الكتاب: المعاجم العربية مع اعتناء خاص بمعجم "العين" للخليل بن أحمد المؤلف: عبد الله درويش الناشر: مكتبة الشباب عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- المعاجم العربية مع اعتناء خاص بمعجم العين للخليل بن أحمد عبد الله درويش الكتاب: المعاجم العربية مع اعتناء خاص بمعجم "العين" للخليل بن أحمد المؤلف: عبد الله درويش الناشر: مكتبة الشباب عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمة : شهد القرن الثاني للهجرة أولى المؤلفات الكاملة التي ظهرت في مختلف العلوم الإسلامية والعربية. ففي ميدان الحديث ظهر موطأ مالك، كما ظهر بجانبه من ناحية أخرى سيرة ابن إسحاق، أما النحو فقد ألف فيه سيبويه "الكتاب"، ومن قبله أستاذه الخليل الذي وضع معجم "العين" في اللغة كما كان له الفضل في وضع علم العروض كذلك. وكانت هناك محاولات فردية لكثير من العلماء، والرواة واللغويين يمكن رؤيتها فيما تتأثر من آرائهم في كتب المتأخرين الذين نقلوا عنهم. ولكن هذه الكتب التي أشرنا إليها كانت أول المؤلفات التي وصلت إلينا رغم تقادم العهد، وبعد أن صارعت إغارات التتر، وتيمورلنك والمغول وغيرهم ممن دمرت على أيديهم أغلب المخطوطات العربية القديمة. وترى هنا إلى بيان الطريقة التي بنى عليها الخليل بن أحمد كتابه في اللغة الأمر الذي كان من شأنه وضع المبادئ الرئيسية لما عرف بعد ذلك باسم المعجم أو القاموس. وقد كان علماء اللغة أيام الخليل ومن قبله مهتمين كذلك بجمع مفردات اللغة، ولكن هذا الجمع اقتصر فقط على المفردات الصعبة المعاني لشرحها وتوضيحها، وهي التي عرفت باسم "الغريب". وقد كان النظام الذي ساروا، عليه في شرح الغريب مبنيًّا على أساس الرسائل والمكتبات التي تعالج موضوعًا معينًا، فمثلًا ظهر كتاب الخليل، وكتاب المطر وكتاب النوادر وغيرها. ويبدو أن الذي دعاهم إلى الاقتصار على الغريب هو أن هذا النوع من المفردات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 هو الذي كان يحتاج فقط -في نظرهم- إلى توضيح، وتفسير أما المفردات الأخرى فقد كان من السهل على القارئ العادي -في رأيهم- أن يعرف معناها، أو يستنتجه من سياق الكلام. ولم يتبعوا في سرد المفردات في تلك الرسائل نظامًا معينًا. وإن على القارئ أن يخمن موضع الكلمة ليعرف معناها أو يقرأ الكتاب جميعه ليقف على ضالته. وقد سهلت تلك المهمة بعض الشيء حينما عنى المستشرقون بإخراج هذه الكتب، وطبعها ووضع الفهارس المنظمة التي اشتملت على فهرس خاص بالمفردات. وقد أدرك الخليل من أول الأمر أنه لو ألفت مئات من الكتب على ذلك الطراز لما أمكن حصر يضيع مفردات اللغة، ولما سلمت المسألة من التكرار. وقد أمكن للخليل أن يحل هذه المشكلة، ويخترع نظامًا من شأنه أن يحصر جميع المفردات مع عدم التكرار. وإنا لنزداد إكبارا للخليل حين نعلم أنه ابتدع نظامه المعجمي في وقت لم يكن فيه لأية لغة أوربية ما يعرف باسم القاموس. حقيقة لقد سبق الصينيون العرب بوضع معجم للغتهم، ولكن ليس هناك من دليل على أن الخليل، وعبقريته الفذة في علوم النحو والأصوات اللغوية، وعلوم الحساب جمله يكتشف بعض الخصائص الهامة التي يخضع لها موسيقا اللفظ العربي، فمن ذلك نظريته الهامة في تجانس حروف الكلمة، وفي عدم تجانس بعض الأصواب فيها، فمثلًا قد ذكر أنه لا تجتمع في كلمة واحدة ثلاثة حروف أصلية من مخرج واحد، كالحروف الشفوية "ف ب م"، فإنها لا ترى مجتمعة في كلمة واحدة على أنها تكون أصول تلك الكلمة، ولكن إذا تباعدت الحروف الأصول فإن اجتماعها في الكملة جائز، فمثلًا الحروف "ك ب ر" يجتمع بعضها مع بعض في أي وضع من الأوضاع، فيتألف منها نظريًّا ستة ألفاظ، اثنان مبدوءان بالكاف، واثنان بالياء واثنان بالراء. وقد تولى ابن دريد في الجمهرة توضيح هذه النظرية بأن افترض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 أن هناك مثلثًا تمثل كل زاوية من زواياه حرفًا من الحروف الهجائية وليكن هكذا: فإذا ابتدأنا في هذا المثلث من زاوية الرأس متجهين نحو الزاوية اليمنى، فإننا نحصل على "ض ر ب" أما إذا اتجهنا نحو الزاوية اليسرى، فإننا نحصل على "ض ب ر"، وكذلك الحال فيما لو ابتدأنا بزاوية ر فإننا نحصل على "ر ض ب"، "ر ب ض"، وأخيرًا يتأتى لنا "ب ر ض"، "ب ض ر" إذا ابتدأنا بالزاوية ب. ونسمي نظرية استنباط الأوجه الستة من الأصول الثلاثة بالترتيب التقليبي: anagramatical -order وهذه الأوجه الستة نظرية فقط أما من ناحية الواقع فقد تكون كلها مستعملة، وقد تكون كلها مهملة وقد يكون البعض مستعملًا والبعض مهملًا. وتسمية ما نطقت به العرب فعلًا بالمستعمل، وما لم تنطق به العرب بالمهمل هي من وضع الخليل بن أحمد. وقد يكون اللفظ مهملًا ليس؛ لأن العرب لم تستعمله فقط بل؛ لأن القوانيين الصوتية لانسجام حروف المفردات العربية تأبى احتمال وقوعه كما أسلفنا في "ف ب م"، ونظيرها ع خ هـ التي يترتب عليها القول بأن كلمة "الهعخع" مصنوعة. وهكذا نرى أن الخليل قد اعتمد في بيان المهمل، وتمييزه عن غيره على ما يعرف باسم القوانين الصوتية "PHORETIC RULES"، وهي القوانين التي اتخذها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 ضمن الأسس التي بنى عليه نظام معجمة "كتاب العين" إذ نجد أنه قد قسم الحروف الهجائية إلى مجموعات صوتية بدأها بحروف الحلق، وختمها بالحروف الشفوية. وهذا الترتيب قد وافق من بعض الوجوه ترتيب أحرف الهجاء في اللغة السنسكريتية. وقد فهم بعض المحدثين1 من هذا أن الخليل قد أخذ ترتيبه عن هجاء تلك اللغة، ولكن إذا عرفنا أن الخليل كان مبرزًا في كل علوم اللغة خاصة ما يتعلق بالنحو، والأصوات اللغوية وأن ترتيبه كان على أساس علمي ولغاية محددة، فلا ينبغي أن نأخذ التشابه دليلًا على الاقتباس، هذا فضلًا عن أن ترتيب الحروف في السنسكريتية لا ينطبق تمامًا على الترتيب الصوتي للحروف العربية. وقد اتفق اللغويون العرب جميعًا على أن التنظيم الرئيسي لكتاب العين من وضع الخليل نفسه، وأن الخليل بهذا اتخذ له فضل السبق في وضع المفردات العربية تبعًا لنظام هجائي معين اتخذ أساسًا لما عرف بعد ذلك باسم المعجم أو القاموس. ولكن عبقرية الخليل لم تسلم من التقول عليها، فقد أثار الأزهري2 -لأسباب سنوضحها فيما بعد- مسألة التشكك في نسبة كتاب العين للخليل، وإن كان قد اعترف صراحة بأن مقدمة العين، وتنظيم الكتاب من وضع الخليل نفسه. وفي العصور الوسطى نرى عالمًا كالسيوطي يجمع كل ما قيل حول هذه المسألة، ويعقد لذلك فصلًا بأكمله في إحدى مؤلفاته3 ثم يحاول أن يوفق بين وجهات   1 ممن قال بهذا جورجي زيدان: تاريخ آداب اللغة العربية ج2 ص122. وقد نقلت عنه دائرة المعارف الإسلامية هذا الرأي عند الكلام على الخليل ج3 قسم 2 ص888. 2 مقدمة تهذيب اللغة. 3 الزهر، فصل الكلام على جمع اللغة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 النظر المختلفة. والذي حداه أن يركن إلى مبدأ التوفيق هو أنه قد وجد نفسه أمام روايات متعددة تختلف في حكمها على الموضوع، فلا بد إذن -على رأيه" من تأويل في بعضها حتى تتفق في جوهرها، وإن اختلفت في مظهرها. وإذا قبلنا هذا من السيوطي، وكان هينًا علينا أن نستمع منه إلى "التوفيق" بين مختلف الآراء التي تعتمد -أول ما تعتمد- على الرواية. فإننا وقد تقدمت في عصرنا طرق البحث العلمي لا يصح أن نلجأ إلى التوفيق تاركين نص كتاب العين ليدلنا على حقيقة أمره، كما فعل بعض الباحثين المعاصرين1. وإن اختفاء مخطوطة العين مدة من الزمن ليعد السبب الرئيسي لهذا الاضطراب واشتباه الأمر. وآخر من أشار في كتبه أنه رأى نسخة العين من اللغويين العربي هو السيوطي إذ ذكر في المزهر ما يفيد هذا. ومن ناحية أخرى نجد متأخري اللغويين كصاحب القاموس، واللسان والتاج لم يذكروا كتاب العين في قائمة المراجع التي اعتمدوا عليها. ولكنهم جميعًا نقلوا عن الكتاب مصر حين في بعض المواضع باسم الخليل، وقد اقتبسوا هذه النقول عن الأزهري وغيره ممن استعمل كتاب العين في كتابه. حتى في عصرنا الحاضر نجد أن البستاني في معجمه "محيط المحيط"، قد نقل من الخليل في صلب كتابه دون أن يرى كتاب العين. ومن الشائع الكثير أن نجد القواميس العربية محشوة بالعديد من أسماء الرواة كأبي عبيدة، وأبي عمرو وغيرها، وليس معنى هذا أن صاحب التاج مثلًا حين يذكر لنا "قال أبو عمرو" أنه رأى كتاب أبي عمرو بل إنه نقل عن مصدرآخر كان قد انتفع بآراء أبي عمرو، ودون جزءًا منها في كتابه، وهذا من الأسباب التي بها تشابهت تعبيرات أصحاب المعاجم حين شرحهم للمفردات. ويمكن بالمقارنة إرجاع هذه التعبيرات إلى الأصل الأول، وهو كتاب العين للخليل مع فارق يسير.   1 مجلة المجمع العلمي بدمشق عدد 18 لسنة 1941، مثال؟؟؟؟ المعاجم ليوسف عش. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 وعندما اكتشفت مخطوطة العين أخيرًا في العراق ابتدأ العلامة أنستاس الكرملي في عام 1913م في طبع الكتاب، فأخرج قسمًا صغيرًا منه في 144 صفحة، وهي تعادل 58 صحيفة من مخطوطة ألمانيا البالغ عدد صفحاتها 840 صفحة. ولكن ما حل ببغداد أثناء الحرب العالمية الأولى من اضطراب. كان سببًا في توقف الطبع بل وفي ضياع كثير من النسخ التي طبعت وهذا ما يفسر لنا عدم انتشار الكتاب. وقد ذكرت دائرة المعارف الإسلامية عند الكلام على الخليل أن كتاب العين في حكم المفقود، وكذلك اقتصر بروكلمان1 على ذكر القسم المطبوع فقط، وقال: إنه لا توجد مخطوطات للعين يعرف مكانها، ولكن توجد لمختصر العين للزبيدي مخطوطات مختلفة، ثم بدأ في سر أماكنها وأرقامها. وإن سلسلة المعاجم العربية لا تكون كاملة. بدون أول حلقة منها وهي كتاب العين. وكذلك الخلاف على نسبة الكتاب لا يحسم بالطريقة التقليدية، طريقة الرواية، ولا بالانقياد للنظرية التي تقول: إن الخليل كرأس لمدرسة البصرة ليجل مقامه من الخطأ اللغوي الأمر الذي حدا ببعض المتقدمين بناء على هذا الرأي أن يقولوا: إن في الكتاب أشياء ليست من عمل الخليل نفسه، وإن الطريق السديد لهذا هو الحكم على كتاب العين من الكتاب نفسه، من قسمه المطبوع ومن مخطوطاته. أما القسم المطبوع فقد ذكر العلامة كربنكوف2 أنه رأى الصبية في بغداد بعد أن أحرقت الحرب معالمها، وهم يبيعون التمر في أوراق من نسخ الكتاب: ولحسن الحظ توجد نسخة من هذا القسم المطبوع في كل من دار الكتب، والمجمع اللغوي بمصر.   1 بروكلمان تاريخ الأدب العربي ج2 س100. 2 المجلة الأسيوية بلندن العدد الممتاز لعام 1924 ص260 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 أما بالنسبة للمخطوط، فقد كدنا أول الأمر نيأس من الحصول عليها؛ لأن الأب أنستاس طبع ما طبع بلا مقدمة، أو تصدير فلم يشر للمخطوطة ولا لمكانها، وقد ذكر بروكلمان أن الكرملي كتب بحثًا عن هذا في صحيفة لغة العرب أغسطس سنة 1913م، ولكن هذا العدد ليس بين أصول الأعداد المحفوظة لهذه المجلة. ولحسن الحظ مرة أخرى عثرنا عليه مترجمًا في إحدى المحلات الألمانية1. واستمر البحث بعد ذلك في قوائم المخطوطات العربية للمكتبات الشرقية، والأوربية ولم تجد أول الأمر أي إشارة للعين إلا في "كتالوج" مخطوطات برلين المطبوع سنة 1893، فقد ذكر أنه توجد قطعتان من معجم مرتب حسب مخارج الحروف بلا اسم أو عنوان، واختار جامع الكتالوج أنهما من كتاب العين المنسوب للخليل. وقد حصلت على مايكروفيلم"2 لهما وبدراستهما وجدت أنهما من الحكم. وقد استمر الاتصال بعد ذلك بمراسلة الهيئات التي يعنيها الأمر، وقد كتبت الجامعة العربية رسالة تقول فيها: إن مكتبتها ليس فيها مخطوطة العين، وإنها لا تعرف موضعها كما يسرها أن تحصل على المخطوطة أو صورة منها عند العثور عليها. واتجه الظن بطبيعة الحال إلى العراق موطن الخليل، فكان الأمل ضعيفًا أول الأمر لعدم وجود فهارس مطبوعة للمخطوطات هناك. ولكن خيوط البحث، والتنقيب ظلت ممتدة، حتى أمكن آخر الأمر بعد الاتصال بالسفارة العراقية في لندن أن تعثر على مكان المخطوطة، ورقمها في المتحف العراقي ببغداد3. وما هي إلا فترة وجيزة حتى ورد مايكروفيلم من هناك. وصورت منه نسخة.   1 der islam, xv, s. 205 2 سيأتي تفصيل هذا عند الكلام على مخطوطات العين. 3 كان الفضل في ذلك للجهود الذي بذله للمستشرق جيوم رئيس قسم الشرق الأوسط بجامعة لندن الذي كنت أدرس عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 وأودعت في خزانة المكتبة في معهد الدراسات الشرقية بجامعة لندن كما احتفظت لنفسي بنسخة أخرى، وكم أثلج صدورنا أن نعثر على نسخة أخرى في ألمانيا، ويرجع الفضل في حصولنا عليها للدكتور كريمر إذ تفضل فأهداني نسخة "مايكروفيلم" لمخطوطة ألمانيا، وكان ذلك أثناء مؤتمر المستشرقين الدولي في مدينة كمبردج عام 1954. وقابلت كذلك هناك المستشرق "ريتر" رئيس القسم العربي في فرانكفوت بألمانيا، فذكر كيف أنه سافر إلى بغداد عقب الحرب العالمية الأولى، وأشرف على شراء ونقل كثير من المخطوطات النادرة التي كان أهمها العين، وقد أودعت في مكتبة برلين، ولكنها نقلت من هناك إلى مكتة جامعة "نيوبنجن" خوفًا عليها من إغارات الحلفاء عندما صوبوا أهدافهم نحو برلين. ولا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن عدم وجود كتالوج مطبوع لمخطوطات المتحف العراقي ببغداد يعد عاملًا كبير فيما ظنه بروكلمان. كذلك دائرة المعارف الإسلامية من أن المخطوطة مفقودة. وما ورد لألمانيا حديثًا بعد أن طبع الكتالوج الكبير في آخر القرن التاسع عشر مما لم يطبع بعد لم يتمكن بروكلمان رغم ولوعه بالبحث، والتنقيب من العثور عليه1 ومخطوطة بغداد تقع في 800 صفحة أما مخطوطة برلين فتزيد عنها بحوالي أربعين صفحة. وقد قدر العلامة الكرملي أن الطبع قد يستغرق ثلاثة أضعاف الخطوطة، ووضع عدد الصفحات 2500 من القطع المتوسط هذا طبعًا عدا جزء خاص بالفهارس. والآن وقد أصبحت المخطوطة بين أيدينا، فإنه يمكنا الاعتماد عليها في بحث ومناقشة المسائل التي أثيرت حول تأليف الكتاب، كما يمكننا أن نرى إلى   1 وننتهز هذه المناسبة لتبعث برجالنا إلى الجامعة العربية أن توفد إلى ألمانيا، وإنجلترا وغيرهما بعثاتها لتصور أهم المخطوطات خصوصًا التي التي لم يرد لها ذكر في الكتالوج المطبوع. كما فعلت ذلك مشكورة. حين نقلت لمكتبتها في القاهرة كثيرًا من مخطوطات الحجاز، واستانبول وغيرهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 أي حد اتبع اللغويون المتقدمون طريقة "العين"، وإلى أي حد اختلف اللغويون المتأخرون منها. ولنشرع الآن في ذكر المراحل التي مر بها وضع المعجم العربي، وهي تتلخص في ثلاث مراحل: أ- طريقة التقليب "ANAGRAMATICAL ORDER". وهي الطريقة التي ابتكرها الخليل وسار عليها من بعد ابن دريد، والأزهري والتالي والزبيدي وابن سيده وغيرهم. ب- طريقة القافية: وتعني تنظيم الكلمات حسب أواخرها. وقد سار عليها الجوهري والفيروزآبادي، وابن منظور والزبيدي وغيرهم. ج- الطريقة الأبجدية العادية. وهي التي نظمت فيها الكلمات حسب أولها وثانيها وثالثها، وقد سار عليها إلى حد ما ابن فارس كما التزمها الزمخشري، والبستاني والشرتونى وغيرهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 الباب الأول: المرحلة الأولى في تنظيم المعجم العربي مرحلة التقليبات نبذة عن حياة الخليل ... نبذة عن حياة الخليل: رغم شهرة الخليل1 بالبصرة فإنه قد ولد في مدينة أخرى -هي مدينة عمان على شاطئ الخليج الفارسي عام 100هـ، ولكن نشأته بالبصرة؟؟؟؟ وتلقيه العلم بها تلميذًا، ورياسته لمدرستها شيخًا جعلته يشتهر بهذا اللقب، وقد كان الخليل من أولئك العلماء القلائل الذين انحدروا من أصل عربي صرف إذ ينتسب إلى بطن فرهود من قبيلة الأزد، وهو وإن عرف أيضًا بالفراهيدى إلى أن بعضهم يصر على تصحيح النسبة إلى الفرهودي. لم يكن الخليل على حظ كبير من الغنى والسعة، فقد رضي وقنع بعيشته الزهيدة المتواضعة. وذلك لكثرة انشغاله بالعلم والتفكير، ولرضاه النفسي بحالته كما هي. وهذا ما يفسر لنا السبب في رفضه أن يكون مؤدبًا لولد الأمير سليمان بن عبد الملك حينما طلب منه ذلك، وفي هذا يقول الخليل نفسه: أبلغ سليمان أني عنه في سعة ... وفي غنى غير أني لست ذا مال وقد ظهرت شخصية الخليل قوية واضحة في تأليفات تلاميذه. فهذا سيبويه ينقل في كتابه الكثير عن الخليل. بل إن كثرة هذا النقل بدرجة ملحوظة جعلت بعض النقاد يعتبرون أن سيبويه قد جمع فقط آراء شيوخه الذين كان أهمهم الخليل، ودونها في سجل هو ما عرف بعد باسم "الكتاب"، ويميل بعض المستشرقين إلى أن يعدهما معا رأس مدرسة البصرة كما يعدون القراء، والكسائي مما رأس المدرسة الكوفية2. ولم يبرز الخليل في العلوم اللسانبة من نحو ولغه، وشعر فحسب بل كان له دراية   1 اختصرنا ترجمة الخليل هنا كما سنختصر ترجمة أصحاب المعاجم الذين وردوا بعده؛ لأنه يمكن الرجوع إلى ذلك في كتب الطبقات. 2 مقدمة الإنصاف للمستشرق قابل weil ص69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 واسعة بالعلوم الشرعية والعلوم الرياضية، وأكثر من هذا كان بارعًا في الموسيقى والنغم، وإن نظرة واحدة إلى الطريقة التي وضع بها علم العروض الذي اتفق الجميع على أنه هو الذي ابتدعه دون سابق مثال لتدلنا على أن الخليل كان ذا عقلية مبتكرة. وقد روى لنا في هذا أنه كان قد مر يومًا بمداد، فاستهواه دق المطرقة المنتظم، فلما حاول أن يربط بين هذه النغمات الرتيبة وبين الأوزان في الشعر العربي تم له ذلك باختراع علم العروض. وكانت التفصيلات التي استعملها الخليل كموازين للشعر، وتقطيع الأبيات على حسب تلك الموازين الذي يؤدي أحيانًا إلى شطر الكلمة الواحدة، أو ضم كلمة مع جزء أخرى لتكون وحدة عروضية معينة، كانت كل هذه الأشياء الجديدة على اللغويين الأول أشبه شيء بالألغاز. فقد ذكر لنا أن بعض علماء اللغة رحل إلى الخليل ليتعلم منه فنه الجديد، ولما لم يجد الخليل عنده الاستعداد الكافي لتقبله أراد أن يصرفه عنه بإشارة لطيفة حيث طلب منه أن يقطع هذا البيت: إذا لم تستطع شيئًا فدعه ... وجاوزه إلى ما تستطيع ففطن ذلك اللغوي إلى غرضه، وترك علم العروض الذي لم يستطع تفهمه. حتى طبقة المثقفين من غير العلماء كانت تستغرب هذا الشيء الجديد الذي لم يكن مألوفًا ولا متعارفًا. فقد روي أن الخليل كان يومًا منشغلًا بتقطيع بعض الأبيات، فدخل عليه ابنه فاستوضح منه هذا الأمر، فما كان من الخليل إلا أن ترك له بطاقة مسجلًا عليها هذان البيتان: لو كنت تعلم ما أقول عذرتني ... أو كنت أعلم ما تقول هذلتكا لكن جهلت مقالتي فعذلتني ... وعلمت أنك جاهل فعذرتكا ومع الاتفاق على نسبة هذه الأبيات وغيرها للخليل، فإننا لا نستطيع أن نعده شاعرًا بالمعنى الكامل للكلمة. هذا علاوة على ما في البيتين السالفين من سمة التقسيم المنطقي الذي ينبئ على أن قائلهما عالم لا شاعر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 وبالإضافة إلى براعة الخليل في اللغة، والموسيقى نجد أنه كان أيضًا رياضيًّا عارفًا بعلم الحساب إلى حد يعتبر فيه سابقًا لأوانه، فقد ذكر أنه وضع محاولة ابتكر فيها وضع نظام حسابي خاص يكون من السهولة بحيث لو عرفته الجارية، وذهبت به إلى السوق، فإنه لا يستطيع أحد أن يغالطها الحساب. وإن عقلية فذة كعقلية الخليل لا يستبعد أن يكون صاحبها مبتدعًا لأسس العروض، ومبتكرًا للتنظيم المعجمي. بل إن أحد المستشرقين1 من فرط إعجابه بنظريات الخليل صرح بأن نظام العين ليس غريبًا أن يكون من عمل الخليل بل الغريب ألا يكون منسوبًا إليه. ونظرًا لما أثير حول نسبة كتاب العين إلى مؤلفه الحقيقي، فقد رأينا أن نفرد هذا بموضوع خاص يأتي فيما بعد: أما مؤلفات الخليل الأخرى فلم يصلنا منها شيء، وقد وردت أسماؤها متناثرة في كتب الطبقات، وقد جمعتها دائرة المعارف الإسلامية في ستة كتب هي: 1- النقط والشكل. 2- النغم. 3- العروض. 4- الشواهد. 5- الإيقاع. 6- الجمل.   1 براونلتش الذي كتب مقالًا في ذلك في مجلة إسلاميات الألمانية islamica, 2. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 ولقد لقي الخليل تقديرًا وإكبارًا يليقان بمركزه العلمي من الأدباء واللغويين المتقدمين، فهذا ابن المقفع، يقول: "لقد لقيت فيه رجلًا عقله أكبر من علمه"، وهذا خلف بن المثنى1 يخبرنا أنه قد اجتمع في البصرة في وقت واحد عشرة من أكابر العلماء في مختلف الفنون أولهم الخليل بن أحمد اللغوي، وثانيهم بشار بن برد الشاعر. إلخ ومدحه حمزة بن حسن الأصبهاني بقوله: إنه لم يكن للمسلمين أذكى عقلًا من الخليل. ويكفينا دلالة على تفوق الخليل في العلوم الإسلامية أنه تخرج على يديه ثلاثة أئمة في فنونهم أولهم سيبويه في النحو، وثانيهم النضر بن شميل في اللغة، وأما الثالث فهو مؤرج السدوسي في الحديث.   1 النجوم الزاهرة ج2، ص29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 طريقة الخليل في "العين" : إن المبادئ الرئيسية التي بنى عليها الخليل ترتيبه في كتاب العين يمكن حصرها إجمالًا في أمور أربعة: أولًا: رتبت الكلمات ترتيبًا أبجديًا -والمراد بالترتيب الأبجدي المعنى الواسع لهذا التعبير. فقد شهد عصر الخليل كتيبات سجلت فيها الكلمات بحسب موضوعاتها ومعانيها. أما الخليل فقد رأى أن هذا غير عملي بالنسبة لحصر جميع المفردات اللغوية في كتاب خاص، ورأى أن ترتيب الكلمات حسب حروفها يكون أفيد وأدق. ولكنه لم يختر لذلك الأبجدية المألوفة على نظم الحروف حسب مخارجها إلى مجموعات تبدأ بالمجموعة الحلقية التي أولها في رأيه العين، وتنتهي بالمجموعة الشفوية التي ختمها بالميم، وتنظيم الكلمات حسب هذا المبدأ ظل متبعًا فترة من الزمن ثم عدل عنه. ثانيًا: نظمت الكلمات تبعًا لحروفها الأصلية فقط بقطع النظر عن الأحرف الزائدة فيها. وهذا المبدأ ظل متبعًا في كل مراحل تطور المعجم العربي من وقت الخليل إلى يومنا هذا. ثالثًا: إن تبويب الكلمات خضع لنظام الكمية. فمثلًا في باب العين الذي عالج فيه الكلمات المشتملة على حرف العين نجده قد سجل الكلمات حسب التقسيم الآتي: 1- الثنائي. 2- الثلاثي الصحيح. 3- الثلاثي المعتل. 4- اللفيف. 5- الرباعي. 6- الخماسي. 7- المعتل. أما الثنائي فقد قصد به الخليل ما اجتمع فيه حرفان من الحروف الصحيحة، ولو مع تكرار أحدهما في أي موضع فيشمل هذا كلمات قد، قد، قد قد فكلها تعالج في موضع واحد، وأراد بالثلاثي الصحيح ما اجتمع فيه ثلاثة حروف صحيحة على أن تكون من أصول الكلمة أما الثلاثي المعتل، فقصد به ما اجتمع فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 حرفان صحيحان وحرف واحد من حروف العلة، سواء كان حرف العلة في الأول أو الوسط أو الآخر وبعبارة أخرى يشمل هذا ما عرف عند الصرفيين بالمثال والأجوف والناقص. وأما بالنسبة للفيف فقصد به ما اجتمع فيه حرفا علة في أي موضع، فيشمل على هذا اللفيف المقرون والمفروق. ومن هنا نعلم أن اسطلاحات أصحاب المعاجم تخالف من بعض الوجوه اصطلاحات الصرفيين. وأما من حيث الرباعي والخماسي فلم يختلف فيه تعبير الفريقين. أما القسم الأخير وهو المعتل فقد أدخل فيه أصحاب المعاجم الذين اتبعوا طريقة الخليل -إجمالًا- الهمزة بحجة أنها قد تسهل إلى أحد الحروف المعتلة. رابعًا: عولجت الكلمة ومقلوباتها في موضع واحد فمثلًا نجد الكلمات: ع ب د، ع د ب، د ب ع، د ع ب، ب ع د، ب د ع كلها يمكن أن تعالج نظريًّا تحت عنوان واحد بقطع النظر عما نطقت به العرب منها فعلًا وعما لم تنطق به، فالنوع الأول سماه الخليل "مستعملًا"، والنوع الثاني سماه "مهملًا" ويعرف هذا التنظيم باسم "التقليبات"، ويمكن الرجوع إلى هذه المفردات مثلًا تحت حرف العين مجموعة "ع د ب"؛ لأن العين أسبق الجميع في الأبجدية الصوتية التي وضعها الجليل تليها الدال ثم الباء. وجميع من تبع نظام العين سار في التقليب على قاعدة وضع المفردات المأخوذة من أصل ثلاثي واحد تحت الحرف الذي هو أسبقها من حيث المخرج ما عدا ابن دريد الذي اتبع في تقليباته نظام وضع المفردات المتحدة الأصل تحت الحرف الذي هو أسبقها في الأبجدية العادية. فهنا مثلًا نجده وضع تلك المفردات الستة المذكورة سابقًا تحت مجموعة "ب د ع"، فهذا اختلاف فرعي يجعلنا نعتبر ابن دريد صاحب جمهرة اللغة أيضًا من المؤلفين الذين اتبعوا في ترتيبهم نظام كتاب العين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 اللغويون الذين ساروا على نهج الخليل في المشرق : لقد كان لتأليف كتاب العين صدى كبير بين العلماء اللغويين حتى إنهم حذوا حذوه في تأليف كتبهم على نسق كتاب أستاذهم الخليل، وبعض هذه الكتب أتت عليه يد الزمن، فلم يرد لنا منه إلا ما كان من تعليق، أو وصف موجز في ثنايا الكتب الأخرى. والبعض الآخر أمكن رغم صروف الدهر، ورغم الفتن الكبرى التي انتابت الإمبراطورية الإسلامية في مختلف عصورها، أمكن أن يصل إلى أيدينا، وإن كان أكثرها لا يزال مخطوطًا ينتظر دوره في التحقيق والطبع والنشر. أما أشهر الكتب التي تعتبر مفقودة فهو: 1- المدخل إلى العين وضعه تلميذ الخليل، النضر بن شميل المتوفى 203هـ. 2- التكملة للخزرجي المتوفى 348هـ. 3- الحواصل لأبي الأزهر البخاري المتوفى 350هـ. 4- الموعب للتياني المتوفى 433هـ. أما أهم المعاجم التي سارت على نظام العين، وبقيت حتى وصلت إلينا فمنها ما وضعه الشرقيون، ومنها ما ألف في الأندلس إبان ازدهار الحضارة الإسلامية في أسبانيا. أما معاجم المشرق فأهمها: الجمهرة لابن دريد، وتهذيب اللغة للأزهري. وأما معاجم المغرب فأهمها: البارع لأبي علي القالي، ومختصر العين لأبي بكر الزبيدي1، والمحكم لابن سيده.   1 بضم الزاي على صيغة التصغير، وهو خلاف الزبيدي "بفتح الزاي" صاحب تاج العروس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 أولًا- جمهرة ابن دريد: هذا هو ثاني معجم وصل إلينا بعد كتاب العين من المعاجم التي اتبعت نظام التقليبات. أما مؤلفه فهو محمد بن الحسين بن دريد البصري. وقد كان أبوه من أعيان التجار في مدينة البصرة. واستطاع أن يؤدب ولده بآداب العصر الذي عاش فيه، وابن دريد كالخليل من أصل عربي جنوبي -وكان ابن دريد مشهورًا بسعة الحفظ، وقوة الذاكرة، فقد روي عنه أنه كانت تقرأ عليه دواوين العرب فيحفظها من أول مرة1. كما قد أخبر هو عن نفسه بأن شيخه كلفه يومًا بحفظ معلقة الحارث بن حلزة حتى يرجع من غدائه، فلما رجع الشيخ وجد التلميذ قد حفظ الديوان بأجمعه. وقد أمكنه أن يستغل ذاكرته في ملء كتبه بالألفاظ الغريبة خصوصًا ما يعرف باسم النوادر، وقد ظهر هذا جليًّا في مؤلفيه "كتاب الاشتقاق وكتاب الملاحن". كتاب "الاشتقاق": اهتم ابن دريد في هذا الكتاب بعقد الصلة بين الاسم العلم، وبين ما يشابهه مادة من الصفات أو الأفعال. وقد أداه شغفه بالاشتقاق إلى أن يفترض أن الأعلام كلها منقولة، وأن لها دلالات أخرى بجانب دلالتها على مسمياتها. فمن أمثلة ذلك قوله2 "الحتات بن يزيد: حتات فعال من قولهم: حتتُّ الورق عن الشجر إذا نفضته، ويقال: فرس حتيت أي سريع".   1 بغية الوعاة ص31. 2 الاشتقاق ص148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 كتاب الملاهي: وهذا الكتاب له صلة بعلم الفقه إذا عقد فيه فصولًا كثيرة عما يعرفه الفقهاء باسم الحيل. فكان الرجل إذا حلف يمينًا ألا يفعل شيئًا معينًا وهو يريد أن يفعله، فإن ذلك الشيء الذي حلف عليه -وله معان كثيرة في نظر ابن دريد- يخرج الشخص من دائرة اللحن إذا ادعى أنه لم يقصد المعنى المتعارف بل قصد إلى معنى آخر من معاني ذلك اللفظ، والذي يعنينا هنا إنما هو معجم الجمهرة الذي سار فيه ابن دريد على الأسس الرئيسية التي بني عليها كتاب العين، إذ أنه التزم فيه من بين ما التزم التقسيم الكمي للكلمة، فشرح الثنائي فالثلاثى وهكذا كما أنه التزم أيضًا نظام التقليبات، فوضع كل الصيغ الست الممكن تفرعها من اجتماع ثلاثة أحرف في موضع واحد. وقد خالف ابن دريد الخليل في النظام الأبجدي فلم يتبع ترتيب الحروف بحسب مخارجها بل رتبها بحسب الترتيب العادي. فمثلًا المجموعة التي تتألف من حروف "د ع ف" نحو كلمة "قعذ وعقد" نجدها في كتاب العين تحت حرف "ع"؛ لأنها أسبق الثلاثة مخرجًا، ونجد أن الخليل وضع المجموعة كلها تحت الأصل "ع ق د"، أما ابن دريد فقد وضعها تحت حرف "د" إذ هو أسبق الثلاث في الأبجدية العادية. ونجد في العناوين الفرعية التي وضعها ابن دريد -كما كنا نتوقع- اختلافات، وتفصيلات حينما نقارن بين الجمهرة والعين، فمثلًا نجد ابن ديد رغم اتباعه طريقة النقليات قد أدخل بعض التعديل في ترتيب الثنائي، فهو لم يدمج كل الكلمات التي يدخل في تركيبها حرفان صحيحان فيضعها في موضع واحد. بل إنه فضل في ذلك فذكر الثنائي غير المضاعف وحده، ثم الثنائي المشدد الآخر أو ما يسميه الصرفيون بالثلاثي المضاعف مثل دق، ثم ذكر الثنائي الذي كرر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 فيه المقطع مرتين أو ما يسميه الصرفيون الرباعي المضاعف. أما في المعتل فإنه لم يفصل بينه وبين الصحيح كلية وكذلك لم يدمجه فيه كلية، فنجده قد عقد فصولًا خاصة في بعض الأحيان لما يعرف عنه الصرفيين بالأجوف كما أنه لم يلتزم طريقة واحدة بالنسبة لحرف الهمزة، فلم يعتبرها من حروف العلة كلية كما فعل متقدمو اللغويين، ولا من الحروف الصحيحة كلية كما فعل المتأخرون فمثلًا ذكر في باب الثنائي الأصول: أب، أت، أث، إلخ. وعندما جاوز الثنائي إلى غيره أغفل ذكر الهمزة كحرف صحيح. وكان ينبغي على ابن دريد -حيث اتبع نظام التقليبات أن يسير على ترتيب أبجدية الخليل الصوتية حيث إن نظام التقليبات مبني على أساس صوتي، إذ يعرف به المستعمل من المهمل بواسطة القوانين الصوتية التي يخضع لها تأليف الحروف في الكلمات العربية. ومن الغريب أن ابن دريد وضع بعض الكلمات المشتملة على تاء التأنيث تحت ما أصله الهاء مثل: حبة، عفة ولكنه ذكرهما أيضًا مع المجموعين ح ب، ع ف، ويقول المستشرق كرينكو الذي حقق الجمهرة: إن الدافع لابن دريد في ارتكاب هذا هو جهل الناس في عصره فلم يكونوا يستطيعون أن يفرقوا بسهولة بين ما فيه الهاء أصلية وبين ما فيه زائدة للتأنيث، فتعمد وضع الكلمة وشرحها في كلا الموضعين أو أحدهما، ولكنا لا نرى هذا سببًا معقولًا لذلك التجاوز، والانحراف عن عرف اللغويين، ولا يمكن أن يتخذ جهل الناس وسيلة لارتكاب مثل هذا الخطأ. كما أن ابن دريد جاوز المألوف أيضًا حين ذكر كلمة تبوأ، وما تفرغ منها مثل يتبوأ تحت المجموعة "ب ت + وا ي" مع الكلمات التوب والأبت والبيت. وقد يكون الدافع لهذا الخلط في هذا الموضوع هو ما سبق أن ذكر مع هاء التأنيث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 وإذا قبلنا منه هذا العذر فعلى أنه تطبيق عملي لمبدئه الذي ذكره في المقدمة من أنه سوف لا يلتزم حرفيًّا ترتيب الخليل حتى يمكن للجمهرة من الناس أن ينتفضوا بكتابه1. أما من ناحية الاشتقاق فنرى ابن دريد قد تعسف أحيانًا في توضيح معاني بعض الكلمات من حيث اشتقاقها، وعلى الأخص في أسماء الأعلام المنقولة التي حاول أن يربط بينها وبين وما نقلت عنه، ولو اضطر إلى التعقيد أحيانًا، ولكنها لا تبلغ مبلغ منهجه في كتاب الاشتقاق. وهذه الهنات وأمثالها في الجمهرة قد جعلت ابن جني يرى ابن دريد بأنه لم يكن دقيقًا في الاشتقاق اللغوي، ورأى ابن جني2 فيه أنه قد ارتكب أخطاء كبيرة في الاشتقاق، وأن ابن جني عندما وقعت له إحدى نسخ الجمهرة أراد أن يكتب عليها بعض التعليقات، ولكن كثرة الأخطاء التي لاحظها جعلته يستحيي أن يذكرها لأحد؛ لأن ابن دريد قبل كل شيء في نظر ابن جني لم يكن له دراية كاملة بعلم الصرف الذي هو أساس الاشتقاق، وبالتالي أساس تأليف المعاجم. وهذا بالطبع مبالغة كبيرة من ابن جني في حق الجمهرة. ومهما بلغ رأي ابن جني فيه من الصواب، فإن ابن دريد لم يكن ليخلق الكلمات اختلافًا، أو يصنعها صنعًا كما نعته بذلك معاصره الأزهري في تهذيب اللغة إذ قال عنه3: "وممن رمى بافتعال العربية في زماننا ابن دريد". وفي آخر الجمهرة نجد بابًا عقده المؤلف لما سماه النوادر، وقد قسمه إلى أبواب بحسب الصيغة كما فعل ابن السكيت في "إصلاح النطق"، وهنا لم يراع ابن   1 مقدمة الجمهرة ص3. 2 الخصائص ص170. 3 مقدمة التهذيب "مخطوطة". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 دريد ترتيبًا أبجديًا في ذكر مفرداته وإن المنقب عن كلمة ق لا يجيد طلبته إلا بسد أن يقرأ معظم الفصل إن لم يكن كله. وإفراد هذه الفصول تحت باب النوادر جمل ابن دريد يقع التكرار فمثلًا ذكر في النوادر كلمة "وشن1" وقال عنها "ويقال الكلب إذا أدخل رأسه في الإناء وشن برشن" وهذا يقترب مما ذكره في سلب الكتاب في مادة "وش ن" حيث قال "ويقال رشن الكلب في الإناء إذا أدخل رأسه فيه3". وتحت العنوان "صيغة فعلة" ذكر كلمة "رجل لمبة" على حين أنه قد ذكرها سابقًا في سلب الكتاب تحت مادة "لعب" ضمن المجموعة ب ل ع. وقد اختتم ابن دريد الفصل الذي فقده للنوادر بذكر موضوعات مختلفة مثل السهام والشجر والنساء. ويظهر أن باب النوادر برمته كان قطعة من كتاب مستقل لابن دريد ثم أضيف بفعل الرواة إلى الجمهرة على أنهما كتاب واحد. والذي يساعد على هذا أن ابن دريد لم يذكر في مقدمة الجمهرة أنه سيفرد أنواعًا خاصة من الكلمات ليعقد لها بابا أو أبوابا مستقلة في آخر الكتاب، وأياما كان فإن ابن دريد قد خطأ خطوة كبرى في ترتيبه حين ترك المبدأ الصوتي لمبتدأ الأبجدية العادية. وإن كان نظام التقليبات إنما يخدم نظرية المهمل والمستعمل من الألفاظ، تلك النظرية المبنية على قوانين صوتية كما أسلفنا، فلم يكن مناسبًا أن يجمع ابن دريد بين النظاميين، ولكنها على كل حال خطوات إلى الأمام إذ لفتت أنظار اللغويين فيما بعد إلى الترتيب الأبجدي العادي   1 الجمهرة ج3 ص471. 2 الجمهرة ج2 ص349. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وكثيرًا ما نلحفظ التشابه الكامل بين أسلوب ابن دريد في شرح الكلمات وبين أسلوب الخليل. وكذلك الحال بالنسبة للشواهد، فالأبيات هي هي مكررة في الكتابين. وهذه ظاهرة عامة في كل كتب اللغة حيث يعتمد بعضها على بعض، ولكنا نلحظ أن ابن دريد كان أمينًا حين صرح بأنه اعتمد كثيرًا على كتاب العين، وهذا ما يجعلنا نستبعد اتهام نفطويه صديق الأزهري حين طعن على ابن دريد، ورماه بأنه سرق كتاب العين مغيرًا ترتيبه1 تحت عنوان جديد، إذ أن هذا ينطبق أيضًا إلى حد ما على اللسان، والقاموس وغيرهما من كبريات المعاجم.   1 ذكر السيوطي في المزهر ص58 و 58" وقال الأزهري: وقد سألت عنه "يقصد ابن دريد" إبراهيم عرفه يعني نفطويه، فلم يعبأ به ولم يوثقه في روايته، قلت: "أي السيوطي" معاذ الله، هو بريء مما رمي به ومن طالع الجمهرة رأى تحريه في روايته. ولا يقبل طعن نفطويه فيه؛ لأنه كان بينهما منافرة. قال ابن دريد يهجوه: أحرقه الله بنصف اسمه ... وصير الباقي صراخًا عليه وهجا نفطويه ابن دريد بقوله: ويدعي من حمقه ... وضع كتاب الجمهرة وهو كتاب العين إلا ... أنه قد غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ثانيًا- تهذيب الأزهري: هذا هو ثالث المعاجم التي اتخذت التقليب كأساس في ترتيب المفردات، أو بعبارة أخرى اتبعت ترتيب الخليل. وهو تهذيب اللغة لأبي منصور الأزهري المتوفى سنة 370 هجرية. والأزهري معدود من بين اللغويين الذين اعتمد عليهم المتأخرون في تأليف معاجمهم، وعلى الأخص ابن منظور في لسان العرب. وقد تمتع الأزهري بشهرة كبيرة في علوم اللغة والفقه، وكان يميل إلى المذهب الشيعي الذي لم يكن يستطيع أن يتخلص منه حتى في مؤلفاته اللغوية، وقد تعلم على أيدي أساتذة مشهورين أمثال المنذري، ونفطويه وهذا الأخير قد أورثه خصومة ابن دريد ومهاجمته، وعند رحيل الأزهري إلى بغداد شأن كل العلماء في عصره قابل ابن دريد، وابن السراج وقد ذكرت كتب الطبقات1 أنه رغم مقابلته لهما لم يرو عنهما، ولكن كتابه التهذيب ينكر هذا. فنجد بين طيات الكتاب اقتباسات كثيرة عن ابن دريد، وابن السراج لا تقل عن اقتباساته عن غيرهما من اللغويين. ولكن الأخذ عن الرواة السابقين لم يكن بدعًا من الأزهري في ذلك الوقت، فقد كان طابع العصر كله، ومن اللغويين من أتيحت له فرصة السماع من العرب فسجل ما سمع في كتبه، وكان للأزهري من هذا حظ كبير عندما وقع أسيرًا في أيدي القرامطة. فسنحت له الفرصة بالاختلاط بالبدو، والعرب الخلص الذين كانوا يتكلمون كما يخبرنا هو بالعربية الفصحى.   1 ابن خلكان ج1 ص448. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ولنستمع إلى الأزهري يخبرنا أنباء رحلته حيث أسره القرامطة مدة طويلة. "وكان القوم الذين وقعت في سهمهم عربًا نشأوا في البادية يتتبعون ساقط الغيث أيام النجع، ويرجعون إلى أعداد المياه في محاضرهم زمان القيظ، ويرعون النعم ويعيشون بألبانها، ويتكلمون بطبائعهم البدوية، ولا يكاد يوحد في منطقهم لحن أو خطأ فاحش، فبقيت في أسرهم دهرًا طويلًا، وكنا نشتي بالدهناء، ونرتبع بالصمان، واستفدت من محاورتهم ومخاطبة بعضهم بعضًا". ولعل رسوخ قدم الأزهري في علوم الفقه بجانب علوم اللغة هو الذي دفعه إلى تأليف كتاب "مصطلحات الفقهاء" شرح فيه من الناحية اللغوية بعض الاصطلاحات الفقهية التي كانت مستعملة إلى عصره، واهتم بإيضاح الصلة بين المعنى الفقهي، والمعنى اللغوي لهذه المصطلحات. أما عقيدته الشيعية ومناصرته لأهل البيت، فقد سجلها في التهذيب في أكثر من موضع فمثلًا في المادة "جعجع" تحت المجموعة ع ج نجد أنه في شرحه لهذه الكلمة قد حمل على منافس العلويين في عبارته إذ قال: "كتب عبد الله بن زياد اللعين إلى عمرو بن سعيد أن جعجع بالحسين". وكتاب التهذيب لا يزال مخطوطًا ونسخه متفرقة ما بين لندن والقاهرة واستانبول، والحجاز وقد نشر قطعة صغيرة منه المستشرق زوترستين1 وقد اعتمد فيما نشره على نسخة استانبول وهذا القسم يحتوي على تصدير موجز للناشر، ومقدمة مطولة للأزهري استعرض فيها بإيجاز تاريخ، وتراجم اللغويين من   1 La Monde oriental, xiv. p. 45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 بصريين وكوفيين منذ أبي الأسود إلى عصره. وفي آخر المقدمة عندما أراد أن يوضح طريقته التي سيسير عليها في تنظيم الكلمات في التهذيب أخبرنا أنه لم يجد أصوب، ولا أوفى من مقدمة العين التي وضعها الخليل، ولذلك سيعتمد هو عليها، وينقلها بين يدي كتابه. والجزء الذي من صلب التهذيب ونشر يبدأ في أول حرف العين إلى المجموعة "ع ث" يعني الأصلين "عث وثع". ويجد أن الناشر كان مشغوفًا إلى حد كبير بالبراعة التي أظهرها الأزهري في كتابة، وبسعة إطلاعه وكثرة المواد فيه، الأمر الذي جعله عمدة ومرجعًا هامًّا لكتاب اللسان. ولتسلط هذه الفكرة على الناشر أثبت في هوامش التهذيب أرقام الصفحات المقابلة من لسان العرب التي فيها اقتباس الأخير عن الأول دون التصريح بالنقل حتى يرينا إلى أي حد اعمد ابن منظور على الأزهري في كتابه، وبالتالي فقد كان اللسان عمدة لما ظهر بعده من الكتب. وإذا أراد الناشر أن يقنعنا بأن التهذيب هو بهذه الطريقة للصدر الأول للمعاجم المتأخرة، فإننا بنفس الطريقة يمكن أن نرجع أغلب ما في التهذيب إلى كتاب العين لاتفاقهما في كثير من التعبيرات فضلًا عن تنظيم الكلمات، وتبويب الأبواب الأمر الذي يجعلنا نقول: إن العين هو الأصل لكل ما أتى بعده من المعاجم. وإذا قارنا التهذيب بالعين فنجد أنهما يتفقان في نظام التقليبات، ومراعاة الأبجدية الصوتية، وتقسيم الكلمات بحسب الكلمة من الثنائي إلى الخماسي، ويزيد الأزهري على الخليل بالإكثار من الروايات والنقل عن اللغويين. وهذا الأمر طبيعي حيث تأخر الزمن بالأزهري مما حتم عليه النقل عن الأقدمين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 وكنا قد توقعنا أن يكون أغلب كتاب الأزهري من حيث ذكر المفردات، وشرحها منقولًا عن أفواه العرب الذين شافههم أثناء مدة أسره، ولكنه نادرًا ما فعل ذلك حتى إن تعبيره الذي يستشف منه النقل المباشر عن البدو، وهو "قالت العرب": هذا التعبير موجود بكثرة حتى في كتب اللغة المتأخرة مما لا يدل دلالة على قاطعة على أن المقصود هو مشاقة الأعراب للنقل عنهم. ومهما يكن من أمر فإن التهذيب يعد ضمن المصادر اللغوية للمعاجم المتأخرة. وإننا ليسترعينا في كتاب التهذيب طريقة نقله من العين، فقد وعد الأزهري في المقدمة أنه سوف لا ينقل عن الليث الذي ألف -في رأيه- كتاب العين ونحله للخليل. إلا أنه اعتمد أولًا على كتاب العين دون أن يصرح بذكر اسم الكتاب، أو اسم المؤلف حتى التعبيرات التي رواها عن علماء آخرين متأخرين عن الخليل تتفق في أكثر الأحيان مع تعبير كتاب العين. كما أن الأزهري أيضًا ناقض نفسه حين ذكر في المقدمة أنه سوف لا ينقل من الليث في العين، ولا عن ابن دريد في الجمهرة إلا للرد عليهما ومناقشتهما. وبالرجوع للتهذيب نجد أنه قد نقل عنهما وصرح بذكرهما تحت تعبير "قال الليث، قال ابن دريد" شأنهما في ذلك شأن غيرهما من الرواة الذين اعتمد عليهم الأزهري، وعدهم من الثقاة كأبي عبيدة واللحياني. وهذه المسألة أيضًا اتبعها مع الخزرنجى الذي ذكره في مقدمة التهذيب، وأطال الكلام عنه ووصفه بأنه ليس ثقة ولا ثبتًا في حين أن الأزهري اقتبس كثيرًا من كتاب الخزرنجي "تكملة العين" إذ ينقل عنه كثيرًا جدًّا في أول كل مادة خصوصًا المواد النادرة الاستعمال التي تصل في ندرتها إلى درجة المهمل. وعلى العموم، فإن الأزهري رغم حملته على أكثر معاصريه من اللغويين، فإنه قد حفظ لنا بقدر الإمكان صورة عن تنظيم هذا الكتاب، وتبويبها واستطعنا أن نعرف شيئًا عنها رغم ضياعها. ولندع الأزهري الآن حتى تعود إليه مرة أخرى لننتصف منه للغويين الذين هاجمهم، وتعصب ضدهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 المعاجم التي اتبعت نظام العين في المغرب : إن طريقة الخليل لم يقتصر صداها في الانتشار في المشرق بل وجدت طريقها إلى المغرب أيضًا. تذكر لنا كتب الطبقات أن أول من أحضر نسخة من العين إلى الأندلس هو قاسم بن ثابت ووالده1. وأهم اللغويين الذين ألغوا معاجمهم على تلك الطريقة في المغرب: -القالي. الزبيدي. ابن سيده. أولًا: البارع لأبي علي القالي: هذا هو أول معجم ظهر في الأندلس، ومؤلفه هو أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي الذي اضطرته ظروف الحياة القاسية أن يهاجر من بغداد إلى الأندلس، وكان قبل ذلك قد ترك مسقط رأسه في أرمينيا إلى بغداد طلبًا للعلم والمعرفة عام 303 هجرية، وفي ذلك الوقت كانت سنة خمسة عشر عامًا حيث تصاحب في بغداد مع جماعة من بلدة تسمى "قالي قلا"، وإليها نسب وكان من أشهر شيوخه ابن دريد. وقد مكث ببغداد خمسة وعشرين عامًا ثم رحل عنها في عام ص328، ويذكر لنا السيوطي أن الحاجة بلغت به مبلغًا شديدًا إذا اضطر إلى بيع أثمن كنز كان يقتنيه، وهو كتاب الجمهرة بخط أستاذه ابن دريد بمبلغ أربعين دينارًا، وكان قد قدم إليها فيها قبل ذلك ثلاثمائة مثقال فرفض2. وعندما وصل إلى الأندلس واتصل بالخليفة عبد الرحمن، وابنه الحكم عرف هناك باسم البغدادي بدلًا من القالي. أما كتابه البارع فيكفينا ثناء عليه قول تلميذه أبي بكر الزبيدي "أنه قاموس واسع قد شمل اللغات كلها" يقصد اللهجات. وذكر الزبيدي أيضًا أن   1 البغية ص210، الإنباء ص226. 2 المزهر ص58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 البارع فاق كتاب العين بأربعمائة ورقة كما أن القالي ذكر فيه بعض أصول أوضح أنها مستعملة، وكان الخليل في العين قد ذكر أنها مهمله. ومن العلماء المتأخرين الذين أثنوا على البارع السيوطي حيث قال: "إن من أصح القواميس التي رأيتها بارع القالي وموهب القيانى. ولكن اللغويين المتأخرين لم يميلوا إلى استعمالهما وتركوهما إلى محكم ابن سيده، وصحاح الجوهري". وممن التبس عليهم الأمر في شأن البارع حاجي خليفة في كشف الظنون إذ ذكر أن من بين مؤلفات القالي كتاب "البارع في غريب الحديث"، وقد أدى هذا الالتباس أن يشتبه الأمر على دائرة المعارف الإسلامية، فذكرت تحت موضوع "القالي" أن من بين مؤلفاته كتاب البارع في غريب الحديث: وزادت دائرة المعارف على هذا أن ذكرت أن هذه المخطوطة موجود بعضها في المكتبة الأهلية في باريس تحت رقم 4235. ولكن الواقع يخالف هذا؛ لأن هذه المخطوطة عينها قد صورت هي وقسم آخرمن البارع عثر عليه في المتحف البريطاني، وأخرجهما معًا في صورة كتاب المستشرق، فولتون أمين المكتبة الشرقية بالمتحف عام 1931م، ونستخلص من هذا أن القالي له كتاب واحد يحمل اسم البارع، ولكن ولوع صاحب كشف الظنون بكثرة تعداد الكتب أداه إلى أن يجعل هذا العنوان اسمًا لكتابين مختلفين، والواقع أيضًا أن الاسم الكامل للكتاب هو البارع في غريب اللغة العربية. ولا يفوتنا قبل أن تترك القالي أن ننبه على أنه كان أستاذًا لأبي بكر الزبيدي الذي ألف مختصر العين، ويظهر أن بعض أصحاب الطبقات قد غفل عن هذا، فذكر ما يفيد خلاف ذلك1.   1 ذكر صديق خان في كتابه البلغة ص109 ما يأتي: روى أبو الوفا أن الزبيدي قد أخل بكتاب السين حين حذف الشواهد النافعة في مختصره، ولما رأى القالي ذلك من الزبيدي؟؟؟؟ كتابه البارع فذكر فيه ما في العين وزياده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 أما ترتيب المفردات في البارع فهو على وجه الإجمال كترتيب العين مع مراعاة التقليبات، والأبجدية الصوتية، وتقسيم الكلمات من حيث الكمية إلى ثنائي وثلاثي، ورباعي وخماسي. ولكن ترتيب الأبجدية الصوتية عند القالي لا يتفق تمامًا مع أبجدية الخليل، ولكن يختلف عنها اختلافًا قليلًا. وبمقارنة الترتيبين هكذا يمكن معرفة مدى ارتباطهما. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 وإذا اتخذنا ترتيب الخليل كأساس فإننا نجد: أولًا: الأبجدية مقسمة إلى مجموعات صوتية متحدة في كل. ثانيًا: يختلف ترتيب الحروف في بعض المجموعات الأولى منها الهاء مكان العين، والمجموعة الثالثة فيها الترتيب مختلف، إلى السابعة. ثالثًا: ترتيب المجموعات بعضها بالنسبة إلى البعض الآخر فيه بعض الاختلاف، فمثلًا من المجموعة الرابعة إلى السابعة نجد هناك تبادلًا في أمكنة هذه المجموعات، ومن جهة أخرى نجد أن القالي التزم بعض التفصيلات التي أجملها الخليل. ومن هذه الأمور التي خالف فيها البارع كتاب العين ما يلي: أ- عبر القالي عما سماه الخليل بالثنائي بقوله: "باب الثنائي في الخط والثلاثي في الحقيقة"، ولكنه أدمج فيه ما سماه الصرفيون الرباعي المضاعف مثل زلزل. وتعبير الخليل هنا أدق؛ لأنه يشمل هذا النوع أيضًا. ب- يلي ذلك باب الثلاثي الصحيح. وهذا لم يختلف فيه اللغويون كثيرًا. ج- الثلاثي المعتل ولم يقصد به القالي ما فيه حرف علة واحد كما فعل الخليل، والأزهري قبله وكما فعل الزبيدي، وابن سيده بعده حيث أفردوا المعتل بحرف واحد في باب خاص، ثم ذكروا ما فيه حرفا علة وحرف واحد صحيح في باب آخر سموه اللفيف. ولكن القالي أدمج النوعين في باب واحد تحت اسم الثلاثي المعتل. رابعًا: انفرد القالي بذكر نوع جديد أسماء "الأوشاب" ذكر فيه أسماء الأصوات، ومحاكاة الطيور والحيوانات، واتبع في الترتيب الفرعي لهذا القسم أن يذكر الكلمات تحت عناوين الثنائي، والثلاثي والرباعي. ولم نعثر في الجزء المصور من البارع على ذكر اسم خماسي في باب الأوشاب. ولسنا ندري إذا كان القالي قد اقتصر على الرباعي فقط في كل الكتاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 أم ذكر بعض الأسماء الخماسية في مواضع أخرى من الكتاب مما لم يصل إلينا. خامسًا: أما الرباعي والخماسي فقد اتبع فيها على وجه الإجمال ما اتبعه في ذلك غيره من اللغويين الذين ساروا على نهج الخليل. ومما يؤخذ على البارع كغيره من المعاجم أنه قد يذكر الكلمة مرتين. كذلك أكثر فيه المؤلف من ذكر أشياء عديدة على سبيل الاستطراد، فمثلًا عند ذكره لكلمة "دأماء" التي فسرها بأنها حجر اليربوع، نجده قد ذكر سبعة1 مترادفات أخرى لتلك الكلمة، وفسر كل مترادف وذكر ما قيل بمناسبته من الشعر مما استغرق قدرًا كبيرًا من الكتاب على حين كان الواجب أن يقتصر في كل حرف على ذكر الكلمة التي وردت في ذلك الحرف فقط، ولكن يظهر أن شخصية الأديب في القالي كانت تطغى على الشخصية اللغوية مما يضطره إلى الإطناب، والاستطراد كما كان يفعل في كتاب "الأمالي"، وإن اختلفت موضوعات الكتابين اختلافًا كليًّا.   1 البارع ص142-143. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 ثانيًا: مختصر العين للزبيدي: كان من بين تلاميذ القالي النابغين أبو بكر محمد بن الحسن الزبيدي الذي كان له حظ في أن يكون مؤدبًا لولد الخليفة الحكم المستنصر بالله وولي عهده هشام. وعندما أصبح هذا الأمير خليفة اختير الزبيدي لتولي منصب القضاء، فعين قاضي قرطبة. ثم وافته منيته عام 379هـ. ولقد كان للزبيدي باع طويل في العلوم الأدبية، وكان له إلى جانب ذلك قصائد من الشعر تخلو عن تعمل الفقهاء، واللغويين1 وإن وفاءه لأستاذه القالي ليظهر واضحًا في وصفه للأمالي التي قال فيها: "ولا نعلم أحدًا من اللغويين ألف مثله". ومن كتب الزبيدي التي لها اتصال بالبحوث اللغوية كتاب "لحن العامة"، ولكنه لم يصل إلينا. أما كتبه الأخرى فيعنينا منها بجانب مختصر العين كتابان هما "طبقات اللغويين"، وكتاب "الاستدراك على أبنية سيبويه". كتاب الطبقات: جمع فيه تراجم قصيرة لكل من تقدمه من النحويين واللغويين، وقسمهم إلى مجموعات تشمل البصريين، والكوفيين والمصريين من اللغويين، وكان في استعراضه لكل مجموعة يذكرهم حسب ترتيب الأجيال الزمنية، ويسمى كل جيل من هؤلاء طبقة وقد طبع هذا الكتاب.   1 فمن ذلك قوله: ويحك يا سلم لا تراعي ... لا بد للعين من زماع لا تحسبيني صبرت إلا ... كصبر ميت على النزاع ما خلق الله من عذاب ... أشد من وقفة الوداع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 ويرى بعض المستشرقين أن النسخة التي بين أيدينا الآن هي اختصار لنسخة أخرى عملها الزبيدي أيضًا، وكانت أكبر حجمًا وأوفى بيانات من النسخة الحالية، وإذا صح هذا فيمكننا أن نهتدي إلى شيء من رأي الزبيدي في كتاب العين على ضوء هذه النظرية. فقد ذكر لنا الزبيدي -في النسخة المطبوعة- أن الخليل كان رأس المدرسة البصرية، وأنه كان أعظم اللغويين في عصره ولكنه لم يشر بشيء إلى؟؟؟ الخليل بكتاب العين. وربما يكون قد ذكر رأيه في الأصل المطول لكتابه الطبقات، واكتفى من ذكر رأيه في النسخة المختصرة: ببيان هذا الرأي في مقدمة مختصر العين الذي يمكن أن نوجزه1 في أن الخليل وسع أصل الكتاب، ثم خشاه بعد وفاته قوم آخرون. كتاب الاستدراك على أبنية سيبويه: وموضوع هذا الكتاب تعليقات على ما ذكره سيبويه في باب أبنية الأسماء في "الكتاب"، وقد أبدى الزبيدي ملاحظاته على هذه الأبنية من نواح عدة وسارت خطته فيها على مبدأين أساسيين: 1- لم يوافق سيبويه في العدد، بل زاد عليه أو نقص منه أحيانًا، فعندما يذكر سيبويه مثلًا أن النون تزاد في عشرة أبنية يبين الزبيدي أنه عثر على أبنية أخرى مما يرتفع بالعدد إلى اثني عشر بناء وهكذا. ويذكر الزيادة؟؟؟ عنوان فرعي يعبر عنه بقوله: "ومما يستدرك عليه" ولعل اسم الكتاب قد أخذ من هذا التعبير. 2- يأخذ في شرح المفردات الغريبة تحت عنوان "غريب الباب"، وهنا لا نجد الزبيدي يلتزم في شرحه للمفردات المنهج الذي وضعه لنفسه في كتاب   1 سيأتي تفصيل هذا الرأي عند مناقشة آراء اللغويين في كتاب العين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 "مختصر العين" بل إنه قد افترق عنه، فأفسح لنفسه المجال هنا بأن شرح المفردات في شيء من الاسهاب كما نقل عن الرواة السابقين الذين يصرح بذكرهم في أغلب الأحيان، ولم يفته أن يحتج بالشواهد المألوف الاحتجاج بها لدى أصحاب المعاجم، وهذا مما يثبت أن عدم ذكره الشواهد في مختصر العين كان لغرض خاص. كتاب مختصر العين: وهذا هو المعجم الثاني الذي شهدته الأندلس العربية، ولقد اهتم به العلماء المتأخرون، وأثنوا عليه ويحسن أن نقتبس هنا طائفة من آراء العلماء في هذا الكتاب: أ- ذكر ابن خلدون أن الخليل1 كان أول من فكر من اللغويين العرب في وضع معجم أبجدي، وسماه العين وقد وضعه مفصلًا مطولًا، وقد اختصره الزبيدي بطريقة بديعة حيث حذف ما يستغنى عنه مبقيًا على روح الكتاب وأصله. ب- ذكر بروكلمان وكذلك دائرة المعارف الإسلامية عند الكلام على الخليل أن كتاب العين يعتبر في حكم المفقود، ولكنهما وجدا أن هذا موضع مناسب لذكر أفضل كتاب يقوم مقام العين، فذكرا اسم مختصر العين للزبيدي وأخذا يسردان الأماكن التي توجد فيها مخطوطة المختصر وأرقامها. كأنهما اقتنعا بأن المختصر يمثل العين أصدق تمثيل.   1 المقدمة ص459. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ج- ياقوت: فقد ذكر في كتابه معجم الأدباء عند ترجمته للزبيدي مبينًا علاقة المختصر بكتاب العين: "إن الزبيدي قد أتمه باختصاره" يعني بذلك كما وضح هو أن الزبيدي حذف من العين ما ليس مهما، وأضاف إليه ما لا بد منه، ورتب بعض الكلمات في مواضعها الأصلية، واستشهد ياقوت على رأيه برأي مماثل نقله من الحميدي في كتاب "أخبار الأندلس": د- حاجي خليفة: فقد ذكر في كشف الظنون عند الكلام على "العين" أن الزبيدي قد اختصره، وحذف منه الكلمات المصحفة، والشواهد المختلفة ووضع الأصول في مواضعها. وصاحب الكشف في هذا إنما ينقل ما اقتبسه عن كتب الطبقات. كما يتضح هذا بمقارنة رأيه برأي ياقوت السابق. هـ- السيوطي: فقد نقل في المزهر عن أبي ذر الخشني أن من بين المختصرات التي فاقت أصولها مختصر ابن هشام لسيرة ابن إسحاق، ومختصر الزبيدي للعين. واستطرد الأسيوطي فقال: إن الناس قد عكفوا على قراءة المختصر، وفضلوه على العين ذاكرًا لتلك جملة أسباب منها: 1- أنه حذف منه الكلمات المصحفة والأبنية المختلة. 2- لأنه حذف منه الشواهد. 3 لأنه أصغر حجمًا ويظهر أن السيوطي في هذا يميل إلى رأي ابن خلدون من أن الاختصار مما يعين الناس في ذلك الوقت على الحفظ عن ظهر قلب. ولكن السيوطي من ناحية أخرى نراه لم يجزم برأي في هذه المسألة بل نقل فيما بعد عن بعض العلماء أن الزبيدي قد أخل بكتاب العين حين حذف الشواهد النافعة، والآيات والأحاديث المشتملة على الحجج اللغوية المفيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 منهج الزبيدي في مختصر العين: يمكن تلخيص هذا المنهج من مقدمة المختصر نفسه فيما يأتي: يبدو لنا أن الزبيدي لم يدع أن كتابه يفوق كتاب العين من أي وجه، كما فعل من سبقه إذ توحي تسميتهم للمؤلفات التي ألفوها في اللغة أنها تفوق كتاب العين من وجه، أو آخر فهذا الأزهري يسمي كتابه "التهذيب"، وهذا القالي يسمي معجمه "البارع"، فنجد الزبيدي لا ينتحل لكتابه اسمًا فيه إظهار لشيء من التفوق بل يسميه بكل بساطة "مختصر العين" حيث إنه يتفق من أغلب الوجوج كما اتفق ما سبقه من المعاجم مع كتاب العين في الترتيب الإجمالي بل، وفي التعبير عن شرح المفردات. ومن جهة أخرى ترى أن الزبيدي كعالم لغوي قد تحمل مسئولية كل ما جاء في معجمه من تعريفات، وشروح للمفردات فلم يكن بحاجة إلى ذكر أسماء الرواة يستند إليهم كلما أعوزت الحاجة. كما فعل غيره ولكن الاختصار قد حمله على حذف الشواهد كلية. وقد كان من المستحسن أن يقتصر الحذف على بعضها فقط. ومن ناحية ثالثة نجد أن الزبيدي قد وفى ببعض ما تعهده به في مقدمته من أنه سيذكر الأصول في مواضعها الحقيقة، فنجد مثلًا في كتاب العين تحت المجموعة "ع هـ ق" أن الخليل ذكر لها مادتين مستعملتين فقد هما: هقع، عهق. وكان المنطق يقتضي ذكر مادة عهق أولًا باعتبارها مبدوءة بحرف العين، ثم يعقبها بذكر المادة الأخرى هقع باعتبارها مقلوبة عنها، ولكن الزبيدي كان أدق حين راعى في الاعتبار أن يرتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 المواد المستعملة ترتيبًا منطقيًّا يتفق مع الباب الذي تعالج فيه الكلمة. وفيما عدا هذا فإن الزبيدي لم يتصرف كثيرًا في شرح المفردات بل إننا لنجد كثيرًا من تعبيرات الخليل بنصها مذكورة في مختصر العين، وليس للزبيدي بدعًا في ذلك؛ بل قد شاركه في هذا أصحاب المعاجم الأخرى كما سيأتي بيانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ثالثًا: محكم ابن سيده: شهد القرن الخامس الهجري أشهر علماء اللغة في الأندلس، وهو ابن سيدة فقد كان يعد بحق معجزة عصره إذا عرفنا أنه على معارفة الواسعة، وعقليته المنظمة كان محرومًا من نعمة البصر، وقد تلقى علوم اللغة والدين على والده الذي تتلمذ على الزبيدي الذي عرفنا أنه تلميذ القالي، فابن سيده على هذا قد أخذ اللغة كابرًا عن كابر. ومع أن الطبيعة حرمته من البصر فقد عوضته بذاكرة قوية جدًّا. فقد ذكر الرواة أنه كان أقدر على الاستيعاب. والحفظ حتى من ابن دريد فقد ذكر الطلنكي1 قوله: "دخلت مرسية فتشبث بي أهلها يسمعون على غريب المصنف، فقلت لهم: انظروا إلى من يقرأ لكم، وأمسك أنا كتابي، فأتوني برجل أعمى يعرف بابن سيده فقرأه علي من أوله إلى آخره فتعجبت من حفظه، وكان له في الشعر حفظ وتصرف". هذا ولم يرد إلينا من كتب ابن سيدة المتعددة غير معجمين أحدهما يسير على نظام الموضوعات، وترتيب الأشياء المتشابهة من حيث المعنى تحت باب واحد، وهو المخصص وقد طبع في بولاق سنة 1316 هجرية، والثاني معجم أبجدي على نظام كتاب العين، واسمه المحكم ولا يزال مخطوطًا نتفرق أجزاؤه بين لندن والقاهرة واستانبول. مخصص: ذكر ابن سيدة منهجه في هذا الكتاب، والغرض منه في مقدمة مطولة قال فيها:   1 ابن خلكان ج1 ص431. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 "لما وضعت كتابي الموسوم بالحكم مجنسًا لأدل الباحث على مظنة الكلمة المطلوبة أردت أن أعدل به كتابًا أضعه مبوبًا حين رأيت ذلك أجدى على الفصيح المدره، والخطيب المصقع، والشاعر المجيد المدقع. وفي موضع آخر يقول: ومن طريف ما أودعته إياه بالاستقصاء الممدود والمقصور، والتأنيث والتذكير، وما يجيء من الأسماء والأفعال على بناءين أو ثلاثة فصاعدا، وما يبدل من حروف الجر بعضها مكان بعض إلخ". المحكم: هذا هو المعجم الثاني لابن سيده والثالث في الأندلس، والخامس والأخير من المعاجم الكبرى التي التزمت طريقة الخليل. ورغم ظهور كتاب الصحاح في القرن الرابع ذلك الكتاب الذي سار على الأبجدية العادية مع طرح نظام التقليبات، وترتيب الكلمات حسب أواخرها، ورغم ظهور المجمل لابن فارس الذي سار فيه على الأبجدية العاتدية إلى حد ما تاركًا الأبجدية الصوتية، ونظام التقليبات، فإننا نجد ابن سيدة قد التزم تطريقة سلفية في المغرب، القالي والزبيدي. ولسنا نميل إلى الرأي القائل بأن الصحاح، أو المجمل لم يكونا قد وجدا طريقهما إلى الأندلس في عصر ابن سيده إذ إن التنافس العلمي بين المشرق، والمغرب قد حمل الأندلسيين على اقتناء كثير من الكتاب المشرقية للانتفاع بها ومحاكاتها. ولكن يظهر أن ابن سيده رأى أن يلتزم طريقة العين، ولا يعدل إلى الأبجدية العادية إذ الثانية من السهولة يدرجة أنه لا ينبغي للمتضلعين في اللغة أن يؤلفوا على أساسها في نظره. وكتاب المحكم يفوق من حيث الكمية، والقيمة اللغوية كل ما تقدمه من الكتب، وقد ذكره صاحبا اللسان، والقاموس أول المراجع التي اعتمدا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 عليها في تأليف معجميها. كما ذكرا أيضًا كتاب التهذيب للأزهري. وبهذه المناسبة نود أن نذكر أنهما لم يغفلا ذكر كتاب العين كمرجع أصلي لهما إلا؛ لأنهما لم يستطيعا الحصول على نسخة منه. بدليل أنهما قد نقلا الكثير عن الخليل كما سيأتي ذلك. ولعل من الأشياء التي جعلت المحكم يفوق التهذيب في الحجم، والاستيعاب هو أنه اعتنى عناية بالغة بالقواعد الصرفية. ولكن ابن سيده لم يسرف في هذا بما يخرجه من الغرض الأصلي للكتاب كما فعل القالي في كتابه "البارع" إذ استطرد إلى ذكر الأبيات التي كان ينبغي أن تحتل مكانها في كتاب الأمالي. ما يختلف فيه المحكم عن العين: لقد أتيح لابن سيده باعتباره متأخرًا في الزمان عن الخليل أن يطلع على كتب أكثر، ويستفيد بأبحاث من سبقوه من العلماء. فجاء كتابه أكثر استيعابًا وأدق تنظيمًا من كل ما تقدمه من الكتب حتى عن كتاب العين. أما من جهة ترتيب الكلمات في الكتاب فنرى أن المحكم في هذا كغيره من المعاجم التي اقتفت آثار العين. أو بعبارة أخرى نجد أنه قد سار على نظام التقليبات، والأبجدية الصوتية كما فعل الخليل. ولكننا نجد كما كنا نتوقع أن المحكم باعتباره متأخرًا كان أكثر تفصيلًا عن غيره. فالخليل مثلًا أدمج الهمزة في حروف العلة. ولكن ابن سيده ذكر الهمزة وحدها، ونجد أيضًا أن الخليل احتسب الألف اللينة حرف علة، ولكن ابن سيده لم يعدها إطلاقًا، وهو في هذا يتمشى بدقة مع الصرفين الذين يرون أن الألفات الممدودة في العربية ترد إلى أصلها الواوي أو اليائي. وقد كانت هذه التفرقة التي رسمها ابن سيده في محكمه هي الأصل الذي اتبعه المتأخرون كابن منظور، والفيروزآبادي. فقد ذكرها المتأخرون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 باعتبارها حرفًا صحيحًا في أول كل فصل من فصول معاجم، هذه الفصول التي يعالج كل فصل منها حرفًا من الحروف الأبجدية، وفي آخر كل حرف ذكروا حرفين صحيحين مع الواو والياء. وليس لنا أن نقول في المحكم شيئًا من حيث القيمة اللغوية بعد أن أثنى عليه المستشرق الإنجليزي "لين" في معجمه "مد القاموس" وقد انتفع فيه بالمعاجم السابقة التي كان لديه منها الكثير من مخطوطاتها، فهو إذ يدل بحكمة على ابن سيده، فإنما يقول هذا بعد أن قرأ المحكم بنفسه، وبعد أن قارن بينه وبين القواميس. يقول لين1: "لم يقع لنا بعد عهد الصحاح قاموس أعظم من محكم ابن سيده .... وإن قيمته لترتفع إلى الذروة من حيث الصحة، والإشارات الانتقادية والأمثلة الكثيرة الشواهد العربية الصحيحة ... ولقد اعتمدت عليه كثيرًا في تأليف معجمي هذا". ونظرًا لسعة المحكم وضخامة حجمه، فقد اختصره "الأنسي" أحد علماء القرن السابع الهجري، وسمى مختصره "خلاصة المحكم"، ولا يزال محفوظًا بمكتبة المتحف البريطاني. وبمقارنة المختصر بالأصل يمكن تلخيص أهم الفروق بينهما فيما يلي: أ- اقتصر صاحب الخلاصة على المفردات الشائعة الاستعمال دون ذكر الغريب. ب- حذف في المختصر ما زاد عن شرح المفردات مما يتعلق بقواعد الصرف. ج- لم يتبع الأنسي نظام التقاليب وإنما رتب "الخلاصة" على نظام القافية أي بحسب أواخر الكلمات كالصحاح واللسان.   1 مقدمة مد القاموس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 الباب الثاني: الخلاف حول كتاب العين مدخل ... الاهتمام بالعين: لقد كثر الجدل والمناقشة حول كتاب العين خصوصًا من ناحية تأليفه، ومؤلفه وإنا لنلحظ أن هذا الجدل قد امتد من وراء العصور إلى عصرنا الحالي حتى بعد المحاولة الجزئية التي قام بها الأب أنستاس الكرملي حين قام بطبع قسم من العين سنة 1913. وقد اهتمت أكثر من جهة بهذه المسألة، فمثلًا نجد المجمع العلمي العربي بدمشق يفسح المجال للبحث حول هذه المشكلة، فيخصص جانبًا كبيرًا من "مجلته"1 لذلك. فقد نشر فيها الأستاذ يوسف العش بحثًا مطولًا في ثلاثة أعداد عنونه "أولية المعاجم العربية"، ولم تشغل هذه المسألة بال المشتغلين بالآداب العربية من أبناء العروبة، فحسب بل تعدتهم إلى المستشرقين. فهذا المستشرق الألماني "براونلتش" يعالج هذه المسألة في مثال مطول بإحدى المجلات الأوروبية2، وإذا رجع بنا الزمن إلى الوراء، فإننا نجد في العصور الوسطى السيوطي قد عقد فصلًا مطولًا جمع فيه آراء كثيرة حول هذه المسألة3، وبجانب هؤلاء نجد أيضًا كثيرًا من اللغويين قد أدلوا بنصيبهم في تلك المشكلة.   1 مجلة المجمع العلمي سنة 1941. 2 مجلة إسلاميات الألمانية ج2. 3 وآخر من ناقش هذه المسألة من العلماء القدامى هو صديق خان في كتابه البلغة، ولكنه لم يتجاوز ما قاله السيوطي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 الآراء حول كتاب العين : وإن الخلاف حول هذه المسألة يتلخص في وجهات النظر الآتية: أولًا: الخليل لم يؤلف كتاب العين ولا صلة له به. ثانيًا: الخليل لم يضع نص كتاب العين ولكنه صاحب الفكرة في تأليفه. ثالثًا: الخليل لم ينفرد بتأليف كتاب العين ولكن كان لغيره أيضًا عون في ذلك. رابعًا- الخليل عمل من كتاب العين أصوله، ورتب أبوابه وصنف مواده ولكن غيره حشا المفردات: خامسًا: الخليل عمل كتاب العين بمعنى أنه ألفه وروى عنه: والآن لنعرض بالتفصيل فنوضح جميع وجهات النظر هذه لنناقش بعد ذلك القائلين بها. الرأي الأول: فأما الذين لم يعترفوا بكتاب العين، فيذكر لنا السيوطي بعضًا منهم يتمثل في أبي علي القالي وأستاذه أبي حاتم. واعتمد القائلون بهذا على أن الكتاب ليس له إسناد، وأنه لم يكن معروفًا لتلاميذ الخليل بعد موته، وأن اللغويين في البصرة التي نشأ فيها الخليل لم يقتبسوا من كتاب العين في كتبهم. وهذا الرأي المنسوب إلى أبي حاتم، والمزعوم أنه رأى القالي أيضًا لا يعتمد إلا على الرواية الصرفة، وهذا يدل على أصحاب الطبقات اعتمدوا كليًّا على الروايات المختلفة دون اعتبار آخر. وإلَّا فقد كان أمامهم كتاب العين ليحكموا عليه منه. وكان أمامهم معجم القالي1 ليعرفوا رأيه في العين منه2. الرأي الثاني: أما من قال: إن الخليل صاحب الفكرة فقط، ولم ينكروا وجود العين كلية. فأولهم الأزهري صاحب التهذيب. ولقد افترض الأزهري هذا الفرض ثم أخذ يؤيده بمختلف الحجج التي ترضيه هو. فنجد أنه في مقدمة   1 لقد سبق أن أشرنا إلى أن القالي اعترف بتأليف الخليل للعين حين نقل عنه، وستأتي مناقشة أكثر في هذه المسألة. 2 ولعل هذا هو ما شجع واضعي الحديث في أن يضعوا ما يشاءون على الرسول كذبا، ويخترعوا له الإسناذ الكامل مع وضوح تعارض نصوص الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 كتابه قد ذكر استعراضًا للغويين الذين قسمهم إلى مجموعتين الثقاة وغيره الثقاة. وقال عن المجموعة الثانية: إنهم قد خلطوا في كتبهم بين الصحيح والفاسد لدرجة أنه يصعب التمييز بين النوعين. وقد عد الأزهري في قائمة هؤلاء الليث الذي وصفه بأنه وضع كتاب العين، ونسبه للخليل بن أحمد. وزيادة على ذلك فإن الأزهري قد ذكر الخليل في قائمة اللغويين الثقاة، ولكنه عندما أخذ يترجم لكل منهم لم يوف الخليل حقه في ذلك1 مع أنه اضطر إلى ذكره عرضًا عند الترجمة لتلاميذه، فقد ذكر مثلًا عند سيبويه أنه جالس الخليل بن أحمد، وأخذ عنه مذاهبه في النمو. كما ذكر عند ترجمة النضر بن شميل أنه كان من أبرع تلاميذ الخليل. والأكثر من هذا أن الأزهري كتب لنا ضمن مراجعه في مقدمته، أن كتاب العين من بين هذه الكتب، ولكنه سيقتبس عنه بشيء من التحفظ نظرًا لوجود بعض الأخطاء فيه، ثم زاد على هذا بأن ذكر أن الأخطاء التي في العين إنما هي من الليث، ويبدو أن الأزهري كان يرى في بعض الأوقات أن الكتاب للخليل، ولكنه عندما صنف مقدمته للتهذيب أراد أن ينسى الخليل لحاجة في نفس يعقوب. ولكن برغم هذا فقد أفلت لسانه بما يفيد أن الكتاب جميعه ليس لليث، فقد روى ذلك دون تشكك منه في الرواية إذ قال: قال الحنفي لقد مات الخليل قبل أن يتم كتاب العين، فأتمه الليث ولنذكر هنا نص عبارة الأزهري2. "وإذا فرغنا من ذكر الإثبات والثقاة من   1 اكتفى الأزهري في ذلك بالنقل عن ابن سلام فقال: كان الخليل بن أحمد وهو رجل من الأزد من فراهيد، ويقال: رجل فراهيدي وكان يونس يقول: فرهودي، قال: فاستخرج العروش واستنبط منه ومن علمه ما لم يستخرجه أحد. 2 مقدمة التهذيب ص27. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 اللغويين فلنذكر بعقب ذلك أقوامًا اتسموا بسمة المعرفة أودعوا كتبهم الصحيح، والسقيم وحشوها بالمزال والمصحف المغير الذي لا يتميز ما يصح منه مما لا يصح إلا عند الثقات المبرز والعالم الفطن، ولتحفظ اعتماد ما دونوه والاستبانة إلى ما ألقوه. فمن المتقدمين الليث بن المظفر الذي نحل الخليل بن أحمد تأليف كتاب العين جملة لينفقه باسمه ويرغب فيه من حوله. وأثبت لنا عن إسحاق بن إبراهيم الحنظلي الفقيه أنه قال: كان الليث بن المظفر رجلًا صالحًا. ومات الخليل، ولم يفرغ من كتاب العين فأحب الليث أن ينفق كتابه كله فسمى لسانه الخليل. فإذا رأيت في الكتاب سألت الخليل بن أحمد، أو أخبرني الخليل بن أحمد فإنه يعني الخليل نفسه وإذا قال. قال الخليل فإنما يعني لسان نفسه". الرأي الثالث: أما من قال: إن الخليل لم ينفرد بتأليف الكتاب، ولكن قد اشترك غيره معه فقد مال أغلبهم إلى أن الليث هو الذي ساعد في إتمام الكتاب، ومرة أخرى نجد التهمة تلصق بنفس الشخص، فلم يستطيعوا أن يتخلصوا من مجهود الليث في تأليف الكتاب. ولكن أصحاب هذا الرأي يختلفون فيما بينهم في تفسير اشتراك الليث مع الخليل، وإلى أي مدى عاون الليث في تأليف الكتاب. أ- الليث أعاد وضع الكتاب: وينسب هذا الرأي إلى ابن المعتز1 الخليفة الشاعر. فقد اتسع له خياله الشاعري أن يذكر لنا رواية محبوكة هي أشبه بالقصص الغرامية منها   1 طبقات الشعراء ص38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 بالروايات العلمية فقد ذكر لنا أن الخليل عندما ضاقت به الحال في البصرة رحل إلى الليث في خراسان. فوجد فيه ميلًا شديدًا للغة، وإطلاعًا واسعًا ودراية بالشعر. وزيادة على ذلك وجد من إكرام ضيافته ما جعله يقيم عنده إقامة معززة مكرمة قد عوضت عليه بعض أيام الفقر في البصرة، فقدم له الخليل أغلى هدية عنده، وهي كتاب العين الذي كان قد بدأه: لعله يقصد بدأ فكرته. ثم أتمه عنده في حياته: وقد دفع له الليث جائزة كبرى على ذلك، كما عكف على دراسة الكتاب ليلًا، ونهارًا حتى كاد يحفظه عن ظهر قلب. وقد طاب لليث يومًا من الأيام أن يشتري جارية حسناء مما أحفظ قلب زوجته عليه، وأشعل نار الغيرة في صدرها. ولقد كادت له امرأته فرأت أن تنتقم منه في أعز شيء لديه. غاب الليث عدة أيام عن منزله ثم عاد فتفقد كتاب العين فلم يجده. ولكنه أحسن أن زوجته قد فعلت به شيئًا. وكان حسن الظن عندما حسب أنها قد أخفته. فساومها على إرجاع الكتاب. وقد كان الثمن شيئًا تحبه زوجته أكثر من المال إذ وعدها بأن يهدي لها جاريته، ومعنى هذا أنها تصبح محرمة عليه، وأن امرأته حرة في أن تعتقها، أو تتبيعها من تشاء خارج المدينة. ولكن زوجته أحضرت إليه رماد الكتاب الذي كانت قد أحرقته. لم يتوان الليث عن التفكير في طريقة يحيي بها الكتاب من جديد، فأخذ يكتب مرة أخرى ما كان يحفظه من الكتاب حتى أتم نصفه تقريبًا. ثم جمع بعضًا من اللغويين المعاصرين الذين عاونوه على إتمام الكتاب1. ب- الخليل وضع كتاب العين والليث أكمله: ونسب هذا الرأي إلى أبي الطيب اللغوي الذي ذكر أن الخليل بدأ   1 ولكن ابن المعتز لم يستطع معرفة اسم واحد من هؤلاء اللغويين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 كتاب العين في حياته، ولكنه مات قبل أن يتمه وقد نصب تلميذه الليث نفسه لأداء هذه المهمة، فأنتم بقية الكتاب ولهذا نجد أن الكتاب لا يشبه أوله آخره. ج- الفكرة للخليل والليث قد وضع الكتاب بما يتفق وهذه الفكرة، وقد نسب هذا الرأي فيما نسب إلى النواوي إذ قال: إن كتاب العين المنسوب إلى الخليل ما هو إلا من عمل الليث الذي وضعه بناء على ترتيب الخليل. د- الخليل رتب أصول الكتاب، ثم وضع النص من بعده. وأشهر من قال بذلك أبو بكر الزبيدي من المتقدمين وتبعه في هذا عالمان معاصران هما يوسف عش، والمستشرق الألماني أهلوارت. أما أهلوارت فهو مؤلف الكتالوج الألماني للمخطوطات العربية ببرلين، فقد أتيحت له الفرصة أن يتكلم عن هذه المسألة حينما عرض للحديث عن مخطوطتين عبارة عن قطعتين من معجم على نظام التقليبات، والأبجدية الصوتية، وقد رأى أهلوارت أن هاتين القطعتين من كتاب العين. وقد استنتج من استطلاعه أن كتاب العين ليس للخليل بن أحمد، وإنما هو قد حشي بواسطة لغويين متأخرين بدليل أنه عثر فيهما على أسماء رواة متأخرين جدًّا عن الخليل مثل كراع والزجاج، وقد أجهد نفسه في تتبع هذه المواضع وذكر الصفحات التي وردت فيها تلك الأسماء، ثم قرر أنه يميل إلى رأي الزبيدي في هذه المشكلة. ولكن كما سيأتي. لقد بنى أهلوارت حكمه على أساس غير صحيح إذ إن هاتين القطعتين بعد مقارنتهما بمخطوطة العين ليستا من العين على الإطلاق بل من كتاب آخر كما سنوضحه بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 أما الأستاذ عش فقد لخص1 آراء اللغويين السابقين، وعرض المرويات المختلفة ورتبها إلى ثلاث مجموعات بين قائل بعدم نسبة الكتاب للخليل ومن قائل بهذه النسبة. ومن يتخذ طريقًا وسطًا. وقد رجح هو بناء على تعادل الروايات من حيث القوة. وبناء على وجاهة الأسباب التي ذكرها أصحاب كل قول. رجح أن يأخذ بالرأي الأخير؛ لأنه أوسطها وخير الأمور -كما قال- الوسط. ولم يشأ أن يذهب أعمق من هذا إلى كتاب العين نفسه ليستهديه الرأي بل بدا له أن يتبع الزبيدي في ذلك. أما الزبيدي فقد نقل لنا رأيه في مصدرين مختلفين أولهما مقدمة كتابه مختصر العين، فقد ذكر أن الخليل وضع ترتيب الكتاب، ونظم أبوابه ثم حشاه من بعد أقوام غير أثبات. أما ثاني المصدرين فهو رواية ذكرها السيوطي2، وانفرد بها ولم أر احدًا من اللغويين أو أصحاب الطبقات قد اشترك معه في ذكرها. هذه الرواية تتضمن أن الزبيدي كان قد أرسل خطايا إلى بعض إخوانه الذي اتهم الزبيدي بتعصبه ضد الخليل، ومما جاء في تلك الرسالة قوله: "أوليس من العجيب الماجب والنادر الغريب أن يتوهم علينا من به مسكة من نظر، أو رمق من فهم تخطئة الخليل في شيء من نظره والاعتراض عليه فيما دق، أو جل من مذهبه والخليل بن أحمد أوحد عصره وقريع دهره. ولو أن الطاعن علينا يتصفح صدر كتابنا المختصر من كتاب العين لعلم أنا نزهنا الخليل عن نسبه المحال إليه. وذلك أنا قلنا في صدر الكتاب، ونحن نربأ بالخليل عن نسبة الخليل إليه أو التعرض للمقاومة له. وأكثر الظن فيه أن الخليل سبب أصله وثقف كلام العرب ثم هلك قبل كماله فتعاطى إتمامه من لا يقوم في ذلك مقامه. ومن الدليل على ذلك   1 مجلة المجمع العلمي بدمشق 1941. 2 المزهر ص49-53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 ما وقع فيه من الحكايات عن المتأخرين مثل أبي عبيد وابن الأعرابي. ومن الدليل على صحة ما ذكرناه أن جميع ما وقع فيه من معاني النحو إنما هو على مذهب الكوفيين، وبخلاف مذهب البصريين من ذكر مخارج الحروف وتقديمها وتأخيرها، وهو على خلاف ما ذكره سيبويه في كتابه. وكذلك ما مضى عليه الكتاب كله من إدخال الرباعي المضاعف في باب الثلاثي المضاعف، وهو مذهب الكوفيين خاصة ... ولو أن الكتاب للخليل لما أعجزه، ولما أشكل عليه تثقيف الثنائي الخفيف من الصحيح، والمعتل والثنائي المضاعف من المعتل والثلاثي المعتل بعلتين، ولما جعل ذلك كله في باب سماه اللفيف. ولما خلط الرباعي والخماسي إلخ"، وقد عقب السيوطي على هذا بقوله "قلت: وقد طالعته إلى آخره فرأيت وجه التخطئة في بعضه من جهة التصريف والاشتقاق ... وأما أنه يخطئ في لفظة من حيث اللغة بأنه يقال: هذه اللفظة كذب أولًا تعرف فمعاذ الله لم يقع ذلك، وحينئذ لا قدح في العين". وهكذا نرى أن الزبيدي إذا مسح أن هذه الرسالة له قد بنى رأيه على دليل بعيد، وهو وجود بعض أخطاء في الكتاب لا يجوز في رأيه أن تنسب للخليل، ولكنه لم يوضح لنا شيئًا من هذه الأخطاء. كذلك مسألة الكوفيين والبصريين لا دخل لها في التنظيم المعجمي. كما ستوضحه بعد، وفوق هذا فإن الزبيدي عند ما بين في مقدمة المختصر أن الكتاب حشاه قوم غير ثقاة لم يشأ أن يعينهم لنا، أو يذكر لنا شيئًا عنهم. والآن بعد سرد هذه الآراء لنعرض إلى مناقشتها لنتبين الأسس التي بنيت عليها، ولعله يتضح لنا آخر الأمر الرأي الصواب في المسألة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 مناقشة الآراء في "العين" : مناقشة الرأي الأول: يعزى إلى أبي علي القالي أنه لم يعترف بكتاب العين سواء أكان من عمل الخليل، أو من عمن غيره بناء على أنه ليس للكتاب إسناد، وقد ذكر لنا الرواة أن القالي أخذ هذا الرأي عن أبي حاتم الذي قرر أن الكتاب لم يكن منتشرًا بين العلماء في عهده. والذي يبدو غريبًا في رأي القالي هذا. أن القالي نفسه قد اعترف بكتاب العين، وبأن مؤلفه الخليل. أولًا: عندما اقتبس منه كثيرًا في كتاب البارع تحت عبارة "وقال الخليل". وبمقارنة بعض هذه الاقتباسات بكتاب العين وجد أنها تتفق كلمة بكلمة مع كتاب العين. وثانيًا: ما روي أن القالي عندما رحل من المشرق إلى الأندلس، واتصل بالخليفة الحكم الثاني ألف له كتاب البارع الذي كان فخورًا بأن يبز العين بحوال 400 ورقة، وأن البارع أيضًا يفوق العين في عدد الكلمات إذ يزيد عليه بحوالي 5685 كلمة كما ذكر الرواة1. ومن ناحية أخرى فإن عدم معرفة أبي حاتم بانتشار الكتاب في عهده لا يدل على عدم نسبة الكتاب إلى الخليل. كما أن مسألة الإسناد على فرض عدم معرفة أبي حاتم بسلسلة رواية العين لا تنفي نسبة الكتاب للخليل. وفوق هذا فإن تعارض ما روي منسوبًا للقالي مع الحقيقة الواقعة، وهي اعترافه   1 مقدمة البارع -كتبها المستشرق فولتون. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 بنسب الكتاب للخليل في معجمه "البارع" يجعلنا نشك في صدق هذه الرواية تمامًا، ولا يصح أن نعدل عن الواقع وجود رواية تخالفه. مناقشة الرأي الثاني: نرى أن الأزهري في تهذيبه حينما لم تسعفه الأمور بما يرمى به الخليل كما فعل بابن دريد وغيره. رأى أن يتحاشى أن يترجم للخليل حتى لا يتعرض لذكر العين تحت اسمه بالمرة، وعندما نرى في مقدمته ذكر الخليل، فإنما كان ذلك عرضًا عند الكلام على آخرين كتلاميذه مثلًا. ونرى قبل أن نعرض للسبب الرئيسي لتجنب الأزهري ذكر الخليل أن نذكر أن تعصب الأزهري لم يكن فقط ضد كتاب العين، أو ابن دريد الذي رأى أن العين تأليف الخليل بل تعداه هذا إلى كل من ألف في المعاجم من قبله. وعلى سبيل المثال قد عرض الأزهري في مقدمته لاثنين من اللغويين أصحاب المعاجم الذين اعتبرهم غير ثقاة، وهما الخزرجي صاحب "تكملة العين"، وأبو الأزهر البخاري صاحب "الحواصل". ورغم الحملة العنيفة على الخزرنجي فإننا نجد الأزهري كثيرًا ما يقتبس عنه، وينقل الروايات اقتباسًا ونقلًا يشعران القارئ بأنه ثقة كما ينقل عن غيره ممن وثفهم كالأصمعي وأبي عبيدة. هذه الحملات إذن لها غرض خاص يرمي إليه الأزهري هذا الغرض على ما نظن هو تقرير عدم أهمية المعاجم التي سبقته ليبرز معجمه في صورة الكتاب الذي ليس له قرين، ولعل اسم "التهذيب" الذي يشعر بغربلة ألفاظ اللغة وانتقائها يرمي إلى شيء من هذا كما عبر بذلك صراحة في مقدمته ومع هذا فقد نقل الأزهري كثيرًا عن كتاب العين تحت التعبير "قال الليث": ولكن لا لينبه على خطئه كما وعد بل نقل عنه في أكثر الأحيان كما لو كان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ثبتًا موثوقًا به. إلا في النادر اليسير فإنه تعرض لتخطئته كما خطأ غيره ممن وثقهم. وكم كنا نرحب أن يثبت الأزهري هذا الخطأ مكتفيًا بأنه خطأ كتاب العين فقط، أو يذكر مع شيء من الجرأة والصراحة في الحق أنه خطأ الخليل. ولسنا نتفق مطلقًا مع من يقولون: إن الخليل فوق الشبهات وأنه لا يعزى إليه أي خطأ بل قد وقعت بعض الأخطاء البسيطة في العين التي لا تؤثر مطلقًا على مقام الخليل -إذ هو- كما سنوضح بعد كان مشغولًا بالترتيب والتبويب أكثر من انشغاله بالمفردات، أو ما سموه حشو الكلمات. وأكثر من هذا فإن الأزهري عندما أراد في المقدمة -بعد أن ترجم للغويين، وهاجم من هاجم منهم- أن يذكر منهجه في الكتاب، ويوضح ترتيبه ويبين لنا كيفية تنظيم المفردات فيه لجأ إلى مقدمة كتاب العين ينقل منها بالحرف الواحد الشيء الكثير. والغريب في الأمر أنه اعترف أن هذا الترتيب البديع قد اتفق جميع اللغويون على أنه للخليل بن أحمد استمع الأزهري يلقى باعترافه1: "ولم أر خلافًا بين اللغويين أن التأسيس المجمل في أول كتاب العين لأبي عبد الرحمن الخليل بن أحمد، وأن الليث بن المظفر أكمل الكتاب عليه بعد تلقفه إياه عن فيه، وعلمت أنه لا يفوق أحد الخليل فيما أسسه ورسمه، فرأيت أن أنقله بعينه لتتأمله وتردد فكرك فيه، وتستفيد منه ما بك الحاجة إليه"، فما معنى أن الليث أكمل الكتاب عليه إن عبارة "أكمل" تفهم أن شخصًا آخر قد ابتدأ العمل في هذا الشيء الذي يحتاج إلى إكمال. وأشد من هذا تعبير: "بعد تلقفه إياه عن فيه" أليس هذا يعني المشافهة التي هي صنو الإملاء. أليس يتفق هذا مع رواية السيرافي: "وأملي كتاب العين على الليث" التي لم يذكر مصدرها ولعله أخذها عن الأزهري. ثم بعد هنا كله لا يرى أن   1 مقدمة التهذيب ص39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 الخليل هو المؤلف لكتاب العين -صحيح أننا لا نخفي يد الليث من عمل شيء بالنسبة للكتاب. ولكن مجهود الليث في ذلك لا يصل إلى درجة أن يعد هو المؤلف، فنسمح للأزهري أن ينقل عن العين بعبارة "قال الليث": وقد يكون مقبولًا منه كما فعل الزبيدي أن يقول قال في العين. فإن الزبيدي لم يسم كتابه باسم مختصر الليث، أو الخليل وإنما كان محايدًا في عنونة كتابه إذ أسماه مختصر العين. والآن لنعرض بعض المقارنة بين العيني والتهذيب لنرى كيف كان الأخير ينقل عن الأول. ذكر الأزهري أن كلمة "البغاث" بالغين المعجمة تحريف من الليث، وإنما الصواب هو أن تكون الكلمة بالعين المهملة، وقد ذكرت القواميس المتأخرة كاللسان والتاج أن كلا اللفظين وارد "وفصيح" بل لقد ذكر التاج قوله: "ونقل أبو عبيدة عن الخليل بغاث -بغين معجة"، وكتاب العين نفسه قد سجل الكلمة تحت باب الغين المعجمة وقال. ويقال أيضًا: بعاث فنفس الكتاب ورواية أبي عبيدة ترى أن رأي الخليل هو ورود الكلمة بالصورتين، وتفسير هذا في نظرنا أنهما لهجتان وإن رؤيتنا الخلاف في نطق أسماء البلاد لبعض من هذا. فكيف بعد هذا يختار الأزهري سورة واحدة للكلمة ليعترض عليها. حتى في المقدمة التي اقتبسها الأزهري من العين، واعترف بنسبتها للخليل وأنه لا خلاف في ذلك بين الأئمة نجد أنه ذكر هذه العبارة "قال الليث بن المظفر: لما أراد الخليل بن أحمد الابتداء في كتاب العين أعمل فكره فيه، فلم يمكنه أن يبتدئ من أول أب ت؛ لأن الألف حرف معتل ... إلخ". ولكن ما في كتاب العين يختلف يسيرًا عما ذكر الأزهري، فليس في كتاب العين كلمة الإبتداء التي وضعها الأزهري من عنده بدل كلمة التأليف التي في كتاب العين على أن الأزهري في آخر المقدمة عندما احتاج إلى إعادة العبارة ليبين أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الكتاب لم يحتو جميع المفردات كما فهم البشتى بل يحصي المواد فقط. وكان الغرض من الإعادة هو مهاجمة البشتي مرة أخرى. قال الأزهري1 في أول المقدمة: "وروى الليث بن المظفر عن الخليل بن أحمد في أول كتابه: هذا ما ألفه الخليل بن أحمد من حروف اب ت ث التي عليها مدار كلام العرب وألفاظها، ولا يخرج شيء منها عنه أراد أن يعرف بذلك جميع ما تكلمت به العرب في أشعارها، وأمثالها ولا يشذ عنه منها شيء قلت قد أشكل هذا الكلام على أكثر من الناس حتى توهم بعض المتحذلقين -يقصد البشتي وأمثاله- أن الخليل لم يف بما شرط؛ لأنه أهمل من كلام العرب ما وجد في لغاتهم مستعملًا". ثم شرع الأزهري يطبق هذه النظرية على البشتي الذي أخطأ في فهم المراد من عبارة العين، أو على الأصح عبارة الخليل. كما أورد الأزهري دون أن يفطن إلى وجهة نظره الخامسة: "إن الخليل لم يف بما شرط"، فكيف إذن يدافع الأزهري عن الخليل بأنه لم يذكر في كتابه كل المواد -أو الكلمات- مع أن الكتاب لليث كما يدعي. ولعلنا بعد أن ناقشنا الأزهري قد اقتنعنا على الأقل بترك رأيه إن لم نقل بضده؛ لأنه كما تبين لنا كان متعصبًا متحاملًا على اصحاب المعاجم السابقة ينال منهم، ويأخذ عليهم الأخطاء التي وقع فيها كثير غيرهم ممن وثقهم الأزهري، واعتد بهم وذلك كما قلنا لحاجة في نفسه هي أن كل ما سبقه من الكتب حتى العين أقل من كتابه. ولما لم يكن ليجرؤ على تخطئة الخليل في العين أراد أن يلصق الكتاب بغيره ليسهل عليه الطعن فيه. ولسنا نفهم أن هذا الغير يترك مجهوده الضخم في ذلك الإنتاج الفذ الذي لم يسبق إليه لا الخليل، ولا لأستاذ الخليل. ألسنا في حل أن نكيل للأزهري بنفس الكيل ونقول: أنت رجل فوق   1 ص49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 الشبهات وفوق الخطأ، وما ورد في كتابك من ذلك فليس لك بل هو من تأليف غيرك الذي نحلك الكتاب ليستغل اسمك نظرًا لشهرتك العلمية ورسوخ قدمك في علوم اللغة؟ وكفى هذا بالنسبة للأزهري لتنتقل إلى غيره. مناقشة الرأي الثالث: ويشمل هذا كما سبق أن عرفنا رأي الذين يقولون: إن الليث اشترك مع الخليل في الكتاب، ولكن يختلفون في تفسير هذا الاشتراك فابن المعتز -كما رأينا- يروي القصة الغرامية التي أدت إلى أن تحرق زوج الليث كتاب العين انتقامًا منه لشغفه بجاريته الحسناء مما اضطره إلى إعادة كتابه العين من جديد. أتم نصفه من ذاكرته واستعان في النصف الثاني ببعض من أعانه. ولكن ابن المعتز لم يتخذ هذا سبيلًا للشك في الكتاب، وكان في وسعه أن يقول كما قال غيره: "إن آخر الكتاب لا يشبه أوله، فبعضه على الأقل ليس للخليل"، ولكنه كشاعر لا يهتم بتحقيق نسبة الكتاب تحقيقًا وافيًا بل أورد القصة محبوكة مما يجعلنا نشك فيها. ثم كيف يترك الليث. وهو ابن الأمير وله من السعة ما يجعله يحفظ كنزره في حرز مكين أمين، كيف يترك كتابه لزوجه وهو يعلم مدى غيرتها لتفعل به ما تشاء. وهذا ما يجملنا نتشكك في صحة الرواية التي تقول بأن الكتاب أحرق، ثم أعيدت كتابته على يد الليث مما يحملنا على ترك هذا الرأي كلية. أما السيرافي فقد اضطرب في النسبة فمرة يقول: إن الخليل أملى كتاب العين على الليث، ومرة يقول: إن الخليل عمل أول كتاب العين ولكنه لم يوضح إلى أي مادة وقف تأليف الخليل وابتدأ الليث. أما أبو الطيب والنواوي اللذان يقولان بما يشبه هذا، فقد نقلا فقط آراء غيرهما شأن بقية مؤلفي الطبقات دون القطع برأي حاسم في المسألة، فيصبح إذن تفسير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 اشتراك الليث بأنه ألف بعضًا من الكتاب، أو أن الخليل لم يعمل كل الكتاب لا يعتمد على دليل قوي مما يجعلنا غير مطمئنين لهذا الرأي. مناقشة الرأي الرابع: وهو رأي من يقول بأن الخليل ابتدع النظام، ورتب الأبواب وأن غيره أكمله وهؤلاء كما رأيناهم الزبيدي، وعش وأهلوارت. أ- أما الزبيدي: ذكر بعض النقاط التي اعتمد عليها في تكوين رأيه، وهذه النقاط تستخلص من مقدمة كتابه "استدراك الغلط الواقع في كتاب العين" والتي وجه فيها الكلام إلى بعض إخوانه الذين عاتبوه في شأن الحملة على الخليل، والتعصب ضده وهذا على فرض صحة ما ورد في تلك المقدمة. وأبرز هذه النقاط ما يأتي:- 1- ادعى في تلك المقدمة أن كتاب العين وردت فيه أسماء رواة معاصرين للخليل. وأنه من غير المعقول -والخليل رأس مدرسة البصرة- أن يكون قد اعتمد على غيره في حشو الكتاب بالمفردات. والأكثر من هذا أن هناك أسماء لبعض الرواة المتأخرين عن عصر الخليل. وكل هذا إن صح فلا يفيد أن الكتاب ليس للخليل، وإنما غاية ما يفيده أن بعض الزيادات قد أضيفت فعلا إلى الكتاب، وهذا يعني أن بعض الأسماء قد أضيفت بفعل الرواة إلى الكتاب كما كان يحدث لكثير من الكتب التي ألفت في صدر الإسلام، وليس كتاب العين بدعًا من بينها. 2- أورد الزبيدي أن الترتيب الصوتي للأبجدية يختلف من بعض الوجوه عما ورد في كتاب سيبويه. وسيبويه يعتبر إلى حد كبير ممثلًا لرأي أستاذه الخليل الذي استوحى من تعليمه موضوعات كتابه، ولم يذكر بالتحديد موضع المخالفة، وأوضح الزبيدي أنه ليس المراد بذلك تقديم حرف العين على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 أخواتها من حروف الحلق. فإن لذلك وجهًا مقبولًا وهو أن الهمزة التي هي أسبق مخرجًا قد أخرت حتى عدت ضمن حروف العلة نظرًا لتغيرها في التصريف، ومجيئها مدة في كثير من الأحيان. وإنما يقصد "تقديم غير ذلك من الحروف وتأخيرها". ولكننا إذا تتبعنا ترتيب الحروف الهجائية "الصوتية" في العين، وفي المختصر لوجدناه متفقًا. فكيف نفهم أن الزبيدي يعترض على الترتيب ثم يبني عليه كتابه. والأكثر من هذا أنه قد روي عن الزبيدي ذكر مناقضات أخرى في العين مثل قوله1: "ولو أن الكتاب للخليل لما أعجزه ولا أشكل عليه تثقيف الثنائي الخفيف من الصحيح والمعتل، والثنائي المضاعف من المعتل والثلاثي المعتل بعلتين. ولما جعل ذلك في باب سماه اللفيف، فأدخل بعضه في بعض، وخلط فيه خلطًا لا ينفصل منه شيء عما هو بخلافه، ولوضع الثلاثي المعتل على أقامة الثلاثة لسببين معتل الياء من معتل الوارد الهمزة، ولما خلط الرباعي والخماسي من أولهما إلى آخرهما". وإذا قارنا ما قاله الزبيدي بما هو واقع فعلًا في كتاب العين نجد أنفسنا في حيرة بالمنة. فإن العين لم يخلط الثلاثي المعتل باللفيف بل أفرد لكل منهما بابًا، وكذلك لم يخلط الرباعي بالخماسي بل ذكر الرباعي أولًا، ثم أعقبه بذكر الخماسي كما فعل الزبيدي نفسه. ولكن إذا رجعنا إلى كتب الطبقات نجدها تذكر للزبيدي كتابًا تحت اسم الاستدراك بجانب كتابه مختصر العين. ولكن هذا الاستدراك لا علاقة له بالعين، وإنما هو استدراك على أبنية سيبويه، وهي الصيغ التي ذكرها عند الكلام على ورود حروف الزيادة   1 المزهر ص53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 في المفردات العربية. ولم تذكر لنا كتب الطبقات "الاستدراك على كتاب العين". كما أننا من ناحية أخرى لم نجد ما ذكر عن الزبيدي في هذا الشأن إلا في كتاب المزهر للسيوطي. فما معنى هذا؟ هل معناه أن الزبيدي يناقض نفسه؟ أم أن هذا يعني أن تلك الرواية مختلفة من أساسها شأن غيرها من الروايات التي تذكر من وقت لآخر في المزهر دون تحقيق أو تمحيص؟ لعل من الأسلم أننا لا نتحامل على الزبيدي وننسب له التناقض، ونكتفي فقط بنظرية اختلاف الرواية. وعلى ذلك ينجلي الموقف بعض الشيء. ب- أهلوارت: أما ما ذكره هذا المستشرق الألماني حين الكلام1 على قطعتين مخطوطتين استنتج خطأ أنهما من كتاب العين. ورتب على ذلك أن ورود أسماء متأخرة مثل ثعلب المتوفى عام "291هـ"، والدينوري "381"، وكراع "307" والزجاج "310" وابن جني "392"، والهروي "401" -ورود هذه الأسماء يدل على أن الكتاب أكمل بعد عصر الخليل. ولكن بمقارنة هاتين القطعتين بكتاب العين نفسه وجد اختلاف في المنهج يتمثل فيما يلي:- أ- أن هناك تفصيلًا في ذكر المعتل الواو، والمعتل الياء فلم يذكرا معًا كما في العين. ب- أن ذكر الرواة في العين يرد نادرًا جدًّا بخلاف ذكر الرواة في هاتين القطعتين، فإنه يرد بكثرة سواء في ذلك الرواة المتقدمون أو المتأخرون. ج- أن ذكر الرواة يرد بأسمائهم فقط دون ذكر كتبهم التي نقل رأيهم.   1 كتالوج المخطوطات العربية في برلين سنة 1894 ص237. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 عنها فيما عدا اسمًا واحدًا هو اسم كراع الذكور دائمًا مع اسم كتابه هكذا "وقال كراع في المنضد". د- أن الرواية عن الزجاج إنما وردت عند الحاجة إلى شرح لفظ من القرآن الكريم. وبمراجعة المعاجم التي اتبعت نظام العين وجد أن هذه الخصائص تتمثل في المحكم لابن سيده، وقد استنتجنا هذا بمراجعة بعض أجزاء المحكم التي عثرنا عليها. ولم تمكننا الظروف من مقابلة القطعة الموجودة في برلين بنظيرتها في المحكم نفسه1. وعلى ضوء ما ذكرنا نجد أن أهلوارت بنى رأيه على ظن خاطئ. ولو أنه قد أتيحت له الفرصة لرؤية المحكم لربما كان قد غير رأيه. ح- عش: لقد أجمل الأستاذ عش في مقالاته التي ذكرها في صحيفة بمجمع دمشق ما قاله السابقون، وعلى الأخص ما ذكره السيوطي الذي قال عنه أنه يتمثل في رأي الزبيدي؛ لأن هذا الرأس وسط بين رأيين متطرفين الرأي القائل بأن الخليل هو المؤلف للكتاب، والواضع لمفرداته كلية، وتفصيلًا والرأي القائل بأن الكتاب ليس من عمل الخليل. وقد كنا نتوقع منه أن يأتينا بأدلة من كتاب العين نفسه ليبني عليها رأيه؛ لأننا نظن أنه علم بوجود بعض نسخ العين بدليل أنه قال في معرض ذكر بعض الآراء: "لا يمكن قبول الرأي القائل بأن الخليل وضع أول الكتاب فقط حيث إن آخره لا يشبه أوله؛ لأن المتتبع للكتاب يرى أن الأخطاء في آخره هي نفس الأخطاء في أوله"، ومن جهة أخرى فقد ختم الأستاذ.   1 لقد بينت هذا بتفصيل أكثر في بحث ألقي في مؤتمر المستشرقين الدولي الثالث والعشرين بمدينة كمبردج بإنجلترا في أغسطس 1954، وقد عقب في نفس الجلسة المستشرق الألماني "كريمر"، فقال: إنه عند رؤيته القطعتين في برلين حصل له نفس التشكك. وقد تأكد من أنهما من المحكم عندما كان في استانبول في المؤتمر الثاني والعشرين، وأتيحت له فرصة مقابلة قطعتي برلين بالمحكم الذي توجد منه نسخة كاملة هناك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 بحثه برجاء إلى حكومة العراق قال فيه: "وإنا لنأمل أن تأخذ الحكومة العراقية على عاتقها طبع الكتاب بمناسبة ذكرى الأب أنستاس الكرملي، خصوصًا بعد أن لم يبق منه إلا نسخة أو نسختان"، فإن تعرضه لذكر النسخ دليل على معرفة مكانها، أو العلم بوجودها إن لم نقل: إنه -مع ما له من النفوذ والجاه العلمي- يمكنه أن يطلع على النسخة فعلًا دون أية صعوبة. وهكذا حرمنا الأستاذ من الاستماع لرأيه الشخصي، واكتفى فقط بأن يذكر لنا ما قاله الأقدمون، وإن كان قد عرضه بصورة واضحة مفصلة جميلة: مناقشة الرأي الخامس: من المؤلف لكتاب العين؟ وهنا قد بقي الرأي الذي ينسب "العين" للخليل صراحة بالمعنى الكامل لكلمة مؤلف. وقد سبق أن رأينا في مناقشتنا للآراء السابقة كيف أن بعضها اعتمد اعتمادًا كليًّا على الرواية فقط كما أن هذه الروايات يخالف بعضها بعضًا على أن هناك روايات أخرى تقابلها، فتذكر صراحة نسبة العين للخليل، فقد ذكر ابن النديم1 أن أبا الفتح النحوي الذي كان "ثقة صدوقًا" قد حدث بأن ابن دريد ذكر له كيف ورد كتاب العين إلى بغداد في عام 248هـ، وذلك أن أحد النساخين قد أحضره من خراسان في ثمانية وأربعين جزءًا، وباعها بخمسين دينارًا. وقد علم ابن دريد أن ذلك الناسخ قد أحضره من مكتبة الطاهرية. وبهذه المناسبة نحب أن نذكر أن ذلك رد صريح على من يقول أن ابن دريد كان من المشككين في نسبة الكتاب للخليل. على أن ابن دريد قد صرح بهذه النسبة في مقدمة الجمهرة2. ومن أقدم الكتب التي ورد فيها ذكر الخليل كراو في تفسير بعض المفردات الغامضة كتاب سيرة ابن هشام، فقد أورد أبياتًا ورد فيها ذكر   1 الفهرس ص67. 2 المزهر ص50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 كلمة العيهب ثم عند تفسيرها قال1: الخليل العيهب الضعيف الجبان. وهذا يتفق مع ما في العين. فكأن الكتاب كان في عهدة بعض المؤلفين كقاموس أو مرجع لتفسير الغريب. وقد تصدى قديمًا من دافع عن "العين" كإنتاج بصري ضد من هاجمه من الكوفيين، فقد ذكر السيوطي "ممن ألف أيضًا الاستدراك على العين أبو طالب المفضل بن سلمة بن عاصم "الكوفي" من تلاميذ ثعلب. قال أبو الطيب اللغوي رد أشياء من العين أكثرها غير مردود"، ثم ذكر السيوطي بعد ذلك2 عن كتاب العين، "وقديمًا اعتنى به العلماء وقبله الجهابذة. فكان المبرد يرفع من قدره، ورواه أبو محمد بن درستويه وله كتاب في "الرد على المفضل بن سلمة فيما نسبه إليه من الخلل"، ويكاد لا يوجد لأبي إسحاق الزجاجي حكاية في اللغة إلا منه". ولعل هذا مما يبعث ضوءًا على التخاصم بين الكوفيين والبصريين، وكيف أن الكوفيين لما رأوا سبق البصريين لهم في اللغة، والنحو أخذوا يهاجمونهم بشتى الوسائل. فمسألة الزنبور بين الكسائي وسيبويه ومناصرة الأمين للكوفيين في شخص الكسائي. ومسألة تأليف المفضل الكوفي ردًّا على الخليل ما هما إلا حلقتان من سلسلة التخاصم بين المدرستين. ومما هو جدير بالذكر أننا نرى أن السيرافي الذي ارتضى نقل الرأي القائل بأن الخليل عمل أول كتاب العين، نرى أن نقل هذا الرأي ورد عن ثعلب، وهو من هو تعصبًا للكوفيين. ولنذكر باختصار آراء من أصحاب المعاجم الذين اعترفوا بنسبة العين للخليل. وبرأي أحد المستشرقين كذلك. وعلى سبيل التحديد ابن دريد، وابن فارس، وبراونلتش. ابن دريد: ذكر أن ابن دريد كان أول من اعتمد على العين في تأليف الجمهرة، فقد نقل من الخليل كثيرًا في معجمه هذا، ورغم ما بين الكتابين من بعض الاختلاف   1 السيرة ج2 ص173. 2 المزدهر ص53. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 في الترتيب الأبجدي فلم يسلم ابن دريد من تهمة سرقة "العين"، ووضعه بعد شيء من التعديل تحت اسمه هو. وقد رأينا فيما سبق كيف أن نفطويه ألصق به هذه التهمة الباطلة، وهي إن دلت على شيء فإنما تدل على أمر مقررًا معروفًا لدى اللغويين المتقدمين، وهو أن ابن دريد اعترف صراحة بنسبة العين للخليل. ولقد أخبرنا ابن دريد ذلك في مقدمة الجمهرة بقوله: إنه عندما هم بكتابة معجم في العربية أراد أن نصه مبسطًا للتلاميذ وعامة القراء؛ لأن كتاب الخليل كان صعب الترتيب لا يفهمه إلا من كان راسخ القدم في علوم اللغة، وأنه في تلك الأيام أصبحت الحاجة ماسة إلى كتاب أسهل ترتيبًا وأقرب منالًا، فكان أن وضع ابن دريد الجمهرة. كما صرح في موضع آخر من المقدمة في عبارة واضحة جلية حين قال: "ألف الخليل بن أحمد كتاب العين"، والتعبير بكلمة ألف هنا لها ما لها من الدلالة خصوصًا إذا أخذنا في الاعتبار أن ابن دريد بصفة لا شعورية يريد الرد على الأزهري في ذلك. ولنترك صاحب الجمهرة بين رأيه بنفسه، ولنستمع إليه إذ يقول1: "ولم أجر في هذا الكتاب إلى الازدراء بعلمائنا ولا الطعن في أسلافنا، وأنى يكون ذلك وإنما على مثالهم يحتذى .... وقد ألف أبو عبد الرحمن الخليل بن أحمد الفرهودي كتاب العين فأتعب من تصدى لغايته، وعنى من سما إلى نهايته. فكل من بعده له تبع. أقر بذلك أم جحد، ولكنه -رحمه الله- ألف كتابه مشاكلًا لثقوب فهمه، وذكاء فطنته وحدة أذهان أهل عصره". ابن فارس: أما ابن فارس فقد أعلن صراحة في مقدمة معجميه المقاييس، والمجمل بأن مؤلف العين هو الخليل بن أحمد، وذلك حين ذكر مراجعه الكبرى فقال: "أعلاها وأشرفها كتاب العين للخليل بن أحمد". وفي تضاعيف كتابيه تجد أنه يقتبس كثيرًا من العين تحت عبارة "وقال الخليل": ورغم أن الزمن قد تأخر بابن فارس حتى أطلع على الجمهرة والتهذيب   1 مقدمة الجمهرة ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 وكثير من كتب اللغة، فإنه لم يشأ أن يقحم نفسه في الرد على من تعرضوا للشك في نسبة كتاب العين. وكأنه بذلك وبوضعه المسألة في تعبيره السابق يريد أن يعلم أن الأمر أصبح جليًّا وغير محتمل للشك. براونلتش1: لقد عرض براونلتش لهذه المسألة ووضع نصب عينيه القسم المطبوع من كتاب العين ليساعده على تكوين رأي أقرب إلى الصواب، فلم يعتمد فقط على ما ذكرته كتب الطبقات، ولم يبين حكمه على الرواية الصرفة. ثم عرض براونلتش إلى العين يختبره ويبحثه وهداه تفكيره إلى أن الكتاب للخليل، وقد بين سببًا لهذا أن الكل قد اتفق على أن التنظيم، والترتيب من صنع الخليل، وهذا هو جوهر المسألة وهو المعنى بكلمة التأليف. أما الإضافة أو الحذف فلا تؤثر في مركز الخليل كمؤلف للكتاب. وأضاف أيضًا إلى هذا أن تلميذه الليث قد قام بنصيب كبير في نقل الكتاب عن الخليل، وربما أثبت فيه أشياء بعد أن استأذن الخليل في ذلك. وانتهى من هذا إلى أن المؤلف للعين هو الخليل، وأن المخرج للكتاب هو الليث. بعد سرد تلك الآراء المختلفة ومناقشتها وبعد عرض رأي القائلين صراحة بنسبة الكتاب للخليل نرى أن أقوى حجة في جانب المعارضين هو ما ذكره السيوطي على اعتبار أنه رأي الزبيدي ونقله عما سماه "الاستدارك على العين" في حين أن الاستدراك للزبيدي إنما هو الاستدراك على كتاب سيبويه لا على العين، وقد سبق أن أسهبنا القول في بطلان تلك الأدلة. أما الآراء الأخرى فقد رأينا أن أغلبها استنتاجي يعتمد فقط على الرواية دون النظر إلى وقائع الأمور.   1 نشر هذا المستشرق بحثًا مطولًا عن هذا الموضوع في مجلة إسلاميات ج2 ص39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 كتاب العين يتحدث : والآن وقد استعرضنا مختلف الآراء فلننتقل إلى كتاب العين نفسه ترى ماذا يقول: لقد بدئ العين بالإسناد شأن الكتب اللغوية الأولى1، ففي الصحيفة الثانية من المخطوط نرى هذه العبارة: "قال أبو معاذ عبد الله بن عائذ: حدثني الليث بن المطفر بن نصر بن سيار عن الخليل بجميع ما في هذا الكتاب. قال الليث: قال الخليل ... ". وكلمة "بجميع ما في هذا الكتاب" تقطع خط الرجعة على القائلين بأن الخليل عمل أول كتاب العين فقط. والكتاب يبدأ بمقدمة مطولة فيها ذكر مخارج الحروف التي اتخذت أساسًا لتنظيم الكتاب، وهذا التنظيم والترتيب قد اعترف الجميع بنسبته للخليل، وعلى رأس المعترفين بذلك الأزهري في كتاب التهذيب كما سبق أن بيناه. وفي ثنايا المقدمة نجد بعض القوانين الصوتية التي استنبطها الخليل من بحثه العميق في علم الأصوات اللغوية ذلك البحث التي أيدت معظمه الأبحاث الحديثة2. ومن بين تلك القوانين أن الرباعي والخماسي من الكلمات العربية لا بد أن يشتمل بين حروفه على أحد حروف الذلاقة المنحصرة في "ل ن ر ف ب م"، وأن هناك حالات خاصة قد ينوب فيها حرفان معينان عن أحد هذه الحروف. وفيما عدا ذلك إذا وردت أي كلمة من ذلك نخالف هذا، فليحذر من نسبتها للعربية، وقد نبه الخليل على هذا فقال لتلميذه:   1 مثلًا النوادر لابن زيد. 2 كتب الدكتور السعران أطروحة لدرجة الدكتوراه في جامعة لندن ليبين فيها ملاحظات اللغويين العرب في علم الأصوات اللغوية التي أرجع معظمها إلى الخليل بن أحمد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 "فلا تقبلن من ذلك شيئًا مهما ورد عن ثقة"، وعلل سبب هذا في موضع آخر إذ قال: "فإن التحارير ربما أدخلوا على اللغة ما ليس منها إرادة اللبس والتعنت". كما ذكر أيضًا أن اتحاد المخارج أو تقاربها قد يكون سببًا في أن تكون المادة "مهملة"، وبناء عليه فبعض المفردات التي تخالف هذا القانون إنما هي دخيلة على العربية، وقد سماها الخليل بالمولد أو المحدث. وعندما ابتدأ الخليل في ذكر للمفردات بدأ كتابه بالعين، فذكر في مقدمة هذا الحرف أن العين، والحاء لا يجتمعان في كلمة واحدة إلا في حالة النحت مثل لفظ حيعل والحيعلة. وفي الجزء الثاني من الكتاب المبدوء بحرف القاف نجد أيضًا هذه العبارة "القاف لا تجتمع مع الكاف في كلمة واحدة". بقى شيء هام هو تفسير عبارتي "قال الخليل أو سألت الخليل" الواردتين في ثنايا الكتاب الأمر الذي اتخذه البعض دليلًا على عدم تأليف الخليل للكتاب، ولكنا نلاحظ أن عبارة "سألت" واردة أيضًا في كثير من الكتب اللغوية الأولى فمثلًا كتاب الخيل للأصمعمي مملوء بعبارة "سألت الأصمعي"، ومع هذا لم يشك أحد في نسبة كتاب الخيل للأصمعي. وأما العبارة الأولى فهي أكثر شيوعًا بل أنها ظلت مستعملة لمدة طويلة فمثلًا الأمالي مملوء بعبارة "قال أبو علي"، وكذلك الجمهرة تحتوي جملة "وقال أبو بكر" وغير هذا كثير. وهناك بجانب ما سبق شيء آخر يحتاج إلى تفسير وهو ورود أسماء بعض الرواة في ثنايا الكتاب مما كان مصدرًا للجدل، والمناقشة وهذه الأسماء يمكن تقسيمها إلى ثلاث مجموعات: أ- معاصرون للخليل مثل أبي الدقيش، يونس، سيبويه، الأصمعي، أبو زيد. وأمثال هذه الأسماء من الأشياء المألوفة التي نجدها كثيرًا في كتب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 اللغة. وهذا يعني أن مؤلف الكتاب اقتبس عن هؤلاء الرواة. فكيف نفسر اقتباس الخليل هذا. وقد أجاب عن تلك النقطة الأستاذ أحمد أمين1. فاختار أن الخليل بعد أن رتب الأبواب، ونظم المواد -وكان هذا همه الأكبر أخذ يضع المفردات، أو يحشو الكتاب فاعتمد على كتيبات معاصريه أو تلاميذه. ونضيف إلى هذا أن ذلك لا ينقص شيئًا من قدر الخليل. فلو أن أستاذًا كبيرًا في عصرنا أراد أن يؤلف كتابًا في موضوع معين، وذكر من بين مراجعه كتابًا لأحد تلاميذه الناشئين المتخصصين في فرع من فروع الموضوع أيكون في هذا حطة لقدر الأستاذ، أو استغراب في أن ينقل كبير عن صغير مسائل فرعية في موضوع ما؟ وهل هذا ينفي أن الفكرة الرئيسية للأستاذ؟ ب- رواة يتأخرون عن عصر الخليل، وقد ورد القليل من ذلك في كتاب العين. والرد على هذا يسير سهل، وهو أن الوراقين في العصور الإسلامية الأولى كانوا يضيفون إلى صلب النص ما ذكر على هامشه، أو بين أسطره من تعليقات لبعض اللغويين الذين قرءوا الكتاب اعتقادًا منهم بأن ذلك يزيد من الفائدة للقارئ العادي. وإنا لا نستغرب هذا إذا عرفنا أن كثيرًا من الكتب قد اشترك مع العين في هذه الظاهرة -خير مثال لذلك النوادر لأبي زيد، والكتاب لسيبويه. ج- النوع الثالث من الرواة بعض الأسماء التي وردت لرواة غير مألوف الأخذ عنهم، وقد أمكن أن نعثر على أسماء: زائدة. أبو ليلى: عرام وقد رأى الأب أنستاس الكرملي أن الخليل قد انفرد بالأخذ عن بعض من الرواة الثقاة، ولكن ضياع نسخ الكتاب أول الأمر لم تجعل أسماءهم تنتشر كغيرهم. ولكن قد نرى تفسيرًا أشد قبولًا من هذا وهو أن بعضًا من هؤلاء   1 ضحى الإسلام ج2 ص270- ص273. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 الرواة لم يكونوا في البصرة أو الكوفة أو بغداد التي كانت تعتبر بمثابة المراكز العلمية في ذلك الوقت، وإنما كانوا من الرواة القاطنين في أطراف الإمبراطورية الإسلامية خصوصًا إذا أضفنا إلى هذا أن العين ألف في خراسان. وقد علل بروانتش هذا بأنه ربما يكون مذكورًا في بعض النسخ دون البعض الآخر. إسناد كتاب العين: بجانب ما سقناه من المناقشة الطويلة لأوجه النظر المختلفة، فإننا قد عثرنا على سلسلتين ذكر فيهما إسناد للكتاب بجانب ما ذكر في أول متنه. السلسلة الأولى: وقد ذكرها ابن فارس في أول المقاييس إذ قال: "أما كتاب العين للخليل بن أحمد، فقد حدثني به علي بن إبراهيم القطان فيما قرأت عليه قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن إبراهيم المعداني، عن أبيه إبراهيم بن إسحاق بن بندار بن لزة الأصفهاني، ومعروف بن حسان، عن الليث، عن الخليل". السلسلة الثانية: وقد ذكرها السيوطي في معرض الكلام على ذكر الآراء حول كتاب العين إذ قال1 "فائدة: روى أبو علي الغساني كتاب العين عن الحافظ أبي عمر بن عبد البر عن عبد الوارث بن سفيان عن القاضي منذر بن سعيد عن أبي العباس أحمد بن محمد بن ولاد النحوي، عن أبيه عن أبي الحسن علي بن مهدي عن أبي معاذ عبد الجبار بن يزيد، عن الليث بن المظفر بن نصر بن سيار عن الخليل".   1 المزهر ص57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 كيف وضعت الفكرة الأولى للعين : والآن لنوضح كيف وضع الخليل كتاب العين لعل هذا الإيضاح يوفقنا على الظروف الخامسة التي أحاطت بكتاب العين، والتي اشتبهت على البعض حتى دعتهم إلى التشكك في نسبة الكتاب. لقد كان معاصرو الخليل من اللغويين يجمعون الكلمات الصعبة المعاني في نظرهم في كتيبات، أو رسائل ليشرحوها وقد عرف هذا اللون من المفردات باسم الغريب، وقد كانت فكرة كل كتيب تدور حول مجموعة من الكلمات المتصلة بموضوع واحد لتبيان معناهما. أراد الخليل أن ينهج منهجًا جديدًا في هذا الميدان، فوضع نصب عينيه تحقيق فكرتين الأولى معالجة جميع مفردات اللغة أو بعبارة أدق جميع موادها وشرحها. الثانية وضع ذلك في نظام يؤمن معه التكرار، أو فوات بعض المواد. وقد رأى أن الطريقة السائدة في عصره وإن كانت مقبولة في موضعها إلا أنها لا تقبل في شكلها إذ لو ألف على نظامها ألف رسالة، ورسالة لم يؤمن التكرار ولم يتأكد من ذكر جميع المواد. وقد اعتنى اللغويون الأولون بالغريب فقط، ولكن الخليل رأى أن يسجل كل مواد اللغة على طريقة رياضية. والخليل كما نعلم استغل عبقريته في الرياضة وعلم الأصوات اللغوية، في القوانين الصوتية التي بنى عليها المهمل، والمستعمل وحيث إن بعض أنواع المهمل يمكن حصرها، فرأى أن يتبع نظامًا يكشف له هذا، وبطريق المقارنة يمكن أن يهتدي إلى المستعمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الليث يصف طريقة الخليل: لقد فكر الخليل في تنظيم متحد يجمع كل الكلمات غير ذلك التنظيم المعنوي الذي تبناه معاصروه لقد فكر، فوجد أن جميع الكلمات من حيث تركيبها الصوتي تتكون من أحرف الهجاء، ا. ب. ت، العادية. لقد ذكر بعض الرواة1: أن الخليل لم يبدأ بالهمزة لتغيرها إلى مدة أو حذفها في بعض المواد. ثم انتقل ِإلى البناء ليبدأ بها، ولكنه لما لم يجد سببًا معقولًا ليتخذ الباء مبدأ عدل عن ذلك إلى الترتيب الصوتي. ولكننا لا نميل إلى هذا الرأي فإن الطريقة الرياضية التي أمكن للخليل أن يحصر بها جميع مواد اللغة على الطريقة الصوتية كان يمكن أن يستعملها أيضًا مع الأبجدية العادية، ولا بد أن هناك سببًا أكثر من هذا. ذلك هو أن ما تحكم في طريقته إنما هو القوانين الصوتية التي بها يعرف المهمل ويميز عن المستعمل. وبناء عليه فإن الترتيب الصوتي يكون من الناحية العملية أكثر أهمية من الترتيب العادي. ولقد شغلت هذه المشكلة بال الخليل زمنًا طويلًا كما كان يشغله أيضًا التفكير في علم العروض. ولقد صور لنا هذا الانشغال تلميذه الليث: إذ يذكر لنا أن الخليل حين ورد عليه في خراسان فاتحه في تلك الفكرة التي كان من الصعب على العقل العادي أن يدركها "فجعلت أستفهمه، ويصف لي، ولا أقف على ما يصف، فاختلف إليه في هذا المعنى أيامًا، ثم اعتل وحججت فرجعت من الحج، فإذا هو قد ألف الحروف كلها على ما في صدر هذا الكتاب".   1 المزهر ص56. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 فكان أن رتب الخليل الأبجدية إلى مجموعات صوتية كما يلي: ع ح هـ غ خ - ق ك - ج ش ض - ص س ز - ط ت د - ظ ث ذ - ر ل ن - ف ب م - وا ي. والتقسيم الصوتي إلى مجموعات لا يختلف كثيرًا عما قرره العلم الحديث. أما ترتيب المجموعات على هذا السلم، وكذلك ترتيب بعض الحروف داخل المجموعة الواحدة، فيختلف نوعًا ما عما يقرره علم الأصوات. ومن يدري لعله لو كان قد أتيح للخليل أن يشتغل في معامل الأصوات التي يسرها لنا العصر الحديث لكان قد وصل إلى نتائج أدق من هذا. وإنا لنزداد إكبارًا له حين نعلم أنه قد سبقنا إلى ذلك بنحو اثني عشر قرنًا من الزمان. ولقد كان ترتيب الخليل هذا مبنيَّا على أساس المخارج فقدم المجموعات الصوتية بحسب عمقها في الحلق، ثم تدرج إلى الحروف الشفوية ثم اختم بحروف العلة. ولقد فطن الخليل إلى أن الهمزة أعمق الحروف مخرجًا، ولكنه وجد من تغيرها سببًا في عدها ضمن حروف العلة. وفطن ايضًا إلى أن الهاء تليها، ولكن الهاء ما هي إلا إرسال الهواء خارج الحلق. ولذا وجد أن العين أصلح حروف الحلق للبدء بها. ونضيف إلى هذا أن كلمة "عين" تعني بجانب أنها حرف هجاء -العين- الباصرة التي تستعمل كثيرًا في جوهر الشيء وكنهه. وقد رأى "لين" أن تكرار حرف العين يكون صوتًا يشبه بصمة الجمل، وهذا من أهم الخصائص العربية. وقد كانت الحاء تشارك العين في نفس المخرج، ولكن اختيار الخليل للعين دون الحاء ذكر له سبب هو "أن العين أنصع"، أو ما يعبر عنه بعبارة أخرى هو أن العين مجهورة والحاء مهموسة. وبناء على هذا أمكن للخليل أن يعرف بطريقته النظرية المهمل من المستعمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 ثم من ناحية التطبيق نجد أنه لم يعثر على مواد ليملأ بها الأصل النظري، فذكر أيضًا أنه سهل. ولعل المثلث الذي رسمه ابن دريد في مقدمة الجمهرة ووضع عند رءوسه الثلاث ثلاثة حروف مختلفة بتكوين منها ست كلمات1 لعل هذا المثلث كان في رأي الخليل دائرة مرسومة هكذا: ويمكن إذا بدأ في الرباعي مثلًا بالدال، وسار يمينًا فإنه يحصل على "دحرج"، وهو مستعمل أما إذا سار شمالًا، فإنه يحصل على دجرح وهو مهمل وهكذا. وهذا يشبه من بعض الوجوه دوائر البحور التي ابتكرها الخليل، وإن نظرة واحدة لهاتين الدائرتين لترينا الشبه بين دائرة العروض، وبين ما يمكن أن يسمى دائرة المعجم. ومن هذا نرى أن نظرية المهمل والمستعمل في العروض تشابه إلى حد كبير قرينتها في كتاب العين -مما يدل دلالة قاطعة على أن مؤلف الاثنين واحد. ونخلص من كل هذا إلى أن كتاب العين لا يمكن أن يكون من تأليف غير تأليف الخليل بحيث إنه يكون من التجني على الواقع أن نكتب على غلاف الكتاب اسمًا غير اسم الخليل، أو نضع في فهارس المكتبات كتاب العين تحت اسم غير اسم الخليل.   1 انظر ص؟؟؟، من هذا الكتاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وهذا لا يعني مطلقًا أن الليث له يد في الكتاب. ولكن ما أبداه الليث من مجهود لا يغير من تلك الحقيقة كما فطن لذلك الليث نفسه، فلم يدع الكتاب لشخصه. ولا يصح أن تحملنا بعض الهنات الصغيرة في الكتاب إلى عدم نسبته للخليل. فقد كانت فكرة الترتيب مسيطرة عليه إلى حد أن شغلت جميع وقته. ثم هي محاولة تعد الأولى من نوعها فلا بد أن نتوقع بعض التطور فيها فيما بعد كما نتوقع بعض التنقيح، والتهذيب كذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 الكرملي وكتاب العين : لا يمكن لباحث في هذا الموضوع أن يترك الإشارة إلى رأي الأب أنستاس الكرملي في هذه المسألة إذ كان له فضل اكتشاف بعض النسخ قبيل الحرب العالمية الأولى، والتي لم يعثر عليها فيما بعد. فعندما أخذ العدة لطبع الكتاب نشر بحثًا مطولًا في مجلته "لغة العرب" نشر في عدد آب "أغسطس" 1914 عرض فيه لتلك المشكلة، ونود هنا أن نأخذ منه بعض النقاط لنتبين وجه الصواب فيها. أ- ذكر الأب أنستاس أن الكتاب احتوى على عبارة "قال الخليل، وسألت الخليل" واستنتج هو من ذلك أن السائل يكون غير المؤلف. وقد سبق أن وضحنا أن هذه ظاهرة شملت المؤلفات العربية الأولى، فقد كان عاديًّا جدًّا أن يرد اسم المؤلف في تضاعيف الكتاب في ذلك الوقت. والكرملي نفسه مع أنه معاصر حديث. ومع تقدم أسلوب البحث العلمي قد ذكر في هامش كتاب العين1 اسمه أكثر من مرة. ففي صحيفة 91 على سبيل المثال أورد بعض التعليقات اللغوية وختمها بقوله: "قاله الأب أنستاس" وفي صحيفة 113 ذكر في الهامش تعليقًا آخر، وكرر فيه نفس الظاهرة حينما قال: "قاله الأب أنستاس ماري الكرملي". ومن يدري لو أن الظروف ساعدته في إتمام طبع الكتاب كله لكنا رأينا عشرات الأمثلة لتلك الظاهرة. ب- ذكر الكرملي من الأدلة على أن الكتاب ليس للخليل أن اللغويين المتقدمين اقتبسوا من العين على أنه لليث. وردًّا على ذلك نقول: إن بعضهم كصاحب اللسان والتاج الذين ذكرهما الكرملي إنما نقل ما نقل عن طريق الأزهري صاحب التهذيب. وقد سبق أن أشرنا إلى أن الأزهري هو أول   1 القسم الذي طبعه أنستاس في بغداد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 من قال بأن الكتاب لليث -ولم لا يذكر الأب أنستاس أن بعض المتقدمين مثل ابن فارس وابن دريد، قد نقل عن العين على أنه للخليل. وشيء آخر لم يذكره الأب أنستاس وهو أن اللسان، والتاج فيهما العبارات الآتية: "قال الليث، قال الخليل، قال في العين" ما سر هذا؟ سره واضح جدًّا وهو أن صاحب اللسان والتاج حينما ينقلان عن الأزهري يذكران عبارة "قال الليث"، ودليلنا على ذلك أن هذا التعبير قد سبق في كثير من الأحيان بعبارة "قال الأزهري" أما حين ينسبان القول للخليل فهما يقتبسان عن ابن دريد في الجمهرة، أو ابن فارس في المجمل. وإذا عرفنا أن اللسان والتاج كان همهما استيعاب كل ما في الكتب السابقة سهل علينا أن نفهم هذا الاختلاف في ذكر المصادر التي رج؟؟؟؟ إليها. وإذا رجعنا إلى بعض هذه الكتب لنرى رأي مؤلفيها الصحيح في كتاب العين، فإننا نجد أنهم لايرون أن الكتاب لليث، وإنما هو الخليل فمثلًا قال صاحب التاج في مادة عين: "وهو أيضًا اسم المعجم المشهور للخليل بن أحمد" أما صاحب لسان العرب، فقد ذكر في مقدمته1 الخلاف حول مؤلف الكتاب، ونقل بعض الأقوال فيه دون أن يكون له رأي حاسم في الموضوع. وأعتقد أننا بعد هذا لا يمكن أن نعتبر أن متأخري اللغويين أو متقدميهم. - كما يقول الأب أنستاس قد رأوا أن الكتاب الليث. ح- ذكر أيضًا فيما ذكر من الأدلة. أن ورود بعض الأسماء لرواة متأخرين عن الخليل في كاب العين مما يجعله لا ينسب الكتاب للخليل. وهذا أمر هين جدًّا فنجد أن أغلب الكتب المؤلفة في القرنين الثاني، والثالث الهجريين قد عمتها هذه الظاهرة. وتفسيرها2 أن الوراقين قد عمدوا حين   1 اللسان ص9. 2 سبق أن وضحنا هذا فيما مضى. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 الكناية إلى إضافة التعليقات التي كتبها بعض العلماء بالهوامش على أنها من صلب الكتاب، ثم جاء من بعدهم فنقلوها كما هي حتى أصبح من العسير التمييز بين ما أضيف، وبين ما هو من نص الكتاب، ولنقتبس هنا مثالًا من كتاب النوادر لأبي زيد تتضح فيه هذه الظاهرة1. أورد أبو زيد هذا البيت على عادته في شرح الغريب: تهددنا. وأوعدنا رويدًا ... ستى كنا لأمك مقتوينا وقد عقب هذا البيت بشروح وتفسيرات من رواة متأخرين جدًّا عن عصر أبي زيد، وأغلب هؤلاء الرواة مذكور في سلسلة الإسناد التي وردت في أول الكتاب. أما ما ورد بعد هذا البيت في كتاب النوادر فهو:- "قال أبو الحسن: القباس، وهو المسموع من العرب أيضًا فتح الواو من "مقتوينا"؛ فيكون الواحد مقتوي. فأما أبو العباس فأخبرني أن جمع مقتوين عند كثير من العرب مقاتوه إلخ". ومن هذا ترى أن الرواي الأخير في السلسلة، ويعتبر المخرج للكتاب قد اقتبس عن راويين متأخرين عن المؤلف تفسيرين مختلفين للكلمة الواحدة. ومع هذا لم يؤخذ ذلك دليلًا ضد أبي زيد ولم يسلبه أحد نسبة النوادر. ثم انتقل الكرملي بعد ذلك إلى ذكر كيفية اكتشافه للمخطوطات، ووصف كل منهما فقال: "أما أن الأدباء ظنوا أن كتاب العين ضاع أو فقد فهذا ما يتحصل من نصوص كتبهم تليمحًا أو تصريحًا. فصاحب كشف الظنون يصف هذا   1 النوادر ص219. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 الكتاب نقلًا عن هذا وذاك، ولا يقول شيئًا من عنده كما يفعل في وصف الكتب التي رآها بعينه -وقال صاحب كتاب اكتفاء القنوع بما هو مطبوع في ص 298 "الخليل بن أحمد صاحب كتاب العين المفقود"، وكرر هذا القول في ص314، وذهب إلى فقده أيضًا علماء الإفرنج المولعين بحفظ آثار العرب واتبعهم أيضًا في هذا الرأي جرجي بك زيدان في كتابه تاريخ آداب اللغة العربية "2: 123" إذ يقول: "ولم يصل إلينا من كتاب العين إلا ما نقل عنه في كتب اللغة كالمزهر للسيوطي، وكتاب النحو لسيبويه". ا. هـ. ثم قال في ص 124 وبالجملة فإن كتاب العين تحفة من تحف الأدب، وللتحليل فصل كبير في وضعه وللأسف أنه ضاع! وقد كان موجودًا إلى القرن الرابع عشر للميلاد. ولا يبعد أن يعثر الباحثون على نسخة منه في بعض المكاتب الخصوصية. ا. هـ. البشرى بوجود الكتاب وببدء طبعه: "نبشر اليوم أبناء العرب كافة أن الشيخ كاظم أفندي الدجيلي، وجد نسخة من هذا الكتاب في كربلاء. ونسخة ثانية في الكاظمية وناسخا هاتين النسختين إيرانيان لا يحسنان العربية، ولهذا جاءنا مغلوطتين مشوهتين، وكلتاهما ناقصة فنسخة كربلاء ناقصة العبارة في عدة مواد. وقد فعل الكاتب ذلك طلبًا لنسخ الكتاب بسرعة فتصرف في النقد تصرفًا غريبًا بحيث أصبح طبعه على تلك النسخة طامة من الطوام، وإهانة للمؤلف الذي تكبد له عرق القربة -وأما نسخة الكاظمية فينقصها ورقتان، وفيها أغلاط لا تقل عددًا عن أغلاط نسخة كربلاء، وإن كانت أغلاط هذه غير أغلاط تلك هذا والكاتبان مختلفان. والنسختان الأمان ستميزتان الواحدة عن الأخرى كما تشهد على ذلك أوهام كل منهما، ولما رأينا هاتين النسختين بتلك الحالة استأنا غاية الاستياء لعلمنا أنه من البعيد أن يطبع مثل هذا الكتاب بتلك الصورة الشنيعة المشوهة القبيحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 التي تصم المؤلف وصمة عار لا يمحيها مر الأدهار. وبقينا في حيرة حتى ظفرنا بنسخة كتبها عربي عارف باللغة. وبالنسخ فحينئذ اطمأن قلبنا. وباشرنا بطبعه مستعملين هذه النسخ الثلاث، وجل اعتمادنا على النسخة الثالثة، فالثانية وهي نسخة كربلاء؛ لأن الأولى هي نسخة الكاظمية التي قابلنا عليها أوائل الكتاب وأواسطه وأواخره ولما تحققنا نقصها، وكثرة أغلاطها عدلنا عنها أيضًا وبقيت بأيدنا النسختان الأخريان. "والكتاب يكون في نحو 2500 صفحة في خمسة أجزاء يحوي كل منها 500 صفحة بحجم هذه المجلة، وبالحرف الذي تراه في هذا المثال، وها نحن ندرج مثالًا من الكتاب. وقد فتحنا بابًا للاشتراك وهوار 4 مجيديات للعراق، وعشرين فرنكًا للخارج، وذلك عن كل جزء من أجزائه الخمسة، وبعد الاشتراك يضاعف ثمنه للعراق وللخارج. ولا يبعث بالمجلد إلا أن يدفع قيمته سلفًا، وإلا لا يلتفت إلى اشتراكه أو طلبه. ويكون أغلب محتويات الجزء الخامس فوائد وتذييلات وفهارس، وذلك لأن هذا الكتاب مرتب ترتيبًا فلسفيًّا على مخارج الحروف مبتدئًا بالعين وهو أول حرف يخرج من الإنسان من أقصى حلقه إذا أراد التلفظ بحروف الهجاء. وهذا الترتيب الفلسفي لا يفيد الباحث شيئًا إذ وقته ثمين ويجب أن يعثر على ضالته بدون عناء عظيم، وبدون إضاعة الوقت سدى. ولهذا سنضع فهارس للمواد لتمكن الباحث من إرشاده إلى ضالته بسرعة وذلك على النظام المألوف الميسور، وهذه كلمتنا في هذا الديوان ومن له خاطر بصدده، فليبده لنا لتكون له من الشاكرين1". وبعد أن عرضنا لكل تلك الآراء نجد أنفسنا مقتنعين بصحة نسبة الكتاب للخليل بن أحمد، ولكننا مع هذا لا ننفي مجهود الليث فيه كلية إذ هو الراوي الأول للكتاب بل ومخرجه أيضًا. وليس الاعتراف بالمجهود يعني نسبة الكتاب.   1 إلى هنا ينتهي الاقتباس عن الكرملي من مجلة لغة العرب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 إليه كما فعل الكرملي. وقد رجعنا إلى القسم المطبوع من العين في مكانين مختلفين: الأول: المجمع اللغوي المصري. الذي كان الأب أنستاس عضوًا فيه. وليس للكتاب غلاف يحمل اسم المؤلف، وإنما وجدنا وريقة مكتوب فيها بالقلم الرصاص، وموضوعة أول الكتاب وملصقة به وفيها:- كتاب العين لليث بن سيار تلميذ الخليل بن أحمد طبع في بغداد في مطبعة الآداب في سنة 1913 ولم يصدر منه إلا 144 صفحة والحرب ضاقت دون إتمامه. وعنى بنشره، وتعليق حواشي عليه الأب أنستاس ماري الكرملي: توقيع: الأب أنستاس الكرملي. الثاني: دار الكتب المصرية: وفيها نسخة كالسابقة وليس على الغلاف اسم للمؤلف، وبالرجوع إلى الكتالوج ج2 ص28 وجد وصف لكتاب العين كما يلي:- "كتاب العين: اختلف الناس في مؤلفه فقيل: إنه الخليل بن أحمد بن عمر بن تميم الفراهيدي البصري. وهو أول كتاب أيضًا في اللغة. وسمي كذلك لابتدائه بحرف العين"، ثم استطرد في وصف منهج الكتاب وترتيبه. ولعل اللجنة التي كان موكولا إليها مراجعة الكتب لذكرها في القائمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 المطبوعة الخاصة بدار الكتب لما لم تجد على الكتاب اسم المؤلف بحثت في المراجع المختلفة، ثم اهتدت إلى الرأي الذي ذكرته في القائمة. أما في المجمع فكان من السهل عليهم أن يرجعوا للأب أنستاس نفسه ليسألوه الرأي، وهذا أيضًا ما حداهم إلى أن يضموا كتاب العين في القائمة تحت اسم الليث بن سيار، وقد كنا ننتظر من هيئة كبرى كالمجمع أن يعنوا بتحقيق تلك المسألة قبل أن يذكروا الكتاب في القائمة. ولكن لعلهم تخلصوا من تلك التبعة بأن وكلوا للأب أنستاس أن يكتب اسم المؤلف على عهدته كما يرى حيث إنه قد قام بطبع قسم منه. ولعل هذا مما يحملنا على القول بأن رأي الأب أنستاس في ذلك لا يمثل رأي المجمع وإنما هو رأيه الفردي. وإلا فقد وجدنا من بين أساتذة المجمع الأفاضل من لا يرى رأي الأب أنستاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 مخطوطات العين : لقد ذكر الكرملي أنه كان قد عثر على ثلاث نسخ مختلفة في العراق، ولكن للأسف لم يمكننا للآن الحصول على إحدى النسخ الثلاث -ولعل الظروف تواتينا بإحداها مع مواصلة البحث إن شاء الله. ونضيف إلى هذا أننا عثرنا على نسختين الآن إحداهما في متحف بغداد كتبت بخط السماوي عام 1936م- والأخرى في ألمانيا، وكانت في برلين حتى الحرب العالمية الثانية، ثم نقلت إلى مكتبة جامعة توبنجن، وتاريخها عام 1927م، وقد أمكننا تصوير كل منهما على "مايكرو فيلم". وإليك وصفًا موجزًا لكل من المخطوطتين: أ- مخطوطة بغداد: تقع هذه المخطوطة في جزءين كل جزء يكون أربعمائة صحيفة، وهي بالخط الفارسي. وفي كل صحيفة خمسة وعشرون سطرًا، وبكل سطر حوالي خمس عشرة كلمة. والخط رغم إمكانية قراءته إلا أنه ليس تام الوضوح. ويبدأ الجزء الثاني بأول حرف القاف. وكل جزء قد رقمت فيه الصفحات ترقيما مستقلًّا الأول إلى ص400 وابتدأ الثاني بصحيفة 1، وانتهى 397 وفي آخر الكتاب نجد هذه العبارة. "وقد نجز النصف الثاني من الكتاب المسمى بالعين المنسوب1 إلى الخليل بن أحمد، بقلم أقل العباد ذي المساوي محمد بن الشيخ طاهر المعروف بالسماوي   1 كلمة "المنسوب" هنا لم يقصد بها السماوي ذكر رأيه في الكتاب؛ لأنه في أول الجزء الأول، والثاني كتب العنوان "كتاب العين في اللغة للخليل بن أحمد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 في النجف في اليوم التاسع والعشرين صفر الخير سنة ألف وثلاثمائة وخمس وخمسين من الهجرة، على نسخة كثيرة التحريف، والتصحيف قاسيت فيها عرق القربة، وسححت منها الأغلب حسب الجهد حامد الله مصليًا على رسوله وآله. وقد قدر الكرملي أن طبع الكتاب يستغرق 2500 صحيفة في خمسة أجزاء. وبهذه المناسبة ترى أن ابن النديم1 قد ذكر أن بعض الوراقين أحضر كتاب العين من خراسان في خمسين جزءًا حيث دفع فيها ابن دريد 50 دينارًا، وكان ذلك حوالي 250هـ. وهنا أيضًا نستدل من كلام ابن النديم على أن كتاب العين ألف أولًا في خراسان. وهذا يتفق مع ما ذكرناه. كما يفسر لنا أيضًا كيف أن اللغويين في البصرة، والكوفة لم يطلع أكثرهم عليه. ويظهر أن كلمة "أجزاء" ليست مستعملة في معناها الذي نفهمه اليوم. فقد كان أصحاب الطبقات يعبرون مرة بكلمة جزء، وثانية بكلمة دفتر وأخرى بكلمة كراسة، وهم يعنون من كل ذلك معنى القسم فقط. ولذلك لا غضاضة على السماوي أن ينسخ الكتاب في جزءين، ولا على الكرملي أن يقدر لطبعة خمسة أجزاء. ب- نسخة ألمانيا: لقد نقلت هذه النسخة عن مخطوطة أخرى في بغداد حديثًا أيضًا بإشراف المستشرق ريتر. وتكون هذه النسخة جزءين أيضًا يبدأ الثاني قبل بداية حرف القاف بقليل. ويظهر أن الناسخ لاحظ أنه من غير المناسب أن يبدأ الجزم وسط الكلام على حرف من الحروف. ولذا نجده قد اعتذر عن ذلك   1 الفهرس ص76. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 في أول الجزء الثاني حيث يخبرنا بأنه نصف الكتاب في هذا الموضع، "ولكل امرئ أن يفعل بملكه ما يشاء". أما أرقام الصفحات فتكون وحدة غير مجزأة فيبدأ الجزء الثاني برقم 412، وينتهي برقم 842. وكل صحيفة في تلك النسخة تشمل 25 سطرًا بكل سطر أربع عشرة كلمة في المتوسط، وهي بخط النسخ الواضح. وفي نهايتها نجد تعليق ناسخها. هذا آخر كتاب اللغة الموسوم بالعين، وقد وقع الفراغ من كتابته تحريرًا في ساعة التاسع من نهار الأربعاء سابع وعشرون من جمادى الأولى سنة 1346 هجرية، وعلى مهاجريها آلاف التحية على قلم الآثم محمد علي بن المرحوم عبد الحسين الأصفهاني الكاظمي. كما عقب ذلك بذكر من كتبت له النسخة فكتب: "الحمد لله أولًا وآخرًا على إتمام هذا الكتاب المستطاب في اللغة العربية المسمى بالعين. نسخ هذا الكتاب للسعي بالعين في اللغة للإمام خليل بن أحمد النحوي على نسخة في خزانة حضرة العلامة حجة الإسلام السيد حسن الصدر، دامت بركاته بحسب الآمر حضرة العلامة السيد محمد علي هبة الدين الشهرستاني رئيس مجلس التمييز الشرعي، ووزير المعارف الأسبق في العراق في تاريخ 27 جمادى الأولى سنة 1346هـ". ونضيف إلى هذا أن نسخة الأب أنستاس المطبوعة نفسها -حيث سنعتبرها مرجعًا عند تحقيق كتاب العين، وطبعه -تختلف اختلافًا بسيطًا عن نسختي ألمانيا والمتحف العراقي. وهذا لا يغير شيئًا من جوهر الكتاب. إلا أن هناك شيئًا هامًّا وهو أن كثيرًا من الأبيات غير منسوب إلى قائله في نسختي ألمانيا وبغداد. ولكنه منسوب في نسخة الكرملي -فهل يعني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 هذا أن الكرملي أضاف النسبة من عنده في صلب الكتاب دون التنبيه على ذلك في الهامش؟ سيظل الجواب القاطع غير معروف حتى نعثر على إحدى النسخ التي اعتمد عليها الكرملي، ولكن أستاذنا الجليل إبراهيم مصطفى عضو المجمع اللغوي المصري يرجح أن هذه النسبة من وضع الأب أنستاس نفسه؛ لأن اللغويين الأقدمين لم يكن يعينهم القائل للأبيات بقدر ما يعنيهم صحة الأبيات نفسها، ويعزز هذا أن شواهد سيبويه قد ذكرت دون نسبة، ثم أضاف الرواة هذه النسبة فيما بعد. وإذ قد انتهينا من ذكر تعظيم كتاب العين، وما قيل حول مؤلفه، وكذلك من ذكر أصحاب المعاجم الذين اقتفوا أثره. نرى من الخير أن نستمر في عرض كتاب اللغويين الآخرين عرضًا موجزًا لنرى إلى أي حد افترقوا في التنظيم عن الخليل، وإن لم يفترقوا عنه في تعبيراتهم، أو أسلوبهم في الشرح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الباب الثالث: المرحلة الثانية في تطور المعاجم نظام القافية أولا: صحاح الجوهري ... أولًا: صحاح الجوهري: حين امتد بنا الزمن إلى عصر إسماعيل بن حماد الجوهري المتوفى 398هـ. نجد أن ترتيب الكلمات في المعجم العربي اتبع نظامًا آخر. فلم يعد هناك داع للسير على نظام التقليبات، ومن ثم فلم تبق هناك حاجة إلى الأبجدية الصوتية التي اتخذت أساسًا لذلك النظام. وإنما ابتدع الجوهري نظامًا جديدًا اتخذ فيه الترتيب الأبجدي العادي أساسًا، ولكنه جعل ترتيب الكلمات فيه على أساس الحرف الأصلي الأخير في الكلمة. ولنا أن نتجاوز في التعبير، ونسميه ترتيب القافية. وقد قال عنه الجوهري في مقدمته إنه رتب كتابه ترتيبًا لم يسبق إليه. نشأ الجوهري في القرن الرابع الهجري1 في مدينة "فاراب" وراء النهر "نهر سيحون" حيث تلقى علوم اللغة على أشهر علماء عصره أمثال السيرافي، وخاله إبراهيم بن إسحاق الفارابي2 المتوفى "350" هـ. وكان الفارابي قد ألف معجمًا قسمه على نظام الأسماء، والأفعال كما قسم كلا منها على أسس صرفية ونحوية، وقد انتفع به الجوهري أكبر انتفاع. وقد ساعدت الظروف الجوهري حين ألف معجمه إذ وجد أمامه من الذخيرة اللغوية الشيء الكثير كما أنه سمع من الأعراب في البدو، والحضر حيث رحل إلى الأماكن التي كان فيها بقية من قبيلتي ربيعة ومضر. وهكذا قد أمكنه أن ينقل عن فصحاء العرب كما فعل الأزهري حين أخذته القرامطة أسيرًا. وقد ذكر لنا الرواة أن الجوهري كان حسن الخط جميله حتى كان يضارع   1 اختصرت الترجمة هنا ومن أرادها مطولة فعلية الرجوع إلى كتب الطبقات. 2 وهو غير أبي نصر الفارابي الفيلسوف المتوفى 339هـ. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 ابن مقلة في ذلك. وكان الناس يتسابقون في اقتناء نسخة من كتابه مكتوبة بخطه، وإن كلفهم ذلك غالي الثمن1. ولئن كان هم أصحاب المعاجم قبل الجوهري إحصاء المفردات، أو المواد اللغوية وتسجيلها في كتبهم كل حسب جهده ومقدرته. ومنهم فريق آخر اقتصر على "الجمهور" المتداول من المفردات، وفريق ثالث أجمل ما قاله الأولون مفصلًا، فإن الجوهري لم يكن يعنيه حصر كل المواد أو الاقتصار على المتداول، إذ رأى أن بعد العهد بالعربي الفصيح قد أدخل على اللغة ما ليس منها. ولقد بلغ الاختلاط في هذا إلى درجة أن اشتبه "الصحيح" بغير الصحيح. فألف كتابه ليثبت فيه ما ذكره لنا من أنه الفصيح في اللغة. ولقد سمى معجمه الصحاح لهذا، وهذه الكلمة تضبط على وجهين2 إما أن تكون بكسر الصاد جمعًا لكلمة صحيح، أو بفتحها فتكون مرادفًا لتلك الكلمة. ولعل التنافس بين أصحاب الحديث من حيث الرواية، والتشدد في الصحة وعدمها مما أوحى إلى الجوهري بأن يجري على سننهم. فكما أن للمحدثين "صحيح البخاري"، فلما لا يكون للغويين أيضًا صحيح، وقد تفلسف الجوهري فاختار كلمة "لغوية" مرادفة للصحيح تليق بمقام اللغويين الباحثين أن يستعملوها، فسمى كتابه الصحاح "بفتح الصاد". ولكن هل معنى الاقتصار على نوع خاص من المواد، أو المفردات أن كثيرًا من اللغة لم يدرج في هذا المعجم؟ يرى الفيروزآبادي صاحب القاموس أن الجوهري قد ترك بذلك نصف اللغة. ويظهر أن المتقدمين كانوا يبالغون   1 ياقوت معجم الأدباء ج2 ص276. 2 المزهر ص39. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 في أحكامهم. ولقد ظن انشدياق أخيرًا أن كلمة النصف هنا بمعناها الحقيقي، فاستدرك ذلك على صاحب القاموس وأخذه عليه1. وذكر لنا أنه من المتعذر أن تعد المفردات في أي لغة. وإن ذلك لمستحيل في العربية لكثرة الاشتقاق من الأصل الواحد فيها. أما إذا كان صاحب القاموس -كما استطرد الشدياق- يعني ان الجوهري ترك بعض المواد فهذا تفسير آخر. ولقد ذهب الشدياق إلى أبعد من هذا، فأتعب نفسه في عد المواد في قسم معين من الكتابين. وقد استولت عليه الدهشة حينما وجد؟؟؟؟؟ في الصحاح؟؟؟؟؟ في القاموس، مع حشو الأخير بأسماء الأعلام التي عاش أصحابها بعد زمن الجوهري بكثير. منهج الصحاح: أ- لقد كان الجوهري أول من استعمل نظام "القافية" في ترتيب الكلمات في كتابه. ولقد فسر هذا بعض المعاصرين المحدثين2 بأنه يساعد المتأدبين على الكتابة التي كان من أهم خصائصها السجع في تلك الأيام. كما أن من شأنه أن يساعد على وحدة القافية في القصيدة العربية التي قد تبلغ أحيانًا المائة من الأبيات. ولعلنا في حل من أن نضيف إلى هذا سببًا آخر، وهو أن أي ترتيب لا بد أن يخضع لنظام الزوائد والأصول من الحروف في المفردات. ولقد أدى هذا إلى الارتباك أحيانًا خصوصًا في الرباعي، والخماسي حيث يختلف موضع الكلمة.   1 الجاسوس ص150. 2 جورجي زيدان -آداب اللغة ج2 ص310. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 في القاموس تبعًا لاعتبار أي الحروف يكون الزائد وما موضعه. وأنه قد يكون من الصعب تمييز ذلك أول الكلمة، ووسطها في بعض الأحيان على حين أن الزوائد في الآخر تكاد تكون محصورة في: 1- علامتي التثنية والجمع. 2- علامة التأنيث من تاء أو ألف. ولقد سار الجوهري في ترتيب الأبجدية على النظام المعروف لنا اليوم فيما عدا حرفًا واحدًا هو الواو إذ وضعه بين النون والهاء، فأصبحت الحروف آخر الأبجدية هكذا: ل، م، ن، و، هـ، ي. وقد اتبع هذا النظام في الأبواب التي رتب فيها الكلمات حسب أواخرها وطبعًا تحت كل باب ذكر حروف الهجاء، ثم بعد ذلك قسم ذلك الحروف إلى فصول كل فصل تبدأ فيه الكلمة بحرف من حروف الهجاء. ولكنا فوجئنا أنه في الفصول استعمل الترتيب العادي المألوف اليوم. وتوضيحًا لهذا نذكر بعض الكلمات على سبيل المثال نجد أن ذكر كلمة وجد قبل كلمة هجد. ب- لقد أراد الجوهري أن يتغلب على مسألة التشكيل التي أتعبت المتقدمين قبله. فنجد مثلًا معاجم الأزهري، وابن دريد وابن فارس قد شكلت فيها الكلمات بالضمة، والفتحة والكسرة في بعض المواضع. ولسنا نعرف ما إذا كان هذا التشكيل من وضع هؤلاء اللغويين أم من وضع من أتى بعدهم من الرواة والعلماء. ثم إن التصحيف قد لعب دورًا كبيرًا في هذا فنجد أن النساخين قد خلطوا بين الضمة والفتحة، وأحيانًا يتركون كتابة الحركة اعتمادًا على أن الذوق يدركها، ثم يأتي من بعدهم فيضع حركة مغايرة ظانًّا أنها الحركة الصحيحة، وأحيانًا يكون رأي المؤلف الأصلي أن يكون حرف ما مفتوحًا، فيأتي من بعده ويرى أن هذا خطأ أو غير صحيح، فيضع ضمة بدلًا منها، ويأتي ثالث فينقل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 لنا الضمة. ونأخذها منه على أنها تمثل رأي المؤلف الأصلي. لعل هذا أو ما يماثله قد دار بخلد الجوهري فأراد أن يخلصنا منه فوضع نظامًا جديدًا. يتلخص هذا النظام في أنه لا يضع الحركة على الكلمة بل يذكر نوع الحركة كتابة بعد الكلمة، وقد اقتضاه هذا أن يقتصر على ذكر حركة الحرف المحتمل أكثر من وجه واحد، فمثلًا يقول: "الحباب بالضم"، وهذا يعني أن الحاء مضمومة أما الباء الثانية، فلا بد أنها مفتوحة لورود الألف بعدها. وأما الحرف الأخير فقد ترك للإعراب. وحيث إن هذا التطبيب كان أول محاولة من نوعها لذلك النظام، فمن الإنصاف أننا لا نؤاخذ الجوهري على بعض الهفوات في محاولته. وإنه ليكفيه أن يضع اللبنة الأولى في حل هذه المشكلة. وعلى المتأخرين أن يكملوا هذا البناء. ولقد حقق لنا الفيروزآبادى أخيرًا ما كنا نتوقع فاقتبس هذا النظام وأكمله وطبقه بدقة وعناية. ولنعد لنظام الجوهري الآن فنرى أنه أيضًا عند الكلام على الفعل الماضي قد ذكر نوع حركة عينه فقط؛ لأنها هي التي تحتاج إلى تبيان. وفي بعض الأحيان قد يذكر مصدر الفعل بجانبه ليدل على التشديد. فإذا قال لنا مثلًا: "قطع تقطيعًا" فإن معنى هذا أن عين الفعل وهي الطاء تكون مشددة. هذا هو المنهج العام للجوهري في ترتيب المفردات في كتابه، أما من حيث تعريف المفردات، فلم يأت فيه بجديد فقد اقتبس عمن سبقوه أحيانًا مع التصريح بالمصدر الذي أخذ عنه، وأحيانًا يغفل ذلك. وبمقارنة بعض العبارات بكتاب العين نجد اتفاقًا كبيرًا بين التعبيرين، وهذا يدل في رأينا على أنه نقل عن العين، وإن لم يكن بطريق مباشر بل بواسطة بعض من أخذ عنهم، وصرح بأسمائهم مثل الأزهري، وابن دريد وابن فارس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 أما من حيث المواد التي تركها فقد ذكر الشدياق أن الجوهي ترك كثيرًا من المفردات التي تدخل في باب الصحيح، ولعل هذا في نظر الشدياق يرجع إلى السهو، ولعلنا ندهش إذ نرى أن كثيرًا مما أغفله الجوهري قد ذكره الخليل في العين، وإن المتتبع لحاشية ابن بري أو تكملة الصاغاني ليرى كيف أنهما استدركا على الجوهري كثيرًا من الصحيح الذي تركه مما نجده مدونًا في كتاب العين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 تعليقات ومختصرات وتراجم للصحاح: لقد كان للصحاح أهمية كبيرة في عالم اللغة، فتناوله العلماء بالتعليق والشرح والاختصار والترجمة، ولعلنا نوفي الجوهري حقه حين ننوه فقط ببعض منها لأهميته1. 1- التكملة. ألفها الصاغاني المتوفى عام 660هـ، وفيها يذكر المؤلف بعض المواد التي تركها الجوهري مع التعليق الموجز على ما ذكره الجوهري من معاني المفردات، أو نسبة الآراء إلى قائليها. 2- حاشية ابن بري. وهي أشهر الحواشي التي كتبت على الصحاح. ويزيد في أهميتها أن مؤلفها كان تلميذ الجوهري. وقد اعتنى ابن بري في الحاشية بأن ينبه على الكلمات التي وضعت خطأ في غير موضعها. كما أنه أضاف بعض الشواهد التي لم يذكرها الجوهري. 3- ولقد جرد السيوطي كل الأحاديث التي وردت في الصحاح، ووصفها في كتاب منفرد لشرحها وبيان معانيها. 4- أما المختصرات فتقصر منها على ذكر اثنين:- أولًا: مختار الصحاح الذي وضعه الرازي المتوفى عام 780هـ، ولقد رتب الرازي مختاره كترتيب الصحاح. وقد كان من المتوقع -كما يوحي بذلك عنوان الكتاب أنه سيتخير بعض المفردات التي يراها ملائمة لغرضه في الكتاب، ويقتصر عليها فقط. ولكنه فعل أكثر من هذا. إذ أضاف إلى ما انتقاه   1 ذكر الأستاذ عبد الغفور العطار، جميع ذلك في كتاب يخرجه حديثًا عن الصحاح الذي ينتوي إعادة طبعه من جديد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 من الصحاح بعض مفردات أخرى نقلها عن تهذيب الأزهري وغيره من المعاجم. وفي طليعة القرن الحالي تخيرت وزارة المعارف المصرية هذا الكتاب ليكون قاموسًا مدرسيًّا، فطبع مرة أخرى بعد أن عدل ترتيبه من نظام القافية إلى النظام المألوف العادي. ثانيًا: تهذيب الصحاح، وقد طبع حديثًا في مصر، ويسير على نظام القافية أيضًا. وقد ذكر لنا محققًا الكتاب أن مخطوطته قد اكتشفها في مكة المكرمة العلامة الشيخ محمد سرور الصبان1. وقد أمكن لمحققي الكتاب أن يهتديا إلى اسم المؤلف، وأن يختارا عنوانًا مناسبًا للكتاب: إذ لم يكن مسجلًا على المخطوطة شيء من هذا أما المؤلف فهو الزنجاني، وقد اعتمد المحققان في هذا على كشف الظنون. وأما عنوان الكتاب فقد اختصره من عنوان لمؤلف آخر للزنجاني باسم "ترويح الأرواح في تهذيب الصحاح". 5- التراجم: لقد ترجم الصحاح إلى الفارسية والتركية. وذلك ليسهل على الفرس والأتراك تعلم العربية حينما امتدت رقعة الدولة الإسلامية إلى تلك البلاد، ولقد ظهرت الترجمة التركية 1000هـ، وفيها مقدمة تبحث موضوع صيغ الأفعال في اللغة العربية. وأخيرًا فقد فتح الصحاح طريقًا جديدًا في ترتيب الكلمات، واختفى أثره في ذلك اللسان والقاموس.   1 لقد عنى الشيخ محمد سرور الصبان وزير المالية السعودية بنشر كثير من كتب اللغة، والأدب بينها "تهذيب الصحاح" الذي حققه الأستاذ عبد السلام هارون، وأحمد عبد الغفور عطار. وقد أخرجته المطابع المصرية عام 1952م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 ثانيًا: لسان العرب: رغم طول المدة بين الجوهري، وابن منظور ورغم ظهور بعض المعاجم التي رتبت على الأبجدية العادية، وحسب أوائل الكلمات مثل المجمل لابن فارس، وأساس البلاغة للزمخشري إلا أن ابن منظور صاحب لسان العرب لم يشأ أن يعدل عن ترتيب الجوهري إلى ترتيب المجمل، بل اقتفى في ذلك صحاح الجوهري. ويظهر أنه كان ينتوى أن يضع كتابه على الأبجدية الصوتية إذ جعل عمدة مراجعة معجمين مطولين ألفًا على هذا النظام، هما تهذيب الأزهري، ومحكم ابن سيده، ولذا يعد اللسان. من بعض الوجوه -مكررًا لما ورد في هذين المعجمين. إلا أن ابن منظور وجد أن ترتيبهما صعبًا ويحتاج إلى دراية تامة في علوم اللغة لمن يريد أن ينتفع بهما، فعدل عن ترتيبهما إلى ترتيب الصحاح؛ لأنه أسهل نسبيًّا1. ويظهر كذلك أنه كان مشغوفًا بالمطولات إلى حد كبير جعله لا يفكر في ترتيب ابن فارس، أو الزمخشري لصغر حجم كتابيهما. ويعد لسان العرب أكبر المعاجم العربية حجمًا إذ تبلغ نسخته المطبوعة عشرين جزءًا. وقد ذكر الفيروزآبادي في مقدمة القاموس أن لديه نسخة من اللسان تبلغ ثمانية وعشرين جزءًا. وقد تكون هذه النسخة مكتوبة بخط أكبر أو صفحاتها أقل حجمًا من غيرها، أو لعلها كان مفرقًا فيها الأجزاء حسب عدد حروف الهجاء. أما مؤلف اللسان فهو محمد بن مكرم بن منظور الأفريقي ولد في تونس.   1 مقدمة اللسان ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 عام 680هـ هجرية حيث نشأ بها. وتولى منصب القضاء ومن بين تلاميذه المشهورين تاج الدين السبكي، والذهبي المؤرخ المعروف. ويفضل "لين" أن يدعوه باسم "ابن منظور". منهج اللسان: لقد سار اللسان على منهج الصحاح في ترتيبه. ولكنه أكثر من ذكر أسماء الرواة الذين اقتبس عنهم، ولم يقتصر هذا على اللغويين فقط كالخليل وأبي عمرو، وابن فارس وابن سيده بل شمل أيضًا كثيرًا من علماء النحو والحديث والفقه. وهذا مما جعل كتابه أشبه بالموسوعة اللغوية منه بالمعجم كما يخبرنا بذلك الشدياق1 إذ يقول: "سبب ذلك كبر حجمه فإنه كتاب لغة، وفقه ونحو وصرف، وشرح للحديث وتفسير للقرآن ... وإن المادة التي تستغرق خمسين سطرًا مثلًا في القاموس قد تزيد في اللسان على مائتين وخمسين". وقد أدى هذا التوسع والشغف بتدوين كل ما عثر عليه في كتب الأقدمين أن تتكرر بعض العبارات في الكتاب. أو تشرح الكملة مرتين. ولم يسلم هذا الأسلوب من التغاير، أو ما يشبه التناقض بعض الأحيان. فمثلًا في مادة "م ل ك" ذكر اللسان أن كلمة "إملاك. مثل ملاك تعني عقد الزواج"، وهذا يوحي بصحة الصيغتين. ثم ذكر بعد ذلك بقليل في نفس المادة أن "صيغة إملاك هي الصحيحة فقط، والعبارة الأولى نقلها عن ابن سيده في المحكم، والثانية عن الجوهري في الصحاح كما صرح هو بذلك. فترى من هذا أن ابن منظور كان همه منصرفًا إلى تدوين ما في المعاجم السابقة كلية دون أن يذكر لنا رأيه فيها.   1 الجاسوس ص79. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 وإذا صح ما نقل عن الجوهري بأن صيغة إملاك -التي تعني عقد الزواج هي الصحيح فقط دون ملاك، فإن الخليل في كتاب العين كان يقتصر على الصحيح كذلك. إذ ورد في مجموعة "ك ل م، مادة م ل ك، أن ملك وأملك تمنيان عقد الزواج". ولكن فكرة تدوين الصحيح فقط لم تأخذ كشلًا عمليًّا إلا عندما ألف الجوهري معجمه "الصحاح". ويتضح لنا من تلك المقارنة أن ابن منظور لم يكن يرى أن يقتصر المعجم على تديون الصحيح فقط كما فعل الصحاح. بل من حق جميع المفردات العربية أن تسجل في المعجم. وهذا ما جعل المواد في اللسان تفوق غيرها عددًا في المعاجم الأخرى. فقد ذكر لنا المرتضى الزبيدي 1 أن اللسان يشتمل على ثمانية ألف مادة، وتحت كل مادة كثيرًا من المشتقات. وهذه المشتقات من الصعب تعدادها في اللغة العربية لكثرتها. وإنه ليسترعي نظرنا حقيقة غريبة، وهي أن ابن منظور رغم طول كتابه اللسان وكبر حجمه، لم يكن يميل إلى التطويل والإسهاب في مؤلفاته الأخرى. وقد ذكر السيوطي2 أن ابن منظور اختصر نحوًا من خمسمائة كتاب من المطولات المشهورة، مثل الأغاني للأصفائي، والعقد الفريد لابن عبد ربه، وتاريخ دمشق لابن عساكر. وهذا قطعًا إذا صح، يخالف منهجه في اللسان.   1 تاج العروس، المقدمة، ص9. 2 البغية، ص106. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ثالثا: قاموس الفيروزبادي ... ثالثًا: قاموس الفيروزآبادي: يمتاز معجم القاموس بأنه أوسع المعاجم انتشارًا، وذلك لأمرين رئيسيين:- 1- أنه مختصر خال من الشواهد ومن أسماء الرواة. ولعل الفيروزآبادي قصد بذلك أن يكون كتابه للحفظ عن ظهر قلب كما فعل أبو بكر الزبيدي في مختصره. وقد أدرك هذا الزبيدي، فاتخذ من القاموس متنًا، ووضع له شرحه "تاج العروس". 2- أنه حل مشكلة التصحيف والتحريف. وذلك بوساطة الرموز، والاصطلاحات التي استعملها لذلك. وقبل ظهور ذلك المعجم كانت كلمة قاموس تعني "البحر الأعظم"، ثم انتفائه من هذا المعنى بكثرة الاستعمال لتكون مرادفًا لكلمة معجم، وذلك حيث أطلق اسم القاموس لا على كتاب الفيروزآبادي فحسب بل على صنوة من الكتب التي تعرف باسم المعاجم. ولقد ولد الفيروزآبادي في "كزرين من بلاد الفرس عام 729م"، وعند بلوغه الثامنة رحل إلى شيزار حيث تلقى العلوم والمعارف. ثم رغب في التوسع في المعرفة، فانتقل إلى بغداد وواسط. وكان كثير التنقل بين البلاد الإسلامية فرحل إلى مصر وسوريا، والهند ثم إلى تركيا حيث كان مؤدبًا للأمير "أبي يزيد نجل السلطان مراد". وقد ألقى عصا التسيار أخيرًا في اليمن حيث بقي فيها مدة حياته، وهناك كان له حظ الصلة بالملك الأشرف الذي تزوج ابنته. وقد كان الفيروزآبادي على سعة تامة بالعلوم الإسلامية كلها، فكان ذا دراية بالفقه، والحديث والتفسير والتراجم إلى جانب تبحره في علوم اللغة. وقد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 رزق ذاكرة قوية الحفظ، فحفظ القرآن كله وهو ابن سبع سنين، وقد أخبر أصحابه عن سعة حفظه حين قال1: "كنت أحفظ كل ليلة مائتي سطر قبل أن أنام". كيف ألف القاموس: يخبرنا الفيروزآبادي في مقدمة القاموس أنه شرع أولًا في تأليف معجم كبير الحجم يحتوي كل ما في محكم ابن سيده وعباب الصغاني، تحت عنوان "اللامع العجاب، الجامع بين المحكم والعباب، لكنه رأى أن الزمن قد لا يمتد به لإتمامه، فعدل عن ذلك إلى تأليف كتاب مختصر هو "القاموس". وقد ذكر أن اللامع قد يستغرق نحوًا من ستين جزءًا. وقد روى لنا أن الفيروزآبادى قد واصل الكتابة في اللامع حتى انتهى إلى الجزء الخامس. وقد ورد في القاموس اقتباس عن اللامع في مادة "ف ك هـ" "ولقد بينت كل ذلك في اللامع". وإذا عرفنا أن ترتيب القافية في القاموس يجعل هذه المادة قرب نهاية الكتاب. فهل كانت في نهاية اللامع كذلك؟ وكيف يتفق هذا ما سبق من أنه وضع منه قسمًا بسيطًا فقط؟ لقد حيرت هذه المسألة بال الشدياق، وقال: إن في هذا تناقضًا. ولكن المستشرق "لين"2 افترض أن ترتيب "اللامع" مثل ترتيب "المحكم" الذي هو صورة أخرى من ترتيب "العين". والهاء تقع ثالثة في تريتب هذين الكتابين إذ يبدآن: ع ح هـ إلخ وحيث إن "فكه" تحتوي حرف الهاء فقد جاءت في أوائل الكتاب أي ما يعادل الجزء الخامس. ولكنا لا نوافق لعين على هذا الرأي إذ لو فرض أن اللامع كان مثل المحكم   1 مقدمة القاموس والتاج. 2 مقدمة معجمه: "مد القاموس ص XV III". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 أو العين لكان يجب أن تكون مادة فكه في منتصفه؛ لأن المعاجم التي اتبعت نظام التقليبات تتناقض أبوابها تدريجًا، فكان ينبغي أن تكون تلك المادة في أوائل الثلث الثاني من الكتاب أي بعد الجزء العشرين من العباب. إذ إن هذه المادة "فكه" تقع في صحيفة 275 من كتاب نسخة بغداد البالغ مجموع صفحاتها 800 صحيفة. ونرى من هذا أن تقدير اللامع بستين جزءًا أمر مبالغ فيه، ولعلها ستة أجزاء فقط، ثم حرفت بعد ذلك إلى ستين. ومن هنا يمكن أن نفهم اختصار اللامع إلى ثلث الحجم، أو نصفه حين جعل القاموس بدلًا منه. وقد ذكر لنا في مقدمة التاج أن القاموس كتب في جزءين، في حين أن النسخة المطبوعة استغرقت ثلاثة أجزاء، ولعل هذا التعديل اقتضته السهولة العملية للطباعة فقط. ولقد ذكر المرتضى الزبيدي أن عدد الكلمات في القاموس يبلغ ستين ألفًا، وفي الصحاح أربعين ألفًا أما في لسان العرب فتبلغ ثمانين ألفًا. وقد تشكك الشدياق في صحة هذا؛ لأنه لا يعتقد أن القاموس يبلغ مبلغ الصحاح في ذلك فكيف يزيد عنه. وقد ذكر لنا أنه أحصى المواد التي في النصف الأول من القاموس، فوجدها 5.450 مادة. ولكنه من ناحية أخرى لم يذكر لنا العدد المقابل في الصحاح. وقد أخذ الشدياق على القاموس أنه حشى كتابه بالكثير من أسماء الأعلام التي عثر عليها في كتب التراجم وغيرها، وهي تشمل قوائم بأسماء اللغويين والمؤرخين والفقهاء، والأمراء والملوك وغيرهم، كما أخذ عليه أنه يفترض أن الأسماء الأعجمية مثل جبريل تخضع أيضًا لنظام تأليف الكلمات العربية، فيكون فيها من الحروف الأصلي والزائد، ونضيف إلى هذا أن الفيروزآبادي ملأ قاموسه بالكثير جدًّا من الألفاظ التي تدور حول المسائل الجنسية، ولم يشأ حين شرحها أن يتخذ أسلوب الكناية في ذلك بل استعمل الأسلوب الصريح الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 الذي يدل على الفحش أحيانًا، وأيضًا جمع فيه الكثير من الفوائد الطبية خصوصًا عن أسماء الأعشاب المختلفة، وكثيرًا ما يشرح مركبًا طيبًا خاصًّا، ويتبعه بعبارة "وهو مجرد مفيد"، وليس لنا اعتراض على هذه الأشياء في حد ذاتها، ولكن ليس موضعها في قواميس اللغة خصوصًا التي يدعي أصحابها أنهم قصدوا الاختصار، فعمدوا إلى حذف ما تعود اللغويين ذكره من الرواية والشواهد مثلًا. منهج القاموس: 1- لقد ذكر شارح القاموس أن الفيروزآبادي كتب في نسخته الخطية كل المواد التي زادها على الجوهري بالمداد الأحمر، وعند الطبع، نظرًا لصعوبة هذا اكتفى بوضع خط تحت كل مادة من هذه المواد، وقد نبه الزبيدي من ناحية أخرى على المواد التي أوردها الجوهري في الصحاح، وأهملها صاحب القاموس. 2- لقد سجل القاموس الكلمات الناقصة تحت الحرف الأصلي، فمثلًا ذكر "رجا" مع الواوي، وذكر "عي" مع اليائي. 3- إذا كان للكلمة مؤنث من لفظها، فإنه يكتفي بذكر كلمة "وبالهاء" فمثلًا قال: "كريم، وبالهاء" وهو يعني "كريمة". وأحيانًا كان يصرح بذكر صيغة المؤنث نفسها كما قال: "ثعلب، والأنثى ثعلبة". 4- استعمل رموًا خاصة لتدل على أشياء معينة وذلك إمعانًا في الاختصار فاستعمل "م = معروف، ع = موضع، ج = جمع، هـ = قرية، د = بلد. 5- لقد حذف أسماء الرواة كما لم يذكر كذلك أبيات الشواهد، مع أنه كما قال في مقدمته رجع إلى حوالي ألف كتاب في مختلف الفنون من لغة، ونحو وفقه وطب وتراجم. 6- نظامه في التشكيل: بجانب ذكر نوع الحركة كقوله: "بالفتح" نجد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 أنه استعمل بعض الكلمات كمفاتيح للنطق فمثلًا في مادة "ذرب" نجده يذكر صيغها هكذا "كفرح .... كمعظم .... كتراب ... ككتف .... كمنبر"، وذكر بجانب كل صيغة من هذه الصيغ المعنى الخاص بها، فمثلًا يقول في هذا "وكتراب السم -يقصد أن كلمة ذراب بضم الأول معناها السم- وسيف مذرب كمعظم مسموم، والذرب ككتف إزميل الإسكاف ... والمذرب كمنبر، اللسان ... إلخ". وهذه طريقة أخرى في ضبط الكلمات يمكن أن يؤمن معها التصحيف. 7- لم يشأ صاحب القاموس أن يطيل كتابه بذكر الرواة والشواهد. شأنه في ذلك شأن المعاجم الأخرى المختصرة: وليس معنى هذا أنه لم يعتمد على ما سبقه من الكتب بل الأمر بالعكس، فقد ذكر الفيروزآبادي في مقدمته أنه اعتمد على حوالي ألف كتاب. ونجد أن صاحب التاج في شرحه القاموس قد أرجع بعض الأقوال إلى رواتها الأول كما أكمل الكتاب بذكر الشواهد المختلفة، وقد وجد أيضًا أن صاحب التاج قد ذكر "الخليل"، فيمن ذكرهم من الرواة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 رابعًا: تاج العروس: لقد كان للقاموس حظ كبير من الشروح والتعليقات -كحظ صنوه الصحاح- إن لم يزد عنه، فقد شرحه أمير اليمن، الأشرف، كما تناول المقابلة بينه وبين الصحاح كثير من اللغويين، وكان أيضًا أن ترجم إلى الفارسية والتركية. وسنقتصر في هذا البحث على شرح ثم على نقد للقاموس، أما الشرح فهو كتاب "التاج" للزبيدي، وأما النقد فهو "الجاسوس" للشدياق. أما شرح الزبيدي الذي سماه "تاج العروس"، فقد ألف في القرن التاسع عشر الميلادي، ويعد بذلك آخر المعجمات المطولة التي اتبعت نظام القافية. ولقد ظهرت شخصية الزبيدي فيه إلى حد جعله يفوق مجرد شرح، أو تعليق إلى أن يصير في نظر اللغويين كتابًا مستقلًّا ومعجمًا قائمًا بنفسه. أما مؤلفه فهو السيد محمد المرتضى الزبيدي، نسبة إلى زبيد تلك المدينة الشهرية باليمن، والتي استقر فيها الفيروزآبادي بعد تطوافه بالبلاد الإسلامية. ثم رحل الزبيدي إلى مصر، واستمر بها حتى مات عام 1205هـ "1884م". ولقد أخبرنا الزبيدي في مقدمة التاج أنه اعتمد على حوالي خمسمائة مرجع لتأليف كتابه. وذكر لنا أن من بين مراجعه الرئيسية معاجم اللغويين الأول الذين كانوا معتمدًا لكل من سبقه، مثل جمهرة ابن دريد، ومجمل ابن فارس، "وصحاح الجوهري، وتهذيب الأزهري، ومحكم ابن سيده. وليس هناك من شيء يدلنا على أن الزبيدي قد رأى كتاب "العين"، ولكنه قد ذكر كثيرًا من الكتاب نقلًا من مراجعه السابقة، وعلى الأخص التهذيب والمجمل. ولقد بدأ الزبيدي كتابه "التاج" بمقدمة طويلة تعرض فيها لبعض النظريات اللغوية وناقشها، وهذه المقدمة قد جمعت معظم ما كتب حول تلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 النظريات. أما المسائل التي تعرض لمناقشتها فتشمل:- 1- هل اللغة توفيقية أم إصلاحية؟ 2- هل من الممكن حصر جميع مفردات اللغة، وكيف يمكن ضبط موادها؟. 3- لقد اعتنى بذكر الصحيح، والإسناد، والرواية وغير ذلك من إصطلاحات المحدثين التي سرت عدواها إلى اللغويين. 4- ذكر استعراضًا تاريخيًّا للعلماء اللغويين منذ عهد أبي الأسود، وقسمهم إلى مدرستين الكوفة، والبصرة التي انتهيا "بابن دريد البصري، وثعلب الكوفي"، وعندما جاء دور الخليل اكتفى الزبيدي بأن نقل عن السيوطي هذه العبارة "أول من ألف في اللغة الخليل بن أحمد الذي عمل كتاب العين، وقيل: إنه مات قبل أن يتمه"، ولم يشأ الزبيدي أن يورط نفسه في تحقيق مؤلف العين بل اكتفى بذكر آراء من تقدمه. ولقد سبق لنا حين الكلام عن ابن دريد، والأزهري أنهما اقتبسا من "العين"، ولكن ابن دريد فعل هذا تحت عبارة "وقال الخليل" أما الأزهري فكان يستعمل عبارة "وقال الليث". وعندما نقل الزبيدي عنهما في كتابه ذكر العبارتين معًا، ولم يكن يهتم بتحقيق ذلك، ولم يشأ أن يخبرنا ما إذا كانت كلا العبارتين منقولة عن كتاب واحد. 5- واختتم الزبيدي مقدمته بترجمة للفيروزآبادي، تعرض فيها لتاريخ حياته ووصف قاموسه الذي قال عنه: لئن كان الصحاح أوسع المعاجم انتشارًا في عهد السيوطي، فإن القاموس في أيامنا هذه قد فاقه في ذلك. ولكن الزبيدي قال في موضع آخر بأن الفيروزآبادي قد أوجز كتابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 غاية الإيجاز حتى إنه قد يبدو في بعض الأحيان صعبًا معقد التركيب، وإن القارئ العادي قد يحتاج إلى تكرار القراءة أكثر من مرة حتى يمكنه أن يتفهم نص تعبير القاموس. وفي آخر ترجمة الفيروزآبادي ذكر الزبيدي سلسلة الرواية التي روى بها القاموس، والتي انتهت بابن حجر الذي روى الكتاب مشافهة عن مؤلفه. ولعل هذه هي آخر سلسلة يروى بها كتاب عربي على ما نعلم1، وبعد ذلك كانت تؤلف الكتب، وتوضع عليها التعليقات، والشروح دون ذكر سلسلة الرواية. منهج التاج: لقد شرح التاج كتاب القاموس حسب نظام الشروح التي اتبعها المؤلفون في عصره، وقد ساعده على ذلك أنه اعتبر كتاب القاموس "متنًا" نظرًا لشدة إيجازه. وقد اندمجت عبارة الشرح في المتن حتى تكون من مجموعهما عبارة واحدة، وقد تميزت عبارة المتن بوضعها بين قوسين، ويشتمل شرح الزبيدي الإضافات التي أهمها:- أ- ذكر الشواهد التي أغفلها القاموس. ومعظم هذه الشواهد هي من النوع التي استعملتها المعاجم السابقة التي أخذت شواهدها في أغلب الأحيان عن كتاب العين. ب- عند شرح المفردات أضاف الزبيدي من عنده ذكر الرواة، واللغويين الذين أخذت عنهم هذه التعريفات، أو بعبارة أخرى أمكنه أن يكشتف المراجع التي تقل عنها لاقاموس ليرد في بعض الأحيان الاقتباس إلى مصدره الأصلي، ولم نعدم أن نجد فيها عبارات يمكن ردها إلى كتاب العين.   1 ولعل السلسلة الواحدة الباقية لليوم هي رواية "قراءة القرآن". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 ج- أحيانًا قد يغفل القاموس مادة بأسرها، فيذكرها الزبيدي منبهًا عليها خصوصًا هذه المواد التي أهملها القاموس وذكرها الصحاح. كما يزيد الزبيدي ذكر بعض المشتقات التي فاتت القاموس. وهذه الفوائت تذكر تحت عبارة "ومما يستدرك عليه" أو"المستدرك". مثال ذلك قوله في مادة "ل ب ب". "ومما يستدرك عليه .... وعنه الليث: والصريح إذا أنذر القوم لبب. وذلك أن يجعل كنانته وقوسه في عنقه، ثم يقبض على تلبيب نفسه، وأنشد: إنا إذا الداعي اعترى أو لبَّبا وهذه العبارة منقولة عن تهذيب الأزهري الذي عزاها إلى الليث، وهو يقصد "كتاب العين"، ويمكن بعرض هذه الفقرة من "العين" عقد المقارنة بينهما:- قال في العين: "والصريح يصرخ إلى القوم ويلبب، ويقال: يلبب؛ لأنه يجعل كنانته أو قوسه في عنقه، ثم يقبض على تلبيب نفسه، ويصرخ، قال: إنا إذا الداعي اعترى أو لبَّبا وفي موضع آخر عندما ذكر القاموس كلمة "ويح" زاد صاحب التاج عليها:- قال الخليل: لم تستعمل العرب على هذا الوزن إلا -ويل، ويه، ويك، ويس. وقد ذكر كتاب العين في ذلك الموضع ما يقرب من هذا. وبهذه المناسبة أمكننا أن نكتشف تخطئة للأزهري استداركًا على الليث. وهذه التخطئة غير صحيحة؛ لأن التاج ذكر رواية عن أبي عبيدة تشهد ضد الأزهري. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 وذلك عند ذكر كلمة "يوم بغاث"، فقد نقل التاج عن التهذيب "قال الأزهري: لقد ذكر الليث هذه الكلمة بالغين وصوابها بالعين المهملة، ولا يعقل أن هذا رأي الخليل، وإنما صحفت على الليث ومقام الخليل يجل عن هذا1. وقد أنهى التاج هذا الاقتباس بقوله: وذكر أبو عبيدة أن الخليل روى عنه "بغاث" بالغين أيضًا. ويمكن هنا أن نذكر تعبير العين نفسه لنرى إلى أي حد يتفق مع هذا:- "ويوم بغاث، وقعة كانت بين الأوس والخزرج، ويقال: بعاث بالعين، وبغاث: على موضع أميال من المدينة". ومن هذا نرى أن الأزهري كان يتقصد مواضع معينة من "العين"، ويغير من تعبيره -إذا صح لنا أن نسمي الحذف تغييرًا، ليلتمس من ذلك سبيلًا إلى تخطئته. وهذا المثال وأشباهه قد سبب ارتباكًا كبيرًا لكثير من اللغويين الذين ما كانوا يجرؤون على رد قول لغوي كالأزهري بل أنهم أكثر من هذا نقلوا عن كتابين ينتسبان لمدرستين مختلفين مما بدا في صورة المتناقض. وهذا أيضًا ما جعل المتأخرين أمثال السيوطي، والزبيدي لا يقطعون في تلك المسألة برأي حاسم، بل اكتفيا بذكر ما وقعت أعينهم عليه. وأيا ما كان، فقد كان لطول كتاب التاج، وذكره لمختلف الروايات فضل أي فضل في اكتشاف أدلة جديدة ضد صاحب التهذيب في جملته على كتاب العين لينفي نسبته عن الخليل بحجة أنه فوق مستوى الخطأ أو الشبهات.   1 ورد ما يقرب من ذلك في مقدمة الأزهري في كتاب التهذيب ص28. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 الشدياق ونقده للقاموس : لقد فتح الشدياق صفحة جديدة في تطور البحوث اللغوية، التي كان أهملها نقد نظم التقليبات، والقافية التي اتبعها اللغويون المتقدمون كأساس لترتيب معاجمهم. وكانت زيارته لإنجلترا وميوله الصحفية لهما أكبر الأثر في تنمية ملكة النقد عنده، ولقد حدث هذا في القرن التاسع عشر، في الوقت الذي كانت تسود فيه روح التقليد، والتسليم التام بكل ما كتب الأولون، وقد اضطرت هذه الفكرة إلى محاولة التوفيق بين مختلف وجهات النظر، وإن بدت أحيانًا متناقضة. انحدر فارس الشدياق من اسرة مارونية، ونشأ في لبنان حيث تلقى علومه الأولى في بيروت على يد الإرسالية الأمريكية هناك. ثم رحل إلى القاهرة عام 1834م حيث اشترك تحرير مجلة "الوقائع المصرية" أول مجلة عربية في الشرق. ثم انتقل إلى "مالطة" استجابة لرغبة أصدقائه من الأمريكان ليشرف على المطبعة العربية هناك. وبعدها ذهب إلى إنجلترا بدعوة من "جمعية الكتاب المقدس" في كمبردج، حيث أتيح له أن يجمع أساسًا لكتابه الذي فقد فيه المجتمع وسماه "الفاياق". وعند عودته من إنجلترا عرج على باريس حيث قابل أحمد باشا باي تونس، فتأصلت بينهما الداقة. وقد مدحه الشدياق بقصيدة على وزن قصيده كعب1   1 نشرت هذه القصيدة وترجمت للألمانية، في مجلة المشرقيات. "185 I. Z. D. G. P. 250". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 "بانت سعاد"، ثم رحل إلى تونس حيث أعلن إسلامه، وتسمى بأحمد تيمنًا باسم الباي. وهناك أنشأ جريدة "الرائد". وفي عام 1857 رحل إلى استانبول عاصمة الخلافة الإسلامية حيث أسس مجلة "الجوائب" التي كان لقلمه فيها جولات، فحرر كثيرًا من المقالات التي تناولت موضوعات لغوية مختلفة، حتى وافته منيته عام 1878م. ولقد تبلورت أفكار الشدياق، ونظرياته المختلفة في اللغة في كتابين هامين. "الجاسوس على القاموس، سر الليال في القلب والإبدال". أ- الجاسوس: لقد تخير الشدياق كتاب القاموس هدفًا لانتقاداته. وكأنه بذلك يريد أن يقدم لنا الدليل العملي على أن المعاجم العربية ليست فوق الانتقاد، وأنه لذلك سيختار أكثرها شهرة وأوسعها انتشارًا. أما المسائل التي انتقدها على القاموس فتشمل: 1- ترتيب المفردات في الكتاب. 2- وضع المشتقات تحت المادة الواحدة. 3- التعريفات، وشروح المفردات. 4- تعليقات القاموس على ما ذكره الصحاح. 5- الفصيح في اللغة. 6- صيغ المطاوعة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 1- ترتيب المفردات: لقد ذكر الشدياق أن صاحب القاموس بين لنا في مقدمته أنه ألف كتابه ليساعد طلاب العربية على تفهم معاني المفردات، وانه لذلك وضع كتابه موجزًا ليسهل عليهم حفظه، وإذا كان هذا هو الحال، فإن الشدياق لم يكن مرتاحًا لاختيار القاموس ترتيب الصحاح كأساس يسير عليه، وكان الأوفق أن يتبع الترتيب العادي الذي سار عليه ابن فارس في المجمل؛ لأنه أسهل من الناحية العملية، ولم نعد بحاجة الآن إلى ترتيب القافية الذي يخدم السجع والشعر، وإذا كان لا بد للسجع والقافية من شيء يخدمهما، فليكن لهما كتاب خاص، ولقد دعا الشدياق علماء اللغة إلى ترك النظم؟؟؟؟ في كتابة معاجمهم المستقبلة على أساس الترتيب العادي. على أنه هو نفسه لم يلتزم ذلك "في سر الليال" كما سيأتي توضيحه. 2- ترتيب المشتقات: إذا فرض وأردنا أن نعالج مادة في المعجم مثل "ع د د "، فإننا نجد لها كثيرًا من المعاني المختلفة التي تدخل تحت ما يسميه اللغويون "بالمشترك اللفظي" كما نجد لكل معنى من هذه المعاني كثيرًا من المشتقات التي تندرج تحت الأصل الواحد. والكلمات المستعملة لتلك المعاني المختلفة، والمشتقات المتعددة لم تسجل في القاموس تبعًا لنظام معين بل وضعت جزافًا، وإن على القارئ أن يراجع المادة جميعها ليستخرج منها طلبته، ولكننا من ناحيتنا لا نرى أن هذا النقد ينصب على القاموس وحده، بل يشاركه في ذلك معظم المعاجم السابقة له خصوصًا الكبرى منها مثل اللسان والتهذيب. 3- شرح المفردات. لقد أخذ الشدياق على الفيرزآبادي أنه ملأ كتاب بكثير من أسماء الأعشاب الطبية، واستطرد إلى ذكر فوائدها كما لو كان كان كتابه معجمًا طبيًّا، وهو يرى أن ذلك خارج عن اختصاص كتابه، كما أخذ عليه أنه حشى القاموس بكثير من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 أسماء الأعلام التي لا تمت للأدب ولا للغة بصلة، وأنه حتى في ترتيبها لم يضعها في مكانها الطبيعي، ورغم أن أغلبها أعلام أجنبية لم يكن قد تناولها التعريب، فإن الفيروزآبادي لم يحالفه الصواب في ترتيبها إذ افترض أن لها أصولًا، وفيها زوائد نعاملها معاملة الأسماء العربية، على حين أنه يجب اعتبار حروفها جميعًا أصولًا. 4- تعليق القاموس على الصحاح: لقد لاحظ الشدياق أن الفيروزبادي كان شديد اللهجة على الجوهري، فكان يتتبع سقطاته، كما كان مولعًا بذكر المواد التي أهملها الجوهري والتنبيه عليها، وبعض هذه الأشياء كان صاحب القاموس فيها محقًّا، وبعضها كان فيها متحاملًا. ونحن من جانبنا نرى أن صاحب الحاسوس كان متحاملًا على الفيروزآبادي تحاملًا كثيرًا حين تتبع سقطاته، ليوهم القارئ أن صاحب القاموس قد تجنى على اللغة واللغويين، وقد أوحى إليه هذا الاتجاه أن يختار لكتابه اسم "الجاسوس على القاموس"، ولا نظن أن أسلوب السجع يبرر له ذلك. 5- الفصيح: لقد انتقد الشدياق على النظرية التقليدية التي تحدد الفصيح في العربية بالعصر الجاهلي، والأموي أي بحوالي ثلثمائة سنة، ولا تعتد بشعر الشعراء الذي ورد بعد هذه الفترة، ومن العجب أن النقاد اللغويين قد يعترفون بأن شاعرًا ما قد بلغ من الجودة مبلغ من سبقوه إن لم يكن يفوقهم، ولكنه مع هذا لا يحتج بشعره. وقد طالب بأل تحدد فترة الفصيح بزمن معين بل أن أي شاعر يعترف له بالجودة يمكن أن يحتج بشعره، كما ذكر أن اللغويين السابقين كان عليهم أن يذهبوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 إلى البادية ليستمعوا من الأعراب، ويسجلوا ما سمعوه بأنفسهم بدلًا من اعتمادهم الكلي على الرواية؛ لأن الرواة إما أن يتركوا بعض المواد التي اعترف بفصاحتها في اللغة، وإما أن يضيفوا من عندهم بعض ما لم يوثق به فيها. وقد أوقع هذا أصحاب المعاجم إما في النقص أو الزيادة، فمثال الأول الجوهري في صحاحه، ومثال الثاني الصغاني في عبابه، أما الفيروزآبادي في القاموس فهو في نظر الشدياق مثال للاثنين معًا. 6- المطاوع: وهنا نجد أن الشدياق قد اعترف بأن القاموس ليس وحيدًا من بين كتب اللغة في ذكره بعض الهفوات أو الأخطاء، بل إنه وجد أن هناك قاعدة نحوية مشتركة قد أوقعت اللغويين جميعًا في الخطأ، وتلك هي القاعدة التي تقول بأن الفعل المطاوع لازم إذا كان فعله الأصلي متعديًا، وقد اكتشف الشدياق بعد مراجعة اللسان، والتاج بجانب القاموس أن كثيرًا من الأفعال المطاوعة تكون متعدية أيضًا مثل أصلها بل إنه في بعض الأحيان يجد المطاوع متعديًا حينما يكون الأصل لازمًا. وقد أفرد صاحب الجاسوس فصلًا خاصًّا ذكر فيه هذه الأفعال مرتبة ترتيبًا أبجديًّا من الألف إلى الياء -ولكنه لم يضعها على حسب الترتيب المتداول المعروف، بل وضعها على حسب ترتيب القافية أيضًا في الوقت الذي كنا نتوقع فيه أنه سيلتزم الترتيب الذي دعا اللغويين إليه ليكون أسهل من الناحية العملية. وهكذا نجد أن الشدياق في نقده على القاموس لم يسلم من ارتكاب بعض المآخذ التي كان يود ألا تقع فيه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 "ب" سر الليال: هذا الكتاب موضوع تطبيقًا لنظرية لغوية في منشأ الكلمات، وهي النظرية التي تقول بأن الكلمات نشأت في اللغة محاكاة لبعض أصوات الطبيعة، أو الحيوانات أو الحركات التي تحدثها الآلات المستخدمة في معيشة الإنسان. كما أن الكتاب يطبق كذلك النظرية الثنائية التي تقول بأن أصل الكلمات في العربية حرفان فقط، ثم يتفرع عن كل أصل أو مقلوبه مواد أخرى، ولكنها جميعًا تشترك في معنى واحد عام هو ما يعتبر أصلًا لكل تلك المواد. وقد مثل الشدياق بكلمة "قط"، فذكر أنها حكاية لصوت القدوم، وما يشبهه حين تقطع به الأخشاب، وإنها من بعض الوجوه تشبه الكلمة الإنجليزية "CUT" معنى ولفظًا. ورتب على هذا أن المواد: قطف، قطع، قطم، قطش، كلها متفرعة من الأصل "قط"، كما أنه وجد أن بعض الحروف قد تتناوب مثل "جدف، جدث"، وبعض قد يتبادل الموضع مثل "جذب، جبذ، أيس -يئس، لي - لبب". وعندما أراد الشدياق أن يسجل قائمة المفردات ليشرحها لم يضعها حسب الترتيب العادي كما كنا نتوقع، ولا على حسب القافية، ولا على حسب مخارج حروف الحلق كما فعل الخليل، ولكنه اتخذ لنفسه نظامًا معقدًا انتظم كل هذه الترتيبات: "أ "ح خ ع غ هـ" ب ت ث ج * * د ذ ر ز س ش ص ض ظ * * ف ق ك ل م ن * وي. فما بين القوسين الكبيرين يشمل حرف الحلق التي وضعها أولًا -لأنها كما أراد أن يبين لنا هو- لها خصائص معينة فيجب أن توضع أولًا. وما بين القوسين الصغيرين يشمل حروف الحلق في رأي المعاجم التي اتبعت نظام الخليل، أما الهمزة فقد وضعت فيها مع حروف العلة في آخر الأبجدية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وأما العلامة * فتدل على موضع حرف الحلق من الأبجدية العادية الذي نقل من موضعه الأصلي إلى المجموعة الأولى بين القوسين. وزيادة على هذا فقد اتبع نظام التقليبات، فذكر مثلًا كلمتي "رد، در" في موضع واحد، وكذلك الحال في "حب، يح". والأكثر من هذا أنه عند ترتيبه لهذه الكلمات نجد أنه قد رتبها حسب نظام القافية. فإذا أردنا أن نعرف أين موضع كلمة "كتب"، فعلينا أن نعرف أن أصل مادتها "ك، ت" فقط، وحيث إن "ت" مقدمة في أبجديته على "ك"، فنتوقع أن نجد الأصل "ت ك" الذي يندرج تحت مقلوبه "ك ت" في فصل التاء. وكان من الممكن للشدياق أن يسير على نظام التقليبات الذي اتبعه الخليل، حيث إنه وضع حروف الحلق أول القائمة، وحيث إنه كذلك وضع الأصل ومقلوبة في موضع واحد. ولكنه بدلًا من هذا يبتدع لنا نظامًا جديدًا يحوي كل الصعوبات التي اعترضت النظم السابقة، فكيف يمكنه بعد هذا أن يعترض على القاموس أو غيره في ترتيبه. وبقطع النظر عن الترتيب فقط طبق في كتابه النظرية الثنائية في اللغة تطبيقًا لا بأس، وليس معنى هذا أننا نوافق على صحة النظرية أو خطئها، فهذا بحث آخر ليس مجاله هنا. وعلى العموم فإن الأفكار التي دونها الشدياق في كتابيه "الجاسوس، سر الليال" كانت البذور الأولى للباحثين من المحدثين الذين أوسعوها بحثًا، وتمحيصًا فيما بعد، خاصة جورجي زيدان في كتابه فلسفة اللغة، والكرملي في كتابه نشوء اللغة العربية وتطورها، وكان كل هذا دافعًا للبحث اللغوي أن تتولاه الهيئات التي كونت فيما بعد بصفة رسمية في صورة المجمع اللغوي، في بعض الأقطار العربية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 الباب الرابع: المرحلة الثالثة من ترتيب المعاجم مرحلة الترتيب الأبجدي العادي تنظيم الأبجدية العادية ... تنظيم الأبجدية العادية: والمقصود بالأبجدية العادية هو ما نسير عليه اليوم من ترتيب. اب ت ت .... ي ونذكر لنا كتب الطبقات أن المحدثين كانوا أسبق من اللغويين في وضع الأسس الأولى لهذا الترتيب، فهذا أبو عبد الله البخاري يرتب أسماء الرواة على الأبجدية العادية، ولكنه يراعي فقط الحرف الأول من الاسم1، وهذا ابن قتيبة ايضًا يرتب كتابه "غريب الحديث" الذي جمع فيه الكلمات الصعبة في الأحاديث لشرحها -على حسب الحرف الأول أيضًا. ولقد كانت الصلة قوية بين علوم اللغة وعلوم الحديث، فقد كانت التربية الأولى في ذلك العصر تتيح للطالب أن يدرس قدرًا لا بأس به من علوم الشريعة من حديث أوفقه، وقدرًا في علوم اللغة والبلاغة، ثم إذا اختار أن يتخصص في أحد العلوم الشرعية، فإن الفروع المختلفة من علوم اللغة تساعده على فهم النص، ومن ناحية أخرى فإن المتخصص في أحد العلوم اللغوية في حاجة إلى دراسة شيء من أدب القرآن، والحديث كذلك. وعندما تقدم الزمن بالفئتين وظهرت المعاجم التي التزمت الأبجدية العادية التزامًا دقيقًا بمعنى أنها راعت في ترتيب الكلمات الحروف: الأول والثاني والثالث كذلك نجد أن غريب الحديث يتخذ شكل معجم بالمعنى الكامل، فظهر للزمخشري كتاب "الفائق" كما ظهر لابن الأثير كتاب "النهاية".   1 مجلة المجمع العلمي بدمشق 1941، ص250. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 المجمل والمقاييس لابن فارس : في أواخر القرن الرابع الهجري ظهر معجمان كان ترتيب الكلمات فيهما هو الأول من نوعه إذ التزم المؤلف في كل منهما نظام الأبجدية العادية مع فارق يسير، والكتابان لمؤلف واحد هو ابن فارس. نشأ أحمد بن فارس في قزوين، وهمدان حيث تلقى المرحلة الأولى من تعليمه، ثم رحل إلى بغداد حيث أخذ علوم اللغة من أشهر علمائها في ذلك الوقت أمثال الخطيب، وابن القطان1، وابن طاهر المنجم، وقد بلغ من مركزه العلمي أن استدعاه إلى "الري" فخر الدولة بن بويه لتأديب ولده مجد الدولة، كما كان له من المكانة ما جعله أستاذًا للأدبيين المشهورين الصاحب بن عباد، والبديع الهمداني، ورغم أنه كان فارسي الأصل إلا أنه كان متشيعًا للعرب ضد الشعوبية. ومن بين كتبه التي لها صلة بمعجميه: الصحابي وكتاب الثلاثة. أما كتابه الأول فاسمه الكمل "الصاحبي في فقه اللغة، وسنن العرب في كلامها". وهو أول كتاب كامل من نوعه تعرض فيه للمسائل اللغوية الهامة، وقد اتخذه السيوطي فيما بعد أساسًا لكتابه "المزهر". وأما الكتاب الثاني "كتاب الثلاثة"، فقد جمع فيه بعض المواد اللغوية التي تتشابه في كل منها معاني الأصول الثلاثة مهما قلبت في أي وضع، وقد كان هذاالكتاب أساسًا لمعجمه "المقاييس". وله بجانب هذا رسائل أخرى صغيرة كالإتباع، والمزاوجة، وأيضًا ذم الخطأ   1 ابن القطعان هو الذي روى عنه ابن فارس كتاب العين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 في الشعر الذي ذهب فيه إلى أن الشعراء الأول حتى الجاهليين منهم غير معصومين من الخطأ، "فما ورد1 من كلامهم موافقًا لسنن كلام العرب، فمقبول وما ورد غير ذلك فمردود"، وقد أعلن في صراحة أن امرأ القيس مثلًا قد أخطأ حين قال: فاليوم أشرب غير مستحقب ... إنما من الله ولا واغل بتسكين الباء من "أشرب"، ولم يقتنع ابن فارس بالتأويلات المتكلفة التي يذكرها النحاة، واللغويون لينزهوا أمرأ القيس من الخطأ، وقال أيضًا: إن شعراء عصره المجيدين يمكن أن يحتج بشعرهم، وهذا رأي له من الخطورة، والجرأة مبلغ كبير في ذلك العصر الذي تمسك بالتقليد القائل بأن الاحتجاج مقصور على الجاهليين، والأمويين من الشعراء فقط. أ- المجمل: هذا هو المعجم الذي اشتهر به ابن فارس، فقد عبر اللغويون المتأخرون حين الحديث عنه بقولهم مثلًا "أساس الزمخشري، ومجمل ابن فارس". وقد نظم هذا المعجم على أساس ترتيب الأبجدية العادية، مراعيًا ذلك في كل أصول الكلمة بما فيها الأول، والثاني، والثالث وهكذا. وكان ابن فارس يعقد فصلًا لكل حرف من حروف الهجاء، ويقول فيه مثلًا باب الحاء وما بعدها. وكان المتبادر للذهن أن يبدأ فصل الحاء، وما بعدها مثلًا بالحاء والهمزة مع بقية حروف الهجاء، ثم الحاء والياء ثم الحاء والتاء، وهكذا، ولكن كلمة "وما بعدها" استعملها ابن فارس لتعني شيئًا آخر، فكان أن قصد بها ما يليها في ترتيب الأبجدية العادية، وهو الخاء   1 كتاب "ذم الخطأ في الشعر" ص3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 في حالتنا هذه فبدأ بالحاء والخاء، ثم الحاء والدال، وهكذا إلى الحاء والياء وهنا نجد أنه عند انتهاء الأبجدية يعود ثانيًا إلى أولها، فيذكر الحاء مع الهمزة، ثم مع الباء فالتاء فالثاء إلى أن يختتم هذا الباب بالحاء مع الجيم. فإذا تصورنا أن الأبجدية منتظمة في شكل دائرة، فإن الترتيب يبدأ من الحروف المعين مبتدئًا بتأليفه مع ما يليه في الدائرة، ثم ينتقل إلى الحرف الثاني، وهكذا حتى تعود الدائرة من حيث بدأت، وهكذا. هذا من حيث التنظيم. أما من حيث القيمة اللغوية للمجمل، فقد ذكر ابن فارس في مقدمته أنه وجد أن مفردات اللغة العربية فوق الحصر، وأنه من غير الممكن جمعها كلها في كتاب واحد، ولذا فإنه سوف لا يهتم بذكر النوادر والغريب، وإنما سيقتصر على ذكر المستعمل من الألفاظ في عصره، وقد جعل الشرح أيضًا موجزًا، كما استعمل أسلوب الرواية، والنقل عن اللغويين المختلفين شأنه في ذلك شأن معاصريه، ولكنه لاحظ أن روايات اللغويين الأسبقين متداخل بعضها في بعض، وقد عرض لذلك في المقدمة عند ذكر أمهات مراجعه التي وصفها بقوله: "أغلاها وأشرفها كتاب العين في اللغة للخليل بن أحمد، والجمهرة لابن دريد، وكتابا أبي عبيد: المصنف والغريب، "وإصلاح" المنطق لابن السكيت، ثم قال: تداخل كلامهم في كلام بعض: "قالوا: الأب هو إلخ". ولقد طبع قسم بسيط من المجمل، ولكن بدون فهارس أو تحقيق دقيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 ب- المقاييس: تنظيم المفردات فيه مثل تنظيمه في المجمل، أما منهجه في شرح المفردات فقد ابتكر شيئًا جديدًا، وهو أنه حاول أن يوجد لكل مادة من المواد معنى مشتركًا عامًّا بحيث يمكن أن يدمج فيه كل المعاني الفرعية حقيقية، أو مجازية وكذلك ما يبدو في اصطلاح البلاغيين أنه مشترك لفظي حاول أن يربط بين المعاني الفرعية المختلفة لكل لفظ منها ليدمجها في المعنى العام كذلك، وعلى هذا فإذا ورد مفرد جديد لم يكن مستعملًا من قبل ولكن له أصلًا، ومادة وجد منها بعض المشتقات فإنه يبيحه، ويعلق عليه بقوله والقياس لا يأباه أو القياس يقتضيه. وبناء على هذه النظرية يمكن في عصرنا الحاضر أن نذكر في القاموس كلمة "تصنيع"، وإن لم ترد في المعاجم السابقة؛ لأنه قد ورد أصل المادة "ص ن ع" وكثير من مشتقاتها. ولقد طبع المقاييس أخيرًا في مصر1، وبذل محققه فيه مجهودًا يشكر، وذيله بالفهارس الوافية المختلفة كما بدأه بتصدير قيم عرفنا فيه بابن فارس وكتابه. ولكن الأستاذ المحقق اعتمد في الطبع على صورة في القاهرة لمخطوطة في إيران. وأكمل ما وجد من نقص من كتاب المجمل مع التنبيه عليه، ولكنا عثرنا على نسختين أخريين في لندن إحداهما في المتحف البريطاني، والأخرى في الديوان الهندي. وقد قارناهما بالنسخة المطبوعة فلم نجد كبير اختلاف. وهذا وقد اعتمد المجمع اللغوي في قاموسه الجديد "المعجم الكبير2" على آراء ابن فارس في ذكر المعنى العام لمواد اللغة.   1 حققه الأستاذ عبد السلام هارون عام 1951م. 2 ظهر هذا المعجم، وكتابنا ماثل للطبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 أساس البلاغة للزمخشري : إن ترتيب المفردات حسب الأبجدية العادية قد التزم التزامًا كليًّا في المعاجم العربية لأول مرة حينما ألف الزمخشري كتابه أساس البلاغة في القرن السادس الهجري، ومن بين مؤلفات الزمخشري التي لها صلة بكتاب الأساس "الفائق في غريب الحديث، والكشاف في تفسير القرآن". أما الفائق فقد جمع فيه الزمخشري مفردات الحديث التي تحتاج إلى إيضاح، ورتبها على حسب الأبجدية العادية، ليشرح معانيها. وأما الكشاف فرغم أنه كتاب تفسير القرآن، إلا أن الفكرة البلاغية التي كانت متسلطة على الزمخشري، وهي إثبات الإعجاز للقرآن عن طريق بيان أوجه البلاغة في أسلوبه قد أدته إلى عدم الموافقة على بعض الروايات التي تثبت أن لله يدًا، ولكن لا كأيدينا أو أنه تعالى مستو على العرش حقيقة، وإنما كل أولئك، وأشباهه كان في نظره مجازًا عبر عنه بكلمة "التمثيل"، وهذا يتفق مع مذهبه المعتزلي الذي كان ينتسب إليه، وكذلك كانت فكرة المجاز والحقيقة هي الدافع الأول الذي تحكم في منهجه حين ألف الأساس. أما كتبه الأخرى فأشهرها "المفصل"، وبعده النقاد ثاني كتاب في النحو بعد كتاب سيبويه، كذلك طرق ميدان الأدب فألف "الكلم النوابغ"، وهي حكم مسجوعة تشبه من بعض الوجوه كتب المقامات. كتاب الأساس: اسمه الكامل: أساس البلاغة، وليس كما يفهم من عنوانه أنه أبحاث في علوم البلاغة، ولكنه معجم لشرح المفردات العربية المختلفة، والفكرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 الأساسية فيه، هي التفرقة بين المعاني الحقيقية، والمعاني المجازية للألفاظ وقد ذكر في مقدمته أن الناشئة في عصره بحاجة إلى كتاب تبسط فيه الألفاظ العربية، وتوضح معانيها المجازي منها والحقيقي، وكذلك مفردات القرآن حين يعرض لها في كتابه، فهو يعني بتبيان المعنى الحقيقي أو المجازي، كما عنى باقتباس تعبيرات بأكلمها من الكتب الأدبية ليوضح فيها استعمال المفردات المختلفة في جمل، فهو بهذا لم يقتصر على التقليد المتوارث من شرح المفردات بالروايات والآراء المتعددة، وقد جعله هذا يقتبس كثيرًا من شعر المتأخرين، ونثرهم مما يوحي بأنه لا يقف عند فترة معينة في نظرية الاحتجاج، ولم ينس كذلك أن يقتبس من كتابه "الكلم النوابغ"، فمثلًا عند المادة "ح ص ن" قال: تقول ركب الحصان وأردف الحصان1. ومن العجيب أن اللغويين المتأخرين كصاحب القاموس، وصاحب اللسان رغم اطلاعهم على "الأساس"، واقتباسهم عنه لم يشاءوا أن يتبعوا طريقته اليسيرة في تنظم المفردات بل عدلوا عنها إلى ترتيب الجوهري الذي اتخذ نظام القافية أساسًا في كتابه "الصحاح"، وقد يكون لهم بعض العذر أن يعدلوا عن ترتيب ابن فارس، وألا يلتزموه التزامًا حرفيًّا، لما فيه من ذكر المواد لا على اعتبار أن الأبجدية تبدأ بالهمزة بل كل حرف بعد مبدأ في بابه، ومع أن الزمخشري قد التزم ذلك التزامًا كليًّا لم يقتنعوا بأن يقتفوا أثره، ولعل المانع لهم من ذلك أنهم لم يرضوا عن منهج "الأساس" في الحقيقة والمجاز، وأنه قد مثل ببعض عبارات المتاخرين ممن لا يحتج بكلامهم في نظر أصحاب تلك المعاجم، أو أنه كان لمذهب المعتزلة الذي اعتنقه الزمخشري -والمتأخرون من اللغويين سنيون- دخل في ذلك، وقد ذكر البعض أنهم عدلوا عن ترتيب الأساس؛ لأنه لا يحتاج   1 الساس ج1، ص179. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 إلى مهارة لغوية كما يحتاج ترتيب القافية، ولكن إذا عرفنا أن صاحب اللسان قد ذكر في مقدمته أنه لم يجد، أو في من محكم ابن سيده -وهو الذي سار على ترتيب الخليل، ويحتاج لكل المهارة اللغوية في ترتيبه- ولكنه عدل عنه لصعوبته. فكأن ابن منظور وجد أن ترتيب القافية أسهل نوعًا من ترتيب الأبجدية الصوتية، ولم يشأن أن يدخل في حسبانه ترتيب الزمخشري، ولكن في القرن التاسع عشر ابتدأ اللغويون يرجعون إلى نظام الأساس؛ لأنه أسهل من الناحية العملية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 الموجزات : لقد كان ترتيب الأساس دافعًا لمؤلفي الموجزات أن يقتفوا أثره حتى إننا نجد أن مختار الصحاح -وقد ألف مبدئيًّا على تنظيم أصله الصحاح يعاد تنظيمه من جديد على ترتيب الأساس، كذلك من بين المعجمات الموجزة التي اتبعت الأبجدية العادية كتاب المصباح المنير: أ- طبعة المختار الثانية: لقد أعيد طبع مختار الصحاح عندما اختير ليكون كتابًا مدرسيًّا في مدارس مصر، وقد سبق أن أشرنا إلى علاقة المختار بالصحاح، ونضيف إلى هذا أن المختار قد استعمل "مفاتيح" أدق من التي استعمالها الفيروزآبادي في القاموس. وبهذه "المفاتيح" أمكنه أن يستغني عن التشكيل إلى حد ما. أما تلك المفاتيح التي استعملها، فلم تقتصر على ضبط الفعل فقط بل تدل أيضًا، وتغني عن ذكر المضارع والمصدر. فمثلًا إذا قال: إن فعلا ما من باب خضع فمعنى هذا أن الماضي والمضارع في ذلك الفعل مفتوحًا العين، وأن المصدر بزنة خضوع، وكذلك إذا قال: إنه من باب باع، فمعنى هذا أن مضارعه مثل يبيع ومصدره مثل يبيع وهكذا، وهذه المفاتيح هي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 ب- المصباح المنير: وترتيبه كترتيب الأساس، وقد أكثر فيه مؤلفه "الفيومي المتوفى 766هـ" من الاصطلاحات الفقهية، واللغوية ولولا أنه فعل ذلك لكان كتابه صنوا لسابقه المختار، والذي دعا المؤلف إلى ذكر كل تلك المصطلحات، والاستطرادات أنه كتب معجمه أولًا وبالذات ليشرح به ألفاظ شرح الوجيز الذي كتبه الرافعي على وجيز الغزالي، وقد ملأ الفيومي المصباح بالروايات المختلفة نقلًا عن اللغويين، وأصحاب المعاجم، وقد عثرنا على بعض الروايات عن الخليل، وليس معنى هذا أن الفيومي رأى كتاب العين، ولكن يظهر أنه نقل عنه بوساطة المجمل أو الجمهرة، أو غيرهما من الكتب المتعددة التي ذكرها كمراجع في مقدمته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 المعاجم اللبنانية الحديثة : لقد تمكن اللغويون في لبنان أن يعيدوا وضع المعجم العربي من جديد مستعينين في ذلك بخبرات السنين الطوال التي مرت على تنظيم المعجم، كما أن دعوة الشدياق في ترك ترتيب القافية قد وجدت صداها لديهم، وإذا أضفنا إلى هذا أنهم كانوا أسبق من غيرهم في "الشرق اتصالًا بالغرب1، وتأثرًا بثقافته فإنا نفهم كيف أنهم عنوا بتلك الناحية، فأخرجوا لنا المعاجم المطولة على الترتيب الأبجدي العادي. وتمتاز تلك القواميس إلى جانب ترتيبها أنها واضحة العبارة كاملة الشواهد. إلا أنها من ناحية أخرى لم تتخلص من ربقة الزاوية. وسنقتصر على ذكر قاموسين فقط وضع كلا منهما عالم لغوي ينتمي إلى طائفة دينية خاصة كان بينها، وبين زميلتها تنافس شديد، وهما: طائفة المارونية التي نبتت معجم "محيط المحيط، للبستاني"، وطائفة الجزويت التي تبنت معجم "أقرب الموارد، للشرتوني". أ- محيط المحيط: ألف هذا الكتاب العالم اللغوي بطرس البستاني، وقد ذكر في مقدمته أنه وجد أن اللغة العربية بحاجة إلى قاموس عصري مرتب ترتيبًا يسهل استعماله، وأنه وجد كذلك أن القاموس مع شهرته، وكثرة تداوله صعب الاستعمال في هذا العصر نظرًا لترتيبه المبني على القافية، فالحاجة إذن ماسة إلى معجم يشمل "القاموس"، ويزيد عليه بعض ما نحن في حاجة إلى معرفته مستخرجًا ذلك من   1 أدباء العرب ج3 ص135. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 المعاجم اللغوية الأخرى، وقد عبر عن ذلك في المقدمة بقوله1: "ولما كان أملنا جمع كل ما في القاموس المحيط للفيروزآبادي، وكل ما في كتب اللغويين، فقد دونا كل ذلك في كتاب وأسميناه "محيط المحيط"، وفي آخر فصل الراء2 كتب يقول: وألحقت فيه كثيرًا من الفوائد والقواعد، والشوارد وغير ذلك مما لا يتعلق بمتن اللغة، وذلك لكي يكون هذا الكتاب شاملًا، يجد فيه كل طالب مطلوبه من هذا القبيل". وهذا الاتجاه قد دعاه إلى أن ينقل عن كتب أخرى كثيرة بجانب نقله عن المعاجم المتداولة، فهو مثلًا ينقل عن السيوطي، والبيضاوي، والجرجاني، وأبي البقاء وأضرابهم، وقد لاحظنا أنه يذهب في الشواهد مذهبًا يقارب مذهب الزمخشري في ذلك، فهو لا يمانع أن يروي لشعراء متأخرين من عصر ما بعد "الاحتجاج"، فهو مثلًا يستشهد بشعر الحريري المتوفى 516هـ كما ينقل عن غيره من الشعراء "المحدثين"3. ولكنه في هذا لم يجعل شعرهم بمنزلة شعر الجاهلين، أو الإسلاميين في درجة واحدة، بدليل أنه كان عند ما يستشهد ببيت لشاعر محدث كان يقدم له بكلمة "ومنه". أما الروايات التي ذكرها البستاني في معجمه، فلم تعد كثيرًا ما نراه في المعاجم العربية الأولى،. فبين الحين والحين تظهر لنا أسماء: الخليل، والكسائي، سيبويه، الأزهري، الجوهري، ابن فارس، الفيروزآبادي، الفيومي. ولكن ليس معنى هذا أنه قد رجع لكل واحد من هؤلاء ليطلع على مؤلفه، فلم تكن روايته في ذلك من أوله درجة، بل كان ينقل من كتب المتأخرين، بما في ذلك   1 مقدمة محيط المحيط ص1. 2 المحيط ص847. 3 المحيط ص740، ص941. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 الرواية. فليس معنى ذكره، وقال الكسائي أنه أطلع على كتاب "الكسائي في اللغة بل نقل هذه العبارة عن كتاب آخر ذكرت فيه. أما بالنسبة لكتاب العين، فقد روى البستاني عنه مرة تحت اسم الليث، ومرة تحت اسم الخليل شأنه في هذا شأن صاحب اللسان، وغيره من الذين نقل عنهم وقد وجدنا له تعبيرًا جديدًا في ذلك حين قال في مادة "د ج ن" "الدجنة: الظلماء، وفي كتاب الخليل: لو خففها الشاعر لجاز"، وبالرجوع إلى كتاب العين وجدنا العبارة تقرب جدًّا من هذا إذ ورد فيالمادة نفسها "الدجنة: الظلماء، وللشاعر أن يخفف". وليس لنا أن نستنتج من هذا أن البستاني نقل عن كتاب العين مباشرة إذ ليس لنا دليل على أنه رأى الكتاب؛ لأنه في مادة "خ ل ل" ذكر فقرة صغيرة من حياة الخليل، ولم يذكر شيئًا بالنسبة للعين. ولقد اهتم اللغويون المعاصرون بكتاب محيط المحيط، فالشيخ إبراهيم اليازجي صديق البستاني يعلق بهوامش الكتاب تعليقات لغوية يمكن وصفها بأنها توضيح أو استدراك، وقد جمعت هذه التعليقات فيما بعد في صورة كتاب1، ولقد تغالى اليازجي حين وصف المحيط بأنه أعظم حدث في عصر المؤلف. كما جاوز حد الاعتدال حين نعت أقرب الموارد بأنه نسخة أخرى عن محيط المحيط تحت اسم جديد، فكأنه يعيد بذلك عهد التنافس بين الأزهري، وصديقه نفطويه من جهة، وبين ابن دريد صاحب الجمهرة من جهة أخرى حين اتهم الأخير بسرقة كتاب العين تحت اسم جديد.   1 جمعنا وصححها تلميذًا اليازجي، شمعون، ونحاس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ب- أقرب الموارد: ومؤلفه الشيخ سعيد الشرتونى الذي أخرج كتاب النوادر لأبي زيد، وذيله بالفهارس كما كتب عليه تعليقات هامة. ولقد ذكر لنا الشرتوني في المقدمة منهجه الذي وضعه في الأمور الآتية: 1- أنه سيرتب الكلمات على الأبجدية العادية كما فعل البستاني في "المحيط"؛ لأن هذا أسهل من الناحية العملية. 2- سوف يقتصر في كتابه على "الفصيح" كما أنه سوف لا يذكر المفردات المتعلقة بالأمور الجنسية. 3- من حيث التشكيل سوف يستعمل بعض الرموز التي تدل على مفاتيح لنطق الكلمات تشبه المفاتيح التي استعملها الرازي والفيومي،. فإذا ذكر "ن" التي يرمز بها لكلمة "نصر"، فإن معنى هذا أن الفعل الذي هو بصدده من باب نصر، وهذه الرموز هي: ن = نصَر ... التي مضارعها ... ينصُر ض = ضرَب ... التي مضارعها ... يضرِب ع = قطَع ... التي مضارعها ... يقطع ل = عِلم ... التي مضارعها ... يعلَم ر = كرُم ... التي مضارعها ... يكرُم س = حسِب ... التي مضارعها ... يحسب فنرى أنه في الفعلين الأولين استعمل الحروف الأولى كرموز، وفي الفعل الثالث استعمل الحرف الأخير كما أنه في الأفعال الثلاثة الأخيرة استعمل الحرف الوسط، وكان حققه ألا يشتت، ويستعمل نظامًا موحدًا في الجميع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وإذا قارنا بين المحيط وأقرب الموارد يمكننا أن نرى أهم الفروق بينهما تتمثل فيما يلي: 1- لقد استغنى الشرتوني عن ذكر أغلب القواعد النحوية، والصرفية مما ليس له أهمية في توضيح معنى الكلمة. 2- لم يكثر الشرتونى من ذكر أسماء الرواة -كما فعل البستاني. 3- لم يصرح أقرب الموارد كذلك في أغلب الأحيان بأسماء الكتب التي نقل عنها. لقد هيأت ظروف الطباعة للشرتونى أن يكون كتابه أحسن إخراجًا من المحيط. كما أنه استعمل بعض التنظيمات التي تعين على فهم تقسيماته في الكتاب. فمثلًا طبعت الكلمات المراد شرحها بنموذج أكبر، كما ذكرت أصول المواد بين قوسين خاصين، وهكذا. 5- بالنسبة للمشتقات التي تندرج تحت مادة واحدة نجد أن الشرتوني قد التزم فيها طريقة معينة إلى حد ما بحيث لم يقع كثيرًا في التكرار، والاضطراب الذين وقع فيهما كثير قبله كابن منظور مثلًا، فذكر أولًا المجردات ثم الزيدات بحرف واحد ثم بحرفين وهكذا. ومهما قيل في المحيط وأقرب الموارد، فإنهما قد قطعا خط الرجعة على ترتيب القافية بحيث لا يمكن التفكير في تأليف معاجم جديدة على نظامه، وبذلك فتحًا الطريق أمام معاجم وافية تسد النقص، وتفي بحاجتنا في العصر الحديث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 معاجم المستشرقين : لقد أدلى المستشرقون بنصيبهم في تأليف معاجم لشرح المفردات العربية، فمنهم من وضع معجمة باللغة الأوربية1 وأشهر هؤلاء "لين LANE" إذ كتب معجمًا أسماء "مد القاموس"، ومنهم من أخذ الأهبة لوضع معجم باللغة العربية مثل "فيشر" الذي أراد أن يضع معجمًا تاريخيًّا للغة العربية. أ- معجم لين: لقد ذكر لين في المقدمة أنه قد استعان بمعظم القواميس العربية المخطوط منها، والمطبوع كما أنه كتب فقرات صغيرة عن كل معجم ومؤلفه. كذلك عالج بعض المسائل اللغوية الهامة مثل "ما هو الفصيح، نظرية الاحتجاج وغيرهما". ولأول مرة نرى قاموسًا مطولًا ينقل عن الرواة، واللغويين المتقدمين نقلًا يعتبر من أول درجة، فلم يفعل كصاحب القاموس أو اللسان مثلًا، عندما يذكران رواية عن الكسائي أو الخليل. إذ لم يكن هذا يعني أنهما رأيا مؤلفات هذين اللغويين ليقتبسا عنهما. وعلى هذا حينما يذكر "لين" عبارة قال ابن سيده، أو قال الأزهري فمعنى هذا أنه قد رأى بنفسه كتابي "المحكم، والتهذيب"، وفي حالة النقل عن رواة لم يستطع هو أن يرى كتبهم، فإنه يذكر المصدر الذي نقل عنه هذه الرواية.   1 من أوائل هذه المعاجم معجم عربي لاتيني وضعه "فربتاغ" في أربعة أجزاء عام 1837م، وقبله ترجم قاموس الفيروزآبادي إلى اللاتينية عمله "ججاي" في ميلانو سنة 1632م. كما وضع كريمرسكي قاموسًا "عربي فرنسي" في باريس عام 1860م كما يوجد كثير غيرها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 وبهذه المناسبة نورد هنا ما كتبه "لين" عن كتاب العين. إذ قال بأنه حاول جاهدًا الحصول على المخطوطة فلم يستطع، وقد جعل للكتاب قسمًا كبيرًا في مقدمته التي استعرض فيها أمهات المعاجم، فذكر طريقته الصوتية وشرحها وقد اكتفى بترديد ما قاله السيوطي في موضوع مؤلف العين، ولكن باختصار، وعلى العموم نستطيع أن نستنتج رأيه من تعبيره في المقدمة بقوله: "كتاب العين للخليل بن أحمد". ب- معجم فيشر: قد يكون هذا تجاوزًا في التعبير إذ عرفنا أن هذا المعجم لم ير النور بعد؛ لأن الموضوع لا يزال مشروعًا، ونظر للمجهود الكبير الذي قام به فيشر في سبيل إعداد البطاقات الخاصة بمشروعه، وما وضعه من مبادئ تعد أساسًا صالحًا لمعجم واف، مع شيء من التعديل فإنا قد نتساهل في وصفه بالمعجم. كيف وضع فيشر معجمه؟ يحدثنا فيشر عن ذلك في رسالة منفردة نشرها المجمع اللغوي المصري1، فيقول بأن اهتمامه الجدي في تلك المسألة يرجع من الناحية الرسمية إلى عام 1907م عندما عرض على المؤتمر العام في مدينة "باسل BASEL" للمستشرقين الألمان. وقد نشر تقرير عن هذا الاجتماع جاء فيه ما يلي: "تكلم الأستاذ الدكتور فيشر من ليزج" عن مشروع قاموس عصري للغة العرب الفصحى، وقد أبان أن القواميس العربية الموجودة التي ألفها الغربيون، وبخاصة تلك التي عالجت الفصحى لعهدها القديم لا نفي مجال   1 معجم فيشر مقدمة ونموذج منه سنة 1950م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 من الأحوال بالمطالب العملية، وذلك لأسباب أهمها أنها لم تعتمد على كتب الأدب الموجودة بل نشأت من القواميس التي ألفها العرب، وإن كانت هذه قيمة جدًّا. ويرى الأستاذ فيشر أنه لا ينبغي أن ينفرد بالعمل بل يجب إشراك غيره من العلماء معه. ثم عرض تقرير آخر على مؤتمر المستشرقين الدولي الذي عقد في "كوبنهاجن" عام 1908، وكذلك عندما عقد المؤتمر في "أثينا" عام 1912م. وعندما أتيحت الفرصة لفيشر أن يصح ما يرا للقسم العربي الإسلامي لمعهد أبحاث الاستشراق في "ليبزج" أمكنه أن يتفرغ هو، ونخبة من تلاميذه لإعداد الأبحاث الخاصة بالمشروع. ويحدثنا فيشر بأنه في عام 1924 أبدى ناشر ألماني استعداده لطبع المعجم ونشره، وعندما رأى هذا الناشر ضخامة المشروع، وعجزه عن تمويله تراجع عن فكرته. وفي عام 1936 أبدى المجمع اللغوي المصري استعداده لتقديم كل معونة ممكنة لفيشر، فاستدعى للقاهرة، وقدم له عدد من الشبان المصريين ليساعدوه، كما أمدته مكتبة المجمع بالقواميس العربية بعد أن اشترت ما كان ينقصها منها، وكان جزء كبير من المعاجم لا يزال مخطوط في الخارج، فصورت نسخ من تلك المخطوطات، ووضعت تحت يده في المجمع. ثم عرض نماذج من معجمه على اللجنة المختصة بالمجمع لمناقشتها، واستمرت تلك المناقشة مدة طويلة يمكن تتبعها في مجلة المجمع. وكان فيشر عند ما استدعي إلى مصر يظن أنه يمكن إتمام المشروع في ست سنوات، أو سبع ولكن كان كلما تقدم به الزمن كلما تفرعت أمامه نواحي البحث، فرأى أخيرًا أن يقدم الأنموذج النهائي ليدرسه المختصون ويبدوا رأيهم فيه، ولكن عاجلته المنية قبل أن يتم المشروع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 مبادئ المعجم الرئيسية: لقد نشر التقرير الرسمي الذي قدمه فيشر، وأقره المجمع بشأن المبادئ الرئيسية لتأليف معجم تاريخي كبير للغة العربية1 في عام 1949. ونظرًا لأهمية تلك المبادئ فإننا نلخصها هنا: 1- المفردات: ينبغي أن يسجل من مفردات اللغة ما يعرف باسم الفصيح. ومصدره ثلاثة: أ- كتب الأدب والحديث والتفسير الأولى إذ إنها تحتوي على مفردات لا توجد في القواميس، كذلك دواوين الشعراء جميعهم في عصر الاحتجاج. وأيضًا كتب التراجم والطبقات، والمخطوطات. وبعض أوراق البردي التي عثر عليها أخيرًا تحمل نصوصًا عربية قديمة. ب- المفردات التي دونها المعاجم العربية خصوصًا تلك التي وردت لها شواهد. ج- كما يمكن الاعتماد أيضًا على المعاجم الأوربية الكبيرة التي وضعت للغة العربية. 2- جمع المواد: ينبغي أن توضع جزازات تسجل عليها الكلمات المختلفة، وكل كلمة تكتب في جزازة خاصة على الجهة العلوية من اليمين، ثم تكتب في بقية الجزازة كل المشتقات التي وردت من تلك المادة، ثم تكتب جزازات أخرى فرعية لكل   1 المقتطف مارس 1949. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 صيغة يذكر فيها معناها، واستعمالها وأول من استعملها بذلك المعنى كما يذكر بالدقة اسم الكتاب، ورقم الصفحة التي يوجد بها الشاهد. 3- ترتيب الكلمات: ينبغي أن يتبع في ذلك ترتيب الأبجدية العادية، مثل الترتيب الذي استعمله البستاني في المحيط، والشرتوني في أقرب الموارد، وينبغي أن تذكر صيغ المادة الواحدة تبعًا لنظام خاص، فمثلًا نذكر الأفعال أولًا. ثم الأسماء. أما من ناحية التشكيل فينبغي أن تتبع في ذلك "المفاتيح أو الرموز" كتلك التي اتبعها الشرتوني في معجمه. 4- الاصطلاحات: بجانب التشكيل ينبغي أن يكتفى بقدر الحاجة من الشواهد، ولا بد في هذه الحالة من ذكر المرجع الذي أخذ منه الشاهد "يقصد ديوان الشاعر نفسه لا نقل الشاهد عن المعاجم"، كما أن المعاني الفرعية العامة يجب أن يكون لها "بنط" خاص في الطباعة، أو توضع لها علامات ترقيم مميزة. أما الناحية التاريخية فيمكن ملاحظتها بذكر بالنص على أول شاعر، أو أديب استعمل تلك الكلمة في المعنى الجديد. وحيث إن العربية إحدى اللغات السامية، فينبغي أن يذكر أصل الكلمة في إحدى تلك اللغات كلما أمكن ذلك. وكذلك أسماء الأماكن، والكلمات التي تعبر عن النباتات، والمعادن وغيرها ينبغي أن توضح توضيحًا كاملًا "لعله يشير بهذا إلى عدم الاكتفاء بعبارة "نبات أو مكان معروف" التي شاع استعمالها في القواميس العربية". ولا ينبغي إغفال الاصطلاحات العامة، ولكن بدون إسهاب في ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 5- اللغات الأوربية: اختتم التقرير بأنه يحسن ترجمة المادة الرئيسية إلى اللغات الأوربية الهامة كالإنجليزية، والفرنسية والألمانية، أو إحداها ليسهل البحث على المستشرقين. منهج فيشر: لقد ذكر لنا فيشر في النموذج الذي نشره المجتمع الخطة التي سار عليها في ذلك، ويمكن تلخيصها فيما يلي: 1- الناحية التاريخية: نظر فيشر توجد أن كل كلمة في اللغة العربية لها تطورها الخاص، فذكر أنه عني بتوضيح هذا التطور، فقال: "والأهمية العظمى -مهما كان الحال- هي للموضع الذي وردت فيه الكلمة في آداب اللغة لأول مرة .... ويجب أن تقيد على حسب الترتيب التاريخي بين أقدم الشواهد، وأحدثها المواضع التي يتبين منها أنها تعطي أوضح صورة من التطور التاريخي للكلمة ومعانيها. أما النواحي الأخرى فهي -الاشتقاقية والصرفية، والتعبيرية والنحوية، والبيانية والأسلوبية1. 2- تتناول ناحية الاشتقاق بحث أصل الكلمة، ويرتبط بهذا علم ضبط الهجاء أما المعربات، فترد إلى أصولها على قدر الإمكان، "ولتحقيق هذه الغاية لا بد لمؤلف المعجم أن يكون متمكنًا من اللغات السامية، وكذلك الفارسية والتركية واليونانية" مما له صلة باللغة العربية.   1 أهم هذه النواحي الناحية التاريخية فقط؛ لأنها الميزة لمعجم فيشر، والتي يراد إدخالها لأول مرة في المعاجم العربية، أما النواحي الأخرى فما هي إلا تهذيب لما انتهجه أصحاب المعاجم السالفة كما سبق بيانه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 3- أما الناحية التصريفية فتشمل تصريف الأسماء، والأفعال مع ذكر الصيغ المختلفة لكل. كما ينبه على تمييز الكلمة من ناحية الإفراد، والجمع أو التذكير والتأنيث إذ كثيرًا ما يغير بذلك معنى الكلمة، كما يختلف كذلك هذا الاستعمال باختلاف الزمان والمكان. 4- الناحية التعبيرية. ويقصد بها تحقيق معنى الكلمة أو معانيها، وينبغي أن يعتبر "دائمًا المعنى الأول لكلمة لها معان مختلفة ذلك الذي يؤخذ من اشتقاق الكلمة" كما يجب في ترتيب المعاني تقديم المعنى العام على المعنى الخاص، والحسي على العقلي والحقيقي على المجازي، وحروف الأدوات النحوية ينبغي أن تشرح استعمالاتها المختلفة إذ كثيرًا ما يتغير المعنى بتغير الاستعمال، وذلك "كي يتسنى لمن يستعمل المعجم أن يجد فيه ما يساعده على فهم الكتب العربية". 5- تتناول الناحية النحوية ترتيب كلمات لها مواضع معينة مثل فقط، وإنما وأيضًا وغيرها، وكذلك مراعاة المضمر والمحذوف، واللازم والمتعدي، مع بيان متى وأين ظهر هذا التركيب، أو ذاك للكلمة لأول مرة مرة أو آخرها وهكذا. 6- الناحية البيانية -وهي ناحية لها أهميتها في الذوق اللغوي، وقد يكون ذلك يذكر شيء عنها من علم البيان مما يعين على فهمها مثل الإتباع والمزاوجة، وكذلك المشاكلة وصيغ المبالغة. ومه ما أسماه فيشر "بازدواج عبارتين متضادتين للتعبير عن معنى واحد مبالغ فيه مثل: لله الأمر من قبل ومن بعد، ما بين أيديهم وما خلفهم، السراء والضراء، ما تقدم من ذنبك وما تأخر، ومن هذا أيضًا التراكيب التي جرت مجرى الأمثال مثل: قضى نحبه، بذل جهده، مثل بين يديه. 7- الناحية الأسلوبية، وهي تتمثل في بيان مدى سعة استعمال الكلمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 كما يبين إذا كان استعمالها محصورًا في أمة القرآن، أو الشعر الجاهلي أو في غرض معين من أغراض الشعر، أو النثر وهلم جرا. أما من ناحية ترتيب المشتقات المختلفة فقد وضع لها فيشر هذا التنظيم: يبدأ في المادة بإيراد الفعل المجرد، ثم المزيد بحرف، وحرفين، وثلاثة أحرف. ويكون ترتيب أبنية الأفعال كما يلي:- فعل-فعِل-فعُل-فَاعَل-أفْعل-تفعَّل-تفاعَلَ-انفَعَل-افتعَل-افعلَّ-استفعَل-افعالَّ، وهكذا. وتذكر الأسماء كلها بعد الأفعال سواء أكانت مشتقة أم جامدة، وترتب على نظام ترتيب الأفعال، فيذكر المجرد منها أولًا، ويتبعه المزيد، فيكون ترتيب أبنية الأسماء كما يلي:- فعْل-فِعْل-فُعْل-فَعَل-فَعُل-فِعَل-فِعِل-فِعَل-فُعُل-فاعِلٌ-فاعَلٌ، وهكذا". تلك هي المبادئ الرئيسية التي وضعها فيشر ليبني عليها معجمه التاريخي، ولم تتضح لنا تمامًا تلك الناحية التاريخية في النموذج الذي أورده لنا من حرف الهمزة. إلا أنه يمكن تلمسها، واستنتاجها في غالب الأحوال. ولكن فيشر قد أسرف في توضيح المعاني النحوية في النموذج الذي أورده، فعند ذكره للهمزة أورد أن معانيها النداء وذكر أمثلة لذلك، وإلى هنا كان ينبغي أن ينتهي، ولكنه استطرد فذكر بقية حروف النداء كما ذكر أحكام المنادى المختلفة، ولكنه أحسن صنعًا بإيراده الشواهد عن مصادرها الأولى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وهي دواوين الشعراء أنفسهم، وقد بالغ في الدقة حين ذكر رقم الصحيفة، والسطر حيث يوجد الشاهد في الديوان. نموذج من معجم فيشر: "أبد": "قد يكون أصل الكلمة ساميًا عامة، ومن المؤكد أن لها قرابة من "أبد -ضل وسار على غير هدى- بالأثيوبية". ولكن قد تكون لها قرابة أيضًا من "أيات = تضييع"، وكذلك "ثابت = هروب" بالأكديه. ومن "آبد = ضاع، هلك" بالعبرية، ومن "أبد = ضاع، هلك" بالآرامية. ويظهر أن المعنى الأصلي لهذه هو الدخول في غير المحدود من الزمان أو المكان"، ثم ابتدأ يذكر المعاني المختلفة تللك الكلمة فرتبها هكذا. أَبَد: "1-أ" أبدت البهيمة تأبِدْ وتأبدُ أبدًا وأبُودا ..... ثم ذكر بعض الشواهد. "1-ب" من المجاز أبد الشاعر بأيد أو أبودا أي أتى في شعره بالغرائب ... 2 أبد بالمكان = أقام .... أبِد: 1 أبِد يأبَد مثل تأبّد = توحش ..... 2 أبِد الرجل عليه = غضب ..... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 أبَّد: "1" أبَّد بهمية ..... "2" أبد الرجل. تأبد: "1-أ" تأبد المنزل = تخرب "1-د" تأبَّد المنزل = خلا من أهله. "2-أ" تأبد = عاش في القفار "2-ب" تأبد = تعزب، مجاز. وكان تطور هذا المعنى: تأبد = توحش عاش في القفار، ثم عاش كالراهب المتأبد ثم تعزب كالراهب. 3- تأبد الوجه = كلف ونمش. إبد: آن: أَبَدٌ: 1 = الدهر، الطويل غير المحدود. "1-ج" أو أبد الكلام = غرائبة، ج = جمع. "1-ج" أو أبد = مضحكات. ثم أخذ يسرد استعمال أبدًا في النفي والإيجات، وأبدا كذلك عند بعض العرب العرباء لم يستقبل من الزمان، وأتبع كل ذلك بالشواهد. 2- الأبد الدهر مطلقًا- "TIME "ABSOLUTE" ,TEMPS "ABSOLU". 3- أبَدٌ = ذو أبد = دائم. أبٍدٌ: 1- حمار الوحشي. 2- الرجل متوحشًا. 3- المنزل 4- لغة في إبد. إِبِد: صفة للمؤنث، أمة وناقة إبد = ولود ثم ذكر أبدى، أبدية، آبد آبده. أوابد وذكر معها أن معناها مضحكات، وهي تخص العصر المتأخر، ثم ذكر المصدر الذي يقصد به أول من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 استعملها "ش: الكشاف 2-1631-11 "ليبين الجزء ورقم الصفحة وعدد السطر"- وقرئ وبل لكل همزة لمزة بسكون الميم، وهو المسخرة الذي يأتي بالأوابد والأضاحيك". ثم ذكر أبيد، أبود، أيبد، مؤبد، مؤبدة، متأبد. متبعًا في كل التنظيم السابق في نظائرها -من ذكر الأرقام التي يقصد بها تبيان المعاني العامة والفرعية، والمجاز والحقيقة لكل. ومن هذا يتضح أن فيشر قد نظم ترتيب الصيغ، أو المفردات تحت المادة الواحدة كما أنه أبان العلاقة بين المادة العربية، ونظيرتها من اللغات السامية الأخرى. أما الناحية التاريخية، وهي الشيء الجديد في معجمه، فقد ظهرت عند ذكره لكلمة الأوابد = المضحكات إذ نص على أن أول من استعملها بهذا المعنى هو الزمخشري، ولكن بقيت مسألة أخرى هل استعمال الزمخشري لها، وهو من أهل القرن السادس الهجري بهذا المعنى بعد استعمالًا فصيحًا أم لا؟ لقد وضح لنا فيشر في موضع آخر أنه لا ينبغي تحديد الفصيح بفترة معينة من الزمن. وأيا ما كان فإن مشروع فيشر هذا كان أساس لقاموس المجمع اللغوي المصري فيما بعد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 قاموس المجمع اللغوي: "المعجم الكبير": لقد بر مجمع اللغة العربية في مصر بوعده حين أخرج لنا قسمًا1 من "المعجم الكبير" الذي ينتوي إكماله، وقد جاء هذا المعجم تصديقًا لمرسوم إنشاء المجمع الذي أبان أن من أهم أغراضه العمل على إخراج معجم واف يسد حاجة العربية في عصرنا الحاضر، ولقد ظهر من هذا المعجم قسم واحد فقط من مبدأ الهمزة إلى كلمة أخي. وليس هذا المعجم معجمًا تاريخيًا للغة العربية كما كنا نتوقع؛ "لأن المعجم2 التاريخي يحتاج إلى أعمال تمهيدية لم يؤخذ فيها بعد، فليس بد لوضعه من استقصاء نصوص الشعر، والنثر على اختلاف عصورها وبيئاتها، وتسجيل ما في هذه النصوص من الألفاظ، وتسجيل الأوقات التي استعملت فيها، واستخراج ما ينتجه ذلك من الأحكام العامة التي اقتضاها التطور بالقياس إلى معاني الألفاظ، وصورها على اختلاف العصور، وهو جهد كما ترى يحتاج إلى أن يفرغ له عدد غير قليل من الباحثين المختصين الذين يحسنون العلم بأصول اللغات ومناهج تطورها، حسب اختلاف العصور، واختلاف البيئات، وتباين الظروف المحيطة بالأجيال التي تتداول لغة من اللغات". وإذا كان المجمع على ما له من النفوذ الأدبي لا تتسع إمكانياته لإخراج المعجم التاريخي، فمن ذا الذي يستطيع أن يقوم بتلك المهمة، لقد ذكر المجمع أن ذلك   1 لقد ظهر هذا القسم وكتابنا في المرحلة الأخيرة من الطبع، ولذا سنوجز هنا تعليقنا على "المعجم الكبير"، ولعل الظروف تواتي بإيفائه حقه في بحث آخر. 2 تقديم المعجم الكبير ص ز. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 يحتاج "إلى عدد غير قليل من الباحثين المختصين"، فهل عقمت البلاد العربية أن تخرجهم؟ أليس في جامعاتنا ومعاهدنا العليا، ووزارات المعارف في مختلف البلاد العربية ما يسد ذلك النقص؟ أغلب الظن أنه كان من الممكن الاستعانة بكل هؤلاء -وأما أكثرهم- كل يعاون بقدر استطاعته، إذا تنزل المجمع وقبل منهم المعاونة، وإن نظرة واحدة إلى مقدمة المعجم التاريخي للغة الإنجليزية -التي ليس لها مجمع رسمي- لترينا كيف نهض هؤلاء القوم بذلك العبء، وكيف تعاونت الأفراد، والهيئات "الحرة"، وكيف تقدم بعض "اللوردات" بمعونة مالية ضخمة لتنفيذ المشروع. ونحن وقد هيئ لنا المجمع "الرسمي" بل المجامع الرسمية، فيمكن أن يخطو المجمع الخطوة الولى بالدعوة إلى "التعاون" مع احتفاظه بالإشراف، والهيمنة العليا وكل ما هو لازم لاتخاذ السبل العملية لذلك. منهج المعجم الكبير: لقد ذكر "التقديم نوع المنهج الذي رسم لهذا المعجم، وهو منهج يسير لا تكلف فيه، كما أنه في الوقت نفسه أدق ما يمكن أن يتخذ من المناهج1". 1- يبدأ في كل مادة بذكر أصوالها في اللغات السامية إن كانت تمت لها بصلة. 2- ترتب المادة حسب المعاني الكبرى لها مع التدرج من المدلولات المادية إلى المدلولات المعنوية.   1 تقديم المعجم ص و. وقد ذكرنا هذا المنهج في بحثنا هذا ليطلع عليه من لا يتمكن من الحصول على نسخة "المعجم الكبير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 3- يستشهد على ألفاظ المعجم بنصوص من الشعر، والنثر على اختلاف العصور وترتب الشواهد ترتيبًا تاريخيًّا بقدر الإمكان. 4- إذا استتبع شاهد توسعًا في النص ليمكن فهمه أو؛ لأن النص. 5- نرد الكلمات المأخوذة من لغات أجنبية قديمة أو حديثة، إلى أصولها الأجنبية. 6- يذكر ما ليس بد من ذكره من الأعلام، ويفسر تفسيرًا موجزًا. 7- نذكر أسماء البلاد والأماكن في شيء من الاقتصاد، بحيث لا يهمل ما يتردد ذكره في النصوص الأدبية من جهة، وبحيث لا يصبح المعجم معجمًا جغرافيًّا من جهة أخرى. 8- تذكر المراجع حين لا يكون بد من ذكرها، فأما إن كان الاستغناء عنها ممكنًا، فلا حاجة إلى الإطالة بذكرها. 9- يشكل ما ليس من شكله بد لأوساط المثقفين، وتضبط بعض الكلمات بالنص، على طريقة القدماء حين تدعو الضرورة إلى ذلك. 10- يذكر من المجاز ما شاع في الشعر، والنثر حتى أصبح مشبهًا لما يسميه أصحاب البيان، وعلوم اللغة بالحقائق العرفية، فليس من سبيل إلى فهم كثير من النصوص القديمة إلا بهذا. 11- لا يعتمد من الحديث إلا على ما ورد في أصل صحيح، ويذكر الحديث كله، إلا أن يشتد طوله، "فيقتصر منه على ما يجزئ". ملاحظات على المعجم الكبير: وبمقارنة هذا المنهج بالمنهج الذي وضعه فيشر لمعجمه نجد كثيرًا من التشابه فالفقرات -1- 2-3-5-6-8 تكاد تتفق؟؟؟؟ الفقرات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 التي وضعها فيشر، ولكن المجمع من ناحية أخرى لم يذكر لنا المبادئ الرئيسية التي سار عليها في تسجيل المفردات، وتدوينها فمثلًا لم يخبرنا إلى أي مدى سيتوسع في مدلول الاصطلاح "فصيح" حتى يمكن أن نسترشد بما يذكره المعجم في هذا الشأن -كما أنه من ناحية أخرى لم يوضح لنا "التقديم" المبدأ الذي يسير عليه المعجم في مسائل: المعرب، والدخيل، والشواهد. وفي ترتيب الصيغ أو المشتقات المختلفة تحت المادة الواحدة. وإن ذكر هذه المسائل في مجلة المجمع، أو في محاضر جلسات المجمع المختلفة لا يغني عن ذكرها في مقدمة المعجم؛ لأنه كان يمكن ذكر ما ورد متفرقًا هناك باعتباره أجزاء لموضوع واحد حتى تكمل منه وحدة متسقة تغني الباحث عن التنقيب في مظان هذه المسائل، وكم نخشى إذا أبديت ملاحظة معينة على تنظيم معين في المعجم أن يقال: إن هذا يتفق مثلًا مع مبدأ مقرر انتهى المجمع من الأخذ به منذ أمد قد يطول أو يقصر، ومن جهة أخرى فإن المبادئ الرئيسية لو ذكرت في التقديم، فقد يكون من الممكن مناقشتها، أو التسليم بها على أنها أساس لما سيذكر في المعجم، ثم بعد ذلك تلي الملاحظات الخاصة بتطبيق تلك المبادئ في النصوص المختلفة التي يوردها المعجم لشرح الكلمات. ومهما يكن الأمر فسنكتفي بذكر ملاحظات عابرة، القصد منها أن يراها من يعينهم الأمر علنا نكون قد قمنا بتلبية ندائهم حيث ذكروا في التقديم رغبتهم تلك " .... ثم1 لم يرض "المجمع" أن يستقل بهذا المعجم استقلالًا، ولا أن يستأثر به وحده من دون القادرين على فقه اللغة المتخصصين فيه، فهذا الذي يعرضه عليك الآن ليس إلا تجربة ينتظر المجمع منك أن تفرغ لقراءتها كما فرغ هو لإعدادها، وأن تسجل ما يعرض لك من ملاحظات أثناء القراءة   1 التقديم ص د. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 وترسلها إليه مشكورًا، ويعد بأنه سيدرس هذه الملاحظات درس المعنى بها الحريص على أن يتبين وجه الحق فيها، وينزل عندما يرى أنه الحق منها، فيصلح من هذه التجربة ما يحتاج إلى الإصلاح، ويغير ما يحتاج إلى التغيير، ويظهر هذا الجزء في طبعته الأولى، وقد عرف رأي المختصين فيه، ورضي فقهاء اللغة عنه". ولسنا في حل من أن نشير إلى أن التطور التاريخي لمفردات اللغة العربية كان أولى بالاعتبار؛ لأنه المجمع رأى أن هذا متعذر في الوقت الحاضر، لاحتياج ذلك إلى عدد غير قليل من الباحثين. أما أهم ما رأيناه في النواحي الأخرى فيتلخص في:- 1- المراجع: لم نعرف بالضبط ما المراد بهذا اللفظ. هل المراد منه ذكر كتاب اللغة أو المعجم الذي نقل شرح الكلمة عنه؟ وإذا كان هذا صحيحًا فهل معناه أن "المعجم الكبير" يعيد ما كتبه الأقدمون؟ وأن الكلمة لا تعني ما تعني إلا؛ لأن فلانًا من اللغويين قال ذلك في كتابه؟ وهل يكون "المعجم الكبير" صورة أخرى من "لسان العرب وتاج العروس" مجتمعين، ومطبوعين على ورق أفخم؟ وإذا كان المراد بلفظ "المراجع" أن نذكر المواضع الأصلية الأولى التي نقل منها النص، فإن "المعجم الكبير" لم يفعل هذا. لقد نقل كثيرًا من الآراء عن الكسائي والخليل، والليث وغيرهم دون الرجوع إلى مؤلفات هؤلاء العلماء، بل قد نقل ما دونه الأقدمون أمثال الأزهري، وابن منظور دون الإشارة إلى النقل في غالب الأحيان، فإذا رأيت في "المعجم الكبير" رأيًا منسوبًا إلى الخليل أو سيبويه أو الكسائي، فلا تكن شديد التفاؤل، فتحسب أن المعجم قد اهتدى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 إلى المصادر الأولى لينقل عنها إنما هو في ذلك يردد ما ذكرته كتب اللغة، والمعاجم السابقة من الروايات. وإن شيئًا هامًّا واحدًا يعنينا في بحثنا هذا وهو تحقيق نسبة ما ورد عن الليث، أو الخليل فقد جاء في "المعجم الكبير" ص422 وقال الخليل: تأنيث الأخ أخت، وتاؤها هاء. وقال الليث: تاء الأخت أصلها هاء التأنيث -ثم قال الليث: وكان حدها "أخة" فصار الأعراب على الهاء، والخاء في موضع رفع، ولكنها انفتحت بحال هاء التأنيث فاعتمدت عليه؛ لأنها لا تعتمد إلا على حرف متحرك بالفتحة، وأسكنت "الخاء" فحول صرفها على الألف وصارت الهاء تاء كأنها من أصل الكلة، ووقع الأعراب على التاء، وألزمت الضمة التي كانت في الخاء الألف، وكذلك نحو ذلك. قارن هذا بما ذكره الخليل في كتاب العين حين قال: "مخطوطة العين ج1 ص364": "أخت. كان حدها أخة، فصار الأعراب على الهاء، والخاء في موضع الرفع، ولكنها انفتحت لحال هاء التأنيث؛ لأنها لا تعتمد إلا على حرف متحرك بالفتحة، وأسكنت الحاء، فحول صرفها على الألف، وصارت الهاء تاء كأنها من أصل الكلمة، ووقع الإعراب على التاء، وألزمت الضمة التي كانت في الخاء الألف، وكذلك نحو ذلك". لو أن "المعجم الكبير" قد سار في مبادئه على الاعتماد على المراجع الأصلية الأولى لكان قد نقل مثل هذا النص عن كتاب العين مباشرة، ولا يتخبط مرة في نسبة بعض هذا الرأي للخليل وبعضه لليث، وأغلب الظن أن العبارة منقولة عن اللسان، والتاج الذين نقلاها بدوريهما عن التهذيب1، وقد سبق أن بينا أن ما ورد في هذين الكتابين منسوبًا للرواة الأولى لا يدل على إطلاع صاحبيهما على مؤلفات هؤلاء الرواة. وإنما كان همهما "الجمع"، والإكثار من الأقوال السابقة.   1 وردت هذه العبارة في مخطوطة التهذيب التي في المجمع رقم 626 ص1097 تحت تعبير "وقال الخليل: تأنيث الأخ ... إلخ كما نقلها عنه اللسان ج18 ص23. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 التي قد تؤدي إلى التخطيط أحيانًا، ولسنا من جانبنا نلزم المجمع بالدخول في نسبة كتاب العين، أو غيره إلى مؤلفه الحقيقي، ولكن نريد أن نبين فقط أن تفسيره لكلمة "المراجع" الذي يستفاد من تطبيقه حين الاقتباس ليس دقيقًا. ومن ناحية أخرى لم يذكر لنا "المعجم الكبير" مرجع الشاهد حين استشهد به، فنحن لا نقتنع بأن بيتًا ما إنما هو من شعر العجاج، أو من شعر حسان إلا إذا عرفنا مكان هذا البيت من ديوانه، وقد كان فيشر أدق من المجمع حين أجهد نفسه -وهو بمفرده- في التعمق، واستنباط الشواهد من "مراجعها" الأصلية. وقد كان هذا أيضًا مغنيًا عن التطويل الذي لا حاجة إليه حين يرد لنا بيت شعري كشاهد، أو للاستئناس على معنى من المعاني أن يذكر معه ثلاثة أبيات أخرى، أو أربعة من القصيدة، فكان يمكن أن نرجع إلى الديوان الذي سيرشدنا عنه المجمع لنستمتع بذلك الشعر إذا أردنا، وقد تورط "المعجم الكبير" في شيء ليس بالقليل، من هذا القبيل، فمثلًا في ص402 مادة "آخر" ذكر المعجم ما يلي: "ولبعض شعراء اليتيمة": كيف السبيل إلى الرقا ... د كما رسمت وأنت هاجر ويقول لي فيما يقو ... ل: نعم. وما للقول آخر حتى أشوار قلت: لـ ... ـكنِّي هويت ولم أشاور كما اضطر هذا المنهج أن يذكر "المعجم" كثيرًا من الأبيات دون نسبتها لقائليها، ولسنا ندري إذا كانت "المبادئ الرئيسية" التي اتخذها المجمع في الشواهد تبيح هذا أم لا لو أن المبادئ كانت قد ذكرت لكانت أغنتنا عن هذا التساؤل، وهذا منتشر كثيرًا جدًّا في المعجم: مثلًا ص820 مادة أث ث أورد هذا الشاهد "ولرجل من عبد القيس: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 جامل الناس إذا ناجيتهم ... إنما الناس كأمثال الشجر منهم المذموم في منظره ... وهو صلب عوده حلو الثمر وترى منه أثيثًا يانعًا ... طعمه مر وفي العود خور وهنا كما ترى أورد ثلاثة أبيات، والشاهد في بيت واحد فقط. وكذلك لسنا ندري ما الداعي للتطويل بذكر الحديث كله. إذا كان فيه موضع لشاهد، لماذا لم نذكر الآية كلها حين تشتمل على شاهد كذلك؟ إن النص على مصدر الحديث أو "مرجعه مع ذكر الصحيفة ورقم السطر" كان يغني عن هذا، بل إن مرجع الحديث أشد حاجة إلى الذكر من موضع الآية حيث لا يزال يوجد من يحفظ القرآن، ويمكنه معرفة بقية الآية لأول وهلة بخلاف الحديث. ب- شرح المفردات: نعود فنقول: إنه لم يذكر لنا "المبدأ الرئيسي" الذي سوف يتبع في هذا السبيل. على أي حال قد وجدنا بعض الاستطرادات التي ما كان ينبغي أن نذكر في المواضع التي وردت فيها، فمثلًا عند ذكر كلمة "إبل ص147 استطرد المعجم إلى ذكر تسمية الجمل في مراحل نموه المختلفة فقال: "فالسليل: ساعة يولد قبل أن يعرف أذكر هو أنثى، ثم السقب والحوار ما دام رضيعًا، ثم الفصيل إذا تم سنة وفصل، ثم ابن مخاض إذا حملت أمه بعد فصاله، ثم ابن لبون إذا ولدت في الثالثة، ثم حق في الرابعة، ثم جذع في الخامسة، ثم ثني في السادسة، ثم رباع في السابعة، ثم سدس وسديس في الثامنة، ثم بازل في التاسعة، ثم مخلف في العاشرة"، ثم استطرد إلى أسماء ما يركب منها من المطية والراحلة والزاملة، ثم إلى أصناف البعير المختلفة باعتبار لونه من الأحمر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 والأرمك والأورق والأعبس وغيرها، ثم إلى ترتيب سير الإبل من العنق، والرسيم والالتباط وغيرها. ألم يكن من الأجدر أن يحيل المعجم القارئ على المخصص لابن سيده، ويذكر له الموضع بالضبط "ج7 ص104" ليشبع القارئ نهمه من الاطلاع على سير الإبل، وأوصافها إذا ما اضطر لرحلة شاقة يكتشف بها الواحات المجهولة في الصحراء. واستطرد المعجم كذلك في ذكر الفوائد الطيبة للكمثرى عند الكلام على مادة إجاصه ص341، وكذلك في مادة "أثل ص315" نقل عن ابن البيطار فوائد طبية لهذا النبت. لقد وقع القالي قبل ذلك في هذا الاستطراد، وسبق أن أخذنا عليه ذكر مترادفات مختلفة لكلمة مثل "الدأماء" في موضع واحد، وأن هذه الأشياء كان موضعها كتاب الأمالي لا معجم البارع. ومن ناحية أخرى ماذا يكون الحال عندما يتقدم "المعجم الكبير"، فيبحث في مواد "ز م ل، ر م ك، ر س م" أيعيد ما قال هنا أم يتركه كلية؟ لندع الخيار للمجمع في ذلك. وناحية أهم من ذلك كله، وهو أن التعبيرات التي وردت في شرح المفردات لا تختلف كثيرًا عما ورد في الكتب اللغوية السابقة، وفي المعاجم التقليدية، بل إن كثيرًا منها يمكن إرجاعه بالحرف الواحد إلى بعض من هذه المراجع، وقد أدى هذا إلى التورط في أن يورد بعض الأشياء بصيغة التردد، وهذا يقع كثيرًا في ضبط الكلمات، فليس يعني القارئ أن صاحب التاج ضبط "الإنب"1 مثلًا بالفتح   1 المعجم الكبير ص224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 أو الكسر بقدر ما يعنيه التماس النطق الصحيح، أو القريب من الصحيح بالضبط الذي يرتضيه المجمع، فإذا كان للكلمة الواحدة أكثر من ضبط، فليذكر الأفصح أولًا، ثم ينبه على جواز غيره إذا كان الحال كذلك. وبغض النظر عن ذلك فإخراج هذا القسم من المعجم يعد عملًا جليلًا نتيجة لمجهود ضخم جبار قامت به اللجنة الخاصة استجابة لرغبة المجمع حين كلفها بذلك، وإنا من جانبنا لنرى أن هذا المجهود المقدور يمكن أن تكون الفائدة منه، أو في لو انفتحت صدور الأعضاء إلى الملاحظات العابرة التي يبديها "النقاد واللغويون" بغية الوصول إلى إخراج "المعجم الكبير" موفيًا بحاجة العصر، خالصًا من شائبة التقليد أو التكرار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 الخاتمة ... كلمة ختامية: كيف نضع المعجم: لقد لاحظنا أثناء استعراضنا لأمهات المعاجم العربية كيف أن متأخرها نقل عن سابقها، وقد أمكن بالتالي في أغلب الأحيان إرجاع كثير من عباراتها إلى "كتاب العين"، أما من حيث ترتيب الكلمات، فإنها قد مرت بالمراحل الثلاث التي بيناها، وهي مرحلة التقليبات والقافية، والأبجدية العادية. والآن نريد أن نسهم بدورنا في وضع الخطوط الرئيسية لمنهج صحيح، ونظام ملائم لما ينبغي أن يسير المعجم عليه مستقبلًا، وإنا لنستوحي في هذا ما ذكر سابقًا أثناء عرضنا للمعاجم، وما لاحظناه عليها من نقد في الطريق، والأسلوب بحيث لا تتكرر هذه المآخذ مرة أخرى في قاموس المستقبل، ولتحقيق هذا ينبغي أن نضع نصب أعيننا نقطًا ثلاثًا رئيسية تحتاج إلى توضيح. 1- أي نوع من الكلمات ينبغي أن يسجل. 2- ترتيب هذه الكلمات في المعجم. 3- شرح هذه الكلمات والمنهج الذي يتبع في ذلك. أ- أنواع الكلمات: لقد قرر المجمع اللغوي في مصر1 أن "الفصيح" له زمن محدد، وبذلك أبقى على تعريف القدماء في ذلك، ووافقهم في تحديد مدته التي تبدأ بالعصر الجاهلي، وتنتهي بالعصر العباسي الأول، أي إلى ما يقرب من نهاية القرن الثاني الهجري. ويقابل الفصيح في العادة بالمعرب والمولد، فالمعرب يشمل الكلمات الأجنبية   1 مجلة المجمع اللغوي 8949م. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 التي دخلت العربية من لغات أخرى، ولكنه اصطبغ بصبغة العربية من حيث مخارج الحروف، ومن حيث الصيغة غالبًا، أما المولد أو المحدث فيشمل صيغًا جديدة استعملها من أتى بعد عصر الاحتجاج، وإن كان أصل المادة موجودًا في بعض الأحيان، وقد يمثل له بكلمات "تصنيع وتأميم" المأخوذتين من "ص ن ع، أم. م"، والأنواع الثلاثة مسموح بإدخالها في المعجم؛ لأنها كلمات يستعملها الأدباء، فلها حق التسجيل كما لغيرها، غير أنه ينبغي أن ينص على أنها معرب، أو مولد وفي الحالة الأخيرة يجب في المعجم التاريخي أن يذكر أول استعمال لها. 2- الترتيب: لقد شاهدنا كيف تطور الترتيب حتى مر بمراحل ثلاث، وكيف أنه كان لكل ترتيب خصائص، وأغراض وضع لها ولكن حيث إن ترتيب "العين" يخدم غرضنا لغويًّا معينًا وهو علم الأصوات اللغوية، وكذلك ما يعرف باسم الفونولوجي "PHONOLOGY"، وكذلك ترتيب الصحاح كان مقصودًا به أن يعين على السجع، والقافية فإنا نكتفي بهذين المعجمين وبإضرابهما إذا أردنا أن نفيد منهما في الأبحاث اللغوية أو الأدبية. أما إذا كان القصد هو استخدام كتاب يشرح لنا المفردات، فإنه من الأسهل أن تتبع ترتيب "الأساس" الذي سار فيه مؤلفه على الأبجدية العادية. وحيث إن طبيعة اللغات السامية، ومنها العربية أن تكون فيها "الأصول" مؤلفة من حروف صامتة، وأن الصيغ تأتي بتغيير الحركات، وإضافة مجموعة معينة من الأصوات تعرف بحروف الزوائد، فإنه لا بد من الإبقاء على هذا، فلا يصح أن نقلد النظام الأوربي، وتعتبر هذه الحروف عند ترتيب الكلمات؛ لأن طبيعة اللغات الأوربية تسمح بذلك، وعلى هذا فكلمات "استخرج، مستخرج يتخرج أخرج" تكون كلها في مادة "خ ر ج". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 ولا يشكل على هذا أن عدم اعتبار حروف الزوائد يحوج إلى "التبحر" في علم الصرف، بل إن قليلًا من الإلمام بالقواعد اللغوية يكتفي في هذا، وعلى ذلك ينبغي أن تذكر الكلمة الصعبة التصريف -بجانب موضعها الأصلي- في الموضع الذي يقتضيه الحرف الزائد على فرض أنه صلى، ثم ينبه على نظرها في مادتها. فمثلًا كلمة "تترى ينبغي أن تذكر في مادة "ت ت ر"، ثم ينبه على نظرها في موضعها الأصلي وهو "وت ر"، وكذلك الأعلام المعربة يراعي فيها ذلك ما أمكن. أما ترتيب المشتقات تحت المادة الواحدة، فلا يصح مطلقًا أن نعود إلى ما وقع فيه صاحب اللسان وغيره من اختلاط، واضطراب وتكرار. بل ينبغي أن تتبع في ذلك نظامًا متدرجًا، وقد رأينا أن هذا التدرج قد أوضحه "فيشر" في النموذج الذي وضعه لمعجمه. 3- التعريف والشرح: ينبغي أن يراعى في شرح المفردات، وتعريفها وضوح العبارة وإفادتها، وبما أن معظم المفردات قد حفظ لنا في معاجمنا القديمة شروحًا إلا أن هذا الشرح قد يكون في بعض الأحيان غامض العبارة، فينبغي أن يوضع من جديد في عبارة أسهل، وليس معنى هذا التغير الشامل بل الإيضاح فقط خصوصًا إذا عرفنا أن أغلب هذه المعاجم كانت مولعة بالنقل الحرفي عن المراجع التي اعتمدت عليها فمثلًا في تعريف "الآخر" لا يصح أن نرى "هو ما يبقى بعد فناء خلقه -صامته وناطقة"، فعبارة "صامتة وناطقة" عبارة صوفية لا تفيدنا في التعريف المعجمي للكلمة. كذلك ينبغي أن نحدد معالم الأماكن بوضوح، وإلا فيشار إلى ورودها في كتاب معين، فمثلًا لا يصح أن نرى من جديد أن كلمة كذا مكان معروف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 أو على بعد ثلاثة أيام من صنعاء؛ لأنه واضع هذه العبارة كان يقصد مسيرة ثلاثة أيام يسير الإبل أما الآن، فيمكن تحديد المسافة بالميل مثلًا. أما الاعتماد على الرواة، وذكر أسمائهم فلا داعي له؛ لأن الكلمة لم تعن ما تعنيه؛ لأن راويا معينًا قال كذا، وإذا كان لا بد من ذكر هذه الأسماء فليكن بقدر. ولكن إذا سمح بذكر أسماء لغويين معينين فلا بد من الرجوع إلى كتبهم. وإلا فينص على المرجع الذي نقل عنهم فيه، حتى لا تقع فيما وقع فيه السابقون من الخطأ في نسبة الرأي إلى غير قائله خصوصًا فيما ينسب للخليل أو الليث. أما الناحية التاريخية فتراعى فقط في المعجم التاريخي الذي نحن في أشد الحاجة إليه، وكم كنا نود أن يتمم المجمع اللغوي في مصر بما له من النفوذ، ما بدأه "فيشر" في ذلك، وصحيح أن هذا يحتاج إلى الجهد والوقت، ولكن الجهد متوفر والحمد لله في شخصيات الأعضاء الأفاضل، وفي المهتمين بالأبحاث اللغوية من رجال الجامعات والأدباء، أما الوقت فليس المطلوب إخراج هذا المعجم بين يوم وليلة، ولكن المأمول فقط أن يخرج قسم منه في بضع سنوات ليكون أنموذجًا لمعجم كامل نبدؤه نحن ليتمه الجيل القادم مثلًا. وبعد -فلعلي قد وضعت النقط فوق الحروف حين أدليت برأيي في كل معجم عربي تعرضت له، وحين اتخذت من ذلك أساسًا لمنهج قريب من الصواب يصح أن يتبع حين نصع معجمًا جديدًا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 الفهرس الصحيفة الموضوع ج تصدير. 1 مقدمة. 12 الباب الأول. 13 نبذة عن حياة الخليل. 17 طريقة الخليل في العين. 19 اللغويون الشرقيون الذين اقتفوا نظام العين. 20 الجمهرة. 26 تهذيب اللغة. 30 المغربيون الذين اقتفوا نظام العين. 30 البارع. 35 مختصر العين. 41 المحكم. 45 الباب الثاني. 47 الآراء حول كتاب العين. 55 مناقشة هذه الآراء. 59 كتاب العين يتحدث. 73 كيف وضعت فكرة العين الأولى. 78 الكرملي وكتاب العين. 85 مخطوطات العين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 الصفحة الموضوع الباب الثالث 90 نظام القافية 91 الصحاح 99 لسان العرب 102 القاموس 107 تاج العروس 112 الشدياق وكتاباه الجاسوس وسر الليال الباب الرابع 119 الترتيب العادي 122 الجمل والمقاييس 126 أساس البلاغة 129 الموجزات 131 المعاجم اللبنانية الحديثة 131 محيط المحيط 134 أقرب الموارد 136 معاجم المستشرقين 136 معجم لين 137 معجم فيشر 139 مبادئ فيشر 141 منهج فيشر 144 نموذج من معجم فيشر 147 قاموس المجمع اللغوي "المعجم الكبير". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162