنَقَضَ حماها، نظرت. فَإِنْ كَانَ مِمَّا حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ الْحِمَى ثَابِتًا، وَالْإِحْيَاءُ باطلا. وإن كان مما حمي الأئمة بعده احتمل وجهين: أحدهما: لا يقر، ويجري عليه حكم الْحِمَى، كَاَلَّذِي حَمَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم - ويحتمل أن يُقَرُّ الْإِحْيَاءُ وَيَكُونُ حُكْمُهُ أَثْبَتَ مِنْ الْحِمَى، لعموم قَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَنْ أَحْيَا أَرْضًا مَوَاتًا فَهِيَ لَهُ ". وَلَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ مِنْ الْوُلَاةِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْ أَرْبَابِ الْمَوَاشِي عِوَضًا عَنْ مَرَاعِي مَوَاتٍ أَوْ حِمًى، لقوله - صلى الله عليه وسلم - " الناس شركاء في ثلاث: الماء، والنار، والكلأ". وأما الإرفاق فهو من ارتفاق النَّاسِ بِمَقَاعِدِ الْأَسْوَاقِ وَأَفْنِيَةِ الشَّوَارِعِ، وَحَرِيمِ الْأَمْصَارِ، ومنازل الأسفار. فتنقسم ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِالصَّحَارَى وَالْفَلَوَاتِ. وَقِسْمٌ يَخْتَصُّ الِارْتِفَاقُ فِيهِ بِأَفْنِيَةِ الْأَمْلَاكِ. وقسم يختص بالشوارع والطرقات. أما الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا اخْتَصَّ بِالصَّحَارَى وَالْفَلَوَاتِ، كمنازل الأسفار وحلول المياه فذلك ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونُ لِاجْتِيَازِ السَّابِلَةِ وَاسْتِرَاحَةِ الْمُسَافِرِينَ فِيهِ، فَلَا نَظَرَ لِلسُّلْطَانِ فِيهِ لِبُعْدِهِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 عنه وضرورة السابلة إليه. وَيَكُونُ السَّابِقُ إلَى الْمَنْزِلِ أَحَقَّ بِحُلُولِهِ فِيهِ من المسبوق، حتى يرتحل إليه، لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مِنًى مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ إلَيْهَا". فَإِنْ وَرَدُوهُ عَلَى سَوَاءٍ وَتَنَازَعُوا فيه نظر في التعديل بينهم بما يُزِيلُ تَنَازُعَهُمْ، وَكَذَلِكَ الْبَادِيَةُ إذَا انْتَجَعُوا أَرْضًا طلبا لكلأ، وارتفاقا بالمرعى، وانتقالا من أرض إلى أرض كانوا فيما تركوه، وَارْتَحَلُوا عَنْهُ كَالسَّابِلَةِ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِمْ فِي تنقلهم ورعيهم. الضرب الثاني: أن يقصدوا بنزولهم بها الإقامة بها والاستيطان لها؛ فللسلطان في نزولهم بِهَا نَظَرٌ يُرَاعَى فِيهِ الْأَصْلَحُ، فَإِنْ كَانَ مُضِرًّا بِالسَّابِلَةِ مُنِعُوا مِنْهَا قَبْلَ النُّزُولِ وَبَعْدَهُ، وَإِنْ لَمْ يَضُرَّ بِالسَّابِلَةِ رَاعَى الْأَصْلَحَ فِي نُزُولِهِمْ فِيهَا أَوْ مَنَعَهُمْ مِنْهَا وَنَقَلَ غَيْرَهُمْ إلَيْهَا، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ حِينَ مَصَّرَ الْبَصْرَةَ والكوفة نقل إلى كل واحدة مِنْ الْمِصْرَيْنِ مَنْ رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، لِئَلَّا يَجْتَمِعَ فِيهِ الْمُسَافِرُونَ، فَيَكُونَ سَبَبًا لِانْتِشَارِ الْفِتْنَةِ وسفك الدماء، كما يفعل في إقطاع الموات وما يرى. فإن لم يستأذنوه حتى نزلوا فيه لَمْ يَمْنَعْهُمْ مِنْهُ، كَمَا لَا يَمْنَعُ مَنْ أحيى مَوَاتًا بِغَيْرِ إذْنِهِ، وَدَبَّرَهُمْ بِمَا يَرَاهُ صَلَاحًا لَهُمْ، وَنَهَاهُمْ عَنْ إحْدَاثِ زِيَادَةِ مَنْ بَعْدُ إلَّا عَنْ إذْنِهِ. رَوَى كَثِيرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قَالَ: " قَدِمْنَا مَعَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فِي عُمْرَتِهِ سَنَةَ سَبْعَ عَشْرَةَ، فَكَلَّمَهُ أَهْلُ الْمِيَاهِ فِي الطَّرِيقِ أن يبنوا منازل فِيمَا بَيْنَ مَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ لَمْ تَكُنْ قَبْلَ ذلك، فأذن لهم، واشترط أن ابن السبيل أحق بالماء والظل". الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ مَا يَخْتَصُّ بِأَفْنِيَةِ الدُّورِ والأملاك. نظرت، فإن كان مضرا بأربابها منع المرتفق منها إلا أن يأذن بِدُخُولِ الضَّرَرِ عَلَيْهِمْ فَيُمَكِّنُوا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مضر بهم، فهل يعتبر إذنهم؟ يحتمل أن يعتبر، لأن الحريم مرفق، ولا حاجة بهم إليه، وكانوا وغيرهم سواء. وقد قال أحمد في رواية إبراهيم بن هانئ: في الرجل يحفر العين حيث عين الرجل فقال " روي عن الزهري أنه قال: حريم العيون خمسمائة ذراع" وكأنه ذهب إليه. قيل له: فإن حفر على أكثر له التصرف فيما جاوز فناء غيره، ولم يعتبر إذنه. وقال في رواية الحسن بن ثواب: فيمن حفر بئرا في فنائه فعطب رجل، يعني بها " لزمه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وهذا يدل على أنه ليس له التصرف فيما جاوز فناءه. وأما حريم المساجد والجوامع، فينظر، فإن كان الارتفاق بها مضرا بأهل الجوامع والمساج مُنِعُوا مِنْهُ، وَلَمْ يَجُزْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْذَنَ فيه، لأن المصلين بها أحق، وإن لم يكن مضرا جاز ارْتِفَاقَهُمْ بِحَرِيمِهَا. وَهَلْ يُعْتَبَرُ فِيهِ إذْنُ السُّلْطَانِ؟ يخرج على الوجهين في حريم الأملاك. وقد قال أحمد في رواية المروزي: في الرجل يحفر في فناء المسجد، وفي وسط المسجد بئر لماء " ما يعجبني أن يحفر، وإن حفر تطم". وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ مَا اخْتَصَّ بِأَفْنِيَةِ الشوارع والطرقات، نظرت، فإن كان مضرا بالمجتازين لضيق الطريق مُنِعُوا مِنْهُ، وَلَمْ يَجُزْ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَأْذَنَ فيه، وإن لم يكن مضرا لسعة الطريق، فعلى روايتين: إحداهما: المنع. قال في رواية إسحاق بن إبراهيم - وقد سئل عن الرجل يبيع على الطريق الواسع: هل يشتري منه، إذا لم يجد حاجته عند غيره؟ فقال " ومن يسلم من هذا؟ البيع على الطريق مكروه". وقال في موضع آخر " لا ينبغي أن يبيع على طريق المسلمين شيئا " وكرهه جدا. والثانية: الجواز. قال في رواية حرب - وقد سئل عن الرجل يسبق إلى دكاكين السوق، فقال " إذا لم يكن لأحد فمن سبق إليه غدوة فهو له إلى الليل. قال: وكان هذا في سوق المدينة فيما مضى". وهل يفتقر ذلك إلى السلطان؟ يخرّج على الوجهين. وظاهر كلامه في رواية حرب أنه لم يعتبر إذنه، وإذا اعتبرنا إذنه فهو موضع اجتهاد وهو كفهم عن التعدي، والاصلاح بينهم عند التشاجر، وإجلاس مَنْ يُجْلِسُهُ، وَمَنْعِ مَنْ يَمْنَعُهُ وَتَقْدِيمِ مَنْ يقدم، كَمَا يَجْتَهِدُ فِي أَمْوَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَإِقْطَاعِ الموات ولا يجعل السابق أحق على هذا الوجه، وليس له أن يأخذ عَلَى الْجُلُوسِ أَجْرًا، وَإِذَا تَرَكَهُمْ عَلَى التَّرَاضِي كان السابق إلى المكان أحق من المسبوق، وإذا انصرف عنه كان هو وغيره فيه من الغد سواء يراعي السابق فيه على ظاهر كلامه في رواية حرب، لأنه لو كان أحق به أبدا خرج عن حكم الإباحة إلى حد الملك. وَأَمَّا جُلُوسُ الْعُلَمَاءِ وَالْفُقَهَاءِ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ وَالتَّصَدِّي لِلتَّدْرِيسِ وَالْفُتْيَا، فَعَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ زاجر من نفسه أن لَا يَتَصَدَّى لِمَا لَيْسَ لَهُ بِأَهْلٍ، فَيَضِلُّ بِهِ الْمُسْتَهْدِي، وَيَزِلُّ بِهِ الْمُسْتَرْشِدُ، وَقَدْ جَاءَ الأثر " أَجْرَؤُكُمْ عَلَى الْفُتْيَا أَجْرَؤُكُمْ عَلَى جَرَاثِيمِ جَهَنَّمَ". وقد قال أحمد في رواية صالح " ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالما بوجود القرآن، عالما بالأسانيد الصحيحة، عالما بالسنن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وقال في رواية حنبل " ينبغي لمن أفتى أن يكون عالما بقول من تقدم وإلا فلا يفتى" وللسلطان فيهم من النظر ما يوجبه الاحتياط من إنكار وإقرار. وإذا أَرَادَ مَنْ هُوَ لِذَلِكَ أَهْلٌ أَنْ يَتَرَتَّبَ فِي أَحَدِ الْمَسَاجِدِ لِتَدْرِيسٍ أَوْ فُتْيَا، نُظِرَ في حال المسجد، فإن كان من مَسَاجِدُ الْمُحَالِ الَّتِي لَا يَتَرَتَّبُ الْأَئِمَّةُ فِيهَا من قبل السلطان لم يلزم من يترتب فيها لذلك اسْتِئْذَانُ السُّلْطَانِ فِي جُلُوسِهِ، كَمَا لَا يَلْزَمُ أن يستأذنه فيها من يترتب لِلْإِمَامَةِ. وَإِنْ كَانَ مِنْ الْجَوَامِعِ وَكِبَارِ الْمَسَاجِدِ التي يترتب للإمامة فِيهَا بِتَقْلِيدِ السُّلْطَانِ رُوعِيَ فِي ذَلِكَ عُرْفُ الْبَلَدِ وَعَادَتُهُ فِي جُلُوسِ أَمْثَالِهِ فَإِنْ كَانَ لِلسُّلْطَانِ فِي جُلُوسِ مِثْلِهِ نَظَرٌ لَمْ يَكُنْ له أن يترتب للجلوس في إلَّا عَنْ إذْنِهِ، كَمَا لَا يَتَرَتَّبُ لِلْإِمَامَةِ فيه إلا عن إذنه لأنه لا يُفْتَاتَ عَلَيْهِ فِي وِلَايَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِلسُّلْطَانِ فِي مِثْلِهِ نَظَرٌ مَعْهُودٌ لَمْ يَلْزَمْ استئذانه في ذلك وكان كَغَيْرِهِ مِنْ الْمَسَاجِدِ. وَإِذَا ارْتَسَمَ بِمَوْضِعٍ مِنْ جامع أو مسجد ثم قَامَ عَنْهُ زَالَ حَقُّهُ مِنْهُ وَكَانَ السَّابِقُ إليه أحق، لقوله تعالى (سواء العاكف فيه والباد) . وَيُمْنَعُ النَّاسُ فِي الْجَوَامِعِ وَالْمَسَاجِدِ مِنْ اسْتِطْرَاقِ حَلَقِ الْفُقَهَاءِ وَالْقُرَّاءِ، صِيَانَةً لِحُرْمَتِهَا وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قال " لا حمى إلا في ثلاثة: ثُلَّةُ الْبِئْرِ، وَطِوَلُ الْفَرَسِ، وَحَلَقَةُ الْقَوْمِ ". فَأَمَّا ثُلَّةُ الْبِئْرِ فَهُوَ مُنْتَهَى حَرِيمِهَا، وَأَمَّا طِوَلُ الْفَرَسِ فَهُوَ مَا دَار فِيهِ بِمَقُودِهِ إذَا كَانَ مَرْبُوطًا، وَأَمَّا حَلَقَةُ الْقَوْمِ فَهُوَ اسْتِدَارَتُهُمْ فِي الْجُلُوسِ لِلتَّشَاوُرِ وَالْحَدِيثِ. وَإِذَا تَنَازَعَ أَهْلُ الْمَذَاهِبِ الْمُخْتَلِفَةِ فِيمَا يَسُوغُ فِيهِ الِاجْتِهَادُ، لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِمْ فِيهِ، إلَّا أَنْ يَحْدُثَ بَيْنَهُمْ تَنَافُرٌ فَيُكَفُّوا عَنْهُ. وَإِنْ حَدَثَ مُنَازِعٌ ارْتَكَبَ ما لا يسوغ في الِاجْتِهَادُ كُفَّ عَنْهُ وَمُنِعَ مِنْهُ. فَإِنْ أَقَامَ عليه وتظاهر باستواء من يدعو إليه لزم السلطان أن يحسمه بزواجر السلطنة ليبين ظُهُورَ بِدْعَتِهِ، وَيُوَضِّحَ بِدَلَائِلِ الشَّرْعِ فَسَادَ مَقَالَتِهِ، فَإِنَّ لِكُلِّ بِدْعَةٍ مُسْتَمِعًا، وَلِكُلِّ مُسْتَغْوٍ مُتَّبِعًا. فصل في أحكام القطائع قد نص أحمد على جواز القطائع التي أقطعها الصحابة، وتوقف عن قطائع غيرهم من الأئمة. وإنما توقف في ذلك لأن منهم من أقطع ما لا يجوز إقطاعه. فقال المروزي: سألت أبا عبد الله عن قطائع البصرة والكوفة؟ فقال: تجعل قطائع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مثل قطائع هؤلاء؟ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وقال في رواية يعقوب بن بختان " ما أقطع هؤلاء فلا يعجبي". والقطائع ضربان: إقطاع تمليك، فَتَنْقَسِمُ فِيهِ الْأَرْضُ الْمُقْطَعَةُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: مَوَاتٌ، وَعَامِرٌ، وَمَعَادِنُ. فَأَمَّا الْمَوَاتُ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ أَحَدُهُمَا: ما لم يزل مواتا على الدهر، لم يجز فيه عمارة، ولا يثبت عليه ملك، وهذا الَّذِي يَجُوزُ لِلسُّلْطَانِ أَنْ يَقْطَعَهُ مَنْ يُحْيِيهِ ويعمره، ويكون المقطع أحق الناس بإحيائه روى أبو بكر بإسناده عن ابن عمر " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أقطع الزبير حضر فرسه فأجرى فرسه حتى قام، ثم رمى بسوطه، فقال: أعطوه من حيث بلغ السوط. الضرب الثَّانِي مِنْ الْمَوَاتِ مَا كَانَ عَامِرًا فَخَرِبَ وصار مواتا عاطلا، فذلك ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ جَاهِلِيًّا، كَأَرْضِ عَادٍ وثمود، فهو كَالْمَوَاتِ الَّذِي لَمْ يَثْبُتْ فِيهِ عِمَارَةٌ، وَيَجُوزُ إقطاعه، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - " عادى الأرض لله ولرسوله، ثم هل لكم مني ". يعني أرض عاد. الضرب الثاني: ما كان إسلاميا حرى عَلَيْهِ مِلْكُ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ خَرِبَ حَتَّى صَارَ مواتا عاطلا ففيه روايتان: إحداهما: لَا يُمْلَكُ بِالْإِحْيَاءِ سَوَاءٌ عَرَفَ أَرْبَابُهُ أَوْ لم يعرفوا. والثانية: إنْ عَرَفَ أَرْبَابُهُ لَمْ يُمْلَكْ بِالْإِحْيَاءِ، وَإِنْ لم يعرف ملك بالإحياء. فإن قلنا بالرواية الأولى، وأنه لا يملك بالإحياء، فهل يجوز إقطاعه؟ نظرت. فإن عرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 أَرْبَابُهُ لَمْ يَجُزْ إقْطَاعُهُ، وَكَانُوا أَحَقَّ بِبَيْعِهِ وَإِحْيَائِهِ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفُوا جَازَ إقْطَاعُهُ وَكَانَ الإقطاع شرطا في جواز إحيائه، ولا يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُ عَلَيْهِ قَبْلَ الْإِحْيَاءِ. فَإِنْ شَرَعَ في الإحياء صَارَ بِكَمَالِ الْإِحْيَاءِ مَالِكًا لَهُ، وَإِنْ أَمْسَكَ عن إحيائه لِعُذْرٍ ظَاهِرٍ لَمْ يُعْتَرَضْ عَلَيْهِ فِيهِ وَأَقَرَّ فِي يَدِهِ إلَى زَوَالِ عُذْرِهِ. وَإِنْ كَانَ غير معذور ومضى، زمان يقدر على إحيائه، قيل له: إما أن تُحْيِيهِ فَيُقَرَّ فِي يَدِكَ، وَإِمَّا أَنْ تَرْفَعَ يَدَكَ عَنْهُ لِيَعُودَ إلَى حَالِهِ قَبْلَ إقْطَاعِهِ. فإن تَغَلَّبَ عَلَى هَذَا الْمَوَاتِ الْمُسْتَقْطَعِ مُتَغَلِّبٌ فَأَحْيَاهُ كان محييه أحق به من مستقطعه. وأما العامر فضربان أحدهما: ما تعين مالكوه، فَلَا نَظَرَ لِلسُّلْطَانِ فِيهِ إلَّا مَا يَتَعَلَّقُ بِتِلْكَ الْأَرْضِ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ إذَا كَانَتْ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، سَوَاءٌ كَانَتْ لِمُسْلِمٍ أو لذمي، فإن كان في دار الحرب التي لم يَثْبُتُ لِلْمُسْلِمِينَ عَلَيْهَا يَدٌ فَأَرَادَ الْإِمَامُ أَنْ يُقْطِعَهَا لِيَمْلِكَهَا الْمُقْطَعَ عِنْدَ الظَّفَرِ بِهَا جَازَ. وَقَدْ سَأَلَ تَمِيمٌ الدَّارِيُّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يُقْطِعَهُ عُيُونَ الْبَلَدِ الذي كان فيه بِالشَّامِ قَبْلَ فَتْحِهِ فَفَعَلَ. وَسَأَلَهُ أَبُو ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيُّ أَنْ يُقْطِعَهُ أَرْضًا كَانَتْ بِيَدِ الرُّومِ فَأَعْجَبَهُ ذَلِكَ، وَقَالَ " أَلَا تَسْمَعُونَ مَا يَقُولُ؟ فقال: والذي بعثك بالحق لتفتحن عليك. فكتب له بذلك كتابا، وكذلك لو استوهب أحد من من سببها وَذَرَارِيِّهَا لِيَكُونَ أَحَقَّ بِهِ إذَا فَتَحَهَا جَازَ وصحت العطية منه مع الجهالة بها لتعقلها بالأمور العامة. وقد روى الشعبي أن خريم بن أوس بن حارثة الطائي قال لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إنْ فَتَحَ اللَّهُ عليك الحيرة فأعطني بنت بقيلة. فَلَمَّا أَرَادَ خَالِدٌ صُلْحَ أَهْلِ الْحِيرَةِ قَالَ له خريم: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جعل لي بنت بقيلة، فلا تدخلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 فِي صُلْحِكَ، وَشَهِدَ لَهُ بَشِيرُ بْنُ سَعْدٍ ومحمد بْنُ مَسْلَمَةَ فَاسْتَثْنَاهَا مِنْ الصُّلْحِ وَدَفَعَهَا إلَى خريم، فاشتريت منه بألف درهم، وكانت عجوزا". وَإِذَا صَحَّ الْإِقْطَاعُ وَالتَّمْلِيكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ نظر حال الفتح، فإن كان صلحا حصلت الْأَرْضُ لِمُقْطِعِهَا وَكَانَتْ خَارِجَةً عَنْ حُكْمِ الصُّلْحِ بِالْإِقْطَاعِ السَّابِقِ. وَإِنْ كَانَ الْفَتْحُ عَنْوَةً كَانَ المقطع وَالْمُسْتَوْهِبُ أَحَقَّ بِمَا اسْتَقْطَعَهُ وَاسْتَوْهَبَهُ مِنْ الْغَانِمِينَ. وانظر فِي الْغَانِمِينَ، فَإِنْ عَلِمُوا بِالْإِقْطَاعِ وَالْهِبَةِ قَبْلَ الْفَتْحِ فَلَيْسَ لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِعِوَضِ مَا اُسْتُقْطِعَ وَوُهِبَ، وَإِنْ لَمْ يَعْلَمُوا حَتَّى فُتِحُوا عَاوَضَهُمْ الإمام بِمَا يَسْتَطِيبُ بِهِ نُفُوسَهُمْ، كَمَا يَسْتَطِيبُ نُفُوسَهُمْ عن غير ذلك من الغنائم. وقد قيل: لَا يَلْزَمُهُ اسْتِطَابَةُ نُفُوسِهِمْ عَنْهُ وَلَا عَنْ غَيْرِهِ مِنْ الْغَنَائِمِ إذَا رَأَى الْمَصْلَحَةَ فِي أخذه. الضرب الثَّانِي مِنْ الْعَامِرِ مَا لَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُوهُ، ولم يتميز مستحقوه، فهو على ثلاثة أقسام: أحدها: ما اصطفاه الأئمة لِبَيْتِ الْمَالِ مِنْ فُتُوحِ الْبِلَادِ، إمَّا بِحَقِّ الخمس فيأخذه باستحقاق في أَهْلِهِ لَهُ، وَإِمَّا بِأَنْ يَصْطَفِيَهُ بِاسْتِطَابَةِ نُفُوسِ الغانمين عنه، فقد اصطفى عمر مِنْ أَرْضِ السَّوَادِ أَمْوَالَ كِسْرَى وَأَهْلَ بَيْتِهِ، وَمَا هَرَبَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ أَوْ هَلَكُوا، فَكَانَ مبلغ غلته تِسْعَةَ آلَافِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، كَانَ يَصْرِفُهَا فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَقْطَعْ شَيْئًا مِنْهَا، ثُمَّ إن عثمان أَقْطَعَهَا لِأَنَّهُ رَأَى إقْطَاعَهَا أَوْفَرَ لِغَلَّتِهَا مِنْ تَعْطِيلِهَا، وَشَرَطَ عَلَى مَنْ أَقْطَعَهَا إيَّاهُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُ حَقَّ الْفَيْءِ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُ إقْطَاعَ إجَارَةٍ لَا إقْطَاعَ تَمْلِيكٍ فَتَوَفَّرَتْ غَلَّتُهَا حتى بلغت على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ما قبل خَمْسِينَ أَلْفَ أَلْفِ دِرْهَمٍ، فَكَانَ مِنْهَا صَلَاتُهُ وَعَطَايَاهُ، ثُمَّ تَنَاقَلَهَا الْخُلَفَاءُ بَعْدَهُ فَلَمَّا كَانَ عام الجماجم سنة اثنين وَثَمَانِينَ فِي فِتْنَةِ ابْنِ الْأَشْعَثِ أَحْرَقَ الدِّيوَانَ، وَأَخَذَ كُلُّ قَوْمٍ مَا يَلِيهِمْ. فَهَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعَامِرِ لَا يَجُوزُ إقْطَاعُ رَقَبَتِهِ، لِأَنَّهُ قد صار باصطفائه لبيت الْمَالَ الْمَوْضُوعَ فِي حُقُوقِهِ، وَالسُّلْطَانُ فِيهِ بِالْخِيَارِ عَلَى وَجْهِ النَّظَرِ فِي الْأَصْلَحِ بَيْنَ أَنْ يستغله لبيت المال كما فعل عمر، وبين أن يتخير له من ذوي القدرة والمكنة وَالْعَمَلِ مَنْ يَقُومُ بِعِمَارَةِ رَقَبَتِهِ بِخَرَاجٍ يُوضَعُ عليه مقدرا، ويكون الخراج أجرة يصرف في وُجُوهِ الْمَصَالِحِ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَأْخُوذًا بِالْخُمُسِ فَيُصْرَفُ فِي أَهْلِ الْخُمُسِ., فَإِنْ كَانَ مَا وَضَعَهُ مِنْ الْخَرَاجِ مُقَاسَمَةً عَلَى الشَّطْرِ مِنْ الثِّمَارِ وَالزُّرُوعِ جَازَ فِي النَّخْلِ. كَمَا سَاقَى رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خيبر على النصف من ثمار النخل. وجوازه في الزروع معتبر باختلاف الفقهاء في جواز المخابرة /، أَجَازَهَا أَجَازَ الْخَرَاجَ بِهَا، وَمَنْ مَنَعَ مِنْهَا مَنَعَ مِنْ الْخَرَاجِ بِهَا. وَقِيلَ بَلْ يَجُوزُ الخراج بها وإن منع من المخابرة عليها، لِمَا يَتَعَلَّقُ بِهَا مِنْ عُمُومِ الْمَصَالِحِ الَّتِي يَتَّسِعُ حُكْمُهَا عَنْ أَحْكَامِ الْعُقُودِ الْخَاصَّةِ، وَيَكُونُ العشر واجبا في الزروع دون الثمرة، لأن الزرع ملك لزراعه، وَالثَّمَرَةُ مِلْكٌ لِكَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ مَصْرُوفَةٌ فِي مَصَالِحِهِمْ. القسم الثَّانِي مِنْ الْعَامِرِ أَرْضُ الْخَرَاجِ، فَلَا يَجُوزُ إقطاع رقابها تمليكا، لأنها تنقسم على ضربين. ضرب تكون رقابها وقفا وخراجها أجرة، وتمليك الْوَقْفِ لَا يَصِحُّ بِإِقْطَاعٍ وَلَا بَيْعٍ وَلَا هبة. وضرب تكون رِقَابُهَا مِلْكًا وَخَرَاجُهَا جِزْيَةً، فَلَا يَصِحُّ إقْطَاعُ مملوك لغير مالكه. فأما إقطاع خراجها فسنذكره من بعد إقطاع الاستغلال. وقد قال أحمد في رواية الأثرم ومحمد بن حرب - وقد ذكر له أن عثمان أقطع عبد الله وخبابا، فقال: " هذا يقوي أن أرض السواد ليست بملك من هي في يده، فلو كان عمر ملكها من هي في يديه لم يقطع عثمان". فقد نص على أنه لا يجوز إقطاع رقبة مملوكة. القسم الثَّالِثُ مَا مَاتَ عَنْهُ أَرْبَابُهُ وَلَمْ يَسْتَحِقَّهُ وارث بِفَرْضٍ وَلَا تَعْصِيبٍ، فَيَنْتَقِلُ إلَى بَيْتِ الْمَالِ مصروفا في مصالح المسلمين، لا على طريق الميراث. وقد قال أحمد في رواية المروزي " في الأرض الميتة إذا كانت لم تملك، فإن ملكت فهي فيء للمسلمين، مثل من مات وترك مالا لا يعرف له وارث". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 فقد بين أن الأرض التي مات أربابها ولا وارث لها هي فيء للمسلمين. فأما ما انتقل إلى بيت المال في رقاب الأموال، فهل يصير وقفا بنفس الانتقال إليه؟ على وجهين: أحدهما: قد صار وقفا بعموم مصرفه الذي لا يتخصص بجهة، فعلى هذا لا يجوز بيعها. وهذا ظاهر كلام أحمد في أرض السواد " أنها صارت وقفا بنفس الفتح". وكذلك قال في رواية حرب " أرض الخراج ما فتحها المسلمون فصارت فيئا لهم وأضافوا عليها وظيفة فتلك جارية". والثاني: لَا تَصِيرُ وَقْفًا حَتَّى يَقِفَهَا الْإِمَامُ، فَعَلَى هَذَا يَجُوزُ لَهُ بَيْعُهَا إذَا رَأَى بَيْعَهَا أصلح لبيت مال المسلمين، وَيَكُونُ ثَمَنُهَا مَصْرُوفًا فِي عُمُومِ الْمَصَالِحِ، وَفِي ذَوِي الْحَاجَاتِ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ وَأَهْلِ الصَّدَقَاتِ. وقد قال أحمد في رواية عبد الله " الأرض إذا كانت عنوة هي لمن قاتل عليها، إلا أن يكون وقفها من فتحها على المسلمين كما فعل عمر بالسواد". فاعتبر إيقافه. فأما إقْطَاعُهَا عَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَقَدْ قِيلَ بِجَوَازِهِ، لِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ بَيْعُهَا وَصَرْفُ ثَمَنِهَا إلَى مَنْ يَرَاهُ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ وَأَرْبَابِ الْمَصَالِحِ جَازَ إقْطَاعُهَا لَهُ، وَيَكُونُ تَمْلِيكُ رَقَبَتِهَا كَتَمْلِيكِ ثمنها. وقيل: لا يجوز إقطاعها وَإِنْ جَازَ بَيْعُهَا لِأَنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ، وَهَذَا الإقطاع صلة وفيه ضعف فهذا الكلام في التمليك. وَأَمَّا الْخَرَاجُ فَيَخْتَلِفُ حُكْمُ إقْطَاعِهِ بِاخْتِلَافِ حَالِ مقطعه، وله ثلاث أحوال: أحدها: أن يكون من أهل الصدقة فيجوز، لأنه صرف الفيء في أهل الصدقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 وقد ذكرنا ذلك، وقال قوم: لا يجوز صرف الفيء إلى أَهْلُ الصَّدَقَةِ، كَمَا لَا يَسْتَحِقُّ الصَّدَقَةَ أَهْلُ الفيء. الحالة الثانية: أن يكونوا مِنْ أَهْلِ الْمَصَالِحِ مِمَّنْ لَيْسَ لَهُ رِزْقٌ مفروض. فلا يصح أن يقطعوه على الإطلاق وإن جاز أن يقطعوه من مال الخراج، لأن ما يعطونه إنَّمَا هُوَ مِنْ صِلَاتِ الْمَصَالِحِ. فَإِنْ جُعِلَ لهم مِنْ مَالِ الْخَرَاجِ شَيْءٌ أَجْرَى عَلَيْهِ حُكْمَ الْحَوَالَةِ وَالتَّسَبُّبُ، لَا حُكْمُ الْإِقْطَاعِ، فَيُعْتَبَرُ فِي جَوَازِهِ شَرْطَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ بِمَالٍ مُقَدَّرٍ وقد وَجَدَ سَبَبَ اسْتِبَاحَتِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَالُ الخراج قد حل ووجب ليصح بالتسبب عليه والحوالة به، فيخرج بِهَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ عَنْ حُكْمِ الْإِقْطَاعِ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أن يكونوا من أهل فرض أهل الديوان وهم الجيش، فهم أحق النَّاسِ بِجَوَازِ الْإِقْطَاعِ، لِأَنَّ لَهُمْ أَرْزَاقًا مُقَدَّرَةً تصرف إليهم مصرف الاستحقاق، لأنها أعواض عَمَّا أَرْصَدُوا نُفُوسَهُمْ لَهُ مِنْ حِمَايَةِ الْبَيْضَةِ، والذب عن الحريم. وإذا صَحَّ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْإِقْطَاعِ رُوعِيَ حينئذ مال الخراج. فإن له حالتين: حَالٌ يَكُونُ جِزْيَةً، وَحَالٌ يَكُونُ أُجْرَةً فَأَمَّا مَا كَانَ مِنْهُ جِزْيَةً فَهُوَ غَيْرُ مُسْتَقِرٍّ عَلَى التَّأْبِيدِ، لِأَنَّهُ مَأْخُوذٌ مَعَ بَقَاءِ الْكُفْرِ، وَزَائِلٌ مَعَ حُدُوثِ الْإِسْلَامِ، فَلَا يَجُوزُ إقْطَاعُهُ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ، لِأَنَّهُ غَيْرُ مَوْثُوقٍ بِاسْتِحْقَاقِهِ بَعْدَهَا. فَإِنْ أَقْطَعَهُ سَنَةً بَعْدَ حُلُولِهِ وَاسْتِحْقَاقِهِ صَحَّ، وَإِنْ أَقْطَعَهُ فِي السَّنَةِ قَبْلَ اسْتِحْقَاقِهِ لم يجز لأنه مَضْرُوبٌ لِلْوُجُوبِ. وَأَمَّا مَا كَانَ مِنْ الْخَرَاجِ أُجْرَةً، فَهُوَ مُسْتَقِرُّ الْوُجُوبِ عَلَى التَّأْبِيدِ، فَيَصِحُّ إقطاعه سنين. ولايلزم الاقتصار عَلَى سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ الَّتِي لَا تستقر. وإذا كان كذلك لم يخل حَالُ إقْطَاعِهِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يكون مقدرا سِنِينَ مَعْلُومَةً، كَإِقْطَاعِهِ عَشْرَ سِنِينَ، فَيَصِحُّ إذَا رُوعِيَ فِيهِ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ رِزْقُ الْمُقْطَعِ مَعْلُومَ الْقَدْرِ عِنْدَ بَاذِلِ الْإِقْطَاعِ، فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَهُ لَمْ يَصِحَّ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْرُ الْخَرَاجِ مَعْلُومًا عِنْدَ الْمُقْطَعِ وَعِنْدَ بَاذِلِ الْإِقْطَاعِ. فَإِنْ كَانَ مَجْهُولًا عِنْدَهُمَا أَوْ عِنْدَ أَحَدِهِمَا لَمْ يَصِحَّ. وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَخْلُ حَالُ الْخَرَاجِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 إمَّا أَنْ يَكُونَ مُقَاسَمَةً أَوْ مِسَاحَةً، فَإِنْ كَانَ مُقَاسَمَةً، فَمَنْ جَوَّزَ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَضْعَ الْخَرَاجِ عَلَى الْمُقَاسَمَةِ جَعَلَهُ مِنْ الْمَعْلُومِ الَّذِي يَجُوزُ إقْطَاعُهُ. وَمَنْ مَنَعَ مِنْ وَضْعِ الْخَرَاجِ على المقاسمة جعله منالمجهو الذي لا يجوز إقطاعه. وإن كان الخراج مساحة فهو على ضربين: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الزُّرُوعِ فَهَذَا مَعْلُومٌ يَصِحُّ إقْطَاعُهُ. وَالثَّانِي: أَنْ يَخْتَلِفَ بِاخْتِلَافِ الزُّرُوعِ، فَيُنْظَرُ رِزْقُ مُقْطَعِهِ. فَإِنْ كَانَ فِي مقابلة أعلى الخراجين صح إقطاعه، لأنه بِنَقْصٍ إنْ دَخَلَ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ فِي مُقَابَلَةِ أَقَلِّ الْخَرَاجَيْنِ لَمْ يَصِحَّ إقْطَاعُهُ، لِأَنَّهُ يُوجَدُ فِيهِ زِيَادَةٌ لَا يَسْتَحِقُّهَا. ثُمَّ يُرَاعِي بَعْدَ صِحَّةِ الْإِقْطَاعِ فِي هَذَا الْقِسْمِ حَالَ الْمُقْطَعِ فِي مُدَّةِ الْإِقْطَاعِ، فَإِنَّهَا لَا تَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَبْقَى إلَى انقضائها على السَّلَامَةِ، فَهُوَ عَلَى اسْتِحْقَاقِ الْإِقْطَاعِ إلَى انْقِضَاءِ المدة. الحالة الثَّانِيَةُ: أَنْ يَمُوتَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ، فَيُبْطِلَ الْإِقْطَاعَ فِي الْمُدَّةِ الْبَاقِيَةِ بَعْدَ مَوْتِهِ وَيَعُودَ إلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُ ذُرِّيَّةٌ دَخَلُوا فِي إعْطَاءِ الذَّرَارِيِّ لَا فِي أَرْزَاقِ الأجناد وكان ما يعطونه تسبيبا لا إقطاعا. الحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يُحْدِثَ بِهِ زَمَانَةً، فَيَكُونَ بَاقِي الحياة مفقود الصحة، ففي بقاء إقطاعه بد زمانته احتمالان: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ بَاقٍ عَلَيْهِ إلَى انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ إذا قيل إن رزقه بالزمانة لا يسقط. والثاني: يرتجع منه إذا قيل إذا إنَّ رِزْقَهُ بِالزَّمَانَةِ قَدْ سَقَطَ. فَهَذَا حُكْمُ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ إذَا قُدِّرَ الْإِقْطَاعُ فِيهِ بِمُدَّةٍ معلومة. القسم الثَّانِي مِنْ أَقْسَامِهِ أَنْ يَسْتَقْطِعَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ ثم لورثته وعقبه بعد موته، فهذا الإقطاع باطل، لأنه خرج بهذا الإقطاع عن حقوق بيت المال إلى الأملاك الموروثة، فإذا أبطل كَانَ مَا اجْتَبَاهُ مِنْهُ مَأْذُونًا فِيهِ عَنْ عقد فاسد، فبرئ أهل الخراج بقبضه وحسب به مِنْ جُمْلَةِ رِزْقِهِ، فَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ رَدَّ الزيادة، وإن كان أقل بالباقي، وأظهر السلطان فساد الإقطاع حتى يمتنع ن القبض ويمتنع أَهْلُ الْخَرَاجِ مِنْ الدَّفْعِ، فَإِنْ دَفَعُوهُ بَعْدَ إظهار ذلك لم يبرءوا منه. القسم الثَّالِثُ أَنْ يَسْتَقْطِعَهُ مُدَّةَ حَيَاتِهِ، فَفِي صِحَّةِ الإقطاع احتمالان: أحدهما: أنه صحيح إذا قِيلَ إنَّ حُدُوثَ زَمَانَتِهِ لَا يَقْتَضِي سُقُوطَ رزقه. والثاني: أنه باطل إذا قيل إن حدوث زمانته موجب لسقوط رزقه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 وَإِذَا صَحَّ الْإِقْطَاعُ فَأَرَادَ السُّلْطَانُ اسْتِرْجَاعَهُ مِنْ مَقْطَعِهِ جَازَ ذَلِكَ فِيمَا بَعْدَ السَّنَةِ الَّتِي هي فِيهَا، وَيَعُودُ رِزْقُهُ إلَى دِيوَانِ الْعَطَايَا، فَأَمَّا فِي السَّنَةِ الَّتِي هُوَ فِيهَا فَيَنْظُرُ، فَإِنْ حَلَّ رِزْقُهُ فِيهَا قَبْلَ حُلُولِ خَرَاجِهَا لَمْ يسترجع منه في سننه لِاسْتِحْقَاقِ خَرَاجِهَا فِي رِزْقِهِ، وَإِنْ حَلَّ خَرَاجُهَا قَبْلَ حُلُولِ رِزْقِهِ جَازَ اسْتِرْجَاعُهُ مِنْهُ، لِأَنَّ تعجيل المؤجل وإن كان جائزا فليس بلازم. فأما أرزاق من عَدَا الْجَيْشَ إذَا أَقْطَعُوا بِهَا مَالَ الْخَرَاجِ فتنقسم ثلاثة أقسام: أحدها: من يرزق عَلَى عَمَلٍ غَيْرِ مُسْتَدِيمٍ: كَعُمَّالِ الْمَصَالِحِ، وَجُبَاةِ الْخَرَاجِ، فَالْإِقْطَاعُ بِأَرْزَاقِهِمْ لَا يَصِحُّ، وَيَكُونُ مَا حصل لهم من مال الخراج تسبيبا وحوالة بعد استحقاق الرزق وحلول الخراج. القسم الثاني: من يرزق على عمل مستديم يجري رزقه مجرى الجعالة وهم الناظرون في أعمال البر التي يصح التطوع بها إذا تزقوا عليها كالمؤذنين والأئمة، فيكون ما جعل لهم في أرزاقهم تسبيبا وحوالة عليه ولا يكون إقطاعا. القسم الثَّالِثُ: مَنْ يُرْتَزَقُ عَلَى عَمَلٍ مُسْتَدِيمٍ وَيَجْرِي رِزْقُهُ مَجْرَى الْإِجَارَةِ، وَهُوَ مَنْ لَا يَصِحُّ نَظَرُهُ إلَّا بِوِلَايَةٍ وَتَقْلِيدٍ: مِثْلُ الْقُضَاةِ، وَالْحُكَّامِ وَكُتَّابِ الدَّوَاوِينِ، فَيَجُوزُ أَنْ يُقْطَعُوا بِأَرْزَاقِهِمْ خَرَاجَ سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَيَحْتَمِلُ جَوَازُ إقْطَاعِهِمْ أَكْثَرَ مِنْ سَنَةٍ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ كَالْجَيْشِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ، لِمَا يَتَوَجَّهُ إلَيْهِمْ مِنْ الْعَزْلِ وَالِاسْتِبْدَالِ. وَأَمَّا إقْطَاعُ الْمَعَادِنِ وَهِيَ الْبِقَاعُ الَّتِي أَوْدَعَهَا الله تعالى الجواهر في الأرض، فهي ضربان: ظاهرة، وباطنة. أما الظاهرة فما كَانَ جَوْهَرُهَا الْمُسْتَوْدَعُ فِيهَا بَارِزًا كَمَعَادِنِ الْكُحْلِ، والملح، والنفظ. فهو كَالْمَاءِ الَّذِي لَا يَجُوزُ إقْطَاعُهُ، وَالنَّاسُ فِيهِ شرع يأخذه من ورد إليه. وقد نص عليه في رواية حرب وقد سئل عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - " أنه أقطع رجلا معدن الملح الذي بمأرب فقيل له: إنه بمنزلة الماء العد، فرد النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: " معدن ملح ينتابه الناس في الصحراء يأخذون الملح ليس هو بملك أحد، أخذه السلطان فأقطعه رجلا فمنع الناس منه، فكرهه وقال: هذا للمسلمين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 فإن أقطعت هذا الْمَعَادِنُ الظَّاهِرَةُ لَمْ يَكُنْ لِإِقْطَاعِهَا حُكْمٌ، وَكَانَ المنقطع وغيره فيها سواء، وجميع من ورد أسوة يشتركون فِيهَا، فَإِنْ مَنَعَهُمْ الْمُقْطِعُ مِنْهَا كَانَ بِالْمَنْعِ مُتَعَدِّيًا، وَكَانَ لِمَا أَخَذَهُ مَالِكًا، لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بالمنع لا بالأخذ، وكف عَنْ الْمَنْعِ وَصُرِفَ عَنْ مُدَاوَمَةِ الْعَمَلِ لِئَلَّا يثبته إقطاعا بالصحة، أو يصير معه في حكم الأملاك المستقرة. وَأَمَّا الْمَعَادِنُ الْبَاطِنَةُ فَهِيَ مَا كَانَ جَوْهَرُهَا مستكنا فيها لا يوصل إلَّا بِالْعَمَلِ، كَمَعَادِنِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالصُّفْرِ وَالْحَدِيدِ، فَهَذِهِ وَمَا أَشْبَهَهَا مَعَادِنُ بَاطِنَةٌ، سَوَاءٌ احْتَاجَ المأخوذ منها إلى سبك وتصفية وتخليص أو لم يحتج، فلا يجوز إقطاعها كالمعادن الظاهرة، وكل الناس فيها شرع. فإن أحيى مواتا بإقطاع او غير فَهَذِهِ وَمَا أَشْبَهَهَا مَعَادِنُ بَاطِنَةٌ، سَوَاءٌ احْتَاجَ المأخوذ منها إلى سبك وتصفية وتخليص أو لم يحتج، فلا يجوز إقطاعها كالمعادن الظاهرة، وكل الناس فيها شرع. فإن أحيى مَوَاتًا بِإِقْطَاعٍ أَوْ غَيْرِ إقْطَاعٍ فَظَهَرَ فِيهِ، بِالْإِحْيَاءِ مَعْدِنٌ ظَاهِرٌ أَوْ بَاطِنٌ، مَلَكَهُ الْمُحْيِي عَلَى التَّأْبِيدِ كَمَا يَمْلِكُ مَا اسْتَنْبَطَهُ مِنْ العيون واحتفره من الآبار. فصل في وضع الديوان، وذكر أحكامه والديوان موضوع لِحِفْظِ مَا يَتَعَلَّقُ بِحُقُوقِ السَّلْطَنَةِ، مِنْ الْأَعْمَالِ وَالْأَمْوَالِ، وَمَنْ يَقُومُ بِهَا مِنْ الْجُيُوشِ وَالْعُمَّالِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 والديوان بالفارسية: اسم للشياطين، فسمي الكتاب باسمهم لحذقهم بالأمور ووقوفهم منها عَلَى الْجَلِيِّ وَالْخَفِيِّ وَجَمْعِهِمْ لِمَا شَذَّ وَتَفَرَّقَ، ثُمَّ سُمِّيَ مَكَانُ جُلُوسِهِمْ بِاسْمِهِمْ، فَقِيلَ دِيوَانٌ. وَأَوَّلُ مَنْ وَضَعَ الدِّيوَانَ فِي الْإِسْلَامِ عُمَرُ بن الخطاب. فأما سبب وضعه فروى أن عمر استشار الناس في تدوين الدواوين، فقال علي بن أبي طالب " تُقَسِّمُ كُلَّ سَنَةٍ مَا اجْتَمَعَ إلَيْكَ مِنْ الْمَالِ وَلَا تُمْسِكْ مِنْهُ شَيْئًا " وَقَالَ عُثْمَانُ بن عفان " أرى مالا كثيرا يسع الناس، وإن لَمْ يُحْصُوا حَتَّى يُعْرَفَ مَنْ أَخَذَ مِمَّنْ لم يأخذ حشيت أَنْ يَنْتَشِرَ الْأَمْرُ فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ " قد كنت بالشام فرأيت ملوكها دَوَّنُوا دِيوَانًا وَجَنَّدُوا جُنُودًا فَدَوِّنْ دِيوَانًا وَجَنِّدْ جُنُودًا" فَأَخَذَ بِقَوْلِهِ. وَدَعَا عَقِيلَ بْنَ أَبِي طَالِبٍ، وَمَخْرَمَةَ بْنَ نَوْفَلٍ، وَجُبَيْرَ بْنَ مُطْعِمٍ، وكانوا من نبهاء قريش وأعلمهم بأنسابهم فقال " اُكْتُبُوا النَّاسَ عَلَى مَنَازِلِهِمْ " فَبَدَءُوا بِبَنِي هَاشِمٍ فَكَتَبُوهُمْ ثُمَّ أَتْبَعُوهُمْ أَبَا بَكْرٍ وَقَوْمَهُ ثُمَّ عُمَرَ وَقَوْمَهُ، وَكَتَبُوا الْقَبَائِلَ وَوَضَعُوهَا عَلَى الْخِلَافَةِ، ثم دفعوه إلَى عُمَرَ، فَلَمَّا نَظَرَ فِيهِ قَالَ: " لَا، وَدِدْتُ أَنَّهُ كَانَ هَكَذَا، وَلَكِنْ ابْدَءُوا بِقَرَابَةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْأَقْرَبَ ثم الأقرب، حتى تضعوا عمر حيث وضعه الله تعالى، فشكره العباس على ذلك وقال " وصلتك رحم". فروى زَيْدُ بْنُ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ " أَنَّ بَنِي عَدِيٍّ جَاءُوا إلَى عُمَرَ فَقَالُوا: إنَّك خَلِيفَةُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَخَلِيفَةُ أَبِي بَكْرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ خَلِيفَةُ رَسُولِ الله - صلى الله عليه وسلم - فلو جعلت نفسك حيث جعلك هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَتَبُوا؟ فَقَالَ: بَخٍ بَخٍ يَا بَنِي عَدِيٍّ، أَرَدْتُمْ الْأَكْلَ عَلَى ظَهْرِي وأن أهب حسناتي لكم، لا والله حتى تأتيكم الدعوة وإن انطبق عليكم الدفتر، يعني لو أن تُكْتَبُوا آخِرَ النَّاسِ- إنَّ لِي صَاحِبِينَ سَلَكَا طريقا، فإن خالفتهما خولف بي، والله ما أدركنا الفضل في الدنيا، ولانرجو الثواب في الآخرة عَلَى عَمَلِنَا إلَّا بِمُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَهُوَ شَرَفُنَا، وَقَوْمُهُ أَشْرَفُ الْعَرَبِ، ثُمَّ الأقرب بالأقرب، ووالله لَئِنْ جَاءَتْ الْأَعَاجِمُ بِعَمَلٍ وَجِئْنَا بِغَيْرِ عَمَلٍ لهم أولى برسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فإن من قصر به عمله لم يسرع به نسبه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وروى عامر الشعبي " أن عمر " حِينَ أَرَادَ وَضْعَ الدِّيوَانِ قَالَ: بِمَنْ أَبْدَأُ؟ فقال له عبد الرحمن ابن عوف: ابدأ بنفسك، فقال عمر: أذكرتني، حضرت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يبدأ ببني هاشم وبني الْمُطَّلِبِ، فَبَدَأَ بِهِمْ عُمَرُ، ثُمَّ بِمَنْ يَلِيهِمْ مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ بَطْنًا بَعْدَ بَطْنٍ، حَتَّى اسْتَوْفَى جَمِيعَ قُرَيْشٍ، ثُمَّ انْتَهَى إلَى الْأَنْصَارِ، فَقَالَ عُمَرُ: ابْدَءُوا بِرَهْطِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ من الأوس، ثم الأقرب فالأقرب لسعد". فلما استقر ترتيب الناس في الديوان على تعدد النَّسَبِ الْمُتَّصِلِ بِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَضَّلَ بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَاءِ عَلَى قَدْرِ السَّابِقَةِ فِي الْإِسْلَامِ وَالْقُرْبَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ يَرَى التَّسْوِيَةَ بَيْنَهُمْ فِي الْعَطَاءِ وَلَا يَرَى التفضيل بالسابقة، وكذلك كان رأي على ابن أبي طالب فِي خِلَافَتِهِ، وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ وَمَالِكٌ، وَكَانَ رأي عمر التفضيل بالسابقة في الدين، وكذلك كان رأي عثمان بعده، وبه أخذ أحمد وأبو حنيفة وفقهاء العراق. وقد ناظر عُمَرُ أَبَا بَكْرٍ حِينَ سَوَّى بَيْنَ النَّاسِ، فَقَالَ " أَتُسَوِّي بَيْنَ مَنْ هَاجَرَ الْهِجْرَتَيْنِ وَصَلَّى القبلتين، ومن أَسْلَمَ عَامَ الْفَتْحِ خَوْفَ السَّيْفِ؟ " فَقَالَ لَهُ أبو بكر " إنما عملوا لله وأجورهم على الله، وإنما الدنيا دار بلاغ " فقال عُمَرُ: " لَا أَجْعَلُ مَنْ قَاتَلَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَنْ قَاتَلَ مَعَهُ " فلما وضع الديوان فضل بالسابقة. ففرض لكل واحد شَهِدَ بَدْرًا مِنْ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، وَعُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ، وَطَلْحَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ، وَالزُّبَيْرُ بْنُ الْعَوَّامِ، وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بن عوف، وَفَرَضَ لِنَفْسِهِ مَعَهُمْ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَأَلْحَقَ بِهِ الْعَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَالْحَسَنَ وَالْحُسَيْنَ، لِمَكَانِهِمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقِيلَ: بَلْ فَضَّلَ الْعَبَّاسَ وَفَرَضَ لَهُ سبعة آلَافِ دِرْهَمٍ، إلَّا عَائِشَةَ فَإِنَّهُ فَرَضَ لَهَا اثني عشر ألف درهم، وألحق بهم جُوَيْرِيَةَ بِنْتَ الْحَارِثِ، وَصَفِيَّةَ بِنْتَ حُيَيٍّ، وَقِيلَ بل فرض لكل واحدة منهما ستة آلاف درهم، وفرض لمن هاجر قبل الفتح ثلاثة آلاف درهم لكل رجل، ولمن أسلم بعد الفتح ألفي دِرْهَمٍ لِكُلِّ رَجُلٍ، وَفَرَضَ لِغِلْمَانٍ أَحْدَاثٍ مِنْ أولاد المهاجرين والأنصار كفرائض مسلمة الْفَتْحِ. وَفَرَضَ لِعُمَرَ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ الْمَخْزُومِيِّ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، لِأَنَّ أُمَّهُ أُمَّ سَلَمَةَ زَوْجُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَقَالَ لَهُ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَحْشٍ " لِمَ تُفَضِّلُ عُمَرَ عَلَيْنَا وَقَدْ هَاجَرَ آبَاؤُنَا، وَشَهِدُوا بَدْرًا؟ فَقَالَ عُمَرُ: أُفَضِّلُهُ لِمَكَانِهِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَلِيَأْتِ الذي يستعتب بأم مثل أم سلمة". وَفَرَضَ لِأُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ، وفرض لعبد الله بن عمر ثلاثة آلاف درهم، فقال عبد الله بن عمر " فرضت لأسامة في أربعة آلاف درهم، وفرضت لي في ثلاثة آلاف، وَقَدْ شَهِدْت مَا لَمْ يَشْهَدْ أُسَامَةُ. فَقَالَ عُمَرُ: زِدْته لِأَنَّهُ كَانَ أَحَبَّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْكَ، وَكَانَ أبوه أَحَبَّ إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - من أبيك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 ثُمَّ فَرَضَ لِلنَّاسِ عَلَى مَنَازِلِهِمْ وَقِرَاءَتِهِمْ الْقُرْآنَ وجهادهم في سبيل الله. وَفَرَضَ لِأَهْلِ الْيَمَنِ وَقَيْسٍ بِالشَّامِ وَالْعِرَاقِ، لِكُلِّ رجل من ألفين إلى ألف وخمسمائة إلى ثلثمائة، وَلَمْ يُنْقِصْ أَحَدًا مِنْهَا وَقَالَ " لَئِنْ كَثُرَ الناس المال لأفرضين لِكُلِّ رَجُلٍ أَرْبَعَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ: أَلْفًا لِفَرَسِهِ، وَأَلْفًا لِسِلَاحِهِ، وَأَلْفًا لِسَفَرِهِ، وَأَلْفًا يُخْلِفُهَا فِي أَهْلِهِ". وَفَرَضَ لِلْمَنْفُوسِ مِائَةَ دِرْهَمٍ، فَإِذَا تَرَعْرَعَ بَلَغَ بِهِ مِائَتِي دِرْهَمٍ، فَإِذَا بَلَغَ زَادَهُ. وَكَانَ لَا يَفْرِضُ لِمَوْلُودٍ شَيْئًا حَتَّى يُفْطَمَ، إلى أن سمع ذات ليلة امرأة تُكْرِهُ وَلَدَهَا عَلَى الْفِطَامِ وَهُوَ يَبْكِي، فَسَأَلَهَا عَنْهُ، فَقَالَتْ: إنَّ عُمَرَ لَا يَفْرِضُ لِلْمَوْلُودِ حتى يفطم وأنا أُكْرِهُهُ عَلَى الْفِطَامِ حَتَّى يَفْرِضَ لَهُ، فَقَالَ " يا ويل عمر، كم احتمل مِنْ وِزْرٍ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ "، ثُمَّ أَمَرَ فنادى " لا تعجلوا أولادكم بالفطام، فإنه يفرض لِكُلِّ مَوْلُودٍ فِي الْإِسْلَام". ثُمَّ كَتَبَ إلَى أَهْلِ الْعَوَالِي - وَكَانَ يُجْرِي عَلَيْهِمْ الْقُوتَ - فَأَمَرَ بِجَرِيبٍ مِنْ الطَّعَامِ فَطُحِنَ، ثُمَّ خُبِزَ، ثُمَّ ثرد بزيت، ثم دعا بثلاثين رجلا فأكلوا منه غداءهم حَتَّى أَصَدَرَهُمْ، ثُمَّ فَعَلَ فِي الْعَشَاءِ مِثْلَ ذلك، فقال " يكفي الرجل جريبان كل شهر". وكان يرزق الرجل والمرأة والمملوك جريبين جَرِيبَيْنِ فِي كُلِّ شَهْرٍ. وَكَانَ إذَا أَرَادَ الرَّجُلُ أَنْ يَدْعُوَ عَلَى صَاحِبِهِ قَالَ لَهُ: رفع الله عنك جريبك. فكان الديوان موضوعا على دعوة العرب. وترتيب الناس فيه معتبرا بالنسب، وتفضيل العطاء معتبر بِالسَّابِقَةِ فِي الْإِسْلَامِ، وَحُسْنِ الْأَثَرِ فِي الدِّينِ، ثُمَّ رُوعِيَ فِي التَّفْضِيلِ عِنْدَ انْقِرَاض أَهْلِ السوابق: التقدم في الشجاعة، والبلاء في الجهاد. فَهَذَا حُكْمُ دِيوَانِ الْجَيْشِ فِي ابْتِدَاءِ وَضْعِهِ على الدعوة العربية والترتيب الشرعي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وقد حكى أحمد اختلاف الصحابة، وأخذ بقول من فضل. فقال في رواية المروزي " أما أبو بكر فلم يفضل أحدا على أحد، وعمر قد أعطى أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم - وفضلهن، وأعطى عبد الرحمن بن عوف وفضله، وأعطي المهاجرين الأولين وفضلهم على من سواهم، وأنا عثمان فأعطى وفضل، وأما علي فلم يفضل. وكذلك عمر فضل، فلما كان عثمان مضى ست سنين على الأمر، ثم فضل قوما " فهذا حكايته عنهم الاختلاف. وأما اختياره التفضيل فقال في رواية الحسن بن علي بن الحسن الاسكافي " الفيء للمسلمين عامة، إلا أن الإمام يفضل قوما على قوم". وقال في رواية بكر بن محمد عن أبيه: " لكل المسلمين فيه حق وهو على ما يرى الإمام، أليس عمر قد فرض لأمهات المؤمنين في ألفين ولأبناء المهاجرين سوى العطاء؟ فإذا كان الإمام عادلا أعطى منه على ما يرى فيه، يجتهد". فأما الذي يشتمل عليه ديوان السلطنة فينقسم أَرْبَعَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا يَخْتَصُّ بِالْجَيْشِ مِنْ إثْبَاتٍ وَعَطَاءٍ. وَالثَّانِي: مَا يَخْتَصُّ بِالْأَعْمَالِ مِنْ رُسُومٍ وَحُقُوقٍ. وَالثَّالِثُ: مَا يَخْتَصُّ بِالْعُمَّالِ مِنْ تَقْلِيدٍ وَعَزْلٍ. وَالرَّابِعُ: مَا يَخْتَصُّ بِبَيْتِ الْمَالِ من دخل وخرج. أما القسم الأول فيما يختص بالجيش مِنْ إثْبَاتٍ وَعَطَاءٍ: فَإِثْبَاتُهُمْ فِي الدِّيوَانِ مُعْتَبَرٌ بثلاثة شروط: أحدها: الوصف الذي يجوز به إثباتهم. والثاني: النسب الذي يستحقون به ترتيبهم. والثالث: الحال الذي يتقدم به عطاؤهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 فَأَمَّا شَرْطُ جَوَازِ إثْبَاتِهِمْ فِي الدِّيوَانِ فَيُرَاعَى فيه خمسة أوصاف: أحدها: البلوغ، فإن الصبب من جملة الذراري. والثاني: الحرية، وأصله: أنه لا يجوز إفراد العبيد بالعطاء في ديوان المقاتلة، وهو قول عمر، وهو طاهر كلام أحمد في رواية المروزي، وذكر حديث عمر قال " ما أحد من المسلمين إلا وله فيه نصيب، إلا العبيد، فليس لهم فيه شيء". وبه قال الشافعي. وحكى عن بعض العراقيين إفراد العبيد بالعطاء في ديوان المقاتلة، وهو قول أبي بكر. وَالثَّالِثُ: الْإِسْلَامُ، لِيَدْفَعَ عَنْ الْمِلَّةِ بِاعْتِقَادِهِ، وَيُوَثِّقَ بنصحه واجتهاده، فإن أثبت فيهم ذمي لَمْ يَجُزْ، وَإِنْ ارْتَدَّ مِنْهُمْ مُسْلِمٌ سَقَطَ. وهذا قياس قول أحمد، لأنه منع أن يستعان بالكفار في الجهاد. الرابع: السَّلَامَةُ مِنْ الْآفَاتِ الْمَانِعَةِ مِنْ الْقِتَالِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ زَمِنًا، وَلَا أَعْمَى، وَلَا أقطع، ويجوز أن يكون أخرس وأصم، فَأَمَّا الْأَعْرَجُ، فَإِنْ كَانَ فَارِسًا أُثْبِتَ، وَإِنْ كان راجلا أسقط. الخامس: أن يكون منه إقْدَامٌ عَلَى الْحُرُوبِ، وَمَعْرِفَةٌ بِالْقِتَالِ، فَإِنْ ضَعُفَتْ مِنَّتُهُ عَنْ الْإِقْدَامِ، أَوْ قَلَّتْ مَعْرِفَتُهُ بِالْقِتَالِ لَمْ يَجُزْ إثْبَاتُهُ، لِأَنَّهُ مُرْصَدٌ لِمَا هُوَ عَاجِزٌ عَنْهُ. فَإِذَا تَكَامَلَتْ فِيهِ هَذِهِ الْأَوْصَافُ كَانَ إثْبَاتُهُ فِي دِيوَانِ الْجَيْشِ مَوْقُوفًا عَلَى الطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ، فَيَكُونُ مِنْهُ الطَّلَبُ إذَا تَجَرَّدَ عن كل عمل، ويكون من ولي الأمر الإجابة، إذا دعت إليه الحاجة، فَإِنْ كَانَ مَشْهُورَ الِاسْمِ نَبِيهَ الْقَدْرِ لَمْ يَحْسُنْ إذَا أُثْبِتَ فِي الدِّيوَانِ أَنْ يُحَلَّى فيه أو ينعتـ وإن كَانَ مِنْ الْمَغْمُورِينَ فِي النَّاسِ حُلِّيَ وَنُعِتَ، فذكر سنه، وقدره، ولونه، وحلي وجهه، ووصف بما يتميز عن غيره، لئلا تتفق الأسماء أة يدعي وَقْتَ الْعَطَاءِ، وَضُمَّ إلَى نَقِيبٍ عَلَيْهِ أَوْ عريف له يكون مأخوذا بدركه. وَأَمَّا تَرْتِيبُهُمْ فِي الدِّيوَانِ إذَا أُثْبِتُوا فِيهِ فَمُعْتَبَرٌ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا عَامٌّ، وَالْأُخَرُ خَاصٌّ. فَأَمَّا الْعَامُّ: فَهُوَ تَرْتِيبُ الْقَبَائِلِ وَالْأَجْنَاسِ، حَتَّى يتميز كُلُّ قَبِيلَةٍ عَنْ غَيْرِهَا، وَكُلُّ جِنْسٍ عَمَّنْ يخالفه، فلا يجمع فيه بين المختلفين، لا يفرق بين المؤتلفين، لتكون دعوة الديوان على نسق معروف السبب يزول معه التَّنَازُعُ وَالتَّجَاذُبُ. وَإِذَا كَانَ هَكَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ أَنْ يَكُونُوا عَرَبًا أَوْ عَجَمًا. فَإِنْ كَانُوا عَرَبًا تَجْمَعُهُمْ أَنْسَابٌ وَتُفَرِّقُ بَيْنَهُمْ أنساب، ترتبت قبائلها بِالْقُرْبَى مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - كما فعل عمر حِينَ دَوَّنَهُمْ فَيُبْدَأُ بِالتَّرْتِيبِ فِي أَصْلِ النَّسَبِ، ثم مما تفرع عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 والعرب: عدنان وقحطان، فيقدم عَدْنَانُ عَلَى قَحْطَانَ، لِأَنَّ النُّبُوَّةَ فِيهِمْ، وَعَدْنَانُ يجمع ربيعة ومضر، فيقدم مُضَرُ عَلَى رَبِيعَةَ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ فِيهِمْ، وَمُضَرُ يجمع قريشا وغير قريش، فيقدم قريشا لأن النبوة فيهم، وقريش تجمع بني هاشم وغيرهم، فيقدم بني هَاشِمٍ لِأَنَّ النُّبُوَّةَ فِيهِمْ. فَيَكُونُ بَنُو هَاشِمٍ قطب الترتيب، ثم من يليهم من أقرب الأنساب إليهم، حتى يستوعب قريشا، ثم من يَلِيهِمْ فِي النَّسَبِ حَتَّى يَسْتَوْعِبَ جَمِيعَ مُضَرَ، ثم من يليهم حتى يستوعب جميع عدنان. وَإِنْ كَانُوا عَجَمًا لَا يَجْتَمِعُونَ عَلَى نَسَبٍ، فالذي يجمعهم عند فقد النسب أحد أمرين: إمَّا أَجْنَاسٌ، وَإِمَّا بِلَادٌ. فَالْمُتَمَيِّزُونَ بِالْأَجْنَاسِ، كَالتُّرْكِ، والهند، ثم يتميز التُّرْكُ أَجْنَاسًا، وَالْهِنْدُ أَجْنَاسًا، وَالْمُتَمَيِّزُونَ بِالْبِلَادِ، كَالدَّيْلَمِ، والجبل، ثم يتميز الديلم بلدانا، والجيل بلدانا. فإذا تَمَيَّزُوا بِالْأَجْنَاسِ أَوْ الْبُلْدَانِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ سابقة قدم فِي الْإِسْلَامِ تَرَتَّبُوا عَلَيْهَا فِي الدِّيوَانِ، وَإِنْ لم يكن لَهُمْ سَابِقَةٌ تَرَتَّبُوا بِالْقُرْبِ مِنْ وَلِيِّ الْأَمْرِ، وإن تساووا فالسبق إلَى طَاعَتِهِ. وَأَمَّا التَّرْتِيبُ الْخَاصُّ، فَهُوَ تَرْتِيبُ الواحد بعد الواحد، فيرتب بِالسَّابِقَةِ فِي الْإِسْلَامِ، فَإِنْ تَكَافَئُوا فِي السَّابِقَةِ تَرَتَّبُوا بِالدَّيْنِ، فَإِنْ تَقَارَبُوا فِيهِ تَرَتَّبُوا بِالسِّنِّ، فإن تقاربوا في السن تَرَتَّبُوا بِالشَّجَاعَةِ، فَإِنْ تَقَارَبُوا فِيهَا فَوَلِيُّ الْأَمْرِ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يُرَتِّبَهُمْ بِالْقُرْعَةِ، أَوْ يُرَتِّبَهُمْ على رأيه واجتهاده. وأما تقدير العطاء فعتبر بِالْكِفَايَةِ حَتَّى يُسْتَغْنَى بِهَا عَنْ الْتِمَاسِ مَادَّةٍ تَقْطَعُهُ عَنْ حِمَايَةِ الْبَيْضَةِ. وَالْكِفَايَةُ مُعْتَبَرَةٌ مِنْ ثلاثة أوجه: أحدها: عدة مَنْ يَعُولُهُ مِنْ الذَّرَارِيِّ وَالْمَمَالِيكِ. وَالثَّانِي: عَدَدُ مَا يَرْتَبِطُهُ مِنْ الْخَيْلِ وَالظَّهْرِ. وَالثَّالِثُ: الْمَوْضِعُ الَّذِي يَحِلُّهُ فِي الْغَلَاءِ وَالرُّخْصِ، فَيُقَدِّرُ كِفَايَتَهُ فِي نَفَقَتِهِ وَكِسْوَتِهِ لِعَامِهِ كُلِّهِ، فَيَكُونُ هَذَا المقدر في عطائه، ثم يعرض حَالُهُ فِي كُلِّ عَامٍ، فَإِنْ زَادَتْ رَوَاتِبُهُ الماسة زيد وإن نقصت نقص. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وإذا تَقَدَّرَ رِزْقُهُ بِالْكِفَايَةِ، هَلْ يَجُوزُ أَنْ يُزَادَ عليها إذا اتسع المال؟ ظاهر كلام أحمد: أنه يجوز زِيَادَتَهُ عَلَى الْكِفَايَةِ إذَا اتَّسَعَ الْمَالُ لَهَا، لأنه قال في رواية أبي النضر العجلي: " والفيء بين الغني والفقير". فقد جعل للغني فيها حقا، والغني إنما يكون فيما فضل عن حاجته، وهو قول أبي حنيفة، خلافا للشافعي في قوله: لا يجوز ذلك. وَيَكُونُ وَقْتُ الْعَطَاءِ مَعْلُومًا يَتَوَقَّعُهُ الْجَيْشُ عِنْدَ الاستحقاق. وهو معتبر بالوقت الذي يستوفي فِيهِ حُقُوقُ بَيْتِ الْمَالِ. فَإِنْ كَانَتْ تُسْتَوْفَى فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ مِنْ السَّنَةِ جُعِلَ الْعَطَاءُ فِي رَأْسِ كُلِّ سَنَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ تُسْتَوْفَى فِي وَقْتَيْنِ جُعِلَ الْعَطَاءُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مرتين. وإن كانت تستوفي كُلِّ شَهْرٍ جُعِلَ الْعَطَاءُ فِي رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ، لِيَكُونَ الْمَالُ مَصْرُوفًا إلَيْهِمْ عِنْدَ حُصُولِهِ فَلَا يُحْبَسُ عَنْهُمْ إذَا اجْتَمَعَ، وَلَا يُطَالِبُونَ به إذا تأخر. وإذا تأخر العطاء عنهم عِنْدَ اسْتِحْقَاقِهِ، وَكَانَ حَاصِلًا فِي بَيْتِ الْمَالِ، كَانَ لَهُمْ الْمُطَالَبَةُ بِهِ كَالدُّيُونِ الْمُسْتَحَقَّةِ. وَإِنْ أَعْوَزَ بَيْتُ الْمَالِ - لِعَوَارِضَ - أَبْطَلَتْ حُقُوقَهُ، أَوْ أَخَّرَتْهَا كَانَتْ أَرْزَاقُهُمْ دَيْنًا عَلَى بَيْتِ الْمَالِ: وَلَيْسَ لَهُمْ مُطَالَبَةُ وَلِيِّ الْأَمْرِ بِهِ، كَمَا لَيْسَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ مُطَالَبَةُ مَنْ أَعْسَرَ بِدَيْنِهِ. وَإِذَا أَرَادَ وَلِيُّ الْأَمْرِ إسْقَاطَ بَعْضِ الْجَيْشِ بسبب أَوْجَبَهُ أَوْ لِعُذْرٍ اقْتَضَاهُ جَازَ، وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِ سَبَبٍ لَمْ يَجُزْ، لِأَنَّهُمْ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ فِي الذَّبِّ عَنْهُمْ. وَإِذَا أَرَادَ بَعْضُ الْجَيْشِ إخْرَاجَ نَفْسِهِ مِنْ الدِّيوَانِ جَازَ مَعَ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، وَلَمْ يَجُزْ مَعَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ إلَّا أن يكون معذورا. وإذا جرد الجيش للقتال، فامتنعوا - وهم أكفاء من جاربهم - سقطت أرزاقهم. وإن ضعفوا عنه لَمْ تَسْقُطْ. وَإِذَا نَفَقَتْ دَابَّةُ أَحَدِهِمْ فِي حَرْبٍ عُوِّضَ عَنْهَا، وَإِنْ نَفَقَتْ فِي غَيْرِ حَرْبٍ لَمْ يُعَوَّضْ. وَإِذَا اُسْتُهْلِكَ سِلَاحُهُ فِيهَا عوض عنه إن لم يَدْخُلُ فِي تَقْدِيرِ عَطَائِهِ، وَلَمْ يُعَوَّضْ إنْ دَخَلَ فِيهِ. وَإِذَا جُرِّدَ لِسَفَرٍ أُعْطِيَ نَفَقَةَ سفره، وإن لم يدخل في تقدير عطائه، ولم يعط إن دخل فيه. وإذا مات أحدهم أو قتل وكان ما استحقه مِنْ عَطَائِهِ مَوْرُوثًا عَنْهُ عَلَى فَرَائِضِ اللَّهِ تَعَالَى، وَهُوَ دَيْنٌ لِوَرَثَتِهِ فِي بَيْتِ الْمَالِ. فأما استيفاء نَفَقَاتِ ذُرِّيَّتِهِ مِنْ عَطَائِهِ فِي دِيوَانِ الْجَيْشِ فيحتمل أن تسقط نَفَقَتُهُمْ مِنْ دِيوَانِ الْجَيْشِ لِذَهَابِ مُسْتَحَقِّهِ. وَيُحَالُونَ على مال الغنيمة والصدقة من سهم الفقراء والمساكين. ويحتمل أن يَسْتَبْقِي مِنْ عَطَائِهِ نَفَقَاتِ ذُرِّيَّتِهِ، تَرْغِيبًا لَهُ في المقام، وبعثا له على الإقدام. فإن حدث به زمانة، فهل يسقط عطاؤه؟ يحتمل أن يَسْقُطُ لِأَنَّهُ فِي مُقَابَلَةِ عَمَلٍ قَدْ عُدِمَ، ويحتمل أنه باق في العطاء ترغيبا في التجنيد والارتزاق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وأما القسم الثاني فيما يختص بالأعمال من رسوم وحقوق فتشتمل عَلَى سِتَّةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا تَحْدِيدُ الْعَمَلِ بِمَا يتميز به عن غَيْرِهِ، وَتَفْصِيلُ نَوَاحِيهِ الَّتِي تَخْتَلِفُ أَحْكَامُهَا، فَيَجْعَلُ لكل بلد حدا لا يشارك غيره فيه. وتفصيل نَوَاحِيَ كُلِّ بَلَدٍ إذَا اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُ نَوَاحِيهِ. وَإِنْ اخْتَلَفَتْ أَحْكَامُ الضِّيَاعِ فِي كُلِّ نَاحِيَةٍ فُصِلَتْ ضِيَاعُهُ. كَتَفْصِيلِ نَوَاحِيهِ. وَإِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ اقتصر على تفصيل النواحي دون الضياع. الفصل الثاني أن يذكر حال البلد، هل فتحت عَنْوَةً أَوْ صُلْحًا؟ وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ أَرْضِهِ: مِنْ عُشْرٍ أَوْ خَرَاجٍ، وَهَلْ اخْتَلَفَتْ أحكام نواحيه أَوْ تَسَاوَتْ؟ فَإِنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: إمَّا أَنْ يَكُونَ جَمِيعُهُ أَرْضَ عُشْرٍ، أو يكون جَمِيعُهُ أَرْضَ خَرَاجٍ، أَوْ يَكُونَ بَعْضُهُ عُشْرًا وَبَعْضُهُ خَرَاجًا. فَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ أَرْضَ عُشْرٍ لَمْ يَلْزَمْ إثْبَاتُ مَسَائِحِهِ، لِأَنَّ الْعُشْرَ عَلَى الزَّرْعِ دُونَ الْمِسَاحَةِ. وَيَكُونَ مَا اُسْتُؤْنِفَ زَرْعُهُ مَرْفُوعًا إلَى دِيوَانِ الْعُشْرِ، لَا مُسْتَخْرَجًا مِنْهُ. وَيَلْزَمُ تَسْمِيَةُ أَرْبَابِهِ عِنْدَ رَفْعِهِ إلَى الدِّيوَانِ، لِأَنَّ وُجُوبَ الْعُشْرِ فِيهِ مُعْتَبَرٌ بِأَرْبَابِهِ دُونَ رِقَابِ الْأَرْضِينَ. وَإِذَا رُفِعَ الزَّرْعُ بِأَسْمَاءِ أَرْبَابِهِ ذُكِرَ مَبْلَغُ كَيْلِهِ وَحَالُ سَقْيِهِ بِسَيْحٍ أَوْ عمل، لاختلاف حكمه، ويستوفي عَلَى مُوجِبهِ. وَإِنْ كَانَ جَمِيعُهُ أَرْضَ خَرَاجٍ لَزِمَ إثْبَاتُ مَسَائِحِهِ، لِأَنَّ الْخَرَاجَ عَلَى الْمِسَاحَةِ وإن كان الخراج في حكم الأجرة لم يلزم أرباب تَسْمِيَةُ أَرْبَابِ الْأَرْضِينَ، لِأَنَّهُ لَا يَخْتَلِفُ بِإِسْلَامٍ وَلَا كُفْرٍ. وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ فِي حُكْمِ الجزية لزم تسمية أربابه ووصفهم بإسلام أو كفر لِاخْتِلَافِ حُكْمِهِ بِاخْتِلَافِ أَهْلِهِ. وَإِنْ كَانَ بَعْضُهُ عُشْرًا وَبَعْضُهُ خَرَاجًا فُصِلَ فِي دِيوَانِ الْعُشْرِ مَا كَانَ مِنْهُ عُشْرًا. وَفِي دِيوَانِ الْخَرَاجِ ما كان خراجا، لاختلاف الحكم فيهما، وَأُجْرِيَ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَخْتَصُّ بحكمه. الفصل الثَّالِثُ أَحْكَامُ خَرَاجِهِ وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَى مَسَائِحِهِ. هَلْ هُوَ مُقَاسَمَةٌ عَلَى زَرْعِهِ، أَوْ هُوَ ورق مقدر على جريانه؟ فإن كان مقاسمة لزم إذا خرجت مسائح أرضين مِنْ دِيوَانِ الْخَرَاجِ أَنْ يُذْكَرَ مَعَهَا مَبْلَغُ الْمُقَاسَمَةِ: مِنْ رُبْعٍ أَوْ ثُلُثٍ، أَوْ نِصْفٍ، وَيُرْفَعُ إلَى الدِّيوَانِ مَقَادِيرُ الْكُيُولِ، لِتُسْتَوْفَى الْمُقَاسَمَةُ على موجبها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ وَرِقًا لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُتَسَاوِيًا مَعَ اخْتِلَافِ الزُّرُوعِ، أَوْ مختلفا فإن تساوى مَعَ اخْتِلَافِ الزُّرُوعِ أُخْرِجَتْ الْمَسَائِحُ مِنْ دِيوَانِ الْخَرَاجِ لِيَسْتَوْفِيَ خَرَاجَهَا. وَلَا يَلْزَمُ أَنْ يُرْفَعَ إلَيْهِ إلَّا مَا قُبِضَ مِنْهَا. وَإِنْ كَانَ الْخَرَاجُ مُخْتَلِفًا بِاخْتِلَافِ الزُّرُوعِ لَزِمَ إخْرَاجُ الْمَسَائِحِ من ديوان الخراج. وإن لم يرفع إليه أجناس الزروع استوفى خَرَاجَ الْمِسَاحَةِ عَلَى مَا يُوجِبُهُ حُكْمُ الزَّرْعِ. الفصل الرابع ذكر من في كل ناحية من أخل الذِّمَّةِ، وَمَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِمْ فِي عَقْدِ الْجِزْيَةِ، فإن كانت مختلفة باليسار والإعسار سموا الدِّيوَانِ مَعَ ذِكْرِ عَدَدِهِمْ، لِيُخْتَبَرَ حَالُ يَسَارِهِمْ وَإِعْسَارِهِمْ. وَإِنْ لَمْ تَخْتَلِفْ فِي الْيَسَارِ وَالْإِعْسَارِ جاز الاقتصاد عَلَى ذِكْرِ عَدَدِهِمْ، وَوَجَبَ مُرَاعَاتُهُمْ فِي كُلِّ عام، ليثبت من بلغ، ويسقط مات أو أسلم، ليحصر بذلك ما يستحق من جزيتهم. الفصل الْخَامِسُ إنْ كَانَ مِنْ بُلْدَانِ الْمَعَادِنِ: أَنْ يذكر أجناس معادنه، وعدد كل جنس، لِيَسْتَوْفِيَ حَقَّ الْمَعْدِنِ مِنْهَا. وَهَذَا مِمَّا لَا يَنْضَبِطُ بِمِسَاحَةٍ، وَلَا يَنْحَصِرُ بِتَقْدِيرٍ لِاخْتِلَافِهِ، وَإِنَّمَا ينضبط الْمَأْخُوذِ مِنْهُ إذَا أَعْطَى وَأَنَالَ. وَلَا يَلْزَمُ فِي أَحْكَامِ الْمَعَادِنِ أَنْ يُوصَفَ فِي الدِّيوَانِ أحكام فتوحها، وهل هي أرض عشر أو أرض خَرَاجٍ؟ لِأَنَّ الدِّيوَانَ فِيهَا مَوْضُوعٌ لِاسْتِيفَاءِ الْحَقَّ مِنْ نِيلِهَا، وَحَقُّهَا لَا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ فُتُوحِهَا وأحكام أرضها. وإنما يختلف ذلك باختلاف العاملين فيها والآخذين لها، فلزم تسميتهم ووصفهم. وقد تقدم القول في أجناس ما يؤخذ حق المعدن منها وفي قدر المأخوذ منها. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَدْ سَبَقَ لِلْأَئِمَّةِ فِيهَا حكم اجتهد والي الوقت رأيه فِي الْجِنْسِ الَّذِي يَجِبُ فِيهِ، وَفِي الْقَدْرِ المأخوذ منه، وعمل عليه في الأمرين جميعا إذَا كَانَ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ كَانَ مَنْ سَبَقَ مِنْ الْأَئِمَّةِ وَالْوُلَاةِ قَدْ اجْتَهَدَ رأيه في الجنس الذي يجب فيه، وقي القدر المأخوذ منه وحكم به فيهما حكما أيده وأمضاه استقر حُكْمُهُ فِي الْأَجْنَاسِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا حَقُّ الْمَعْدِنِ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ حُكْمُهُ فِي الْقَدْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْ الْمَعْدِنِ، لِأَنَّ حُكْمَهُ فِي الْجِنْسِ مُعْتَبَرٌ بِالْمَعْدِنِ الْمَوْجُودِ، وَحُكْمُهُ فِي الْقَدْرِ مُعْتَبَرٌ بِالْمَعْدِنِ المفقود. الفصل السَّادِسُ إنْ كَانَ الْبَلَدُ ثَغْرًا يُتَاخِمُ دَارَ الحرب، وكانت أموالهم إذا دَخَلَتْ دَارَ الْإِسْلَامِ مَعْشُورَةً عَنْ صُلْحٍ اسْتَقَرَّ معهم، أثبت في الديوان عَقْدِ صُلْحِهِمْ، وَقَدْرِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ: مِنْ عُشْرٍ، أو خمس، أو زيادة عليه، أو نقصان منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 وإن كَانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَمْتِعَةِ وَالْأَمْوَالِ فُصِلَتْ فِيهِ، وَكَانَ الدِّيوَانُ مَوْضُوعًا لِإِخْرَاجِ رُسُومِهِ وَلِاسْتِيفَاءِ مَا يُرْفَعُ إلَيْهِ مِنْ مَقَادِيرِ الْأَمْتِعَةِ الْمَحْمُولَةِ إلَيْهِ. فأما أَعْشَارُ الْأَمْوَالِ الْمُنْتَقِلَةِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ مِنْ بَلَدٍ إلَى بَلَدٍ فَمُحَرَّمَةٌ لَا يُبِيحُهَا شَرْعٌ، وَلَا يُسَوِّغُهَا اجْتِهَادٌ وَلَا هِيَ مِنْ سِيَاسَاتِ العدل، وقلما تكون إلا في البلاد الجائرة، ولذلك قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " لا يدخل الجنة صاحب مكس " وفي لفظ آخر " إن صاحب المكس في النار " يعني العاشر. وفي لفظ آخر" إذا لقيتم عاشرا فاقتلوه". وروي أبو عبيدة هذه الأخبار في كتاب الأموال. فإذا غَيَّرَتْ الْوُلَاةُ أَحْكَامَ الْبِلَادِ وَمَقَادِيرَ الْحُقُوقِ فِيهَا، اُعْتُبِرَ مَا فَعَلُوهُ. فَإِنْ كَانَ مُسَوِّغًا فِي الِاجْتِهَادِ لِأَمْرٍ اقْتَضَاهُ لَا يَمْنَعُ الشَّرْعُ مِنْهُ، لحدوث سبب سوغ الشرع لأجله الزيادة أو النقصان. جَازَ، وَصَارَ الثَّانِي هُوَ الْحَقَّ الْمُسْتَوْفَى دُونَ الأول. فإذا استخرجت حَالُ الْعَمَلِ مِنْ الدِّيوَانِ، جَازَ أَنْ يُقْتَصَرَ على إخراج الحالة الثانية دون الأولة، وَالْأَحْوَطُ أَنْ يُخْرِجَ الْحَالَيْنِ، لِجَوَازِ أَنْ يَزُولَ السَّبَبُ الْحَادِثُ، فَيَعُودَ الْحُكْمُ الْأَوَّلُ. وَإِنْ كَانَ ما أحدثه الْوُلَاةُ مِنْ تَغْيِيرِ الْحُقُوقِ غَيْرَ مُسَوَّغٍ فِي الشَّرْعِ، وَلَا لَهُ وَجْهٌ فِي الِاجْتِهَادِ كَانَتْ الحقوق على الحكم الأول، وكان الثاني حيفا مردودا، سواء غيروه إلى الزيادة أَوْ نُقْصَانٍ، لِأَنَّ الزِّيَادَةَ ظُلْمٌ فِي حُقُوقِ الرَّعِيَّةِ، وَالنُّقْصَانَ ظُلْمٌ فِي حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ. فإذا استخرجت حال العمل من الديوان وجب على رافعها مِنْ كُتَّابِ الدَّوَاوِينِ إخْرَاجُ الْحَالَيْنِ، إنْ كَانَ الْمُسْتَدْعِي لِإِخْرَاجِهَا مِنْ الْوُلَاةِ لَا يَعْلَمُ حَالَهَا فِيمَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ كَانَ عَالِمًا بِهَا لَمْ يلزم إخراج الحالة الأولة إلَيْهِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ بِهَا قَدْ سَبَقَ وَجَازَ الاقتصار على إخراج الحالة الثانية مع وصفها بأنها مستحدثة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ فِيمَا اخْتَصَّ بِالْعُمَّالِ مِنْ تَقْلِيدٍ وَعَزْلٍ، فَيَشْتَمِلُ عَلَى سِتَّةِ فُصُولٍ: أَحَدُهَا ذكر من يصح منه تقليد العمالة، وهو معتبر بنفوذ الأمر، وجواز النظر، وكل مَنْ جَازَ نَظَرُهُ فِي عَمَلٍ نَفَذَتْ فِيهِ أَوَامِرُهُ، وَصَحَّ مِنْهُ تَقْلِيدُ الْعُمَّالِ عَلَيْهِ. وَهَذَا يَكُونُ مِنْ أَحَدِ ثَلَاثَةٍ: إمَّا مِنْ السُّلْطَانِ المستولي على كل الأمور ن وَإِمَّا مِنْ وَزِيرِ التَّفْوِيضِ، وَإِمَّا مِنْ عَامِلِ عام العمالة، كعامل إقليم، أو مصر عظيم، يقلد في خصوص الأعمال عملا. فَأَمَّا وَزِيرُ التَّنْفِيذِ فَلَا يَصِحُّ مِنْهُ تَقْلِيدُ عامل إلا بعد المطالعة والاستثمار. الفصل الثَّانِي مَنْ يَصِحُّ أَنْ يَتَقَلَّدَ الْعِمَالَةَ، وَهُوَ مَنْ اسْتَقَلَّ بِكِفَايَتِهِ، وَوُثِقَ بِأَمَانَتِهِ. فَإِنْ كَانَتْ عمالة تفويض تفتقر إلَى اجْتِهَادٍ، رُوعِيَ فِيهَا الْحُرِّيَّةُ، وَالْإِسْلَامُ. وَإِنْ كَانَتْ عِمَالَةَ تَنْفِيذٍ لَا اجْتِهَادَ لِلْعَامِلِ فِيهَا، لم تفتقر إلى الحرية ولا الإسلام. الفصل الثالث ذكر العمل الذي يتقلده، وَهَذَا يُعْتَبَرُ فِيهِ ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: تَحْدِيدُ النَّاحِيَةِ بِمَا تَتَمَيَّزُ بِهِ عَنْ غَيْرِهَا. وَالثَّانِي: تَعْيِينُ الْعَمَلِ الَّذِي يَخْتَصُّ بِنَظَرِهِ فِيهَا: مِنْ جباية، أو خراج، أو عشر. الثالث: الْعِلْمُ بِرُسُومِ الْعَمَلِ وَحُقُوقِهِ عَلَى تَفْصِيلٍ يَنْتَفِي عَنْهُ الْجَهَالَةُ. فَإِذَا اُسْتُكْمِلَتْ هَذِهِ الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ في عمل علم بها المولي والمولى صح التقليد ونفذ. الفصل الرابع في النظر، ولا يخلو من ثلاثة أحوال: أحدها: أن يقدر بِمُدَّةٍ مَحْصُورَةِ الشُّهُورِ أَوْ السِّنِينَ. فَيَكُونُ تَقْدِيرُهَا بهذه المدة مجوزا النظر فيها، ومانعا من النظر بعد تقضيها. فلا يكون النظر في المدة المقدرة لازما من جهة المولي، وله صرفه والاستبدال بِهِ إذَا رَأَى ذَلِكَ صَلَاحًا. فَأَمَّا لُزُومُهُ مِنْ جِهَةِ الْعَامِلِ الْمُوَلَّى فَمُعْتَبَرٌ بِحَالٍ جَارِيَةٍ عَلَيْهَا، فَإِنْ كَانَ الْجَارِي مَعْلُومًا بِمَا تَصِحُّ بِهِ الْأُجُورُ لَزِمَهُ الْعَمَلُ فِي الْمُدَّةِ إلَى انْقِضَائِهَا؛ لِأَنَّ الْعِمَالَةَ فِيهَا تَصِيرُ مِنْ الْإِجَارَاتِ الْمَحْضَةِ، وَيُؤْخَذُ الْعَامِلُ فِيهَا بِالْعَمَلِ إلَى انْقِضَائِهَا إجبارا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 والفرق بينهما في تخيير المولي والإجبار المولى أَنَّهَا فِي جَنْبَةِ الْمُوَلِّي مِنْ الْعُقُودِ الْعَامَّةِ لنيابته فيها عن الكافة فروعي فيها حكم الْأَصْلَحُ فِي التَّخْيِيرِ، وَهِيَ فِي جَنْبَةِ الْمُوَلَّى مِنْ الْعُقُودِ الْخَاصَّةِ لِعِقْدِهِ لَهَا فِي حَقِّ نفسه، فيجرى عليها حكم اللزوم في الإجبار. وإن لم تقدر جَارِيهِ بِمَا يَصِحُّ فِي الْأُجُورِ لَمْ تَلْزَمْهُ الْمُدَّةُ، وَجَازَ لَهُ الْخُرُوجُ مِنْ الْعَمَلِ إذَا شاء بد أن ينتهي إلَى مُولِيهِ حَالَ تَرْكِهِ، حَتَّى لَا يَخْلُوَ عمله من ناظر فيه. الحالة الثانية: أن يقدر بالعمل. فيقول المولي: قلدتك خراج ناحية كذا في هذا السَّنَةِ، أَوْ قَلَّدْتُكَ صَدَقَاتِ بَلَدِ كَذَا فِي هذا العام، فتكون مدة نظه مقدرة بفراغه من عمله، فإذا فرغ منه انعزل، وه8وقبل فراغه منه عَلَى مَا ذَكَرْنَا، يَجُوزُ أَنْ يَعْزِلَهُ الْمُوَلِّي، وعزله لنفسه معتبر بصحة جارية وفساده. الحالة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا، فَلَا يُقَدَّرُ بمدة ولا عمل، فيقول: قَدْ قَلَّدَتْكَ خَرَاجَ الْكُوفَةِ، أَوْ أَعْشَارَ الْبَصْرَةِ، أَوْ حِمَايَةَ بَغْدَادَ، فَهَذَا تَقْلِيدٌ صَحِيحٌ وَإِنْ جهلت مدته لأن المقصود منه الإذن بجواز النَّظَرِ، وَلَيْسَ الْمَقْصُودُ مِنْهُ اللُّزُومَ الْمُعْتَبَرَ فِي عقود الإجارات. وَإِذَا صَحَّ التَّقْلِيدُ وَجَازَ النَّظَرُ لَمْ يَخْلُ حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ مُسْتَدِيمًا أَوْ مُنْقَطِعًا، فَإِنْ كَانَ مُسْتَدِيمًا، كَالنَّظَرِ في الجباية والقضاء، وحقوق المعادن، صح نَظَرُهُ فِيهَا عَامًا بَعْدَ عَامٍ، مَا لَمْ يُعْزَلْ. وَإِنْ كَانَ مُنْقَطِعًا فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يَكُونَ مَعْهُودَ الْعَوْدِ فِي كل عام كالمولي على قسمة غنيمة فيعزل بعد فراعه مِنْهَا وَلَيْسَ لَهُ النَّظَرُ فِي قِسْمَةِ غَيْرِهَا من الغنائم. الضرب الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ عَائِدًا فِي كُلِّ عَامٍ، كالخراج الذي إذا استخراج في عام عاد فيما يليه، فهل يكون تَقْلِيدِهِ مَقْصُورًا عَلَى نَظَرِ عَامِهِ، أَوْ مَحْمُولًا على كل عام ما لم يعزل؟. يحتمل أن يكون مقصور النظر عَلَى الْعَامِ الَّذِي هُوَ فِيهِ. فَإِذَا اسْتَوْفَى خَرَاجَهُ، أَوْ أَخَذَ أَعْشَارَهُ انْعَزَلَ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ أَنْ يَنْظُرَ فِي الْعَامِ الثَّانِي إلَّا بتقليد مستجد اقتصارا على التعيين. ويحتمل أن يحمل على حوالة النظر في كل عام ما لم ينعزل، اعتبارا بالعرف. الفصل الْخَامِسُ فِي جَارِي الْعَامِلِ عَلَى عَمَلِهِ، وَلَا يخلو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُسَمِّيَ مَعْلُومًا. وَالثَّانِي: أَنْ يُسَمِّيَ مَجْهُولًا. وَالثَّالِثُ: أَنْ لَا يسمي بمعلوم ولا مجهول. فَإِنْ سَمَّى مَعْلُومًا اسْتَحَقَّ الْمُسَمَّى إذَا وَفَّى الْعِمَالَةَ حَقَّهَا، فَإِنْ قَصَّرَ فِيهَا رُوعِيَ تَقْصِيرُهُ. فَإِنْ كَانَ لِتَرْكِ بَعْضِ الْعَمَلِ لَمْ يَسْتَحِقَّ جَارِيَ مَا قَابَلَهُ، وَإِنْ كَانَ لِخِيَانَةٍ مِنْهُ مَعَ اسْتِيفَاءِ الْعَمَلِ، اسْتَكْمَلَ جَارِيَهُ وَارْتَجَعَ مَا خان فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 وَإِنْ زَادَ فِي الْعَمَلِ رُوعِيَتْ الزِّيَادَةُ، فَإِنْ لَمْ تَدْخُلْ فِي حُكْمِ عَمَلِهِ كَانَ نَظَرُهُ فِيهَا مَرْدُودًا لَا يَنْفُذُ. وَإِنْ كَانَتْ دَاخِلَهُ فِي حُكْمِ نَظَرِهِ لَمْ يَخْلُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ أَخَذَهَا بِحَقٍّ أو ظلم. فإن أَخَذَهَا بِحَقٍّ كَانَ مُتَبَرِّعًا بِهَا لَا يَسْتَحِقُّ لَهَا زِيَادَةً عَلَى الْمُسَمَّى فِي جَارِيهِ. وَإِنْ كانت ظُلْمًا وَجَبَ رَدُّهَا عَلَى مَنْ ظَلَمَ بِهَا، وكان عدوانا من العامل يؤخذ بجريرته. وإن سمى جارية مجهولا استحق جاري مثله في مثل عمله فإن كان جاري العمل مقررا فِي الدِّيوَانِ وَعَمِلَ بِهِ جَمَاعَةٌ مِنْ الْعُمَّالِ صَارَ ذَلِكَ الْقَدْرُ هُوَ جَارِيَ الْمِثْلِ، وَإِنْ لم يعمل إلَّا وَاحِدٌ لَمْ يَصِرْ ذَلِكَ مَأْلُوفًا فِي جاري المثل. وإن لم يسم جاريه بمعلوم ولا مجهول، فهل يستحق الأجرة على عمله قياس المذهب أنه إنْ كَانَ مَشْهُورًا بِأَخْذِ الْجَارِي عَلَى عَمَلِهِ فله جاري مثله، وإن لم يشتهر بأخذ الجاري عليه فَلَا جَارِيَ لَهُ. وَإِذَا كَانَ فِي عَمَلِهِ مال يجتبي فجاريه يستحق فِيهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَالٌ فَجَارِيهِ في بيت المال يستحق في أسهم المصالح. الفصل السادس فيما يصح به التقليد نظرت فإن كان نطقا تلفظ به المولي صح التقليد، كما يصح في سَائِرُ الْعُقُودِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ تَوْقِيعِ الْمُوَلِّي بِتَقْلِيدِهِ خَطًّا لَا لَفْظًا صَحَّ التَّقْلِيدُ وَانْعَقَدَتْ بِهِ الْوِلَايَاتُ السُّلْطَانِيَّةُ إذَا اقْتَرَنَتْ بِهِ شَوَاهِدُ الْحَالِ، وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ بِهِ الْعُقُودُ الْخَاصَّةُ اعتبارا بالعرف الجاري فيه مع أن في العقود نظرا. هذا إذا كان التقليد مقصورا عليه ما يتعداه إلى استنابة غيره فيه ولا يصح إن كان عَامًّا مُتَعَدِّيًا. فَإِذَا صَحَّ التَّقْلِيدُ بِالشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهِ، وَكَانَ الْعَمَلُ قَبْلَهُ خَالِيًا مِنْ نَاظِرٍ تَفَرَّدَ هَذَا الْمُوَلِّي بِالنَّظَرِ وَاسْتَحَقَّ جَارِيَهُ مِنْ أَوَّلِ وَقْتِ نَظَرِهِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ فِي العمل ناظر قبل تقليده للعمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 نَظَرَ فِي الْعَمَلِ، فَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يصح فيه الاشتراك كَانَ تَقْلِيدُهُ الثَّانِيَ عَزْلًا لِلْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ مِمَّا يَصِحُّ فِيهِ الِاشْتِرَاكُ رُوعِيَ الْعُرْفُ الْجَارِي فيه، فإن لم يجز بالاشتراك فِيهِ كَانَ تَقْلِيدُهُ الثَّانِيَ عَزْلًا لِلْأَوَّلِ. وَإِنْ جَرَى الْعُرْفُ بِالِاشْتِرَاكِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ تَقْلِيدُ الثَّانِي عَزْلًا لِلْأَوَّلِ وَكَانَا عَامِلَيْنِ عَلَيْهِ وَنَاظِرَيْنِ فِيهِ. فَإِنْ قُلِّدَ عَلَيْهِ مُشْرِفٌ كَانَ الْعَامِلُ مُبَاشِرًا لِلْعَمَلِ وَكَانَ الْمُشْرِفُ مُسْتَوْفِيًا لَهُ، يَمْنَعُ من زيادة عليه أو نقصان فيه، أو تفرد به. وحكم المشرف مخالف لحكم صَاحِبِ الْبَرِيدِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَيْسَ لِلْعَامِلِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالْعَمَلِ دُونَ الْمُشْرِفِ وَلَهُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهِ دُونَ صَاحِبِ الْبَرِيدِ. وَالثَّانِي: أَنَّ لِلْمُشْرِفِ مَنْعَ الْعَامِلِ مِمَّا أَفْسَدَ فِيهِ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لِصَاحِبِ الْبَرِيدِ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ المشرف لا يلزمه الْإِخْبَارُ بِمَا فَعَلَهُ الْعَامِلُ مِنْ صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ إذا انتهى عنه، ويلزم صاحب البريد أن يخبر بما فعله مِنْ صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، لِأَنَّ خَبَرَ الْمُشْرِفِ اسْتِعْدَاءٌ وَخَبَرَ صَاحِبِ الْبَرِيدِ إنْهَاءٌ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ خَبَرِ الْإِنْهَاءِ وَخَبَرِ الِاسْتِعْدَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ خَبَرَ الْإِنْهَاءِ يَشْتَمِلُ عَلَى الْفَاسِدِ وَالصَّحِيحِ، وَخَبَرَ الاستعداء يختص بِالْفَاسِدِ دُونَ الصَّحِيحِ. وَالثَّانِي: أَنَّ خَبَرَ الْإِنْهَاءِ فِيمَا رَجَعَ عَنْهُ الْعَامِلُ وَفِيمَا لَمْ يَرْجِعْ عنه، وخبر الاستعداء يختص بِمَا لَمْ يَرْجِعْ عَنْهُ، دُونَ مَا رَجَعَ عَنْهُ. وَإِذَا أَنْكَرَ الْعَامِلُ اسْتِعْدَاءَ الْمُشْرِفِ أَوْ إنْهَاءَ صَاحِبِ الْبَرِيدِ، لَمْ يَكُنْ قَوْلُ وَاحِدٍ منهما مقبولا عليه حتى يبرهن عليه. فإن اجتمعا على الاستعداء والإنهاء صارا شاهدين فيقبل قولهما عليه إذا كانا مأمونين لم يظهر بينهم عداوة أو خصام. وَإِذَا طُولِبَ الْعَامِلُ بِرَفْعِ الْحِسَابِ فِيمَا تَوَلَّاهُ، لَزِمَهُ رَفْعُهُ فِي عِمَالَةِ الْخَرَاجِ، وَلَمْ يَلْزَمْهُ رَفْعُهُ فِي عِمَالَةِ الْعُشْرِ، لِأَنَّ مَصْرِفَ الْخَرَاجِ إلَى بَيْتِ الْمَالِ وَمَصْرِفَ الْعُشْرِ إلَى أَهْلِ الصدقات. وعند أبي حنيفة: رفع الْحِسَابِ فِي الْمَالَيْنِ لِاشْتِرَاكِ مَصْرِفِهِمَا عِنْدَهُ. وَإِذَا ادَّعَى عَامِلُ الْعُشْرِ صَرْفَ الْعُشْرِ فِي مُسْتَحَقِّهِ قُبِلَ قَوْلُهُ فِيهِ. وَلَوْ ادَّعَى عَامِلُ الْخَرَاجِ دَفْعَ الْخَرَاجِ إلَى مُسْتَحَقِّهِ لَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ إلَّا بِتَصْدِيقٍ أَوْ بِبَيِّنَةٍ. وَإِذَا أَرَادَ الْعَامِلُ أن يستخلف على عمله فذلك على ضربين: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِ مَنْ يَنْفَرِدُ بِالنَّظَرِ فيه دونه، فهذا غير جائز، لِأَنَّهُ يَجْرِي مَجْرَى الِاسْتِبْدَالِ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَسْتَبْدِلَ غَيْرَهُ بِنَفْسِهِ، وَإِنْ جَازَ لَهُ عَزْلُ نفسه. والثاني: أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِ مُعِينًا لَهُ فَيُرَاعَى مَخْرَجُ التقليد، فَلَا يَخْلُو مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 أَحَدُهَا: أَنْ يَتَضَمَّنَ إذْنًا بِالِاسْتِخْلَافِ، فَيَجُوزَ لَهُ أن يستخلفه، ويكون من استخلفه نائبا عنه ينعزل بعزله، وإن لَمْ يَكُنْ مُسَمًّى فِي الْإِذْنِ، فَإِنْ سَمَّى له من يستخلفه فهل ينعزل بعزله؟ قد قيل: ينعزل، وقيل: لَا يَنْعَزِلُ. وَالْحَالَةُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَتَضَمَّنَ التَّقْلِيدُ نَهْيًا عَنْ الِاسْتِخْلَافِ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ وَعَلَيْهِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِالنَّظَرِ فِيهِ إنْ قَدَرَ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَجَزَ عَنْهُ كَانَ التَّقْلِيدُ فَاسِدًا، فَإِنْ نَظَرَ مَعَ فَسَادِ التَّقْلِيدِ صَحَّ نظره فيما اختص بالإذن من أمر أو نهي، وَلَمْ يَصِحَّ مِنْهُ مَا اخْتَصَّ بِالْوِلَايَةِ مِنْ عَقْدٍ وَحَلٍّ. وَالْحَالَةُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ التَّقْلِيدُ مُطْلَقًا لَا يَتَضَمَّنُ إذْنًا وَلَا نَهْيًا، فَيُعْتَبَرُ حال العمل فإن قدر على النظر فِيهِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْتَخْلِفَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لم يقدر على التفرد بالنظر فيه كان لَهُ أَنْ يَسْتَخْلِفَ فِيمَا عَجَزَ عَنْهُ وَلَمْ يجز أن يستخلف فيما قدر عليه. وَأَمَّا الْقِسْمُ الرَّابِعُ فِيمَا اخْتَصَّ بِبَيْتِ الْمَالُ مِنْ دَخْلٍ وَخَرْجٍ. فَهُوَ: أَنَّ كُلَّ مَالٍ اسْتَحَقَّهُ الْمُسْلِمُونَ وَلَمْ يَتَعَيَّنْ مَالِكُهُ مِنْهُمْ فَهُوَ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ، فَإِذَا قُبِضَ صَارَ بِالْقَبْضِ مُضَافًا إلَى حُقُوقِ بَيْتِ الْمَال، سَوَاءٌ أُدْخِلَ إلَى حِرْزِهِ أَوْ لَمْ يُدْخَلْ لِأَنَّ بَيْتَ الْمَالِ عِبَارَةٌ عَنْ الْجِهَةِ لَا عَنْ الْمَكَانِ. وَكُلُّ حَقٍّ وَجَبَ صَرْفُهُ فِي مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ فَهُوَ حَقٌّ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ، فَإِذَا صرف في وجه صَارَ مُضَافًا إلَى الْخَرَاجِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، سواء أخرج مِنْ حِرْزِهِ أَوْ لَمْ يَخْرُجْ، لِأَنَّ مَا صَارَ إلَى عُمَّالِ الْمُسْلِمِينَ أَوْ خَرَجَ مِنْ أَيْدِيهِمْ فَحُكْمُ بَيْتِ الْمَالِ جَارٍ عَلَيْهِ فِي دخله إليه وخرجه عنه. وإذا كان كذلك في الأموال الَّتِي يَسْتَحِقُّهَا الْمُسْلِمُونَ تَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: فَيْءٌ، وغنيمة، وصدقة. فأما الفيء ففي حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ، لِأَنَّ مَصْرِفَهُ مَوْقُوفٌ عَلَى رأي الإمام. وَأَمَّا الْغَنِيمَةُ فَلَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ لأنها مستحقة للغانمين الذين تعينوا بحضور الوقعة لا يختلف مصرفها برأي الإمام ولا اجتهاده في منعهم، فلم تصر من حقوق بيت المال إلا في الأرضين. فقد حكينا فيها روايتين: إحداهما: أنه لا رأي له فيها كغيرها من الأموال. والثانية: له فيها رأي في وقفها وفيء قسمتها. فأما خُمُسُ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ قِسْمٌ مِنْهُ يَكُونُ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ، وَهُوَ سهم الرسول المصروف في المصالح العامة، الموقوف مَصْرِفِهِ عَلَى رَأْيِ الْإِمَامِ وَاجْتِهَادِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 وقسم منه لا يكون لَا يَكُونُ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ وَهُوَ سَهْمُ ذَوِي الْقُرْبَى؛ لِأَنَّهُ مُسْتَحَقٌّ لِجَمَاعَتِهِمْ فَتَعَيَّنَ مالكوه، وخرج عن حقوق بيت المال بخروجه عن اجتهاد الإمام. وقسم منه يكون بيت المال فيه حافظا له على أهله وَهُوَ سَهْمُ الْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إنْ وَجَدُوا دُفِعَ إلَيْهِمْ، وَإِنْ فَقَدُوا أُحْرِزَ لَهُمْ. وأما الصدقة فضربان أحدهما: صَدَقَةُ مَالٍ بَاطِنٍ: فَلَا يَكُونُ مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ لِجَوَازِ أَنْ يَنْفَرِدَ أَرْبَابُهُ بِإِخْرَاجِ زكاته في أهله. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: صَدَقَةُ مَالٍ ظَاهِرٍ، كَأَعْشَارِ الزُّرُوعِ والثمار، وصدقات المواشي. فذهب أحمد إلى أنه ليس من حقوق بيت المال أيضا، لأنه لجهات معينة لا يجوز مصرفه في غير جهاته، ولا هو محل لإحرازه عند تعذر جهاته، لأنه لا يجب دَفْعِهِ إلَى الْإِمَامِ وَإِنْ جَازَ أَنْ يُدْفَعَ إليه. وقد نقل جعفر بن محمد قال: سمعت أبا عبد الله قيل له " يشتري الصدقات والعشر من السلطان؟ قال: لا بأس، إذا كان على وجهه". وقال في موضع آخر " لا تعد في صدقتك. قيل له: فإن كانت صدقة غيرى؟ قال: لا بأس، إذا كان على وجهه". فظاهر هذا أنه [من حقوق بيت المال] . وَأَمَّا الْمُسْتَحَقُّ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ بَيْتُ الْمَالِ فِيهِ حِرْزًا، فَاسْتِحْقَاقُهُ مُعْتَبَرٌ بِالْوُجُودِ، فَإِنْ كَانَ الْمَالُ مَوْجُودًا فِيهِ كان مصرفه في جهاته مستحقا وعدمه مسقط لاستحقاقه. الضرب الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بَيْتُ الْمَالِ لَهُ مُسْتَحِقًّا، فهو عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَصْرِفُهُ مُسْتَحِقًّا عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ، كَأَرْزَاقِ الْجُنْدِ، وَأَثْمَانِ الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، فَاسْتِحْقَاقُهُ غَيْرُ مُعْتَبَرٍ بِالْوُجُودِ، وَهُوَ مِنْ الْحُقُوقِ اللَّازِمَةِ مَعَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ. فَإِنْ كَانَ موجودا عجل دفعه كالديوان مَعَ الْيَسَارِ، وَإِنْ كَانَ مَعْدُومًا وَجَبَ فِيهِ الإنظار كالديوان مع الإعسار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وَالضَّرْبُ الثَّانِي أَنْ يَكُونَ مَصْرِفُهُ مُسْتَحِقًّا عَلَى وَجْهِ الْمَصْلَحَةِ وَالْأَرْفَاقِ دُونَ الْبَدَلِ، فَاسْتِحْقَاقُهُ مُعْتَبَرٌ بِالْوُجُودِ دُونَ الْعَدَمِ، فَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا فِي بيت المال وجب فيه وسقط فرضه على المسلمين، وإن كان معدوما سقط وجوبه عن بيت المال. وكان - وإن عَمَّ ضَرَرُهُ - مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عَلَى كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ حَتَّى يَقُومَ بِهِ مِنْهُمْ مَنْ فِيهِ كِفَايَةٌ كَالْجِهَادِ. وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا يَعُمُّ ضرره كوعورة طريق قريب يجد الناس غيره طريقا بَعِيدًا، أَوْ انْقِطَاعِ شُرْبٍ يَجِدُ النَّاسُ غَيْرَهُ شُرْبًا فَإِذَا سَقَطَ وُجُوبُهُ عَنْ بَيْتِ الْمَالِ بالعدم سقط وجوبه عن الكافة لِوُجُودِ الْبَدَلِ. فَلَوْ اجْتَمَعَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ حَقَّانِ، ضَاقَ عَنْهُمَا وَاتَّسَعَ لِأَحَدِهِمَا صُرِفَ فِيمَا يصير منهما دينا فيه. ولو ضاق عن كل واحد منهما كان لولي الأمر إذا خاف الضرر والفساد أَنْ يَقْتَرِضَ عَلَى بَيْتِ الْمَالِ مَا يَصْرِفُهُ في الديون دون الأرفاق، وَكَانَ مَنْ حَدَثَ بَعْدَهُ مِنْ الْوُلَاةِ مَأْخُوذًا بِقَضَائِهِ إذَا اتَّسَعَ لَهُ بَيْتُ الْمَالِ. وَإِذَا فَضُلَتْ حُقُوقُ بَيْتِ الْمَالِ عَنْ مَصْرِفِهَا فَقَدْ قيل: إنها تدخر فِي بَيْتِ الْمَالِ لِمَا يَنُوبُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ حادث، وقيل: إنها تفرق على من يعم به صلاح المسلمين ولا تدخر، لأن النوائب يتعين فَرْضُهَا عَلَيْهِمْ إذَا حَدَثَتْ. فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ الْأَرْبَعَةُ التي وضعت عليها قواعد الديوان. فأما كاتب الديوان وهو صاحب زمامه فَالْمُعْتَبَرُ فِي صِحَّةِ وِلَايَتِهِ شَرْطَانِ: الْعَدَالَةُ، وَالْكِفَايَةُ. أما الْعَدَالَةُ، فَلِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ عَلَى حَقِّ بَيْتِ الْمَالِ وَالرَّعِيَّةِ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ فِي الْعَدَالَةِ وَالْأَمَانَةِ على صفات المؤتمنين. وقد قال في كاتب القاضي " يكون عدلا". وَأَمَّا الْكِفَايَةُ فَلِأَنَّهُ مُبَاشِرٌ لِعَمَلٍ يَقْتَضِي أَنْ يكون في القيام به، مستقلا بكفاية المباشرين. فإذا صح التقليد فَاَلَّذِي نُدِبَ لَهُ سِتَّةُ أَشْيَاءَ: حِفْظُ الْقَوَانِينِ، واستيفاء الحقوق، وإثبات الرقوع، ومحاسبات العمال، وإخراج الأموال، وَتَصَفُّحُ الظَّلَّامَاتِ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ مِنْهَا وَهُوَ حِفْظُ الْقَوَانِينِ عَلَى الرُّسُومِ الْعَادِلَةِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ تتحيف يها الرعية، أو نقصان يثلم به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 حَقُّ بَيْتِ الْمَالِ. فَإِنْ قُرِّرَتْ فِي أَيَّامِهِ ببلاد استؤنف فتحها أو لموات ابتدئ بإحيائه أثبتها في ديوان الناحية وديوان الناحية وديوان بيت المال الجامع على الحكم المستقر فيهما. وَإِنْ تَقَدَّمَتْهُ الْقَوَانِينُ الْمُقَرَّرَةُ فِيهَا رَجَعَ فِيهَا إلَى مَا أَثْبَتَهُ أُمَنَاءُ الْكُتَّابِ إذَا وَثِقَ بخطوطهم، وتسلمه من أمنائهم تحت ختومهم، وَكَانَتْ الْخُطُوطُ الْخَارِجَةُ عَلَى هَذِهِ الشُّرُوطِ مُقْنِعَةً فِي جَوَازِ الْأَخْذِ بِهَا وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا فِي الرسوم الديوانية، والحقوق السلطانية، وإن لم يقنع بها في أحكام القضاء والشهادات، عتبارا بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ فِيهَا، كَمَا يَجُوزُ لِلْمُحَدِّثِ أَنْ يروي ما وجده من سماعه بالخط الذي يثق به، ولأن القضاء والشهادة من الحقوق الخاصة التي يكثر المباشرة لها والقيام بها فلم يضق عليه الحفظ لها بالقلب، فلذلك لم يجز أن يعول فيها على مجر الْخَطِّ، وَأَنَّ الْقَوَانِينَ الدِّيوَانِيَّةَ مِنْ الْحُقُوق الْعَامَّةِ التي يقل المباشر لها مع كثرة انتشارها فَضَاقَ حِفْظُهَا بِالْقَلْبِ، فَلِذَلِكَ جَازَ التَّعْوِيلُ فِيهَا على مجرد الخط، وكذلك رواية الحديث، مع أن الرواية مختلفة عن أحمد في الشاهد إذا عرف خطه، والحاكم إذا وجد في ديوانه حكما جاز الحكم والشهادة. وَأَمَّا الثَّانِي وَهُوَ اسْتِيفَاءُ الْحُقُوقِ، فَهُوَ عَلَى ضربين: أحدهما: استيفاؤها ممن وجبت عَلَيْهِ مِنْ الْعَامِلِينَ. وَالثَّانِي: اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الْقَابِضِينَ لَهَا مِنْ الْعُمَّالِ. فَأَمَّا اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الْعَامِلِينَ فيعمل فيه على إقرار العمال بقبضها. فأما الْعَمَلُ فِيهَا عَلَى خُطُوطِ الْعُمَّالِ بِقَبْضِهَا، فَاَلَّذِي عَلَيْهِ كُتَّابُ الدَّوَاوِينِ: أَنَّهُ إذَا عُرِفَ الْخَطُّ كان حجة بالقبض، سواء اعترف العامل أنه خَطُّهُ أَوْ أَنْكَرَهُ إذَا قِيسَ بِخَطِّهِ الْمَعْرُوفِ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ: أَنَّهُ إنْ لَمْ يَعْتَرِفْ العامل أنه خطه أو أنكره لَمْ يَلْزَمْهُ، وَلَمْ يَكُنْ حُجَّةً فِي الْقَبْضِ، ولا يجوز أَنْ يُقَاسَ بِخَطِّهِ فِي الْإِلْزَامِ إجْبَارًا، وَإِنَّمَا يُقَاسُ بِخَطِّهِ إرْهَابًا لِيَعْتَرِفَ بِهِ طَوْعًا، وَإِنْ اعترف بالخط وأنكر القبض فإنه يَكُونُ فِي الْحُقُوقِ السُّلْطَانِيَّةِ خَاصَّةً حُجَّةً لِلْعَامِلَيْنِ بالدفع وحجة على العمال بالقبض، اعتبارا بالعرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 وَأَمَّا اسْتِيفَاؤُهَا مِنْ الْعُمَّالِ، فَإِنْ كَانَتْ خَرَاجًا إلَى بَيْتِ الْمَالِ لَمْ يُحْتَجْ فِيهَا إلَى تَوْقِيعِ وَلِيِّ الْأَمْرِ وَكَانَ اعْتِرَافُ صَاحِبِ بَيْتِ الْمَالِ بِقَبْضِهَا حُجَّةً فِي بَرَاءَةِ الْعُمَّالِ مِنْهَا. والكلام في خطه إذَا تَجَرَّدَ عَنْ إقْرَارِهِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ في خطوط العمال أنه يكون حجة. وَإِنْ كَانَتْ خَرَاجًا مِنْ حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ ولم تكن خراجا إليه لم يمض للعمال إلَّا بِتَوْقِيعِ وَلِيِّ الْأَمْرِ، وَكَانَ التَّوْقِيعُ إذَا عُرِفَتْ صِحَّتُهُ حُجَّةً مُقْنِعَةً فِي جَوَازِ الدَّفْعِ. فأما في الاحتساب به، فيحتمل أَنْ يَكُونَ الِاحْتِسَابُ بِهِ مَوْقُوفًا عَلَى اعْتِرَافِ صاحب الحق الْمُوَقَّعِ لَهُ بِقَبْضِ مَا تَضَمَّنَهُ، لِأَنَّ التَّوْقِيعَ حُجَّةٌ بِالدَّفْعِ إلَيْهِ وَلَيْسَ بِحَجَّةٍ فِي الْقَبْضِ منه. ويحتمل: أن يحتسب به للعامل فِي حُقُوقِ بَيْتِ الْمَالِ. فَإِنْ أَنْكَرَ صَاحِبُ التَّوْقِيعِ الْقَبْضَ حَاكَمَ الْعَامِلَ فِيهِ، وَأَخَذَ الْعَامِلُ بِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ، فَإِنْ عَدِمَهَا أُحْلِفَ صَاحِبُ التَّوْقِيعِ وَأَخَذَ الْعَامِلُ بِالْغُرْمِ. وَهَذَا الْوَجْهُ أَخَصُّ بعرف الديوان، والأول أَشْبَهُ بِتَحْقِيقِ الْفِقْهِ. فَإِنْ اسْتَرَابَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ بالتوقيع لم يحتسب به للعامل على الاحتمالين مَعًا حَتَّى يُعْرِضَهُ عَلَى الْمُوَقِّعِ فَإِنْ اعْتَرَفَ به صح ن وكان في الاحتساب عَلَى مَا تَقَدَّمَ، وَإِنْ أَنْكَرَهُ لَمْ يُحْتَسَبْ بِهِ لِلْعَامِلِ. وَنُظِرَ فِي وَجْهِ الْخَرَاجِ، فَإِنْ كان في حاضر مَوْجُودٍ رَجَعَ بِهِ الْعَامِلُ عَلَيْهِ، وَإِنْ كَانَ في جهات لا يمكن الرجوع فيها سأل إحلاف الموقع على إنكاره، فإن لم يعرف صحة الخراج لم يكن للعامل إحلاف الموقع، لَا فِي عُرْفِ السَّلْطَنَةِ وَلَا فِي حُكْمِ القضاء، وإن علم صحة الخراج فهو في عرف السلطنة ممنوع عَنْ إحْلَافِ الْمُوَقِّعِ، وَفِي حُكْمِ الْقَضَاءِ يُجَابُ إليه. وأما الثالث وهو إثبات الرقوع. فينقسم ثلاثة أقسام: رقوع مساحة، ورقوع قبض واستيفاء: ورقوع خرج ونفقة فأما رقوع الْمِسَاحَةِ وَالْعَمَلِ، فَإِنْ كَانَتْ أُصُولُهَا مُقَدَّرَةً فِي الديوان، اعتبر صحة الدفع بِمُقَابَلَةِ الْأَصْلِ وَأُثْبِتَ فِي الدِّيوَانِ إنْ وَافَقَهَا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا فِي الدِّيوَانِ أُصُولٌ عُمِلَ فِي إثْبَاتِهَا عَلَى قَوْلِ رَافِعِهَا. وَأَمَّا رقوع الْقَبْضِ وَالِاسْتِيفَاءِ، فَيُعْمَلُ فِي إثْبَاتِهَا عَلَى مُجَرَّدِ قول رافعها، لأنه مقر على نفسه به لا لها. وأما رقوع الْخَرَاجِ وَالنَّفَقَةِ، فَرَافِعُهَا مُدَّعٍ لَهَا فَلَا تُقْبَلُ دَعْوَاهُ إلَّا بِالْحُجَجِ الْبَالِغَةِ، فَإِنْ احْتَجَّ بِتَوْقِيعَاتِ ولاة الأمر استعرضها، وكان الحكم فيها على ما قدمناه مِنْ أَحْكَامِ التَّوْقِيعَاتِ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 وَأَمَّا الرَّابِعُ وَهُوَ مُحَاسَبَةُ الْعُمَّالِ، فَيَخْتَلِفُ حُكْمُهَا باختلاف ما تقلدوه، وقد قدمنا القول فيه. فَإِنْ كَانُوا مِنْ عُمَّالِ الْخَرَاجِ لَزِمَهُمْ رَفْعُ الْحِسَابِ، وَوَجَبَ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَى صِحَّةِ مَا رَفَعُوهُ. وَإِنْ كَانُوا مِنْ عُمَّالِ العشر لم يلزم عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ رَفْعُ الْحِسَابِ، وَلَمْ يَجِبْ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعُشْرَ عند صَدَقَةٌ لَا يَقِفُ مَصْرِفُهَا عَلَى اجْتِهَادِ الْوُلَاةِ. ولو انفرد أهلها بمصرفها أَجْزَأَتْ، وَيَلْزَمُهُمْ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ رَفْعُ الْحِسَابِ. وَيَجِبُ عَلَى كَاتِبِ الدِّيوَانِ مُحَاسَبَتُهُمْ عَلَيْهِ: لأن عنده أن مصرف العشر والخراج مشترك. فإذا حوسب من وجبت مُحَاسَبَتُهُ مِنْ الْعُمَّالِ نُظِرَ. فَإِنْ لَمْ يَقَعْ بين العامل وكاتب الديوان خلف كَانَ كَاتِبُ الدِّيوَانِ مُصَدَّقًا فِي بَقَايَا الْحِسَابِ. فَإِنْ اسْتَرَابَ بِهِ وَلِيُّ الْأَمْرِ كَلَّفَهُ إحْضَارَ شَوَاهِدِهِ، فَإِنْ زَالَتْ الرِّيبَةُ عَنْهُ سَقَطَتْ الْيَمِينُ فيه. وإن لم تزل الريبة أراد ولي الأمر الإحلاف عليه أُحْلِفَ الْعَامِلُ دُونَ كَاتِبِ الدِّيوَانِ لِأَنَّ الْمُطَالَبَةَ مُتَوَجِّهَةٌ عَلَى الْعَامِلِ دُونَ الْكَاتِبِ. وَإِنْ اخْتَلَفَا فِي الْحِسَابِ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ اخْتِلَافُهُمَا فِي دَخْلٍ، فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْعَامِلِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وإن كان اختلافهما في خرج فَالْقَوْلُ فِيهِ قَوْلُ الْكَاتِبِ لِأَنَّهُ مُنْكِرٌ، وَإِنْ كان اختلافهما في مساحة يمكن إعادتها أعيدت بعد الاختلاف وعمل فيها بما يخرج به صحيح الاعتبار، وإن لم يمكن إعادتها أحلف عليها رب المال دون الماسح. وأما الخامس وهو إخراج الأموال، فَهُوَ اسْتِشْهَادُ صَاحِبِ الدِّيوَانِ عَلَى مَا ثَبَتَ فيه من قوانين وحقوق، فصار كالشهادة فاعتبر فِيهِ شَرْطَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ لَا يُخْرِجَ مِنْ الْأَمْوَالِ إلَّا مَا عَلِمَ صِحَّتَهُ، كَمَا لَا يشهد حتى يستشهد، والمستدعي لإخراج الأموال مَنْ نَفَذَتْ تَوْقِيعَاتُهُ، كَمَا أَنَّ الْمَشْهُودَ عِنْدَهُ من نفذت أحكامه. فإذا أخرج حالا ما لزم الموقع بإخراجها الأخذ بِهَا وَالْعَمَلِ عَلَيْهَا، كَمَا يَلْزَمُ الْحَاكِمَ تَنْفِيذُ الحكم بما شهد بِهِ الشُّهُودُ عِنْدَهُ. فَإِنْ اسْتَرَابَ الْمُوَقِّعُ بِإِخْرَاجِ الحال جاز أن يسأله من أين أخرجها وَيُطَالِبُهُ بِإِحْضَارِ شَوَاهِدِ الدِّيوَانِ بِهَا، وَإِنْ لَمْ يجز للحاكم أن يسأل الشاهد عَنْ سَبَبِ شَهَادَتِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 فَإِنْ أَحْضَرَهَا وَوَقَعَ فِي النَّفْسِ صِحَّتُهَا زَالَتْ عَنْهُ الرِّيبَةُ، وَإِنْ عَدِمَهَا وَذَكَرَ أَنَّهُ أَخْرَجَهَا من حفظه، لتقدم علمه بها، صار معلوما القول، والموقع مخير في قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُ أَوْ رَدِّهِ عَلَيْهِ وَلَيْسَ لَهُ اسْتِخْلَافُهُ. وَأَمَّا السَّادِسُ وَهُوَ تَصَفُّحُ الظَّلَّامَاتِ، فهو مختلف بحسب اختلاف المتظلم وَلَيْسَ يَخْلُوَ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُتَظَلِّمُ مِنْ الرَّعِيَّةِ أَوْ مِنْ الْعُمَّالِ. فَإِنْ كَانَ الْمُتَظَلِّمُ مِنْ الرَّعِيَّةِ تَظَلَّمَ مِنْ عَامِلٍ تَحَيَّفَهُ فِي معاملة، كَانَ صَاحِبُ الدِّيوَانِ فِيهَا حَاكِمًا بَيْنَهُمَا، وَجَازَ لَهُ أَنْ يَتَصَفَّحَ الظَّلَّامَةَ وَيُزِيلَ التَّحَيُّفَ، سَوَاءٌ وقع الناظر إليه بذلك أو لم يوقع، لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ لِحِفْظِ الْقَوَانِينِ وَاسْتِيفَاءِ الْحُقُوقِ، فَصَارَ بعقد الولاية مستحقا لتصفح الظلامات، فَإِنْ مُنِعَ مِنْهَا امْتَنَعَ وَصَارَ عَزْلًا عَنْ بَعْضِ مَا كَانَ إلَيْهِ. وَإِنْ كَانَ الْمُتَظَلِّمُ عاملا جوزف في حسابه، أو غولط في معاملته فصار صاحب الديوان فيها خصما، فكان المتصفح لها ولي الأمر. فصل في أحكام الجرائم الجرائم: محظورات بالشرع، زَجَرَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهَا بِحَدٍّ أَوْ تَعْزِيرٍ. وقد قيل: إن حالها عند التهمة بها، وقيل: ثبوتها وصحتها معتبرة بحال الناظر فيها. فإن كان حاكما رفع إليه من قَدْ اُتُّهِمَ بِسَرِقَةٍ، أَوْ زِنًا، لَمْ يَكُنْ للتهمة بها تأثيرا عنده، ولم يجز حبسه لكشف ولا لإستبراء ولا أخذه بأسباب الإقرار إجبارا. ولا تسمع الدَّعْوَى عَلَيْهِ فِي السَّرِقَةِ إلَّا مِنْ خَصْمٍ مستحق لما قرف بسرقته، ويعتبر بعد ذلك إقرار المتهوم أو إنكاره. وإن اتهم بالزنا لم تسمع الدَّعْوَى عَلَيْهِ إلَّا بَعْدَ أَنْ يَذْكُرَ الْمَرْأَةَ التي زنى بها ويصف الفعل الموجب للحد، فإن أقر أخذه بموجبه، وإن أنكر سمع إنكاره واستحلفه فيما كان حقا لآدمي دون حق الله تعالى. وَإِنْ كَانَ النَّاظِرُ الَّذِي رُفِعَ إلَيْهِ هَذَا المتهوم أميرا، أو من ولاة الأحداث كَانَ لَهُ مَعَ هَذَا الْمَتْهُومِ مِنْ أَسْبَابِ الْكَشْفِ وَالِاسْتِبْرَاءِ مَا لَيْسَ لِلْقُضَاةِ وَالْحُكَّامِ، وَذَلِكَ من تسعة أوجه: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 أحدها: أنه يَجُوزُ لِلْأَمِيرِ أَنْ يَسْمَعَ قَرْفَ الْمَتْهُومِ مِنْ أعوان الإمارة من غير تحقيق للدعوى المفسرة. وَيَرْجِعُ إلَى قَوْلِهِمْ فِي الْإِخْبَارِ عَنْ حَالِ الْمَتْهُومِ، وَهَلْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الرِّيَبِ؟ وَهَلْ هُوَ مَعْرُوفٌ بِمِثْلِ مَا قُرِفَ بِهِ أَمْ لا؟ فإن برأوه من مثل ذلك خفت التهمة وضعفت وَعُجِّلَ إطْلَاقُهُ وَلَمْ يُغْلَظْ عَلَيْهِ. وَإِنْ قَرَفُوهُ بأمثاله غلظت التهمة، وَاسْتُعْمِلَ فِيهَا مِنْ حَالِ الْكَشْفِ مَا سَنَذْكُرُهُ، وليس هذا للقضاة. الثاني: أَنَّ لِلْأَمِيرِ أَنْ يُرَاعِيَ شَوَاهِدَ الْحَالِ، وَأَوْصَافَ الْمَتْهُومِ فِي قُوَّةِ التُّهْمَةِ وَضَعْفِهَا فَإِنْ كَانَتْ التهمة بزنا، وكان المتهوم متصنعا لِلنِّسَاءِ، ذَا فُكَاهَةٍ وَخِلَابَةٍ قَوِيَتْ التُّهْمَةُ، وَإِنْ كَانَ بِضِدِّهِ ضَعُفَتْ. وَإِنْ كَانَتْ التُّهْمَةُ بِسَرِقَةٍ وَكَانَ الْمَتْهُومُ بِهَا ذَا عِيَارَةٍ، أَوْ فِي بَدَنِهِ آثَارُ ضَرْبٍ، أَوْ كَانَ مَعَهُ حِينَ أُخِذَ مِنْقَبٌ قَوِيَتْ التُّهْمَةُ، وَإِنْ كَانَ بِضِدِّهِ ضعفت وليس هذا للقضاء أيضا. الثالث: أن للأمير تعجيل حَبْسَ الْمَتْهُومِ لِلْكَشْفِ وَالِاسْتِبْرَاءِ. وَاخْتُلِفَ فِي مُدَّةِ حبسه فقيل: حَبْسَهُ لِلِاسْتِبْرَاءِ وَالْكَشْفِ مُقَدَّرٌ بِشَهْرٍ وَاحِدٍ لَا يتجاوزه. وقيل: بَلْ لَيْسَ بِمُقَدَّرٍ، وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى رَأْيِ الإمام واجتهاده. وظاهر كلام أحمد رحمه الله ورضي عنه: أن للقضاة الحبس في التهمة. فقال في رواية حنبل" إذا قامت عليه البينة أو الاعتراف أقيم عليه الحد، ولا يحبس بعد إقامة الحد، وقد حبس النبي - صلى الله عليه وسلم - في تهمة وذلك حتى يتبين للحاكم أمره. ثم يخليه بعد إقامة الحد". ولفظ الحديث: ما روى أبو بكر الخلال في أول كتاب الشهادات بإسناده عن بهز بن حكيم عن أبيه عن جده، " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس في تهمة". وبإسناده عن أبي هريرة " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حبس في تهمة يوما وليلة استظهارا واحتياطا". ويشهد لذلك قوله تعالى (24: 8 ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله) . وحملنا العذاب على الحبس لقوة التهمة في حقها بامتناعها من اللعان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الرابع: أنه يَجُوزَ لِلْأَمِيرِ، مَعَ قُوَّةِ التُّهْمَةِ، أَنَّ يَضْرِبَ ضرب تعزير لا ضرب حدّ ليأخذه بالصدق عن حاله الذي قُرِفَ بِهِ وَاتُّهِمَ، فَإِنْ أَقَرَّ وَهُوَ مَضْرُوبٌ اُعْتُبِرَتْ حَالُهُ فِيمَا ضُرِبَ عَلَيْهِ. فَإِنْ ضُرِبَ ليقر لم يصح الإقرار، وإن ضرب ليصدق عن حاله فأقر تَحْتَ الضَّرْبِ قُطِعَ ضَرْبُهُ وَاسْتُعِيدَ إقْرَارُهُ، فَإِذَا أَعَادَهُ كَانَ مَأْخُوذًا بِالْإِقْرَارِ الثَّانِي دُونَ الْأَوَّلِ فَإِنْ اقْتَصَرَ عَلَى الْإِقْرَارِ الْأَوَّلِ وَلَمْ يَسْتَعِدْهُ , لم تضيق عليه أن يعمل بإقراره الأول وإن كرهناه. الخامس: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَمِيرِ - فِيمَنْ تَكَرَّرَتْ مِنْهُ الْجَرَائِمُ، وَلَمْ يَنْزَجِرْ عَنْهَا بِالْحُدُودِ - أَنْ يَسْتَدِيمَ حَبْسَهُ إذَا اسْتَضَرَّ النَّاسُ بِجَرَائِمِهِ، حَتَّى يَمُوتَ بَعْدَ أَنْ يَقُومَ بِقُوتِهِ وَكُسْوَتِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ، لِيَدْفَعَ ضَرَرُهُ عَنْ النَّاسِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ذل للقضاة. السادس: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلْأَمِيرِ إحْلَافُ الْمَتْهُومِ، اسْتِبْرَاءً لِحَالِهِ، وَتَغْلِيظًا عَلَيْهِ فِي الْكَشْفِ عَنْ أَمْرِهِ فِي التُّهْمَةِ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ وَلَا نضيق عليه أن يحلفه بالطلاق والعتاق والصدقة، كالإيمان في البيعة السلطانية. وليس للقضاء إحْلَافُ أَحَدٍ عَلَى غَيْرِ حَقٍّ، وَلَا أَنْ يتجاوز الإيمان بالله تعالى إلى طلاق أو عتق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 السابع: أَنَّ لِلْأَمِيرِ أَنْ يَأْخُذَ أَهْلَ الْجَرَائِمِ بِالتَّوْبَةِ إجبارا، ويظهر عليهم من الوعيد ما يقودهم إليها طوعا ولا نضيق عليه الْوَعِيدَ بِالْقَتْلِ فِيمَا لَا يَجِبُ فِيهِ الْقَتْلُ لِأَنَّهُ وَعِيدُ إرْهَابٍ يَخْرُجُ عَنْ حَدِّ الْكَذِبِ إلى حيز التعزير". الثامن: أنه يجوز للأمير أن يسمع شهادات أهل المهن وَمَنْ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْمَعَ مِنْهُ الْقُضَاةُ إذا كثر عددهم. التاسع: أَنَّ لِلْأَمِيرِ النَّظَرَ فِي الْمُوَاثَبَاتِ، وَإِنْ لَمْ توجب غُرْمًا وَلَا حَدًّا، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِوَاحِدٍ مِنْهُمَا أَثَرٌ سَمِعَ قَوْلَ مَنْ سَبَقَ بِالدَّعْوَى، وإن كان بأحدهما أثر، فقد قيل: يَبْدَأُ بِسَمَاعِ دَعْوَى مَنْ بِهِ الْأَثَرُ وَلَا يُرَاعِي السَّبْقَ. وَاَلَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ: أَنَّهُ يَسْمَعُ قَوْلَ أَسْبَقِهِمَا بِالدَّعْوَى، وَيَكُونُ الْمُبْتَدِئُ بِالْمُوَاثَبَةِ أَعْظَمَهُمَا جُرْمًا، وَأَغْلَظَهُمَا تَأْدِيبًا. وَيَجُوزُ أَنْ يُخَالِفَ بَيْنَهُمَا فِي التَّأْدِيبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: بِحَسَبِ اختلافهما في الاقتراف. والثاني: بحسب اختلافهما في الهيئة وَالتَّصَاوُنِ. وَإِذَا رَأَى مِنْ الصَّلَاحِ فِي رَدْعِ السَّفَلَةِ أَنْ يُشْهِرَهُمْ وَيُنَادِيَ عَلَيْهِمْ بِجَرَائِمِهِمْ، سَاغَ له ذلك. فقد وقع الفرق بين الأمراء والقضاة في حال الاستبراء وقبول ثبوت الحق، لاختصاص الأمراء بالسياسة، واختصاص القضاة بالأحكام. فأما بَعْدَ ثُبُوتِ جَرَائِمِهِمْ، فَيَسْتَوِي فِي إقَامَةِ الْحُدُودِ عليهم أحوال الأمراء والقضاة. وثبوتها عليهم من وجهين: إقرار، وبينة. فَأَمَّا الْحُدُودُ فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. فَأَمَّا الْمُخْتَصَّةُ بِحُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا وَجَبَ فِي تَرْكِ مَفْرُوضٍ. والثاني: ما وجب بارتكاب محظور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 أما ما وجب في ترك مفروض فكتارك الصلاة حتى يخرج وقتها يسئل عَنْ تَرْكِهِ لَهَا. فَإِنْ قَالَ: لِنِسْيَانٍ أُمِرَ بِهَا قَضَاءً فِي وَقْتِ ذِكْرِهَا، وَلَمْ يَنْتَظِرْ بها مثل وقتها قال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " مَنْ نَامَ عَنْ صَلَاةٍ أَوْ نَسِيَهَا، فَلْيُصَلِّهَا إذَا ذَكَرَهَا فَذَلِكَ وقتها لا كفارة لهم غيره". وَإِنْ تَرَكَهَا لِمَرَضٍ صَلَّاهَا بِحَسَبِ طَاقَتِهِ: مِنْ جلوس، أو اضطجاع. وَإِنْ تَرَكَهَا جَاحِدًا لِوُجُوبِهَا كَانَ كَافِرًا حُكْمُهُ حكم المرتد يقتل بالردة، إن لَمْ يَتُبْ وَإِنْ تَرَكَهَا اسْتِثْقَالًا لِفِعْلِهَا، مَعَ اعترافه بوجوبها، ففيه روايتان. إحداهما: يصير بتركها كافرا يقتل بالردة. والثانية: لا يكفر بتركها ويقتل حَدًّا، وَلَا يَصِيرُ مُرْتَدًّا وَلَا يُقْتَلُ إلَّا بعد استتابة، فَإِنْ تَابَ وَأَجَابَ إلَى فِعْلِهَا تُرِكَ وَأُمِرَ بِهَا. فَإِنْ قَالَ: أُصَلِّيهَا فِي مَنْزِلِي وُكِّلَتْ إلَى أَمَانَتِهِ وَلَمْ يُجْبَرْ عَلَى فِعْلِهَا بِمَشْهَدٍ من الناس. فإن امْتَنَعَ مِنْ التَّوْبَةِ وَلَمْ يُجِبْ إلَى فِعْلِ الصلاة لم يقتل إلا بعد ثلاثة أيام. ويقتل بوحي السيف نص على ضرب عنقه في رواية الجماعة: صالح، وحنبل وأبي الحارث. وأما الصلوات الفوائت إذا امتنع من قضائها، فإنه يقتل بها كالمواقيت. وأما تارك الصيام فقال في رواية الميموني " من قال: أعلم أن الصوم فرض ولا أصوم، يستتاب، فإن تاب ,إلا ضربت عنقه، فقد نص على أنه يقتل بترك الصوم، كالصلاة. وقال في رواية أبي طالب: إذا قال: الصوم فرض ولا أصوم، ليس الصوم مثل الصلاة والزكاة لم يجئ فيه شيء، فلم يجعله مثل الصلاة والزكاة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 وقال أيضا في رواية الأثرم: وقد سئل عن تارك صوم رمضان مثل تارك الصلاة؟ فقال، الصلاة آكد، إنما جاء في الصلاة، وليست كغيرها". وظاهر هذا: أنه فرق بين الصلاة وبين الصوم، بأنه لا يقتل ويترك إلى أمانته. وأما تارك الزكاة فيأخذها الإمام منه قهرا، فإن تعذر أخذها منه لِامْتِنَاعِهِ حُورِبَ عَلَيْهَا، وَإِنْ أَفْضَى الْحَرْبُ إلَى قَتْلِهِ حَتَّى تُؤْخَذَ مِنْهُ كَمَا حَارَبَ أَبُو بكر - رضي الله عنه - مانعي الزكاة، وإن قتل في حال قتله، فهل يقتل كافرا مرتدا؟ فقال في رواية الميموني: فيمن منع الزكاة: " يقاتل، قيل له: فيورث، ويصلى عليه قال: إذا منعوا الزكاة كما منعوا أبا بكر وقاتلوا عليها: لم يورث ولم يصلى عليه، وإن منع الزكاة، يعني من بخل أو تهاون، لم يقاتل ولم يحارب على المنع، بل يقاتل عليها ويورث ويصلى عليه". فقد نص على أنه إن منعها وقاتل عليها قوتل، وإن قتل كافرا، لا يصلى عليه ولا يورث، وإن لم يقاتل عليها لكن منعها شحا وبخلا، لم يحكم بكفره. فإن تعذر أخذها منه لعدم الوصول إلى ماله، ولم يوجد منه قتال عليها استتيب ثلاثا فإن تاب وإلا قتل، ولم يحكم بكفره. نص عليه في رواية أبي طالب في رجل قال: الزكاة على، ولا أزكي، " يقال له مرتين أو ثلاثا: زك، فإن لم يزك يستتاب ثلاثة أيام، فإن تاب وإلا ضربت عنقه". وروى أبو حفص العكبري في هذه الرواية زيادة قلت: فلان روى عنك أنك قلت في الزكاة: يضرب عنقه على المكان، ولا يستتاب، قال: لم يحفظ". وما الحج ففرض عند أحمد على الفور، فيتصور تأخيره عن وقته. وقد قال أحمد في رواية الجماعة: منهم عبد الله، وإسحاق، وإبراهيم، وأبو الحارث " ومن كان موسرا وليس به أمر يحبسه فلم يحج لا تجوز شهادته". وهذا مبالغة في الفور، لأنه قد أسقط عدالته في الموضع الذي يسوغ فيه الاجتهاد. وهل يقتل بتأخيره؟ قال أبو بكر في مسائل البغاة من كتاب الخلاف " الحج والزكاة والصيام، والصلاة سواء، يستتاب، فإن تاب وإلا قتل". ويشهد لهذا ما حكيناه عن أحمد " أنه لا تقبل شهادته". وظاهر هذا أنه لا يسوغ الاجتهاد في تأخيره، ويحتمل أن لا يقتل لأنه بفعله بعد الوقت يكون أَدَاءً لَا قَضَاءً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 فَإِنَّ مَاتَ قَبْلَ أَدَائِهِ حَجَّ عَنْهُ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ. وَأَمَّا الْمُمْتَنِعُ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ من ديون، وغيرها، فتؤخذ جبرا إذا أمكنت، وَيُحْبَسُ بِهَا إذَا تَعَذَّرَتْ، إلَّا أَنْ يَكُونَ بها معسرا فينظر إلى ميسرته. فأما مَا وَجَبَ بِارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ فَضَرْبَانِ أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَهِيَ أَرْبَعَةٌ: حد الزنا، وحد الخمر، وقطع السرقة، وحد المحاربين. والضرب الثاني: ما كان من حقوق الآدميين وهو شيئان: أحدهما: حد القذف بالزنا. والثاني: القود في الجنايات. أما حد الزنا فيجب بغيبوبة حشفة ذكر البالغ العاقل فِي أَحَدِ الْفَرْجَيْنِ: مِنْ قُبُلٍ أَوْ دُبُرٍ، ممن لا عصمة بينهما لا شبهة. ويستوي في حكم الزِّنَا حُكْمُ الزَّانِي وَالزَّانِيَةِ. وَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَالَتَانِ: بِكْرٌ، وَمُحْصَنٌ. أَمَّا الْبِكْرُ فَهُوَ الَّذِي لم يطأ زوجته بِنِكَاحٍ، فَيُحَدُّ إنْ كَانَ حُرًّا، مِائَةَ سَوْطٍ تُفَرَّقُ فِي جَمِيعِ بَدَنِهِ إلَّا الْوَجْهَ وَالْمَقَاتِلَ، ليأخذ كل عضو حقه، بسوط لا جديد فيقتل، ولا خلق فلا يؤلم. ويغربا عاما عن بلدهما إلى مسافة تقصر فيها الصلاة وحد المسلم والكافر سواء في الجلد، والتغريب، فأما الْعَبْدُ وَمَنْ جَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الرِّقِّ مِنْ الْمُدَبَّرِ، وَالْمُكَاتَبِ، وَأُمِّ الْوَلَدِ، فَحَدُّهُمْ فِي الزِّنَا خمسون جلدة على النصف من حد الحر، ولا يغرب. وأما المحصن الذي أصاب زوجته بعقد نكاح، فحده الرجم بالأحجار وما قَامَ مَقَامَهَا، حَتَّى يَمُوتَ، وَلَا يَلْزَمُ تَوَقِّي مَقَاتِلِهِ، بِخِلَافِ الْجَلْدِ، لِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالرَّجْمِ الْقَتْلُ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 واختلفت الرواية عن أحمد: هل يجلد مع الرجم فروي عنه " لا يجلد" وروي " يجلد مائة". وليس الإسلام شرطا في الحصانة ويرجم الكافر كالمسلم. فأما الحرية فهي من شروط الحصانة. فإذا زنا الْعَبْدُ لَمْ يُرْجَمْ، وَإِنْ كَانَ ذَا زَوْجَةٍ جلد خمسين جلدة. وَاللِّوَاطُ وَإِتْيَانُ الْبَهَائِمِ زِنًا، يُوجِبُ جَلْدَ الْبِكْرِ، ورجم المحصن. وروي عن أحمد " يوجب الفعل في حق البكر والثيب". وروى عن أحمد رواية في إتيان البهائم " لا حد، وفيه تعزير". وإذا زنى البكر بمحصنة، أو زنى المحصن ببكر، جُلِدَ الْبِكْرُ مِنْهُمَا وَرُجِمَ الْمُحْصَنُ. وَإِذَا عَاوَدَ الزنا بعد الحد حد: وإذا زنا مِرَارًا قَبْلَ الْحَدِّ حُدَّ لِلْجَمِيعِ حَدًّا وَاحِدًا. وَالزِّنَا يَثْبُتُ بِأَحَدِ أَمْرَيْنِ: إمَّا بِإِقْرَارٍ، أَوْ بينة: أما الإقرار البالغ العاقل مختارا أربع دفعات وجب عليه الحد: وَإِذَا وَجَبَ الْحَدُّ عَلَيْهِ بِإِقْرَارِهِ ثُمَّ رَجَعَ عنه قبل الحد سقط عنه الحد. وأما البينة: فهي أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ بِفِعْلِ الزِّنَا أَرْبَعَةُ رِجَالٍ عدول، يَذْكُرُونَ أَنَّهُمْ شَاهَدُوا دُخُولَ ذَكَرِهِ فِي الْفَرْجِ، كَدُخُولِ الْمِرْوَدِ فِي الْمُكْحُلَةِ: فَإِنْ لَمْ يُشَاهِدُوا ذلك على هذه الصفة لم تكن شهادة. ومن شرط الشهادة: اجتماع الشهود في الأداء: فإن تفرقوا كانوا قذفة. وإذا شهدوا بالزنا بعد حين قبلت شهادتهم. وَإِذَا لَمْ يُكْمِلْ شُهُودُ الزِّنَا أَرْبَعَةً فَهُمْ قذفة، يحدون: نص عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 وإن شهدوا بالزنا أربعة فساق أو عبيد، أو عميان ففيه روايتان: إحداهما: أنهم قذفة يحدون. والثانية: لا حد عليهم، لأن لكمال العدد تأثيرا في إسقاط الحد عن الشهود مع الحكم برد شهادتهم. وإذا شهد أربعة بالزنا، وشهد نساء ثقات بأنها بكر، لم يجب الحد على المرأة، ولا على الشهود، ولو نقص عددهم وجب الحد، ولأن العدد قد كمل، وهم من أهل الشهادة في الجملة، لأن العبيد والعميان عند أحمد رحمه الله من أهلها في الجملة، وأما الفسق فطريقه الاجتهاد، فقد يرد شهادتهم حاكم ويقبلها آخر، فهو غير مقطوع عليه، ونقصان العدد مقطوع عليه. والثالثة: أنهم إن كانوا عميانا وجب عليهم الحد، وإن كانوا عبيدا أو أحدهم عبدا لم يحدوا لأنا على كذب العميان، لأن الزنا طريقة المشاهدة: والعبيد لا يمكن القطع على كذبهم، نقلها سندي بن عبد الله الجوهري. وإذا شهدت البينة على إقراره بالزنا، لم يجز الاقتصار على شاهدين، ولا يجوز أقل من أربعة. وإذا رجم الزاني لم يحفر له بئر عند رجمه ويحفر للمرأة. وإذا رجم الزاني فهرب: نظرت. فإن رجم بالبينة اتبع حتى الموت بالرجم، وإن رجم بإقراره لم يتبع. وإذا ثبت الرجم بشهادة لم يجب علىالشهود حضور الرجم والبداءة به: وكذلك إن ثبت بإقراره، لم يجب على الإمام حضور الرجم والبداءة به ذكره أبو بكر. ولا تحد الحامل حَتَّى تَضَعَ: وَلَا بَعْدَ الْوَضْعِ حَتَّى يُوجَدَ لولدها من يرضعه. وَإِذَا ادَّعَى فِي الزِّنَا شُبْهَةً مُحْتَمَلَةً: مِنْ نِكَاحٍ فَاسِدٍ، أَوْ اشْتَبَهَتْ عَلَيْهِ بِزَوْجَتِهِ، أَوْ جهل تحريم الزنا، وهو حديث عهد بالإسلام، درء بها سنة الحد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 وإذا أصاب ذات محرم بنكاح حُدَّ، وَلَا يَكُونُ الْعَقْدُ مَعَ تَحْرِيمِهَا بِالنَّصِّ شبهة في درء الحد. وَإِذَا تَابَ الزَّانِي بَعْدَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ، لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الْحَدُّ، وَلَوْ تَابَ قَبْلَ الْقُدْرَةِ سقط عنه الحد، وكذلك السارق والمحارب. والمنصوص عنه في السارق في رواية أبي الحارث، وحنبل " إذا تاب قبل أن يقدر عليه ولم يقطع". وقد نقل الميموني عنه لفظين في الزاني، فقال: " إذا أقر أربع مرات ثم تاب قبل أن يقام عليه الحد، تقبل توبته، ولا يقام عليه الحد ". وقال: أي الميموني وناظرته في مجلس آخر فقال: " إذا رجع عما أقر به لم يرجم، فإن تاب فمن توبته أن يطهر بالرجم". فاللفظ الأول يقتضي قبول توبته بعد القدرة عليه، لأن إقراره إنما يكون عند الحاكم، واللفظ الثاني لا تقبل توبته بعد القدرة عليه، لأنه قال " من توبته أن يطهر بالرجم" ويحتمل أن يكون هذا بعد القدرة عليه. وَلَا يَحِلُّ لِأَحَدٍ أَنْ يَشْفَعَ فِي إسْقَاطِ الحد عَنْ زَانٍ وَلَا غَيْرِهِ، وَلَا يَحِلُّ لِلْمَشْفُوعِ إليه أن يشفع فيه. فأما قطع السرقة فكل مال بلغت قيمته نصابا إذاسرقه بَالِغٌ عَاقِلٌ، لَا شُبْهَةَ لَهُ فِي الْمَالِ، وَلَا فِي حِرْزِهِ، قُطِعَتْ يَدُهُ الْيُمْنَى، مِنْ مِفْصَلِ الْكُوعِ، فَإِنْ سَرَقَ ثَانِيَةً بَعْدَ قَطْعِهِ، قُطِعَتْ رِجْلُهُ الْيُسْرَى مِنْ مِفْصَلِ الْكَعْبِ، فَإِنْ سرق ثالثة، ففيه روايتان: إحداهما: لا يقطع فيهما. والثانية: تقطع في الثالثة يده اليسرى، وتقطع في الرابعة رجله اليمنى، فإن سرق الخامسة عزر ولم يقتل. وإذا سَرَقَ مِرَارًا قَبْلَ الْقَطْعِ فَلَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا قطع واحد. والنصاب الذي يقطع فيه مقدر بأحد شيئين: ربع دينار فصاعدا من غالب الدنانير الجيدةن أو ثلاثة دراهم من غالب الدراهم الجيدة، أو قيمة ثلاثة دراهم من جميع الأشياء. والمال الذي تقطع فيه اليد: كل ما يتمول في العادة، وإن كان أصله مباحا: كالصيد والحشيش والحطب، وكذلك في الطعام الرطب لايقطع سارقه ويقطع بسرقته أستار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 الكعبة وقناديل المساجد، والمنصوص عنه ستارة الكعبة. وَإِذَا سَرَقَ عَبْدًا صَغِيرًا لَا يَعْقِلُ، أَوْ أعجميا لا يفهم، قطع. ولو سرق حرا لم يقطع: نص عليه. ونقل صالح عنه إذا سرق صبيا صغيرا عليه قطع. والحرز معتبر في وجوب القطع، ويختلف بحسب اختلاف الأموال، اعتبارا بالعرف فيخفف الْحِرْزُ فِيمَا قَلَّتْ قِيمَتُهُ مِنْ الْخَشَبِ وَالْحَطَبِ، ويغلظ فيما كثرت قيمته من الفضة والذهب: فلا يجعل حرز الخشب كحرز الذهب، فَيُقْطَعُ سَارِقُ الْخَشَبِ مِنْهُ. وَلَا يُقْطَعُ سَارِقُ الفضة والذهب مِنْهُ. وَيُقْطَعُ نَبَّاشُ الْقُبُورِ إذَا سَرَقَ أَكْفَانَ الموتى. ويقطع جاحد العارية. وإذا شد رجل متاعه على بهيمة سائرة - كما جرت بمثلة العادة - فَسَرَقَ سَارِقٌ مِنْ الْمَتَاعِ مَا بَلَغَتْ قِيمَتُهُ ربع دينار: قطع، وَلَوْ سَرَقَ الْبَهِيمَةَ وَمَا عَلَيْهَا: لَمْ يُقْطَعْ لأنه سرق الحرز والمحرز. وقد قال أحمد في رواية جعفر بن محمد: في الصناديق التي في السوق " هي حرز، فإن حمله كما هو أو أدخل يده فيه فهو سارق، عليه القطع". وَلَوْ سَرَقَ إنَاءً مِنْ فِضَّةٍ أَوْ ذَهَبٍ قطع، وإن كان استعماله محظورا، لأنه مختلف في اتخاذها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 ويفارق هذا آلة اللهو أنه لا يقطع بسرقتها، لأنه متفق على تحريم اتخاذها، ومتفق على أنه لا قيمة للتالف منها، ومختلف في ضمان الصنعة في الأواني. وإذا اشترك جماعة في نقب ودخلوا الحرز وأخرج بعضهم نصابا، ولم يخرج الآخر. فالقطع على جماعتهم. وإذا اشترك اثنان في نقب، ودخل أحدهما فأخرج المسروق، وناوله الآخر خارج الحرز، فالقطع على الداخل دون الخارج، وهكذا إذا رمى به إليه فأخذه. فإن اشترك اثنان في النقب، فدخل أحدهما وترك المتاع بقرب النقب، وأدخل الآخر يده فأخذه، قطعا جميعا. فإن اشْتَرَكَ اثْنَانِ، فَنَقَبَ أَحَدُهُمَا وَلَمْ يَأْخُذْ، وَأَخَذَ الْآخَرُ، وَلَمْ يَنْقُبْ لَمْ يُقْطَعْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا. وإذا هتك الحرز ودخله واستهلك المال فيه، أغرم وَلَمْ يُقْطَعْ. وَإِذَا قُطِعَ السَّارِقُ وَالْمَالُ بَاقٍ رُدَّ عَلَى مَالِكِهِ، فَإِنْ عَادَ السَّارِقُ بَعْدَ قطعه فسرقه ثانية بعد إحرازه، قطع. فإن استهلك السارق ما سرقه قطع وأغرم، وَإِذَا وُهِبَتْ لَهُ السَّرِقَةُ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ القطع وَإِذَا عَفَا رَبُّ الْمَالِ عَنْ الْقَطْعِ، لَمْ يسقط. وَيَسْتَوِي فِي قَطْعِ السَّرِقَةِ الرَّجُلُ وَالْمَرْأَةُ، وَالْحُرُّ وَالْعَبْدُ، وَالْمُسْلِمُ وَالْكَافِرُ. وَلَا يُقْطَعُ صَبِيٌّ وَلَا مجنون. ويقطع السكران إذا سرق في سكره وَلَا يُقْطَعُ الْمُغْمَى عَلَيْهِ إذَا سَرَقَ فِي إغْمَائِهِ. وَلَا يُقْطَعُ عَبْدٌ سَرَقَ مِنْ مَالِ سيده، ولا أب سرق من مال ولده. ويقطع الأقارب بسرقة بعضهم من بعض، سوى الوالدين والمولودين. وأما حدّ الخمر فكل ما أسكر كثيره من خمر أو نبيذ، حُدَّ شَارِبُهُ، سَوَاءٌ سَكِرَ مِنْهُ أَوْ لَمْ يسكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وفي قدر الحد روايتان: إحداهما: ثمانون، والثانية: أربعون بالسوط، كسائر الحد. وقيل: بِالْأَيْدِي وَأَطْرَافِ الثِّيَابِ. وَيُبَكَّتَ بِالْقَوْلِ الْمُمِضِّ، وَالْكَلَامِ الرادع. ولو حد ثمانون، أو أربعون - على اختلاف الروايتين - فإن حدّ زيادة على ذلك فَمَاتَ، ضُمِنَتْ نَفْسُهُ. وَفِي قَدْرِ مَا يُضْمَنُ وجهان، خرجهما أبو بكر. أحدهما: جميع ديته، لأن نصف حده نص، ونصف حده مزيد، والأول أشبه بكلام أحمد، لأنه قد نص في الإجارة " إذا أخذ أجرة حمل أرطال معلومة، فزاد عليها: ضمن القيمة، ولم يسقط الضمان". ولو شربها لعطش، حد، لأنها لا تروي، وكذلك لو شربها لدواء لأنه ممنوع من شربها للدواء، لما روى أحمد بإسناده عن طارق بن سويد " أنه سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الخمر، وقال: إنما أصنعها للدواء؟ فقال: إنها ليست بدواء، ولكن داء". وَإِذَا اعْتَقَدَ إبَاحَةَ النَّبِيذِ حُدَّ، وَإِنْ كَانَ على عَدَالَتِهِ. وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يُقِرَّ بِشُرْبِ الْمُسْكِرِ، أَوْ يَشْهَدَ عَلَيْهِ شَاهِدَانِ أَنَّهُ شَرِبَ مختارا، وهو يعلم أنه مسكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وَحُكْمُ السَّكْرَانِ: فِي جَرَيَانِ الْأَحْكَامِ عَلَيْهِ كَالصَّاحِي، إذَا كَانَ عَاصِيًا بِسُكْرِهِ، فَإِنْ خَرَجَ عَنْ حكم المعصية، بأن شرب ما لا يعلم أنه مسكر، أو أكره على شربه على إحدى الروايتين لم يجر عليه قلم، كالمغمى عليه. فأما حد السكران الذي يمنع صحة العبادات ويوجب الفسق على شارب النبيذ، فهو الذي يجمع بَيْنَ اضْطِرَابِ الْكَلَامِ فَهْمًا وَإِفْهَامًا، وَبَيْنَ اضْطِرَابِ الحركة مشيا وقياما، فيتكلم بِلِسَانٍ مُنْكَسِرٍ، وَمَعْنًى غَيْرِ مُنْتَظِمٍ، وَيَتَصَرَّفَ بِحَرَكَةِ مختبط، ومشي متمايل، أومأ إليه أحمد في رواية حنبل، فقال: " السكران الذي إذا وضع ثيابه في ثياب لم يعرفها، وإذا وضع نعله بين تعال لم يعرفها، وإذا هذي فأكثر كلامه، وكان معروفا بغير ذلك". وحكى عن أبي حنيفة حده مازال مَعَهُ الْعَقْلُ، حَتَّى لَا يُفَرِّقَ بَيْنَ الْأَرْضِ والسماء، ولا يعرف أمه من زوجته. وأما حد القذف واللعان فحد القذف بالزنا ثمانون جلدة وهي حق لآدمي يستحق بالطلب ويسقط بالعفو. فإذا اجتمعت بالمقذوف بالزنا خمسة شروط، وفي قاذفه ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ وَجَبَ الْحَدُّ فِيهِ. أَمَّا الشُّرُوطُ الخمسة التي في المقذوف، فيهي أن يكون بالغا، عاقلا، حرا، مسلما، عَفِيفًا، فَإِنْ كَانَ صَبِيًّا، أَوْ مَجْنُونًا، أَوْ عبدا، أو كافرا، أو ساقط العفة بِزِنًا حُدَّ فِيهِ، فَلَا حَدَّ عَلَى قَاذِفِهِ لكن يغزر لأجل الأذى ولتبرئة اللسان. وقد قال الخرقي " ومن قذف عبدا أو مشركا، أو مسلما له دون العشر سنين، أو مسلمة لها دون التسع سنين، أدب ولم يحد". وظاهر هذا: أنه إذا كان له عشر سنين، أو تسع سنين حد القاذف، وإن لم يبلغ يحد قاذفه. وَأَمَّا الشُّرُوطُ الثَّلَاثَةُ فِي الْقَاذِفِ: فَهِيَ أَنْ يَكُونَ بَالِغًا، عَاقِلًا، حُرًّا، فَإِنْ كَانَ صَغِيرًا أَوْ مَجْنُونًا لَمْ يُحَدَّ وَلَمْ يُعَزَّرْ، وَإِنْ كان عبدا حد أربعين، نصف حد الحر لنقصه بالرقز ويحد الكافر كالمسلم، والمرأة كالرجل. ويفسق القاذف ولا تقبل شهادته، فَإِنْ تَابَ زَالَ فِسْقُهُ وَقُبِلَتْ شَهَادَتُهُ قَبْلَ الحد وبعده. والقذف باللواط وإتيان البهائم كالقذف بالزنا فِي وُجُوبِ الْحَدِّ. وَلَا يُحَدُّ الْقَاذِفُ بِالْكُفْرِ وَالسَّرِقَةِ، وَيُعَزَّرُ لِأَجْلِ الْأَذَى. وَالْقَذْفُ بِالزِّنَا مَا كان صريحا، كقوله: يا زاني، أو قد زنيت ن أو رأيتك تزني، فإن قال ثا فَاجِرُ، أَوْ يَا فَاسِقُ، أَوْ يَا لُوطِيُّ، كَانَ كِنَايَةً لِاحْتِمَالِهِ، فَلَا يَجِبُ بِهِ الْحَدُّ، إلا أن يريد القذف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 فإن قال: يا عاهر. احتمل أن يكون كناية أيضا، واحتمل أن يكون صريحا، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: " وللعاهر الحجر". واختلفت الرواية عن أحمد في التعريض: هل يوجب الحد كالصريح؟ على روايتين: إحداهما: يجب به الحد كالصريح. والثانية: لا يجب به الحد، حتى يقر أنه أراد به القذف. والتعريض: أن يقول في حال الغضب جوابا لمن سابه: يا حلال ابن الحلال، خلقت من نطفة حلال، ما أنت بزان، ولا أمك بزانية، ولا يعرفك الناس بالزنا، ونحو قوله لزوجته، فضحتيني، وغطيت رأسي، وصيرت لي قرونا وتعلقين على الأولاد من غيري وقد نكست رأسي ونحو ذلك. وإذا قَالَ: يَا ابْنَ الزَّانِيَيْنِ كَانَ قَاذِفًا لِأَبَوَيْهِ، فيحد لهما إذا طالبا به. وإذا مات المقذوف سقط الحد عن القاذف، إذا لم يطالب، فإن كان طالب لم يسقط. فإن قذف ميتا، فهل يثبت لوارثه المطالبة بحد القذف، اختلف أصحاب أحمد. فقال أبو بكر في كتاب الخلاف " لا يملك الوارث المطالبة، كما لو قذف حيا ومات قبل المطالبة ". وقال الخرقي " ولو قذف أمه – وهي ميتة – مسلمة، كانت أو كافرة، حرة أو أمة حد القاذف إذا طالب الابن وكان حرا مسلما". فقد أثبت المطالبة بحد القذف، لأن الحق هماك ثبت للوارث ابتداء: ولهذا اعتبرنا حصانة الوارث دون الموروث، لأن هذا القذف يعود بالقدح في نسبه. وَلَوْ أَرَادَ الْمَقْذُوفُ أَنْ يُصَالِحَ عَنْ حَدِّ القذف بمال، لم يجز. وَإِذَا لَمْ يُحَدَّ الْقَاذِفُ حَتَّى زَنَى الْمَقْذُوفُ لم يسقط القذف. وَإِذَا قَذَفَ الرَّجُلُ زَوْجَتَهُ بِالزِّنَا حُدَّ لَهَا إلَّا أَنْ يُلَاعِنَ مِنْهَا. وَاللِّعَانُ أَنْ يَقُولَ في الْجَامِعِ عَلَى الْمِنْبَرِ أَوْ عِنْدَهُ، بِمَحْضَرٍ مِنْ الحاكم وشهود أقلهم أربعة: " أشهد بالله إنني لَمِنْ الصَّادِقِينَ فِيمَا رَمَيْتُ بِهِ زَوْجَتِي هَذِهِ مِنْ الزِّنَا بِفُلَانٍ، وَأَنَّ هَذَا الْوَلَدَ مِنْ زنى، ماهو مني". إن أراد أن ينفي ولدا، وَيُكَرِّرَ ذَلِكَ أَرْبَعًا، ثُمَّ يَقُولَ فِي الْخَامِسَةِ " وعلىّ لعنة الله إنْ كُنْتُ مِنْ الْكَاذِبِينَ فِيمَا رَمَيْتُهَا بِهِ من الزنى بِفُلَانٍ". إنْ كَانَ ذَكَرَ الزَّانِيَ بِهَا " وَأَنَّ هذا الولد من زنا ما هُوَ مِنِّي" فَإِذَا قَالَ هَذَا فَقَدْ أَكْمَلَ لعانه وسقط به حدّ القذف عنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 وتلاعن هي فَتَقُولَ " أَشْهَدُ بِاَللَّهِ أَنَّ زَوْجِي هَذَا لَمِنْ الكاذبين فيما رماني به من الزنى بفلان. وأن هذا الولد منه ما هو من زنى، تُكَرِّرُ ذَلِكَ أَرْبَعًا، ثُمَّ تَقُولُ فِي الْخَامِسَةِ " وعليّ غضب الله إن كان زوجي هذا من الصادقين فيما رماني به من الزنى بفلان" فإذا قالت ذلك فلا حدّ عليها وانتفى الولد عن الزوج، ولم تقع الفرقة حتى يفرق الحاكم بينهما. فإن التعن الزوج ولم تلتعن هي فلا حد عليها: وهل تحبس حتى تلاعن أو تقر؟ على روايتين. إحداهما: تحبس. والثانية: لا تحبس. وإذا قذفت المرأة زوجها. حدت ولم تلتعن. وإذا أكذب الزوج نفسه بعد لعانه لحق به الولد، وحد القذف، ولم تحل له الزوجة في إحدى الروايتين، والأخرى تحل له. وأما قود الجنايات وعقلها. فالجنايات على النفوس ثلاث: عمد، وخطأ، وشبه الْخَطَإِ. فَأَمَّا الْعَمْدُ الْمَحْضُ. فَهُوَ أَنْ يَتَعَمَّدَ قَتْلَ النَّفْسِ بِمَا يُقْطَعُ بِحَدِّهِ، كَالْحَدِيدِ، أَوْ بِمَا يَمُورُ فِي اللَّحْمِ مَوْرَ الْحَدِيدِ أَوْ يَقْتُلُ غَالِبًا بِثِقَلِهِ، كَالْحِجَارَةِ، وَالْخَشَبِ، فَهُوَ قَتْلٌ عمد يوجب القود. وحكم العمد: أن يكون ولي المقتول فيه مخيرا، مع تكافؤ الدمين، بين القود أو الدية، وَوَلِيُّ الدَّمِ هُوَ وَارِثُ الْمَالِ، مِنْ ذَكَرٍ أو أنثى، بفرض أو تعصيب. وَلَا قَوَدَ لَهُمْ إلَّا أَنْ يَجْتَمِعُوا عَلَى اسْتِيفَائِهِ. فَإِنْ عَفَا أَحَدُهُمْ سَقَطَ الْقَوَدُ وَوَجَبَتْ الدية. وَإِذَا كَانَ فِيهِمْ صَغِيرٌ أَوْ مَجْنُونٌ لَمْ يكن للبالغ أو العاقل أن ينفرد حتى يبلغ الصبي، ويفيق المجنون. وتكافؤ الدمين: أَنْ لَا يَفْضُلَ الْقَاتِلُ عَلَى الْمَقْتُولِ بِحُرِّيَّةٍ وَلَا إسْلَامٍ. فَإِنْ فَضُلَ الْقَاتِلُ عَلَيْهِ بِأَحَدِهِمَا، فَقَتَلَ حُرٌّ عَبْدًا أَوْ مُسْلِمٌ كَافِرًا، فَلَا قود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 وَيُقْتَلُ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَإِنْ فَضُلَتْ قِيمَةُ الْقَاتِلِ على المقتول. وإذا اختلفت أديان الكفار أقيد بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ. وَيُقَادُ الرَّجُلُ بِالْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةُ بِالرَّجُلِ، وَالْكَبِيرُ بِالصَّغِيرِ، وَالْعَاقِلُ بِالْمَجْنُونِ. وَلَا قَوَدَ عَلَى صبي ولا مجنون، ولا يقاد والد بولده ويقاد الولد بوالده والأخ بأخته. وأما الخطأ المحض فهو أن ينتسب إليه القتل من غير قصد لإيقاع الفعل بالمقتول كرجل رمى هدفا فأصاب إنْسَانًا، أَوْ حَفَرَ بِئْرًا فَوَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ، أَوْ أَشْرَعَ جَنَاحًا فَوَقَعَ عَلَى إنْسَانٍ، أَوْ ركب دابة فرمحت إنسانا، أو وضع حجرا في طريق فتعثر به إنسان، فهذا وما أشبهه إذا حدثت عَنْهُ الْمَوْتُ: قَتْلٌ خَطَأٌ مَحْضٌ، يُوجِبُ الدِّيَةَ دُونَ الْقَوَدِ، وَتَكُونُ عَلَى عَاقِلَةِ الْجَانِي، لَا فِي مَالِهِ مُؤَجَّلَةً فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ حين يموت القتيل. والعاقلة: من عدا الآباء والأبناء من العصبات، فلا يتحمل الْأَبُ وَإِنْ عَلَا، وَلَا الِابْنُ وَإِنْ سَفَلَ في إحدى الروايتين، والأخرى: الْآبَاءَ وَالْأَبْنَاءَ مِنْ الْعَاقِلَةِ. وَلَا يَتَحَمَّلُ الْقَاتِلُ مع العاقلة شيئا من الدية. وَاَلَّذِي يَتَحَمَّلُهُ الْمُوسِرُ مِنْهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ نصف دينار، أو بقدره من الإبل، ويتحمل المتوسط ربع دينار أو بقدره مِنْ الْإِبِلِ، وَلَا يَتَحَمَّلُ الْفَقِيرُ شَيْئًا مِنْهَا، ومن أيسر بعد فقر تحمل ومن افتقر بعد يسار لم يتحمل. وهذا الذي ذكرنا من التقدير اختيار أبي بكر، وذكره في مختصره التنبيه. وظاهر كلام أحمد: أن ما يوضع على كل واحد من العاقلة غير مقدر، وإنما هو على حسب الاجتهاد فيما يمكن ويسهل، ولا يضر به. وفي رواية الميموني " على قدر ما يحتمل القوم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 ودية الْحُرِّ الْمُسْلِمِ، إنْ قُدِّرَتْ ذَهَبًا: أَلْفُ دِينَارٍ مِنْ غَالِبِ الدَّنَانِيرِ الْجَيِّدَةِ، وَإِنْ قُدِّرَتْ وَرِقًا: اثنا عشر ألف دِرْهَمٍ. وَإِنْ كَانَتْ إبِلًا فَهِيَ مِائَةُ بَعِيرٍ أخماسا: عشرون ابن مخاض، وعشروة ابنة مخاض، وعشرون بنت لبون، وعشرون حقة، وعشرون جذعة. وإن قدرت بالبقر فمائتي بقرة أسنان الزكاة. وإن قدرت غنما ألفا شاة أسنان الزكاة. وللدية أصول خمس: إبل، وبقر، وغنم وذهب، وفضة. واختلف الرواية عن أحمد في الحلل، فروى عنه مائتا حلة من حلل اليمن، قيمتها ستون درهما، وروي عنه ليست بأصل. ودية المرأة على النصف من دية الرجل في النفس، وأما في الأطراف فتساوي دية الرجل إلى ثلث الدية، فإذا زادت على الثلث فعلى النصف من دية الرجل. واختلف الرواية عن أحمد في دية اليهودي والنصراني، فروي عنه نصف دية المسلم. وروي عنه ثلث دية المسلم. فأما الْمَجُوسِيُّ فَدِيَتُهُ ثُلُثَا عُشْرِ دِيَةِ الْمُسْلِمِ، ثَمَانِمِائَةِ درهم، وهذا في قتله الخطأ. فأم قتله عمدا، فدية اليهودي والنصراني مثل دية المسلم، ودية المجوسي: الضعف من ديته ألف وستمائة. وَدِيَةُ الْعَبْدِ: قِيمَتُهُ مَا بَلَغَتْ، وَإِنْ زَادَتْ على دية الحر أضعافا. وَأَمَّا الْعَمْدُ شِبْهُ الْخَطَإِ فَهُوَ أَنْ يَكُونَ عَامِدًا فِي الْفِعْلِ غَيْرَ قَاصِدٍ لِلْقَتْلِ، كَرَجُلٍ ضرب رجلا بخشبة أو رماه بحجر يجوز أن يسلم من مثلها وأن يتلف، فأفضى إلى تلفه فلا قود في هذا، وَفِيهِ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ مُغَلَّظَةً. وَتَغْلِيظُهَا فِي الذَّهَبِ وَالْوَرِقِ: أَنْ يُزَادَ عَلَيْهَا ثُلُثُهَا، وَفِي الإبل: أن يكون أرباعا: خمس وعشرون بنات مخاض، وخمس وعشرون بنات لبون، وخمس وعشرون حقة ,وخمس وعشرون جذعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وفي رواية أخرى: أنها أثلاثا: ثلاثون حقة، وثلاثون جذعة، وأربعون خلفة في بطونها أولادها. ودية الخطأ المحض، في الجرم، وفي الأشهر الحرم، والإحرام، وعلى ذي الرحم مغلظة. ودية العمد المحض إذا عفا فِيهِ عَنْ الْقَوَدِ: مُغَلَّظَةٌ، تُسْتَحَقُّ فِي مَالِ القاتل حالة وقد ذكرنا صفة التغليظ. وإذا اشترك الجماعة في قتل الواحد، وجب القود على جميعهم، وإن كثروا، ولولي الدم أن يعفو عمن شاء منهم، ويقتل باقيهم، فإن عفا عن جميعهم فعليهم دية واحدة تقسط بينهم على أعداد رؤوسهم. فإن كان بعضهم جارحا وبعضهم ذابحا أو موجئا فالقود في النقس على الذابح والموجئ والجارح مأخوذ بالجراحة دون النفس. وفيه رواية أخرى: على كل واحد منهم دية كاملة، نقلها الفضل بن زياد واختارها أبو بكر في جملة مسائل أفردها. فإن قتل الواحد جماعة، فحضر أولياء الجميع، فطلبوا القصاص، قتل بجماعتهم، ولا دية عليه. وإن طلب بعضهم القود، وبعضهم الدية، قتل لمن طلب القصاص، ووجبت الدية لمن طلب الدية، سواء كان المطالب للدية ولي المقتول أولا أو ثانيا. أما إذا طلب جيمعهم القصاص فإنما سقط حقهم من الدية، لأن القصاص قد ثبت لولي كل واحد منهم على الانفراد، بدليل أنه لو عفا ولي المقتول الأول وجب القصاص لولي الثاني ولو سبق الثاني بقتل القاتل كان آخذا بحقه، فإذا رضيا جميعا بالقصاص فقد رضي كل واحد منهما بنصف حقه بعد ثبوته وأسقط الباقي، فيجب أن يسقط، كما قلنا في أشلّ قطع يده صغيرة فالمجني عليه بالخيار بين أخذ الدية - وهو بدل يده - وبين القصاص من الشلاء، ولا شيء له. وإذا طلب بعضهم القود وبعضهم الدية، كان لكل واحد منهم ما طلب، أنها جنايات لو كانت خطأ لم تتداخل، فإذا كانت عمدا لم تتداخل كما لو قطع يمنى رجلين: أنه يقطع لأحدهما ويغرم للآخر. وَإِذَا أَمَرَ الْمُطَاعُ رَجُلًا بِالْقَتْلِ، فَالْقَوَدُ عَلَى الْآمِرِ وَالْمَأْمُورِ مَعًا، وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ غَيْرَ مُطَاعٍ، كَانَ الْقَوَدُ عَلَى الْمَأْمُورِ، دُونَ الْآمِرِ. وكذلك لو أكره رجل على القتل، وجب القود على المكره والمكره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 وَأَمَّا الْقَوَدُ فِي الْأَطْرَافِ فَكُلُّ طَرَفٍ قُطِعَ من مفصل ففيه القود، فتقاد اليد باليد، والرجل بالرجل، والأصبع بالأصبع، والإبهام بالإبها، وَالسِّنِّ بِمِثْلِهَا، وَلَا تُقَادُ يُمْنَى بِيُسْرَى، وَلَا عليا بسفلى، ولا ضرس بسن، لا ثَنِيَّةٌ بِرُبَاعِيَّةٍ، وَلَا يُؤْخَذُ بِسِنِّ مَنْ قَدْ ثغر سن لَمْ يَثْغَرْ. وَلَا تُؤْخَذُ يَدٌ سَلِيمَةٌ بِيَدٍ شلاء، ولا لسان ناطق بأخرس، وَتُؤْخَذُ الْيَدُ الْكَاتِبَةُ وَالصَّانِعَةُ بِيَدِ مَنْ لَيْسَ بكاتب ولا صانع، وَلَا تُؤْخَذُ الْعَيْنُ الْقَائِمَةُ وَالْيَدُ الشَّلَّاءُ إلَّا بمثها. ويقاد أنف الذي يشم بأنف الأخشم، وأذن السميع بأذن الأصم. وَيُقَادُ مِنْ الْعَرَبِيِّ بِالْعَجَمِيِّ، وَمِنْ الشَّرِيفِ بِالدَّنِيءِ. فإن عفي عن القود في هذه الأطراف إلى الدية، ففي اليدين، الدية كاملة، وَفِي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي كُلِّ أُصْبُعٍ: عُشْرُ الدِّيَةِ، وَهُوَ عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، وَفِي كل واحدة من أنامل الأصابع: ثلاثة أبعرة وثلث، وإلا أُنْمُلَةَ الْإِبْهَامِ، فَفِيهَا خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ. وَدِيَةُ الرجلين كاليدين إلَّا فِي أَنَامِلِهِمَا فَيَكُونُ فِي كُلِّ أُنْمُلَةٍ خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ. وَفِي الْعَيْنَيْنِ: الدِّيَةُ. وَفِي الجفون الأربع: جميع الدية، وفي كل عضو مِنْهَا: رُبْعُ الدِّيَةِ وَفِي الْأَنْفِ: الدِّيَةُ، وَفِي الْأُذُنَيْنِ: الدِّيَةُ، وَفِي إحْدَاهُمَا: نِصْفُ الدِّيَةِ، وَفِي اللسان: الدية وفي الشفتين: الدية، وفي إحداهما نصف الدِّيَةِ، وَفِي كُلِّ سِنٍّ: خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ، ولا فضل لضرس على سن، ولا لثنية على ناجذ. وفي ذهاب السمع: الدية، وفي ذهاب الشم، الدية، فإن قطع أذنه فأذهب سمعه فعليه ديتان، وكذا لو قطع أنفه فذهب شمه، فعليه ديتان. وفي ذهاب الْكَلَامِ: الدِّيَةُ، فَإِنْ قَطَعَ لِسَانَهُ فَأَذْهَبَ كَلَامَهُ، فعليه دية واحدة، وفي ذهاب العقل: الدية، وفي الذكر: الدية. وفي ذكر الخنثي والعنين حكومة مقدرة بثلث الدية. وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ: الدِّيَةُ، وَفِي إحْدَاهُمَا: نِصْفُ الدِّيَةِ، وفي الإليتين: الدية، وفي إحْدَاهُمَا نِصْفُ الدِّيَةِ. وَفِي ثَدْيَيْ الْمَرْأَةِ: دِيَتُهَا، وفي أحدهما: نصف الدية، وفي ثديي الرجل: الدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 وأما شجاج الرأس فأولهما: الحارصة: وَهِيَ الَّتِي أَخَذَتْ فِي الْجِلْدِ، وَلَا قَوَدَ فيها، وفيها حكومة. ثم الدامية: وهي التي قد أَخَذَتْ فِي الْجِلْدِ، وَأَدَمَتْ، وَفِيهَا حُكُومَةٌ. ثُمَّ الدامعة: وهي التي قد خرج دمها من قطع الجلد كالدمعة، وَفِيهَا حُكُومَةٌ. ثُمَّ الْمُتَلَاحِمَةُ: وَهِيَ الَّتِي قَطَعَتْ الجلد وَأَخَذَتْ فِي اللَّحْمِ، وَفِيهَا حُكُومَةٌ. ثُمَّ الْبَاضِعَةُ: وهي التي قطعت اللحم بعد الجلد، حتى ظهر، وَفِيهَا حُكُومَةٌ. ثُمَّ السِّمْحَاقُ: وَهِيَ الَّتِي قَطَعَتْ جَمِيعَ اللَّحْمِ بَعْدَ الْجِلْدِ وَأَبْقَتْ عَلَى عَظْمِ الرَّأْسِ غِشَاوَةً رَقِيقَةً، وَفِيهَا حُكُومَةُ. وَحُكُومَاتُ هَذِهِ الشِّجَاجِ: تَزِيدُ عَلَى حَسَبِ تَرْتِيبِهَا. ثُمَّ الْمُوضِحَةُ، وَهِيَ الَّتِي قَطَعَتْ الْجِلْدَ وَاللَّحْمَ وَالْغِشَاوَةَ وَأَوْضَحَتْ عن العظم، وفيها القود، فإن عفا عَنْهَا فَفِيهَا خَمْسٌ مِنْ الْإِبِلِ. ثُمَّ الْهَاشِمَةُ، وهي التي أوضحت عن العظم حتى ظهر وشهمت عَظْمَ الرَّأْسِ حَتَّى تَكَسَّرَ وَفِيهَا عَشْرٌ مِنْ الْإِبِلِ، فَإِنْ أَرَادَ الْقَوَدَ مِنْ الْهَشْمِ لَمْ يكن له، وإن أراد من الموضحة أقيد لَهُ مِنْهَا، وَأُعْطِي فِي زِيَادَةِ الْهَشْمِ خَمْسًا من الإبل، هذا قياس قول أحمد، وأنه يجمع بين القصاص فيما يصح القصاص فيه، والأرض فيما لم يقتض منه. لأنه قال في رواية ابن منصور: في صحيح فقأ عين أعور عمدا " فإن أحب أن يستقيد من إحدى عينيه فله نصف الدية، وإن أحب أخذ الدية كاملة". وقياس قول أبي بكر: إن اختار القصاص لم يكن له أرش، لأنه قال: " فيمن قطع يدا تامة الأصابع ويده ناقصة أصبع، فاختار القصاص وأخذ دية إصبع قال" ليس له دية الأصبع" وحكم المسألتين سواء. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 ثم المنقلةك وهي التي قد أَوْضَحَتْ وَهَشَّمَتْ حَتَّى شَظِيَ الْعَظْمُ وَزَالَ عَنْ موضعه فاحتاج إلَى نَقْلِهِ وَإِعَادَتِهِ، وَفِيهَا خَمْسَ عَشْرَةَ مِنْ الإبل، فإن استقاد من الموشحة أعطى في الهشم والتنقيل عشر مِنْ الْإِبِلِ. ثُمَّ الْمَأْمُومَةُ، وَتُسَمَّى الدَّامِغَةَ، وَهِيَ الواصلة إلى أم الدماغ وفيها ثلث الدية. فأما جراح الجسد فلا يتقدر دية شيء منها إلا الجائفة، وَهِيَ الْوَاصِلَةُ إلَى الْجَوْفِ، وَفِيهَا ثُلُثُ الدِّيَةِ. ولا قود في جراح الجسد إلا في الموضحة عن عظم، وفيها حكومة. وإذا قطع أطرافه واندملت وجب عَلَيْهِ دِيَاتُهَا، وَإِنْ كَانَتْ أَضْعَافَ دِيَةِ النَّفْسِ، وَلَوْ مَاتَ مِنْهَا قَبْلَ انْدِمَالِهَا كَانَتْ عَلَيْهِ دِيَةُ النَّفْسِ، وَسَقَطَتْ دِيَاتُ الْأَطْرَافِ، وَلَوْ مَاتَ بعد اندمال بعضها وجب عليه دية النفس وفيها لم يندمل مع دية الأطراف فيما اندمل. وفي لسان الأخرس، ويد الأشل، والأصبع الزائدة، والعين القائمة، حكومة وهي مقدرة بثلث دية اللسان، واليد، والأصبع والعين. والشجاج التي دون الموضحة فيها حكومة غير مقدرة. وَالْحُكُومَةُ فِي جَمِيعِ ذَلِكَ، أَنْ يُقَوِّمَ الْحَاكِمُ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ عَبْدًا لَمْ يُجْنَ عليه، ثم يفوم لو كان عبدا بع الْجِنَايَةِ عَلَيْهِ، وَيُعْتَبَرَ مَا بَيْنَ الْقِيمَتَيْنِ مِنْ دِيَتِهِ، فَيَكُونَ قَدْرُ الْحُكُومَةِ فِي جِنَايَتِهِ. وَإِذَا ضَرَبَ بَطْنَ امْرَأَةٍ، فَأَلْقَتْ مِنْ الضَّرْبِ جَنِينًا مَيِّتًا، فَفِيهِ - إذَا كَانَ حُرًّا - غُرَّةُ: عَبْدٍ، وأمة يستوي فيه الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى. وَعَلَى كُلِّ قَاتِلِ نَفْسٍ ضَمِنَ ديتها: الكفارة عامدا كان أو خاطئا، وفيها رواية أخرى، لا كفارة في قتل العمد. وَالْكَفَّارَةُ: عِتْقُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ، سَلِيمَةٍ مِنْ الْعُيُوبِ المضرة بالعمل، فإن أعسر بها صام شهين متتابعين، فإن عجز عنهما فهل ينتقل إلى الإطعام؟ على وجهين: أحدهما: يطعم ستين مسكينا، والثاني: لا شيء عليه. وَإِذَا ادَّعَى قَوْمٌ قَتْلًا عَلَى قَوْمٍ وَمَعَ الدعوى لوث (3) . -وهو العداوة الظاهرة- فيكون القول قول المدعى. فيحاف خمسين يمينا. ويحكم له بالدية فى الدعوى الخطأ. وفى العمد القود. ولو نكل المدعى عن الأيمان او بعضها, حلف المدعى عَلَيْهِ خَمْسِينَ يَمِينًا. وَبَرِئَ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 وَإِذَا وَجَبَ الْقَوَدُ فِي نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ لَمْ يَكُنْ لِوَلِيِّهِ أَنْ يَنْفَرِدَ بِاسْتِيفَائِهِ إلَّا بِإِذْنِ السُّلْطَانِ فَإِنْ كَانَ فِي طَرَفٍ لَمْ يُمَكِّنْهُ السُّلْطَانُ مِنْ اسْتِيفَائِهِ حَتَّى يَتَوَلَّاهُ غَيْرُهُ. وأجرة إلي يتولاه في مال المقتص منه. ذكره أبو بكر. فَإِنْ كَانَ الْقِصَاصُ فِي نَفْسٍ جَازَ أَنْ يأذن له السلطان في استيفائه بنفسه، إن كان ثابت النفس عند استيفائه، وإلا استوفاه السلطان بأوحى سيف وأمضاه. فإذا انفرد وَلِيُّ الْقَوَدِ بِاسْتِيفَائِهِ، مِنْ نَفْسٍ أَوْ طَرَفٍ، ولم يتعد، عزره السلطان، لاقتنائهئن وقد صار إلى حقه بالقود، فلا شيء عليه. وما التعزير فهو تأديب على ذنوب لم تشرح فيها الحدود. ويختلف حكمه باختلاف حاله وأحواله فاعله. فيوافق الحدود من وجه، وهو أنه تأديب استصلاح وزجر، ويختلف بحسب اختلاف الذنب، ويخالف الحدود من وجهين. أحدهما: أن تأديب ذي الهيئة مِنْ أَهْلِ الصِّيَانَةِ أَخَفُّ مِنْ تَأْدِيبِ أَهْلِ البذاء وَالسَّفَاهَةِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم". فَإِنْ تُسَاوَوْا فِي الْحُدُودِ الْمُقَدَّرَةِ، فَيَكُونُ تَعْزِيرُ مَنْ جَلَّ قَدْرُهُ، بِالْإِعْرَاضِ عَنْهُ. وَتَعْزِيرُ مَنْ دونه: بزاجر الكلام، وغاية الاستخفاف الذي لا قذف فيه ولا سب، ثم يعد بمن دون ذلك إلى الحبس، الذي ينزلون فيه على حسب رتبهم، وَبِحَسَبِ هَفَوَاتِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُحْبَسُ يَوْمًا، وَمِنْهُمْ من يحبس أكثر منه إلى غير غاية مقدرة، ثُمَّ يُعْدَلُ بِمَنْ دُونَ ذَلِكَ إلَى النَّفْيِ والإبعاد، إذا تعدت ذنوبه إلى اجتلاب غيره إليها، واستضراره بها. وقد قال أحمد رحمه الله، ورضي عنه: في المخنث في رواية المروزي " حكمه أن ينفي" وقال في رواية إسحاق - وقد سئل عن التعزير في الخمر- قال: " لا، إلا في الزنا والمخنث". وعامة نفيه مقدر بما دون الحول، ولو بيوم، لئلا يصير مساويا لتغريب الحول في الزنا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 ثُمَّ يُعْدَلُ بِمَنْ دُونَ ذَلِكَ إلَى الضَّرْبِ، ينزلون عَلَى حَسَبِ الْهَفْوَةِ، فِي مِقْدَارِ الضَّرْبِ وَبِحَسَبِ الرتبة في الامتهان والصيانة، وأكثر ما ينتهي إليه الضرب في التعزير، معتبر بالجرم. فإن كان الذنب في التعريض بالزنا روعي ما كان منه، فإن أصاب منها بوطء دون الفرج ضرب تسعة وتسعين سوطا، إن كان حرا، وإن كان عبدا تسعة وأربعين سوطا لينقص عن أكثر الحدود، وفي معناه وطء الشريك في الفرج للأمة المشتركة، ووطء الأب جارية ابنه، ووطء جارية نفسه بعد أن زوجها، أو وطء جارية امرأته بعد أن أذنت له في وطئها، وقد نص على هذا في رواية أبي الحارث، وأبي طالب، والميموني في الرجل يطأ جارية بينة وبين شريكه" يجلد إلا سوطا" كذا قال سعيد بن المسيب. وقال في رواية، ابن نختان في رجل فجر بامرئ فيما دون الفرج يضرب مائة، لأن عليا أتى برجل وجد مع امرأة في لحافها، فضربه مائة. وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم، وصالح، "إذا وطئ جارية امرأته وقد أحلتها له، يرجم". وإن وجدوهما في إزار ولا حائل بينهما متباشرين غير متعاطيين للجماع، أو وجدوهما غير مباشرين، أو وجدوهما في بيت متبذلين عريانين غير مباشرين، أو وجدوهما يشير إليها وتشير إليه بغير الكلام، أو وجدوه يتبعها ولم يقفوا على ذلك، فضربه مبني على أدنى الحدود، فإن قلنا: أدناهما ثمانون في تحد الشرب، ضرب تسعة وتسعين، إن كان حرا وتسعة وثلاثين إن كان عبدا، لينقص عن أدنى الحد". قال في رواية ابن منصور: في رجل وجد مع امرأة في لحافها، قال علي " يجلد مائة" وعلى مذهبنا لا يجلد وعليه تعزير والتعزير دون عشر جلدات. وكذلك قال، في رواية أحمد بن سعيد بن عبد الخالق في اللوطي " إذا أولج وخالط، فالجم أحصن أو لم يحصن، فإذا وجد على ظهره، أو معه، يؤدب كما يصنع به إذا وجد مع امرأة ". وقال في رواية أبي الصقر " إذا قال الرجل، يا مرابي، يا شارب الخمر، يا عدو الله، يا خائن، يا ظالم، يا كاذب،: عليه في هذا كله أدب، والأدب من ثلاثة إلى عشرة". وكذلك قال في رواية صالح " أذهب إلى حديث علي: أنه ضرب النجاشي عشرين لإفطار في رمضان بعد ضربه ثمانين". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 وقال الخرقي " ولا يبلغ بالتعزير الحد، وأدنى الحدود أربعون. إذا قلنا: حد شارب الخمر ثمانون، وإن قلنا: أربعون، فأدناها عشرون في حق العبد". فإن سرق من حرز مثله أقل من نصاب، أو سرق نصابا من غير حرز غرم مثليه وقد نص على ذلك في سرقة الثمار المعلقة. وقا لأيضا في رواية ابن منصور، في الضالة المكتومة، " إذا أزلت عنه القطع، فعليه غرامة مثلها". وإن جمع المتاع في الحرز واسترجع منه قبل إخراجه، أو نقب الحرز ودخل ولم يأخذ، أو نقب الحرز ولم يدخل، ولم يأخذ، أو تعرض للنقب، أو ليفتح بابا ولم يفعل، غزر أدنى الحدود ولم يبلغ به. وقد قال أحمد في رواية أبي طالب: " إذا جمعه في البيت وكوره ولم يخرجه، يؤدب ولا يقطع، فإن أخذ الثوب وشقه يقطع ويضرب". وما عدا هذين الذنبين - أعني الزنا والسرقة - فلا يبلغ في تعزيره أدنى الحدود، وقد حكينا كلامه فيمن افترى على غيره بالكلام فقال: يا ظالم، يا مرابي، يا كذاب يؤدب من ثلاثة إلى عشرة. فهذا الكلام في أحد الوجوه التي يختلف فيه التعزير والحدود. والوجه الثاني أن الحد لا يجوز العفو عنه، ولا تسوغ الشفاعة فيه، فهل يجوز في التعزير العفو وتسوغ الشفاعة فيه؟. نظرت، فإن تعلق بحق آدمي وعفا عن حقه جاز عفوه. قال في رواية الأثر: في رجل قذف رجلا، فقدمه إلى السلطان: هل له أن يعفو بعد ما رفعه إلى السلطان؟ فقال " إذا كان في نفسه فهو حق له، وإذا قذف أبه فهو شيء يطلبه لغيره". فقد أجاز العفو بد الترافع فيما كان حقا لآدمي، وأبطله إذا عفا عما كان حقا لأبيه. ونقل ابن منصور عنه " إذا افترى على أبيه - وقد هلك - فعفا ابنه قال: عفوه جائز". فقد أجاز ههنا عفوه فيما كان لأبيه. وهذا محمول على أن الافتراء على الأب كان بعد موته، فيتعلق الحق بالابن، ولهذا قلنا، إذا قذف أمه وهي ميتة كانت المطالبة للابن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فأما في حق السلطنة، فهل يسقط بعفو صاحبه إذا كان السلطان يرى أن المصلحة في استيفائه؟ ظاهر كلام أحمد رحمه الله تعالى، أنه يسقط، لأنه لم يفرق، ويحتمل أن لا يسقط، للتهذيب والتقويم. وإن تعلق بحق الله تعالى، فهل يجوز للسلطان إسقاطه؟. قال في رواية ابن منصور، في الرجل يضرب رقيقه، قال: إي والله، يؤدبه على ترك الصلاة، وعلى المعصية، ويعفو عنه فيما بينه وبينه". وظاهر هذا عدم جواز العفو فيما تعلق بحق الله تعالى، وهو ترك الصلاة. وكذلك قال في رواية حنبل في شاهد الزور" ذاك إلى السلطان، إن شاء عاقبه " فقد خيره في ترك تعزيره. وذكر في رسالة الأصطخري " ومن طعن على أحد من الصحابة وجب على السلطان تأديبه وليس له أن يعفو عنه". وظاهر هذا أنه لا يجوز العفو عنه. ولو تشاتم وتواثب والده مع ولده، سقط تعزير الوالد في حق والده، ولم يسقط تعزير الولد في حق والده، كما لا يسقط في حد القذف، ويكون تعزيره مختصا بحق السلطنة. وهل يجوز لولي الأمر أن يعفو عنه؟ يخرج على الروايتين. ولا يجوز له العفو مع مطالبة الوالد، لأنه حق له. والتعزير لا يُوجِبُ ضَمَانَ مَا حَدَثَ عَنْهُ مِنْ التَّلَفِ وكذلك الْمُعَلِّمُ إذَا ضَرَبَ صَبِيًّا أَدَبًا مَعْهُودًا فِي العرف، فأفضى إلى تلفه، وكذلك الزوج إذا ضرب عند النشوز وتلفت فلا ضمان عليه. وقد نص على ذلك في رواية أبي طالب وقد سئل: هل بين المرأة وزوجها قصاص؟ فقال: " إذا كان في أدب بضربها فلا". وكذلك نقل بكر بن محمد " في الرجل يضرب امرأته، فيكسر يدها أو رجلها، أو يعقرها على وجه الأدب، فلا قصاص عليه". وذكر أبو بكر الخلاف في كتاب الأدب فقال " إذا ضرب المعلم الصبيان ضربا غير مبرح وكان ذلك ثلاث فليس بضامن " وعلى قياس هذا الأب إذا أدب ابنه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 فأما صفة الضرب في التعزير فيجوز بالعصا وبالسوط الذي كسرت ثمرته كالحد، ولا يجوز بسوط لم تكسر ثمرته. وقد قال أحمد في رواية إبراهيم بن هانئ: والزني أشد ضربا من القاذف، قيل له: يقطع الثمرة؟ قال: نعم سوطا بين سوطين". ويعطى كل عضو حقه، ولا يجوز أن يبلغ بتعزيره إنهار دمه. وَضَرْبُ الْحَدِّ يَجِبُ أَنْ يُفَرَّقَ فِي الْبَدَنِ كله إلا المقاتل. ولا يجوز أن يجمع على موضع واحد من الجسد، والتعزير في ذلك كالحد. ويجوز أن يصلب في التعزير حيا. ولا يمنع إذا صلب من طعام وشراب، وَلَا يُمْنَعُ مِنْ الْوُضُوءِ لِلصَّلَاةِ، وَيُصَلِّي مُومِيًا. ولا يعيد، ولا يتجاوز بصلبه ثلاثة أيام. وهل يجرد في نكال التعزير مِنْ ثِيَابِهِ إلَّا قَدْرَ مَا يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ؟ فقد اختلف الرواية عنه في الجلد، فروى الميموني أنه قال في الزنا " يجرد ويعطى كل عضو حقه". ونقل أبو الحارق" يجلد مائة وعليه ثيابه". ونقل ابن منصور " يضرب على قميص، لو ترك عليه ثياب الشتاء ما بالي بالضرب". ويجوز أن ينادى عليه بذنبه إذا تكرر منه، ولم يقلع عنه. ولايجوز أَنْ يُحْلَقَ شَعْرُهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ تُحْلَقَ لحيته. وهل يسود وجهه؟ فقيل: يجوز، وقيل: لا يجوز. وقد قال أحمد في رواية عبد الله بن إبراهيم: في شاهد الزور " يطاف به في حيه، ويشهر أمره، ويؤدب". وقال أيضا في رواية مهنا في شاهد الزور، " يبعث به في محلته يقولون: هذا فلان يشهد الزور، اعرفوه، وقيل له: ثم يضرب؟ قال: نعم، قيل له: نصف الحد؟ قالك لا، أقل، قيل له: يسود وجهه؟ قال قد روي عن عمر - رضي الله عنه - أنه سود وجه شاهد الزور، قيل له: فترى أنت أن تسود وجهه؟ قال: لا أدري " وكأنه كره تسويد الوجه. فقد نص على أنه ينادى بذنبه، ويطاف به، ويضرب مع ذلك، وتوقف عن تسويد وجهه. وقد روى أبو بكر الخلال بإسناده عن مكحول قال: قال عمر بن الخطاب " شاهد الزور يجلد أربعين، ويسخم وجهه، ويطال حبسه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 وروي أن عمر " كان يطوف ذات ليلة في سكة من سكك المدينة إذ سمع امرأة، وهي تهتف " وتقول: هل من سبيل إلى خمر فأشربها أم هل سبيل إلى نصر بن حجاج؟ فلما أصبح أتى بنصر، فإذا أحسن الناس وجها وأحسنهم شعرا، فقال له، عزمة من أمير المؤمنين لتأخذن من شعرك، فأخذ من شعره". فصل في أحكام الحسبة والحسبة، هِيَ أَمْرٌ بِالْمَعْرُوفِ، إذَا ظَهَرَ تَرَكَهُ، وَنَهْيٌ عن المنكر إذا ظهر فعله. وَهَذَا، وَإِنْ صَحَّ مِنْ كُلِّ مُسْلِمٍ، فَالْفَرْقُ بين المحتسب والمتطوع مِنْ تِسْعَةِ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ فَرْضَهُ مُتَعَيَّنٌ عَلَى الْمُحْتَسِبِ بِحُكْمِ الْوِلَايَةِ، وَفَرْضُهُ عَلَى غَيْرِهِ داخل في فرض الكفاية. الثاني: أَنَّ قِيَامَ الْمُحْتَسِبِ بِهِ مِنْ حُقُوقِ تَصَرُّفِهِ الذي لا يجوز أن يتشاغل عنه بغيره. وقيام المتطوع به من النوافل الذي يجوز التشاغل عنه لغيره. الثالث: أنه منصوب للاستعداء إليه فيم يجب، وليس المتطوع منصوبا للاستعداء. الرابع: أن على المحتسب إجابة من استعدى به، وليس على المتطوع إجابته. الخامس: أَنَّ عَلَيْهِ أَنْ يَبْحَثَ عَنْ الْمُنْكَرَاتِ الظَّاهِرَةِ، لِيَصِلَ إلَى إنْكَارِهَا ,وَيَفْحَصَ عَمَّا تُرِكَ مِنْ الْمَعْرُوفِ الظَّاهِرِ، لِيَأْمُرَ بِإِقَامَتِهِ، وَلَيْسَ عَلَى غَيْرِهِ من المتطوعة بحق ولا فحص. السادس: أن له أن يتخذ على الإنكار أَعْوَانًا، لِأَنَّهُ عَمَلٌ هُوَ لَهُ مَنْصُوبٌ، وَإِلَيْهِ مَنْدُوبٌ، لِيَكُونَ لَهُ أَقْهَرَ، وَعَلَيْهِ أَقْدَرَ، وَلَيْسَ لمتطوع أن يندب لذلك أعوانا. السابع: له أن يعزر على المنكرات الظاهرة، ولا يتجاوزها إلَى الْحُدُودِ، وَلَيْسَ لِلْمُتَطَوِّعِ أَنْ يُعَزِّرَ عَلَى منكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 الثامن: أن له أن يرتزق من بيت المال، على حسبه، ولا يجوز لمتطوع أن يرتزق على إنكاره. التاسع: أَنَّ لَهُ اجْتِهَادَ رَأْيِهِ فِيمَا تَعَلَّقَ بِالْعُرْفِ دُونَ الشَّرْعِ، كَالْمَقَاعِدِ فِي الْأَسْوَاقِ، وَإِخْرَاجِ الْأَجْنِحَةِ، فَيُقِرُّ وَيُنْكِرُ مِنْ ذَلِكَ مَا أَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ إلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا لِلْمُتَطَوِّعِ. فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ والي الحسبة، وإن كانت أمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر، وبين غيره من المتطوعة، وَإِنْ جَازَ أَنْ يَأْمُرَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنْ المنكر، من هذه الوجوه التسعة. ومن شروط والي الحسبة أن يكون خبيرا عَدْلًا، ذَا رَأْيٍ وَصَرَامَةٍ وَخُشُونَةٍ فِي الدِّينِ، وعلم بالمنكرات الظاهرة. وهل يفتقر إلى أَنْ يَكُونَ عَالِمًا مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ فِي أحكام الدين ليجتهد رأيه؟ يحتم أن يكون من أهله، ويحتمل أن لا يكون ذلك شرطا إذا كان عارفا بالمنكرات المتفق عليها. وَاعْلَمْ أَنَّ الْحِسْبَةَ وَاسِطَةٌ بَيْنَ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ وأحكام المظالم. فأما ما بينها وَبَيْنَ الْقَضَاءِ: فَهِيَ مُوَافِقَةٌ لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ مِنْ وجهين، ومقصرة عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ وَزَائِدَةٌ عَلَيْهِ مِنْ وَجْهَيْنِ. فَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي مُوَافَقَتِهَا لِأَحْكَامِ الْقَضَاءِ فَأَحَدُهُمَا: جواز الاستعداء عَلَى الْمُسْتَعْدَى عَلَيْهِ فِي حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى عُمُومِ الدَّعَاوَى، وَإِنَّمَا يَخْتَصُّ بِثَلَاثَةِ أَنْوَاعٍ مِنْ الدَّعْوَى. أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِيمَا يتعلق ببخس أو تطفيف في كيل أو وزن. والثاني: فيما تعلق بِغِشٍّ، أَوْ تَدْلِيسٍ فِي مَبِيعٍ أَوْ ثَمَنٍ. والثالث: ما تعلق بمبطل وَتَأْخِيرٍ لِدَيْنٍ مُسْتَحَقٍّ مَعَ الْمُكْنَةِ. وَإِنَّمَا جَازَ نَظَرُهُ فِي هَذِهِ الْأَنْوَاعِ الثَّلَاثَةِ مِنْ الدَّعَاوَى، دُونَ مَا عَدَاهَا مِنْ سَائِرِ الدَّعَاوَى، لِتَعَلُّقِهَا بِمُنْكَرٍ ظَاهِرٍ، هُوَ مَنْصُوبٌ لِإِزَالَتِهِ، وَاخْتِصَاصِهَا بِمَعْرُوفٍ بَيِّنٍ، هُوَ مَنْدُوبٌ إلَى إقَامَتِهِ، لِأَنَّ مَوْضُوعَ الْحِسْبَةِ إلْزَامُ الْحُقُوقِ وَالْمَعُونَةِ عَلَى اسْتِيفَائِهَا وَلَيْسَ لِلنَّاظِرِ فِيهَا أَنْ يَتَجَاوَزَ ذَلِكَ إلَى الْحُكْمِ الناجز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 فهذا أحد وجهي الموافقة. والثاني: أن له إلزام المدعى عليه الخروج مِنْ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ، وَلَيْسَ هَذَا عَلَى العموم في كل حق، وَإِنَّمَا هُوَ خَاصٌّ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي جَازَ له سماع الدعوى فيها إذا وجبت باعتراف مع القدرة، لِأَنَّ فِي تَأْخِيرِهِ لَهَا مُنْكَرًا هُوَ مَنْصُوبٌ لِإِزَالَتِهِ. وَأَمَّا الْوَجْهَانِ فِي قُصُورِهَا عَنْ أَحْكَامِ الْقَضَاءِ فَأَحَدُهُمَا: قُصُورُهَا عَنْ سَمَاعِ عُمُومِ الدَّعَاوَى الْخَارِجَةِ عَنْ ظَوَاهِرِ الْمُنْكَرَاتِ: مِنْ الدَّعَاوَى فِي الْعُقُودِ وَالْمُعَامَلَاتِ، وَسَائِرِ الْحُقُوقِ وَالْمُطَالَبَاتِ، فَلَا يَجُوزُ أن ينتدب لسماع الدعاوى لَهَا، وَلَا أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْحُكْمِ فِيهَا، لَا فِي كَثِيرِ الْحُقُوقِ وَلَا فِي قَلِيلِهَا، مِنْ دِرْهَمٍ فَمَا دُونَهُ، إلَّا أَنْ يَرِدَ ذَلِكَ إليه بنص صريح يزيد على إطلاقه الْحِسْبَةِ، فَيَجُوزُ وَيَصِيرُ بِهَذِهِ الزِّيَادَةِ جَامِعًا بَيْنَ قَضَاءٍ وَحِسْبَةٍ، فَيُرَاعَى فِيهِ أَنْ يَكُونَ مِنْ أهل الاجتهاد، وإن اقتصر به على مُطْلَقِ الْحِسْبَةِ فَالْقُضَاةُ وَالْحُكَّامُ بِالنَّظَرِ فِي قَلِيلِ ذلك وكثير أَحَقُّ، فَهَذَا وَجْهٌ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا مَقْصُورَةٌ على الحقوق المعترف بها، فأما ما يدخله التجاحد والتناكر، فلا يجوز له النظر فيها، لأن الحاكم فيها يقف على سماع بينة وإحلاف يمين. ولا يجوز للمتحسب أن يسمع بينة على إثبات حق، ولا أن يحلف يمينا على نفي حق، والحكام والقضاة بسماع البينات وإحلاف الخصوم أحق. وما الْوَجْهَانِ فِي زِيَادَتِهَا عَلَى أَحْكَامِ الْقَضَاءِ فَأَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ لِلنَّاظِرِ فِيهَا أَنْ يَتَعَرَّضَ لِتَصَفُّحِ مَا يَأْمُرُ بِهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ، وَيَنْهَى عَنْهُ من المنكر، وإن لم يحضره خصم يستعدي، وَلَيْسَ لِلْقَاضِي أَنْ يَتَعَرَّضَ لِذَلِكَ إلَّا بِحُضُورِ خَصْمٍ يَجُوزُ لَهُ سَمَاعُ الدَّعْوَى مِنْهُ، فَإِنْ تَعَرَّضَ الْقَاضِي لِذَلِكَ خَرَجَ عَنْ مَنْصِبِ وِلَايَتِهِ وَصَارَ مُتَجَوِّزًا فِي قَاعِدَةِ نَظَرِهِ. وَالثَّانِي: أَنَّ لِلنَّاظِرِ فِي الْحِسْبَةِ مِنْ سَلَاطَةِ السَّلْطَنَةِ وَاسْتِطَالَةِ الحماة فيما يتعلق بِالْمُنْكَرَاتِ مَا لَيْسَ لِلْقُضَاةِ، لِأَنَّ الْحِسْبَةَ مَوْضُوعَةٌ على الرهبة، فَلَا يَكُونُ خُرُوجُ الْمُحْتَسِبِ إلَيْهَا بِالسَّلَاطَةِ وَالْغِلْظَةِ تَجَوُّزًا فِيهَا وَلَا خَرْقًا، وَالْقَضَاءُ مَوْضُوعٌ لِلْمُنَاصَفَةِ، فهو بالأناة والوقار أخص. وَأَمَّا مَا بَيْنَ الْحِسْبَةِ وَالْمَظَالِمِ فَبَيْنَهُمَا شَبَهٌ مؤتلف، وفرق مختلف أما الشَّبَهُ الْجَامِعُ بَيْنَهُمَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ مَوْضُوعَهُمَا مُسْتَقِرٌّ عَلَى الرَّهْبَةِ الْمُخْتَصَّةِ بِسَلَاطَةِ السَّلْطَنَةِ وقوة الصراحة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 وَالثَّانِي: جَوَازُ التَّعَرُّضِ فِيهِمَا لِأَسْبَابِ الْمَصَالِحِ، وَالتَّطَلُّعِ إلَى إنْكَارِ الْعُدْوَانِ الظَّاهِرِ. وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا فَمِنْ وَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ النَّظَرَ فِي الْمَظَالِمِ مَوْضُوعٌ لِمَا عَجَزَ عَنْهُ الْقُضَاةُ، وَالنَّظَرُ فِي الْحِسْبَةِ مَوْضُوعٌ لِمَا رَفَّهَ عَنْهُ الْقُضَاةُ، وَلِذَلِكَ كانت رتبة المظالم أعلى، ورتبة الحسبة أخص، وَجَازَ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يُوَقِّعَ إلَى الْقُضَاةِ والمحتسبة، وَلَمْ يَجُزْ لِلْقَاضِي أَنْ يُوَقِّعَ إلَى وَالِي الْمَظَالِمِ، وَجَازَ لَهُ أَنْ يُوَقِّعَ إلَى الْمُحْتَسِبِ، وَلَمْ يَجُزْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يُوَقِّعَ إلَى وَاحِدٍ منهما. فهذا فرق والثاني: أَنَّهُ يَجُوزُ لِوَالِي الْمَظَالِمِ أَنْ يَحْكُمَ، وَلَا يجوز لوالي الحسبة أن يحكم. إذا قرر هذا فالحسبة تشتمل على أمر بمعروف ونهي عن منكر. أما الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ فَيَنْقَسِمُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ أَحَدُهَا: مَا تعلق بحدود الله تعالى. الثاني: ما تعلق بحقوق الآدميين. الثالث: ما كان مشتركا بينهما. أما المتعلق بحقوق الله تعالى فضربان: أحدهما: ما يَلْزَمُ الْأَمْرُ بِهِ فِي الْجَمَاعَةِ دُونَ الِانْفِرَادِ، كَتَرْكِ الْجُمُعَةِ فِي وَطَنٍ مَسْكُونٍ فَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قَدْ اُتُّفِقَ عَلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ كَالْأَرْبَعِينَ فَمَا زَادَ، فَوَاجِبٌ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِإِقَامَتِهَا. وَيُؤَدِّبَ عَلَى الْإِخْلَالِ بِهَا، وَإِنْ كَانُوا عَدَدًا قد اُخْتُلِفَ فِي انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِهِمْ، فَلَهُ وَلَهُمْ أَرْبَعَةُ أَحْوَالٍ. أَحَدُهَا: أَنْ يَتَّفِقَ رَأْيُهُ وَرَأْيُ الْقَوْمِ عَلَى انْعِقَادِ الْجُمُعَةِ بِذَلِكَ الْعَدَدِ، فَوَاجِبٌ عَلَيْهِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا، وَعَلَيْهِمْ أَنْ يُسَارِعُوا إلى أمره بها، ويكون في تأديبهم في تركها ألين من تأديبهم على تركه مَا انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ عَلَيْهِ. وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يتفق رأيه ورأي القوم أَنَّ الْجُمُعَةَ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمْ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا، وَهُوَ بِالنَّهْيِ عَنْهَا لَوْ أقيمت أحق. والحال الثَّالِثَةُ: أَنْ يَرَى الْقَوْمُ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بِهِمْ، لا يَرَاهُ الْمُحْتَسِبُ فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُعَارِضَهُمْ فيها ولا يأمرهم بِإِقَامَتِهَا لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَنْهَاهُمْ عَنْهَا، وَيَمْنَعَهُمْ مِمَّا يَرَوْنَهُ فَرْضًا عَلَيْهِمْ. وَالْحَالُ الرَّابِعَةُ: أَنْ يَرَى الْمُحْتَسِبُ انْعِقَادَ الْجُمُعَةِ بهم ولا يراه القوم بهذا مما في استمرار تركه تعطيل الْجُمُعَةِ مَعَ تَطَاوُلِ الزَّمَانِ وَبُعْدِهِ، وَكَثْرَةِ الْعَدَدِ وَزِيَادَتِهِ فَهَلْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا، اعْتِبَارًا بهذا المعنى؟ ظاهر كلام أحمد رحمه الله: أنه لا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِإِقَامَتِهَا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 اعْتِبَارًا بِالْمَصْلَحَةِ، لِئَلَّا يَنْشَأَ الصَّغِيرُ عَلَى تَرْكِهَا، فَيَظُنَّ أَنَّهَا تَسْقُطُ مَعَ زِيَادَةِ الْعَدَدِ، كَمَا تسقط بنقصانه. ولهذا المعنى قال أحمد يحضر الجمعة خلف البر والفاجر مع اعتباره عدالة الإمام في الصلاة. ويحتمل أن لَا يَتَعَرَّضُ لِأَمْرِهِمْ بِهَا، لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ حمل الناس على اعتقاده، ولا يَأْخُذَهُمْ فِي الدِّينِ بِرَأْيِهِ مَعَ تَسْوِيغِ الِاجْتِهَادِ فيه. وقد قال أحمد في رواية المروزي " لا تحمل الناس على مذهبك". فاما أَمْرُهُمْ بِصَلَاةِ الْعِيدِ فَلَهُ أَنْ يَأْمُرَهُمْ بِهَا، وأمره بها من الحقوق اللازمة لأنها من فروض الكفاية". وأما صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ فِي الْمَسَاجِدِ، وَإِقَامَةُ الْأَذَانِ فِيهَا للصلوات الخمس فمن شعائر الإسلام، وعلاماته التي فرق رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَيْنَ دار الإسلام ودار الحرب. فإذا اجتمع أهل محلة أو بلد على تعطيل الجماعات في مساجدهم، وترك الأذان في أوقات صلاتهم، كان المحتسب مأمورا بأمرهم بالأذان والجماعة في الصلوات، على طريق الوجوب عليهم والإثم بتركه، بناء على أن الجماعة واجبة. فأما من ترك صلاة الجماعة من آحاد الناس فقياس المذهب: أن يعترض عليه لأنها من فرائض الأعيان، فهي كترك الجمعة، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - " لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ آمُرَ أَصْحَابِي أَنْ يَجْمَعُوا حَطَبًا، وَآمُرَ بِالصَّلَاةِ فَيُؤَذَّنَ لَهَا وَتُقَامَ، ثُمَّ أخالف إلى منازل قوم لا يحضرون الصلاة فأحرقها عليهم". ويكون الحكم في ترك الجماعة من آحاد الناس: بتأخيرهم الصلاة حتى يخرج وقتها، فيذكر بها ويؤمر بفعلها، ويراعى جوابه عنها، فإن قال: تركها لتوان وتهاون أَدَّبَهُ زَجْرًا. وَأَخَذَهُ بِفِعْلِهَا جَبْرًا. وَلَا اعْتِرَاضَ عَلَى مَنْ أَخَّرَهَا وَالْوَقْتُ بَاقٍ، لِاخْتِلَافِ الْفُقَهَاءِ في فضل التأخير. فإن كانت الجماعة فِي بَلَدٍ قَدْ اتَّفَقَ أَهْلُهُ عَلَى تَأْخِيرِ صلاتهم إلى آخر أوقاتها، والمحتسب يرى فضل تعجيلها، فهل يأمرهم بالتعجيل؟ يحتمل أن يأمرهم، لأن اجتماعهم على تأخيرها يفضي بالصغير الناشيء إلى أن هذا هو الوقت دون ما تقدمه. فأما الأذان والقنوت في الصلاة إذا خالف فيه رأي المحتسب فلا رأي لَهُ فِيهِ بِأَمْرٍ وَلَا نَهْيٍ وَإِنْ كَانَ يرى خلافه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 وَكَذَلِكَ الطَّهَارَةُ إذَا فَعَلَهَا عَلَى وَجْهٍ سَائِغٍ يخالف رَأْيَ الْمُحْتَسِبِ مِنْ إزَالَةِ النَّجَاسَةِ بِالْمَائِعَاتِ، وَالْوُضُوءِ بماء تغير بالأشياء الطاهرات، والعفو عن قدر الدرهم من النجاسات، لا اعتراض له في شيء منه، وهل له الاعتراض في الوضوء بالنبيذ؟ يحتمل وجهين. أحدهما: أن له ذلك، لأنه ربما يئول إلى استباحته عند عدم الماء مع وجوده، وربما أفضى إلى جواز السكر منه، ويحتمل أن ليس له ذلك لما فيه من تسويغ الاجتهاد، فهذا الأمر بالمعروف في حقوق الله تعالى. وأما في حقوق الآدميين فضربان: عام، وخاص أما العام فكالبلد إبذا تَعَطَّلَ شُرْبُهُ، أَوْ اسْتُهْدِمَ سُورُهُ، أَوْ كَانَ يطرقه بنو السبيل من ذوي الحاجات فيكفوا عن معاونتهم. فَإِنْ كَانَ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَالٌ لَمْ يتوجه عليهم فيه أمر بإصلاح شربهم وبناء سورهم، ولا بمعاونة بَنِي السَّبِيلِ فِي الِاجْتِيَازِ بِهِمْ، لِأَنَّهَا حُقُوقٌ تَلْزَمُ بَيْتَ الْمَالِ دُونَهُمْ وَكَذَلِكَ لَوْ اسْتُهْدِمَتْ مَسَاجِدُهُمْ وَجَوَامِعُهُمْ. فَأَمَّا إذَا أُعْوِزَ بَيْتُ الْمَالِ، كَانَ الْأَمْرُ بِبِنَاءِ سُورِهِمْ، وَإِصْلَاحِ شُرْبِهِمْ، وَعِمَارَةِ مساجدهم وجوامعهم ومراعاة بني السبيل متوجها إلى كافة ذوي المكنة منهم، فإن شرع ذوو المكنة في عمله وفي مراعاة بني السبيل سَقَطَ عَنْ الْمُحْتَسِبِ حَقُّ الْأَمْرِ بِهِ، وَلَمْ يلزمهم الاستئذان في ذلك، وَلَكِنْ لَوْ أَرَادُوا هَدْمَ مَا يُعِيدُونَ بِنَاءَهُ من المتهدم، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى هَدْمِهِ فِيمَا عم أهل البلد من سوره وجامعه إلَّا بِاسْتِئْذَانِ وَلِيِّ الْأَمْرِ دُونَ الْمُحْتَسِبِ، لِيَأْذَنَ لهم في هدم بعد تضمينهم القيام بعمارته. ويجوز فِيمَا خُصَّ مِنْ الْمَسَاجِدِ فِي الْعَشَائِرِ وَالْقَبَائِلِ أن لا يَسْتَأْذِنُوهُ. وَعَلَى الْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِبِنَاءِ مَا هَدَمُوهُ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَهُمْ بِإِتْمَامِ مَا استأنفوه. وقد قال أحمد في رواية أبي داود: - في مسجد يريدون أن يرفعوه ن الأرض ويجعل تحته سقاية، ومنعهم من ذلك المشايخ، وقالوا: لا نقدر نصعد - "يصار إلى قول أكثرهم " يعني أهل المسجد. فأما إذا كانت ذو الْمُكْنَةِ عَنْ بِنَاءِ مَا اسْتُهْدِمَ، وَعِمَارَةِ مَا استرم، فإن كان المقام بالبلد ممكنا وكان الشرب - وإن فسد - مقنعا تركهم وإياه، وإن تعذر المقام فيه لتعطيل شربه واندحاض سوره نظرت. فإن كان البلد ثغرا يضر بالإسلام تَعْطِيلُهُ، لَمْ يَجُزْ لِوَلِيِّ الْأَمْرِ أَنْ يُفْسِحَ فِي الِانْتِقَالِ عَنْهُ وَكَانَ حُكْمُهُ حُكْمَ النَّوَازِلِ إذَا حَدَثَتْ فِي قِيَامِ كَافَّةِ ذَوِي الْمُكْنَةِ بِهِ، وَكَانَ تَأْثِيرُ الْمُحْتَسِبِ فِي مِثْلِ هَذَا إعلان للسلطان بِهِ، وَتَرْغِيبَ أَهْلِ الْمُكْنَةِ فِي عَمَلِهِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وإن لم يكن هذا البلد ثغرا مضرا بِدَارِ الْإِسْلَامِ كَانَ أَمْرُهُ أَيْسَرَ، وَحُكْمُهُ أَخَفَّ، ولم يكن للمحتسب أخذ أهله بعمارته جبرا، لكن يقول لهم: أَنْتُمْ مُخَيَّرُونَ بَيْنَ الِانْتِقَالِ عَنْهُ أَوْ الْتِزَامِ مَا يُصْرَفُ فِي مَصَالِحِهِ الَّتِي يُمْكِنُ مَعَهَا دوام استيطانه. فإن أجابوا إلَى الْتِزَامِ ذَلِكَ كَلَّفَ جَمَاعَتَهُمْ مَا تَسْمَحُ بِهِ نُفُوسُهُمْ، وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْخُذَ كُلَّ واحد منهم في عينه بالتزام مَا لَا تَسْمَحُ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ قَلِيلٍ ولا كثير، ويقول: ليخرج كل واحد منكم مَا سَهُلَ عَلَيْهِ وَطَابَ نَفْسًا بِهِ. وَمَنْ أَعْوَزَهُ الْمَالُ أَعَانَ بِالْعَمَلِ، حَتَّى إذَا اجْتَمَعَتْ كفاية المصلحة أو يلوح اجتماعها بضمان كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ أَهْلِ الْمُكْنَةِ قَدْرًا طَابَ به نفسا أسرع حِينَئِذٍ فِي عَمَلِ الْمَصْلَحَةِ، وَأَخَذَ كُلَّ ضَامِنٍ مِنْ الْجَمَاعَةِ بِالْتِزَامِ مَا ضَمِنَهُ، وَإِنْ كَانَ مِثْلُ هَذَا الضَّمَانِ لَا يَلْزَمُ فِي الْمُعَامَلَاتِ الْخَاصَّةِ، لِأَنَّ حُكْمَ مَا عَمَّ مِنْ الْمَصَالِحِ مُوسِعٌ، فَكَانَ حُكْمُ الضَّمَانِ فِيهِ أَوْسَعَ. وَإِذَا عَمَّتْ هَذِهِ الْمَصْلَحَةُ لَمْ يَكُنْ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَقَدَّمَ بِالْقِيَامِ بِهَا حَتَّى يَسْتَأْذِنَ السُّلْطَانَ فِيهَا، لئلا يصير بالتفرد مفتاتا عليه. فإن شق اسْتِئْذَانُ السُّلْطَانِ فِيهَا أَوْ خِيفَ زِيَادَةُ الضَّرَرِ لِبُعْدِ اسْتِئْذَانِهِ جَازَ شُرُوعُهُ فِيهَا مِنْ غَيْرِ استئذان. وقد قال أحمد: لا تخرجوا لقتال العدو إلا بإذن الأمير، إلا أن يفجأهم عدو ويخافون كلبه". وأما الخاص كالحقوق إذا مطلت والديون إذا أخذت، فَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَأْمُرَ بِالْخُرُوجِ مِنْهَا مَعَ الْمُكْنَةِ إذَا اسْتَعْدَاهُ أَصْحَابُ الْحُقُوقِ، وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يحبس بها لأن الحبس حكم، وليس له أن يلازم عليها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 وَلَيْسَ لَهُ الْأَخْذُ بِنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ، لِافْتِقَارِ ذَلِكَ إلى اجتهاد شرعي إلَّا أَنْ يَكُونَ الْحَاكِمُ قَدْ فَرَضَهَا فَيَجُوزُ أن يأخذ بِأَدَائِهَا. وَكَذَلِكَ كَفَالَةُ مَنْ تَجِبُ كَفَالَتُهُ مِنْ الصغار لا اعتراض لَهُ فِيهَا حَتَّى يَحْكُمَ بِهَا الْحَاكِمُ، فَيَجُوزُ له أَنْ يَأْمُرَ بِالْقِيَامِ بِهَا عَلَى الشُّرُوطِ الْمُسْتَحَقَّةِ منها. فأما قَبُولُ الْوَصَايَا وَالْوَدَائِعِ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَأْمُرَ بها أَعْيَانَ النَّاسِ وَآحَادَهُمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَأْمُرَ بِهَا عَلَى الْعُمُومِ، حَثًّا عَلَى التَّعَاوُنِ بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وقبول الودائع الوصايا. وَأَمَّا الْأَمْرُ بِالْمَعْرُوفِ فِيمَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، كأخذ الأولياء بإنكاح الأيامى من أكفائهم إذَا طَلَبْنَ، وَإِلْزَامِ النِّسَاءِ أَحْكَامَ الْعِدَدِ، إذَا فارقن أزواجهن. وَلَهُ تَأْدِيبُ مَنْ خَالَفَ فِي الْعِدَّةِ مِنْ النِّسَاءِ، وَلَيْسَ لَهُ تَأْدِيبُ مَنْ امْتَنَعَ مِنْ الْأَوْلِيَاءِ. وَمَنْ نَفَى وَلَدًا قَدْ ثَبَتَ فِرَاشُ أمه ولحوق نسبه أخذه بأحكام الآباء، وعزره على النَّفْيِ أَدَبًا. وَيَأْخُذُ السَّادَةَ بِحُقُوقِ الْعَبِيدِ وَالْإِمَاءِ، وأن لا يكلفوهم مِنْ الْأَعْمَالِ مَا لَا يُطِيقُونَ. وَكَذَلِكَ أَرْبَابُ البهائم بأخذهم بِعُلُوفَتِهَا إذَا قَصَّرُوا، وَأَنْ لَا يَسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا لَا تُطِيقُ. وَمَنْ أَخَذَ لَقِيطًا وَقَصَّرَ فِي كَفَالَتِهِ أَمَرَهُ أَنْ يَقُومَ بِحُقُوقِ الْتِقَاطِهِ مِنْ التزام الكفالة أَوْ تَسْلِيمِهِ إلَى مَنْ يَلْتَزِمُهَا وَيَقُومُ بِهَا. وكذلك أخذ الضوال إذا قصر فيها أخذه بمثل ذلك من القيام بها أو تسليمها إلى من يقوم بِهَا، وَيَكُونُ ضَامِنًا لِلضَّالَّةِ بِالتَّقْصِيرِ، وَلَا يَكُونُ ضامنا للقيط. وإذا سلم الضالة إلى غيره ضمتها. وأما النهي عن المنكر فمنقسم ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى. وَالثَّانِي: مَا كَانَ مِنْ حُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ. وَالثَّالِثُ: مَا كَانَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ الْحَقَّيْنِ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 أما المنهي عَنْهَا فِي حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى فَعَلَى ثَلَاثَةِ أقسام أحدها: ما يتعلق بالعبادات. والثاني: ما يتعلق بالمحظورات. والثالث: ما يتعلق بالمعاملات. أما المتعلق بالعبادات فكالقاصد مخالفة هيئاتها المشروعة، مثل أن يَقْصِدُ الْجَهْرَ فِي صَلَاةِ الْإِسْرَارِ وَالْإِسْرَارَ فِي صلاة الجهر، أو يزيد في الصلاةن أو يزيد فِي الْأَذَانِ أَذْكَارًا غَيْرَ مَسْنُونَةٍ فَلِلْمُحْتَسِبِ إنْكَارُهَا، وتأديب المعاند فيها، وكذلك إذا أدخل بِتَطْهِيرِ جَسَدِهِ أَوْ ثَوْبِهِ. أَوْ مَوْضِعِ صَلَاتِهِ، أنكر عليه إذا تحقق ذلك منه، ولا يؤاخذ ذلك منه، ولا يؤاخذه بالتهم والظنون، وكذلك لَوْ ظَنَّ بِرَجُلٍ أَنَّهُ يَتْرُكُ الْغُسْلَ مِنْ الجنابة، أو يترك الصلاة والصيام لا يؤاخذه بالتهم، ولكن يجوز له بالتهمة أن يعظه ويحذره من عذاب الله تعال على إسقاط حقوقه والإخلال بمفترضاته. فَإِنْ رَآهُ يَأْكُلُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لَمْ يُقْدِمْ عَلَى تَأْدِيبِهِ إلَّا بَعْدَ سُؤَالِهِ عَنْ سبب أكله، لأنه ربما كَانَ مَرِيضًا أَوْ مُسَافِرًا، وَيَلْزَمُهُ السُّؤَالُ إذَا ظَهَرَتْ مِنْهُ أَمَارَاتُ الرَّيْبِ، فَإِنْ ذَكَرَ مِنْ الْأَعْذَارِ مَا يَحْتَمِلُهُ حَالُهُ كَفَّ عَنْ زَجْرِهِ، وَأَمَرَهُ بِإِخْفَاءِ أَكْلِهِ لِئَلَّا يُعَرِّضَ نَفْسَهُ لِلتُّهْمَةِ، ولا يلزم إحلافه عند الاسترابة به، لأنه موكول إلى أمانته، وإن لم يذكر عذرا أنكر عليه وأدبه عليه تأديب زجر، وكذلك لَوْ عَلِمَ عُذْرَهُ فِي الْأَكْلِ أَنْكَرَ عَلَيْهِ الْمُجَاهَرَةَ بِتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِلتُّهْمَةِ، وَلِئَلَّا يَقْتَدِيَ بِهِ من ذوي الجهالة من لَا يُمَيِّزُ حَالَ عُذْرِهِ مِنْ غَيْرِهِ. وَأَمَّا الممتنع عن إخراج زكاته، فإن كان من الأموال الظاهرة أخذها العامل منه قهرا وعزره على الغلول إذا لم يكن له عذر، وإن كان من الأموال الباطنة احتمل أَنْ يَكُونَ الْمُحْتَسِبُ أَخَصَّ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ مِنْ عَامِلِ الصَّدَقَةِ، لِأَنَّهُ لَا اعْتِرَاضَ لِلْعَامِلِ فِي الأموال الباطنة، واحتمل أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ بِالْإِنْكَارِ عَلَيْهِ أَخَصَّ لِأَنَّهُ لو دفعها إليه أجزأه، ويكون تأديبه معتبرا بشواهد الحال فِي الِامْتِنَاعِ مِنْ إخْرَاجِ زَكَاتِهِ، فَإِنْ ذَكَرَ أنه مخرجها سرا وكل إلى أمانته. فإن رأى رجلا يتعرض لمسألة الناس وطلب الصدقة وعلم أنه غني عنها إما بمال أو عمل أنكر عليه وأدبه، وكان المحتسب بإنكاره أخص بذلك من عامل الصدقة. ولو رأي آثَارَ الْغِنَى وَهُوَ يَسْأَلُ النَّاسَ أَعْلَمُهُ تَحْرِيمَهَا على المستغني عنها، ولم ينكر عَلَيْهِ لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ فِي الْبَاطِنِ فَقِيرًا. وَإِذَا تَعَرَّضَ لِلْمَسْأَلَةِ ذُو جَلَدٍ وَقُوَّةٍ عَلَى العمل زجره وأمره أن يتعرض للاحتراف بعمل، فَإِنْ أَقَامَ عَلَى الْمَسْأَلَةِ عَزَّرَهُ حَتَّى يُقْلِعَ عنها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 وإن وجد فيمن يتصدى لعلم الشرع من ليس مِنْ أَهْلِهِ، مِنْ فَقِيهٍ أَوْ وَاعِظٍ، وَلَمْ يأمن اعترار النَّاسِ بِهِ فِي سُوءِ تَأْوِيلٍ، أَوْ تَحْرِيفِ جواب، أنكر عليه التصدي لما ليس مِنْ أَهْلِهِ، وَأَظْهَرَ أَمْرَهُ، لِئَلَّا يُغْتَرَّ بِهِ. وَمَنْ أُشْكِلَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ لَمْ يَقْدَمْ عَلَيْهِ بالإنكار بعد الاختبار. وكذلك لَوْ ابْتَدَعَ بَعْضُ الْمُنْتَسِبِينَ إلَى الْعِلْمِ قَوْلًا خَرَقَ بِهِ الْإِجْمَاعَ وَخَالَفَ فِيهِ النَّصَّ وَرَدَّ قَوْلَهُ عُلَمَاءُ عَصْرِهِ أَنْكَرَهُ عَلَيْهِ وَزَجَرَهُ عَنْهُ، فَإِنْ أَقْلَعَ وَتَابَ وَإِلَّا فَالسُّلْطَانُ بِتَهْذِيبِ الدِّينِ أحق. وإذا انفرد بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ لِكِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى بِتَأْوِيلٍ عَدَلَ فِيهِ عَنْ ظَاهِرِ التَّنْزِيلِ إلَى بَاطِنِ بِدْعَةٍ، متكلف لَهُ غَمْضَ مَعَانِيهِ أَوْ تَفَرَّدَ بَعْضُ الرُّوَاةِ بِأَحَادِيثَ مَنَاكِيرَ تَنْفِرُ مِنْهَا النُّفُوسُ أَوْ يَفْسُدُ بِهَا التَّأْوِيلُ كَانَ عَلَى الْمُحْتَسِبِ إنْكَارُ ذَلِكَ. وَهَذَا إنَّمَا يَصِحُّ مِنْهُ إنْكَارُهُ إذَا تَمَيَّزَ عِنْدَهُ الصَّحِيحُ مِنْ الْفَاسِدِ وَالْحَقُّ مِنْ الْبَاطِلِ، وذلك من أحد وجهين: إما بأن يكون بقوته في العلم واجتهاده فيه، وَإِمَّا بِأَنْ يَتَّفِقَ عُلَمَاءُ الْوَقْتِ عَلَى إنْكَارِهِ وابتداعه فَيَعُولُ فِي الْإِنْكَارِ عَلَى أَقَاوِيلِهِمْ، وَفِي الْمَنْعِ منه على اتفاقهم. وَأَمَّا مَا تَعَلَّقَ بِالْمَحْظُورَاتِ فَهُوَ أَنْ يَمْنَعَ الناس من مواقف الريب ومظان التهمة ويقدم الإنكار ,ولا يعجل بالتأديب قبل الإنذار. وإذا رأى وقوف رجل وامرأة فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ لَمْ تَظْهَرْ مِنْهُمَا أَمَارَاتُ الرِّيَبِ لَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِمَا بِزَجْرٍ وَلَا إنْكَارٍ، فَمَا يَجِدُ النَّاسُ بُدًّا مِنْ هَذَا. وَإِنْ كان الوقوف في طريق خالية فخلو المكان ريبة فينكرها، ولا يعجل في التأديب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 عليهما حذرا مِنْ أَنْ تَكُونَ ذَاتَ مَحْرَمٍ، وَلْيَقُلْ: إنْ كانت ذات محرم فصنها عن مواقف التهمة وإن كانت أجنبية فاحذر مِنْ خَلْوَةٍ تُؤَدِّيكَ إلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ تَعَالَى. وليكن زجره بحسب الأمارات. فإذا رأى المحتسب من هذه الحال ما ينكرها تأنى وفحص ورعى شَوَاهِدَ الْحَالِ، وَلَمْ يُعَجِّلْ بِالْإِنْكَارِ قَبْلَ الِاسْتِخْبَارِ. وقد سئل أحمد في رواية محمد بن يحيى المتطبب في الرجل السوء يرى مع المرأة؟ قال " صح به". وَإِذَا جَاهَرَ رَجُلٌ بِإِظْهَارِ الْخَمْرِ، فَإِنْ كَانَ مسلما أراقها وأدبه، وإن كان ذميا أدب على إظهارا وتراق عليه لأنها غير مضمونة. وأما المجاهر بإظهار النبيذ فهو كَالْخَمْرِ وَلَيْسَ فِي إرَاقَتِهِ غُرْمٌ، فَيَعْتَبِرُ وَالِي الحسبة شواهد الحال فيه، فينهى فيه عن المجاهرة، ويزجر عليه إن كان يعاقره، ولا يريقه إلى أَنْ يَأْمُرَهُ بِإِرَاقَتِهِ حَاكِمٌ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ لئلا يتوجه عليه غرم إن حكم فيه. فأما السَّكْرَانُ إذَا تَظَاهَرَ بِسُكْرِهِ وَسَخُفَ بِهَجْرِهِ أَدَّبَهُ على السكر والهجر تعزيرا. وَأَمَّا الْمُجَاهَرَةُ بِإِظْهَارِ الْمَلَاهِي الْمُحَرَّمَةِ فَعَلَى الْمُحْتَسِبِ كسرها، ولا يتشاغل بتفصيلها سواء كان خشبها يصلح لغير الملاهي أو لا يصلح. وأما اللعب فليس يقصد به الْمَعَاصِي، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهَا إلْفُ الْبَنَاتِ لِتَرْبِيَةِ الأولاد، ففيها وَجْهٌ مِنْ وُجُوهِ التَّدْبِيرِ تُقَارِنُهُ مَعْصِيَةٌ بِتَصْوِيرِ ذوات الأرواح وَمُشَابَهَةِ الْأَصْنَامِ، فَلِلتَّمْكِينِ مِنْهَا وَجْهٌ، وَلِلْمَنْعِ مِنْهَا وَجْهٌ، وَبِحَسَبِ مَا تَقْتَضِيهِ شَوَاهِدُ الْأَحْوَالِ يَكُونُ إنكاره وإقراره. وظاهر كلام أحمد رحمه الله المنع عنها وإنكارها، وإذا كانت على صورة ذوات الأرواح. قال في رواية المروزي: وقد سئل عن الوصي يشتري للصبية لعبة إذا طلبت فقال " إن كانت صورة فلا". وقال في رواية أبو بكر بن محمد: وقد سأله عن حديث عائشة " كنت ألعب بالبنات" فقال " لا بأس بلعب اللعب، إذا لم يكن فيها صورة فإذا كانت صورة فلا". وظاهر هذا أنه منع من اللعب بها إذا كانت صورة. وقد روي أحمد بإسناده عن محمد بن إبراهيم بن الحرث التميمي " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل على عائشة وهي تلعب بالبنات ومعها جوار، فقال: " ما هذا يا عائشة؟ قالت: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 هذا خيل سليمان، فجعل يضحك من قولها - صلى الله عليه وسلم - قال أحمد " هو غريب، لم أسمعه من غير هشيم عن يحيى بن سعيد". وقد حكى أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيَّ مِنْ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ قلد حِسْبَةَ بَغْدَادَ فِي أَيَّامِ الْمُقْتَدِرِ، فَأَزَالَ سُوقَ الداذي ومنع منها وقال: لا تصلح إلَّا لِلنَّبِيذِ الْمُحَرَّمِ، وَأَقَرَّ سُوقَ اللُّعَبِ وَلَمْ يَمْنَعْ مِنْهَا. وَقَالَ: قَدْ كَانَتْ عَائِشَةُ رَضِيَ الله عنها تلعب بالبنات بمشهد من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فلا ينكره عليها، وذلك أن الداذي الأغلب مِنْ حَالِهِ أَنَّهُ لَا يُسْتَعْمَلُ إلَّا فِي النَّبِيذِ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَعْمَلَ نَادِرًا فِي الدواء، وهو بعيد. وليس يمنع إنْكَارُ الْمُجَاهِرَةِ بِبَعْضِ الْمُبَاحَاتِ كَمَا يُنْكَرُ الْمُجَاهَرَةُ بالمباح من مباشرة الأزواج والإماء. وقد قال أحمد في رواية أبي طالب في قوم يبيعون الداذي للمسكر: فكره ذلك وقال لا يباع ". وقال أيضا في رواية بكر بن محمد عن أبيه: في بيع التمر والزبيب ممن يعمله نبيذا وهو ممن يتدين به ويرى شرب المسكر، فقال " لا أبيعه ولا أعبيه عليه، وهو بمنزلة رجل يرى النكاح بغير ولي جائز، لا أشهد له، ولا أعيبه عليه، وإن تدين به". وقال في رواية أحمد بن الحسين: في بيع الحرير من النساء " لا بأس به، وإن باع للرجال لا يعجبني". فأما مَا لَمْ يَظْهَرْ مِنْ الْمَحْظُورَاتِ فَلَيْسَ لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَتَجَسَّسَ عَنْهَا، وَلَا أَنْ يَهْتِكَ الْأَسْتَارَ حذرا من الاستسرار بها، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - " مَنْ أَتَى مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا فَلْيَسْتَتِرْ بستر الله تعالى، فإنه من يبد لنا صفحته نقم عليه". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 فَإِنْ غَلَبَ عَلَى الظَّنِّ اسْتِسْرَارُ قَوْمٍ بِهَا لأمارة دَلَّتْ وَآثَارٍ ظَهَرَتْ فَذَلِكَ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يكون في تركه انْتِهَاكِ حُرْمَةٍ يَفُوتُ اسْتِدْرَاكُهَا، مِثْلُ أَنْ يُخْبِرَهُ من يثق بصدقه أن رجلا خلا برجل ليقلته، أو بامرأة ليزني بها، فيجوز له في مثل هذه الحال أن يتجسس ويقدم على الكشف والبحث، حذرا مِنْ فَوَاتِ مَا لَا يُسْتَدْرَكُ مِنْ انْتِهَاكِ الْمَحَارِمِ، وَارْتِكَابِ الْمَحْظُورَاتِ وَهَكَذَا لَوْ عَرَفَ ذَلِكَ قَوْمٌ مِنْ الْمُتَطَوِّعَةِ، جَازَ لَهُمْ الْإِقْدَامُ عَلَى الكشف وَالْإِنْكَارُ، كَاَلَّذِي كَانَ مِنْ شَأْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شعبة. وذلك أنه كانت تَخْتَلِفُ إلَيْهِ بِالْبَصْرَةِ امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي هِلَالٍ يُقَالُ لَهَا أُمُّ جَمِيل بِنْتُ مِحْجَنِ بْنِ الْأَفْقَمِ، وَكَانَ لَهَا زَوْجٌ مِنْ ثَقِيفٍ يُقَالُ له الحجاج بن عبيد، فلبغ ذلك أبا بكرة بن مسروح وسهل بن معبد ونافعا بن الحرث وَزِيَادَ بْنَ عُبَيْدٍ، فَرَصَدُوهُ حَتَّى إذَا دَخَلَتْ عَلَيْهِ هَجَمُوا عَلَيْهِمَا. وَكَانَ مِنْ أَمْرِهِمْ فِي الشهادة عليه عند عمر مَا هُوَ مَشْهُورٌ. فَلَمْ يُنْكِرْ عَلَيْهِمْ عُمَرُ هجومهم، وإن كان حدهم للقذف عند قصور الشهادة. والضرب الثاني: ما كان دون ذلك في الريبة، فَلَا يَجُوزُ التَّجَسُّسُ عَلَيْهِ، وَلَا كَشْفُ الْأَسْتَارِ عنه. وقد حكى " أن عمر دَخَلَ عَلَى قَوْمٍ يَتَعَاقَرُونَ عَلَى شَرَابٍ، وَيُوقِدُونَ فِي أَخْصَاصٍ، فَقَالَ: نَهَيْتُكُمْ عَنْ الْمُعَاقَرَةِ فَعَاقَرْتُمْ، وَنَهَيْتُكُمْ عَنْ الْإِيقَادِ فِي الْأَخْصَاصِ فَأَوْقَدْتُمْ، فَقَالُوا: يا أمير المؤمنين، قد نهى الله عن التجسس فتجسست، وعن الدخول بغير إذن فدخلت، فقال: هاتين بهاتين، وانصرف، ولم يعرض لهم". وقد اختلفت الرواية عن أحمد فيما ستر من المنكر من العلم به، هل ينكر؟. فروى ابن منصور وعبد الله في المنكر يكون مغطي، مثل طنبور ومسكر وأشباهه. فقال: " إذا كان مغطى فلا يكسره، وقد كشف ذلك في رواية يوصف بن موسى وأحمد بن الحسين في الطنبور والمسرك وما أشبهه إذا كان من وراء ثوب وهو يصفه أو يبينه، فقال " إذا كان مغطى فلا أري له". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ونقل عنه أنه يكسره فقال في رواية ابن منصور في الرجل يرى الطنبور والطبل مغطى والقنينة فقال " إذا كان يشتبه أنه طنبور أو طبل أو فيها مسكر كسره". وكذلك نقل محمد بن أبي حرب: في رجل لقى رجلا معه عود أو طنبور أو طبل مغطى يكسره. فإن سمع أصوات ملاهي منكرة من دار تظاهر أهلها بأصواتها، أنكره خارج الدار. ولم يهجم بالدخول عليهم، وَلَيْسَ عَلَيْهِ أَنْ يَكْشِفَ عَمَّا سِوَاهُ مِنْ الباطن. وقد نقل مهنا الأنباري عن أحمد أنه سمع صوت طبل في جواره فقام إليهم من مجلسه فأرسل إليهم ونهاهم. وقال في رواية محمد بن أبي حرب في الرجل يسمع المنكر في دار بعض جيرانه. قال: يأمره، فإن لم يقبل يجمع عليه الجيران ويهول عليه". فأما المعاملات المنكرة. كالشراء والبيوع الفاسدة، وما منع الشرع منه مت تراضي المتعاقدين به، فإذا كَانَ مُتَّفَقًا عَلَى حَظْرِهِ فَعَلَى وَالِي الْحِسْبَةِ إنْكَارُهُ وَالْمَنْعُ مِنْهُ وَالزَّجْرُ عَلَيْهِ، وَأَمْرُهُ فِي التأديب مختلف بحسب الْأَحْوَالِ وَشِدَّةِ الْحَظْرِ. وَأَمَّا مَا اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي حَظْرِهِ وَإِبَاحَتِهِ فَلَا مَدْخَلَ لَهُ فِي إنكاره، إلا أن يكون مما ضعف فيه الخلاف، وَكَانَ ذَرِيعَةً إلَى مَحْظُورٍ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ كَرِبَا النَّقْدِ فَالْخِلَافُ فِيهِ ضَعِيفٌ، وَهُوَ ذَرِيعَةٌ إلَى ربا النساء المتفق على تحريمه. وكنكاح المتعة، ربما صار ذريعة إلى استباحة الزنا، فيدخل في إنكاره كحكم ولايته. وقد قال أبو إسحاق في كتاب المتعة، إن قيل: إذا كنت قد فرقت بينهما وبين النكاح فهلا جعلت حكمها حكم السفاح؟ قيل: الأئمة المرضيون من الصحابة والتابعين جعلوها في حكم السفاح لا في حكم النكاح. وقال في تعاليقه على كتاب العلل " أولاد الرافضة أولاد زنى من أربعة أوجه: أحدها المتعة عندهم حلال وهي الزنى صراحا". وذكر ابن بطة في كتاب النكاح " لا يفسخ نكاح حكم به قاض إذا كان تأول فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 تأويلا، إلا أن يكون قضى لرجل بعقد متعة، أو طلق ثلاثا في لفظ واحد وحكم بالمراجعة من غير زوج، فحكمه مردود وعلى فاعله العقوبة والنكال. ومما يتعلق بالمعاملات عشّ الْمَبِيعَاتِ وَتَدْلِيسُ الْأَثْمَانِ، فَيُنْكِرُهُ وَيَمْنَعُ مِنْهُ، وَيُؤَدِّبُ عليه بحسب الحال فيه. فإن كان هذا الغش بتدليس على المشتري ويخفى عليه فهو أغلظ الغشوش تحريما والإنكار عليه أغلظ، والتأديب فيه أَشَدُّ. وَإِنْ كَانَ لَا يَخْفَى عَلَى الْمُشْتَرِي كَانَ أَخَفَّ مَأْثَمًا، وَأَلْيَنَ إنْكَارًا، وَيَنْظُرُ فِي مشتريه، فإن اشتراه ليبيعه على غيره توجه الإنكار على البائع بغشه وعلى المشتري بابتياعه، لأنه قد يبيعه على من لا يعلم بغشه، وإن كَانَ يَشْتَرِيهِ لِيَسْتَعْمِلَهُ خَرَجَ الْمُشْتَرِي مِنْ جُمْلَةِ الْإِنْكَارِ وَتَفَرَّدَ الْبَائِعُ وَحْدَهُ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي تدليس الأثمان. وقد قال أحمد في رواية جعفر بن محمد: فيمن اشترى ألف درهم بدنانير بعضها جياد وبعضها مزيفة، وبعضها مكحلة " اشترى ما لا يحل، وباع ما لا يحل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 وكذلك قال في رواية حنبل: في الدراهم المحمول عليها، فقال " كل ما وقع عليه اسم الغش فالشراء به والبيع حرام". وقال في رواية مهنا " إذا جاء بالدينار إلى رجل يبصر الدينار فاشتراه على أنه رديء لا بأس ". وَيُمْنَعُ مِنْ تَصْرِيَةِ الْمَوَاشِي وَتَحْفِيلِ ضُرُوعِهَا عِنْدَ الْبَيْعِ لِلنَّهْيِ عَنْهُ، فَإِنَّهُ نَوْعٌ مِنْ التَّدْلِيسِ. ومما يتأكد على المحتسب: الْمَنْعَ مِنْ التَّطْفِيفِ وَالْبَخْسِ فِي الْمَكَايِيلِ وَالْمَوَازِينِ والصنجات وليكن الأدب عليه أظهر وأكثر. وَيَجُوزُ لَهُ إذَا اسْتَرَابَ بِمَوَازِينِ السُّوقَةِ وَمَكَايِيلِهِمْ أَنْ يَخْتَبِرَهَا وَيُعَايِرَهَا. وَلَوْ كَانَ لَهُ عَلَى ما يراه منها طابع معروف بين العامةلا يَتَعَامَلُونَ إلَّا بِهِ، كَانَ أَحْوَطَ وَأَسْلَمَ فَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَتَعَامَلَ قَوْمٌ بِغَيْرِ مَا طُبِعَ بِطَابِعِهِ تَوَجَّهَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ، إنْ كَانَ مَبْخُوسًا من وجهين: أحدهما: مخالفته فِي الْعُدُولِ عَنْ مَطْبُوعِهِ، وَإِنْكَارُهُ مِنْ الْحُقُوقِ السلطانية. والثاني: البخس والتطفيف في الحقوق، وإنكاره من الحقوق الشرعية. وإن كَانَ مَا تَعَامَلُوا بِهِ مِنْ غَيْرِ الْمَطْبُوعِ سليما من بخس ونقص توجه الإنكار بحق السلطنة وحدها لأجل المخالفة. وقد قال أحمد في رواية جعفر بن محمد: في ضرب الدراهم قال: " لا تصلح إلا في دار الضرب بإذن السلطان". وَإِنْ زَوَّرَ قَوْمٌ عَلَى طَابِعِهِ كَانَ الْمُزَوِّرُ فيه كالبهرج عَلَى طَابِعِ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، فَإِنْ قُرِنَ التَّزْوِيرُ بغش كان الإنكار وَالتَّأْدِيبُ مُسْتَحَقًّا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي حَقِّ السَّلْطَنَةِ مِنْ جِهَةِ التَّزْوِيرِ. وَالثَّانِي: مِنْ جِهَةِ الشرع في الغش، وهو أغلظ المنكرين. وَإِنْ سَلِمَ التَّزْوِيرُ مِنْ غِشٍّ تَفَرَّدَ بِالْإِنْكَارِ السلطاني منهما. وإذا اتسع البلد حتى احتاج أهله إلى كيالين، ووزانين ونقاد، تَخَيَّرَهُمْ الْمُحْتَسِبُ، وَمَنَعَ أَنْ يُنْتَدَبَ لِذَلِكَ إلَّا مَنْ ارْتَضَاهُ مِنْ الْأُمَنَاءِ الثِّقَاتِ، وَكَانَتْ أُجُورُهُمْ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ إنْ اتَّسَعَ لَهَا، فَإِنْ ضاق عنها قدرها لهم حتى لا يجرى فيها استزاده أو نُقْصَانٌ، فَيَكُونَ ذَلِكَ ذَرِيعَةً إلَى الْمُمَايَلَةِ وَالتَّحَيُّفِ في مكيل أو موزون. فَإِنْ ظَهَرَ مِنْ أَحَدِ هَؤُلَاءِ الْمُخْتَارِينَ لِلْكَيْلِ وَالْوَزْنِ تَحَيُّفٌ فِي تَطْفِيفٍ أَوْ مُمَايَلَةٌ فِي زيادة أدب وأخرج من جُمْلَةِ الْمُخْتَارِينَ، وَمُنِعَ أَنْ يَتَعَرَّضَ لِلْوَسَاطَةِ بَيْنَ النَّاسِ. وَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي اخْتِيَارِ الدَّلَّالِينَ يُقِرُّ مِنْهُمْ الْأُمَنَاءَ وَيَمْنَعُ الْخَوَنَةَ وَهَذَا مِمَّا يَتَوَلَّاهُ ولاة الحسبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 فأما اختيار القسام والزراع فالقضاة أخص بِاخْتِيَارِهِمْ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ يُسْتَنَابُونَ في أموال الأيتام والغيب. وأما اختيار الحراس في القبائل والأسواق فإلى الحماة وأصحاب المعونة. وَإِذَا وَقَعَ فِي التَّطْفِيفِ تَخَاصُمٌ جَازَ أَنْ ينظر فيه المحتسب إن لم يكن مع التخاصم فيه تجاحد وتناكر، فإن أفضى إلى التجاحد والتناكر كَانَ الْقُضَاةُ أَحَقَّ بِالنَّظَرِ فِيهِ مِنْ وُلَاةِ الْحِسْبَةِ. لِأَنَّهُمْ بِالْأَحْكَامِ أَحَقُّ، وَكَانَ التَّأْدِيبُ فِيهِ إلَى الْمُحْتَسِبِ، فَإِنْ تَوَلَّاهُ الْحَاكِمُ جَازَ لِاتِّصَالِهِ بحكمه. وَمِمَّا يُنْكِرُهُ الْمُحْتَسِبُ فِي الْعُمُومِ وَلَا يُنْكِرُهُ في الخصوص والآحاد التبايع بما لم يألف أَهْلُ الْبَلَدِ مِنْ الْمَكَايِيلِ وَالْأَوْزَانِ الَّتِي لَا تعرف فيه وإن كَانَتْ مَعْرُوفَةً فِي غَيْرِهِ، فَإِنْ تَرَاضَى بِهَا اثنان لم يعترض عليهما بالإنكار والمنع، ويمنع أن يرتسم بها قوم في الْعُمُومِ، لِأَنَّهُ قَدْ يُعَامِلُهُمْ فِيهَا مَنْ لَا يعرفها فيصير مغرورا. وأما ما ينكره في حقوق الآدميين المحضة. مثل أَنْ يَتَعَدَّى رَجُلٌ فِي حَدٍّ لِجَارِهِ، أَوْ في حريم لداره، أو في وضع بنيان عَلَى جِدَارِهِ، فَلَا اعْتِرَاضَ لِلْمُحْتَسِبِ فِيهِ، مَا لم يستعده الجار عليه، لأنه حق يخصه يصح مِنْهُ الْعَفْوُ عَنْهُ وَالْمُطَالَبَةُ بِهِ. فَإِنْ خَاصَمَهُ فيه إلى المحتسب نظر فيه إن لم يكن بينهما تنازع وتناكر، وأخذ المتعدي بإزالة تعديه، وكان تأديبه عليه بحسب شواهد الحال، وإن تَنَازَعَا كَانَ الْحَاكِمُ بِالنَّظَرِ فِيهِ أَحَقَّ. وَلَوْ أَنَّ الْجَارَ أَقَرَّ جَارَهُ عَلَى تَعَدِّيهِ وَعَفَا عَنْ مُطَالَبَتِهِ بِهَدْمِ مَا تَعَدَّى فِيهِ ثُمَّ عاد مطالبا بذلك، كَانَ لَهُ ذَلِكَ وَأَخَذَ الْمُتَعَدِّيَ بَعْدَ الْعَفْوِ عَنْهُ بِهَدْمِ مَا بَنَاهُ. وَلَوْ كَانَ قَدْ ابْتَدَأَ الْبِنَاءَ، وَوَضَعَ الْأَجْذَاعَ بِإِذْنِ الْجَارِ، ثُمَّ رجع الجار في إذنه لم يأخذ الباني بهدمه. ولو انتشرت أغصان شجرة إلَى دَارِ جَارِهِ كَانَ لِلْجَارِ أَنْ يَسْتَعْدِيَ المحتسب حتى يُعَدِّيهِ عَلَى صَاحِبِ الشَّجَرَةِ لِيَأْخُذَهُ بِإِزَالَةِ مَا انْتَشَرَ مِنْ أَغْصَانِهَا فِي دَارِهِ، وَلَا تَأْدِيبَ عَلَيْهِ، لِأَنَّ انْتِشَارَهَا لَيْسَ مِنْ فِعْلِهِ. وَلَوْ انْتَشَرَتْ عُرُوقُ الشَّجَرَةِ تَحْتَ الْأَرْضِ حَتَّى دَخَلَتْ فِي قَرَارِ أَرْضِ الْجَارِ لَمْ يُؤْخَذْ بِقَلْعِهَا ولايمنع الْجَارُ مِنْ التَّصَرُّفِ فِي قَرَارِ أَرْضِهِ وَإِنْ قطعها. وقد قال أحمد في رواية ابن منصور: " في رجل في حائط جاره شجرة وأغصانها في حائطه له أن يمنعه ويأمره بقطعها". وكذلك نقل إسحاق بن هانئ " في شجرة أصلوها في ملك صاحبها، وأغصانها مطلة على بستان جاره، لجاره أن يدفع ذلك عنه". وكذلك نقل الحسن بن محمد بن الحرث " في نخلة أصولها في داره، ورأسها في داري: يقطعها حتى لا تؤذيه، فقيل له: يقطع له؟ قال: يأمر صاحبه حتى يقطع". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 فقد نص على أن له أخذه بإزالة ما انتشر منها وأنه يأمر صاحبه ولا يتولى هو ذلك بنفسه، لأن الحق توجه على المالك، وكان هو المطالب بإبقائه، كما يطلب الراهن ببيع الرهن. وقال في رواية إسحاق بن هانئ " في رجل في داره شجرة فنبتت من عروقها شجرة في دار رجل آخر: لمن الشجرة؟ فقال: ما أدري ما هذا؟ ربما كان ضررا على صاحب الأرض". وظاهر هذا أنه إذا لم يكن فيها ضرر، وهو أن تكون عروقها تحت الأرضن لا يؤخذ بقلعها لأنه اعتبر الضرر، والضرر إنما يكون بظهورها على وجه الأرض. وقد روى أبو حفص العكبري عن أبي بكر عبد العزيز عن أبي بكر الخلال عن حرب عن عمرو بن عثمان عن بقية بن الوليد عن سلمة القرشي عن العلاء بن الحرث عن مكحول قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم - " من أظلت شجرة داره فهو بالخيار بين أكل ثمرها أو قطع ما أظل عليه منها". وهذا محمول على أن صاحب الشجرة يأكل الثمرة. وروى أبو حفص أيضا بإسناده عن محمد بن علي قال" كان لسمرة بن جندب نخل في حائط رجل من الأنصار، وكان يدخل عليه وأهله فيؤذيه، فشكا ذلك الأنصاري إلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فقال له: بعه، فأبى، قال: فاقلعه، فأبى: قال: هبه ولك مثلها في الجنة، فأبى: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنت مضار، اذهب فاقلع نخله". فقد أمره بقلعه. فإن نصب المالك تنورا في داره، فتأذى الجار بدخانه، أو نصب في داره رحا، أو وضع فيها حدادين أو قصارين، فهل يمنع من ذلك؟. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 قد روى عن أحمد ألفاظ تقتضي المنع. فقال في رواية عبد الله: في رجل بنى في داره حماما أوحشا يضر بجاره أكرهه، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لا ضرر ولا ضرار". وكذلك قال في رواية ابن منصور " لا يضر بجاره، يحفر إلى جنب بئره كنيفا أو بئرا إلى جنب حائطه وإن كان في حده". وكذلك قال في رواية أبي طالب " لا يجعل في داره حماما يؤذي جاره، ولا يحفر بئرا إلى بئره". والخلاف في هذه المسألة وفيما قبلها سواء وقد اختلفت الرواية عنه فيمن احتفر بئرا إلى جنب جاره فنضب ماء الأولة وغار هل يطم عليه؟ على روايتين: نقل الحسن بن ثواب عنه " لا تطم" وعلل بأن هذه في ملك صاحبها. ونقل الميموني " تطم" فيخرج في هذه الرواية روايتان. وَإِذَا تَعَدَّى مُسْتَأْجِرٌ عَلَى أَجِيرٍ فِي نُقْصَانِ أجر أو استزادة علم كَفَّهُ عَنْ تَعَدِّيهِ وَكَانَ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِ مُعْتَبَرًا بِشَوَاهِدِ حَالِهِ. وَلَوْ قَصَّرَ الْأَجِيرُ فِي حَقِّ المستأجر فنقصه عن الْعَمَلِ، أَوْ اسْتَزَادَهُ فِي الْأُجْرَةِ مَنَعَهُ مِنْهُ وأنكره عليه إذا تخاصموا إليه. فإن اختلفوا أو تناكروا وكان الْحَاكِمُ بِالنَّظَرِ بَيْنَهُمَا أَحَقَّ. وَمِمَّا يُؤْخَذُ وُلَاةُ الحسبة بمراعاته من أخل الصَّنَائِعِ فِي الْأَسْوَاقِ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ مِنْهُمْ مَنْ يراعي عمله في الوفاء والتقصير. ومنهم من يراعي حاله في الْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ. وَمِنْهُمْ مَنْ يُرَاعِي عَمَلَهُ فِي الجودة والرداءة. فأما من يراعي عَمَلِهِ فِي الْوُفُورِ وَالتَّقْصِيرِ فَكَالطَّبِيبِ وَالْمُعَلِّمِينَ، لِأَنَّ الطب إقدام عَلَى النُّفُوسِ، يُفْضِي التَّقْصِيرُ فِيهِ إلَى تَلَفٍ أوسقم. وللمعلمين الطرائق التي ينشأ الصغار عليها، ليكون نقلهم عنه بَعْدَ الْكِبَرِ عَسِيرًا، فَيُقَرُّ مِنْهُمْ مَنْ تَوَفَّرَ علمه، وحسنت طريقته، ويمنع، من قصر أو أساء مِنْ التَّصَدِّي لِمَا يُفْسِدُ بِهِ النُّفُوسَ، وَتَخْبُثُ به الآداب. وقد قال أحمد في رواية حرب: في الطبيب والبيطار " إذا علم أنه طبيب فلا يضمن " فإن لم يكن طبيبا فكأنه رأى عليه الضمان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 وقد روى أبو حفص بإسناده عن عَمْرو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: " من تطبب ولم يعلم منه طب قبل ذلك فهو ضامن". وأما من يراعي حالة فِي الْأَمَانَةِ وَالْخِيَانَةِ فَمِثْلُ الصَّاغَةِ، وَالْحَاكَةِ وَالْقَصَّارِينَ، وَالصَّبَّاغِينَ؛ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا هَرَبُوا بِأَمْوَالِ النَّاسِ، فَيُرَاعِي أَهْلَ الثِّقَةِ وَالْأَمَانَةِ مِنْهُمْ، فَيُقِرُّهُمْ وَيُبْعِدُ مَنْ ظَهَرَتْ خِيَانَتُهُ وَيُشْهِرُ أَمْرَهُ، لِئَلَّا يَغْتَرَّ بِهِ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْحُمَاةَ وولاة المعونة أَخَصُّ بِالنَّظَرِ فِي أَحْوَالِ هَؤُلَاءِ مِنْ وُلَاةِ الحسبة، لأن الخيانة تابعة للسرقة. وأما ما يُرَاعِي عَمَلَهُ فِي الْجَوْدَةِ وَالرَّدَاءَةِ فَهُوَ مِمَّا يَنْفَرِدُ بِالنَّظَرِ فِيهِ وُلَاةُ الْحِسْبَةِ، وَلَهُمْ أَنْ يُنْكِرُوا عَلَيْهِمْ فِي الْعُمُومِ فَسَادَ الْعَمَلِ وَرَدَاءَتَهُ وإن لم يكن فيه مستعد. فأما فِي عَمَلٍ مَخْصُوصٍ اعْتَادَ الصَّانِعُ فِيهِ الْفَسَادَ وَالتَّدْلِيسَ، فَإِذَا اسْتَعْدَاهُ الْخَصْمُ قَابَلَ عَلَيْهِ بِالْإِنْكَارِ وَالزَّجْرِ، فَإِنْ تَعَلَّقَ بِذَلِكَ غُرْمٌ، رُوعِيَ حَالُ الغرم، فإن افتقر إلى تقدير أو تقويم لم يكن لِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَنْظُرَ فِيهِ، لِافْتِقَارِهِ إلَى اجْتِهَادٍ حكمي، وكان القاضي بالنظر فيه أحق أن ينظر فيه بإلزام الغرم والتأديب؛ لِأَنَّهُ أَخْذٌ بِالتَّنَاصُفِ، وَزَجْرٌ عَنْ التَّعَدِّي. وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُسَعِّرَ عَلَى النَّاسِ الْأَقْوَاتَ وَلَا غيرها في رخص ولا غلاء. وما ما ينكره مِنْ الْحُقُوقِ الْمُشْتَرَكَةِ بَيْنَ حُقُوقِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُقُوقِ الْآدَمِيِّينَ فَكَالْمَنْعِ مِنْ الْإِشْرَافِ عَلَى مَنَازِلِ الناس، ويكره من علا بناؤه أن يستر سطحه. قال في رواية ابن منصور في الرجل يشرف على جاره "فالسترة على الذي أشرف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وكذلك قال في رواية محمد بن يحيى الكحال في الذي يكون أعلا من جاره " يستر على نفسه". فإن قيل: كان يجب أن يقال: يلزمه أن لايشرف على غيره، ولا يلزمه أن يستر سطحه. قيل: لا يمكنه في العادة أن لايشرف على غيره إلا ببناء ستره، لأنه قد يسهو أو يغفل عن ترك الإشراف لظهوره عليه. وَيُمْنَعُ أَهْلُ الذِّمَّةِ مِنْ تَعْلِيَةِ أَبْنِيَتِهِمْ عَلَى أبنية المسلمين، فإن ملكوا أبنية عالية احتمل أن يقروا عليها، ويلزموا أن يستروا سطوحهم. ويأخذ أهل الذمة بما شرط فِي ذِمَّتِهِمْ، مِنْ لُبْسِ الْغِيَارِ، وَالْمُخَالَفَةِ فِي الهيئة، وترك المجاهرة بقولهم في عزيز ابن الله، والمسيح ابن الله. وَيُمْنَعُ عَنْهُمْ مَنْ تَعَرَّضَ لَهُمْ مِنْ الْمُسْلِمِينَ بِسَبٍّ أَوْ أَذًى، وَيُؤَدَّبُ عَلَيْهِ مَنْ خَالَفَ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ فِي أَئِمَّةِ الْمَسَاجِدِ السَّابِلَةِ والجوامع الحافلة مَنْ يُطِيلُ الصَّلَاةَ حَتَّى يَعْجِزَ عَنْهَا الضُّعَفَاءُ وَيَنْقَطِعَ بِهَا ذَوُو الْحَاجَاتِ أَنْكَرَ ذَلِكَ عَلَيْهِ كما أنكر رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى معاذ حِينَ أَطَالَ الصَّلَاةَ بِقَوْمِهِ، وَقَالَ: " أَفَتَّانٌ أَنْتَ يا معاذ؟ ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 فإن أقام الإمام عَلَى الْإِطَالَةِ، وَلَمْ يَمْتَنِعْ مِنْهَا، لَمْ يَجُزْ أَنْ يُؤَدِّبَهُ عَلَيْهَا، وَلَكِنْ يَسْتَبْدِلُ بِهِ مَنْ يخففها. وإذا كان في القضاة يحجب الْخُصُومَ إذَا قَصَدُوهُ، وَيَمْتَنِعُ مِنْ النَّظَرِ بَيْنَهُمْ إذا تحاكموا إليه حتى تقف الأحكام، وتستضر الخصوم، فللمحتسب أن يأخذ - مَعَ ارْتِفَاعِ الْأَعْذَارِ- بِمَا نُدِبَ لَهُ مِنْ النظر بين المتحاكمين وفصل القضايا بين المتشاجرين، ولا تمنع عُلُوُّ رُتْبَتِهِ مِنْ إنْكَارِ مَا قَصَّرَ فِيهِ. وَإِذَا كَانَ فِي سَادَةِ الْعَبِيدِ مَنْ يَسْتَعْمِلُهُمْ فِيمَا لَا يُطِيقُونَ الدَّوَامَ عَلَيْهِ كَانَ مَنْعُهُمْ والإنكار عليهم موقوفا على استعداء العبيد، إلا على وجه الإنكار والغلظة، وإذا استعدوه منع حينئذ وزجر. وإذا كان في أرباب المواشي من يستعملها فيما لا تطيق الدَّوَامَ عَلَيْهِ أَنْكَرَهُ الْمُحْتَسِبُ عَلَيْهِ. وَمَنَعَهُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مُسْتَعِدٌّ إلَيْهِ، فَإِنْ ادعى المالك احتمال الدابة لما يستعملها فيه، جاز للمحتسب أن ينكر فِيهِ؛ لِأَنَّهُ وَإِنْ افْتَقَرَ 'إلَى اجْتِهَادٍ فَهُوَ عرفي يرجع فيه إلى عرف الناس وعادتهم وليس باجتهاد شرعي. وَإِذَا اسْتَعْدَاهُ الْعَبْدُ فِي امْتِنَاعِ سَيِّدِهِ مِنْ كسوته ونفقته جاز أن يأمره بها ويأخذه بالتزامها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 ولو استعداه من تقصير سيده فيها، لَمْ يَكُنْ لَهُ فِي ذَلِكَ نَظَرٌ وَلَا إلزام لأنه يحتاجح في التقدير إلَى اجْتِهَادٍ شَرْعِيٍّ، لِأَنَّ التَّقْدِيرَ مَنْصُوصٌ عَلَيْهِ ولزمه غير منصوص عليه. وقد قال أحمد في رواية عبد الله " حق المملوك يشبعه ويكسوه". ولا يكلفه ما لا يطيق. وإذا بلغ المملوك زوجه، فإن أبى تركه". وقال في رواية حرب: وقد سئل " هل يستعمل المملوك بالليل؟ قال: لا يسهره ولا يشق عليه ويخفف عنه". وَلِلْمُحْتَسِبِ أَنْ يَمْنَعَ أَرْبَابَ السُّفُنِ مِنْ حَمْلِ مَا لَا تَسَعُهُ، وَيُخَافُ مِنْهُ غَرَقُهَا، وَكَذَلِكَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ الْمَسِيرِ عِنْدَ اشْتِدَادِ الرِّيحِ، وَإِذَا حمل فيها الرجال والنساء يحجز بينهم بحائل، وإذا اتسعت السفن نصب النساء مَخَارِجُ لِلْبِرَازِ لِئَلَّا يَتَبَرَّجْنَ عِنْدَ الْحَاجَةِ. وَإِذَا كان في أهل الْأَسْوَاقِ مَنْ يَخْتَصُّ بِمُعَامَلَةِ النِّسَاءِ رَاعَى الْمُحْتَسِبُ سِيرَتَهُ وَأَمَانَتَهُ، فَإِذَا تَحَقَّقَهَا مِنْهُ أَقَرَّهُ عَلَى مُعَامَلَتِهِنَّ، وَإِنْ ظَهَرَتْ مِنْهُ الرِّيبَةُ وَبَانَ عَلَيْهِ الفجور، منعه من معاملتهن وأدّ به عَلَى التَّعَرُّضِ لَهُنَّ. وَقَدْ قِيلَ: إنَّ الْحُمَاةَ وولاة المعونة أخص بإنكار ذلك، لأنه من موانع الزنا. وينظر والي الحسبة في مقاعد الأسواق، فيقر فيها ما لا ضرر على المارة فيه، وَيَمْنَعُ مَا اسْتَضَرَّ بِهِ الْمَارَّةُ، وَلَا يَقِفُ منعه على الاستعداء إليه. وقد قال أحمد في رواية حرب " في الرجل يسبق إلى دكاكين السوق، فمن سبق غدوة فهو له إلى الليل". وهذا يقتضي جواز مقاعد الأسواق. وقال في رواية إسحاق بن إبراهيم " البيع على الطريق مكروه". فقد منع من ذلك. وَإِذَا بَنَى قَوْمٌ فِي طَرِيقٍ سَابِلٍ مُنِعَ منه، وإن اتسع له الطريق، ويأخذهم بهدم ما بنوه، وإن كَانَ الْمَبْنِيُّ مَسْجِدًا، لِأَنَّ مَرَافِقَ الطُّرُقِ لِلسُّلُوكِ لا للأبنية. وقد قال أحمد في رواية المروزي " هذه المساجد التي بنيت في الطرقات حكمها أن تهدم". وقال في موضع آخر " هذه المساجد أعظم جرما، يخرجون المسجد، ثم يخرجون على أمره". وإذا وضع الناس الأمتعة وآلا ت الْأَبْنِيَةِ فِي مَسَالِكِ الشَّوَارِعِ وَالْأَسْوَاقِ ارْتِفَاقًا لِيَنْقُلُوهُ حَالًا بَعْدَ حَالٍ، مُكِّنُوا مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَضِرَّ بِهِ الْمَارَّةُ، وَمُنِعُوا مِنْهُ إنْ اسْتَضَرُّوا به. ويمنعهم من إخراج الأجنحة والساباطات، ومجاري المياه، وآبار الحشوش سواء أضر أو لم يضر، كما يمنع البناء في الطريق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 وقد قال أحمد في رواية المروزي" في الرجل يحفر في فنائه البئر أو المخرج المعلق: لا، هذا طريق المسلمين" قيل له: " إنما هي بئر تحفر ويسد رأسها؟ قال: أليس هي في الطريق؟ ". وَلِوَالِي الْحِسْبَةِ أَنْ يَمْنَعَ مِنْ نَقْلِ الْمَوْتَى من قبورهم إذا دفنوا في مالك أو مباح، إلا من أَرْضٍ مَغْصُوبَةٍ، فَيَكُونُ لِمَالِكِهَا أَنْ يَأْخُذَ مَنْ دفنه فيها بنقله منها، أو يكون أرضا لحقها سيل أو ندى فيجوز. قال في رواية أبي طالب: في الميت يخرج من قبره إلى غيره " إذا كان من شيء يؤذيه قد حول طلحة". وقال في رواية المروزي " في قو دفنوا في بساتين ومواضع رديئة، فقال " قد نبش معاذ امرأته، وكانت قد كفنت في خلقان فكفنها، ولم ير بأسا أن يحولها". وَيَمْنَعُ مِنْ خِصَاءِ الْآدَمِيِّينَ وَالْبَهَائِمِ، وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ. وقد قال أحمد في رواية حرب - وقد سئل عن خصاء الدواب والغنم للسمن وغير ذلك - فكرهه، إلا أن يخاف عضاضه. قال في رواية البرتي القاضي - وقد سئل عن خصاء الخيل والدواب فكرهه، إلا من عضاض. ويمنع من خضاب الشيب بالسواد في الجهاد وغيره. قال في رواية إسحاق بن منصور: قلت لأحمد: " يكره الخضاب بالسواد؟ قال: إي والله مكروه". ولا يمنع من الخضاب بالحناء والكتم قال في رواية حنبل: " أحب إلى من الخضاب الحناء والكتم " وقال: " ما أحب لأحد أن يغير الشيب ولا يتشبه بأهل الكتاب". ويمنع مِنْ التَّكَسُّبِ بِالْكَهَانَةِ وَاللَّهْوِ، وَيُؤَدِّبُ عَلَيْهِ الْآخِذَ والمعطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 وقد قال أحمد في رواية الفرج بن علي الصباح البرزاطي: في الرجل يزعم أنه يعالج المجنون من الصرع بالرقى والعزائم، ويزعم أنه يخاطب الجن ويكلمهم، ومنهم من يخدمه ويحدثه " ما أحب لأحد أن يفعله، وتركه أحب أحب إليّ". وقد روى أبو حفص في كتاب الإجارات بإسناده " أن أبا بكر شرب لبنا. فقيل له: إنه من كهانة تكهنها النعيمان في الأهلية: فقام فاستقاء". قال أبو بكر المرزوي: سألت أبا عبد الله عن شيء من أمر الروع؛ فاحتج بحديث أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - في الفيء. وَهَذَا فَصْلٌ يَطُولُ أَنْ يُبْسَطَ، لِأَنَّ الْمُنْكَرَاتِ لا ينحصر عددها فيستوفي، وفيما ذكرناه دليل على ما أغفلناه. وأنا أسأل الله تعالى حسن التوفيق لما ذكرتن وعونا على ما شرحت، وأرغب إليه في التوفيق لما يرضيه، وأعوذ به من سخطه وكل معاصيه بمنه وكرمه، وهو حسبي ونعم الوكيل. ثم الكتاب والحمد لله رب العالمين حمدا لاينقطع ولايبيد، وصلي الله على سيدنا محمد خاتم الرسل وأشرف العبيد، وعلى إخوانه من النبيين وآله وصحبه أجمعين، وسلم تسليما كثيرا. ووافق الفراغ منه في حادي عشري صفر الخير من شهور سنة ثمانمائة وستة وستين بصالحية دمشق المحروسة، عمرها الله بذكره إلى يوم القيامة. وذلك على يد أبي بكر بن زيد الجراعي الحنبلي، لطف الله به، وغفر له ولوالديه ولمشايخه ولجميع المسلمين آمين. وبهامش الأصل المخطوط ما صورته: الحمد لله وحده بلغ مقابلة وتصحيحا على النسخة المكتتب منها، لكنه غير صحيحة، وقد صححناها في هذا ما أمكن، فلله الحمد والمنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308