الكتاب: الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي المؤلف: يوسف خليف الناشر: دار المعارف الطبعة: الرابعة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] ---------- الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي يوسف خليف الكتاب: الشعراء الصعاليك في العصر الجاهلي المؤلف: يوسف خليف الناشر: دار المعارف الطبعة: الرابعة عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي] مقدمات مقدمة الطبعة الثانية ... بسم الله الرحمن الرحيم مقدمة الطبعة الثانية: لا تكاد هذه الطبعة الجديدة تختلف عن الطبعة السابقة في شيء أساسي، فلم أدخل عليها إلا تعديلات يسيرة لبعض العبارات، وإضافات قليلة لبعض الشروح. وعلى الرغم من أن صلتي بموضوع البحث "الصعاليك" لم تنقطع طوال هذه السنين التي مضت على ظهور الكتاب، فإن النتائج التي كنت قد انتهيت إليها في هذا البحث لم تتغير، بل لقد زادتني هذه السنون إيمانا واقتناعا بها. حتى المصادر التي أُتيح لي الاطلاع عليها في هذه السنين. ولم تكن الفرص قد أتاحت لي الاطلاع عليها من قبل، لم تقدم لي جديدا يفيد البحث أو يغير من نتائجه. وقد كنت تمنيت -وأنا أعد هذا البحث- لو أتيحت لي فرصة الاطلاع على ديوان تأبط شرا الذي جمعه ابن جني، والذي يذكر بروكلمان أنه مخطوط في الإسكوريال. ثم أتيحت لي في الأيام الأخيرة فرصة الاطلاع على هذا المخطوط، فلم أجده ديوانا لتأبط شرا ولا شبه ديوان، وإنما هو مختارات قليلة اختارها ابن جني من ديوان تأبط شرا الذي كان موجودا عنده كما يذكر صاحب الخزانة، وهي مختارات لم أجد فيها جديدا أضيفه إلى البحث. على أني أريد هنا أن أؤكد -بصفة خاصة- فكرة كثر الجدل حولها في هذه السنين، وهي فكرة "اشتراكية الصعاليك" التي أدرت حولها بحثي، وفسَّرت في ضوئها هذه الثورة الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها المجتمع الجاهلي، وخاصة عند عروة بن الورد الذي تراءى لي داعية من دعاة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الاشتراكية في هذه المرحلة المبكرة من تاريخ الإنسانية. فقد ذهب بعض الباحثين إلى أنني تعسفت في تفسير الشعر الجاهلي هذا التفسير الاقتصادي، وأنني حملت النصوص والأخبار القديمة ما تنوء به من مصطلحات حديثة ترتبط في أذهان الناس بمفاهيم خاصة لم يعرفها العصر الجاهلي، ولم تدر في خلد هؤلاء الشعراء القدماء. وأنا لم أزعم أن ثورة الصعاليك في العصر الجاهلي كانت ثورة اشتراكية قائمة على أساس المذهب الاشتراكي كما تعرفه مجتمعاتنا المعاصرة، فمثل هذا التفسير يعد -بدون شك- تعسفا لا يتفق مع المنهجية الجامعية فما من شك في أن هناك فروقا جوهرية بين الاتجاهين سواء في الفلسفة النظرية أو في التطبيق العملي. وإنما الذي ذهبت إليه هو أن في شعر الصعاليك وأخبارهم، وخاصة عروة بن الورد، أفكارا تتصل بمشكلة الفقر والغنى في المجتمع الجاهلي، وتنادي بثورة المستضعفين من فقراء هذا المجتمع والمضطهدين فيه على طبقة المَالَة من الأغنياء المتخمين وخاصة البخلاء منهم، وأن هذه الثورة كانت تستهدف تحقيق صورة من صور العدالة الاجتماعية والتوازن الاقتصادي في هذا المجتمع. وإذا كانت هذه الأفكار لم تأخذ شكل نظرية علمية دقيقة، أو شكل فلسفة اقتصادية متكاملة، وإذا كان التطبيق العملي لهذه الأفكار سلك أسلوبا فرديا أقرب إلى الفوضوية منه إلى أساليب التنفيد العلمي المنظم في الاشتراكية الحديثة، فإن هذا كله لا يمنع من القول بأن هذه الأفكار كانت تنطوي على إحساس عميق بمشكلات المجتمع الاقتصادية، ومحاولة جادة لحلها، وأن هذا -بدون شك- كان يمثل صراعا بين طبقة الفقراء ممثلة في هؤلاء الصعاليك العاملين، وطبقة المالة ممثلة في هؤلاء الأغنياء البخلاء، وهو صراع كان يضم في أعماقه براعم لم تتفتح تماما من النظرية الاشتراكية الحديثة. وما من شك في أن الصعلكة عند عروة بالذات كانت -كما قلت في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 هذا البحث- "نزعة إنسانية نبيلة، وضربة يدفعها القوي للضعيف، والغني للفقير، وفكرة اشتراكية تشرك الفقراء في مال الأغنياء، وتجعل لهم فيه نصيبا، بل حقا يغتصبونه إن لم يؤد لهم". وبعد، فكل ما أطمع أن أكون نجحت في إنصاف هؤلاء الصعاليك، ووضعهم في مكانهم الطبيعي في تاريخنا العربي الخالد، وأن أكون قد لفت أنظار الباحثين إلى أن في تراثنا القديم جوانب تحتاج إلى إعادة النظر فيها في أضواء جديدة. والله نسأل أن يجنبنا الخطأ، ويعصمنا من الزلل. القاهرة في مايو 1966 يوسف خليف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 مقدمة الطبعة الأولى : 1- ليست دراسة العصر الجاهلي بالمسألة اليسيرة القريبة المنال، وإنما هي مسألة غامضة ومتشعبة وصعبة. أما غموضها فيرجع إلى طبيعة العصر نفسه، فهو عصر يمتد القهقرى من ظهور الإسلام إلى حيث لا ندري، أو هو تلك الفترة الغامضة من فترات التاريخ العربي التي يصح أن نطلق عليها "عصر ما قبل التاريخ العربي"، على أساس أن التاريخ العربي في صورته الدقيقة الثابتة إنما يبدأ منذ ظهور الإسلام الذي جعل من العرب أمة واحدة ذات كيان متميز متماسك. تسلك سبيلها في التاريخ، سبيلا واضحة المعالم. فهو عصر أكثر فتراته ضائعة مجهولة، وأقلها مشكوك فيها، وحسبنا أن نقول إننا لا نكاد نعرف عنه شيئا منذ بدايته إلى ما قبل الأساطير والأقاصيص، إن تكن ذات قيمة لطائفة من العلماء فإنها عديمة القيمة تقريبا للباحثين في الأدب العربي. وحين تبدأ معلومات هذا العصر تصل إلينا يقف دون وضوحها والاطمئنان إليها أمران: فهي -من ناحية- تتحدث عن مجتمع بدوي بَعُدَ العهد به، وهي -من ناحية أخرى- معلومات لم تدون إلا في عصور متأخرة، وظلت شفاه الرواة تتناقلها حتى دونت، وبعد أن دخلها -بطبيعة الحال- شيء قليل أو كثير من التحريف والضياع والانتحال. ومن هنا نشأت فكرة الشك فيما وصل إلينا من أخبار ونصوص عن هذا العصر. ومن هنا أيضا وُجدت فكرة الغموض: غموض العصر الذي لا نستطيع تمثله التمثيل الواضح، وغموض المعلومات التي لا تستطيع الاطمئنان إليها اطمئنانا تامًّا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 وهي مسألة متشعبة؛ لأنها تتصل بمجتمع رعوي -في مجموعه - لم يعرف الاستقرار. ومن هنا لم تعرف ظواهره الاجتماعية الاستقرار الذي ييسر على الباحث دراستها دراسة دقيقة كاملة. ثم هو -إلى جانب هذا- مجتمع يدين بالحرية الفردية إلى أبعد حد، لم يعرف -إلا في بعض أجزائه- النظام السياسي الذي يهيئ للباحث تحديد جوانب دراسته؛ لأنه يقف أمام طائفة من الظواهر الفردية تتعدد بتعدد الأفراد والجماعات التي هي في حكم الأفرد، فلم تكن الجماعات التي عرفها المجتمع الجاهلي سوى مجموعات من الأفراد تدين بالحرية الفردية، وإن لم تكن حرية حاول أصحابها -تحقيقا لصورة ما من صور الجماعة- أن يلونها بلون جماعي. ثم هي مسألة -بعد هذا وذاك- صعبة؛ لأنها غامضة ومتشعبة. ولكني مع ذلك -ولا أدري لماذا؟ - مفتون بهذا العصر الجاهلي فتنة ترجع إلى عهد بعيد، وكل ما أتمناه أن تتحول هذه الفتنة إلى إيجابية فعالة تحطم من هذه الصخرة العاتية، صخرة هذا العصر. 2- من هذه الزواية من زوايا النظر لم أحاول -حين فكرت في دراسة العصر الجاهلي- أن أقف منه موقفا عاما شاملا، أو أن أنظر إليه من عَلُ نظرة مشرفة واسعة الأفق، وإنما حاولت أن أتخير -خطوة أولى لدراسته- جانبا من جوانبه أقف عنده وقفة عميقة، وأنظر إليه نظرة ممعنة فاحصة، حتى لا تضل دارستي بين شعاب الصحراء الفسيحة المترامية الممتدة إلى ما وراء مطارح البصر. وشغلتني مهمة الاختيار هذه فترة من الزمن، كنت في أثنائها أستعرض الجوانب المتعددة لهذا العصر، وكلها يستحق الدرس والبحث. ثم قفز إلى ذهني موضوع "الصعاليك"، وأخذت أسهمه في الصعود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 قفز هذه الموضوع إلى ذهني لأنه موضوع لم يعن به الباحثون من قبل، ولم يقفوا عنده، ولم يشغلوا أنفسهم به، وأخذت أسهمه في الصعود لما كنت أشعر به من أهميته، وطرافته، وتحديده، وتمثيله ظاهرة متميزة من ظواهر العصر الجاهلي. ويقف موضوع الصعاليك في تاريخ الأدب العربي كتلك المراقب الشم الشامخة التي أطال في الحديث عنها شعراؤهم، والتي لم يكن أحد غيرهم يستطيع أو حتى يجرؤ على الصعود إليها، يحوم حوله الباحثون ثم يتجنبون المغامرة باقتحامه، أو ينظرون إليه نظرة خاطفة دون إقدام على الاقتراب منه، مع اعترافهم بأنه موضوع في حاجة إلى البحث والدرس، كأنه منطقة خطرة من تلك المناطق التي كان الصعاليك يمارسون فيها نشاطهم الدامي الرهيب، وكأنما كتب على هؤلاء الصعاليك الذين لم يلقوا من مجتمعهم عناية أو اهتماما في حياتهم أن تظل اللعنة تلاحقهم طوال تلك القرون المتعاقبة بعدهم، وكأنما كتب على هؤلاء المشردين في آفاق الأرض أن يظلوا مشردين في أعماق الكتب والأسفار. وفي أذهان الناس عن الصعاليك صورة غامضة غير مشرفة، تكسوها ظلال قاتمة تحجب كثيرا من معالمها وخطوطها، وتغشيها سحب دُكْن تخفي وراءها كثيرا من النور والضياء، وينقصها كثير من الأضواء الكاشفة تجلو عنها ظلالها القاتمة، وتبعد عنها سحبها الدكن، حتى يبين ما يحتجب خلفها من معالم وخطوط وأضواء. ومهمتي في هذا البحث أن أحاول تجلية هذه الظلال، وإزاحة هذه السحب، حتى يستبين ما وراءها، وتبدو الصورة على حقيقتها واضحة مشرقة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 3- وقد كان أساس المنهج لبحث هذا الموضوع أن أبدأ غير متأثر برأي أحد من الباحثين، فآثرت في أول الأمر أن لا أقرأ شيئا عنه لأحد من الباحثين، ومضيت إلى أخبار الصعاليك وأشعارهم في مصادرها الأصيلة الأولى في محاولة جاهدة لتكوين رأي لي، وانقضت سنوات وأنا سعيد بصحبة هؤلاء "الفتيان" -كما كان يحلو لهم أن يسموا أنفسهم- وأقرأ وأدون، وأتأمل وأفكر، وأحدد خطوط الصورة، وأنقب عن معالمها، حتى إذا ما كونت لنفسي رأيا في الموضوع، وأخذت خطوط الصورة ومعالمها تتضح لي، مضيت أبحث عن دراسات الباحثين فيه، فراعني أني لم أجد أحد قبلي قد عني بدراسته دراسة شاملة متخصصة، وإنما كل ما عثرت عليه طائفة من المقالات تترجم لجماعة من الشعراء الصعاليك، أو بعض الأبحاث السريعة في هذه الموضوع ترسم الخطوط العامة له، حتى إن "دائرة المعارف الإسلامية" -على ضخامتها وسعتها، وكثرة موادها، وتعدد القائمين بها- لم تعرض لهذا الموضوع على الإطلاق، وإنما كل ما فعلته أنها ترجمت لطائفة قليلة من شعرائه، هم عروة والشنفرى وتأبط شرا. ونظرت فإذا عليَّ أن أدرس جانبين: حياة هؤلاء الصعاليك كما تتمثل في أخبارهم وأشعارهم لأستخلص منها الجوانب المختلفة لظاهرة الصعلكة، ثم شعرهم من حيث هو نتاجهم الفني المعبر عن آرائهم وأفكارهم لأستخلص منه هذه الآراء والأفكار، ولأسجل في ضوئه الظواهر الفنية التي تميز فنهم. وهكذا انقسم البحث إلى قسمين أساسيين: دراسة للظاهرة، ودراسة للشعر. ثم نظرت فإذا القسم الأول ممعن في الغموض، فما معنى الصعلكة؟ وما تعريف الصعلوك؟ وهل يتفق المفهوم اللغوي لهما مع ما عرفه المجتمع الجاهلي عنهما؟ فرأيت أن أفرد فصلا للتعريف بهذه الظاهرة، عرضت فيه للتعريف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 اللغوي للمادة، ثم عرضت لهذا التعريف على النصوص الأدبية التي وردت فيها، حتى أدرك إلى أي مدى ينطبق عليها، وأدركت أن هذا التعريف اللغوي لا يكفي لفهم هذه الظاهرة، فكان لا بد من المضي إلى المجتمع الجاهلي أتلمس في أخبار صعاليكه وأشعارهم جوانبها المختلفة، ومعالمها المميزة لها. ثم وقفت أمام هذه الظاهرة وتساءلت: ما السر في نشأتها؟ وما العوامل التي أدت إلى ظهورها؟ ورأيت أن أمضي إلى علم النفس الاجتماعي أسأله تفسيرا لها، فدرست المجتمع، والتوافق الاجتماعي، و"اللاتوافق"، وعُقَد النقص، ودرست الفقر، والمشكلات الاقتصادية، والمذاهب المختلفة التي حاولت أن تجد لهذه المشكلات حلا، وانتفعت بكل هذه الدراسات في تكوين فكرة عن هذه الظاهرة، وانتهيت إلى أن هناك ثلاثة عوامل عملت في نشأتها وتطورها: عامل جغرافي، وعامل اجتماعي، وعامل اقتصادي. فمضيت إلى المجتمع الجاهلي أدرس فيه هذه الجوانب الثلاثة على هذا الأساس، ورأيت أن أفرد فصلا لكل منها، ولم أفرد للتفسير النفسي فصلا خاصا لأنه عامل مشترك بين كل هذه العوامل. وهكذا كان الباب الأول في أربعة فصول. ثم مضيت إلى مجموعة شعر الصعاليك التي بذلت جهدا كبيرا في جمعها من مصادر متعددة، ورأيت لزاما عليَّ أن أعرض -قبل كل شيء- لتلك المصادر المتعددة التي اعتمدت عليها في جمع ما يصح أن نسميه "ديوان الصعاليك"، وتلك المصادر الأخرى التي لم تصل إلينا إلا أسماؤها، إما لأنها فقدت، وإما لأنها ليست بين أيدينا. كما رأيت من الضروري أن أعرض لمدى صحة ما ترويه المجموعة الأولى من المصادر من شعر الصعاليك، حتى أنتهي إلى رأي فيما يثور حوله من شك في بعض نصوصه، وأفردت لهذه المقدمات الفنية الفصل الأول من الباب الثاني. ثم نظرت في مجموعة شعر الصعاليك، ورأيت أن أفرد فصلا لموضوعاته، سواء ما كان منها "داخل دائرة الصعلكة"، وما كان منها "خارج هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 الدائرة"، فكان الفصل الثاني من هذه الباب. ثم مضيت إلى هذا الشعر أدرس ظواهره الفنية من حيث طبيعة العمل الفني وخصائصه، ومن حيث لغته وأوزانه، وأفردت لهذه الدراسة الفصل الثالث من هذا الباب. ثم رأيت أن أقدم -أخيرا- دراسة مستقلة لشاعر من الصعاليك يكون نموذجا لهم، أطبق عليه ما وصلت إليه في أثناء البحث من نتائج، ولكني رأيت أن أمامي شخصيتين متميزتين اجتماعيا وفنيا: شخصية الصعلوك الزعيم التي يمثلها عروة بن الورد، وشخصية الصعلوك العامل التي اخترت الشنفرى مثلا لها، وقد اخترت الشنفرى بالذات لأن له ديوانا بين أيدينا مما يجعل التوازن قائما بينه وبين عروة، وله هو أيضا ديوان بين أيدينا، وأفردت لدراسة هذين الشاعرين فصلا مستقلا هو الفصل الأخير من هذا البحث. ومهما يكن من شأن هذه الدراسة فإني حريص على أن أسجل أن كل ما وصلت إليه فيها من نتائج لا يمكن أن يكون الكلمة الأخيرة في الموضوع، فالكلمة الأخيرة في العلم مستحيلة، ولا يمكن أن أدعي أنني وصلت بها إلى درجة الكمال، فالكمال لله وحده، وإنما كل ما أستطيع أن أقوله هو أن نتائج هذه الدراسة ليست سوى نتائج لما وصل إلي -أو وصلت إليه- من مادة لا شك في أن وراءها مادة أخرى لم تصل إلي، ومن الممكن أن تغير قليلا أو كثيرا من هذه النتائج. 4- أما الفترة التي اخترتها لدراسة هذه الموضوع، والتي حددتها بالعصر الجاهلي، فإني لا أقصد بها تلك الفترة المحددة التي سبقت ظهور الإسلام فحسب، وإنما يمتد العصر الجاهلي عندي -وأعني به العصر الجاهلي الأدبي- حتى يشمل فترة المخضرمين، فإن هؤلاء المخضرمين لا يمثلون عناصر جديدة في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 الحياة الأدبية الإسلامية، وإنما هم امتداد للحياة الأدبية الجاهلية التي اكتملت ملكاتهم الفنية في ظلها. أما العصر الأدبي الإسلامي فإنما يبدأ بأولئك الشعراء الذين لم يدركوا العصر الجاهلي، وبدأ تكون ملكاتهم الفنية في ظل الإسلام. ومن هنا كنت أرى أن العصر الجاهلي الأدبي ليس محددا بفترة زمنية ينتهي بانتهائها ليبدأ بعدها العصر الأدبي الإسلامي، ولكنه محدد بحياة أولئك النفر من الشعراء المخضرمين ينتهي بالنسبة لكل منهم بانتهاء حياته. وليس معنى هذا أنني أنفي أن هؤلاء المخضرمين قد تأثرت حياتهم الأدبية بالإسلام، فمن المؤكد أنها تأثرت به، ولكن من المؤكد أيضا أن هذا التأثر يمثل مرحلة من مراحل تطورهم الأدبي، ولكنه لا يمثل مرحلة من مراحل تكوينهم الأدبي. وبعد، فهذا الموضوع الذي أقدمت على دراسته، وأنا أعرف أنها مغامرة كتلك المغامرات التي كان يقدم عليها فتيان الصعاليك، ولكني أنشد مع الشنفرى "ومن يَغزُ يغنمْ مرة ويُشَمَّتِ"، فإن تكن الأولى فما توفيقي إلا بالله، وإلا فحسبي إعذارا لنفسي أنها مغامرة أقدمت عليها، ولأنشد مع أبي الصعاليك عروة بن الورد "ومُبْلغُ نفسٍ عُذرَها مثل مُنْجِحِ". والله يهدينا سواء السبيل. يناير 1959 يوسف خليف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 الباب الأول: الصعاليك الفصل الأول: التعريف بالصعلكة في اللغة ... الفصل الأول: التعريف بالصعلكة 1- في اللغة: في لسان العرب1: "الصعلوك: الفقير الذي لا مال له، زاد الأزهري ولا اعتماد. وقد تصعلك الرجل إذا كان كذلك. قال حاتم الطائي: غنينا زمانا بالتصعلك والغنى ... فكلا سقاناه بكأسيهما الدهر أي عشنا زمانا. وتصعلكت الإبل: خرجت أوبارها، وانجردت، وطرحتها. ورجل مصعلك الرأس: مدوره. ورجل مصعلك الرأس: صغيره، وأنشد: يخيل في المرعى لهن بشخصه ... مصعلك أعلى قلة الرأس نقنق وقال شمر: المصعلك من الأسنمة: الذي كأنما حد رجت أعلاه حدرجة، كأنما صعلكت أسفله بيدك، ثم مطلته صعدا أي رفعته على تلك الدملكة، وتلك الاستدارة2. وقال الأصمعي في قول أبي دؤاد يصف خيلا: قد تصعلكن في الربيع وقد قـ ... ـرع جلد الفرائض الأقدام قال: تصعلكن: دققن، وطار عفاؤها عنها، والفريضة: موضع قدم الفارس. وقال شمر: تصعلكت الإبل إذا دقت قوائمها من السمن، وصعلكها البقل.   1 مادة "صعلك". 2 حدرج: فتل وأحكم. والدملكة: الاستدارة والملاسة والفتل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وصعلك الثريدة: جعل لها رأسا، وقيل: رفع رأسها. والتصعلك: الفقر. وصعاليك العرب: ذؤبانها. وكان عروة بن الورد يسمى عروة الصعاليك؛ لأنه كان يجمع الفقراء في حظيرة فيرزقهم مما يغنم". من هذا النص اللغوي الذي سجله ابن منظور في لسان العرب، والذي سجل مثله غيره من علماء اللغة في معاجمهم، نستطيع أن نتبين أصلا عاما للمادة تشترك فيه معانيها المختلفة، وتدور حوله، وهو -عندي- الضمور والانجراد1. ونستطيع في سهولة ويسر أن نرد كل معاني المادة إلى هذا الأصل العام: فالإبل تتصعلك إذا انجردت أوبارها وطرحتها. والخيل تتصعلك إذا دقت وطار عفاؤها عنها. والبقل يصعلك الإبل أي يسمنها، وهذا السمن يجعلها تطرح أوبارها وتتجرد منها. والمصعلك من الأسنمة الذي يبدو كأنما فتلت أعلاه وأضمرته. وهو يصعلك الثريدة أي يجعل لها رأسا، أو يرفع رأسها، كأنها أضمر أعلاها. ومن مصعلك الرأس أي صغيرة وضامرة. وهو يتصعلك أي يفتقر كأنما تجرد من ماله، وبدأ ضامرا بين الناس. فالصعلكة إذن -في مفهومها اللغوي- الفقر الذي يجرد الإنسان من   1 نحن في هذا نخالف ابن دريد فيما يذهب إليه من أن "أصل الصعلكة الفقر" "انظر جمهرة اللغة: باب ما جاء على "فعلول" 3/ 383 - وانظر أيضا الاشتقاق/ 170"، ونرى أن الفقر ليس أصلا للمادة، ولكن الطور المعنوي في معناها الذي يأتي بعد الطور الحسي. ويؤيدنا فيما نذهب إليه ما يراه ابن فارس من أن "الصاد والعين واللام أصيل يدل على صغر وانجراد" "انظر مقاييس اللغة 3/ 286"، وهذه الحروف الثلاثة هي أصل مادة "صعلك"، وبين المادتين تشابه في معانيهما، فالصعل: الصغير الرأس من الرجال والنعام، وحمار صعل أي ذاهب الوبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ماله، ويظهره ضامرا هزيلا بين أولئك الأغنياء المترفين الذين أتخمهم المال وسمنهم. ولكن يبدو أن هذا المعنى لا يعبر عن المفهوم اللغوي للكلمة تعبيرا دقيقا كاملا، ولهذا نريد أن نقف وقفة أخرى عند تلك الزيادة التي أضافها الأزهري إلى هذا المعنى اللغوي، وهي قوله "ولا اعتماد"، لنرى ماذا يستفيد المعنى منها؟ وإلى أي مدى تحدد هذه المعنى وتكمله؟ والمعنى اللغوي لهذه العبارات واضح، فاعتمد على الشيء: توكأ أو اتكأ عليه، واعتمد عليه في كذا: اتكل عليه1. وعلى هذا نستطيع أن نقول إن الصعلوك في اللغة هو الفقير الذي لا مال له يستعين به على أعباء الحياة، ولا اعتماد له على شيء أو أحد يتكئ عليه أو يتكل عليه ليشق طريقه فيها، ويعينه عليها، حتى يسلك سبيله كما يسلكه سائر البشر الذين يتعاونون على الحياة، ويواجهون مشكلاتها يدا واحدة. أو هو -بعبارة أخرى- الفقير الذي يواجه الحياة وحيدا، وقد جردته من وسائل العيش فيها، وسلبته كل ما يستطيع أن يعتمد عليه في مواجهة مشكلاتها. فالمسألة إذن ليست فقرا فحسب، ولكنها فقر يغلق أبواب الحياة في وجه صاحبه، ويسد مسالكها أمامه. هذا هو التعريف اللغوي للكلمة كما نراه في ضوء هذه المحاولة اللغوية لفهم المادة. ونريد -بعد هذا- أن نتتبع هذه المادة في الاستعمال الأدبي القديم في العصر الذي ندرسه لنرى كيف دارت فيه؟ وإلى أي مدى يطابق هذا الاستعمال معناها كما سجله علماء اللغة أو يختلف عنه؟   1 لسان العرب: مادة "عمد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 2- في الاستعمال الأدبي: تتردد هذه المادة في أخبار العصر الجاهلي وشعره بصورة واسعة، وتقابلنا كثيرا على ألسنة شعرائه ورواة أخباره، فنراها أحيانا تدور في هذه الدائرة اللغوية التي تحدثنا عنها، على نحو ما نرى في بيت حاتم الطائي الذي يتخذ منه اللغويون موضوعا للاستشهاد على المعنى اللغوي للكلمة، فالمقابلة في هذا البيت بين التصعلك والغنى تدل في وضوح لا لبس فيه على أنه يستعمل التصعلك في معنى الفقر، وهو استعمال يؤيده ذكر الفقر في البيت التالي مرادفا للتصعلك: فما زادنا بغيا على ذي قرابة ... غنانا ولا أزرى بأحسابنا الفقر ونراها أحيانا أخرى ترد في بعض المواضع، ولكن مفهومها الذي يتفق مع السياق لا يتفق تماما مع مفهومها اللغوي. فهذا عمرو بن براقة الهمداني يُغير على إبله وخيله رجل من مراد، فيذهب بها، فيأتي عمرو فيُغير على المرادي فيستاق كل شيء له، ويقول: قول سليمى: لا تعرض لتلفة ... وليلك عن ليل الصعاليك نائم وكيف ينام الليل من جل ماله ... حسام كلون الملح أبيض صارم ألم تعلمي أن الصعاليك نومهم ... قليل إذا نام الخلي المسالم1 فمن الواضح أن جو القصة وسياق الأبيات لا يدلان على أن الصعاليك هنا هم الفقراء، وإلا فما معنى هذه النصيحة التي توجهها إلى الشاعر صاحبته بألا يعرض نفسه للتلف مع هؤلاء الصعاليك الذين ينام ليلة عن ليلهم؟ وما سر المقابلة بين قلة نومهم ونوم "الخلي المسالم"؟ وما دخل المسالمة التي يتحدث عنها الشاعر في حديث عن الفقر والغنى؟ من الواضح أن الصعاليك   1 القالي: الأمالي 2/ 121-132، والأغاني 21/ 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 هنا ليسوا هم أولئك الفقراء المعدمين الذين يقنعون بفقرهم، أو يستجدون الناس ما يسدون به رمقهم، وإنما هم أولئك المشاغبون المغيرون أبناء الليل الذين يسهرون لياليهم في النهب والسلب والإغارة بينما ينعم الخليون المترفون المسالمون بالنوم والراحة والهدوء. فالكلمة إذن قد خرجت من الدائرة اللغوية، دائرة الفقر، إلى دائرة أخرى أوسع منها هي دائرة الغزو والإغارة للنهب والسلب. وفي أخبار امرئ القيس أنه غزا بني أسد ثائرا بأبيه، "وقد جمع جموعا من حمير وغيرهم من ذؤبان العرب وصعاليكها"1. ونتهم أنفسنا بالسذاجة لو تصورنا أمرأ القيس وقد خرج لثأر أبيه الملك يجمع جموعا من فقراء العرب المعدمين، فما أهمية الفقر في معركة من معارك الثأر؟ وما الذي يحمل امرأ القيس على أن يجمع حوله جموعا من الفقراء ليغزو بهم بني أسد؟ من الواضح أن هؤلاء الفقراء الذي استعان بهم امرؤ القيس في إدراك ثأره لا بد أن تكون حياتهم الاجتماعية قد تطورت تطورا خاصا جعلهم يصلحون للقيام بتلك المهمة الضخمة التي طلبهم إليها، وهو تطور نحس شيئا من سماته ومظاهره في هذا الربط بينهم وبين الذؤبان، فلا بد أن هؤلاء الفقراء كان بيهم وبين الذئاب تشابه في أسلوب الحياة أو أسلوب العيش أو طبيعة الشخصية. ويشبه هذا ما ورد في أخبار عدي بن زيد من أن النعمان بن المنذر حبسه حتى مات، فأراد ابنه زيد أن يثأر له من النعمان، فدبر مكيدة يوغر بها صدر كسرى عليه حتى يقتله، وترامى خبر المكيدة إلى سمع النعمان، ففر من كسرى ولجأ إلى قبائل العرب، ولكن أحدا لم يجرؤ على إجارته، فقال له سيد من بني شيبان في حديث طويل معه: "فامض إلى صاحبك، فإما أن صفح عنك فعدت ملكا عزيزا، وإما أن أصابك فالموت خير لك من أن يتلعب بك صعاليك العرب، ويتخطفك ذئابها، وتأكل مالك"2. فمن الواضح أن الصعاليك هنا ليسوا هم الفقراء، ولكنهم طوائف من قطاع   1 البغدادي: خزانة الأدب 3/ 532. 2 الأغاني 2/ 126، والبغدادي: خزانة الأدب 1/ 185-186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 الطرق كانوا منتشرين في أرجاء الجزيرة العربية، ينهبون من يلقونه في صحرائها الموحشة الرهيبة، ويتلعبون به، ويتخطفونه، ويأكلون ماله، على حد ألفاظ ذلك السيد العربي الذي كان -ولا شك- يعرف جيدا طبيعة الدور الذي يقوم به هؤلاء الصعاليك على مسرح البادية العربية، وهو دور تعبر عنه تعبيرا دقيقا هذه الألفاظ. وإلى جانب هذا نلاحظ أن بعض المصادر العربية تذكر طائفة من الأسماء على أنهم "صعاليك العرب"1، أو تقص أخبارا عن صعاليك بعض القبائل2، أو تصف بعض الشعراء بأنهم من "صعاليك العرب"3، بل نلاحظ أن صاحب الأغاني يقول في تقديمه للسليك بن السلكة: "وهو أحد صعاليك العرب ... وأخبارهم تذكر على تواليها هاهنا، إن شاء الله تعالى، في أشعار لهم يُغنى فيها، لتتصل أحاديثهم"4، مما يشعر بأن هؤلاء الصعاليك كانوا يكونون طبقة متميزة من طبقات المجتمع الجاهلي جعلت أبا الفرج يحرص على أن يذكر أخبارهم على تواليها حتى تتصل أحاديثهم، على حد تعبيره. وأظن أننا نستطيع بعد هذه الجولة أن نقف لنسجل أن مادة "صعلك" تدور في دائرتين: إحداهما "الدائرة اللغوية" التي تدل فيها على معنى الفقر، وما يتصل به من حرمان في الحياة، وضيق في أسباب العيش، والأخرى نستطيع أن نطلق عليها "الدائرة الاجتماعية"، وفيها نرى المادة تتطور لتدل على صفات خاصة تتصل بالوضع الاجتماعي للفرد في مجتمعه، وبالأسلوب   1 نظر على سبيل المثال: وسائل الخوارزمي/ 141، 142، والدلجي: الفلاكة والمفلوكين/ 119. 2 انظر على سبيل المثال: الأغاني 18/ 215، 20/ 20، والبغدادي: خزانة الأدب 2/ 405. 3 انظر على سبيل المثال: الأغاني 3/ 73، 12/ 49 "بولاق"، 18/ 33، وابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 214. 4 الأغاني 18/ 133. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 الذي يسلكه في الحياة لتغيير هذا الوضع. وهذه الصفات هي بعض ما نحاول تبينه في هذا البحث. ونتساءل بعد هذا: ألم يلتفت اللغويون إلى هذا المعنى الاجتماعي؟ ونعود مرة أخرى إلى النصوص اللغوية نستفتيها، وتلفت نظرنا تلك العبارة الغامضة التي يذكرها بعض اللغويين في ختام تعريفاتهم، وهي قولهم "وصعاليك العرب ذؤبانها". ونتساءل مرة أخرى: ماذا يعني اللغويون بذؤبان العرب؟ ونمضي إلى مادة "ذاب" نسأل اللغويين عن معنى "ذؤبان العرب"، فإذا هم يحيلوننا مرة أخرى على "صعاليك العرب". ففي الصحاح "وذؤبان العرب أيضا صعاليكها الذين يتلصصون"، وفي القاموس المحيط "ذوبان العرب لصوصهم وصعاليكهم"، وفي أساس البلاغة "وهم ذؤبان العرب: من صعاليكهم وشطارهم"، وفي النهاية لابن الأثير "يقال لصعاليك العرب ولصوصها ذؤبان لأنهم كالذئاب". وهكذا كادت المسألة أن تكون دورا -كما يقول المناطقة- لولا هذه الزيادات القليلة التي أضافها هؤلاء اللغويون إلى تعريفاتهم. ومن هذه الزيادات عرفنا أن هؤلاء الصعاليك كانوا "يتلصصون"1، وأنهم كانوا "شطارا"2، كما عرفنا أنهم سُموا هكذا لأنهم كانوا كالذئاب. ومع ذلك فما زلنا نشعر بأن هذه الزيادات لم تتقدم بنا كثيرا في داخل هذه "الدائرة الاجتماعية"، وأن علماء اللغة يحومون حول هذه الدائرة دون أن ينفذوا إلى داخلها، مع إحساسهم أن هناك شيئا آخر غير الفقر في مفهوم المادة. وهو هذا الذي حاولوا أن   1 في تاج العروس "مادة لص" "وهو يتلصص -كما في الصحاح وفي الأساس- إذا تكررت سرقته". 2 في لسان العرب "مادة شطر" "شطر عن أهله ... نزح عنهم، وتركهم مراغما أو مخالفا، وأعياهم خبثا، والشاطر مأخوذ منه". وفي أساس البلاغة "المادة نفسها" "وفلان شاطر: خليع". ومن الأشياء التي تلفت النظر أن الخليع من أسماء الذئب أيضا "انظر لسان العرب: مادة خلع"، وأن الذئب يُشبه في الشعر الجاهلي أحيانا بالخليع، وفي معلقة امرئ القيس "به الذئب يعوي كالخليع المعيل"، وهو من شعر تأبط شرا بدون شك عندي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 يفسروه بذلك الربط بين الصعاليك والذؤبان. ولكننا لا نريد أن ننتهي من هذا البحث اللغوي دون أن نشير إلى أن أبا زيد القرشي صاحب جمهرة أشعار العرب، قد تنبه إلى أن هناك جانبين لهذه المادة، واستطاع أن يميز بينهما تمييزا دقيقا واضحا حيث يقول1: "الصعلوك الفقير، وهو أيضا المتجرد للغارات"، وهذا التعبير عن مفهوم المادة الاجتماعي بالتجرد للغارات يجعلنا نسجل لهذا العالم المتقدم على أصحاب المعاجم التي بين أيدينا أنه كان أدق من عرف معنى الصعلوك. وهنا نقف لنتساءل: ماذا فهمنا عن صعاليك العرب؟ أغلب الظن أننا لم نصل إلى أشياء كثيرة، وأننا ما زلنا في بداية الطريق الطويل نتحسس خطواتنا في الظلام تحت أضواء النجوم الخافتة، وأن شوطا بعيدا ما يزال ينتظرنا حتى مطلع الفجر. ويبدو أنه لا بد لنا من أن نمضي إلى مصادر الأدب العربي نسألها: ما أخبار هؤلاء الصعاليك؟ وأين شعر شعرائهم الذي صوروا فيه حياتهم؟ لعلنا نجد فيها وفيه ما نستطيع به أن نرسم صورة أشد وضوحا لهذه الطبقة من طبقات المجتمع الجاهلي. 3- في المجتمع الجاهلي: حين نرجع إلى أخبار هؤلاء الصعاليك نجدها حافلة بالحديث عن فقرهم، فكل الصعاليك فقراء، لا نستثني منهم أحدا، حتى عروة بن الورد سيد الصعاليك الذي كانوا يلجئون إليه كلما قست عليهم الحياة، ليجدوا عنده مأوى لهم حتى يستغنوا، فالرواة يذكرون أنه "كان صعلوكا فقيرا مثلهم"2، وأخوه وابن عمه يقولان له -حين عرض عليه أهل امرأته التي أصابها في بعض   1 جمهرة أشعار العرب/ 115. 2 التبريزي: شرح حماسة أبي تمام 2/ 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 غزواته أن يفتدوها: "والله لئن قبلت ما أعطوك لا تفتقر أبدا"1، بل أكثر من هذا يذكر الرواة أنه جاء بامرأته إلى بني النضير "ولا شيء معه إلا هي، فرهنها، ولم يزل يشرب حتى غَلِقَتْ"2. وتكثر في شعره أحاديث فقره، وما يعانيه من حرمان، وما يتكبده في سبيل الغنى من جهد ومشقة، وما يشعر به من ثقل التبعة التي يتحملها إزاء أهله، وإزاء أصحابه الصعاليك أيضا: ذريني للغنى أسعى، فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير3 فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا4 ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا ... من المال يطرح نفسه كل مطرح5 وهذا الفقر الذي استبد بحياة الصعاليك حمل لهم في ركابه الجوع، نتيجة طبيعية له، ولعل الجوع أقسى ما يحمله الفقر إلى جسد الفقير، وقد سئل أعرابي: ما أشد الأشياء؟ فقال: كبد جائعة تؤدي إلى أمعاء ضيقة6. وليس من شك في أن هذه العبارات الساذجة التي صور فيها هذا الأعرابي إحساسه إنما تشير إلى قصة الحياة الأساسية، قصة الصراع بين الحياة والموت. وذلك لأن المسألة تتصل بحاجات الجسم الحيوية الأولى، فالجوع -كما يقرر علماء الاجتماع- أول الدوافع المسيطرة على حياة الإنسان7. وقد كان من العرب من يغير من أجل الحصول على الطعام8، بل إن كثيرا من الصراع الداخلي   1 الأغاني 3/ 77. 2 المصدر نفسه/ 38، وغلق الرهن في يد المرتهن: استحله، وذلك إذا لم يقدر الراهن على افتكاكه في الوقت المشروط. 3 ديوانه/ 198. 4 ديوانه/ 191. 5 ديوانه/ 99. 6 البيهقي: المحاسن والمساوئ. 301. 7 Groves; Personality And Secial Adjustment, P. 270. 8 ابن دريد: الاشتقاق/ 246. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 بين القبائل الجاهلية إنما يرجع -من بعض جوانبه- إلى الفقر والجوع1، وما أكل ضباب الصحراء ويرابيعه وأورالها سوى مظهر من مظاهر هذا الجوع القاتل الذي كان يعانيه عرب البادية حين يجدبون وتتتابع عليهم السنين، وما كان قتل بعض العرب أولادهم خشية إملاق سوى مظهر آخر من مظاهر هذا الجوع القاتل2. ويكثر الحديث عن الجوع في أخبار الصعاليك وشعرهم، ففي أخبار عروة أن ناسا من بني عبس أجدبوا "في سنة أصابتهم، فأهلكت أموالهم، وأصابهم جوع شديد وبؤس"، فأتوا عروة يستنجدون به، فخرج "ليغزو بهم ويصيب معاشا"3. وتنتشر في شعره وأخباره مناقشات بينه وبين صعاليكه حول الجوع الذي كان يجهدهم في غزواتهم4. ويذكر الرواة أن أبا خراش الهذلي أقفر من الزاد أياما5. ويحدثنا السليك بن السلكة في بعض شعره كيف كان يغمى عليه من الجوع في شهور الصيف حتى ليشرف على الموت والهلاك: ومنا نلتها حتى تصعلكت حقبة ... وكدت لأسباب المنية أعرف وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني ... إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف6 ويتحدث الأعلم الهذلي عن أولاده الشعث الصغار الذين ينظرون إلى من يأتيهم من أقاربهم بشيء يأكلونه: وذكرت أهلي بالعرا ... ء وحاجة الشعث التوالب   1 انظر حديث الأصمعي في الأغاني 14/ 39. 2 في القرآن الكريم: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ} سورة الإسراء آية 31، انظر أيضا سورة الأنعام آية 151. 3 الأغاني 3/ 81، 82. 4 انظر على سبيل المثال شرح ديوانه لابن السكيت/ 103، 104. 5 الأغاني 21/ 60. 6 الأغاني 18/ 135 - وأسدف الرجل: أظلمت عيناه من الجوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 المصرمين من التلا ... د اللامحين إلى الأقارب1 بل إن الجوع ليشتد بعروة فيهتف بأصحابه الصعاليك هتفه من لا يطيق عليه صبرا أن هلموا إلى الغزو، فللموت خير من حياة الجوع والهزال: أقيموا بني لبني صدور ركابكم ... فإن منايا القوم خير من الهزل2 وفي لامية العرب التي تعد صورة دقيقة كاملة لحياة الصعاليك في العصر الجاهلي حتى على فرض انتحالها وعدم صحة نسبتها إلى الشنفرى، يرسم الشاعر صورة رائعة لذلك الجوع النبيل الذي يشعر به الصعلوك، ولكن نفسه الأبية تأبى عليه أن يهينها من أجله، فلا يجد أمامه سوى الصبر والقناعة: أديم مطال الجوع حتى أميته ... وأضرب عنه الذاكرة صفحا فأذهل وأستف ترب الأرض كي لا يرى له ... عليَّ من الطول امرؤ متطول ولولا اجتناب الذام لم يبق مشرب ... يعاش به إلا لديَّ ومأكل ولكن نفسا حرة لا تقيم بي ... على الضيم به إلا ريثما أتحول وأطوي على الخمص الحوايا كما انطوت ... خيوطه ماري تغار وتفتل وأغدو على القوت الزهيد كما غدا ... أزل تهاداه التنائف أطحل3 وإذا كان الجوع أقسى ما يصبه الفقر من سياط على جسد الفقير فإن هناك سياط أخرى لا تقل قسوة عن سياط الجوع، ولكنها سياط نفسية يصيبها الفقر على نفس الفقير. والحديث عن هذه السياط النفسية يطول؛ لأنها تختلف باختلاف   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 58 - والتوالب: الجحاش، ويريد بهم أبناءه الصغار. والمصرم: الفقير. 2 ديوانه/ 106. 3 القالي: النوادر/ 204 - والمطال: المماطلة. الطول: المن. الذام: العيب. الخمص: ضمور البطن أو الجوع. الحوايا: الأمعاء. ماري: اسم رجل أو اسم للفاتل. تغار: تحكم. الأزل: خفيف الوركين، صفة للذئب. التنائف: جمع تنوقة، وهي المفازة. الأطحل: الذي لونه بين الغبرة والبياض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 النفسيات ووقع الفقر عليها. وقد حاول صاحب "الفلاكة والمفلوكين"1 أن يحصرها، فعقد في كتابه فصلا طويلا "في الآفات التي تنشأ من الفلاكة، وتستلزمها الفلاكة وتقتضيها"2، وعد منها الآلام العقلية، وهو تعبير يرادف ما نعبر عنه بالآثار النفسية، وحصرها في ثلاثة أنواع، وحاول أن يدلل على هذا التقسيم الثلاثي تدليلا عقليا منطقيا تكثر فيه الحدود والأقسام والمقدمات والنتائج. ولكن هذه المحاولة -من وجهة النظر العلمية الحديثة- غير دقيقة، فإن هذه الآثار النفسية ليس من اليسير حصرها، فليست المسألة مسألة منطقية تقبل القسمة العقلية، ولكنها مسألة نفسية تتصل بالنفس البشرية، تلك النفس الغامضة الممعنة في الغموض ذات السراديب العميقة، والأسرار الدفينة المكبوتة. ويحاول علماء النفس المحدثون دراسة هذه المسألة وأشباهها على أساس ما يسمونه "بالعقد النفسية"، ومن بين هذه العقد عقدة يسمونها "عقدة الفقر"، وهي تلك التي تتكون نتيجة للإحساس بالفقر، وتدفع صاحبها في محاولة التعويض عن الشعور بالنقص إلى العمل على أن يصير غنيا3. فهذه العقدة هي المحور الذي تدور حوله تلك الآثار النفسية التي يخلفها الفقر في نفس الفقير. والمتأمل في أخبار الصعاليك وأشعارهم يلفت نظره شعور حاد بالفقر، وإحساس مرير بوقعه على نفوسهم، وشكوى صارخة من هوان منزلتهم الاجتماعية وعدم تقدير المجتمع لهم، وعجزهم عن الأخذ بنصيبهم من الحياة كما يأخذ سائر أفراد مجتمعهم، أو الوقوف معهم على قدم المساواة في معترك الحياة، لا لأنهم هم أنفسهم عاجزون، وإنما لأن مجتمعهم ظلمهم، وحرمهم من تلك العدالة الاجتماعية التي يطمح إليها كل فرد في مجتمعه، وجردهم من كل الوسائل   1 شهاب الدين الدلجي، وقد عقل الفصل الأول من كتابه في تحقيق معنى المفلوك، وقال فيه: "هذه اللفظة تلقيناها من أفاضل المعجم، ويريدون بها بشهادة مواقع الاستعمال الرجل الغير المحفوظ المهمل في الناس لإملاقه وفقره "ص3"، فهي تقرب من كلمة "الصعلوك" في دائرتها اللغوية. 2 انظر الفصل الرابع، ص14 وما بعدها. 3 Grove; Personality And Social Adjustment, P. 231. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 المشروعة التي يواجهون بها الحياة كما يواجهها غيرهم ممن توافرت لهم هذه الوسائل. فقيس بن الحدادية1 يرى أن لا يسوي عند قومه "عنزا جرباء جذماء"2. وفي أخبار الشنفرى أن قومه قتلوا رجلا في خفرة بعض الفهميين، "فرهنوهم الشنفرى وأمه وأخاه، وأسلموهم، ولم يفدوهم"3، وخبر تلك اللطمة التي لطمتها الفتاة السلامية للشنفرى، والتي كانت السبب المباشر في تصعلكه؛ لأنها أنكرت عليه أن يتسامى إلى مقامها الاجتماعي، ويرفع الحواجز الاحتماعية التي تفصل بين طبقتيهما، ويناديها بأخته، خبر كبير الدلالة على ما كان يعانية هؤلاء الصعاليك من مجتمعهم4. وينظر هؤلاء الفقراء الجياع، المحتقرون من مجتمعهم، المنبوذون من إخوانهم في الإنسانية، إلى الحياة ليشقوا لهم طريقا في زحمتها، وقد جردوا من كل وسائلها المشروعة، فلا يجدون أمامهم إلا أمرين: إما أن يقبلوا هذه الحياة الذليلة المهينة التي يحيونها على هامش المجتمع، في أطرافه البعيدة، خلف أديار البيوت، يخدمون الأغنياء، أو ينتظرون فضل ثرائهم، أو يستجدونهم في ذلة واستكانة، وإما أن يشقوا طريقهم بالقوة نحو حياة كريمة أبية، يفرضون فيها أنفسهم على مجتمعهم، وينتزعون لقمة العيش من أيدي من حرموهم منها، دون أن يبالوا في سبيل غايتهم أكانت وسائلهم مشروعة أم غير مشروعة، فالحق للقوة، والغاية تبرر الوسيلة.   1 اختلفوا في ضبط اسم أمه بين كسر الحاء وضمها: أما ابن دريد فهي عنده بالضم "الاشتقاق/ 277"، وكذلك ابن عبد ربه "العقد الفريد" 3/ 383"، ولكنها عند السمعاني في الأنساب بالكسر، أما المرزباني فإنه يذكر الضبطين فيقول "والحدادية أمه، وهي من بني حداد من كنانة، وقوم يجعلونها من حداد محارب، وحداد بالضم من كنانة، وحداد بالكسر من محارب" "معجم الشعراء/ 325". وهكذا يتضح أن الاختلاف في ضبط الاسم راجع إلى الاختلاف في القبيلة التي تنتسب إليها أم الشاعر، وهي عند ابن حبيب وأبي الفرج من محارب، وعند ابن الأعرابي من كنانة "من نسب إلى أمه من الشعراء/6، والأغاني 13/ 2 - بولاق". 2 انظر الأغاني 13/ 8 "بولاق". 3 ابن الأنباري: شرح المفضليات/ 197، 198. 4 انظر المصدر السابق/ 195، 196، والأغاني 21/ 134 وما بعدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 وقد سلك الصعاليك السبيلين، أو -بعبارة أدق- انقسموا مع هذين السبيلين إلى طائفتين: طائفة قبلت ذلك الوضع الاجتماعي الذليل، رضيه لهم ضعف في النفس أو ضعف في الجسد أو ضعف في النفس والجسد جميعا، وطائفة رفضت ذلك الوضع، وأبت أن تعيش تلك الحياة الساقطة التافهة المهينة، ووجدت في القوة، قوة النفس وقوة الجسد، وسيلة تشق بها طريقها في الحياة. وفي شعر عروة موازنة طريفة بين هاتين الطائفتين، يعقدها أبو الصعاليك في دقة وبراعة، ويصور فيها اختلاف ما بينهما في الشخصية، وأسلوب الحياة والغاية التي تنتهي إليها كل منهما1. وتتجلى قوة نفوس هذه الطائفة الثانية من الصعاليك في استهانتهم بالحياة في سبيل الوصول إلى الغاية التي يسعون إليها. إنهم يريدون أن يحققوا لهم مكانة في هذا المجتمع الذي يحتقرهم ويستهين بهم عن طريق فرض أنفسهم بالقوة عليه، وهم في سبيل هذا لا يبالون بشيء، حتى بالحياة نفسها، فهم جميعا مؤمنون بفكرة الفناء في سبيل المبدأ، وما قيمة الحياة إذا عاش الإنسان فقيرا محتقرا، منبوذا من مجتمعه، مجفوا من أقاربه؟ إن الموت في هذه الحالة خير من الحياة: إذ المرء لم يبعث سواما ولم يرح ... عليه، ولم تعطف عليه أقاربه فللموت خير للفتى من حياته ... فقيرا، ومن مولى تدب عقاربه2 فقلت له: ألا احْيَ، وأنت حر ... ستشبع في حياتك أو تموت3 فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا4   1 انظر أبياته الرائية "لحا الله صعلوكا" في ديوانه/ 73-82. وجمهرة أشعار العرب/ 115. والأصمعيات/ 29، 30. وانظر ص329 من هذا البحث. 2 عروة أيضا "انظر ديوانه/ 150، 151" - والبيتان يرويهما أبو تمام في حماسته لأبي النشناش، وهو لص من تميم إسلامي، مع اختلاف في الألفاظ "انظر الحماسة 1/ 166، 167". 3 عروة: ديوانه/ 166. 4 عروة أيضا: ديوانه/ 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 وفيم الخشية من الموت؟ إن كل حي ملاقيه، سواء من خاطر بنفسه ومن أحجم، بل إن الموت قد يصيب المتخلف في أهله وينجو منه المغامر المخاطر: أرى أم حسان الغداة تلومني ... تخوفني الأعداء والنفس أخوف لعل الذي خوفتنا من أمامنا ... يصادفه في أهله المتخلف1 ومهما يمد الله في عمر الإنسان فالموت في انتظاره مشرعة أسنته: وإني، وإن عمرت، أعلم أنني ... سألقى سنان الموت يبرق أصلعا2 فالموت نهاية كل حي، لن ينجو منه أحد مهما يحط نفسه بأبواب قوية وحراس أشداء: لو كنت في ريمان تحرس بابه ... أراجيل أحبوش وأغضف آلف إذن لأتتني حيث كنت منيتي ... يخب بها هاد بأمري قائف3 وهي ميتة واحدة يلقاها الإنسان ثم لا تتكرر: دعيني وقولي بعد ما شئت، إنني ... سيُغْدَى بنعشي مرة فأغيب4 ثم ما الذي يغري الصعلوك على التمسك بالحياة والحرص عليها؟ إن إحدا لا يرغب في حياته، وإن أحدا لن يبكي عليه بعد موته. إنه يعيش وحيدا، ويموت وحيدا: إذا ما أتتني ميتتي لم أبالها ... ولم تذر خالاتي الدموع وعمتي5 وصعاليك هذه الطائفة جميعا ذوو عزيمة قوية صادقة، لا يثنيهم شيء   1 عروة أيضا: ديوانه/ 91. 2 تأبط شرا: الأغاني 18/ 217. 3 أبو الطحان القيني: الأغاني 11/ 132 "بولاق" - ريمان: حصن باليمن، وأراجيل: جمع راجل، وأحبوش: الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة. والأغضف: الكلب المسترخي الأذن. والآلف: المستأنس بمن يحرسهم، من الإلف. 4 الشنفرى: الأغاني 18/ 216، وديوانه/ 32. 5 الشنفرى أيضا: الأغاني 21/ 139، المفضليات/ 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 عن هدفهم الذي يسعون إليه إلا الموت، يقول تأبط شرا مصورا صدق عزيمته وقوة نفسه: وكنت إذا ما هممت اعتزمت ... وأحر إذا قلت أن أفعلا1 وإذا كانت الحياة قد قست عليهم فإنهم لن يستكينوا لها، وإذا كانت تعمل على إخضاعهم وإذلالهم فإنهم سيقفون في وجهها، ويتحدونها، ويشنون عليه حربا لا هوادة فيها، وإذا كانت قد ألقت بهم في الرغام فإنهم سينهضون برغم كل شيء. ولعل هذا البيت الذي قاله أبو خراش الهذلي الصعلوك في رثاء أخ له يعبر تعبيرا دقيقا عن تلك القوة النفسية التي كان يتمتع بها كل صعلوك من صعاليك هذه الطائفة: ولكنه قد نازعته مجاوع ... على أنه ذو مِرَّة صادق النهض2 هكذا كانت نفسية هؤلاء الصعاليك، كل منهم "قد نازعته مجاوع"، ولكن كلًّا منهم "ذو مرة صادق النهض". ومن عناصر قوتهم النفسية أنفتهم من القيام بتلك الأعمال التي يصح أن يطلق عليها "الأعمال الفرعية في المجتمع القبلي"، وهي تلك التي كان يقوم بها العبيد وأشباههم، ويأنف السادة من القيام بها، كخدمة الإبل والقيام بأمرها3. ويصرح تأبط شرا بترفعه على هذه الأعمال الفرعية وبأنه يأنف من القيام بها: ولست بترعي طويل عشاؤه ... يؤنفها مستأنف النبت مبهل4   1 ابن قتيبة: الشعر والشعراء/171، وحماسة ابن الشجري/ 47. ويذكر De Goeje ناشر "الشعر والشعراء" في تعليقه على هذا البيت أن في بعض المخطوطات "فعلت" مكان "اعتزمت"، وهي عندي أدق في تأدية المعنى. 2 حماسة أبي تمام 2/ 145، وديوان الهذليين 2/ 158، وفيه "مخلص" مكان "مجذوع". 3 "العبد لا يحس الكر، وإنما يحسن الحلاب والصر" "عنترة: الأغاني 8/ 239"، وفي شعر السليك إشارة إلى قيام العبيد والإماء برعي الإبل "الأغاني 18/ 134". 4 لسان العرب: مادة "رعى" - الترعي: الذي يجيد رعية الإبل، أو من صناعته وصناعة آبائه الرعي. ويؤنفها: أي يتتبع بها أنف المرعى أي التي لم ترع. وأبهل إبله: تركها مهملة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 ويصرح مرة أخرى بأنه يخجل من الوقوف وسط قطعان الغنم، وقد حمل في يده عصا طويلة حتى أشبه ذلك الطائر المائي الطويل المنقار وقد وقف في مستنقع من مستنقعات المياة الضحلة: ولست براعي ثلة قام وسطها ... طويل العصا غرنيق ضحل مرسل1 فهم لا يرتضون لأنفسهم إلا تلك الأعمال الأساسية التي يقوم عليها المجتمع البدوي كالغزو والإغارة. يقول تأبط شرا: متى تبغني ما دمت حيا مسلما ... تجدني مع المسترعل المتعبهل2 ولكنه في الطليعة المتقدمة بين القادة والأبطال. ثم هم -برغم فقرهم وما يلاقونه من مجتمعهم- كرماء، حتى ليضرب بهم المثل في الكرم3، ويُقرن عروة بحاتم الطائي الذي يعد في نظر العرب المثل الأعلى للجود والسخاء، وقد قال عبد الملك بن مروان: من زعم أن حاتما أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد4 وأبدى تعجبه من أن الناس ينسبون الجود والسخاء إلى حاتم ويظلمون عروة5، ووصفه الأصمعي بأنه "شاعر كريم"6. والواقع أننا لسنا في حاجة إلى هذه الشهادات وأمثالها؛ لأن أخبار عروة نفسها تفيض بأحاديث كرمه، بل إن الرغبة في الكرم التي كانت تملأ عليه نفسه كانت بعض الدوافع التي دفعته إلى تلك الثورة الاقتصادية التي أعلنها في المجتمع الجاهلي:   1 لسان العرب: مادة "رسل" - الثلة: جماعة الغنم. والغرنيق: طائر مائي. ورجل مرسل: كثير الرسل أي اللبن. 2 لسان العرب: مادة "رعل"، ومادة "عبهل" - المسترعل: الذي ينهض في الرعيل الأول، أو الخارج في الرعيل، أو هو قائد الفرسان. والمتعبهل: الممتنع الذي لا يمنع. 3 "كل صعلوك جواد" "الميداني: مجمع الأمثال 2/ 90". 4 الأغاني: 3/ 74. 5 انظر ابن السكيت: شرح ديوان عروة/ 190. 6 الأصمعي: فحولة الشعراء "مخطوطة" ورقة رقم 3 - والمرزباني: الموشح/ 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 يريح على الليل أضياف ماجد ... كريم، ومالي سارحا مال مقتر1 أيهلك معتم وزيد ولم أقم ... على ندب يوما ولي نفس مخطر2 وهي تلك الثورة التي كانت تدفعه إلى مهاجمة الأغنياء البخلاء ليوزع ما يغنمه منهم على الفقراء الذين كانوا يلتف ون حوله، ويلوذون، في سني الجدب والقحط والجفاف3. وهو -قبل هذا كله- صاحب هذه الأبيات الجميلة التي يصور فيها كرمه تصويرا رائعا على حظ كبير من الإنسانية، فيراه مشاركة الفقراء له في إنائه، واكتفاءه هو بالماء الخالص في أيام الشتاء الباردة ليوفر طعامهم، بل يراه تقسيما لجسمه في أجسامهم حتى أصبح هزيلا شاحبا: إني امرؤ عافى إنائي شركة ... وأنت امرؤ عافي إنائك واحد أتهزأ مني أن سمنت وقد ترى ... بجمسي مس الحق، والحق جاهد أُقسِّم جسمي في جسوم كثيرة ... وأحسو قراح الماء والماء بارد4 وتنتشر أحاديث هذا الكرم في شعره انتشارا واسعا5، حتى لتكاد كل صفحة من ديوانه تنطق بهذه الأحاديث التي كان يراها: أحاديث تبقى، والفتى غير خالد ... إذا هو أمسى هامة فوق صير6 وهي أحاديث كان كل صعلوك يحرص على أن تبقى له بعد موته. وفي قافية تأبط شرا المفضلية المشهورة دفاع قوي عن كرمه وإسرافه اللذين جرا عليه كثيرا من اللوم والعذل والتأنيب:   1 ديوانه/ 85 - والأصمعيات/30. 2 ديوانه/ 83 - والأصمعيات/ 30. 3 انظر الأغاني 3/ 78-79. 4 ديوانه/ 138-141. 5 انظر على سبيل المثال ديوانه/60، 61، 62، 71، 72، 85، 95، 96، 138، 139، 140، 141، 155، 164، 165، 166، 167، 181. 6 ديوانه/ 64 - ولسان العرب: مادة "صير" - والصير: القبر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 بل من لعذالة خذالة أشب ... حرق باللوم جلدي أي تحراق يقول أهلكت مالا لو قنعت به ... من ثوب صدق ومن بز وأعلاق عاذلتي إن بعض اللوم معنفة ... وهل متاع، وإن إبقيته، باق1 أما مادة هذا الكرم فهي -بطبيعة الحال- ما يغنمونه من غزواتهم في أرجاء الجزيرة العربية، وغاراتهم على القبائل أو على القوافل التجارية أو على طبقة الأغنياء البخلاء. فقد كانت هذه الغنائم تتيح لهم فرصة -مهما تكن قصيرة- لكي يتشبهوا بالسادة الأغنياء في البذل والعطاء واكتساب المحامد. وهكذا "كان الصعلوك، فزع البرية، ينقلب في أعقاب غزواته الناجحة سيدا كريما نبيلا، يَصُف على المواقد الإبل التي نهبها ليطعم منها التيامى والأرامل"2. فالغزوة والغارة والسلب والنهب ليست عندهم وسائل للغنى وجمع المال فحسب، ولكنها أيضا وسائل للبذل والعطاء، واكتساب المحامد، والتشبه بالسادة الأغنياء في الكرم والجود. وإذا كانت هاتان الغايتان تتنازعان نفوس الصعاليك، وتتجاذبانها كل إليها، على نحو ما نرى عند تأبط شرا الذي يصرح في قافيته المفضلية بأن المال وسيلة للكرم، ووسيلة "لتسديد الخلال" أيضا3، فإن الغاية الأخيرة وحدها كانت هي الغاية الأساسية عند عروة الذي خلصت نفسه تماما من هذا التنازع وهذه المجاذبة: دعيني أطوف في البلاد لعلني ... أفيد غنى فيه لذي الحق محمل أليس عظيما أن تلم ملمة ... وليس علينا في الحقوق معول فإن نحن لم نملك دفاعا بحادث ... تلم به الأيام فالموت أجمل4   1 المفضليات/ 18 - عذالة وخذالة للمبالغة. والأشب: المخلط عليه المعترض. والأعلاق: الأشياء النفسية. 2 Lammens; Le Berceau De I'Islam, vol. I, P. 190 3 انظر المفضليات /19 - الخلال: خصاصات الفقر، جمع خلة. 4 ديوانه/ 206. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 فطلب الغنى عند عروة ليس هدفا في ذاته، ولكنه وسيلة للكرم وقضاء الحقوق والتشبه بالسادة. وإلى جانب هذه القوة النفسية التي كان هؤلاء الصعاليك يمتازون بها كانوا يتمتعون أيضا بالشجاعة والجرأة وقوة الجسد. وتفيض أخبارهم وأشعارهم بأحاديث هذه القوة، كما تتردد هذه الأحاديث في أخبار معاصريهم وفي شعرهم أيضا. يقول تأبط شرا مفتخرا بقوته: وما ولدت أمي من القوم عاجزا ... ولا كان ريشي من ذنابي ولا لغب1 ويصرح الشنفرى -في اعتداد بنفسه- بأنه يقدم في شجاعة وجرأة حيث يقف الجبان هلعا جزوعا: إذا خشعت نفس الجبان وخيمت ... فلي حيث يخشى أن يجاوز مخشف2 ويرسم عمرو بن معديكرب الفارس المشهور صورة للسليك بن السلكة يصفه فيها بأنه "كالليث يلحظ قائما"، وبأنه: له هامة ما تأكل البيض أمها ... وأشباح عادي طويل الرواجب3 ويرسم أبو كبير الهذلي في أبياته اللامية التي رواها أبو تمام في حماسته4 صورة قوية لتأبط شرا، يصور فيها قوته وصلابته وخفته، وسرعة عدوه، وجرأة قلبه، وشدة مراسه، ومضاء عزيمته، وكيف أعدته الطبيعة منذ طفولته المبكرة، بل من قبل طفولته، ليكون قويا يستطيع أن ينهض بالعبء الذي   1 لسان العرب، مادة "لغب" - الذنابي: ذنب الطائر أو منبت الذنب. واللغب: الريش الفاسد. 2 الأغاني 21/ 141، وفي ديوانه/ 39 "وآب إذا أجرى الجبان وظنه" ولا معنى له - خيم: أقام حيث هو فلم يبرح، أو جبن ونكص. والمخشف: الجريء على هول الليل، وهو هنا صفة للقلب. 3 ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 216، 217 - أم كل شيء، أصله وعماده، وأم الرأس: الدماغ أو الجلدة الرقيقة التي عليها. والبيضة: خوذة الحديد. وعادى: كأنه من قوم عاد. والرواجب: مفاصل الأصابع. 4 انظر ج1 ص82-89. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 ستلقيه الحياة على عاتقه فيما بعد، ذلك العبء الثقيل الذي لا يستطيع أن ينهض به إلا من أعدته الطبيعة له إعدادا خاصا، وهي صورة متكاملة الجوانب، دقيقة الخطوط، واضحة الألوان، يرسمها الشاعر لتأبط شرا، ولكنها تصلح أيضا لكل صعلوك من أولئك الصعاليك الأقوياء الذين روعوا الجزيرة العربية في عصرها الجاهلي، وأثاروا في أرجائها الرعب والفزع. وحقا لقد كان هؤلاء الصعاليك فزعا رهيبا في هذا المجتمع الجاهلي، حتى لنسمع أن فارسا من فرسانه المعدودين، وهو عمرو بن معديكرب، يصرح بأنه لا يخشى أحد من فرسان العرب إلا أربعة، أحدهم السليك بن السلكة1، وأنه يستطيع وحده أن يحمي الظعينة ويخترق بها أعماق الصحراء ما لم يلقه واحد من هؤلاء الأربعة2. وحسب السليك أن يقرن بعامر وعتيبة وعنترة، وأن يخشى بأسه عمرو بن معديكرب. والواقع أن هذه الشجاعة الفائقة لم تكن مقصورة على صعلوك دون صعلوك، وإنما كانت صفة يمتاز بها كل صعاليك هذه الطائفة، حتى أصبح الصعلوك مثلا يضرب في الشجاعة3. أما أولئك الصعاليك الذين عرفوا بالفرار فإنهم كانوا يعدونه لونا من ألوان قوتهم الجسدية؛ لأنه المجال الذي يظهرون فيه شدة   1 "ما أبالي من لقيت من فرسان العرب ما لم يلقني حراها وهجيناها" يعني بالحرين عامر بن الطفيل، وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وبالعبدين عنترة، والسليك بن السلكة، "الأغاني 8/ 246". 2 "لو سرت بظعينة وحدي على مياه معد كلها ما خفت أن أغلب عليها، ما لم يلقني حراها أو عبداها، فأما الحران فعامر بن الطفيل، وعتيبة بن الحارث بن شهاب، وأما العبدان أسود بني عبس "يعني عنترة" والسليك بن السلكة، وكلهم قد لقيت، فأما عامر بن الطفيل فسريع الطعن على الصوت، وأما عتيبة فأول الخيل إذا أغارت وآخرها إذا آبت، وأما عنترة فقليل الكبوة شديد الجلب، وأما السليك فبعيد الغارة كالليث الضاري" "الأغاني 14/ 28، فشرح ابن الأنباري على المفضليات/ 704، 705، وانظر أيضا أسامة بن منقذ: لباب الآداب/ 181". 3 "كان يقاتلهم بجنده مقاتلة الصعلوك" "من حديث لرسول المهلب يصف فيه للحجاج قتاله الخوارج - انظر المسعودي: مروج الذهب 2/ 148". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 عدوهم، كما كانوا يرون فيه وسيلة للنجاة حتى يستأنفوا القتال في ظروف أشد ملاءمة لهم. يقول أبو خراش الهذلي الصعلوك: فإن تزعمي أني جبنت فإنني ... أفر وأرمي مرة كل ذلك أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا ... وأنجو إذا ما خفت بعض المهالك1 فهو يدافع عن فراره، ويرى أنه ليس دليلا على جبنه، وإنما هو "خطة موضوعة" يضطر إليها حين يصبح القتال "مغامرة انتحارية" لا أمل فيها، حتى ينجو من هلاك محقق، فيستأنف القتال حين يصبح القتال أمرا مضمون العاقبة. ومن أشد ما يلفت النظر من مظاهر هذه القوة الجسدية سرعة العدو الخارقة للعادة التي اشتهرت بها هذه الطائفة من الصعاليك، حتى ليطلق عليهم أحيانا اسم "العدائين"2، أو"الرجليين" أو "الرجيلاء"3، كأنما أصبحت سرعة العدو ظاهرة مميزة لهم، وصفة ملازمة يعرفون بها. والمثل يضرب بجماعة منهم في سرعة العدو، فيقال "أعدى من الشنفرى"4، و"أعدى من السليك"5، و"أمضى من سليك المقانب"6. وتصفهم مصادر الأدب   1 ديوان الهذليين 2/ 169 - وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة رقم 397. 2 انظر على سبيل المثال: الأغاني 18/ 133، 210 - والبغدادي: خزانة الأدب 2/ 17 - والميداني: مجمع الأمثال 1/ 431 - والنيسابوري: لطائف المعارف "مصورة" لوحة رقم 77 - وتاج العروس: مادة "شفر" ومادة "شنفر". 3 في تاج العروس "مادة رجل" "والرجيلاء كغميصاء، والرجليون محركة، قوم كانوا يعدون". وهما تسميتان تترددان كثيرا في مصادر الأدب العربي وفي كتب اللغة، انظر على سبيل المثال ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 214 - والمرزباني: معجم الشعراء/ 468 - والآمدي: المؤتلف والمختلف/ 67 - والمبرد: نسب عدنان وقحطان/ 9 - وابن حبيب: المحبر/ 433 - وابن دريد: جمهرة اللغة 1/ 140 - وابن عبد ربه: العقد الفريد 3/ 347. 4 الميداني: مجمع الأمثال 1/ 430 - وتاج العروس: مادة "شفر" ومادة "شنفر". 5 المصدران السابقان: الميداني/ 431 - والتاج: مادة "سلك". 6 الميداني: مجمع الأمثال 2/ 233 - والأغاني 18/ 137 - وابن عبد ربه: العقد الفريد 3/ 70 - وابن دريد: جمهرة اللغة 1/ 323. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 العربي بأنهم "أشد الناس عدوا"1، أو أنهم "لا يحارون عدوا"2، أو "يُلحقون"3، أو يعدون عدوا يسبقون به الخيل4، أو لا تعلق بهم الخيل5، أو لم تلحقهم الخيل6. وتفيض هذه المصادر بأحاديث عدوهم وأخبار سرعتهم، وتبالغ فيها مبالغة تبدو أحيانا غير مقبولة، فتأبط شرا "كان أعدى ذي رجلين وذي ساقين وذي عينين، وكان إذا جاع لم تقم له قائمة، فكان ينظر إلى الظباء، فينتقي على نظره أسمنها، ثم يجري خلفه، فلا يفوته حتى يأخذه فيذبحه بسيفه، ثم يشويه فيأكله"7. وفي أخبار حاجز الأزدي أن أباه قال له: "أخبرني يا بني بأشد عدوك، قال: نعم، أفزعتني خثعم، فنزوت نزوات، واستفزتني الخيل، واصطف لي ظبيان، فجعلت أنهنههما بيدي عن الطريق لضيقه، ومنعاني أن أتجاوزهما في العدو لضيق الطريق، حتى اتسع واتسعت بنا فسبقتهما"8. وفي أخبار السليك أن بني كنانة قالوا له حين كبر: "إن رأيت أن ترينا بعض ما بقي من إحضارك، فقال: اجمعوا لي أربعين شابا، وابغوني درعا ثقيلة. فأخذها فلبسها، وخرج الشباب، حتى إذا كان على رأس ميل أقبل يُحضر، فلاث العدو لوثا، واهتبصوا في جنبتيه فلم يصحبوه إلا قليلا، فجاء يحضر منتبذا حيث لا يرونه، وجاءت الدرع تخفق في عنقه كأنها خرقة"9. وفي أخبار أبي خراش أنه دخل مكة "وللوليد بن المغيرة المخزومي فرسان يريد أن يرسلهما في الحلبة، فقال للوليد: ما تجعل لي إن سبقتهما؟ قال: إن فعلت فهما لك،   1 الأغاني 18/ 134 - والنيسابوري: لطائف المعارف، لوحة 77. 2 المرزباني: معجم الشعراء/ 468. 3 الأغاني 18/ 133، 20/ 20. 4 الأغاني 12/ 49 "بولاق". 5 الأغاني 18/ 133، 134 - وابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 214. 6 البغدادي: خزانة الأدب 2/ 16. 7 الأغاني: 18/ 210. 8 الأغاني 12/ 49، 50 "بولاق". 9 ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 214 - اهتبصوا: أسرعوا أو بالغوا في العدو. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 فأرسلا وعدا بينهما فسبقهما، فأخذهما"1. ويذكر الرواة أن خطوا الشنفرى ذرع ليلة قُتل، "فوجد أول نزوة نزاها إحدى وعشرين خطوة، والثانية سبع عشرة خطوة، والثالثة خمس عشرة خطوة"2. ومن الطريف أن يصف تأبط شرا رفيقه في الصعلكة الشنفرى حين يعدو بأنه "قد طار"3، أو يصف عدو عمرو بن براقة بأنه "مثل الريح"4، أو نسمعه يقسم بقوله "والذي أعدو بطيره"5، وهو قسم يستمد طرافته من ذكر الطير فيه. وعقد صلة بينها وبين عدوه، كأنهما أصبح الصعلوك يعدو بأجنحتها. وفي كل مناسبة يردد هؤلاء الصعاليك في شعرهم أحاديث عدوهم وسرعتهم. وهم يتحدثون عنها دائما في اعتداد وفخر كبيرين؛ إذ يرون فيهما ميزة تفردوا بها من بين سائر البشر، ووسيلة تعينهم على الحياة، وتيسر لهم سبل النجاة. يقول تأبط شرا مفتخرا بسرعته التي أنجته من أعدائه وما أرسلوه خلفه من خيل سريعة: ليلة صاحوا وأغروا بي سراعهم ... بالعيكتين لدى معدى ابن براق كأنما حثحثوا حصا قوادمه ... أو أم خشف بذي شث وطباق لا شيء مني، ليس ذا عذر ... وذا جناح بجنب الريد خفاق حتى نجوت ولما ينزعوا سلبي ... بواله من قبيض الشد غيداق6   1 الأغاني 21/ 75. 2 البغدادي: خزانة الأدب 2/ 18. 3 ابن الأنباري: شرح المفضليات/ 6. 4 الأغاني 18/ 210. 5 المصدر السابق/ 211. 6 المفضليات/ 7-11. والعيكتان: اسم موضع. حثحثوا: حركوا، من الحث. القوادم: ما يلي الرأس من ريش الجناحين، والحص: التي تناثر ريشها وتكسر، وهذه دلالة على السرعة والخفة، وقوله: "حصا قوادمه" يعني الظليم. الخشف: ولد الظبية. الشت والطباق: نبتان من نبت السراة. العذر: ما أقبل من شعر الناصية على الوجه، ويعني بذي عذر فرسا. الريد: حرف الجبل الذي يشرف على الهواء. الواله: الذاهب العقل فليس يستبقي من جهده في عدوه شيئا. القبيض: السريع. الشد: العدو. الغيداق: الكثير الواسع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 إنه سريع كالظليم أو الظبية، بل إنه أسرع من كل شيء حتى الخيل الجياد والطير الجارحة فوق قمم الجبال. ويصرح أبو خراش بأن سرعة عدوه هي التي أنجته من موت محقق، فلولاها لآمت امرأته ويتم ابنه: تقول ابنتي لما رأتني عشية ... سلمت وما إن كدت بالأمس تسلم ولولا دراك الشد قاظت حليلتي ... تخير من خطابها وهي أيم فتقعد أو ترضى مكاني خليفة ... وكاد خراش يوم ذلك يَيْتَم1 وفي لامية العرب صورة قوية لهذه السرعة نرى فيها الصعلوك يسبق القطا الظامئة وهي تسرع إلى الماء: وتشرب أسآرى القطا الكدر بعدما ... سرت قربا أحشاؤها تتصلصل هممت وهمت، وابتدرنا، وأسدلت ... وشمر مني قارط متمهل فوليت عنها وهي تكبو لعقره ... يباشره منها ذقون وحوصل2 إنها مباراة طريفة يقدمها لنا الشاعر بينه وبين القطا في الوصول إلى الماء، تنتهي بفوزه عليها، وإدراكه الماء قبلها، بل لقد شرب وارتوى قبل أن تصل هي، فلما وصلت لم تجد إلا سؤرا تشربه من بعده. ولعل أقوى صورة رسمها صعلوك لهذه السرعة هي تلك الصورة التي رسمها تأبط شرا، والتي نرى فيها الصعلوك يسبق الريح بسرعته الفائقة: ويسبق وفد الريح من حيث يُنتحى ... بمنخرق من شده المتدارك3 بل إن الأمر ليصل بحاجز الأزدي إلى أن يفدي رجليه بأمه وخالته، وماذا أفاد من أمه وخالته سوى تلك الحياة القاسية المحتقرة التي جرتاها عليه بلونهما الأسود؟ أما رجلاه فهما كل شيء في حياته، ولولاهما لفقد الحياة   1 ديوان الهذليين 2/ 148. والأغاني 21/ 56، 57. وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة رقم 25 - قاظت: أقامت. 2 القالي: النوادر/ 205 - القرب: طلب الماء ليلا. الأحناء: الجوانب. تتصلصل: تصوت. الفارط: المتقدم. العقر: مقام الساق من الحوض. 3 حماسة أبي تمام 1/ 48 - المنخرق: السريع. المتدارك: المتلاحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 نفسها، وإذا كانت أمه وخالته سبب ما يلاقيه في حياته فإن رجليه سبب إنقاذه مما يلاقيه فيها: فدى لكما رجلي أمي وخالتي ... بسعيكما بين الصفا والأثائب1 وعلى ما في أحاديث هذا العدو في أخبار الصعاليك وشعرهم من مبالغات يقف المرء عندها متسائلا: أيمكن أن يكون هذا صحيحا؟ فإنها -على كل حال- تصور ظاهرة لا شك في حقيقتها المجردة، وهي أن هؤلاء الصعاليك كانوا يمتازون بسرعة في العدو خارقة للعادة، وهي سرعة لفتت أنظار الرواة فسجلوها بما فيها من مبالغات، واستقرت في أذهان الناس فضربوا بها الأمثال، ووجد فيها بعض الشعراء المتأخرين مادة يستغلونها في فنهم، ويستخدمونها في تشبياتهم وصورهم الفنية2. وينظر هؤلاء الصعاليك الأقوياء إلى المجتمع الذي يعيشون فيه، فإذا هو مجتمع ظالم، وإذا توزيع الثروة فيه توزيع جائر مضطرب. إنه مجتمع لا يؤمن إلا بالمال، ولكنه -مع ذلك- لا يحسن توزيع المال بين أفراده، فليس من العدل أن يكون لأحد أفراده عدد ضخم من الإبل في حين لا يملك الآخر غير حبل يجرره لا بعير فيه. وما هذه الإبل التي يملكها هذا الفرد سوى إبل الله خلقها للناس جميعا، فهي ليس حقا له وحده دون غيره من خلق الله في هذه الأرض3. والعجيب من أمر هذا المجتمع أن بين من يعطيهم بغير حساب بخلاء   1 الأغاني 12/ 52 "بولاق" - وحاجز من أغربة العرب سرى إليه السواد من أمه "تاج العروس، مادة "غرب"" والأثائب: شجر ينبت في بطون الأودية. 2 انظر على سبيل المثال: وصف جران العود للقوادة "ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 452"، ووصف البحتري للمفازة "ديوانه/ 73"، ووصف ابن الرومي لشهر الصيام "ديوانه 1/ 77". 3 وإني لأستحيي لنفسي أن أرى ... أمر بحبل ليس فيه بعير وأن أسأل العبد الليئم بعيره ... وبعران ربي في البلاد كثير "الأحيمر السعدي في الشعر والشعراء/ 495". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 أشحاء لا ينتفع بمالهم أحد. في حين يحرم فيمن يحرم كرماء لو أعطاهم لنفعوا بمالهم أفراد مجتمعهم الفقراء المحتاجين، فهو يحرم هؤلاء الكرماء ما يكنزه أولئك البخلاء، ويحرمهم نتيجة لهذا فرصة التكافؤ الاجتماعي ومساواة إخوانهم في الإنسانية من الأغنياء الكرماء في شراء تلك الأحاديث الخالدة التي "تبقى والفتى غير خالد إذا هو أمسى هامة فوق صير" كما كان يقول عروة. ووقف هؤلاء الصعاليك أمام هذه المشكلة الخطيرة، ولم يجدوا أمامهم -بسبب ظروف البيئة والمجتمع والمزاج الشخصي- ومن وسيلة يرضونها لأنفسهم إلا الاعتماد على القوة يغتصبون عن طريقها ما آمنوا بأنه حقهم المسلوب. "والخلة تدعو إلى السلمة" -كما يقول المثال العربي1، فمضوا خلف أولئك الأغنياء المترفين، وبخاصة البخلاء منهم، وتربصوا بالقوافل التجارية التي تسيل بها شعاب الجزيرة العربية، ينهبون ويسلبون، ولا يتورعون عن قتل من يعترض طريقهم؛ لأن المسألة أخذت في أذهانهم وضعا ثنائيا لا ثالث له: إما حياة كريمة، وإما ميتة كريمة، أما أنصاف الحلول فشيء لا يؤمنون به. لقد آمن هؤلاء الصعاليك بأن "الحق للقوة"، وأن الضعيف ضائع حقه في هذه الحياة، ورأوا أمامهم أولئك الصعاليك الفقراء المستضعفين وما يلاقونه من ذل وضيم وهوان، فرثوا لهم، وآلوا على أنفسهم أن يثأروا لهم ممن استضعفوهم، وأن يفرضوا أنفسهم فرضا على ذلك المجتمع الذي أذل إخوانهم الضعفاء. هكذا رسم هؤلاء الصعاليك الأقوياء النفس والجسد خطتهم من أجل الحياة أولا، ثم من أجل فرض أنفسهم على مجتمعهم الذي لا يعترف بهم، وتحقيق صورة من صور العدالة الاجتماعية بين طبقات هذه المجتمع بعد ذلك، وهي خطة تقوم على أساس "الغزو والإغارة للسلب والنهب". وأحاديث "الغزو والإغارة للسلب والنهب" تنتشر في أخبار هؤلاء الصعاليك وشعرهم انتشارا واسعا، بل لعلها أكثر ما ينتشر في أخبارهم وشعرهم   1 انظر القاموس المحيط، مادة "خلل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 من أحاديث، حتى لتوشك أن تكون هي اللون البارز في لوحة حياتهم الاجتماعية والفنية. ففي أخبار السليك أنه "أملق حتى لم يبق له شيء، فخرج على رجليه رجاء أن يصيب غرة من بعض من يمر به فيذهب بإبله، حتى أمسى في ليلة من ليالي الشتاء باردة مقمرة. فاشتمل الصماء، ثم نام ... فبينما هو نائم إذ جثم رجل فقعد على جنبه فقال: استأسر"، وسأله السليك من يكون، فقال له: "أنا رجل افتقرت، فقلت لأخرجن فلا أرجع إلى أهلي حتى أستغني، فآتيهم وأنا غني"، فقال له السليك: انطلق معي: "فانطلقا معا، فوجدا رجلا قصته مثل قصتهما، فاصطحبوا جميعا، حتى أتوا الجوف، جوف مراد، فلما أشرفوا عليه إذا فيه نعم قد ملأ كل شيء من كثرته، فهابوا أن يغيروا"، ولكن السليك دبر لهم حيلة "فأطردوا الإبل، فذهبوا بها، ولم يبلغ الصريخ الحي حتى فاتوهم بالإبل"1. إنها قصة تصور لنا تلك الهوة الواسعة بين الطبقات في المجتمع الجاهلي: بين أولئك الذين "أملقوا حتى لم يبق لهم شيء"، وأولئك الذين أترفوا حتى "ملا نعمهم كل شيء من كثرته"، وهي قوة كانت تدفع هؤلاء الصعاليك المعدمين للخروج إلى الصحراء من أجل اغتصاب رزقهم من أيدي أولئك المترفين، وانتزاع لقمة العيش من بين أنيابهم، أو -بعبارة أخرى- كانت تدفعهم إلى "الغزو والإغارة للسلب والنهب". وفي أخبار تأبط شرا أنه خرج في "عدة من فهم" يريدون الغارة على أحد أحياء بجيلة. وتمت الغارة بقتل نفر من بجيلة، ونهب إبل لهم. وساق الصعاليك الإبل حتى إذا كانوا "على يوم وليلة من بلادهم" تصدت لهم خثعم طامعة فيما معهم، ودار قتال بين الفريقين: صعاليك فهم العائدين بغنيمتهم، ورجال خثعم الطامعين فيها. وثبت الصعاليك -على قلتهم وكثرة خثعم- وانتهى   1 الأغاني 18/ 134، وابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 214-215 مع اختلاف يسير في ألفاظ القصة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 الصراع بانهزام خثعم وتفرقها، وانطلاق الصعاليك بغنيمهم1. في هذه القصة نرى صورة من حياة الصعاليك في المجتمع الجاهلي، تلك الحياة التي كانت تقوم على "الغزو والإغارة للسلب والنهب"، ومثلا قويا لذلك الصراع الدامي الذي كان الصعاليك يخوضون غماره في سبيل الحياة، وهو صراع كانوا يخوضون غماره في شجاعة وقوة لأنهم كانوا يتمثلونه صراعا بين الحياة والموت. وفي أخبار عروة أنه كان -إذا أصابت الناس سنة شديدة- يجمع المرضى والضعفاء والمسنين من عشيرته، "ثم يحفر لهم الأسراب، ويكنف عليهم الكنف، ويكسبهم، ومن قوي منهم إما مريض يبرأ من مرضه، أو ضعيف تثوب قوته، خرج به معه فأغار، وجعل لأصحابه الباقين في ذلك نصيبا. حتى إذا أخصب الناس وألبنوا وذهبت السنة ألحق كل إنسان بأهله، وقسم له نصيبه من غنيمة إن كانوا غنموها، فربما أتى الإنسان منهم أهله وقد استغنى"2. وفي أخباره أيضا أنه "بلغه عن رجل من بني كنانة بن خزيمة أنه أبخل الناس وأكثرهم مالا، فبعث عليه عيونا فأتوه بخبره، فشد على إبله فاستاقها، ثم قسمها في قومه3. على هذا النحو كانت الصعلكة عند عروة نزعة إنسانية نبيلة. وضريبة يدفعها القوي للضعيف، والغني للفقير، وفكرة اشتراكية تشرك الفقراء في مال الأغنياء، وتجعل لهم فيه نصيبا، بل حقا يغتصبونه إن لم يؤد لهم، وتهدف إلى تحقيق لون من ألوان العدالة الاجتماعية، التوازن الاقتصادي بين طبقتي المجتمع المتباعدتين: طبقة الأغنياء، وطبقة الفقراء، "فالغزو والإغارة للسلب والنهب" لم يعد عنده وسيلة وغاية، وإنما أصبح وسيلة غايتها تحقيق نزعته الإنسانية وفكرته الاشتراكية.   1 الأغاني 18/ 215-216. 2 الأغاني 3/ 78-79، والتبريزي: شرح حماسة أبي تمام 2/ 9. 3 ابن السكيت: شرح ديوان عروة/ 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وقد يحدث أن تتطور هذه الأهداف الاجتماعية والاقتصادية عند بعض الصعاليك إلى لون من التمرد الخالص الذي لا يميز بين الأهداف، فإذا هم يتعرضون لكل من يسوقه حظه السيئ إلى مناطق تربصهم. يقول تأبط شرا معبرا عن هذا التمرد الخالص الذي أصبح عنده الوسيلة والغاية معا: ولست أبيت الدهر إلا على فتى ... أسلبه أو أذعر السرب أجمعا1 أو يناضلون قبائل معينة العداء، يصبون عليها شرورهم، ويوجهون إليها غاراتهم وغزواتهم، كما كان يفعل تأبط شرا مع تلك المجموعة من القبائل التي يعددها في بعض أبياته2، وكما كان بين صعاليك هذيل وصعاليك فهم من عداوة مستحكمة لا يهدأ أوارها، ظهرت آثارها في شعر الفريقين وأخبارهما3. وفي شعر الصعاليك صورة كثيرة متعددة الألوان والأوضاع لهذه الغارات، وأحاديث عنها لا تكاد تنتهي حتى تبدأ، وفي أكثر قصائد هذا الشعر ومقطوعاته يردد الصعاليك أقاصيص هذه الغارات في فخر وإعجاب، واعتداد بأنفسهم وبطولتهم. وفي تائية الشنفرى المفضلية صورة رائعة قوية لغارة قام بها هو وأصحابه الصعاليك، يصف فيها كيف أعد عصابته للغزو، ويصف الطريق الذي سلكوه، ويتحدث عن الدوافع التي دفعته إلى هذه الغارة، ثم يتحدث عن الأهداف التي حققتها، والغايات التي وصلت إليها. يقول: وباضعة حمر القسي بعثتها ... ومن يغز يغنم مرة ويشمت خرجنا من الوادي الذي بين مشعل ... وبين الجبا. هيهات أنشأت سربتي أمشي على الأرض التي لن تضرني ... لأنكى قوما أو ألاقي حمتي أمشي على أين الغزاة وبعدها ... يقربني منها رواحي وغدوتي ثم يقول: قتلنا قتيلا مهديا بملبد ... جمار مني وسط الحجيج المصوت   1 الأغاني 18/ 217. 2 المصدر السابق/ 218. 3 انظر على سبيل المثال شرح أشعار الهذليين 1/ 233، 234، 243، 245. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 جزينا سلامان بن مفرج قرضها ... بما قدمت أيديهم وأزلت وهنئ بي قوم وما إن هنأتهم ... وأصبحت في قوم وليسوا بمنبتي شفينا بعبد الله بعض غليلنا ... وعوف لدى المعدى أوان استهلت1 وفي لامية العرب قصة غارة مفاجئة خاطفة قام بها الصعلوك في ليلة باردة ذات ظلام ومطر، وقد استبد به الجوع والبرد والخوف، ثم عاد إلى "قواعده" سالما، بعد أن حقق أهدافه، مخلفا وراءه القوم يتسألون: ما هذا الذي طرق حيهم ليلا؟ وقد ذهبت آراؤهم فيه مذاهب شتى: وليلة نحس يصطلي القوس ربها ... وأقطعه اللاتي بها يتنبل دعست على غطش وبغش، وصحبتي ... سعار، وإرزيز ووجر وأفكل فأيمت نسوانا، وأيتمت إلدة ... وعدت كما أبدأت، والليل أليل وأصبح عني بالغميصاء جالسا ... فريقان: مسئول وآخر يسأل فقالوا: لقد هرت بليل كلابنا ... فقلنا أذئب عس أم عس فرعل فلم تك إلا نبأة ثم هومت ... فقلنا قطاة ريع أم ريع أجدل فإن يك من جن لأبرح طارقا ... وإن يك إنساماكها الإنس تفعل2   1 المفضليات/ 202-203، 205-206، وانظر أيضا الأغاني 1/ 1392-1400. الباضعة: القاطعة، ويريد بها أصحابه الصعاليك. بعثتها: أي غزوت بهم. حمر القسى: أي أنهم غزوا مرة بعد مرة فاحمرت قسيهم للشمس والمطر. والقسي تحمر على القدم. السربة: الجماعة، وقوله "أنشأت سربتي" أي أظهرتهم من مكان بعيد، يصف بعد مذهبه في الأرض طلبا للغنيمة. وقوله "لن تضرني" أي لن أخاف بها أحدا. وقوله "لأنكى قوما" من النكاية. الحمة: المنية. وقوله "على أين الغزاة" أي ما يصيبني من تعبها، وأنا مع ذلك أمشي. الملبد: المحرم الذي يأخذ صمغا فيلبد به شعره لئلا يشعث في مدة الإحرام. وقوله "جمار مني" أي عند الجمار. سلامان بن مفرج من قومه وهم الذين قتلوا أباه. وقوله "وهنئ بي قوم وما إن هنأتهم" أي هنئ بي قوم وما انتفعوا بي. عبد الله وعوف بن سلامان. وقوله "استهلت" أي الحرب إذا ارتفعت الأصوات فيها. 2 أعجب العجب/ 59-64. والقالي: النوادر 206. ليلة النحس: المراد بها هنا الليلة الباردة. والأقطع: جمع قطع وهو السهم. ويتنبل أي= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 وكان الصعاليك يخرجون لهذه الغارات الرهيبة فرادى أحيانا، وفي عصابات أحيانا أخرى. وكان أكثرهم يغير على رجليه، وبعضهم يغير على الخيل. ففي أخبار الشنفرى أنه كان "يغير على الأزد على رجليه فيمن معه من فهم، وكان يغير عليهم وحده أكثر ذلك"1، ومن أخباره أيضا أنه خرج "في ثلاثين رجلا معه تأبط شرا يريدون الغارة على بني سلامان"2. وفي أخبار السليك أنه خرج "على رجليه رجاء أن يصيب غرة من بعض من يمر به فيذهب بإبله"، وأنه التقى برجلين قصتهما مثل قصته "فاصطحبوا جميعا"3. وفي أخبار تأبط شرا أنه خرج "في عدة من فهم"4. وفي شعره حديث عن غزواته هو وصعاليكه على الخيل أحيانا، وعلى الأرجل أحيانا أخرى: فيوما بغزاء، ويوما بسربة ... ويما بخشخاش من الرجل هيضل5 وفي شعر عروة أحاديث كثيرة عن هذين الأسلوبين من أساليب الغزو. يقول متحدثا عن امرأته التي تلومه على مخاطرته بنفسه في غاراته المتكررة تارة بأولئك الرجلين الذين يعتمدون في غزوهم على أرجلهم، وتارة بأولئك الفرسان الذين يغيرون على الخيل: تقول: لك الويلات، هل أنت تارك ... ضبوءا برجل تارة وبمنسر6   = يرمي بها. والدعس: شدة الوطء. والغطش: الظلمة. والبغش: المطر الخفيف. والسعار: شدة الجوع. والإرزيز: البرد. والوجر: الخوف. والإفكل: الرعدة. والإلدة: الأولاد. والغميصاء: اسم موضع بنجد. والعس: الطواف بالليل. والفرعل: ولد الضبع. والنبأة: الصوت. وهومت: نامت. والأجدل: الصقر. وأبرح: من البرح وهو الشدة. 1 الأغاني 21/ 135. 2 ابن الأنباري: شرح المفضليات/ 195. 3 الأغاني: 18/ 134. 4 المصدر السابق/ 215. 5 لسان العرب: مادة "غزا" - السربة: جماعة الخيل ما بين العشرين إلى الثلاثين. والخشخاش: الجماعة في سلاح ودروع. والهيضل: الجماعة المتسلحة. والرجل: الرجالة. 6 ديوانه/ 68، والأصمعيات 1/ 29، وشرح التبريزي على حماسة أبي تمام 1/ 61 - ضبأ: اختبأ واستتر ليختل. والمنسر كمجلس ومنبر: جماعة الخيل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 ويقول متحدثا عن اعتماده على كلا الأسلوبين في بعض غاراته: لعل انطلاقي في البلاد، ورحلتي ... وشدي حيازيم المطية بالرحل سيدفعني يوما إلى رب هجمة ... يدافع عنها بالعقوق وبالبخل قليل تواليها وطالب وترها ... إذا صحت فيها بالفوارس والرجل1 وقد وفر الصعاليك لهذه الغارات كل ما يحقق لها النجاح، وبلوغ الغاية، وإدراك الهدف. فإلى جانب ما وفروه لها من قوة الجسد، وشجاعة القلب، وصدق العزيمة، وسرعة العدو، وفروا لها سعة الحيلة، وعمق الدهاء، والقدرة على الخلاص من المآزق الضيقة، والمواقف الحرجة. ففي أخبار الشنفرى أنه كان إذا سار في الليل نزع نعلا ولبس نعلا، وضرب برجله، حتى يموه على الناس، فيظنوه الضبع2. وفي أخباره أيضا أنه أقبل في ليلة على ماء لبني سلامان، فلما دنا من الماء قال: إني أراكم، وليس يرى أحدا، إنما يريد بذلك أن يخرج رصدا إن كان ثمة من يترصد له3. وفي أخبار السليك أنه احتال على رجل في سوق عكاظ حتى عرف منه منازل قومه، تمهيدًا للإغارة عليها4. وخبر الحيلة التي لجأ إليها تأبط شرا، حين حاصرته لحيان وهو يشتار العسل من غار في بلادهم، خبر ذائع مشهور5. وقصة احتياله هو الشنفرى وابن براقة على بجيلة حين أسرته، حتى نجا ونجا معه صاحباه، وهي القصة التي أشار إليها في قافيته المفضلية، قصة مشهورة أيضا6. وإلى جانب هذا كله كان طبيعيًّا أن يوفر الصعاليك لغاراتهم السلاح الذي   1 ديوانه/ 108-111. وشرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 9. 2 ابن الأنباري: شرح المفضليات/ 197، والأغاني 21/ 137، وابن حبيب: كتاب المغتالين "مصورة" لوحة رقم 93. 3 الأغاني: 21/ 143. 4 الأغاني 18/ 135-136. 5 انظر التبريزي: شرح ديوان الحماسة 1/ 38 وما بعدها، والأغاني 18/ 215، والبغدادي: خزانة الأدب 3/ 357، وابن حبيب: المحبر/ 169-198. 6 انظر ابن الأنباري: شرح المفضليات/ 6-7، والأغاني 18/ 211-212. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 يعتمدون عليه في هجومهم ودفاعهم؛ لأن الشجاعة أو القوة أو غيرها من الصفات التي كانوا يمتازون بها لا تكفي وحدها "في تلك البادية الفوضوية التي لا يستطيع إنسان أن يعيش فيها ما لم يكن مزودا بسيف أو قوس"1. والواقع أن الصعاليك أعدوا لغاراتهم كل ما كانت تعرفه الجزيرة العربية من سلاح، سواء منه ما كان للهجوم وما كان للدفاع، ووصفوا في شعرهم كل ما كانوا يستخدمونه منه، وتحدثوا عن قيمته لهم في غزواتهم، بل في حياتهم كلها، فقد كانوا يرون فيه أهم شيء في حياتهم، وأغلى ما يملكون فيها، وما يخلفونه بعدها، فعمرو بن براقة يذكر أن سيفه هو "جل ماله"2، وعروة يذكر أنه لن يخلف بعد موته سوى سيف ورمح ودرع ومغفر وجواد: وذي أمل يرجو تراثي، وإن ما ... يصير له منه غدا لقليل ومالي مال غير درع، ومغفر3 ... وأبيض من ماء الحديد صقيل وأسمر خطي القناة مثقف ... وأجرد عريان السراة طويل4 هذا كل ما يملكه أبو الصعاليك، وكل ما سيخلفه من بعده لوارثيه، وهذا كل ما يسجله في "وصيته" من "ثروته". وقد بلغ من شدة حرص صخر الغي الصعلوك على سلاحه أنه كان يراه ثيابا له لا يخلعها عن جسده5، ويذكر الرواة أن تأبط شرا "كان لا يفارقه السيف"6. وقد استتبعت هذه الحياة الواقفة في وجه المجتمع، المتمردة عليه، الخارجة على نظمه، أن فقد المجتمع اطمئنانه إلى أصحابها، كما فقد أصحابها طمأنينتهم فيه، فانقطعت الصلة بينهما، وانفصمت تلك الرابطة الاجتماعية التي تربط بين الفرد ومجتمعه، وانحل ذلك العقد الاجتماعي الذي يجعل من الفرد عضوا   1 Dermenghem; The Life Of Mahomet, P. 173. 2 انظر أبياته الميمية في الأغاني 21/ 175. 3 معطوف على محل "درع"؛ لأن المعنى "ليس لي إلا درع ومغفر". 4 ديوانه/ 207. 5 انظر قصيدته الدالية في السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 13. 6 الجوهري: صحاح اللغة، مادة "أبط". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 عاملا لمجتمعه، متوافقا معه، دائرا في فلكه، ورأى المجتمع في هؤلاء الصعاليك "شذاذا" خارجين عليه، غير متوافقين معه، فتنكر لهم، وتخلى عنهم، وتركهم يواجهون الحياة دون أية حماية منه أو ضمان اجتماعي، ورأوا هم في مجتمعهم مجتمعا مختلا، يسيطر عليه ظلم اجتماعي، وتسوده أنانية اقتصادية جائرة، وتنقصه عدالة اجتماعية تسوي بين جميع أفراده، وتكافؤ في فرص العيش يهيئ لكل فرد فيه أن يأخذ بنصيبه من الحياة كما يأخذ سائر الأفراد. وكانت النتيجة الطبيعية لهذا كله أن فر هؤلاء الصعاليك من مجتمعهم النظامي ليقيموا لأنفسهم بأنفسهم "مجتمعا" فوضويا، شريعته "القوة"، ووسيلته "الغزو والإغارة"، وهدفه "السلب والنهب"، ووجدوا في الصحراء الفسيحة الواسعة التي لا تقيدها قيود، ولا تحد من حريتها حدود، ولا يستطيع قانون أن يخترق نطاقها ليفرض سلطانه عليها، مجالا لا حدود له يمارسون فيه نشاطهم الإرهابي، ويقيمون "دولتهم" الفوضوية، "دولة الصعاليك"، حيث يحيون حياة حرة متمردة، تسودها العدالة الاجتماعية، وتتكافأ فيها فرص العيش أمام الجميع. وأخبار هؤلاء الصعاليك وأشعارهم تحفل بأحاديث هذا التشرد في أنحاء الصحراء الموحشة، ووديانها الرهيبة، حيث يحيا الوحش بعيدا عن البشر، وحيث يكمن الموت في كل رجء من أرجائها. ولعل أقوى ما صُور به هذا التشرد في شعر الصعاليك هاتان الصورتان المتشابهتان اللتان نجد إحداهما عند تأبط شرا، والأخرى في لامية العرب، فكلا الصعلوكين مفارق مجتمعه النظامي حيث يعيش البشر، إلى أعماق الصحراء البعيدة حيث يعيش الوحش، أما تأبط شرا فقد ألفته الوحش لطول ما عاش بينها مسالما لها، حتى أنست به، واطمأنت إليه، وأما صعلوك اللامية فقد وجد في ضواري الصحراء أهلا له، يستعيض بها عن أهله من البشر، ويجد بينها الأمن والطمأنينة. يقول تأبط شرا متحدثا عن نفسه: يبيت بمغني الوحش حتى ألفنه ... ويصبح لا يحمي لها الدهر مرتعا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 رأين فتى لا صيد وحش يهمه ... فلو صافحت إنسا لصافحنه معا1 ويقول صاحب اللامية مخاطبا أهله: ولي دونكم أهلون: سيد عملس ... وأرقط زهلول، وعرفاء جيأل هم الأهل، لا مستودع السر ذائع ... لديهم، ولا الجاني بما جر يخُذل2 ومن الطبيعي أن هذا التشرد جعل الصعاليك على صلة قريبة بحيوان الصحراء، استطاعوا عن طريقها أن يعرفوا طباعه وعاداته، وأن يتحدثوا عنه وعنها حديث الخبير المطلع. وفي شعرهم صور كثيرة لحيوان الصحراء ووحشها وطيرها وحشراتها وما يخيل للساري فيها من أشباح، كذلك الوصف الدقيق للضباع وحياتها وطباعها في شعر الأعلم الهذلي3، وكتلك الصورة الرائعة للذئاب الجائعة في لامية العرب4 وكتلك الصور المتعددة للغيلان وما يجري للإنسان معها في شعر تأبط شرا5. وكان من نتيجة هذا التشرد البعيد في أعماق الصحراء أن أصبح الصعاليك على علم واسع بأسرارها، ومعرفة دقيقة بشعابها ودروبها ومسالكها ومياهها، ومقدرة فائقة على الاهتداء في مجاهلها، واختراق متاهاتها المضلة دون دليل. ورواة الأدب العربي يصفون السليك "البعيد الغارة" بأنه "كان أدل من قطاة"6، بل إنهم يصفون الصعاليك بأنهم "أهدى من القطا"7.   1 الأغاني 18/ 217 - وقوله "ويصبح لا يحمي لها الدهر مرتعا" معناه أنه لا يمنعها من الرعي فهي لا تخاف منه. 2 أعجب العجب/ 17، 18 - السيد: الذئب. والعملس: القوي على السير السريع. والأرقط المراد به النمر. والزهلول: الأملس. والعرفاء: الضبع الطويلة العرف. وجيأل: اسم للضبع، معرفة بدون الألف واللام، وهي في الأصل صفة ثم غلبت فخرجت مخرج الأسماء، وهي لهذا ممنوعة من الصرف للعلمية والتأنيث. 3 انظر ديوان الهذليين 2/ 79، 80، 86، 87. 4 انظر أعجب العجب/ 37-50. 5 انظر الأغاني 18/ 209، 210 - وابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 176، 177. 6 الأغاني 18/ 134. 7 المرزباني: معجم الشعراء/ 168. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 وفي شعر الصعاليك أحاديث كثيرة عن الصحراء، وفخر عريض بمعرفة أسرارها، والاهتداء في مجاهلها، كما ترى في تلك الأبيات الرائية التي يرويها الأصمعي لتأبط شرا، والتي يتحدث فيها عن اهتدائه إلى شعب في أعماق الصحراء المجهولة بصعاليكه دون أن يهديه إليه دليل أو يصفه له خبير1، وكما نرى في هذه الأبيات القوية من لامية العرب: وخرق كظهر الترس قفر قطعته ... بعاملتين، ظهره لي يعمل وألحقت أولاه بأخراه موفيا ... على قنة أُقعي مرارا وأمثل ترود الأراوي الصحم حولي كأنها ... عذارى عليهن الملاء المذيل ويركدن بالآصال حولي كأنني ... من العصم أدفى ينتحي الكيح أعقل2 فالشاعر في هذه الأبيات يصف الصعلوك بأنه يخترق الصحراء النائية الخالية التي لا يطرقها أحد، معتمدا في اختراقها على رجليه القويتين السريعتين، حتى يصل إلى منازل الوعول البعيدة التي لم تعد تنكره، لكثرة ما خالطها، حتى كأنه واحد منها. والناظر في أخبار هؤلاء الصعاليك، المتتبع لظروف نشأتهم وحياتهم، يستطيع أن يلاحظ في وضوح ثلاث طوائف مختلفة تتألف منها عصاباتهم: طائفة "الخلعاء والشذاذ" الذين أنكرتهم قبائلهم، وتبرأت منهم، وطردتهم من حماها، وقطعت ما بينها وبينهم من صلة، وتحللت بهذا من العقد الاجتماعي الذي يربط بينها وبينهم، والذي يصوره المثل العربي القديم "في الجريرة تشترك العشيرة"3، فأصبحت لا تحتمل لهم جريرة، ولا تطالب   1 انظر الأصمعيات 1/ 35. 2 أعجب العجب/ 67-69 - الخرق: الأرض الواسعة تنخرق فيها الرياح. والعاملتان: رجلاه. وظهره ليس يعمل أي ليس مما تعمل فيه الركاب. وموفيا أي مشرفا. والقنة: أعلى الجبل. وأمثل: أقف وأقوم. والأراوي: إناث الوعول. والصحم: السود التي يضرب لونها إلى صفرة. ويركدان أي يثبتن. والعصم: الوعول التي في أيديها بياض. والأدفى من الوعول: الذي طال قرنه طولا شديدا. والكيح: عرض الجبل. والأعقل: الممتنع في الجبل العالي. 3 الميداني: مجمع الأمثال 2/ 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 بجريرة يجرها أحد عليهم، مثل حاجز الأزدي1، وقيس بن الحدادية2، وأبي الطمحان القيني3. وطائفة "الأغربة" السود الذين سرى إليهم السواد من أمهاتهم الإماء، فلم يعترف بهم آباؤهم العرب، ولم ينسبوهم إليهم؛ لأن دماءهم ليست عربية خالصة، وإنما خالطتها دماء أجنبية سوداء لا تصل من درجة نقائها إلى درجة الدم العربي، مثل تأبط شرا4، والشنفرى5، والسليك بن السلكة6. ثم طائفة الفقراء المتمردين الذين تصعلكوا نتيجة لتلك الظروف الاقتصادية المختلة التي كانت تسود المجتمع الجاهلي، ويمثلهم عروة بن الورد ومن كان يلتف حوله من فقراء العرب، وكذلك تلك المجموعة الكبيرة من صعاليك هذيل. من هذه الطوائف الثلاث تألفت عصابات الصعاليك، وهي عصابات قطعت ما بينها وبين قبائلها من صلات، وانطلقت إلى الصحراء، كما تنطلق الذئاب الجائعة، لتشق لنفسها طريقا في الحياة، وقد جمع بينها -على اختلاف قبائلها- الفقر، والتشرد، والتمرد، والكفر بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي يؤمن بها المجتمع الذي خرجت عليه، والإيمان بأن الحق للقوة، وأن الضعيف ضائع حقه في هذا المجتمع. والظاهرة الواضحة في حياة هؤلاء الصعاليك -على اختلاف الدوافع التي دفعتهم إلى حياة التصعلك- هي أنهم جميعا فقدوا توافقهم الاجتماعي. وظاهرة "التوافق الاجتماعي"7 هي الظاهرة التي يقرر علماء الاجتماعي أنها الأساس   1 انظر الأغاني 12/ 49 "بولاق". 2 انظر الأغاني 13/ 2 "بولاق". 3 انظر الأغاني 11/ 130 "بولاق". 4 انظر السيوطي: المزهر 2/ 269. 5 انظر المصدر السابق/ الصفحة نفسها. 6 انظر المصدر نفسه/ الصفحة نفسها، وانظر أيضا ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 214. 7 social adjustment. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 الذي تقوم عليه الصلة بين الفرد والمجتمع، بحيث يكون عمل الفرد من أجل صالح المجموع، كما يكون عمل المجموع لصالح الفرد. وفقدان هذا "التوافق الاجتماعي" ينتهي بالفرد عادة إلى أن تكون صلته بمجتمعه قائمة على أساس "السلوك الصراعي"1، وذلك لأن في كل مجتمع تيارين متضادين: أحدهما يتصل بالفرد، والآخر يتصل بالمجتمع، ووجود هذين التيارين يستدعي وجود نوعين من الصلة بين الفرد والمجتمع، فإما أن يكون بينهما "وفاق"، وإما أن يكون بينهما "صراع"، وهذان النوعان من الصلة بين الفرد والمجتمع هما ما اصطلح علماء الاجتماع على تسميتهما "بالسلوك التعاوني"2، "والسلوك الصراعي"3. ومن الطبيعي أن تكون الأسباب التي جعلت هذه الطوائف المختلفة من الصعاليك تفقد توافقها الاجتماعي أسبابا مختلفة، وذلك لاختلاف "المشكلة النفسية" التي تواجهها طائفة منها عن المشكلة التي تواجهها طائفة أخرى. ولكن هذه المشكلات -على اختلافها- كانت تنتهي بطوائف الصعاليك جميعا إلى هذا "اللاتوافق الاجتماعي" الذي كان يدفعها إلى أن يكون سلوكها الاجتماعي "سلوكا صراعيا". والآن، بعد هذه الجولة الواسعة خلف أخبار "صعاليك العرب" وأشعارهم، في كتب اللغة، وفي مصادر الأدب العربي، نقف لنسجل النتيجة التالية: تدور كلمة "الصعلكة" في دائرتين: دائرة لغوية، ودائرة اجتماعية. وتبدأ الدائرتان من نقطة واحدة هي الفقر، فأما الدائرة اللغوية فتنتهي حيث بدأت، يبدأ الصعلوك فيها فقيرا، ويظل في نطاقها فقيرا، يخدم الأغنياء   1 conflict. 2 co-operation. 3 انظر في تفصيل هذا: e.r. grove; personlity and social adjustment, & r.m. mac Iver; Society. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 أو يستجديهم فضل مالهم، ثم يموت فقيرا، وأما الدائرة الاجتماعية فتتسع وتبعد عن نقطة البدء لتنتهي، أو لتحاول أن تنتهي، بعيدا عنها، يبدأ الصعلوك فيها فقيرا، ثم يحاول أن يتغلب على الفقر الذي فرضته عليه أوضاع اجتماعية أو ظروف اقتصادية. وأن يخرج من نطاقه ليتساوى مع سائر أفراد مجتمعه، ولكنه -من أجل هذه الغاية- لا يسلك السبيل التعاوني. وإنما يدفعه "لا توافقه الاجتماعي" إلى سلوك السبيل الصراعي، فيتخذ من "الغزو والإغارة للسلب والنهب" وسيلة يشق بها طريقه في الحياة، فيصطدم بمجتمعه الذي يرى في هذه الفوضوية الفردية مظهرا من مظاهر التمرد. وتنقطع الصلة بين المجتمع والصعلوك، فيتخلى المجتمع عنه، ويحرمه حمايته، ويعيش الصعلوك خليعا مشردا، أو طريدا متمردا، حتى يلقى مصرعه، فأما أعداؤه فقد استراحوا من هذا الفزع الذي كانوا يترقبونه في كل حين، كما يترقب غائبا منتظرا أهله -على حد تعبير عروة- وأما أصدقاؤه فقد سقط أحدهم في سبيل فكرته بعد أن أدى رسالته في هذه الحياة. وإذا كنا قد وصلنا إلى هذه النتيجة عن طريق استعراض هذه الظاهرة في مصدرها الأول، وهو المجتمع الجاهلي، فإن في صنيع اللغويين ما يؤيدنا فيما وصلنا إليه، حيث أشاروا إلى جانب خاص من المادة اللغوية عبروا عنه بصعاليك العرب، ولنا إذن أن نقول: إن ما عبر عنه اللغويون "بصعاليك العرب" هو ما نعبر عنه "بصعاليك الدائرة الاجتماعية". وإذ نلاحظ أن المتصلين بمشكلة الفقر والغنى وتوزيع الثروة في المجتمع الجاهلي قد أشاروا على ألسنة شعرائهم إلى طائفتين من الصعاليك، فمدحوا إحداهما "لله هي"، وذموا الأخرى "لحاها الله"1، نستطيع أن نقول في ضوء هذه النتيجة التي وصلنا إليها إن هناك نوعين من الصعاليك: الصعلوك العامل وهو الذي يمثل صعاليك الدائرة الاجتماعية. والصعلوك الخامل وهو الذي يمثل صعاليك الدائرة اللغوية.   1 انظر رائية عروة في ديوانه/ 73-82، وميمية حاتم الطائي في ديوانه/ 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 فالمسألة إذن ليست مسألة لغوية فحسب، يرجع فيها إلى كتب اللغة، وإنما هي -إلى جانب هذا- ظاهرة اجتماعية يرجع فيها إلى المجتمع الجاهلي، وما كان ينطوي عليه من عوامل عملت على ظهورها، والاتجاه بها إلى تلك الاتجاهات التي اتجهت إليها. ولكن ما هذه العوامل؟ وما هذه الاتجاهات؟ هذا ما سنحاول دراسته في الفصول التالية من هذا الباب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 الفصل الثاني: التفسير الجغرافي لظاهرة الصعلكة 1- أهمية العامل الجغرافي : حين نقف عند الجانب الجغرافي من ظاهرة الصعلكة، فإنما نقف عند أول عامل من العوامل التي عملت في نشأتها وتوجيهها وطبعها بطابع خاص. ففي كل مشكلة من مشكلات التاريخ يعمل عاملان أساسيان: الإنسان، والبيئة الجغرافية، وترجع أهمية العامل الجغرافي إلى أنه يعمل في قوة وإلحاح، فهو قوة ثابتة لا تكف عن العمل1، والإنسان -على حد تعبير بعض الباحثين- غلة من غلات سطح الأرض2. والظاهرة التي نحن بصدد دراستها وتفسيرها اتخذت من البادية العربية مسرحا لها، وكان ارتباطها بهذا "المسرح الجغرافي" وثيقا، تأثرت به في نشأتها، وتكيفت معه في اتجاهاتها، ولعل في دراسة هذا "المسرح الجغرافي" أولا ما يعيننا على فهم الدور الذي قام به أبطال قصتنا "الصعاليك".   1 semple; influences of geographic environment, P. 2. 2 ibid,. P. 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 2- جزيرة العرب : يميز الدارسون لتاريخ غربي آسيا بين حملة الحضارة سكان السهول والتلال المنخفضة، وبين الشعوب المتأخرة سكان الجبال والصحاري1، ويلاحظون أن المدنية في هذا الجزء من العالم هي تلك التي تعرف باسم "حضارة وديان الأنهار"، القائمة على الزراعة، التي تصطنع وسائل صناعية للري، تغذيها أنهار ذات فيضان موسمي، وهذه الحضارة تقف عند المستوى الذي يمكن رفع الماء إليه، ومن هنا يصبح هذا المستوى الحد الفاصل بين الأقاليم المستقرة ومناطق القبائل الرعوية2. وتمثل البادية العربية "تلك الرقعة من الجنوب الغربي لآسيا التي لم تدخل في نطاق حضارة وديان الأنهار، والتي أبطأ سكانها -نتيجة لذلك- في مدارج التقدم الحضاري"3، شأنهم في ذلك شأن سكان الصحاري "أطفال العالم الخالدين"4، وأولئك الذين لا تتغير حياتهم مع تغير الزمن. والمنظر العام لهذا "المسرح الجغرافي" الذي دارت عليه قصة صعاليك العرب منظر "نجد تحيط به صحراء، رملية في الجنوب والغرب والشرق، وحجرية في الشمال، وتطوق هذا النطاق الخارجي سلسلة من جبال، أكثرها منخفض قاحل، ولكنها في اليمن وعمان ذات ارتفاع كبير واتساع وخصب، ومن وراء هذه الجبال حافة ساحلية ضيقة يحدها البحر"5. وينحدر هذا المسرح الجغرافي "من الغرب إلى الشرق؛ إذ إن معظم الجبال في الغرب، وإن تكن طائفة من المرتفعات في الجنوب الشرقي، في عمان، تعد شذوذا لهذه القاعدة"6. ومن أظهر ما عرفت به بلاد العرب منذ القدم الجدب والحر؛ إذ "تقع الجزيرة العربية كلها تقريبا داخل نطاق الحرارة القصوى الذي يطوق العالم في شهر يوليه"7. ويرد الجغرافيون هذا إلى أن قسما كبيرا منها يقع في منطقة   1 o'leary; arabia before muhammad, P. 3. 2 ibid,. P. 3-4. 3 ibid,. P. 5. 4 semple; influences of geograpic environment, P. 509. 5 zwemer; arabia, the gradle of islam, P. 19. 6 o'leary; arabia before muhammad, P. 6. 7 zwemer; arabia, the gradle of islam, P. 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 الرهو المدارية ذات الضغط العالي والمطر القليل، والقسم الآخر يقع في حيز الرياح التجارية الشمالية الشرقية الجافة، التي تزداد حرارتها كلما تقدمت إلى الجنوب. "ويزداد هذا الحر قسوة فوق المنطقة الساحلية بسبب الرطوبة التي تنشأ عن كمية البخار الهائلة المتصاعدة من مستنقعات المياه المغلقة"1 أما فوق المرتفعات فإن درجة الحرارة تنخفض حتى ليوجد الجليد أحيانا في ليالي الصيف فوق الجبال جنوبي مكة2. ومن عوامل الجدب قلة المطر، وذلك لأن الرياح الموسمية الجنوبية الغربية التي تتعرض لها الجزيرة العربية صيفا تصل إليها بعد أن تكون قد أسقطت أمطارها الغزيرة على الحبشة، ولهذا فإن أمطارها في بلاد العرب لا تكاد تذكر بجانب ما يسقط منها في الحبشة. وإلى جانب هذه القلة في كمية المطر نلاحظ أنه يسقط في فترات متباعدة جدا، وغير منتظمة، حتى إن بعض أجزاء الجزيرة العربية لا يسقط المطر فيها إلا كل ثلاث سنوات أو أربع. وترتبط حياة أهل الصحراء بالمطر ارتباطا وثيقا حتى لقد سموه غيثا وحيا، ويصفه الله تعالى بأنه "رحمته"3، ومن صلوات الإسلام "صلاة الاستسقاء" التي يقيمها البدو حين تُخلف النجوم، وتجمد الرياح، ويحتبس المطر، فتحيا بها بعد موتها. وليس من شك في أن فرحة البادية بالمطر عظيمة، حتى ليصف الله تعالى تأثيره في نفوس أهلها بأنه {إِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُون} 4، وحتى ليقف الشعراء من السحاب والبرق والمطر تلك الوقفات الطويلة الجميلة التي سجلوها في شعرهم، فيخلع امرؤ القيس   1 ibid,. P. 20. 2 o'leary; arabia before muhammad, P. 8. 3 النمل/ 63، والروم/ 46-50. 4 الروم/ 48. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 فرحته بالمطر على ما حوله من مظاهر الطبيعة فيجعل مكاكي الحواء غب المطر في نشوة غامرة كأنما "سقين سلافا من رحيق مفلفل"، ويدعو الباكون لموتاهم بأن يسقي الغيث قبورهم، ويسأل المحبون لديار أحبابهم أن يسقيها "صوب الربيع وديمة تهمي". ومن أشد ما تقاسيه البادية العربية احتباس المطر، فمتى احتبس أصبحت غير صالحة للسكنى، فقد حل الجفاف "وما يتبعه من نفوق القطعان، وهلاك الرعاء"1، وأجدب البدو وضاقت أمامهم سبل الحياة، ولم يعد أمامهم إلا أن يرحلوا عن مواطنهم ينتجعون مواطن الكلأ والماء، حتى لقد يدفعهم الجدب إلى مغادرة البادية العربية كلها إلى تلال اليمن والشام أو إلى سهول النيل والفراتين2. وفي الأخبار القديمة أن بطونا من خزاعة "خرجوا جالين إلى مصر والشام لأنهم أجدبوا"3، وأن بني شيبان أصابتهم "سنة ذهبت بالأموال، فخرج رجل منهم بعياله حتى أنزلهم الحيرة، فقال لهم: كونوا قريبا من الملك يصبكن من خيره حتى أرجع إليكن، وآلى ألية لا يرجع حتى يكسبهن خيرا أو يموت"4، وقد يرفض بعض هؤلاء المهاجرين العودة إلى ديارهم بعد سقوط المطر وعودة الحياة إلى البادية، ضيقا بهذه البيئة المتقلبة، ورغبة في الاستقرار والحياة المطمئنة، ففي أخبار تلك البطون من خزاعة أنهم مضوا في هجراتهم، "حتى إذا كانوا ببعض الطريق رأوا البوارق خلفهم، وأدركهم من ذكر لهم كثرة الغيث والمطر وغزارته"، فرجع فريق منهم إلى أوطانهم واستمرت قلة في هجرتها5. وفي رأي بعض الباحثين أن السبب الأول في هجرة القبائل اليمنية إلى الشمال يرجع إلى تغير مناخي6، وأن   1 lammens; le berceau de i'islam, vol. i, P. 105. 2 semple; influences of geographic environment, P. 489. 3 الأغاني 13/ 6 "بولاق". 4 الأغاني 16/ 50. 5 انظر القصة في الأغاني 13/ 5-7 "بولاق". 6 سليمان حزين في مقالته الفرنسية المنشورة بمجلة كلية الآداب "المجلد الثالث= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 تدهور الحضارات القديمة، وتشتت القبائل، وانبعاث الهجرات من تلك الجهات، في العهد السابق للإسلام مباشرة، مرتبط على ما يظهر ارتباطا وثيقا بتغيرات المناخ، وذبذباته، وعودته إلى الجفاف النسبي بعد الحالة الممطرة1. ويلاحظ الدارسون أن هذه القدرة على هجرة الجماعات الرعوية، إنسانها وحيوانها، إلى مراع جديدة ميزة هامة تمتاز بها هذه الجماعات، ويلاحظون أن هذا يتم في سهولة ويسر، ما لم تكن في الأرض الجديدة جماعة أكبر عددا، وأشد بأسا من الجماعة المهاجرة2. ويرد بعضهم هذه السهولة وهذ اليسر إلى أن كمية المطر القليلة التي تسقط في الصحراء لا تساعد على نمو الغابات التي تقوم حاجزا في طريق الهجرات3. ومما يزيد من قسوة الحياة في أيام الجفاف اقترانها في الغالب بريح السموم، تلك الريح المهلكة4 التي تشوى منها الصحراء كما يقول الشاعر القديم5. ويرجع السبب الأساسي في هذه الحالة القاسية التي تعانيها الصحراء إلى قلة الماء "فليس في البادية العربية أنهار دائمة الجريان، وإنما هي أودية تمتلئ بالماء في مواسم المطر، ويغيض ماؤها بعد ذلك"6، وموسم المطر في البادية   = الجزء الأول، مايو 1935" تحت عنوان: changement historique du climat et du paysage de l'arabia du sud", P. 23. 1 الباحث نفسه في تقريره عن بعثة الجامعة المصرية إلى اليمن وحضرموت 1936 المنشورة بالعربية بمجلة كلية الآداب "المجلد الرابع، الجزء الثاني، ديسمبر 1936" ص197. 2 ميرز في مقالته عن "المناخ والجغرافيا وأثرهما في التاريخ" المنشورة في مجموعة "تاريخ العالم" لسير جون هامرتن، الفصل التاسع/ 357. 3 semple; influences of geographic environment, P. 483. 4 انظر القصة الواردة في الأغاني 11/ 42 "دار الكتب". 5 البعيث الحنفي في حماسة أبي تمام بشرح التبريزي 4/ 150.. "وهاجرة يشوي مهاها سمومها". 6 o'leary; arabia before muhammad, P. 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 العربية قصير1، ومن هنا كان جفاف هذه الأودية طويلا "فهي في العادة تظل جافة تسعة أشهر أو عشرة في العام"2. ولكن الحال في اليمن تختلف، وذلك لأن "الغدران الساحلية تكثر فيها في أثناء فصل الأمطار، وقد تمتلئ في بعض الأحيان فجأة إلى درجة الفيضان، فتندفع جارفة أمامها كل شيء، وتسمى في هذه الحالة سيولا"3، ويحدثنا امرؤ القيس في معلقته عن سيل من هذه السيول اقتلع الأشجار الضخمة، وأنزل العصم من رءوس الجبال، وجرف النخل والأجم، وأغرق السباع حتى بدت فيه كأنها "أنابيش عنصل"، بل إنه أحاط ببعض الجبال حتى بدت قممها كأنها "من السيل والغثاء فلكة مغزل" وفي أغلب الظن أن هذا الوصف ليست فيه مبالغة كبيرة، وأنه ليس خيال شاعر، فأحد هذه السيول هو الذي جرف أمامه سد مأرب المشهور، كما يحدثنا القرآن الكريم4، ولم يكن هذه السد بالبناء الهين الشأن، وإنما كان سدا أصم طوله من الشرق إلى الغرب نحو ثمانمائة ذراع، وارتفاعه بضعة عشر ذراعا، وعرضه مائة وخمسون ذراعا5. وقد وقف سكان الجزيرة العربية من هذه المياه التي تتدفق بها الصحراء في مواسم المطر موقفين، هما موقفا الحضارة والبداوة: أما أهل اليمن فقد استطاعوا استغلال هذه المياه المتدفقة، فأقاموا السدود في عرض الأودية لحجز السيول، والانتفاع بمياهها في إحياء موات الأرض، ويصف القرآن الكريم مسكن سبأ بأنه {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ} 6، وقد استغل اليمنيون هذه الظاهرة الطبيعية استغلالا واسعا "فلم يدعوا واديا يمكن استثمار جانبيه بالماء إلا حجزوا سيله بسد،   1 lammens; le berceau de i'islam, vol. i, P. 158. 2 zwemer; arabia, the gradle of islam, P. 22 3 ibid,. P. 21. 4 سبأ/ 16. 5 جرجي زيدان: العرب قبل الإسلام 1/ 156. 6 سبأ/ 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 فتكاثرت الأسداد بتكاثر الأودية حتى تجاوزت المئات"1، ويذكر الهمذاني أن في أحد مخاليف اليمن ثمانين سدا أشار إليها بعض شعرائهم2. أما أهل البادية في الحجاز ونجد فقد تركوا السماء تمطر فتحيي لهم ما تحيي من الأرض، فإذا زادت مياهها عن الحاجة ذهبت بها رمال الصحراء، حتى إذا ما انقضى فصل المطر عادت الطبيعة لجدبها، وعادت الحياة لجفافها، وعاد القوم لظمئهم وقحطهم. ويبدو أن السبب في هذا يرجع إلى طبيعة الظاهرة الجغرافية نفسها، فإن تلك السيول التي عرفتها أودية اليمن لم تعرفها البادية العربية في الحجاز ونجد -بحكم ظروفها الجغرافية- إلا نادرا، هذا إلى جانب أن أكثر أهل الحجاز ونجد كانوا بدوا لم يصلوا من الحضارة إلى درجة التحكم في هذه السيول والانتفاع بها. ومع ذلك فليست الجزيرة العربية كلها جدبا، وإنما هناك مناطق خصبة، وقد رأينا خصب اليمن التي يسميها الهمداني "اليمن الخضراء" لكثرة أشجارها وثمارها وزروعها3. ويذكر الجغرافيون من هذه المناطق الخصبة هضبة نجد العالية4، التي ترتفع عن سطح البحر زهاء أربعة آلاف قدم، والتي تكسو أغلبها مراع خصبة، وتنتشر فيها الاشجار، ومن هنا اشتهرت بنتاج غنمها وإبلها وخيلها5، ويرجع السبب في هذه الخصب إلى وفرة المياه التي "توجد في كل مكان، في آبار لا يتجاوز عمقها خمسة عشر قدما وقد يقل عنها"6، كما أن قممها التي يتجاوز ارتفاعها خمسة آلاف قد تساعد على تجميع المياه7.   1 جرجي زيدان: العرب قبل الإسلام 1/ 141. 2 صفة جزيرة العرب 1/ 101. 3 المصدر السابق/ 51. 4 semple; influences of geographic environment, P. 501. 5 zwemer; arabia, the gradle of islam, pP. 147-148. 6 ibid,. P. 147. 7 semple; influences of geographic environment, P. 501. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 ولا تخلو سلسلة جبال السراة التي تمتد على طول الساحل الشرقي للبحر الأحمر "ما بين أقصى اليمن والشام"1 من مناطق خصبة، هي بعض تلك الأودية التي تقطع السراة إلى تهامة حتى تنتهي إلى البحر2، حتى لنجد أن اسم واحد منها "وادي الجناب" وهو -كما يدل عليه اسمه- واد شديد الخصب3، وهناك من هذه الأودية الشديدة الخصب وادي نخلة4، ووادي نحيان5، ويصف الهمداني سراة الحجر بالخصب الشديد6. ووفقا لقانون جغرافي تعرفه البادية يجعل من مناطق الخصب والماء مناطق استقرار للقبائل، نزلت القبائل في هذه الأودية الخصبة، وأقاموا القرى، ففي وادي باحان "القرى والزرع"7، وبالقرب من وادي الجناب قرية النبيرة وهي "كثيرة الأعناب والفواكه والغيول الحاملة"8. حتى الحجاز -ذلك الإقليم الجبلي الرملي- يشتمل على بقاع خصبة، هي تلك الكثبان والربى الخصبة التي تتخلله، والتي تخرج سفوحها حبا، وشيئا من الفاكهة، وكلأ للقطعان، وينابيع من ماء دائم9، ووفقا لقانون البادية الجغرافي السابق اتخذت القبائل من هذه الكثبان والربى الخصبة منازل لها، ومن حولها قامت القرى10، وحسبنا أن نذكر من هذه القرى الطائف "جنة مكة"11 "ومصيف المكيين المترفين"12 حينما يشتد بهم صيف مكة الذي   1 الهمداني: صفة جزيرة العرب 1/ 67. 2 انظر هذه الأودية في المصدر السابق/ 71-84. 3 المصدر نفسه/ 76. 4 المصدر نفسه/ 75. 5 المصدر نفسه/ 122. 6 المصدر نفسه/ 123. 7 المصدر نفسه/ 121. 8 المصدر نفسه/ 77. 9 sedillot; histoire generale des arabes, tom i, P. 12. 10 ibid, P. 12. 11 ibid, P. 12. 12 ency. of islam; art. arabia, P. 368. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 لا يطاق، وذلك لأنها لا تبعد عنها أكثر من سبعين ميلا1، ولم يكن الطائف مصيف أهل مكة وحدهم، وإنما كانت مصيفا لغيرهم من القبائل حتى البعيدة عنها، فقد كانت بعض القبائل تقبل إليها من نجد، كما كان يفعل بنو عامر بن صعصعة الذين كانوا يتصيفونها "لطيبها وثمارها، ويتشتون بلادهم من أرض نجد"2، وتقوم الطائف قريبا من ربوة من تلك الربى الخصبة3 فوق تلال غزوان4، وتلتف بها الجنات والكروم5، وشهرة كرون الطائف وأعنابها شهرة قديمة عرفت بها6. ومن مصادر خصب الطائف الأساسية وفرة المياه فيها "فالأمطار الموسمية تدوم بها من أربعة أسابيع إلى ستة، وعندما تنقطع تكثر الآبار التي تصلح لسقي حدائقها"7، هذا إلى طبيعة جوها الذي يساعد على نمو كل الفاكهة التي يعرفها جنوبي أوربا8، فالحرارة في أوقات الظهيرة ليست ثقيلة، والليالي ذوات جو منعش9. ومن مناطق الخصب في الجزيرة العربية أيضا يثرب والوديان التي حولها، فقد اشتهرت الوديان الواقعة في هذه المنطقة البركانية، منطقة الحرات، بخصبها الشديد بالنسبة إلى ما حولها10. ومرد خصب هذه المنطقة إلى أمرين: طبيعة الأرض، فإن تفكك الصخور البركانية فيها يحفظ على الأرض خصبها، ثم وفرة المياه، فهناك وادي إضم، والآبار، والصخور البركانية التي تجمع   1 zwemer; arabia, the gradle of islam, P. 45. 2 البكري: معجم ما استعجم 1/ 77. 3 sedillet; hist. generale des arabes, tom i,. P. 12. 4 ency. of islam; art. arabia, P. 368. 5 zwemer; arabia, the gardle of islam, P. 45. 6 ency. of islam; art. arabia, P. 368, & lammens; le berceau de i'islam, vol. i, P. 90. 7 zwemer; arabia, the gradle of islam, P. 45. 8 ency. of islam; art. arabia, P. 368. 9 doughty; travels in arabia deserta, vol. ii, P. 525. 10 ency. of islam; art. arabia, P. 368. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 المياه، وهي كلها مصادر غنية بمياهها1. وتشتهر هذه المنطقة بصفة خاصة منذ أقدم العصور بزرعة النخل2، ويطلق عليها عروة بن الورد في شعره "منبت النخل3"، وفي شعر حسان بن ثابت وصف جميل لهذه البيئة الخصبة4. وفي شمالي يثرب تقع حرة خيبر، أكبر الحرات في الجزيرة العربية5، التي تدين بوجودها إلى غزارة مياهها، وإلى تحلل صخورها البركانية، والتي تشتهر بخصبها وكثرة مزارعها ونخلها6. وفي جنوبي يثرب وادي العقيق ذو العيون والنخيل7 بمصايفه ومتنزهاته المحجبة في خضرته8.   1 dermenghem; the life of mahomet, pP. 11, 12. 2 ency. of islam; art. arabia, P. 368. 3 ديوانه/ 106. 4 انظر ديوانه/ 283-284. 5 zwemer; arabia, the cradle of islam, P. 23. 6 ياقوت: معجم البلدان 3/ 495. 7 المصدر السابق 6/ 199. 8 lammens; le berceau de i.htm'islam, vol. i, P. 98. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 3- التضاد الجغرافي وأثره في نشأة حركة الصعاليك : هذه هي الصورة العامة "للمسرح الجغرافي" الذي دارت عليه قصة صعاليك العرب، كما نراها من الزوايا التي تفسر لنا مشاهدها، وهي صورة خلاصة ما يقال فيها إنها تجمع لونا من "التضاد الجغرافي" يلفت النظر، ويجدر بنا أن نقف عنده لأن فيه مفتاحا من مفاتيح هذه القصة، ولأنه يكشف لنا جانبا من الستار عنها. والخطوط الأساسية لهذه الصورة هي أنها منطقة صحراوية جبلية، عرفت الأغوار المنخفضة ذات الحرارة الشديدة، والجبال العالية ذات القمم الثلجية، وعرفت بينهما مناطق رملية مترامية الأطراف كثيرة المجاهل والمخاوف. ثم هي منطقة عرفت الجدب الذي تتعذر معه الحياة، حتى يضطر أهلها إلى الهجرة، والخصب الذي يغري الناس على الاستقرار وإقامة القرى، وعرفت المطر يحتبس حتى تصبح البادية غير صالحة للسكن، والسيول تتدفق حتى تجرف أمامها كل شيء، وعرفت البرد الذي يعقد ذنب الكلب، والحر الذي يذيب دماغ الضب، ويطبخ الإبل ويشويها. وكان لهذا "التضاد الجغرافي" أثره في نفوس سكان الجزيرة العربية، فقد أوجد في شخصياتهم لونا من "التضاد النفسي" اصطبغت عناصره بما في البيئة الجغرافية من لوني المبالغة وعدم الاستقرار. وظهر هذان اللونان الصارخان في نفوس البدو في كلا الجانبين الأخلاقيين: جانب الخير وجانب الشر، فالبدوي لا يعرف القصد لا في الخير ولا في الشر، مبالغ في عداوته، مبالغ في محبته، لا يتورع من الغدر، ولكنه إذا عاهد على الوفاء بذل حياته في سبيل عهده، يغزو وينهب حتى يكاد يفقد حياته، ثم يوزع ما يغنمه على سواه. والبدوي -إلى جانب هذا- يأنف من حياة الاستقرار، ويرى الدارسون أن "كل جانب من جوانب الحياة البشرية في الصحاري يحمل طابع الحركة"1، وأن "القاعدة التي تقوم عليها حياة البدو قاعدة متقلقلة"2. ومن هنا احتقر البدو الزراعة3، ويذكر ابن خلدون أنها "من معاش المتضعين وأهل العافية من البدو"4، واحتقروا الصناعة5، وعند ابن خلدون أن "العرب أبعد   1 semple; influences of grographic environment, pP. 486, 488. 2 ibid,. P. 490 3 ency. of islam; art. arabia, P. 375; & semlpe; influences of geographic environment, P. 500. 4 انظر الفصل الثامن من الباب الخامس من الكتاب الأول من المقدمة/ 394. 5 the ency. of islam; art. arabia, P. 375. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 الناس عن الصنائع"1. وآمنوا بأن الرعي والتجارة والصيد والنهب هي وحدها الأعمال التي تليق بالرجال2، وهي كلها أعمال بعيدة عن الاستقرار. ونستطيع بعد هذه النظرة العامة أن نركز الضوء على أبطال قصتنا، صعاليك العرب، حيث يتحركون على هذا المسرح الجغرافي الذي رسمنا خطوطه الأساسية، لنتبين كيف تأثرت حركتهم به، وكيف تكيفت معه. أول ما نلاحظه أن هذه البيئة الجغرافية كانت عاملا أساسيا في وجود الفقر من ناحية، وفي الإحساس به من ناحية أخرى. فهذه البيئة الصحراوية ذات المناخ الحاد، والموارد الطبيعية المحدودة، التي تعتمد على المطر تجود به السماء في فترات متباعدة غير منتظمة، والتي يسيطر عليها الجفاف والجدب أكثر شهور السنة، والتي تقع تحت وطأة الطبيعة مباشرة، فلا يجد أهلها إذا ما اشتدت عليهم إلا الهجرة، عامل فعال في وجود الفقر. ويلاحظ الدارسون أن "البدوي والعوز صاحبان ألف كل منهما صاحبه"3، وأن "الفقر مكان الشظف والسغب". وأن "نكد العيش وشظف الأحوال وسوء المواطن" التي اختص بها أهل البادية أمور "حملتهم عليها الضرورة التي عينت لهم تلك القسمة"4، وأن الظروف الاجتماعية التي تسود البيئة الصحراوية توصد أبواب الرزق في وجوه أبنائها، وتجعل من العمل في سبيله مهمة شاقة غير مثمرة، فهي حياة تعرف الكدح الكثير، ولكنها تضيع ثمرته5. "فهذه السهول القاحلة تحول دون نمر الثروة الإنتاجية، فيما عدا قطعان الغنم والماشية، بل إنها تحد من نمو هذه القطعان نفسها، نظرا لقلة ما تقدمه لها مراعيها الهزيلة المتفرقة من غذاء، وهو غذاء لا يتجاوز تلك   1 انظر الفصل الحادي والعشرين من الباب الخامس من الكتاب الأول من المقدمة/ 404. 2 the ency. of islam; art. arabia, P. 375. 3 semple; influences of geographic environment, P. 490. 4 ابن خلدون: المقدمة، الفصل التاسع من الباب الثاني من الكتاب الأول/ 129. 5 semple; influences of geographic environment, P. 1. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 الحشائش والأعشاب وما يشبهها من أنواع النبات التي تحتمل جفاف صيف طويل، والتي تحتاج إلى وقت قصير لنموها"1. وهكذا انحصرت حياة البدو دون تدخل منهم في الرعي، ما دامت الموراد الطبيعية التي لديهم قد حصرت ثروتهم في هذه القطعان. ومع ذلك فإن هذه الثروة النسبية التي يملكها البدوي ليست بالثروة المضمونة البقاء فإن "وباء ينتشر بين قطعانه، أو جدبا في المراعي، أو جفافا في الآبار، يضعه وجها لوجه أمام المجاعة، ويدفعه دفعا إلى السرقة والنهب"2. وكما كانت هذه البيئة الطبيعية عاملا في وجود الفقر كانت عاملا في إحساس الفقراء إحساسا قويا به، حين أوجدت في جوار المناطق المجدبة مناطق خصبة، مما أشعر أبناء المناطق المجدبة بأن الحياة لم تحرم الناس جميعا كما حرمتهم، وإنما أغدقت على طائفة من الناس ماء لا ينضب، وكلأ لا يجف، وثروة لا تهددها الطبيعة في كل لحظة بالفناء، بقدر ما سلطت عليهم من سياط الحرمان جفافا وجدبا وفقرا. والنتيجة النفسية لهذا -كما يقرر علماء النفس- نشأة "عقدة الفقر" في نفوسهم. ولو أن الطبيعة سوت بين أهل البادية جميعا في الفقر لما أحس أحد هذه الفوارق الطبقية التي تثير في نفوس الطبقة الفقيرة الثورة والتمرد، وهذا معنى قولنا إن ظاهرة "التضاد الجغرافي" تحمل مفتاحا من مفاتيح قصة صعاليك العرب. ثم إن هذه البيئة الجغرافية خلقت من أبنائها رجالا أقوياء. فالصحراء -كما يقرر الدارسون- تربي في نفوس أبنائها "صفات الشجاعة والجرأة، والكبرياء العنيدة، كبرياء الرجال الأحرار"3، "وحياة الصحراء بما فيها من مخاطرة، واعتماد على النفس، تجعل من العربي أشجع الجنس البشري"4،   1 semple; influences of geographic environment, P. 483. 2 ibid,. P. 490. 3 ibid,. P. 510. 4 ibid,. P. 493. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 "وأهل البدو" -كما يذكر ابن خلدون1- "أقرب إلى الشجاعة من أهل الحضر ... قد صار لهم البأس خلقا والشجاعة سجية"، ومرد هذا عنده إلى حياتهم التي يحيونها في البيداء، والإنسان "ابن عوائده ومألوفه". وقد رأينا أن هؤلاء الرجال الأقوياء من أبناء الصحراء يرفضون الاعتماد في حياتهم على الزراعة أو الصناعة، ولا يجدون سبيلا للعيش إلا في الرعي أو التجارة أو الصيد أو النهب، ورأينا في الفصل السابق كيف كان صعاليك العرب يرفضون الرعي؛ لأنهم يرون فيه عملا من أعمال العبيد الأذلاء، أما التجارة فلم يكن للصعاليك مجال فيها؛ إذ هي تعتمد قبل كل شيء على رأس مال يُستغل فيها، وأنى لهؤلاء الفقراء رأس المال الذي يصلح للاستغلال التجاري؟ وإذن لم يبق أمامهم سوى الصيد والنهب، وقد اعتمدوا عليهما جميعا، وهما -كما نرى- سبيلان للعيش متشابهان، أو هما فرعان لأصل واحد هو الاغتصاب. هكذا خلقت الصحراء هؤلاء الرجال الأقوياء، ووضعتهم في بيئتها الفقيرة، وضيقت عليهم موارد العيش، وأوجدت في جوارهم بيئات خصبة تفيض بالمال والثراء، فلم يكن هناك مفر من النتيجة التي تنتج من تفاعل هذه العوامل معا، وهي "الغزو والإغارة للسلب والنهب". وانتشر صعاليك العرب في البادية يقطعون طرقها، وينهبون ويسلبون، ويثيرون في أرجائها الرعب والفزغ، ويغيرون على المناطق الخصبة، ويهددون أهلها في ثروتهم وحياتهم، ويعترضون القوافل التجارية، حتى لتضطر إلى أن تخرج مسلحة في حرس شديد، أو تحتاج إلى من يجيزها على المناطق الخطرة2، وحتى لتتنكب القبائل العربية في اختيار منازلها مقانب العرب في سراياهم3، ويحذر بعضهم بعضا من أن يتلعب به صعاليك العرب، وتتخطفه ذئابها، وتأكل ماله4.   1 المقدمة الفصل الخامس من الباب الثاني من الكتاب الأول/ 125. 2 انظر قصة البراض الكناني وعروة الرحال مع لطيمة النعمان في الأغاني 19/ 75، وانظر في قصص الحفارة المحبر لابن حبيب/ 263-267. 3 البكري: معجم ما استعجم 1/ 53. 4 الأغاني 2/ 126، والبغدادي: خزانة الأدب 1/ 185-186. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 4- التضاد الجغرافي وأثره في توجيه حركات الصعاليك : وتتدخل ظاهرة "التضاد الجغرافي" مرة أخرى لترسم لهؤلاء الصعاليك المغامرين طريقهم، وتحدد لهم مناطق نشاطهم، فتكون هي تلك المناطق الخصبة التي تعرفها الجزيرة العربية. ويلاحظ الدارسون أن هذه الصراع هو الصلة الجغرافية الطبيعية بين الصحاري المقفرة والوديان الخصبة، بين أرض الفقر وأرض الثراء1، فمنذ أقدم العصور، وهذا النطاق الصحراوي الذي يطوق الدنيا القديمة، يرسل على الوديان الخصبة المجاورة موجات متلاحقة من القبائل المغيرة الباحثة عن الخصب في تلك الأرض الطيبة، عندما تقل لديها موارد الرزق، ويحرق جفاف الصيف المراعي، ويجفف موارد المياه2. وليس من الممكن أن يعيش بدو الصحاري وحضر السهول الزراعية في أي مكان متجاورين في سلام وإنما هي الغارات والاعتداءات والثارات3، حتى ليعد هذا النطاق الصحراوي منطقة تقدم لكل أعداء النظام الحماية والأرض الصالحة للتجنيد4. هكذا اتخذ صعاليك العرب من مناطق الخصب في الجزيرة العربية أهدافا لهم يتجهون إليها، ومناطق نشاط يعملون فيها، حتى إننا لو رسمنا مصورا جغرافيا لحركات الصعاليك في الجزيرة العربية، ووضعنا عليه السهام التي تبين الاتجاهات -كما يفعل أصحاب الخطط الحربية- لوجدنا هذه السهام تخرج من مناطق الجدب، وتتجه رءوسها إلى مناطق الخصب. ويذكر تأبط شرا أن أهدافه هي تلك المزارع الخصبة حيث الماء والزرع والماشية:   1 semple; influences of geographic environment, P. 487. 2 ibid., P. 7. 3 ibid,. P. 492. 4 o'leary; arabia before muhammed, P. 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 فيوما على أهل المواشي، وتارة ... لأهل ركيب ذي ثميل وسنبل1 ويصرح أبو خراش بمثل هذه الأهداف: لست لمرة إن لم أوف مرقبة ... يبدو لي الحرف منها والمقاضيب2 وفي أخبار السليك أنه خرج في بعض غزواته يتتبع الأرياف3. وقد لاحظنا أن أهم مناطق الخصب في الجزيرة العربية هي اليمن، ونجد، وبعض مناطق السراة، ويثرب والوديان المحيطة بها. ونستطيع أن نقول -ونحن مطمئنون- إن كل هذه المناطق، بدون استثناء، تعرضت لغزوات الصعاليك. وقد توزع نشاط الصعاليك بين هذه المناطق، حتى ليوشك أن تكون لكل جماعة من جماعاتهم مناطق اختصاص يتركز فيها نشاطهم: أما عروة بن الورد وصعاليكه، أو "فتيانه" كما كانوا يسمون أحيانا4، فقد تركز نشاطهم الأساسي في منطقة يثرب وما يجاورها من شمالي الجزيرة العربية. وفي شعره وأخباره أحاديث كثيرة عن غزواته لهذه المنطقة. فهو يعلن صعاليكه مرة بأنهم لن يحققوا كل آماله، ولن يبلغوا أقصى همته، حتى يصلوا إلى يثرب منبت النخل فيغيروا عليها: فإنكم لن تبلغوا كل همتي ... ولا أربى حتى تروا منبت النخل5 وفي أبيات أخرى يتوعد الأوس، ويعلنهم بأنه سيترصد لهم بأحد الأودية حول يثرب:   1 لسان العرب: مادة "ركب"، ومادة "ثمل" - الركيب: المرزعة. والثميل: الحب. 2 ديوان الهذليين 2/ 159. ويروى في لسان العرب: مادة "قضب" لعروة بن الورد "انظر أيضا ديوانه/ 193". والواضح أنه لأبي خراش فإن مرة هو أبوه، أوفى: أشرف. والحرف من الجبل: أعلاه المحدد، ولعلها هنا تحريف صوابه "الحرث" بمعنى النبات، بدليل "المقاضيب" بعدها، وهي الأرض تنبت النبات الرطب، جمع مقضبة أو مقضاب. 3 ابن حبيب: كتاب المغتالين "مصورة" لوحة رقم 90. وانظر أيضا شرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 192. 4 انظر شرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 8. 5 المصدر السابق 2/ 8، 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 فإلا أنل أوسا فإني حسبها ... بمنبطح الأدغال من ذي السلائل1 وفي أخباره أنه أغار على مزينة2، ومنازل مزينة "جبال رضوى وقدس وآرة وما والاها وصاقبها من أرض الحجاز"3 "وبين حرة بني سليم وبين المدينة"4، بل إننا لسنا في حاجة إلى هذا التحديد، فإن قصة الغارة صريحة في أن مزينة كانوا يخالطون بني النضير5، وعروة نفسه يذكر في شعره أنهم كانوا ينزلون "فويق بني النضير"6، وبنو النضير كانوا بنواحي يثرب7. وهذه المنطقة التي أغار عليها منطقة خصبة "فيها العيون والنخل والزيتون والبان والياسمين والعسل وضروب من الأشجار والنبات"8. وفي أخباره أيضا أنه كان ينزل بصعاليكه في ماوان، ويجعل منها "نقطة ارتكاز" لغزواته في تلك المنطقة9، وماوان واد فيه ماء بين النقرة والربذة في منطقة يثرب10، وهو يتحدث في بعض شعره عما كان يحدث له مع صعاليكه في هذه المنطقة11، وفي أخباره أيضا أنه خرج بصعاليكه "متيامنا عن المدينة يريد أرض قضاعة، وقصد بلقين"12، وأنه في مرة أخرى خرج بهم غازيا "ومضى حتى انتهى   1 الأغاني 3/ 75. وذو السلائل: واد بين الفرع والمدينة "ياقوت: معجم البلدان 5/ 105"، والفرع قرية غناء كبيرة بها نخل ومياه كثيرة "المصدر السابق 6/ 363". 2 الأغاني 3/ 75. 3 البكري: معجم ما استعجم 1/ 88. 4 المصدر السابق/ 91. 5 الأغاني 3/ 76. 6 ديوانه/ 45. 7 تاريخ ابن خلدون 2/ 82. 8 البكري: معجم ما استعجم 1/ 37. 9 الأغاني 3/ 79، 85، وديوانه/ 97، وشرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 9 سطر 18. 10 ياقوت: معجم البلدان 7/ 370. 11 شرح ابن السكيت على ديوانه/ 97 وما بعدها. وشرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 7، 9. 12 شرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 8 سطر 12، 13. وانظر أيضا شرح ابن السكيت على ديوانه/ 96. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 إلى بلاد بني القين فأغار عليها"1، ومنازل بني القين في أرض التيه2 في الشمال الغربي من جزيرة العرب3، وهو يعلن صعاليكه بأنه لن يستقر بهم حتى يروا "منبت الأثل"4 ومنبت الأثل بلاد بني القين5. ومع ذلك فقد كان عروة يغير أحيانا على مناطق أخرى غير مناطق اختصاصه، وهو يصرح في شعره بأنه يغير أحيانا على نجد، وأحيانا على تهامة: فيوما على نجد وغارات أهلها ... ويوما بأرض ذات شث وعرعر6 وفي أخباره أنه أغار مرة على منازل هذيل7، ومنازل هذيل في جبال السراة8 جنوبي مكة9، ولكن يبدو أن هذا كان نادرا، ولعله لم يكن يحدث إلا في حالات خاصة، فقصة غارته هذه لم تكن إلا لونا من التسلية أراد به أن يظهر براعته وسعة حيلته، وأن يبين للهذلي الذي أغار عليه مقدار غفلته، حتى ليرد عليه ما غنمه منه، لولا أن يأبى الهذلي ذلك إعجابا به10. أما منطقة جبال السراة فيما بين مكة والطائف، وأول الطريق الصاعد إلى اليمن، فلعلها المنطقة التي شهدت أكبر عدد من صعاليك العرب، ويذكر الأصمعي أن بالحجاز والسراة من هؤلاء العدائين الذين يعدون على أرجلهم ويختلسون أكثر من ثلاثين11، وأن بهذيل وحدها منهم أربعين12، ومرد   1 الأغاني 3/ 82. 2 شرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 8 سطر 18، 19. 3 ency. of islam; art. 'urwa b. al-ward. 4 شرح ابن السكيت على ديوانه/ 106. 5 شرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 9 السطر الأول. 6 ديوانه/ 84. 7 الأغاني 3/ 83. 8 البكري: معجم ما استعجم 1/ 88. 9 ency of islam; art. arabia, P. 368. 10 انظر القصة في الأغاني 3/ 83-85. 11 الأصمعي: فحولة الشعراء "مخطوطة" ورقة رقم 15. 12 المصدر السابق، ورقة رقم 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 ذلك عندي إلى أربعة عوامل: فهذه المنطقة، أولا، منطقة يظهر فيها "التضاد الجغرافي" ظهورا شديدا، حتى ليعدها الجغرافيون من المناطق التي يختلط فيها الرعي بالزراعة1. ففيها من المناطق ما يصفه القرآن الكريم بأنه واد غير ذي زرع2، ويذكر بعض الدارسين أن ليس فيما يحيط بمكة من أرض ما يكفي لحياة سكانها3، وليس في جميع جبال مكة -كما يذكر الجغرافيون- نبات إلا شيء يسير من الضهياء يكون في الجبل الشامخ، وليس في شيء منها ماء4، ولكن في هذه المنطقة إلى جانب هذا مناطق شديدة الخصب، وقد رأينا منها الطائف، وتعد منطقة السراة جنوبي مكة أشد مناطق الحجاز خصبا5، تنمو بها أشجار الصمغ والصنوبر والسرو6، وقد قلنا إن ظاهرة التضاد الجغرافي تثير في نفوس الفقراء إحساسا قويا بالفقر يدفعهم إلى التمرد. وهذه المنطقة، ثانيا، منطقة جبلية. وسكان المناطق الجبلية -في العادة- أشداء مغامرون متكبرون، أخذوا من الصخر شدته، ومن التواء الدروب حب المغامرة، ومن شموخ الجبال الكبرياء العنيدة التي ترفض الخضوع. ويقرر الدارسون للبيئات الجغرافية "أن سكان الجبال الذين لم   1 انظر المصور الجغرافي في كتاب: semple; influences of geographic environment, P. 487. 2 إبراهيم/ 37. 3 sedillot, histoire generale des arabes, tom i, P. 12. 4 ياقوت: معجم البلدان 3/ 240 - والضهياء: شجر كثير الشوك. 5 ency. of islam, art. arabia, P. 368. 6 lammens, le berceau de i'islam, vol. i, P. 92. وليس صحيحا ما ذكره لامانس من أن جبالها تنبت الجوز بكثرة، استنادا إلى أنها تسمى جبال الجوز، كما أنه ليس صحيحا ما ذكره من أن كل منطقة الحجاز تنبت الجوز استنادا إلى السبب نفسه ... "ibid., pP. 92, 93" فالجوز هنا ليس المراد به تلك الثمرة المعروفة، وإنما معناه الوسط، فهي جبال الجوز لأنها تتوسط بين نجد وتهامة، وكذلك القول في الحجاز، وليس هناك أي دليل على أن هذه المنطقة تنبت الجوز "انظر تاج العروس، مادة جوز". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 يأخذوا بقسط وافر من الحضارة، والذين لم تهيئهم أمزجتهم أو ظروفهم الاقتصادية الضيقة للهجرة، يحلون مشكلة نقص موارد الطعام بالإغارة على حقول جيرانهم الأغنياء ومخازتهم، حتى لتملأ غارات النهب تاريخ سكان الجبال الفطريين"1، ويذكرون أن سكان الجبال القدماء في الألب وشمالي إسبانيا والبلقان وإيطاليا والمرتفعات المحيطة بالفراتين، كلهم قطاع طرق، يعيشون على النهب والسلب، نظرا لجدب بيئتهم الطبيعية وما تسببه لهم من قلة موارد العيش وما يتبع ذلك من فقر وجوع2. وهكذا لم تكن القبائل العربية التي أنزلت في المناطق الجدبة من سلسلة جبال السراة بدعا في تاريخ العالم. ثم إن هذه المنطقة، ثالثا، بحكم طبيعتها الجبلية تيسر وسائل الهرب والاختفاء والنجاة لهؤلاء الصعاليك، فما أيسر ما يجدون في دروبها الملتوية، وشعابها المتعرجة، وطرقها الصاعدة الهابطة، فرصا طيبة تساعدهم على الهرب، وما أكثر ما يجدون في كهوفها المتعددة، وثناياها الغامضة المحجبة، وصخورها العالية المتناثرة، أماكن صالحة للاختفاء. ففي أخبار تأبط شرا أنه أغار ومعه ابن براقة على بجيلة، فلما خرجت في آثارهما "مضيا هاربين في جبال السراة، وركبا الحزن"3، وفي أخبار مرة بن خليف4 أنه غزا الأزد، "فأسند في جبل لهم منكر، ليجد فرصة فيغير"5. ثم إن هذه المنطقة، رابعا، تعرضت لظروف اقتصادية خاصة، سنعرض لها عند تفسيرنا الاقتصادي لظاهرة الصعلكة. وأشهر الصعاليك الذين انتشروا في هذه المنطقة الجبلية صعاليك فهم وصعاليك هذيل، ومن انضم إلى أولئك وهؤلاء من خلعاء القبائل وشذاذها.   1 semple; influences of geographic environment, P. 586. 2 انظر تفصيل هذا في المصدر السابق: الموضع نفسه. 3 الأغاني 18/ 211. 4 ينص الأغاني على أنه من صعاليك فهم "18/ 215". 5 ابن حبيب: المحبر/ 198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وقد قدمنا أن قبيلة هذيل كانت تنزل من تلك المنطقة الجيال جنوبي مكة، وكان لهم صدور أوديتها وشعابها الغربية1 التي تلي الرملة من تهامة2، وكانت تجاورهم في جبالهم فهم3، وكانت سراة فهم تجاور سراة ثقيف4 التي تقع إلى جانب الطائف5. وقد اتجهت أكثر غزوات صعاليك هذه المنطقة إلى ديار بجيلة، وهي إحدى القبائل التي عرفت بالضعف6. ويبدو أن من أسباب هذا نزول بجيلة "في حضرة الطائف"7 هذا الأقليم الشديد الخصب، ومجاورتها سراة فهم نتيجة لذلك. ولهذا نلاحظ أن تابط شرا الفهمي، ورفاقه من صعاليك فهم، ومن شذاذ القبائل الذين كانوا يصحبونه، كانوا مفتونين بالإغارة على هذه المنطقة، ففي أخباره أنه خرج في عدة من فهم "حتى بيتوا العوص، وهم حي من بجيلة، فقتلوا منهم نفرا، وأخذوا لهم إبلا"8، وأنه أغار "ومعه ابن براق الفهمي على بجيلة فأطردا لهم نعما"9، وأنه خرج ومعه صاحبان له "يريدون الغارة على بجيلة"10، و"أنه خرج غازيا يريد بجيلة فأخذوا نعما لهم"11، وفي أخبار صعاليك هذيل أنهم كانوا يغزون بجيلة أيضا12. وقد اتجهت غزوات صعاليك هذيل إلى منطقة مكة أيضا، بحكم قربهم   1 البكري: معجم ما استعجم 1/ 88. 2 السيوطي: المزهر 2/ 300. 3 البكري: معجم ما استعجم 1/ 88. 4 المصدر السابق/ 15. 5 المصدر نفسه/ 67. 6 w. robertson smith; kinship and marriage in early arabia, P. 170. "f.n". " 7 البكري: معجم ما استعجم 1/ 90. 8 الأغاني 18/ 215. 9 المصدر السابق /211. 10 المصدر نفسه /217. 11 المصدر نفسه /213. 12 السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 233، 234. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 منها، ففي أخبار الأعلم الهذلي أنه خرج "هو وأخواه صخر وصخير حتى أصبحوا تحت جبل يقال له السطاع"1، وهو جبل بينه وبين مكة مرحلة ونصف من جهة اليمن2، وفي أخبار بعض الصعاليك الهذليين أنهم كانوا يغيرون على خزاعة3، وكانت خزاعة تقيم بمكة4، ولكن يبدو أن للمسألة جانب آخر اقتصاديا سنحاول استجلاءه في تفسيرنا الاقتصادي لظاهرة الصعلكة. وقد كانت بين هذيل وفهم ثارات5، فكان صعاليك كل من القبيلتين يغيرون على الأخرى، فيتربص بهم صعاليكها، وهكذا. وبيدو أن سر المسألة يرجع إلى الصراع بين الطائفتين على أهداف واحدة، وقد رأينا أن صعاليك هذيل كانوا يغيرون على بجيلة، هدف صعاليك فهم الأول، ويبدو أن كلا من لطائفتين كانت تريد أن تكون لها وحدها السيطرة المطلقة على هذه المنطقة الخصبة. أما منطقة اليمن فقد عرفت أجزاؤها القريبة من الحجاز، وبخاصة ديار خثعم، صعاليك من فهم وصعاليك من الأزد، ففي أخبار تأبط شرا أنه "أغار على خثعم"6، وفي أخبار حاجز الأزدي أنه جمع "ناسا من فهم وعدوان، فدلهم على خثعم، فأصابوهم غرة وغنموا ما شاءوا"7، وكانت خثعم تنزل تربة وبيشة وظهر تبسالة على محجة اليمن من مكة إليها8، وهي منطقة خصبة "بها من النخل والفسيل شيء كثير"9، وبعض أوديتها،   1 الأغاني 20/ 20. 2 ياقوت: معجم البلدان 5/ 81. 3 السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 161، وديوان الهذليين 2/ 142. 4 تاريخ ابن خلدون 2/ 71. 5 انظر أمثلة على هذه العداوات في السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 233، 243، 247، 253، 257. 6 الأغاني 18/ 216، 217. 7 الأغاني 12/ 51 "بولاق". 8 البكري: معجم ما استعجم 1/ 90 وأيضا/ 63. 9 ياقوت: معجم البلدان 2/ 334. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 وبخاصة وادي بيشة، ينتمي إلى أطيب مناطق بلاد العرب، وأكثرها خصبا1، ويصف ياقوت بيشة بأنها "قرية غناء في واد كثير الأهل من بلاد اليمن"2. وكذلك تعرضت سراة الأزد لبعض الغزوات، فقد كان الشنفرى يغير من ديار فهم على الأزد فيمن معه من فهم أحيانا، ووحده أكثر الأحيان3، وفي أخبار مرة بن خليف "أنه غزا الأزد"4. ويبدو أن من أسباب ذلك أن سراة الأزد كانت تجاور سراة فهم، فسراة الأزد تتلو سراة فهم من ناحية اليمن5، وإن تكن بينهما طائفة من السروات تنزلها قبائل أخرى6، ولكن الأزد كانوا ينزلون منطقة خصبة، فقد كانت منازلهم "أودية مستقبلة مطلع الشمس بتثليث وتربة وبيشة"7 وهي المنطقة التي كانت تنزل فيها خثعم، فقد كانت خثعم تنزل أوساط هذه الأودية8. أما مناطق اليمن البعيدة فقد تخصص في الإغارة عليها السليك، وقد مر بنا أن عمرو بن معديكرب وصفه بأنه بعيد الغارة، وفي أخباره أنه كان "يتجاوز بلاد خثعم إلى من وراءهم من أهل اليمن فيغير عليهم"9، وفيها أنه كان "يغير على اليمن"10، وفيها أنه انطلق مع رجلين ليغيروا "فأتوا جوف مراد"11، وجوف مراد في أرض سبأ12. ومع ذلك فقد كان تأبط شرا يتعدى على اختصاص السليك فيغير على   1 ency. of islam; art, 'asir, P. 487. 2 ياقوت: معجم البلدان 2/ 334. 3 الأغاني 21/ 135. 4 ابن حبيب: المحبر/ 198. 5 الهمداني: صفة جزيرة العرب 1/ 121. 6 المصدر السابق /119. 7 البكري: معجم ما استعجم 1/ 90. 8 المصدر السابق/ 90. 9 الأغاني 18/ 137، 138. 10 المصدر السابق/ 134. 11 ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 215. 12 ياقوت: معجم البلدان 3/ 175. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 هذه المنطقة أحيانا، ففي أخباره أنه خرج يوما "يريد الغارة فلقي سرحا لمراد فأطرده، ونظرت به مراد، فخرجوا في طلبه فسبقهم إلى قومه"1. وكان السليك يعد العدة لتلك الغارات البعيدة التي يضطر معها إلى اختراق المفازة المهلكة التي توصل إلى اليمن، فكان، أولا، لا يغير إلا في الصيف حينما تنقطع إغارة الخيل2، فيضمن بهذا عدم تعرضه لمطاردات الخيل البعيدة المدى، وهو لا يملك إلا قدميه يعدو بهما، ثم كان، ثانيا، يدير "موارد تموينه" في طريق غزواته الجدب، فكان "في الربيع يعمد إلى بيض النعام، فيملؤه من الماء، ويدفنه في طريق اليمن في المفاوز، فإذا غزا في الصيف مر به فاستأثره"3، وكان يعتمد في هذا على خبرته الواسعة بمجاهل الصحراء، فقد كان -كما يصفه الرواة- "أدل من قطاة، يجيء حتى يقف على البيضة"4. والشيء الذي يلفت النظر في صعاليك هاتين المنطقتين الأخيرتين: منطقة السراة الممتدة من مكة حتى أول الطريق الصاعد إلى اليمن، ومنطقة السراة بعد ذلك حتى اليمن، هو أن أكثرهم -إن لم يكونوا جميعا- من العدائين الرجليين الذين يعدون على أرجلهم، فيسبقون الخيل، وقد رأينا أن المثل في سرعة العدو يضرب باثنين منهم هما السليك والشنفرى، وأن الأصمعي يذكر أن في هذيل وحدها أربعين من هؤلاء العدائين، ويذكر السكري "أن هذيلا ليسوا بأصحاب دواب، وإنما هم رجالة"5، وديوان الهذليين ناطق بكثرة عدد هؤلاء العدائين الذين كانوا يعتمدون على العدو في غاراتهم وفي فرارهم، وتشهد بهذا أيضا حماسة البحتري6.   1 الأغاني 18/ 216. 2 المصدر السابق/ 133، 134. 3 المصدر السابق/ 135. 4 المصدر السابق /134. 5 ديوان الهذليين 2/ 76. 6 انظر الباب الخامس والعشرين "فيما قيل في الفرار على الأرجل" / 63-69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ومرد ذلك، عندي، إلى أمرين: أولهما: طبيعة المنطقة الجغرافية، فهي منطقة جبلية تمتد على طول الساحل الشرقي للبحر الأحمر، "مقبلة من قعرة اليمن حتى تبلغ أطراف بوادي الشأم"1 "في عرض أربعة أيام في جميع طول السراة، يزيد كسر يوم في بعض هذه المواضع، وقد ينقص مثله في بعضها"2، وترتفع بعض ذراها إلى خمسمائة وألفين من الأمتار3. وفي الجبال تشتد عضلات الأرجل إلى درجة غير عادية نتيجة لطبيعة الأرض، وما تستلزمه من صعود وهبوط دائمين، ويقرر الدارسون "أن الطبيعة تمنح سكان الجبال عضلات في سقانهم من حديد ليتسلقوا بها المرتفعات"4. والآخر: أن هذه المنطقة الجبلية المجدبة ليست بالمنطقة الصالحة لتربية الخيل؛ لأن الخيل لا تربى إلا في البقاع الخصبة5، ومن هنا اعتمد هؤلاء الصعاليك على أقدامهم في كل تحركاتهم. ولهذا السبب أيضا نلاحظ أن عروة وصعاليكه ممن كانوا يغيرون على منطقة نجد وشمالي الجزيرة العربية لم يذكر عنهم أنهم كانوا من العدائين أو الرجليين، وإنما كانوا يستخدمون الخيل أحيانا6، وذلك لأن هذه المناطق مناطق خصبة تصلح لتربية الخيل، وهم يذكرون أن "في نجد وحدها أعز الخيول العربية وأرشقها"7. والواقع أن هذه الظاهرة، ظاهرة شدة العدو الخارقة للعادة ليست الأمر المستحيل الذي يأباه واقع الحياة، فإننا نجد في حياتنا الواقعية التي تحيط بنا   1 الهمداني: صفة جزيرة العرب 1/ 48. 2 المصدر السابق 1/ 67. 3 جوستاف لوبون: حضارة العرب/ 51. 4 semple; influences of geographic environment, P. 1. 5 جوستاف لوبون: حصارة العرب/ 55. 6 انظر ديوان عروة/ 68، 69، 111. 7 جوستاف لوبون: حضارة العرب/ 55. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 ما يؤيد ما حملته إلينا مصادر الأدب العربي القديم من أخبار تلك السرعة التي عرف بها صعاليك السراة. ومرد المسألة في جميع هذه الحالات إلى تكيف الإنسان عضويا مع البيئة الطبيعية التي يعيش فيها، والحياة التي يحياها بينها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 الفصل الثالث: التفسير الاجتماعي لظاهرة الصعلكة 1- القبيلة : حين ننظر إلى المجتمع الجاهلي في صورته العامة نرى أنه مجتمع قبلي، انقسم فيه العرب إلى وحدات اجتماعية متعددة، عرفت كل منها باسم القبيلة. وقد نزلت كل وحدة من هذه الوحدات الاجتماعية في بقعة من الجزيرة العربية يتوافر فيها الماء والكلأ، واتخذت منها موطنا لها، فإذا ما ساءت ظروفها الجغرافية، فأحالت موطنها إلى بقعة جرداء غير صالحة للحياة، انتقلت منها إلى بقعة أخرى. أما إذا كان الموطن الأول أرضا ذات خصب دائم -نظرا لظروف جغرافية مواتية- فإن القبيلة تستقر فيه استقرارا دائما، وتنشئ فيه قرية. وقد نزلت بعض القبائل العربية في المدن القليلة المبعثرة في أرجاء الجزيرة، واتخذت منها مواطن لها، ولكن يجب أن نلاحظ أن هذه القبائل لم تفقد صورتها القبلية، فقد ظلت لكل منها "منازلها الخاصة، ومعاقلها الصغيرة، وساداتها، وشئونها الخاصة"1. ومرد ذلك إلى أن "رابطة القبيلة كانت أقوى من رابطة المدينة، حتى لقد تؤدي الثارات بين قبيلة وقبيلة إلى انقسام المدينة على نفسها"2. ولكن هذه القبائل -مع ذلك- كانت أكثر استقرارا من قبائل البادية؛ لأن وسائل العيش في المدن لا تقع تحت رحمة   1 smith; kinship and marriage in early arabia, P. 2. 2 ibid, P. 2. ولعل من خير الأمثلة على هذا ما كان بين الأوس والخزرج في يثرب، وما كان بين عبد شمس وهاشم في مكة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 الظروف الجغرافية مباشرة، وإنما هي وسائل صناعية تخضع إلى حد بعيد لسيطرة الإنسان. وهكذا نستطيع أن نقول إن القبيلة كانت الوحدة الاجتماعية التي عرفها المجتمع الجاهلي في باديته ومدنه. وأساس تكوين القبيلة الأسرة، ذلك أن المثل الأعلى للعربي أن ينجب أكبر عدد من الأبناء الأشداء حتى تصبح أسرته بين أقاربه ذات شأن يجعلهم يعدونه شيخهم الأكبر، ويدعون أنفسهم أبناءه1، ومن هنا يصح أن يقال إن القبيلة ليست سوى أسرة أكبر حجما2. "وبمضي الزمن تنقسم القبيلة إلى قبيلتين أو أكثر، تضم كل منها سلالة أحد أبناء الجد الأكبر متسمية باسمه، ثم تنقسم هذه القبائل مرة أخرى على أساس القاعدة نفسها، وهكذا يستمر الانقسام"3. وقد أثار بعض الباحثين المحدثين جدلا حول تسلسل القبيلة عن طريق الأب، أو ما يصح أن نطلق عليه "الانقسام الذكرى في القبيلة العربية"، وحاولوا أن يتلمسوا آثار الأمومة في أنساب القبائل العربية، ليثبتوا أن تسلسل القبيلة كان يحدث أحيانا عن طريق الأم4، ولكن الشيء الثابت عند النسابين العرب هو أن كل القبائل العربية "قبائل أبوية تكونت بانقسام جماعة أصلية انقساما يعتمد على القرابة من ناحية الأصول الذكرية"5، والذي يعنينا هنا هو أن أفراد كل قبيلة كانوا يؤمنون بأنهم أبناء لأب واحد، فهم يؤلفون أسرة واحدة قائمة بذاتها لا اختلاط فيها، متجانسة لا تباين بين أفرادها، متآلفة لا شذود بين أعضائها، يعمل الجميع في سبيل هدف واحد وهو المحافظة عليها. وقد نشأ عن هذا الإيمان "بالأسرية" إيمان بوحدة اجتماعية تغلغل في نفوس أبناء القبيلة، نشأ عنه أن كان إحساسهم بالشذوذ في هذه الوحدة إحساسا قويا أصيلا. ومن هنا كان حرصهم على أن تظل هذه الوحدة قائمة كما هي، نقية كما آمنوا بها، يخرجون منها ما يرونه شوائب فيها، ولا يُبقون إلا ما هو صالح للمحافظة عليها، ولا يسمحون لغريب بأن يدخل في مجموعها إلا بشروط خاصة، ووفقا لتقاليد معينة، وداخل نطاق محدد، وسنرى أن هذه المسألة تحمل أول المفاتيح الاجتماعية لظاهرة الصعلكة.   1 ENCY. OF ISLAM; ART. ARABIA, P. 373. 2 SMITH; KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA, P. 3. 3 IBID.; P. 4. 4 انظر في هذا المصدر السابق، وانظر أيضا كتاب "الأمومة عند العرب" للمستشرق الهولندي G.A. WILKEN. الذي ترجمه عن الفرنسية الأستاذ بندلي صليبا الجوزي. انظر في مناقشة هذه الآراء البحث الذي نشره الأستاذ عبد الوهاب حمودة في مجلة كلية الآداب بجامعة القاهرة، المجلد 14، الجزء الأول، مايو 1952 تحت عنوان "نظرية الأنساب في الميزان". 5 SMITH KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA P. 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 2- إيمان القبيلة بوحدتها : عرفت القبيلة هذا الإيمان بالوحدة أمرا مقدسا، وترتبت عليه طائفة من التقاليد الاجتماعية كانت بمثابة "دستور" ينظم سياستها، ويحدد ما على أفرادها من واجبات وما لهم من حقوق. والأساس الذي تقوم عليه نصوص هذا الدستور "العصبية" والمقصود بها "النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة"1، أو هي إحساس الفرد برابطته القبلية، وواجب تأييد مصالحها، والعمل لها بكل ما يملك من قوة2. وينص هذا الدستور فيما يتصل "بالسياسة الداخلية للقبيلة" على أن أفراد القبيلة جميعا متضامنون فيما يجنيه أحدهم، أو -كما يقول المثل العربي القديم- "في الجريرة تشترك العشيرة"3، وعلى أن هذا "العقد الاجتماعي" بين الفرد   1 مقدمة ابن خلدون/ 128. 2 ENCY. OF ISLAM, ART. ARABIA, P. 376. 3 الميداني: مجمع الأمثال 2/ 17. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 وقبيلته قائم على أساس عاطفي بحت، ولا مجال للتفكير فيه1، وإنما هي النجدة التي تجيب دون أن تسأل2، وهي نجدة عملية سريعة لا تحتمل انتظارا، إجابتها تنفيذها3، وتنص "مواد" هذا الدستور على أن نجدة أبناء القبيلة لأخيهم واجبة سواء أكان جارما أن مجروما عليه، فمبدؤهم الذي يسيرون عليه "انصر أخاك ظالما أو مظلوما"4، فجناية كل فرد منهم جناية المجموع، يعصبونها برأس سيد العشيرة5، ولهم عليه أن يتحمل تبعاتها، وله عليهم أن يطيعوه فيما يأمرهم به. وفي مقابل هذا الحق الذي كان للفرد على القبيلة، كان عليه واجب لها، عليه أن يحترم رأيها الجماعي، فلا يخرج عليه، ولا يتصرف تصرفا بدون رضاها، ولا يكون سببا في تمزيق وحدتها، أو الإساءة إلى سمعتها بين القبائل، أو تحميلها ما لا تطيق6، ومن هنا "فرضت وحدة القبيلة، وتحمل المجموع لتبعات الفرد، على سادتها أن يمارسوا نوعا من الإدارة البوليسية، فإذا ارتكب فرد جرما رفضت القبيلة أن تتحمل نتائجه، وإذا أخطأ في حق قبيلته نفسها، فإنه يطرد منها"7. ويسمى هذا الطرد خلعا، ويسمى   1 لا يسألون أخاهم حين يندبهم ... في النائبات على ما قال برهانا "قريط بن أنيف في حماسة أبي تمام 1/ 9". 2 إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم ... لأية حرب أم بأي مكان "وداك بن ثميل المازني في حماسة أبي تمام 1/ 64". 3 ونجيب داعية الصباح بثائب ... عجل الركوب لدعوة المستنجد "مضرس بن ربعي في المصدر السابق 3/ 102". 4 الميداني: مجمع الأمثال 2/ 242. ولم يعرف العرب في الجاهلية التأويل الإسلامي لهذا المثل من رد الظالم عن ظلمه وكفه عنه. 5 "والعرب تقول: سيد معمم يريدون أن كل جناية يجنيها أحد من عشيرته معصوبة برأسه" "ابن قتيبة: عيون الأخبار 1/ 226". 6 يقول أبو سفيان "لست أخالف قريشا، أنا رجل منها ما فعلت فعلت" "الواقدي: كتاب المغازي/ 200". 7 ency. of islam; art. arabia, pP. 375, 376. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 الطريد "خليعا"1. ويحدث الخلع لأسباب متعددة، تدور كلها حول هذا الأساس، فقد يحدث أن يقتل أحد أفراد القبلة فردا منها، وهنا تجد القبيلة نفسها في موقف حرج، فالقاتل والمقتول كلاهما من أبنائها، ولكل منهما حق الحماية والنصرة. وهنا يضطر سادة القبيلة إلى أن يقوموا بدور الوسيط بين الفريقين، حتى لا يؤدي الأمر إلى انقسام القبيلة على نفسها، "فتجتمع جماعة من الرؤساء إلى أولياء المقتول بدية مكملة، ويسألونهم العفو وقبول الدية، فإن كان أولياؤه ذوي قوى أبوا ذلك، وإلا قالوا لهم: بيننا وبين خالقنا علامة للأمر والنهي، فيقول الآخرون: ما علامتكم؟ فيقولون: أن نأخذ سهما فنرمي به نحو السماء، فإن رجع إلينا مضرجا بالدم فقد نهينا عن أخذ الدية، وإن رجع كما صعد فقد أمرنا بأخذها"، ونتيجة هذا "الإجراء التمثيلي" معروفة طبعا، فما رجع ذلك السهم قط إلا نقيا، وهنا يمسح القوم لحاهم علامة للصلح، ويصالحون على الدية2، وهكذا تحل المشكلة هذا الحل السلمي الذي يحفظ على القبيلة وحدتها. ولكن المشكلة تظل قائمة إذا رفض أولياء الدم الدية، وأصروا على الثأر، وهنا تحل المشكلة على أحد وجهين: إما أن يقتل القاتل بأيدي قومه، وإما أن تخلعه قبيلته3، حتى تترك لأولياء الدم حرية التصرف   1 في لسان العرب: مادة "خلع". والخليع: الرجل يجني الجنايات يؤخذ بها أولياؤه، فيتبرءون منه ومن جنايته، ويقولون إذا خلعنا فلانا فلا نأخذ أحد بجناية تجنى عليه، ولا نُؤاخذ بجناياته التي يجنيها". وفي النهاية لابن الأثير "المادة نفسها" "كانت العرب يتعاهدون ويتعاقدون على النصرة والإعانة، وأن يؤخذ كل منهم بالآخر، فإذا أرادوا أن يتبرءوا من إنسان قد حالفوه أظهروا ذلك إلى الناس، وسموا ذلك الفعل خلعا، والمتبرأ منه خليعا أي مخلوعا، فلا يُؤخذون بجنايته، ولا يُؤخذ بجنايتهم، فكأنهم قد خلعوا اليمين التي كانوا قد لبسوها معه، وسموه خلعا وخليعا مجازا واتساعا". وفي أساس البلاغة "المادة نفسها" "وكان الرجل في الجاهلية إذا غلبه ابنه، أو من هو منه بسبيل، جاء به إلى الموسم، ثم نادى: يا أيها الناس هذا ابني فلان، وقد خلعته، فإن جر لم أضمن، وإن جُر عليه لم أطلب، يريد قد تبرأت منه". 2 البغدادي: خزانة الأدب 2/ 137. ويسمى هذا السهم الاعتذار، كما يسمى أيضا العقيقة. 3 smith; kinship and marriage in early arabia, P. 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 بدون أن تتعرض وحدتها للتداعي، أو يخلع هو نفسه، فيفر من قبيلته نجاة بحياته. وعلى كلا الوجهين تكون القبيلة قد تصرفت في حدود "دستورها" الذي ينص على أنه "يجب على أهل القاتل ألا يحموه إذا قتل أحدا من دمه"1، وذلك لأن رابطة القبيلة أقوى من رابطة الأسرة2. وقد يحدث أن تتعدد جرائر أحد أفراد القبيلة حتى تجد نفسها عاجزة عن نصرته؛ لأن في هذا تكليفا لها لا تطيقه، وعبئا ثقيلا عليها تنوء به، وتهديدا دائما لسلامتها، وإراقة لدماء أبنائها بدون مبرر، فتضطر إلى التخلص من هذا الفرد، مفضلة أن تضحي بفرد واحد على أن تضحي بجماعة من أفرادها، ملقية عليه تبعات جرائمه، يتحملها هو وحده، فتخلعه3. وقد يحدث أن يسوء سلوك أحد أفراد القبيلة من الناحية الخلقية، حتى يصبح وجوده بينها وصمة في جبينها، وسبة في مجدها وشرفها، وحطا من قدرها بين القبائل، فترى أنها أمام عضو فاسد لا يرجى إصلاحه، ضرره أكثر من نفعه، فتتبرأ من نسبته إليها، حرصا على سمعتها، وإبقاء على كرامة المجموع من أن يسيء إليها فرد، فتخلعه4. هذه أهم الجرائم التي كانت القبيلة تحكم على من يرتكبها من أفرادها بالخلع، وهي كلها تدور حول محور واحد، هو خروج الفرد على وحدة   1 ibid,. P. 43. 2 ibid,. P. 4. 3 في أخبار امرئ القيس أنه لما خرج مطالبا بدم أبيه نزل بعامر بن جوين "وعامر يومئذ أحد الخلعاء الفتاك قد تبرأ قومه من جرائره" "الأغاني 9/ 95، والبغدادي: خزانة الأدب 1/ 24". وفي أخبار عبد الله بن جدعان أنه كان "شريرا فاتكا، لا يزال يجني الجنايات، فيعقل عنه أبوه، حتى أبغضته عشيرته، ونفاه أبوه، وحلف ألا يؤويه أبدا، لما أثقله به من الغرم، وحمله من الديات" "السهيل: الروض الأنف 1/ 92". 4 smith; kinship and marriage in early arabia, P. 49. وفي أخبار البراض بن قيس الكناني أنه "كان سكيرا فاسقا، خلعه قومه، وتبرءوا منه" "الأغاني 19/ 75". وفي معلقة طرفة حديث عن تهالكه على الخمر واللذات واستهتاره بكل شيء حتى تحامته العشيرة كلها، وأفرد أفراد البعير المعبد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 القبيلة، وتصرفه تصرفا فرديا بدون رضاها أو الرجوع إليها، فتجد القبيلة نفسها أمام فرد "شاذ" خرج على إجماعها، ورفض السير في ركابها، وترى أنه بتصرفه هذا قد ترك لها حرية التصرف، وأنها أصبحت في حل من ذلك العقد الاجتماعي الذي يربطها به، فلم تعد مسئولة عما يفعل، فتتبرأ منه وتطرده من حماها، وتسحب منه "الجنسية القبلية"، وتعلن أنها قد خلعته، وأن صلته بها قد انقطعت، وحمايتها له قد انتهت، وتضامنها معه قد انحلت عقدته. وكان هذا الخلع يتخذ صورة إعلان رسمي يذاع على الناس في المواسم والأسواق، ليكون في ذلك إشهاد لهم عليه1، وقد يبعثون مناديا بذلك2، وقد يكتبون به كتابا3، وبهذا تسقط حقوق الفرد على قبيلته "فلا تحتمل جريرة له، ولا تطالب بجريرة يجرها أحد عليه"4. وهنا يجد الخليع نفسه أمام مشكلة خطرة، هي مشكلة الحياة أو الموت. لقد سحبت منه "الجنسية القبلية"، ورفعت القبيلة عنه حمايتها، وطردته من حماها، ولم تعد أمامه إلا أحد أمرين: إما أن يفر إلى الصحراء ليلاقي مصيره في البادية القاسية فقيرا مفردا، لا اعتماد له على أحد، ولا على شيء، وإما أن يلجأ إلى من يحميه ويعيش في جواره، ومن هنا كانت نشأة قانون آخر من قوانين المجتمع الجاهلي، وهو "قانون الجوار"5. وقد قدس المجتمع الجاهلي هذا القانون تقديسا كبيرا، وكان مما يفخر به   1 انظر الزمخشري: أساس البلاغة، مادة "خلع". وقد خلعت خزاعة قيس بن الحدادية "بسوق عكاظ، وأشهدت على أنفسها بخلعها إياه" "الأغاني 13/ 2 بولاق". 2 خلع بنو سهم في الجاهلية عمرو بن العاص، كما خلع بنو مخزوم عمارة بن الوليد؛ إذ هما في الحبشة، خشية أن يتعدى أحدهما على الآخر فتُؤخذ عشيرته به"، "وتبرأ كل قوم من صاحبهم ومما جرا عليهم، فبعثوا مناديا ينادي بمكة بذلك" "الأغاني 9/ 57". 3 انظر جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 4/ 19، وانظر أيضا: lammens; la mecque a la veille de l'hegire, P. 164 = 242. 4 الأغاني 13/ 2 "بولاق". وانظر أيضا ابن حبيب: المحبر/ 195. 5 في القاموس المحيط "مادة الجور": الجوار أن تعطي الرجل ذمة فيكون بها جارك فتجيره، والجار أيضا الحليف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 العربي أن يكون ملاذا لكل خائف، وملجأ لكل طريد؛ لأن في ذلك اعترافا بقوته ومروءته وكرمه، وهي فضائل يعتز كل عربي بأن تُنسب إليه، حتى لقد اشتهر بعض أشراف العرب بإجارة الخلعاء وحمايتهم1. وكانت الصلة بين الجار والمجير تختلف -بطبيعة الحال- وفقا للظروف، فكانت أحيانا مؤقتة، وكانت أحيانا أخرى دائمة، بل وراثية، وفي بعض الحالات كان المجير يتعهد بأن ينصر جاره على عدو معين فقط، وفي حالات أخرى كان يتعهد بإجارته من كل الأعداء، بل من الموت نفسه، وكان هذا يعني أن يدفع المجير إذا مات جاره، وهو في جواره، دية لأسرته2، "وأقوى هذه الحالات على الإطلاق هي تلك التي يتعهد المجير لجاره بأن يثأر له حتى من أخيه الصميم"3. ومن هنا كان العرب يسمون جارهم هَدْيَهم أو هديّهم "يحرم عليه منه ما يحرم من الهدي"4، وهي تسمية تشعرنا بتلك القداسة التي كانت للجوار في نفوس العرب، فهو عندهم شيء مقدس، كأنه قربان يتقربون به إلى الآلهة. ومما يلقي الضوء على هذه الفكرة أن بعض المكيين كانوا يقسمون على حمايتهم لجارهم في الكعبة، وكان هذا القسم يتخذ صورة إعلان عام،   1 كان الزبير بن عبد المطلب في مكة "ينزل عليه الخلعاء" "ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 229" وقد لجا مطرود بن كعب الخزاعي "إلى عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بجناية كانت منه، فحماه وأحسن إليه" "المزرباني: معجم الشعراء/ 375"، ونزل البراض الكناني بعد خلعه "على حرب بن أمية فحالفه، فأحسن حرب جواره" "الأغاني 19/ 75"، وكان حاجز الأزدي حليفا لبني مخزوم "الأغاني 12/ 49 بولاق". 2 SMITH KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA, P. 50. وانظر في الإجارة من الموت قصة الأعشى مع عامر بن الطفيل في الأغاني 9/ 120، 121. 3 SMITH; KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA, P. 51. وفي أخبار أوفى بن مطر المازني أن رجلا جاوره "ومعه امرأة له، فأعجبت قيسا أخاه، فجعل لا يصل إليها مع زوجها، فقتل زوجها غيلة، فبلغ ذلك أوفى، فقتل قيسا أخاه بجاره" "ابن حبيب: المحبر/ 348". 4 لسان العرب: مادة "هدي": والهدي: القربان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 ولا يستطيعون التحلل منه إلا في الكعبة أيضا1. وفي مقابل هذه الحقوق التي كانت للجار، كانت عليه واجبات لمن أجاروه. وتتلخص هذه الواجبات في أن يحترم الجوار، ولا يسيء إلى من أجاروه، لا في أشخاصهم ولا في سمعتهم، لا في حياتهم المادية ولا في حياتهم المعنوية. فإذا ما رأت القبيلة ما يسيئها من جارها كان لها الحق في أن تخلعه، وتتحلل من التزاماتها له. ومن هنا كانت تتعدد استجارة الخليع بالقبائل في بعض الأحيان2. ومع ذلك فلم تكن حياة هؤلاء الخلعاء في جوار من استجاروا بهم طيبة دائما، فقد كان يحدث أحيانا أن يسيء المجير معاملة جاره، ويستغل تلك الظروف الحرجة التي يمر بها فيغدر به3، وكان يحدث أحيانا أخرى أن يعجز المجير عن رد العدوان عن جاره، إما لضعفه وإما لعدم اهتمامه به4. وعلى كل حال فحسب هؤلاء المستجيرين هوانا لنفوسهم أن ديتهم كانت نصف دية ابن القبيلة الصريح5. وحين نقف لنتأمل حياة هؤلاء المستجيرين نجد أننا أمام طائفتين: طائفة استقر بها المقام في القبيلة التي أجارتها، فاندمجت في مجتمعها، وطابت لها   1 SMITH; KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA, P. 51. 2 في أخبار البراض أنه بعد أن خلعه قومه لجأ إلى بني الديل، فشرب فيهم "فخلعوه، فأتى مكة وأتى قريشا فنزل على حرب بن أمية فحالفه، فأحسن حرب جواره، وشرب بمكة حتى هم حرب أن يخلعه" "الأغاني 19/ 75". 3 كان أبو جندب الهذلي جارا لبني نفاثة "جاورهم حينا من الدهر، ثم إنهم ذكروا أن يغدروا به" "السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 93". 4 استجار أبو الطمحان القيني بعبد الله بن جدعان التيمي "ومعه مال له من الإبل، فعدا عليه قوم من بني سهم، فانتحروا ثلاثة من إبله"، ثم عاودوا عليها الكرة، "فاستاقوها كلها، فأتى عبد الله بن جدعان يستصرخ، فلم يكن فيه ولا في قومه قوة بني سهم، فأمسك عنهم ولم ينصره" "الأغاني 16/ 69". واستجار محرز بن المكعبر الضبي ببني عدي من تميم "فاغار بنو عمرو بن كلاب على إبله فذهبوا بها، فطلب إليهم أن يسعوا له، فوعدوه أن يفعلوا"، ولكنهم لم يفعلوا شيئا، مما اضطره إلى الالتجاء إلى بعض بني مازن" "شرح التبريزي على حماسة أبي تمام 4/ 15". 5 الأغاني 3/ 19 سطر 18، ص26 سطر 4، 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 الحياة الجديدة، وشاركت في ضروب نشاطها، وسلكت سبل العيش معها في هدوء واستقرار، وطائفة أخرى لم تزل في نفوسها بقية من تمرد، رفضت هذا الفناء الجديد في شخصية القبيلة التي أجارتها، فكانت حياتها فيها امتدادا لحياتها القديمة في القبيلة التي خلعتها. ويخرج هؤلاء "الشذاذ"1 على حياتهم الجديدة، ليجدوا في الصحراء متسعا لنشاطهم المتمرد الذي لا يحتمله مجال القبيلة الضيق، وليشقوا طريقهم في الحياة بأسلوبهم الذي اعتادوا عليه، دون أن يعتمدوا على أحد سوى قوتهم، وأغراهم على هذا أنهم كانوا واثقين من أنهم "إذا أخفقوا فلن يعدموا أن يجدوا سيدا أو حيا يستقبلهم ويضمن لهم ملجأ"2. ويبدو أن هؤلاء الشذاذ المتمردين كانوا ينظرون إلى القبائل التي يستجيرون بها على أنها "نقط ارتكاز" لنشاطهم، وإلى حياتهم فيها على أنها فترات راحة في حياتهم العنيفة. وحين نعود إلى أخبار صعاليك العرب لننظر فيها على ضوء هذا "المصباح الاجتماعي" نجد أن طائفة كبيرة منهم من الخلعاء والشذاذ. فقد كان قيس بن الحدادية "صعلوكا خليعا"3 خلعته قبيلته خزاعة لأنه اشترك مع جماعة من أسرته في قتل أحد أفراد قبيلتهم، وعجزوا عن دفع الدية، ففروا هاربين، "فنزلوا في فراس بن غنم، ثم لم يلبثوا أن أصابوا أيضا منهم رجلا، فهربوا، فنزلوا في بجيلة على أسد بن كرز فآواهم، وأحسن إلى قيس، وتحمل عنهم ما أصابوا في خزاعة وفي فراس"4 وفي خبر آخر أنه بعد خلعه "نزل عند بطن من خزاعة يقال لهم بنو عدي عمرو بن خالد،   1 في لسان العرب "مادة شذ": "وقوم شذاذ إذا لم يكونوا في منازلهم ولا حيهم ... وشذاذ الناس الذين يكونون في القوم ليسوا في قبائلهم ولا منازلهم". وفي أساس البلاغة "المادة نفسها" "شذ عن الجماعة شذوذا انفرد عنهم، وهو من شذاذ القوم: من الذين هم فيهم وليسوا منهم". 2 LAMMENS; LE BERCEAU DE I'ISLAM, VOL. I, P. 194. 3 الأغاني 13/ 2 "بولاق". 4 المصدر السابق/ 4، 5. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 فآووه وأحسنوا إليه"1. والظاهر أن هذا كان قبل استجارته ببني فراس. وألف قيس بعد خلعه عصابة من صعاليك العرب جمع فيها "شذاذا من العرب وفتاكا من قومه"2، ويغلب عليَّ الظن أن هؤلاء الفتاك هم أولئك الذين اشتركوا معه في حادثة القتل التي كانت سببا في خلعه. وكان أول ما فعلته هذه العصابة أن حاولوا الانتقام لأنفسهم من أولئك الذين كانوا سببا في خعلهم، فأغاروا عليهم وقتلوا منهم رجلا واستاقوا أموالهم3، وهكذا أثبت لقومه الذين خلعوه أنه قادر على أن يقف في وجههم برغم أنه "خليع مطرد"، على حد تعبيره في بعض أبياته4، وأنه لا يتورع عن قتل أي فرد من قومه وقف في طريقه، وأنه قادر على أن يسلبهم تلك الأموال التي كان حرمانه منها سببا في عجزه عن دفع الدية ثم في خلعه نتيجة لذلك. ومع ذلك فقد كان قيس نبيلا في موقفه من أولئك الذين لم يكن لهم ضلع في خلعه، فقد لحقه بعد هذه الغارة "رجل من قومه كان سيدا، وكان ضلعه مع قيس فيما جرى عليه من الخلع يقال له ابن محرق، فأقسم عليه أي يرد ما استاقه، فقال: أما ما كان لي ولقومي فقد أبررت قسمك فيه، وأما ما اعتورته أيدي هذه الصعاليك فلا حيلة لي فيه، فرد سهمه وسهم عشيرته"5. وهكذا كان قيس الصعلوك "سيدا" في موقفه، فرق بين أولئك الذين كانوا سببا في خلعه وبين سائر عشيرته ممن لم يكن لهم يد في هذا الخلع، وفرق بين مركزه زعيما لعصابة لأفرادها حق في الغنيمة لا يجوز حرمانهم منه، وبين مركزه طالبا الانتقام من جماعة معينة. وظل هذا الصعلوك المتمرد يجمع الخلعاء والشذاذ ويغير بهم، حتى قتل   1 المصدر السابق/ 5. 2 المصدر نفسه/ 2. 3 المصدر نفسه/ 2. 4 المصدر نفسه/ 5. 5 المصدر نفسه/ 2، والضلع -بفتح الضاد- الميل. واعتوروا الشيء: تداولوه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 وهو خليع قتلة كان فيها شجاعا حتى النهاية1، وقبل أن يوشك سراج حياته على الانطفاء تذكر تلك الحادثة التي كانت سببا في تلك الحياة القاسية التي عاشها طريدا مشردا، حادثة خلعه، فأخذ ينشد وهو يقاتل نشيدا فيه حسرة، وفيه شجاعة واعتداد بالنفس2، حسرة على حياته التي ذهبت مع الريح، بعد أيام شباب جميلة قضاها في حمى القبيلة، في اللهو تارة، وفي الجد تارة أخرى3، عضوا عاملا في مجتمع القبيلة، يدافع عنها، ويشيد بمفاخرها، ويهجو أعداءها4، بل يقودها أحيانا في شجاعة إلى مواقع النصر5. وكذلك كان أبو الطمحان القيني من هذه الطائفة من الخلعاء الشذاذ، ولم تحدثنا أخباره عن سبب خلعه، ولكني أرجح أنه خُلع لسوء أخلاقه، ويصفه ابن قتيبة بأنه "كان فاسقا"6، ويقدمه صاحب الأغاني بأنه "أدرك الجاهلية والإسلام فكان خبيث الدين فيهما"7، ويصفه بعض رواة الأغاني بأنه "كان فاسقا خاربا"8، وقد سئل عن "أدنى ذنوبه" كأنه كان معروفا بكبائره، فاندفع يقص في استهتار قصة ليلة ارتكب فيها أربع موبقات9، فإذا كانت هذه أدنى ذنوبة فليس من شك في أنه كان مستهترا استهتارا فاضحا. وقد تقلبت الأيام بأبي الطمحان تقلبا عنيفا، فقضى حياة مضطربة،   1 الأغاني 13/ 8 "بولاق". 2 المصدر السابق/ 8، وانظر أيضا كتاب من نسب إلى أمه من الشعراء لابن حبيب ص6. 3 فيوماي يوم في الحديد مسربلا ... ويوم مع البيض الأوانس لاهيا "الأغاني 13/ 8 بولاق". 4 انظر أخبار ذلك في المصدر السابق/ 3، 4، 5. 5 انظر ذلك في المصدر نفسه ص3. 6 الشعر والشعراء /229. 7 الأغاني 11/ 130 "بولاق". 8 المصدر السابق/ 132. 9 ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 229، والأغاني 11/ 132 "بولاق". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 لم تكد تعرف طعم الاستقرار إلا في فترات متقطعة، متنقلا بين أحياء العرب مستجيرا بها، لا يكاد يستقر في جوار حتى يحدث ما يعيده إلى حياة الاضطراب مرة أخرى. وهو يشكو في شعره مر الشكوى من غدر من يستجير بهم: أجد بني الشرقي أولع أنني ... متى أستجر جارا وإن عز يغدر إذا قلت أوفى أدركته دروكة ... فيها موزع الجيران بالغي أقصر1 ويبدو أن شاعرنا الصعلوك كان سيئ الحظ مع جيرانه، فقد كان مجاورا في بطن من طيئ يقال لهم بنو جديلة، "فنطح تيس له غلاما منهم فقتله" فتعلقوا أبا الطمحان وأسروه حتى يؤدي ديته مائة من الإبل، فاستنجد بنزيله، مصورا في أبيات له ذل موقفه، وحسرته على بعده عن قومه2 ويشاء سوء حظه مرة أخرى أن تقتتل طيئ فيها بينها، وتتحزب حزبين، وينهزم حزب جديلة الذي كان مجاورا فيهم، ويؤسر أبو الطمحان في هذا القتال "أسره رجلان من طيئ واشتركا فيه"، فاشتراه منهما أحد أفراد القبيلة، بعدما بلغته أبيات له يمدح فيها قومه، فمدحه أبو الطمحان بقصيدة، فجز الطائي ناصيته وأعتقه3، وهكذا أنقذه شعره من سوء حظه مرتين. وحدث أنه استجار مرة بعد الله بن جدعان التيمي، فعدا عليه قوم من بني سهم ونهبوا إبله كلها، فأتى عبد الله بن جدعان يستصرخه، ولكنه لم يستطع أن ينصره؛ لأنه لم يكن فيه ولا في قومه قوة ببني سهم، فأنشد أبو الطمحان أبيات يحن فيها إلى وطنه وأهله وأيامه بينهم، ويندب سوء حظه، ثم ارتحل عنهم4.   1 الأغاني 11/ 151 "دار الكتب"، 16/ 69. ورواية البيتين في هذا الموضع الأخير تختلف بعض الاختلاف اللفظي عن روايتهما في الموضع الأول؛ ولكنه اختلاف لا يغير المعنى أي تغيير. 2 الأغاني 11/ 133 "بولاق". 3 المصدر السابق/ 132 و133، وانظر بيتا له في مدح بني لأم في الشعر والشعراء/ 230. 4 الأغاني 16/ 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 ويبدو أن سوء حظه مع جيرانه قد فارقه بعد ذلك، فقد نزل على الزبير بن عبد المطلب بن هاشم بمكة، فطال مقامه لديه، ولكنه كان كثير الشوق إلى أهله، شديد الحنين إليهم، فاستأذن الزبير في الرجوع إليهم، "وشكا إليه شوقا لهم فلم يأذن له، وسأله المقام، فأقام عنده مدة"، ثم عاوده الحنين مرة أخرى، فأتاه وأنشده أبياتا يصور فيها هذا الحنين الجارف، فلما أنشده إياها أذن له فانصرف1. ولكن يظهر أن تمرد أبي الطمحان لم يفارقه بعد ذلك، فقد جنى جناية وهرب من بلاده، "ولجأ إلى بني فزارة، فنزل على رجل منهم يقال له مالك بن سعد أحد بني شمخ، فآواه وأجاره، وضرب عليه بيتا، وخلطه بنفسه، فأقام مدة، ثم تشوق يوما إلى أهله وقد شرب شرابا ثمل منه، فقال لمالك: لولا أن يدي تقصر عن دية جنايتي لعدت إلى أهلي، فقال له: هذه إبلي فخذ منها دية جنايتك، وازدد ما شئت، فلما أصبح ندم على ما قاله، وكره مفارقة موضعه، ولم يأمن على نفسه"، فأتى مالكا وأنشد أبياتا يمدحه فيها مدحا قويا، هو من غير شك صادر من أعماق نفسه، يصور تقديره لذلك السيد النبيل، ويصرح له فيها بأنه قرر البقاء في جواره، فقد أصبح كأنه واحد منهم: وقد عرفت كلابكم ثيابي ... كأني منكم ونسيت أهلي "فقال مالك: مرحبا فإنك حبيب ازداد حبا، إنما اشتقت إلى أهلك، وذكرت أنه يحبسك عنهم ما تطالب به من عقل أو دية، فبذلت لك ما بذلت وهو لك على كل حال، فأقم في الرحب والسعة، فلم يزل مقيما عندهم حتى هلك في دارهم"2 بعد أن امتدت به الحياة حتى بلغ أرذل العمر3.   1 الأغاني 11/ 134 "بولاق"، والشعر والشعراء/ 229. 2 الأغاني 11/ 132 "بولاق". 3 يذكر أبو حاتم السجستاني أنه عاش مائتي سنة "كتات المعمرين/ 62". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 وهكذا قضى هذا الصعلوك السيئ الحظ حياته الطويلة مشردا حتى تداركته يد هذا السيد النبيل في أخريات أيامه، ولكن أمنيته الكبرى -مع ذلك- لم تتحقق، فقد قُضِي عليه أن يموت بعيدا عن أهله الذين طالما استبد به الحنين إليهم. هذه هي الصورة التي استطعت أن أكونها عن هذا الجانب من حياة أبي الطمحان من مجموعة أخباره القليلة المتناثرة التي لم تحاول مصادرها أن ترتبها ترتيبا يعطينا صورة كاملة متصلة لحياته الطويلة المضطربة، وهي صورة شخص "بوهيمي" قلق، مفرط الحساسية، قوي العاطفة، سيئ الحفظ، لولا أن تداركته العناية الإلهية في أخريات أيامه، فأدرك الإسلام، وأسلم، وإن لم ير النبي صلى الله عليه وسلم1، ولكنه ظل خبيث الدين في إسلامه، كما كان خبيث الدين في جاهليته.   1 يقول ابن حجر عنه إنه "أدرك الإسلام" "الإصابة في تمييز الصحابة 2/ 66"، ويضعه في القسم الثالث من كتابه فيمن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يره "ص53 من الجزء نفسه، وانظر مقدمة الكتاب 1/ 4". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 3- إيمان القبيلة بجنسها : كما آمنت القبيلة بوحدتها هذا الإيمان العميق الذي ترتب عليه ظهور هذه الطائفة من التقاليد الاجتماعية التي تحدثنا عنها، آمنت بجنسها، وذلك لأن من الأسس التي قامت عليها القبيلة العربية إيمان أبنائها "برابطة الدم"، أي أنهم جميعا من دم واحد. وقد أثار بعض المستشرقين تشكيكا في "رابطة الدم" هذه: أهي رابطة حقيقية أم رابطة مدعاة؟ 1 وليس يعنينا هنا هذا التشكيك؛ لأن مناقشته والانتهاء إلى رأي فيه إنما تكون في مجال دراسة أصول القبائل العربية وأنسابها، وليس هنا مجال هذه الدراسة، وإنما الذي يعنينا هنا هو أن "كل الأفراد الذين ينتمون إلى قبيلة واحدة كانوا يعدون أنفسهم من دم واحد"2، وأنهم جنس واحد، متشابه العناصر والمقومات، لا يختلف أفراده إلا بمقدار ما يختلف أبناء الأسرة الواحدة، بل إن بعض الباحثين المحدثين يرى أن أفراد الحي الواحد من القبيلة كانوا لا يعدون أنفسهم من "دم واحد" فحسب، ولكن من "لحم واحد" أيضا، ومن ملاحظاته التي يؤيد بها رأيه ما تستعمله اللغة العربية من لفظة "اللُّحمة" في التعبير عن معنى القرابة3، ولعل فيما عبر به العرب عن بعض أشكال جماعاتهم بالبطن والفخذ ما يصور ذلك الإحساس الذي كان يحسه العربي بتلك الصلة "الجسدية" التي تربطه بجماعته. وقد نشأ عن هذا الإيمان بوحدة الجنس في نفوس أبناء القبيلة إيمان بامتيازه، فقد آمنوا بأنهم جنس ممتاز لا تفضلهم قبيلة أخرى4، وهم يفضلون كل القبائل5، آباؤهم أشرف آباء6، وأمهاتهم أكرم أمهات7، وهم أجدر الناس بأن يكونوا خير الناس8، ولعل في هذا الإيمان بامتياز الجنس ما يفسر   1 انظر: SMITH; KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA, PP. 1, 62; & ZWEMER ARABRA, THE GRADLE OF ISLAM, P. 159. 2 SMITH; KINSHIP & MARRIAGE IN EARLY ARABIA, P;. 25. 3 IBID.; P. 175. 4 حديا الناس كلهم جميعا ... مقارعة بنيهم عن بنينا "عمرو بن كلثوم في معلقته". يقول التبريزي: "قالوا معنى حديا الناس كما تقول واحد الناس، وقيل: معناه نحن أشرف الناس". "شرح القصائد العشر/ 232". 5 #إني لمن قوم بنى الله مجدهم على كل باد في الأنام وحاضر# "المرزباني: معجم الشعراء/ 227". 6 إنا بني نهشل لا ندعي لأب ... عنه ولا هو بالأبناء يشرينا "حماسة أبي تمام 1/ 51". 7 وأماتنا أكرم بهن عجائزا ... ورثن العلا عن كابر بعد كابر "المرزباني: معجم الشعراء/ 227". 8 ونحن بنو ماء السماء فلا نرى ... لأنفسنا من دون مملكة قصرا "حماسة أبي تمام 1/ 130". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 تلك المنافرات التي امتلأت بها أخبار العصر الجاهلي، وذلك الفخر الذي تدوي أصداؤه في قصائد شعرائه. ومما شجع على هذا الإيمان بامتياز الجنس في نفوس أبناء القبيلة صلات العداوة بين القبائل المختلفة التي كانت تسيطر على الحياة الاجتماعية في العصر الجاهلي، فقد "كانت كل قبيلة تؤلف وحدة مناوئة لكل القبائل الأخرى"1. وقد نشأ عن هذا "الإيمان بوحدة الجنس وامتيازه" طائفة من التقاليد تنظم العلاقات بين الطبقات الاجتماعية في القبيلة. والناظر في تكوين القبيلة الاجتماعية يستطيع أن يميز ثلاث طبقات اجتماعية: الصرحاء، والعبيد، والموالي. أما الصرحاء فهم في عرف القبيلة أبناؤها ذوو الدم النفي الذي لا تشوبه شائبة، الذين ينتمون جميعا إلى أب واحد، والذين تتمثل فيه العصبية القبلية بأقوى معانيها. ومنهم تتكون الطبقة "الأرستقراطية" في القبيلة، وفيهم رياستها، وبيوتات الشرف فيها. وتعتمد هذه "الأرستقراطية" أول ما تعتمد على النسب2، ومن هنا كان حرص هذه الطبقة على أن يظل دمها نقيا، وعلى أن تجمع الشرف من "كلا طرفيه": الآباء والأمهات، فلا يكون في أحد طرفي الشرف ما يشينه3. وأما طبقة العبيد فقد كانت تتألف من عنصرين: عنصر عربي، وهم أولئك الأسرى الذين كانوا يقعون في أيدي القبيلة في حروبها مع القبائل الأخرى، وعنصر غير عربي، وهو أولئك الرقيق الذين كانوا يجلبون من البلاد المجاورة للجزيرة العربية.   1 ZWEMER; ARABRA, THE GRADLE OF ISLAM, P. 159. 2 انظر ابن خلدون: المقدمة، الفصل الحادي عشر والثاني والثالث عشر من الباب الثاني من الكتاب الأول/ 131-135. 3 الأغاني 11/ 86 "بولاق". ويقول معقل بن خويلد: بنو فالج قومي وهم ولدوا أبي ... وخالي ثمال الضيف من آل فاتك "السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 121". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 وقد قلنا إن الصلات بين القبائل العربية كانت صلات خصام، ومن هنا كانت الحرب دائما قائمة بينها، "وكان سبي الرجال والنساء على السواء أمرا أساسيا في كل غارة"1، ومن الطبيعي أن يكون تعرض النساء للسبي أكثر من تعرض الرجال2، فإن ضعف المرأة في هذه الحالة من الصراع المستمر في الجزيرة العربية يجعلها دائما في مركز الضحية3. وبقدر ما كان العربي يأنف من قتل سبيته لما فيه من نزول بمروءته، كان حرصه على سبي أكثر عدد ممكن من النساء لأن في هذا إهانة لأعدائه. وقد كان يحدث أحيانا أن يفاجأ كل نساء الحي، وهم خلوف، فيؤخذن سبايا4. ومن هنا "كانت حماية النساء والأطفال خطة أساسية في فنهم الحربي"5، ومن هنا أيضا كانت المقدرة على حماية "الظعينة" عنصرا أساسيا من عناصر البطولة العربية جعلهم يطلقون على بعض أبطالهم لقب "حامي الظعينة" أو "فارس الظعينة"6. وقد كان يحدث أحيانا أن تبيع القبيلة أساراها، فقد اشتعلت حرب بين لحيان وخناعة "فكان بعضهم لا يزال يغزو بعضا، فإذا أصابت بنو لحيان من خناعة أحدا باعوه"7، وكان زيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم من قضاعة "أصابة سباء في الجاهلية لأن أمه خرجت به تزور قومها   1 SMITH; KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA, P. 89. وقد وفد سميفع بن ناكور الكلاعي على عمر بن الخطاب "وله أربعة آلاف أهل بيت قن من العرب مماليك أسرهم في الجاهلية" "نقائض جرير والفرزدق 1/ 46". 2 SMITH; KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA, P. 295. وأخبار سبي النساء في العصر الجاهلي كثيرة. "انظر: الأغاني 3/ 75-78، 11/ 172 بولاق، 19/ 158، ونقائض جرير والفرزدق 1/ 13، وديوان عروة/ 169، 170". 3 LAMMENS; LE BERCEAU DE I'ISLAM, VOL. I, P. 280. 4 انظر نقائض جرير والفرزدق 1/ 145، والأغاني 21/ 63، 64. 5 SMITH; KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA, P. 295. 6 القالي: الأمالي 2/ 271. 7 السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 100. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 بني معن، فأغارت عليهم خيل بني القين بن جسر فأخذوا زيدا، فقدموا به سوق عكاظ، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة بنت خويلد، وقيل اشتراه من سوق حباشة"1، وكانت أم عمرو بن العاص "من بني عترة أصابتها رماح العرب فبيعت بعكاظ"2، وفي أخبار خناعة أنهم أسروا سيدا من سادة العرب "فباعوه بمكة"3. ومن هذا نرى أن بيع القبائل العربية لأساراها كان منتشرا في أسواق مكة بالذات، ويرينا ديوان الهذليين أنه كانت بمكة تجارة منتظمة في الرقيق تروجها الحروب التي كانت لا تنقطع بين القبائل المجاورة4. وكان يحدث أحيانا أن يرد إلى أسواق مكة رقيق من أسرى العرب من المناطق البعيدة عنها، فقد كان أبو صهيب، سنان بن مالك، ينزل بأرض الموصل عاملا لكسرى على الأبلة، "فأغارت الروم على تلك الناحية فسبوا صهيبا، وهو غلام صغير، فنشأ بالروم، فابتاعته كلب منهم، ثم قدمت به مكة فاشتراه عبد الله بن جدعان"5. أما العنصر الآخر الذي شارك في تكوين طبقة العبيد في القبيلة العربية، وهو العنصر غير العربي، فقد كان مصدره البلاد المجاورة لجزيرة العرب كالحبشة وما حواليها من الأمم، فكان تجار الرقيق يحملون العبيد والإماء من هذه البلاد إلى جزيرة العرب يبيعونهم في أسواقها بالمواسم6، ولم يكن ينظر إلى المسألة من جانبها الإنساني، وإنما هي تجارة كسائر التجارات تتخذ منها القبائل وسيلة للربح، فقد "كانت قريش تتجر بالرقيق مثل إتجارها بسائر   1 ابن الأثير: أسد الغابة في معرفة الصحابة 2/ 224. 2 المصدر السابق 4/ 116. 3 السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 116. 4 SMITH; KINSHIP AND MARRIAGE IN EARLY ARABIA, P. 89. 5 ابن قتيبة: المعارف/ 114. 6 جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 4/ 20. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 السلع1 وكانت هذه التجارة منتشرة بالذات في بني تميم2، وكان عبد الله بن جدعان التميي رئيس قريش في حرب الفجار من أشهر تجار الرقيق في الجاهلية3. وكان هؤلاء الأرقاء المجلوبون كثيرين في المجتمع الجاهلي، وكان كل شريف من أشراف العرب يحرص على ألا يخلو منزله منهم، فقد كان لعبد الله بن أبي ربيعة مثلا عبيد من الحبشة يتصرفون في جميع المهن، وكان عددهم كبيرا، حتى لقد عرض على النبي صلى الله عليه وسلم أن يستعين بهم في عزوة حنين4. وأما الطبقة الثالثة في المجتمع القبلي، وهي طبقة الموالي، فقد كانت تتألف من العتقاء، ومن العرب الأحرار الذين لجئوا إلى القبيلة من قبائل أخرى، وعاشو في حمايتها، أو حماية رئيسها أو بعض ذوي النفوذ فيها5. أي أن طبقة الموالي في القبيلة العربية كانت ترجع إلى أصلين: أحرار، وعبيد، أما الأحرار فهم أولئك اللاجئون إلى القبيلة، أو إلى أحد أفرادها، من خلعاء القبائل، طالبين الحماية والنصرة، وكانوا يسمون أحيانا "الحلفاء"، وأما العبيد فهم أولئك الذين أعتقهم سادتهم من نير الرق فظلوا مرتبطين بهم برابطة الولاء6. وهذه الطبقة كانت تؤلف طبقة مكانتها الاجتماعية بين الطبقتين السابقين،   1 جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 4/ 20. 2 lammens; la mecque a la veille de l'hegire, p. 167 = 263. 3 جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 4/ 21. 4 الأغاني 1/ 65. وقد اتخذ بعض الشعراء من عبيد آل أبي ربيعة مادة لفنهم "انظر البيت الوارد في المصدر نفسه/ 64 لأبي ذؤيب الهذلي الذي يشبه فيه حمار الوحش بعبد منهم". 5 smith kinship and marriage in early arabia, pp. 47, 48. 6 في لسان العرب "مادة ولي": "والمولى الحليف وهو من انضم إليك فعز بعزك وامتنع بمنعتك ... والمولى المعتق انتسب بنسبك"، وهكذا يشير هذا المعنى اللغوي لهذين النوعين الاجتماعيين من طبقة الموالي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 فالمولى عند العرب وسط بين العبد والحر1 "وأحط منزلة من الحر وأرفع من العبد"2. آمنت القبيلة العربية بهذه الطبقات الاجتماعية، وعرفت لكل طبقة منزلتها، وما لها من حقوق، وما عليها من واجبات، وتعارفت على الصلات التي تكون بين أفراد كل طبقة وأفراد الطبقتين الأخريين. وما أظن أننا في حاجة إلى القول بأن طبقة العبيد كانت في حالة اجتماعية سيئة في هذا المجتمع الأرستقراطي3 الذي يؤمن بوحدته وبجنسه إيمانا عميقا، والذي يمثل العنجهية الجاهلية بكل ما فيها من معاني الطغيان والجبروت والاستبداد أقوى تمثيل، حتى لنجد أن هذه الطبقة كانت من أسرع الطبقات استجابة إلى دعوة الإسلام الذي ضمن لهم حقوقهم، ونظم علاقاتهم بساداتهم تنظيما إنسانيا عادلا، والذي أتاح لهم فرصا كثيرة للعتق والتحرر. وليس من شك في أن حياة هذه الطبقة كانت سلسلة من الذل، تبدأ منذ أن يشتري السيد عبده، ويقوده إلى منزله ليتصرف فيه كيف شاء. ولم يكن يعهد للعبيد إلا بتلك الأعمال التي يأنف السادة من القيام بها، وهي تلك التي سميناها "الأعمال الفرعية في المجتمع القبلي"، فإذا مات السيد ورث ورثته عبيده كما يرثون سائر متاعه إلا إذا كان قد أوصى لهم بحريتهم بعد موته4. ومع ذلك، ومع حرص العربي على الشرف في كلا طرفيه، كان يحدث أحيانا أن يتزوج العربي من أمته، ولكن المجتمع الجاهلي كان يرى في هذا الزواج زواجا غير متكافئ، ومن هنا أطلق على ثمرته اسما خاصا، فسمى ابن العربي من الأمة "هجينا"5، ومن الطبيعي ألا ينظر إلى هذه الصلة   1 جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 4/ 21. 2 المصدر السابق/ 24. 3 lammens; le berceau de i'islam, vol. i, p. 198, p. 277. 4 جرجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 4/ 20. 5 في القاموس المحيط "مادة هجن". "والهجين: اللئيم، وعربي ولد من أمة أو من أبوه خير من أمه"، ويقول المبرد "والهجين عند العرب الذي أبوه شريف وأمه وضيعة، والأصل في ذلك أن تكون أمة" "الكامل/ 302". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 نظرة احترام، فقد كانت كل أمة عندهم تدعى فرتنى أو ترنى1، وكانت طبقة العاهرات تتألف عادة من الإماء أو ممن أعتق منهن2، ولم يكن العربي يعرف لهؤلاء الإماء "مساواة في الحقوق ولا مساواة في المعاملة"3. ويبدو أن المسألة لم تكن أكثر من نزوة جنسية، فقد كان أبغض ما يبغضه العربي أن تلد أمته منه4، ومن هنا كانوا يستعبدون أولاد إمائهم5، ويرفضون الاعتراف بهم إلا إذا أبدوا نجابة ممتازة، فإنهم حينئذ يلحقونهم بنسبهم6. وكان أسوأ هؤلاء الهجناء حظا، وأوضعهم منزلة اجتماعية، أولاد الإماء السود الذين سرى إليهم السواد من أمهاتهم، فقد كانوا سبة يعير بهم آباؤهم7. ومرد ذلك من غير شك إلى ظاهرة اللون، فقد كان العرب يبغضون اللون الأسود بقدر ما يحبون اللون الأبيض، وقد وصفوا كل شيء ممدوح عندهم ماديا كان أو معنويا بالبياض8، وكان مما يمدح به الرجل أو يفتخر به أنه أبيض9،   1 نقائض جرير والفرزدق 1/ 41 و63 و64، وشرح السكري على أشعار الهذليين 1/ 46 و235. ومن معاني هاتين الكلمتين "البغي، المرأة الزانية" "انظر مادتي "ترن" و"فرتن" في المعجمات اللغوية". 2 smith kinship and marriage in early arabia, pp. 168-169. 3 lammens; le berceau de l'islam, vol. l, p. 277. 4 "إنا قوم نبغض أن تلد فينا الإماء" "الأغاني 20/ 165". 5 انظر: الأغاني 8/ 237، 239، وابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 130، والبغدادي: خزانة الأدب 1/ 62. 6 الأغاني 8/ 237، وانظر المثل على هذا في إلحاق عنترة بابيه في المصدر نفسه/ 237، 239 وفي الشعر والشعراء/ 130، 131. 7 كان لعمرو بن شأس "امرأة من قومه وابن من أمة سوداء يقال له عرار فكانت تعيره إياه" "شرح التبريزي على حماسة أبي تمام 1/ 149". 8 "إذا قالت العرب فلان أبيض، وفلانة بيضاء فالمعنى نقاء العرض من الدنس والعيوب، وإذا قالوا فلان أبيض الوجه، فلانه بيضاء الوجه، أرادوا نقاء اللون من الكلف والسواد الشائن" "لسان العرب: مادة "بيض". 9 "بيض الوجوه على العدو ثقال" "الفرزدق في نقائض جرير والفرزدق 1/ 287"، "من كل أبيض يستضاء بوجهه" "جرير في نقائض جرير والفرزدق 1/ 301"، "بيض الوجوه مصانع لسن" "قيس بن عاصم المنقري في شرح التبريزي على حماسة أبي تمام 4/ 68". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 ومن سمات جمال المرأة أن تكون بيضاء1، وهو أيضا دليل على شرفها، فقد كان مما يمدح به الرجل أنه ابن بيضاء2، بل إنهم كانوا يفخرون بأن سباياهم من النساء البيض3. ومن هنا أطلقوا على هؤلاء السود اسما خاصا تمييزا لهم من سائر إخوانهم الهجناء، فسموهم "الأغربة" تشبيها لهم بذلك الطائر البغيض المشئوم في لونه الأسود4، ونسبوهم في أكثر الحالات إلى أمهاتهم5. ويخرج هؤلاء "الأغربة" إلى الحياة، وقد وسمتهم الطبيعة بذلك اللون الذي يبغضه مجتمعهم، والذي لا بد لهم فيه، ولا خروج لهم منه، فإذا هو يحول من البدء دون أن يعترف بهم آباؤهم، ثم إذا هو بعد ذلك يقف صخرة تتحطم عليها آمالهم في أن يشاركوا في الحياة الاجتماعية كما يشارك غيرهم، ولا يهيئ لهم إلا فرصة ضيقة للحياة على هامش المجتمع حياة ذليلة محتقرة يخدمون فيها سادتهم ويقومون لهم بتلك الأعمال الفرعية التي يأنفون هم من القيام بها، أما الأعمال الأساسية فلا يقوم بها إلا أبناء الحرائر6، فما يحسن هؤلاء الأغربة أولاد الإماء السود غير "الحلاب والصر" كما يقول أحدهم   1 "مهفهفة بيضاء غير مفاضة" "امرؤ القيس في معلقته"، "ومن كل بيضاء رعبوبة" "المبرد الكامل/ 305". 2 "هو ابن لبيضاء الجبين نجيبة" "العجير السلولي في الأغاني 11/ 154 بولاق". 3 رحلنا من الأجيال أجيال طيئ ... نسوق النساء عوذها وعشارها ترى كل بيضاء العوارض طفلة ... تفري إذا شال الشمال صدارها "عروة بن الورد في ديوانه /171". 4 في لسان العرب "مادة غرب" "وأغربة العرب سودانهم، شبهوا بالأغربة في لونهم"، وفي تاج العروس "المادة نفسها" "وكلهم سرى إليهم السواد من أمهاتهم" ويقول أبو عبيدة: "وإنما سموا أغربة لأن أمهاتهم كن سودا" "كتاب الشعراء، مخطوط، فصل من غلب اسم أمه على اسم أبيه، ورقة رقم 31". 5 انظر كتاب "من نسب إلى أمه من الشعراء" لابن حبيب، وانظر فصل "من غلب اسم أمه على اسم أبيه" في كتاب الشعراء، وانظر أيضا ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 131، والأغاني 8/ 240. 6 #لا يكشف الغماء إلا ابن حرة يرى غمرات الموت ثم يزورها# "حماسة أبي تمام 1/ 25"، ويقول التبريزي: "يعني أن أبناء الحرائر هم الصابرون على المكابرة في ابتناء المجد واكتساب الشرف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 -عنترة بن زبيبة الأمة السوداء- في سخرية لاذعة من تلك الأوضاع الاجتماعية التي وضعها السادة البيض وآمنوا بها1. ومع ذلك فقد يبدي أحد هؤلاء الأغربة امتيازا في ناحية من النواحي، فتشعر القبيلة أنها أمام فرد تستطيع أن تنتفع به، فيمحو هذا الامتياز عنه معنويا سواد لونه، فيعترف به أبوه، وتعمل القبيلة على تقريبة من مركز الدائرة، ليقوم بدوره في أعمال القبيلة الأساسية، كما حدث لعنترة الذي أصبح بعد اعتراف أبيه به، لشجاعته الفائقة في دفاعه عن قبيلته، عنترة بن شداد العبسي2. ولكن لم تكن الفرصة التي أتيحت لعنترة بالتي تتاح لكل أولئك الأغربة الذين كان يغص بهم المجتمع الجاهلي3، كما أن منهم من كان يرفض تلك الحياة "الهامشية"، ويتمرد على ذلك الوضع الاجتماعي الذليل المحتقر الذي فرض عليه؛ لأن لديه من القوة النفسية ما يجعله يرفض قبوله، ومن القوة الجسدية ما يمكنه من رفع راية العصيان في وجه هؤلاء السادة4. وقد خرج هؤلاء الأغربة الأقوياء على أوضاع القبيلة، ورفضوا الحياة الذليلة التي فرضتها عليهم، وخرجوا من حماها، ليشقوا طريقهم في الحياة بالأسلوب الذي يضمن لهم حياة كريمة حرة تعتمد على القوة في سبيل الحصول على الحق. ومن هؤلاء   1 ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 130، والأغاني 8/ 239. 2 المصدران السابقان: الشعر والشعراء/ 130، 131، والأغاني 8/ 239، 240. 3 يحاول بعض رواة الأدب العربي أن يجددوا عدة أغربة العرب فبينما يحددهم بعضهم بثلاثة "ابن قتيبة في الشعر والشعراء/ 131"، وابن الكلبي في الأغاني 8/ 240، وأبو عبيدة في كتاب الشعراء - مخطوطة - ورقة رقم 31"، يحددهم آخرون بأربعة "النيسابوري في لطائف المعارف - مخطوطة - ورقة 87"، ويحددهم غيرهم بسبعة "ابن الأعرابي في المزهر 2/ 269"، ويحددهم آخرون بأكثر من ذلك "ابن حبيب في المحبر/ 307 وما بعدها، ولسان العرب، وتاج العروس، مادة غرب"، وعندي أن هذه الإحصائيات لا قيمة لها، فإن هذا شيء أكثر من أن يُحصى، ويبدو أن المقصود بها هو تسجيل أسماء المشهورين منهم. 4 يصفهم النيسابوري بأنهم "سودان شجعان" "لطائف المعارف - مخطوطة - ورقة رقم 87". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الأغربة المتمردين تألفت جماعات من صعاليك العرب. وحين نعود إلى شعرائنا الصعاليك لننظر إليهم في ضوء هذا "المصباح الاجتماعي" نجد أن طائفة منهم تألفت من هؤلاء الأغربة. فالسليك بن السلكة1 السعدي يصفه ابن قتيبة بأنه "أحد أغربة العرب وهجنائهم وصعاليكهم"2، ويصفه المبرد بأنه "كان من غربان العرب"3، ويصفه النيسابوري بأنه كان أسود4، ويقدمه ابن قتيبة في أول ترجمته بأنه "منسوب إلى أمه"5، ويترجم له ابن حبيب في كتابه "من نسب إلى أمه من الشعراء"6، ويصفها ابن قتيبة بأنها "كانت سوداء"7، ويصفها المفضل بأنها "كانت أمة سوداء"8، وكذلك يصفها النيسابوري9، ويذكر عنها المبرد أنها "كانت سوداء حبشية"10، ويضعه ابن حبيب بين "أبناء الحبشيات"11. وتأبط شرا من هذه الطائفة أيضا يضعه صاحب لسان العرب نقلا عن ابن سيده عن ابن الأعرابي بين أغربة العرب، وكذلك يفعل صاحب تاج العروس نقلا عن التهذيب والمحكم ولسان العرب12، ويضعه ابن الأعرابي في   1 هي أمه "تاج العروس مادة سلك، والأغاني 18/ 133، وابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 131، وابن حبيب: كتاب المغتالين - مخطوطة - ورقة رقم 86، والمحبر/ 308، والمبرد: الكامل/ 298، والآمدي: المؤتلف والمختلف/ 137، والبغدادي: خزانة الأدب 2/ 17، والنيسابوري: لطائف المعارف - مخطوطة - ورقة رقم 76، والسيوطي: المزهر 2/ 269". 2 الشعر والشعراء/ 214. 3 الكامل /298. 4 لطائف المعارف "مخطوطة" ورقة رقم 77. 5 الشعر والشعراء/ 213. 6 الميداني: مجمع الأمثال 1/ 399. 9 لطائف المعارف "مخطوطة" ورقة رقم 76 رقم 77. 10 الكامل/ 298. 11 المحبر/ 307 و308. 12 مادة "غرب". وخطأ ما ذكراه من أنه من الإسلاميين، فكل المصادر التي بين= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 نوادره بين أغربة الجاهلية1، ويذكر FRESNEL أنه ابن أمة2، ويذكر صاحب الأغاني أن اسمها أميمة3، ولكنه يقول "يقال إنها من بني القين بطن من فهم"4، ولعل في هذا التشكيك الذي تثيره صاحب الأغاني حول نسبتها إلى بني القين ما يقلل أهمية هذا الخبر. ومن الحق أن المصادر التي تعرضت لتأبط شرا، ما عدا تلك المصادر التي ذكرته بين أغربة العرب، لم تذكر شيئا صريحا عن أصل أمه، على كثرة ما تعرضت لها، ولكن من الحق أيضا أن هذه المصادر صورتها في صورة امرأة غير محترمة، تؤخذ بول ابنها إذا غزا5، وتسعى في قتله ليخلو لها الجو مع زوج تزوجها بعد أبيه6، وتتحدث هي نفسها بأنها حملت به في ليلة ظلماء وإن نطاقها لمشدود7، وتحدثنا أخبارها بأن أولادها الخمسة كانوا يحملون ألقابا عجيبة تعطينا فكرة عن هوان المنزلة الاجتماعية لهذه الأسرة8. ومن الطبيعي أن تكون صلة هؤلاء الأغربة بأمهاتهم أقوى من صلتهم بآبائهم، وقد رأينا أن أكثرهم قد نسبوا إليهن، وهي ظاهرة يصح أن نطلق عليها "العصبية النسائية في حياة أغربة العرب". ومرد هذا من غير شك إلى إنكار آبائهم لهم منذ أول حياتهم، وإهمالهم شأنهم بعد ذلك، فنشئوا في رعاية أمهاتهم، أو في إهمالهن، لا يرون لهم أحدا سواهن، فتعصبوا لهن وتعصبن لهم، ويصرح   = أيدينا -ما عداها- مجمعة على أنه جاهلي، وكل أخباره تؤيد هذا. 1 السيوطي: المزهر 2/ 269. 2 lettres sur l'histoire des arabes avant l'islamisme "premiere lettre, p. 108". 3 الأغاني 18/ 209، وأخطأ الأستاذ BRAU في THE ENCY. OF ISLAM حين ذكر أن اسمها أمينة، ولم يتنبه لهذا الخطأ مترجموا الدائرة إلى اللغة العربية. 4 الأغاني 18/ 209. 5 ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 175. 6 التبريزي: شرح حماسة أبي تمام 1/ 45. 7 المصدر السابق/ 43. 8 الأغاني 18/ 209، وانظر أيضا المرزباني: معجم الشعراء/ 226، والسيوطي المزهر 2/ 275، وانظر لسان العرب وتاج العروس مادة "لغب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 السليك بأن رأسه قد شاب مما تقاسيه خالاته من ضيم وهون ومذلة يعجز لفقره عن إنقاذهن منها1، وهو يذكر هذا في مجال دفاعه عن تصعلكه وفخره به، مما يشعر بأن هذه "العصبية النسائية" كانت من الأسباب الفعالة في هذا التصعلك. وتتحدث أم تأبط شرا عن ابنها حديث المعجبة به، فقد حكى عنها أنها قالت فيه: "إنه والله شيطان، ما رأيته قط مستثقلا ولا ضحكا، ولا هم بشيء مذ كان صبيا إلا فعله"2، وتتحدث عنه مرة أخرى حديثا تبين فيه كيف حملت به، وكيف وضعته، ومدى اهتمامها بتنشئته منذ طفولته الأولى تنشئة قوية3. ومن هنا أيضا كثر رثاء قريبات هؤلاء الأغربة لهم، وحديثهن عن حزنهن عليهم، فقد رثت السليكة ابنها السليك بأبيات رائعة تفيض حزنا وتفجعا، تصور فيها مصابها الشديد فيه، وحسرتها البالغة عليه4، ورثت أم تأبط شرا ابنها بقطعتين مسجعتين لعلهما تمثلان مرحلة من مراحل أولية الشعر العربي، لم تنس فيهما أن تصور بطولته وشجاعته5، وكذلك فعلت أخته ريطة   1 المبرد: الكامل/ 299، والبغدادي: خزانة الأدب 3/ 286، ويقول المبرد "وإنما توجع لخالاته لأنهن كن إماء" "2/ 299"، وانظر الأبيات كلها وشرحها في الكامل 2/ 298 وما بعدها. 2 التبريزي: شرح حماسة أبي تمام 1/ 43. 3 المبرد: الكامل/ 79، والجاحظ: الحيوان 1/ 286، ولسان العرب، وتاج العروس، مادة "وضع"، مع بعض الخلاف اللفظي، وزيادات في العبارات في بعض المصادر، لعلها من صنع الرواة، رغبة منهم في إطالة هذه السجعات، ولعل أصح هذه الروايات رواية الكامل ورواية الحيوان. 4 التبريزي: شرح حماسة أبي تمام 2/ 191، 192، وأسامة بن منقذ: لباب الآداب/ 183، ويقال إنها لأم تأبط شرا "المعري: شرح حماسة أبي تمام - مخطوطة بدار الكتب - ورقة رقم 5، وانظر أيضا شرح التبريزي 4/ 186 و187"، ولكن التبريزي يرجح أنها لأم السليك "ص192"، وتُروى في العقد الفريد "3/ 261، 427" الأعرابي مجهول في قصة واحدة في الموضعين، ولكن يلاحظ أن القصة لا تتفق مع الأبيات، وبخاصة البيت الثالث "ص261" فليس هناك محل لهذا التساؤل في البيت ما دامت القصة تذكر أن أفعى لدغت ابن هذا الأعرابي فمات. 5 لسان العرب، المواد "قرب - هوف - هيف". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 فقد رثته برجز تحدثت فيه عن مكارم أخلاقه1، وكذلك فعلت أخت حاجز الأزدي، فقد رثته ببيتين تصور فيهما حسرتها على فقده، وحيرتها لاختفائه2، ورثت عمرا ذا الكلب3 أخته جنوب بمجموعة من القصائد الممتازة4. وقد انضمت هذه الطائفة من الصعاليك الأغربة إلى الطائفة السابقة من الصعاليك الخلعاء والشذاذ، ليشتركوا جميعا في العمل ضد هذا المجتمع الذي فقدوا توافقهم الاجتماعي معه، إما لأنه تخلى عن رعاتيهم كما في حالة الأغربة، وإما لأنه تخلى عن حمايتهم كما في حالة الخلعاء الشذاذ.   1 ابن حبيب: كتاب المغتالين "مصورة بدار الكتب" لوحة رقم 83 ورقم 84، ولسان العرب مادة "رخم"، وينسب هذا الرجز إلى أمه "ياقوت: معجم البلدان 4/ 242 مادة رخمان". 2 الأغاني 12/ 52 "بولاق". 3 ينص صاحب الفلاكة والمفلوكين نقلا عن بعض مصادره على أنه من صعاليك العرب/ 119. 4 السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 241-246، وانظر أيضا الأغاني 19/ 23، وحماسة ابن الشجري/ 82، 83 مع بعض الاختلاف في الألفاظ وترتيب الأبيات وعددها، وتنسب بعض هذه الأبيات إلى أخت عمرو "ريطة" " الأغاني 19/ 23" وإلى أخته "عمرة" "شرح أشعار الهذليين 1/ 244". ولكن هذا الاختلاف في كل هذه المواضع لا يغير من الفكرة التي نقررها شيئا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 4- الصعاليك والمجتمع القبلي : الظاهرة المهمة التي تلفت النظر في حياة صعاليك العرب الاجتماعية هي فقد الإحساس بالعصبية القبلية التي كانت قوام المجتمع الجاهلي، وتطورها في نفوسهم إلى "عصبية مذهبية". وهي ظاهرة من السهل تعليلها بعدما فهمنا الظروف الاجتماعية التي وجد فيها هؤلاء الصعاليك، فأما الخلعاء والشذاذ فقد تخلت قبائلهم عنهم، وسحبت منهم "الجنسية القبلية"، فكان من الطبيعي أن يفقدوا إيمانهم بكل معاني القبلية، وأن يكفروا بتلك العصبية القبلية التي لم يعد لها قيمة في حياتهم، بل قد ينقلبون انقلابا تاما فتصبح صلتهم بقبائلهم صلة عداوة، فيوجهون غزواتهم إليها، كما فعل قيس بن الحدادية لما خلعته قبيلته، فجمع لهم "شذاذا من العرب، وفتاكا من قومه، وأغار عليهم بهم"1، فنحن هنا أمام حالة شاذة في المجتمع الجاهلي، يغير فيها بعض القبيلة على بعضها. وأما الأغربة فقد أدركوا أن قبائلهم لا تكاد تعترف بهم، بل تكاد تنكر صلتها بهم، فلم يكن هناك إذن ما يوجب حرصهم على تلك العصبية القبلية لأنها مرفوضة من جانب القبيلة. وحين ننظر في أخبار صعاليك العرب نلاحظ هذه الظاهرة واضحة تماما، وقد رأينا في غارة قيس بن الحدادية على قومه أنه ألف جماعته من شذاذ من العرب وفتاك من قومه. وفي أخبار حاجز الأزدي أنه جمع "ناسا من فهم وعدوان فدلهم على خثعم، فأصابوهم غرة وغنموا ما شاءوا"2، فهو أزدي وهم من فهم وعدوان. وكان الشنفرى الأزدي يغير أحيانا على الأزد فيمن معه من فهم3، فهو أزدي يتزعم جماعة من فهم، دون أن يجد الفهميون في ذلك غضاضة، وهو يتزعمهم ليغير بهم على قبيلته، دون أن يجد هو في ذلك عارا. وفي أخبار امرئ القيس أنه بعد أن طرده أبوه "كان يسير في أحياء العرب ومعه أخلاط من شذاذ العرب من طيئ وكلب وبكر"4، فنحن هنا أمام جماعة من الصعاليك تألفت من ثلاث قبائل مختلفة. ولعل السليك هو الشذوذ الوحيد لهذا الشذوذ، فقد "كان لا يغير على مضر، وإنما يغير على اليمن، فإذا لم يمكنه ذلك أغار على ربيعة"5، بل إن المسألة عنده لم تقف عند هذا الجانب السلبي، بل كانت أحيانا تتعداه إلى جانب إيجابي يستخدم فيه مواهبه صعلوكا في سبيل قبيلته، ففي بعض أخباره   1 الأغاني 13/ 2 "بولاق". 2 الأغاني 12/ 51 "بولاق". 3 الأغاني 21/ 135. 4 الأغاني 9/ 87. 5 الأغاني 18/ 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 أنه رأى طلائع جيش لبكر بن وائل جاءوا ليغيروا على تميم، فاستغل سرعة عدوه لينذر قومه حتى لا يؤخذوا على غرة1. ولكن من المهم أن نلاحظ أن العصبية القبلية قد تطورت في نفس السليك من عصبية ضيقة الأفق إلى عصبية ذات أفق واسع، ترتفع عن العصبية القريبة التي كانت تؤمن بها القبيلة في حدودها الضيقة إلى عصبية واسعة تشمل الجنس كله الذي تنتمي إليه القبيلة، فهي عصيبة من نوع آخر غير العصبية القبلية التي كانت تؤمن بها كل قبيلة، ويصح أن نطلق عليه "عصبية جنسية". ويجب ألا نفهم من هذا أن السليك كان مرتبطا بقبيلته كسائر أفرادها، فقد كان يحيا حياته الخاصة، حياة التصعلك، خارج قبيلته، دون أن يرتبط بها في شيء، أو يعتمد عليها في شيء. وقد نشأ عن كفر صعاليك العرب بالعصبية القبلية، وإيمانهم بعصبية مذهبية قوامها "الغزو والإغارة للسلب والنهب" أنهم كثيرا ما كانوا يقومون في المجتمع الجاهلي بدور يشبه دور "الجنود المرتزقة" عند الأمم الأخرى، "فما دام هؤلاء الصعاليك لا يعرفون العيش إلا في ظلال سيوفهم، وما داموا لا ينتظرون في حياتهم أي سلام أو أمن، فقد كانوا يقاتلون أحيانا كما يقاتل الأبطال الشجعان، ومن هنا كان الأشراف الذين يرغبون في أن يوجهوا إلى خصومهم ضربة قاصمة يلجئون إلى بسالتهم مفضلين إياهم على رجال قبائلهم"2. وتحدثنا الأخبار أن قوما من شذاذ العرب كانوا يكونون مع الملوك، وكانوا   1 المصدر السابق/ 136، والمبرد: الكامل/ 350، 351، وابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 215، 216، والبغدادي: خزانة الأدب 2/ 17، والميداني: مجمع الأمثال 1/ 431. ومع أن المبرد يسوق القصة في باب يتحدث فيه تكاذيب الأعراب فإن التكذيب ينصب، كما هو واضح من القصة، على سرعة العدو الحارقة للعادة، وهي مسألة لا صلة لها بما نقرره هنا، وقد ناقشنا مسألة العدو في الفصل السابق. 2 lammens; le berceau de i'islam, vol. i, p. 193. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 يسمونهم "الصنائع"1. وفي أخبار امرئ القيس أنه لما خرج ليثأر لأبيه "جمع جمعا من بني بكر بن وائل وغيرهم من صعاليك العرب، وخرج يريد بني أسد"2، وفي مرة أخرى غزاهم "وقد جمع جموعا من حمير وغيرهم من ذؤبان العرب وصعاليكها"3، وأنه لما استنصر مرثد الخير الحميري أمده بخمسمائة رجل من حمير خرج بهم، وتبعه شذاذ من العرب4، وفي أخبار زيد الخيل الطائي أنه "جمع طيئا وأخلاطا لهم، وجموعا من شذاذ العرب، فغزا بهم بني عامر ومن جاورهم من قبائل العرب من قيس"5، وفي أخبار زهير بن جناب أنه جمع بني كلب "ومن تجمع له من شذاذ العرب والقبائل"، فغزا بهم بكرا وتغلب6، وفي أخبار أبي جندب الهذلي أنه خرج ليثأر لأخيه "فقدم مكة فواعد كل خليع وفاتك في الحرم أن يأتوه يوم كذا وكذا فيصيب بهم قومه"7، وفي أخباره أيضا أن بني لحيان قتلوا جارين له، فقدم مكة ولما قضى نسكه "خرج في الخلعاء من بكر وخزاعة، فاستجاشهم على بني لحيان، فخرجوا معه، حتى صبح بهم بني لحيان"8، وفي شعر خفاف بن ندبة إشارة إلى اشتراك الصعاليك في بعض الغزوات9. ولعل من أسباب هذا كثرة الصعاليك وانتشارهم في أرجاء الجزيرة العربية في العصر الجاهلي بصورة واسعة، وقد مر بنا في الفصل الأول أن النعمان بن المنذر لما طلبه كسرى، وهرب مستنجدا بقبائل العرب، نصحه بعضهم بالعودة إلى كسرى، فإن صفح عنه عاد ملكا غزيرا، وإلا فالموت خير من أن   1 الأغاني 9/ 81. 2 العباسي: معاهد التنصيص 1/ 5. 3 البغدادي: خزانة الأدب 3/ 532. 4 الأغاني 9/ 92. 5 الأغاني 16/ 52. 6 الأغاني 21/ 96. 7 المصدر السابق /62. 8 السكري: شرح أشعار الهذليين 1/ 83، 84، والأغاني 21/ 67، 68. 9 الأغاني 2/ 329، والبغدادي: خزانة الأدب 2/ 471. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 يتلعب به صعاليك العرب ويتخطفه ذئابها فتأكل ما له، وفي أخبار معبد بن زرارة "أن قيسا أسرته يوم رحرحان فساروا به إلى الحجاز، فأتى لقيط "أخوه" في بعض الأشهر الحرم، ليفديه فطلبوا منه ألف بعير، فقال لقيط: إن أبانا أمرنا ألا نزيد على المائتين فتطمع فينا ذؤبان العرب"1. وهنا يجدر بنا أن نقف لنلاحظ أن هذا الأسلوب من أساليب العيش الذي سلكه صعاليك العرب لم يكن إلا صورة من الحياة الاجتماعية التي كان يعرفها المجتمع الجاهلي، ذلك المجتمع الذي كان يؤمن بأن "الغزو أدر للقاح، وأحد للسلاح"2. وليس من شك في أن المجتمع الجاهلي كان يؤمن بالقوة إيمانا جعلها من مقومات حياته، وجعل الغزو أساسا من الأسس التي يقوم عليها بناؤه3، "فبقدر ما كان التناصر بين أفراد القبيلة، كان التخاصم بين القبائل في سبيل الشرف والرياسة أو المال والعيش، لذلك كانت حياة القبائل الجاهلية حمراء مصبوغة بالدم"4 يتسابق أفرادها إلى الجهل، بل يحرص كل منهم على أن يجهل "فوق جهل الجاهلينا"5، مؤمنين بالظلم وبأن "من لا يَظلم الناس يُظلم"6، وبأن في الشر نجاة حين لا ينجيك إحسان7، وبأن "الشهرة بالشر خير من ألا أُعرف بخير ولا شر"8. ولعل عمل الصعاليك "كان استئناسا بعمل القبائل معا؛ إذ كانت حياته قائمة إلى حد ما على الغزو والسلب، والفرق بين الصورتين أن عمل القبائل جماعي منظم، وعمل الصعاليك فردى لا نظام له"9.   1 المبرد: الكامل/ 276. 2 ابن قتيبة: عيون الأخبار 1/ 244. 3 lammens; le berceau de i'islam, vol. i, p. 247. 4 أحمد الشايب: تاريخ الشعر السياسي/ 27. 5 عمرو بن كلثوم في معلقته "التبريزي: شرح القصائد العشر/ 249". 6 زهير بن أبي سلمى في معلقته "المصدر السابق/ 127". 7 الفند الزماني "التبريزي: شرح حماسة أبي تمام 1/ 14". 8 الجاحظ: الحيوان 2/ 90. 9 أحمد الشايب: تاريخ الشعر السياسي/ 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 وخلاصة القول أن إيمان القبيلة بوحدتها أوجد في المجتمع الجاهلي طائفة الخلعاء والشذاذ، وأن إيمانها بجنسها أوجد فيه طائفة الأغربة، وأن المتمردين من هاتين الطائفتين من شتى القبائل قد اجتمعوا في عصابات من صعاليك العرب، كافرين بالعصبية القبلية، مؤمنين بعصبية مذهبية قوامها "الغزو والإغارة للسلب والنهب"، معتمدين على قوتهم في سبيل العيش، شأنهم في ذلك شأن المجتمع الذي يعيشون فيه، وإنْ يكن عملهم فرديا فلم يُعترف به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الفصل الرابع: التفسير الاقتصادي لظاهرة الصعلكة 1- العرب والتجارة : عرفت الجزيرة العربية منذ أقدم عصورها النشاط التجاري على صورة واسعة. وقديما ذكر سترابو "أن كل عربي تاجر"1، وهي عبارة -على الرغم مما فيها من إطلاق وتعميم- تسجل الصدى الذي استقر في نفس ذلك الرحالة القديم عن بلاد العرب في أثناء زيارته لها. ويذكر شبرنجر في جغرافيته القديمة للجزيرة العربية أن تاريخ التجارة الأولى هو تاريخ البخور، وأرض البخور هي بلاد العرب2. وأول تجار ورد ذكرهم في التوراة هم العرب3، ويذكر الباحثون أن العرب كانوا "الواسطة بين قدماء الأوربيين والشرق الأقصى"4، و"وأن البيزنطيين كانوا يعتمدون في شئونهم التجارية على قوافل البدو التي كانت تحمل لهم الأحجار الكريمة والتوابل من بلاد الهند الغامضة، والجلود والمعادن والمواد الغريبة والحرير من الصين، لأجل ثياب أباطرتهم وحظاياهم وكهنتهم، والعطور من بلاد المجوس، والبخور من اليمن، والصمغ من إفريقية، لأجل كنائسهم وقصورهم"5. وقد كان لمخازن العرب من   1 lammens; la mecque a la veille de l'hegire, p. 27 = 123; & dermenghem; the life of mahomet, p. 20 & p. 24. 2 zwemer; arabia, the gradle of islam, p. 159. 3 lammens; la mecque a la veille de l'hegire, p. 28 = 124; & dermenghem; the life of mahomet, p. 24. وفي سفر حزقيال "الإصحاح 27" حديث عن تجارة العرب. 4 جوستاف لوبون: حضارة العرب/ 106. 5 dermenghem; the life of mahomet, pp. 25, 26. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الأهمية ما كان لمخازن البندقية إبان عظمتها1، ومنذ عصور سحيقة والقوافل التجارية النشطة تعمل بين مناظق الإنتاج في بلاد العرب السعيدة وبين مدن العراق والشام ومصر2. ويبدو أن هذه الحركة التجارية النشطة التي سالت بقوافلها وديان الصحراء العربية، حتى جعلت من العرب كما يقول بعض المؤرخين "حملة العالم بين الشرق والغرب"3، ترجع إلى تلك الظروف التي كانت تسود العالم القديم في ذلك الوقت، فقد كان الطريق البحري بين الشرق والغرب محفوفا بالأخطار، فإلى جانب "القراصنة" الذين كانوا يهددون أمنه، ويقطعون طرقه، ويأخذون كل سفينة غصبا، كانت الملاحة نفسها متأخرة، ولهذا "انحصرت التجارة -بدون استثناء تقريبا- في البر، وكانت تلك القارة التي هي الآن أكبر عقبة في سبيل الحركة التجارية وسيلتها الأساسية الميسرة، وكانت براري آسيا الوسطى وجزيرة العرب بحار القدماء، وكانت قوافل الإبل سفنهم"4. وكانت التجارة في أول الأمر في أيدي اليمنيين، "فعلى أيديهم كانت تنقل غلات حضرموت وظفار، وواردات الهند، إلى الشام ومصر"5، "وكانت كثرة التجارة مع بلاد العرب الجنوبية تنقل إلى الشام ومصر عن طريق الحجاز"6. وليس من شك في أن هذه الحركة التجارية النشطة التي كان يسيطر عليها الجنوبيون، والتي كانت تتخذ من بلاد الشماليين طريقا لها، أوجدت في نفوس الشماليين رغبة في الأخذ بهذا الأسلوب من أساليب العيش، الذي يرونه يدر على أصحابه رزقا وافرا وثراء عريضا، وغرست في نفوسهم النواة الأولى لحب التجارة التي لم تلبث أن خرجت شجرتها إلى الوجود عندما ضعفت الدولة اليمنية وأخذت في الانحلال. فما كادت القوة الحميرية يدب فيها الوهن في أثناء القرن الخامس حتى سنحت الفرصة لعرب الحجاز للقبض على زمام الحركة التجارية، "ويبدو أن هذه التطورات كانت شديدة التدرج، ولكن الأمر الذي لا ريب فيه هو أنه من قبل أن يبدأ القرن السابع كان طريق الحجاز كله في أيدي العرب الذين ينزلون فيه، والذين جعلوا من مكة مركزا إداريا لهم، يستقبلون فيه البضائع من أيدي اليمنيين، ثم يحملونها شمالا على حسابهم الخاص إلى أسواق سورية ومصر، وربما أيضا إلى فارس، وإن يكن من المعروف أن جزءا من التجارية الفارسية كان في أيدي عرب الحيرة"7.   1 جوستاف لوبون: حضارة العرب/ 106. 2 semple; influences of georaphic environment, p. 506. 3 muir; the life of mohammad, p. xc. 4 ibid; p. xc. 5 أحمد أمين: فجر الإسلام 1/ 15. 6 o.htm'leary; arabia before muhammad, pp. 180, 181. 7 o'leary; arabia before muhammad, p. 181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 2- الطرق التجارية : ولم يكن طريق الحجاز الطريق التجاري الوحيد للقوافل التجارية، وإنما كانت هناك طرق أخرى. ويقرر الدارسون أن "طرق القوافل ليست مسألة اختيار مطلق"1، وإنما هي مسألة "تعتمد على طبيعة الصحاري والجبال وموارد المياه"2، ويلاحظون أن "طرق القوافل في الجزيرة العربية تتبع عادة مجاري الوديان"3، وهذا طبيعي لأنها تتجنب به مجاهل الصحراء ووعورة الجبال، وتضمن طرقا واضحة العالم، محددة المسالك: تكثر فيها نسبيا فرص وجود الماء. وقد عرفت الجزيرة العربية منذ أقدم عصورها طريقين أساسين للقوافل   1 muir; the life of mohammad, p. xc. 2 o'leary; arabia before muhammad, p. 103. 3 zwemer; arabia, the gradle of islam, p. 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 التجارية بين طرفيها الشمالي والجنوبي1. ويبدأ الطريقان من ظفار التي كانت المركز الأساسي لتجارة البخور التي يعتمد عليه الشطر الأكبر من التجارة العربية، ويجري الطريقان إلى الشرق والغرب منها، ليتجنبا اختراق تلك الصحراء الرهيبة المعروفة الآن بالربع الخالي. أما الطريق الشرقي فيمضي متاخما لقوس عمان الساحلي، متجها إلى القطيف على الخليج الفارسي، التي كانت مرفأ تحمل إليه بضائع الهند، ومن القطيف عن طريق تدمر إلى فلسطين وصُور بسورية. وليس من شك في أن هذا الطريق كان الطريق الأساسي الذي تنقل فيه بضائع الهند إلى صنعاء باليمن، ومنها إلى ثغور البحر الأحمر أو إلى الحجاز. وأما الطريق الغربي فيبدأ من ظفار أيضا، ثم يسلك وادي حضرموت إلى شبوة في أقصى طرفه الغربي، حيث يلتقي بطريق فرعي يتصل بعدن، ثم يستمر إلى مأرب، ومنها إلى صنعاء حيث يلتقي مرة أخرى بطريق فرعي يتصل بعدن أيضا، ومن صنعاء يصعد شمالا محاذيا البحر الأحمر، متجنبا في الشرق الصحرء المحرقة اللافحة، وفي الغرب المرتفعات الساحلية الوعرة، حتى يدخل الحجاز بين سلستي الجبال المتوازيتين التي تقع مكة والطائف بينهما، ويمضي شمالا عن طريق وادي القرى إلى العلا، الثغر الأمامي لديار الأنباط، حيث كان يجري تبادل البضائع بين العرب الجنوبيين والأنباط، ثم إلى تيماء حيث تتشعب الطرق، فبعضها يتجه شمالا إلى بصرى وتدمر ودمشق في سورية، وبعضها إلى مصر عن طريق أيلة وغزة والعريش والطرف الشمالي لشبه جزيرة سيناء، وبعضها إلى بابل عن طريق حائل الذي ينحني انحناءة واسعة ليتجنب صحراء النفود القاسية. وإلى جانب هذين الطريقين الأساسيين اللذين يدوران حول صحاري الجزيرة العربية، يوجد طريق ثالث يخترق قلب الجزيرة العربية من مكة في   1 انظر في هذين الطريقين: o'leary; arabia before muhammad, pp. 103-105; & muir; the life of mohammad, p. xc. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 انحناءة حول الحد الشمالي للربع الخالي عن طريق الرياض إلى القطيف على الخليج العربي1. ويبدو أنه كانت هناك طرق أخرى مهمة، ففي الأخبار القديمة أن النعمان كان يبعث بلطيمة كل عام للتجارة إلى عكاظ2، وأن عروة الرحال من بني كلاب أجارها في بعض الأعوام، حتى إذا وصل "إلى أهله دوين الجريب بماء يقال له أوارة" وثب عليه البراض فقتله، ثم مضى هاربا حتى أتى خيبر3. وهنا نتساءل: أي الطرق كانت تسلكها لطائم النعمان في قدومها من الحيرة إلى عكاظ؟ يبدو أن الإجابة عن هذا السؤال تفسرها ظاهرة جغرافية، فهناك واد عظيم يمتد من حرة خيبر التي ترتفع ستة آلاف قدم، مخترقا غربي القصيم بين أبانين حتى يقارب البصر، وهو وادي الرمة الذي يرجحون أنه كان مجرى نهر في عصور ما قبل التاريخ4. وقد قلنا إن طرق القوافل في الجزيرة العربية تتبع مجاري الوديان، ومن هنا نستطيع أن نرجح أن وادي الرمة هو الطريق الذي كانت تسلكه لطائم النعمان، ويؤيد هذا أن المواضع التي ورد ذكرها في قصة عروة الرحال والبراض تقع في هذا الوادي، فالجريب واد عظيم لبني كلاب يصب في الرمة من أرض نجد5، ومنازل كلاب حيث قتل عروة تقع في وسط الرمة أو في أعاليها6، وخيبر التي فر إليها البراض تقع كما رأينا عند بداية الرمة. وبهذا نستطيع أن نحدد ذلك الطريق التجاري الذي كان يخترق شمالي الجزيرة العربية، فهو يبدأ من منطقة الحيرة ثم يمضي مع وادي الرمة حتى يصل إلى خيبر، ومنها عن طريق وادي القرى إلى يثرب، ثم إلى مكة في الطريق الذي يصل بين شمالي الجزيرة العربية وجنوبيها، ومن مكة إلى عكاظ. وقد أشار زويمر نقلا عن بعض مصادره إلى طريق كان "في أيدي العرب الإسماعيليين يخترق وادي الرمة وبلاد نجد إلى حاضرة الحميريين القديمة مأرب"7، ولكنه لم يذكر شيئا عنه أكثر من هذه الإشارة الموجزة، ولعله الطريق الذي حددناه.   1 o.htm'leary; arabia before muhammad, p. 105. 2 انظر في قصة هذه اللطيمة: الأغاني 19/ 75، وابن حبيب: المحبر/ 195، 196. 3 ابن حبيب: المحبر/ 196. 4 the ency. of islam; art, arabia, p. 371. وانظر أيضا معجم البلدان لياقوت، مادة "الرمة" 4/ 290، 291. 5 ياقوت: معجم البلدان، مادة "الجريب" 3/ 91. 6 المصدر السابق، مادة "الرمة" 4/ 290، 291. 7 zwemer; arabia, the gradle of islam, p. 260. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 3- الأسواق : ومن الطبيعي أن تقوم على طول هذه الطرق التجارية، حيث يوجد الماء مجموعة من الأسواق تنزل فيها القوافل التجارية، ويقبل إليها سكان هذه المناطق والمناطق التي تجاورها بسلعهم، ويقوم بين الفريقين تبادل تجاري، ترحل بعده القوافل ببعض ما تنتجه هذه المناطق، ويعود سكان هذه المناطق ببعض ما كانت تحمله هذه القوافل مما يحتاجون إليه ولا تنتجه بلادهم. وقد ذكر اليعقوبي من هذه الأسواق عشرا1، بدأ بها من أقصى الشمال حيث تقام سوق دومة الجندل ثم تتبعها على طول الخليج العربي حيث تقام سوق المشقر بهجر، وسوق صحار، وسوق دَبى2، ثم على طول الساحل الجنوبي للجزيرة العربية حيث تقام سوق الشحر بشحر مهرة، وسوق عدن، وسوق الرابية بحضرموت، وسوق صنعاء، ثم مضى على طول الساحل الشرقي للبحر الأحمر حتى انتهى إلى سوق عكاظ وسوق ذي المجاز بالقرب من مكة، وقد ذكر ابن حبيب هذه الأسواق أيضا3، وأضاف إليها سوقين أخريين:   1 تاريخ اليعقوبي 1/ 313، 314. 2 في المصدر السابق "ريا"، وهو تحريف، صوابه ما ذكرناه هنا. "انظر القاموس المحيط، مادة "دبي" - ومعجم البلدان لياقوت، مادة "دبا" ج4 ص30 - والمحبر لابن حبيب/ 265". 3 المحبر/ 263-267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 سوق حجر التي كانت تقام باليمامة، وسوق نطاة التي كانت تقام بخيبر1. ومن الطبيعي أن هذه الأسواق ليست كل ما كانت تعرفه الجزيرة العربية في جاهليتها، وقد ذكر ابن حبيب أن هذه الأسواق هي "أسواق العرب المشهورة في الجاهلية"2، ومع ذلك فقد عرف العرب الجاهليون أسواقا أخرى مشهورة، فقد عرفت منطقة مكة مع سوقي عكاظ وذي المجاز سوق مجنة3، وعرفت منطقة تهامة سوق حباشة التي أرسلت السيدة خديجة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها4، وفي أخبار الشنفرى أن أعداءه تربصوا له وهو عائد منها5، وكذلك كانت بدر "موسما من مواسم العرب تجتمع لهم بها سوق كل عام"6، وقد عرفت عمان سوقا أخرى مشهورة هي سوق "دما" يذكر عنها ياقوت أنها "كانت من أسواق العرب المشهورة"7، وكذلك كان اليهود يقيمون أسواقا حيث كانوا ينزلون، فقد كان لبني قينقاع سوق في يثرب، "وكانت سوقا عظيمة"، وقد زارها النابغة الذبياني مرة، فلما أشرف عليها سمع بها ضجة حاصت به ناقته منها8، ويذكر المؤرخون أن أهل مكة كانوا يقصدون إلى خيبر ليجلبوا منها حلي آل أبي الحقيق التي كانت نساؤهم تحلين بها9. ومن الطبيعي أن تقوم بخيبر ويثرب أسواق، نظرا لنزول اليهود أصحاب الأموال والتجارة والصناعة فيهما، وقد "كانت التجارة بنوع خاص من أهم مرافق الحياة عند يهود الحجاز، حتى صار   1 المصدر السابق/ 268. 2 المصدر نفسه/ 263. 3 انظر معجم البلدان لياقوت مادة "مجنة" 7/ 390، ومادة "عكاظ" 6/ 203. 4 انظر المصدر السابق مادة "حباشة" 3/ 206. 5 الأغاني 21/ 137. 6 تاريخ الطبري 2/ 276 والمغازي للواقدي/ 37. 7 معجم البلدان 4/ 69 "مادة دما". 8 الأغاني 21/ 92. 9 الواقدي: المغازي/ 277. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 لبعضهم فيها شهرة عظيمة وصيت بعيد"1، وكذلك من الطبيعي أن تقوم بمنطقة مكة تلك المجموعة من الأسواق التي ذكرناها نظرا لأنها كانت أكبر مراكز التجارة في الجزيرة العربية، ونظرا لكثرة وفود العرب التي كانت تهوي إليها في مواسم الحج، وقد كان النعمان يبعث كل عام إلى سوق عكاظ بلطيمة "تباع"، وتُشترى له بثمنها الأدم والحرير والوكاء والحذاء والبرود من العصب والوشي والمسير والعدني"2. ونستطيع أن نقرر، ونحن مطمئنون، أنه على طول الطرق التجارية كانت تقوم الأسواق، وأن هذه الأسوق كانت تكبر حول مراكز التجارة الأساسية. ونستطيع أن نقسم هذه الأسواق إلى مجموعتين: فهناك أسواق تقع في بلاد فيها هيئة حاكمة ذات قوة تنفيذية، ترد الظالم عن ظلمه، وتأخذ لصاحب الحق حقه من غاصبه، أو -كما كان يسميها القدماء- "أرض مملكة وأمر محكم"، وهذه لم يكن التجار فيها يحتاجون إلى خفارة؛ لأن القوة التنفيذية فيها كانت تقوم بهذه المهمة، نظير عشور يحصلونها من التجار، كسوق عدن3، وهناك أسواق تقع في مناطق بدوية لا حكم فيها إلا للقوة الفوضوية، أو -كما كان يقول القدماء- "من عز فيها بز"، وهذه كان التجار يحتاجون فيها إلى خفارة، كسوق الرابية بحضرموت4. وكان سادة بعض هذه المناطق ينصبون أنفسهم حكاما على أسواقها، "ويسيرون فيها بسيرة الملوك"، فيأخذون من التجار فيها العشور، كما كان يفعل بعض بني تميم في سوق المشقر بهجر، وكما كان يفعل الجلندي وآل الجلندي في سوق صحار وفي سوق دَبى5.   1 إسرائيل ولفنسون: تاريخ اليهود في بلاد العرب/ 18. 2 الأغاني 19/ 75. 3 ابن حبيب: المحبر/ 266، وتاريخ اليعقوبي 1/ 314. 4 المصدان السابقان: ابن حبيب/ 267، واليعقوبي 1/ 314. 5 المصدران السابقان: ابن حبيب/ 265، 266، واليعقوبي 1/ 314. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 ومع ذلك فقد كان التجار في هذه الأسواق عادة آمنين على دمائهم وأموالهم1، فالبرغم من أنه كان في العرب قوم يستحلون المظالم إذا حضروا هذه الأسواق، وكانوا يسمون المحلين، كان فهم من يُنكر ذلك وينصب نفسه لنصرة المظلوم، والمنع من سفك الدماء وارتكاب المنكر، وكانوا يسمون الذادة المحرمين2، وكان هؤلاء الذادة المحرمون "يلبسون السلاح لدفعهم عن الناس، وكان العرب جميعا بين هؤلاء تضع أسلحتهم في الأشهر الحرم"3، كما أن بعض هذه الأسواق كانت تقوم بحمايتها القبائل التي كانت تقام في أراضيها، ويسمون بذلك جيرانها، فقد كان كلب وجديلة طيئ جيرانا لسوق دومة الجندل4، وكانت عبد القيس وتميم جيرانا لسوق المشقر5، وكان حلف الفضول يجير في أسواق مكة6، وقد وصلت هذه الإجارة في بعض الأحيان إلى درجة كبيرة من القوة تستطيع بها أن ترد على المظلوم حقه، بعد أن تنتزعه من غاصبه، كما كان يفعل الفضول في مكة7. والغاية التي نريد أن نصل إليها من هذا هي أن الفرصة التي كان من المنتظر أن تكون سانحة أمام صعاليك العرب في هذه الأسواق للغزو والإغارة للسلب والنهب قد أفلتت من أيديهم، نظرا لتلك الحماية التي كان الذادة المحرمون يأخذون بها أنفسهم، وهذه الإجارة التي كانت بعض القبائل أو الأحلاف تقوم بها، ونظرا -من ناحية أخرى- إلى ازدحام هذه الأسواق بالناس من مختلف الطبقات ازدحاما يفسد على الصعاليك "خططهم الحربية" التي تعتمد قبل كل شيء على التربص الحذر، ثم المفاجأة الخاطفة، فالفرار   1 تاريخ اليعقوبي 1/ 313. 2 المصدر السابق/ 314. 3 المصدر نفسه/ 315. 4 ابن حبيب: المحبر/ 263. 5 المصدر السابق/ 265. 6 السهيلي: الروض الأنف 1/ 90، 91. 7 المصدر السابق، الموضع نفسه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 السريع من أجل النجاة والسلامة. ولكنهم -مع ذلك- لم يدعوا هذه الفرصة تفلت من أيديهم إفلاتا تاما، فما لا يدرك كله لا يترك كله، فقد رأوا أن هذه الأسواق مواسم يلتقي فيها ضروب من الناس من شتى القبائل، مما يتيح لهم فرصة طيبة للاتصال بهم، وانتقاء ضحاياهم من بينهم، ليضعوا على أساس ذلك خططهم المقبلة التي يعتزمون تنفيذها بعد ذلك، ففي أخبار السليك أنه خرج في الشهر الحرام حتى أتى عكاظ، فلما اجتمع الناس ألقى ثيابه ثم خرج متفضلا مترجلا، فجعل يطوف بين الناس ويقول: من يصف لي منازل قومه وأصف له منازل قومي؟ فلقيه قيس بن مكشوح المرادي، فقال: أنا أصف لك منازل قومي، وصف لي منازل قومك فتوافقا وتعاهدا ألا يتكاذبا، ووصف كل منهما للآخر منازل قومه، فانطلق قيس إلى قومه فأخبرهم الخبر، فقال أبوه المكشوح: ثكلتك أمك! هل تدري من لقيت؟ قال: لقيت رجلا فضلا كأنما خرج من أهله، فقال: هو والله سليك بن سعد، ثم لم يلبث السليك أن وضع خطته موضع التنفيذ، فأغار في أصحاب له على مراد وخثعم، وأسر قيس بن المكشوح، وأصاب من نعمهم، وسبى سبية من خثعم، ثم انصرف مسرعا1، ويبدو من معرفة المكشوح للسليك بمجرد حديث قيس عنه أن هذا اللون من الاحتيال من "السوابق" التي عرفتها "صحيفة" السليك، والتي يعرفها عنه أصحاب الخبرة، كما يعرف رجال الشرطة في العصر الحديث أرباب السوابق من المحتالين بمجرد ذكر حوادث احتيالهم. وإذا كانت الفرصة قد أفلتت من صعاليك العرب في داخل هذه الأسواق -ما عدا أمثال هذا الاحتيال- فإن في الطرق الموصلة إليها، وفي المناطق المحيطة بها، متسعا لحركاتهم، فوقفوا يترصدون التجار في مقدمهم إليها، وفي منصرفهم عنها، يقطعون عليهم الطرق، وينهبون ما تصل إليه أيديهم من تجاراتهم.   1 الأغاني 18/ 135، 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 وهنا نقف لنذكر أننا قلنا عند تعليلنا لانتشار حركات الصعاليك فلي منطقة السراة المحيطة بمكة وفي قبيلة هذيل أن للمسألة جانبا اقتصاديا، وأظن أننا نستيطع الآن أن نقول إن من أسباب انتشار الصعاليك في هذه المنطقة وقوعها على الطريق التجاري الذي يصل بين اليمن والشام مما جعلها ممرا للقوافل التجارية، هذا إلى أن قربها من مكة حيث تقام ثلاث أسواق مشهورة: عكاظ ومجنة وذو المجاز1 جعل منها ميدانا نشطا لحركات التجار في غدوهم ورواحهم، مما أتاح للمتمردين من صعاليك هذه المنطقة الفرصة المواتية للغارة والغزو للسلب والنهب. ولهذا السبب اضطر التجار في مناطق هذه الأسواق إلى أن يتخفروا بالقبائل القوية التي تنزلها2. وكان لهذه الأسواق -من ناحية أخرى- أثر في حياة صعاليك العرب، ففيها، أو في بعضها على الأقل، كانت تجري تجارة رائجة، هي تجارة الرقيق الذي كان يجلب من إفريقية، وقد رأينا في الفصل السابق صورة من تلك التجارة في أسواق مكة، وفي سوق حباشة كانت تجري هذه التجارة أيضا3، وقد رأينا في الفصل السابق أن هذه التجارة كانت سببا في نشأة طبقة الأغربة في المجتمع الجاهلي، وأن هذه الطبقة قد أمدت حركة الصعلكة بمجموعة كبيرة من صعاليك العرب. وإلى جانب هذا اللون من التجارة، عرفت هذه الأسواق -أو بتعبير أدق- الأسواق الأساسية لونا من النشاط الاجتماعي كان له أثر في حركة الصعلكة، وهي ظاهرة الخلع، وقد قلنا في الفصل السابق إن هذا الخلع كان يتخذ صورة إعلان رسمي يذاع على الناس في المواسم والأسواق، ورأينا أن هؤلاء الخلعاء كانوا يمدون حركة الصعلكة أيضا بمجموعة كبيرة من صعاليك العرب. ومعنى هذا أن هذه الأسواق شهدت السطور الأولى من قصة هاتين الطائفتين من صعاليك العرب: طائفة الأغربة، وطائفة الخلعاء.   1 انظر معجم البلدان لياقوت، عكاظ 6/ 203، ومجنة 7/ 390، والمجاز 7/ 385. 2 انظر المحبر/ 264 وما بعدها، وتاريخ اليعقوبي 1/ 314. 3 ياقوت: معجم البلدان، مادة "حباشة" 3/ 206. وابن الأثير: أسد الغابة 2/ 224. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 4- الصراع الاقتصادي في المدن التجارية : من الطبيعي أن يشارك في هذه الحركة التجارية النشطة التي عرفتها الجزيرة العربية سكانها، كل حسب طاقته المادية، وحسب ظروفه الاجتماعية، وحسب قربه أو بعده عن مراكز النشاط التجاري، ومن الطبيعي أيضا أن يختلف موقف العرب من هذه الحركة التجارية عن موقف البدو. أما أولئك العرب الذين تقع مدنهم على الطرق التجارية فقد فرض عليهم موقعهم أن يشاركوا في هذه الحياة التجارية بكل ما تحتمله رءوس أموالهم. وقد نشطت الحركة التجارية في مكة بالذات نشاطا واسع النطاق، جعل منها كما يحلو للامانس أن يقول عنها "جمهورية تجارية"1، أو كما يسميها درمنجم "جمهورية بلوتقرطية"2، تعتمد في سيادتها على طبقة الأثرياء، أو كما يقول بندلي جوزي "مدينة تجارية محضة لا يفكر أهلها إلا في التجارة، ولا يهمهم إلا جمع المال واستثماره بجميع الوسائل المحللة والغير المحللة"3. ويؤرخون أهمية مكة الحقيقية في هذا النشاط التجاري بذلك الوقت الذي أصبح فيه عرب الحجاز أصحاب التجارة، وجعلوا من مكة "مركزا إداريا" لأعمالهم، أما قبل ذلك، حينما كانت التجارة في أيدي اليمنيين، فإن مكة لم تعد أن تكون محطة على طريق القوافل، كما يذكر سترابو4. فقد كانت   1 انظر كتابه: la mecque a la veille de l'hegire, وانظر أيضا مقالته عن mecca في: the ency. of islam, p. 438. 2 the life of mahomet, p. 26. 3 من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام/ 14، 15. 4 o'leary; arabia before muhammad, p. 182. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 مكة قبل القرن الخامس الميلادي "محطة للقوافل التي كانت تمر بها وهي راجعة من جنوب الجزيرة تحمل بضائع الهند واليمن إلى سوريا وفلسطين ومصر، فأصبحت في أواخر الجيل السادس مدينة تجارية غنية تمد بما كان يأتيها من البضائع المحلية والأجنبية أكثر سكان الحجاز وأسواقه"1. وقد سيطر على أهل مكة روح تجاري نشط "فاشتعلت في نفس كل منهم حمَّى تدفعه للعمل والمال والمضاربات التجارية، من التاجر ذي الأريكة الخشبية في الهواء الطلق، إلى صاحب الدكان الصغير، إلى رجل الأعمال الكبير صاحب الكتبة الكثيرين، الذي تزدان دفاتر حساباته الجارية بالأختام والكتابات الحاذقة"2، وبلغ من سيطرة هذا الروح التجاري أن كان من ألقاب الشرف في مكة لقب "تاجر"، ذلك اللقب الذي كان يخول لصاحبه أن يشارك في السلطان السياسي3. وقد أحدث هذا النشاط التجاري نوعا من الاختلال في التوازن الاقتصادي، نشأت عنه طبقة من الصعاليك المعوزين ممن تخلفوا عن القافلة، ونحاهم التيار التجاري الجارف جانبا، حيث يركد الماء، ويتراكم الغثاء. ويرى بعض الباحثين أن عدد أفراد هذه الطبقة في مكة كان كبيرا جدا بالنسبة إلى عدد أصحاب الثروة فيها، وأنهم كانوا في حالة سيئة "لا يملكون شيئا حتى أنفسهم؛ لأن حق التشريع كان محصورا في أيدي الطبقة العليا، فكان أصحابها يسنون من الشرائع ما كان يوافق مصلحتهم، ولما لم يكن لأصحاب هذه الطبقة زاجر من أنفسهم، ولا رادع من ضمائرهم يردعهم عن استثمار أتعاب الصعاليك وامتهانهم، ويوقفهم عند حد معلوم من القساوة، كانت حياة الصعاليك بينهم عرضة دائمة للأخطار، وسلسلة يأس وعذاب، فلا قانون يحميهم، ولا شريعة ترق لحالهم، وتحاول أن تنشلهم من هاوية الموت الاجتماعي والرق   1 بندلي جوزي: من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام/ 13، 14. 2 dermenghem; the life of mahomet, p. 29. 3 lammens; la mecque a la veille de l'hegire, p. 165 = 261. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 الأبدي، فكانوا يعيشون في شعاب البلدة وأطرافها البعيدة، وفي بيوت حقيرة قذرة، وعيشة ضنك، وجوع مستمر، بينما كان الذين أثروا من أتعابهم يقيمون في وسط المدينة، في قصورهم الفخمة، بالقرب من الكعبة والنادي، أو دار الندوة، مصدرَي ثروتهم وسلطتهم"1. وكانت العلاقات بين هاتين الطبقتين: طبقة المالة وطبقة الصعاليك من السوء إلى حد بعيد، فقد كانت الطبقة الأولى مسيطرة على كل مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية والاقتصادية. وقد رأينا أن حق التشريع كان في أيديهم. وإلى جانب هذا كانوا هم المسيطرين على الحياة الاقتصادية، فكانوا يعمدون أحيانا إلى التلاعب بالأسواق، أو المضاربة بالدراهم والدنانير والتبر والنقود الأجنبية، "فكانوا تارة يزيدون في وزنها أو قيمتها، وطورا يخفضون، تبعا لمصالحهم الشخصية وجريا وراء جشعهم المعهود"2 مما كان يؤدي إلى اختلال التوازن الاقتصادي اختلالا كبيرا، يكون من نتائجه أن تصبح طبقة الصعاليك تحت رحمتهم، فيضطر أفرادها إلى الاستدانة إبقاء على حياتهم وهنا يعمد المتمولون إلى استغلال هذه الفرصة، فيقرضونهم ما يطلبون نظير فائدة فاحشة كانت تتراوح بين أربعين في المائة ومائة في المائة3. ويبدو أن عدد المرابين في مكة والمدينة كان كبيرا جدا، ومعروف أن القرآن الكريم في سوره المكية والمدينة حمل حملات شعواء على الربا والمرابين4. وإلى جانب هذا الربا الذي كانوا يأكلونه "أضعافا مضاعفة" كما يقول القرآن الكريم5 "وكانوا يتلاعبون بالديوان بأن يؤخروا آجالها، أو يقدموها.   1 بندلي جوزي: من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام/ 20، 21. 2 المصدر السابق/ 19. 3 المصدر السابق/ 18، وفي خزانة الأدب للبغدادي "1/ 345 سطر 11" "اقترض ثمانية آلاف درهم باثني عشر ألف"، وفي كتاب المغازي للواقدي "ص21" "مال مع قوم قراض على النصف". 4 البقرة/ 275، 276، 278، 279 وهي مدنية، وآل عمران/ 130 وهي مدينة أيضا، والنساء/ 161 وهي مدينة أيضا، والروم/ 39 وهي مكية. 5 آل عمران/ 130. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 أو يضيفوا إليها، إلى غير ذلك من الأعمال التي كانت تؤدي دائما إلى خراب المستدين واستعباده"1. وفي القرآن الكريم إشارة إلى ذلك إذ وقف من هذا التلاعب بالديوان موقفا رائعا صريحا نظم فيه الصلة بين الدائن والمدين تنظيما واضحا دقيقا، ووضع الشروط التي تضمن لكلا الطرفين حقه، في آيتين طويلتين من سورة البقرة2، وكانت هذه الديون تزداد يوما بعد يوم بما كان يضاف إليها من الربا الفاحش، مما كان يجعل محاولة سدادها أمرا ميئوسا منه، "ولهذا لم يكن وقتئذ أمل في التخلص من أولئك الظلمة بالطرق السلمية إلا فيما ندر، أما أكثر المدينين فإنهم كانوا مضطرين إما إلى الهرب إلى الصحراء، والالتحاق بطبقة المتشردين وقطاع الطرق، وإما أن يدخلوا في طبقة الأرقاء، ويقيموا فيها إلى ما شاء الله"3. ويرجع هذا إلى أن مكة كانت في الجاهلية -كما هي في الإسلام- حرما مقدسا "لا ظلم ولا بغي فيها"4، نظرا لوجود الكعبة فيها، هذا إلى جانب أنها مدينة لها نظامها الاجتماعي، ويقيم سكانها في منازل، فهي لهذا ليست بالميدان الصالح لحركات الصعاليك المتمردين. ومن هنا لم يجدوا مفرا من الخروج منها إلى البادية الواسعة حيث الحياة فوضى، ومجال العمل المتمرد متسع، وحيث طوائف المتشردين وقطاع الطرق وذؤبان الصحراء منتشرة، فإذا ما ضاقت بهم حياة التصعلك والتشرد، أو ضاقوا بها، أو رغبوا في الراحة منها إلى حين، فإن طريق العودة إلى مكة ميسر، فأبواب البلد الحرام مفتوحة لكل لاجئ أو خائف أو طريد، "من دخله كان آمنا، ومن أحدث في غيره من البلدان حدثا ثم لجأ إليه فهو آمن إذا دخله"5. ومن هنا نستطيع أن نفهم السر في كثرة عدد الخلعاء من شتى القبائل فيها، واتخاذهم منها مركزا يلتقون فيه آمنين على حياتهم من الطلب، حتى إذا ما حانت ساعة العمل خرجوا منها إلى ميدان كفاحهم، وقد رأينا في الفصل السابق صورة لأولئك الخلعاء والفتاك الذين كانوا يجتمعون في مكة، حتى إذا ما احتاج إليهم ثائر لغزوة من الغزوات قدم إليهم فيها، وواعدهم في الحرم، ثم خرج بهم جنودا مرتزقة.   1 بندلي جوزي: من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام/ 19. 2 282، 283. 3 بندلي جوزي: من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام/ 19، 20. 4 تاريخ الطبري 2/ 198. 5 ياقوت: معجم البلدان "مكة" 8/ 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 5- الصراع الاقتصادي في البادية : إذا ما تركنا هذه المدن التجارية بطبقاتها الاقتصادية، وما يدور بينها من صراع، ومضينا إلى البادية لنتبين موقف أهلها من هذا النشاط التجاري، فإننا نجد أن موقفهم قد اختلف تبعا لمواقع قبائلهم، من حيث قربها من مراكز النشاط التجاري وطرق القوافل أو بعدها عنها. ومن الطبيعي أن تشارك القبائل التي كانت تنزل على طول الطرق التجارية أو قريبا منها في هذا النشاط التجاري، فقد كان مرور القوافل التجارية بهم فرصة تسنح لهم من حين إلى حين، يستغلونها في إنعاش حياتهم الاقتصادية ولو لفترة محدودة من الزمن، فكان بعض الأفراد من الطبقات الفقيرة في هذه القبائل يعملون لهذه القوافل نظير أجر يتقاضونه، يعينهم على تكاليف الحياة، ويساعدهم على موازنة حياتهم الاقتصادية، وسداد ما عليهم من ديون اضطروا إليها في أوقات الأزمات التي كانوا كثيرا ما يتعرضون لها. ويحدثنا الطبري أن النبي صلى الله عليه وسلم حينما كان يستعد لغزوة بدر بعث برجلين إلى ماء بدر ليتحسسا له أخبار قريش، فسمعا جاريتين "تتلازمان على الماء، والملزومة تقول لصاحبتها: إنما تأتي العير غدا أو بعد غد فأعمل لهم حتى أقضيك الذي لك"1. وليس من شك في أن هذه القوافل الضخمة في رحلاتها الطويلة في مجاهل   1 تاريخ الطبري 2/ 275 - والملازمة: المطالبة بالحق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 الصحراء كانت تحتاج إلى أشياء كثيرة حتى تصل إلى غايتها البعيدة بسلام. ولعل أول ما كانت تحتاج إليه "الأدلاء" الذين يهدونها الطريق في دروب الصحراء الملتوية الغامضة، بما لهم من خبرة ودراية بها، حتى لا تضل أو تضيع بين مجاهلها، وتحدثنا الأخبار عن دليلين كانت تستخدمهما القوافل المكية في أيام النبي صلى الله عليه وسلم: فرات بن حيان، وقيس بن امرئ القيس1. وليس من شك في أن هؤلاء الأدلاء كانوا كثيرين، نظرا لطبيعة البيئة الصحراوية التي تفرض على سالكها أن يكون على علم دقيق بطرقها، ومواقع مياهها، ومنازل الرعي التي تحتاج إليها الإبل في طريقها، ومواطن الأمن والخوف فيها، إلى غير ذلك مما جعل العربي يفخر بمقدرته على هداية الركب "في ديمومة فيها الدليل يعض بالخمس"2، ومكابدته الخرق الذي: ينسى الدليل به هدايته ... من هول ما يلقى من الرعب3 ولم يكن هذا العلم الواسع ليتهيأ إلا لأولئك البدو الذين يعيشون في قلب الصحراء، ويضطرون تحت الظروف الجغرافية إلى التنقل من منزل إلى منزل، أما أبناء المدن من العرب المستقرين فلم يكن يتاح لهم -أو لأكثرهم على الأقل- شيء من هذا، فلم يكن هناك بد من استعانتهم بهؤلاء الأدلاء "جوابي الصحراء الذين لا يتعبون" كما يصفهم لامانس4، والذين لم تعد الصحراء أمامهم سرا مغلقا، وإلا كان إقدامهم على اختراقها مغامرة جنونية   1 الواقدي: كتاب المغازي/ 196، 36. وقد ورد ذكرهما في شعر حسان بن ثابت "انظر ديوانه ط السعادة بالقاهرة/ 237 قصيدته الكافية"، وقد وصف المكيون فرات بن حيان بأنه دليل بطرق الصحراء يسلكها وهو مغمض العين قد دوخها وسلكها "المغازي/ 196"، وقد طلبوا إليه في أثناء الحصار الذي ضربه المسلمون على طريقهم التجاري إلى الشام أن يسلك بهم طريقا إلى أسواق الشام دون أن يمروا بمنطقة المدينة "المصدر السابق/ 196". 2 الأغاني 16/ 97، والتبريزي: شرح حماسة أبي تمام 4/ 155. 3 الأصمعيات/ 10 البيت 14. 4 la mecque a la veille de l'hegire, p. 182 = 278. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 لا تؤمن عواقبها، ويحدثنا ابن حبيب عن طائفة من "أدلاء العرب الذين انتهت إليهم الدلالة"1. ويذكر منهم واحدا "بلغ وبار ولم يبلغها غيره"2. وإلى جانب هؤلاء الأدلاء كانت القوافل التجارية تحتاج إلى "خفراء" أو "حماة" يؤمنون سبلها، ويذودون عنها وحوش الصحراء3، ويدفعون عنها "ذؤبان العرب، وصعاليك الأحياء، وأصحاب الغارات، وطلاب الطوائل" كما يعددهم الجاحظ في بعض رسائله4، وذلك لأن طرق القوافل "كانت دائما معرضة لغزو القبائل، وسطو شذاذ الطرق وقطاعها، الذين كانوا يعيثون في الصحراء فسادا، ويعيشون من السلب والنهب"5، وبخاصة في تلك المناطق التي يصفها المؤرخون بأنها "لم تكن أرض مملكة، وكان من عز فيها بز"6، أي تلك المناطق التي لم تكن فيها حكومة منظمة تضرب على أيدي العابثين، وإنما كانت تدين بشريعة القوة، ويسيطر عليها مذهب "الحق للقوة"، ولهذا كان أصحاب القوافل مضطرين إلى استخدام جماعات كبيرة من الناس لخفارة بضائعهم والمحافظة عليها في الطريق7، "وكانوا يسارعون إلى تقوية هذا الحرس عند اقترابهم من المسالك الخطرة، بالقرب من تلك المفاوز المعرضة لغزوات الصعاليك، أو عندما يضطرون إلى اختراق المناطق التي تنزلها قبائل معادية أو مشتبه فيها"8، كقبيلة هذيل التي كانت قبيلة تخشاها القوافل التجارية9، وكقبيلة فهم التي كانت   1 المحبر/ 189 وما بعدها. 2 المصدر السابق/ 189. 3 o'leary; arabia before muhammad, p. 185. 4 رسالة فضل هاشم على عبد شمس/ 71. 5 بندلي جوزي: من تاريخ الحركات الفكرية الإسلامية/ 16. 6 تاريخ اليعقوبي 1/ 314، والمحبر/ 267. 7 بندلي جوزي: من تاريخ الحركات الفكرية الإسلامية/ 17. 8 lammens; la mecque a la veille de l'hegire, p. 185 = 281. وانظر أيضا مقالته عن "mecca" في: ency. of islam; p. 440. 9 lammens; la mecque a la veille de l'hegire, p. 52 = 148. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 برغم صغرها مشهورة بلصوصها1، وكان هؤلاء الخفراء يقومون بهذا العمل نظير جُعْل يسمى "الخفارة"2، وسواء أكان هدايا أم نقدا3 فقد كان في العادة جعلا كبيرا يتكافأ مع خطر العمل، وكثرة تبعاته، وكان هؤلاء الخفراء "يعيدون في أكثر الأحيان هذا الجعل إذا ما عرض عارض يحول دون أن تؤتي خفارتهم ثمرتها"4، ومن الطبيعي أن يكون هؤلاء الخفراء من القبائل التي تمر بها القوافل لأن في هذا ضمانا من تعرض هذه القبائل لهم، أو قطعها الطريق عليهم، وإرضاء لكبرياء البدوي التي تجعله دائما يتوقع "أن يُطلب ليتقدم الطريق أمام أي قافلة تخترق إقليمه الذي يعده ملكا خاصا لقبيلته"5، كما أن أفراد هذه القبائل أعرف -بطبيعة الحال- بمواطن الخطر في مناطقهم، وأدرى بسبل النجاة منها، ويحدثنا الرواة أن كل تاجر يخرج من اليمن والحجاز في طريقه إلى سوق دومة الجندل كان يتخفر بقريش ما دام في بلاد مضر؛ لأن مضر لم تكن تعرض لتجار مضر، ولا يهيجهم حليف لمضري، فإذا أخذ طريق العراق تخفر ببني عمرو بن مرثد من بني قيس بن ثعلبة فتجيز ذلك له ربيعة كلها، أما إذا مضى إلى مهرة، وهي ليست بأرض مملكة، فإنه كان يتخفر فيها ببني محارب من مهرة، فإذا مضى إلى حضرموت حيث تقام سوق الرابية التي "لم يكن يصل إليها أحد إلا بخفارة؛ لأنها لم تكن أرض مملكة، وكان من عز فيها بز صاحبه" فإن قريشا كانت تتخفر ببني آكل المرار، وسائر الناس يتخفرون بآل مسروق بن وائل من كندة6، ومن هنا كان أصحاب القوافل يلجئون في أكثر الأحيان إلى رؤساء القبائل، أو إلى سيد   1 krenkow; ency. of islam, art. "al-shanfara". 2 ency. of islam; art, arabiz, p.325. 3 o'leary; arabia before muhammad, p. 179. 4 ibid; pp. 179, 186. 5 ibid; p. 185. 6 ابن حبيب: المحبر/ 264-267. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 فيهم مطاع، ليجبروا لهم قوافلهم، كما كان يفعل النعمان مع لطائمه التي كان يبعث بها كل عام إلى سوق عكاظ، فقد كان يجيرها له سيد مضر1، ومن هنا أطلقوا على هذه الخفارة أيضا الجوار2، وكان هذا الجوار "عملا مربحا يسعى وراءه سادة الصحراء سعيا شديدا"3، فقد كان أصحاب القوافل يشركونهم في عملياتهم التجارية، أو يقاسمونهم الأرباح، أو يفتحون لهم حسابات جارية في نوافذ مصارفهم، على حد تعبير لامانس4. ولم يكن يعدل سعي هؤلاء السادة وراء هذا الجوار إلا حرص أصحاب القوافل عليه، حتى لقد كانوا يستميلونهم أحيانا بالمصاهرة5، ولعل أشهر قصص هذا الجوار قصة "إيلاف قريش" التي أشار إليها القرآن الكريم6، ويحدثنا العتبي ومحمد بن سلام عن قصة هذا الإيلاف حديثا طويلا يرويه لنا القالي في نوادره7، وكذلك يحدثنا الجاحظ في بعض رسائله8 عن هذا الإيلاف حديثين آخرين، وكيفما كان هذا الإيلاف فيبدو لي أن المسألة -في أبسط صورها- ترجع إلى أن القرشيين قاموا بمفاوضات مع جيرانهم الذين تمر قوافلهم بديارهم، من أجل تأمين سلامة هذه القوافل، والإذن لها بالمرور، وحصلوا على ترخيص من ملوك البلاد التي كانت لهم "متاجر" أو "وجوها" -كما   1 الأغاني 19/ 74. 2 الأغاني 16/ 99 سطر 12. 3 o'leary; arabia before muhammad, p. 185. 4 la mecque a la veille de l'hegire, p. 178 = 274. 5 بندلي جوزي: من تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام/ 17. 6 سورة قريش 274، والإيلاف: العهد والذمام "لسان العرب، مادة ألف" وهو "عهود بينهم وبين الملوك" "الألوسي: روح المعاني 30/ 238" ويفسره الأزهري بأنه "شبه الإجارة بالخفارة" "المصدر السابق/ 240"، وقد أجمع الرواة على أن أول من أخذ الإيلاف لقريش هاشم بن عبد مناف "رسالة فضل هاشم على عبد شمس من رسائل الجاحظ/ 70"، وفي حديث ابن عباس "وقد علمت قريش أن أول من أخذ لها الإيلاف لهاشم" "لسان العرب مادة ألف". 7 ص199، 200. 8 رسالة فضل هاشم على عبد شمس/ 70، 71. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 كانوا يسمونها-1 ليدخلوا بتجاراتهم أسواق هذه البلاد، ويذكر الجاحظ في تفسير قوله تعالى: {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْف} في قصة هذا الإيلاف أنه "خوف من كان هؤلاء الإخوة "يعني هاشما وأخوته" يمرون به من القبائل والأعداء وهم مغتربون ومعهم الأموال"2. وإلى جانب هذه الخفارة كان بدو القبائل يقومون أحيانا بدور الرسل أو "البريد" بين القوافل في أثناء الطريق وبين المراكز التجارية التي خرجت منها أو التي تقصدها، فإذا جد ما يستدعي اتصال القافلة بأحد هذه المراكز استأجر أصحابها بعض البدو من القبيلة التي يمرون بها، وبعثوا به إلى حيث يريدون. ويحدثنا رواة السيرة أن أبا سفيان عندما تعرضت قافلة قريش لخطر مهاجمة المسلمين لها عند بدر "استأجر ضمضم بن عمرو الغفاري، فبعثه إلى مكة، وأمره أن يأتي قريشا يستنفرهم إلى أموالهم، ويخبرهم أن محمدا قد عرض لها في أصحابه، فخرج ضمضم بن عمرو سريعا إلى مكة"3، وكان هذا نظير عشرين مثقالا استأجره بها4. ولكن إلى جانب هذه العناصر الكادحة من بدو القبائل، وجدت عناصر متمردة رأوا في هذه القبائل الضخمة التي تنتقل بين أطراف الجزيرة محملة بثرواتها وكنوزها، مخترقة البادية، أرض الجوع والجدب والضيق، صورة من صور اختلال التوازن الاقتصادي، ومثلا من أمثلة سوء توزيع الثروة، فرفضوا أن يشاركوا في هذه الأوضاع الاقتصادية المختلة، ورأوا أن يقفوا منها موقفا معاديا يعتمد على القوة في كسب الرزق، ففي مرور هذه القوافل في مناطق الصحراء المقفرة الموحشة فرصة صالحة للغارة والغزو، وصيد موات للسلب والنهب، ورزق ساقه الله إليهم يجدر بهم أن يعتمدوا على قوتهم في اغتصابه، فاجتمعوا في عصابات، وانضم إليهم خلعاء القبائل،   1 انظر الأغاني 9/ 56، والمحبر/ 162، 163. 2 رسالة فضل هاشم على عبد شمس/ 71. 3 تاريخ الطبري 2/ 270. 4 الواقدي: كتاب المغازي/ 22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 وشذاذ الأحياء، وصعاليك القبائل التي تنزل بعيدا عن طرق القوافل، ووقفوا يتربصون بها في مواسم مرورها، ويقطعون عليها الطرق، وينتهبون ما يقدرون على انتهابه، ليتقاسموه فيما بينهم، ويشركوا فيه أحيانا أولئك الصعاليك الضعاف والمرضى والمسنين ممن حالت ظروفهم الخاصة دون المشاركة في الغزو والغارة. ومن الطبيعي أن يتربص هؤلاء المتمردين من الصعاليك بالقوافل الصغيرة؛ لأنها غنيمة أيسر منالا، وأضمن عاقبة، ويحدثنا ابن قتيبة عن فاتكين التقيا "فسارا حتى لقيا رجلا من كندة في تجارة أصابها من مسك وثياب وغير ذلك" فتربصا به، حتى قتلاه واقتسما ماله1. ولهذا كان أصحاب القوافل يحرصون -إلى جانب ما كانوا يتخذونه من وسائل لسلامة قوافلهم- على أن تكون هذه القوافل كبيرة ضخمة كثيرة العدد، وقد بلغت قافلة قريش التي تصدى لها المسلمون عند بدر ألف بعير2، وبلغ عدد الرجال المرافقين لها قريبا من سبعين راكبا في بعض الروايات3. وثلاثين أو أربعين في رواية أخرى4، ويصفها ابن إسحاق بأنها "عير عظيمة"5، وكانت بعض قوافل قريش تصل إلى ألفين وخمسمائة بعير6، وكان مرافقو بعض هذه القوافل يبلغون أحيانا ثلاثمائة7، وقد رأى سترابو قافلة من قوافل العرب التجارية وشبهها بالجيش8، ويذكر لامانس أن هذه القوافل كانت تتميز عادة بضخامتها العددية9. ومع ذلك لم يحل هذا كله دون استمرار حركات المتمردين ضد هذه   1 عيون الأخبار، المجلد الأول 2/ 181، 182. 2 الواقدي: المغازي/ 20. 3 تاريخ الطبري 2/ 267. 4 المصدر السابق/ 270. 5 المصدر نفسه/ 270. 6 الواقدي: المغازي /2. 7 المصدر السابق/ 7. 8 o'leary; arabia before muhammad, p. 185. & lammens; la mecque a la veille de l'hegire, p. 178 = 274. 9 la mecque a la veille de l'hegire, p. 178 = 274. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 القوافل، أو "تعوير المتجر" كما كان يقول أهل مكة1، ويحدثنا الرواة أن لطائم النعمان التي كان يبعث بها كل عام للتجارة إلى عكاظ كان يعترضها بعض بني كنانة فينتهبها2، وليس من شك في لطائم النعمان كانت ضخمة كثيرة العدد والرجال. ويبدو أن هذه الغارات -مهما تختلف أسبابها المباشرة باختلاف أصحابها- يرجع سببها العام إلى اختلال التوازن الاقتصادي في ذلك المجتمع الذي يضع طائفة من أفراده بين نابين من فقر وجوع، بينما يضع في أيدي طائفة أخرى كنوز الثروة ومفاتيح الاقتصاد، وهو لا يفصل بين هاتين الطبقتين، ولا يجعل كلا منهما تعيش في عالمها الخاص، وإنما أباح لإحداهما أن تعرض ثراءها، وتتيه بما أغدق عليها أمام أعين الطائفة الأخرى، فتزيد من إحساسها بالفقر والجوع، فكان من الطبيعي -إذا ما أتيحت لهذه الطائفة البائسة الفرصة لاغتصاب أي شيء من الطائفة الأخرى- أن تنتهزها مؤمنة بأن هذا الاغتصاب حق، ما دامت لا تبغي من ورائه سوى أن تعيش. فإذا ما تركنا هذه القبائل التي كانت تنزل على الطرق التجارية، ومضينا إلى داخل البادية العربية حيث تنزل القبائل بعيدة عن مراكز النشاط التجاري، فإننا نجد ثمة صورا أخرى من صور الصراع بين الفقر والغنى. والمجتمع البدوي من ناحيته الاقتصادية بسيط التكوين، يتكون من طبقتين اقتصاديتين أساسيتين: طبقة أصحاب الإبل، أو "أرباب المخائض" كما يسميهم بعض الشعراء3، وطبقة الصعاليك. والناظر في المجتمع البدوي يلاحظ لأول وهلة أن الفرق الاقتصادي بين هاتين الطبقتين كان بعيدا، بقدر ما كان الفرق النفسي بينهما قريبا، ومن   1 الواقدي: المغازي/ 196. 2 ابن حبيب: المحبر/ 196. 3 يزيد بن الصقيل العقيلي في الكامل للمبرد/ 59. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 هاتين الظاهرتين المتناقضتين: ظاهرة البعد الاقتصادي، وظاهرة القرب النفسي نشأت ظاهرة الصعلكة. وقد حصرت البيئة الجغرافية لأعراب البادية مواردهم الطبيعية في المراعي، ووقفت ظروفهم الحضارية بمجال عملهم عند الرعي، ومن هنا انحصرت ثروتهم في قطعان من الإبل والغنم والمغز. ومن الطبيعي أن تكون الإبل مقياس ثروتهم، فهي خير ما في هذه الثروة، وقد سموها "النعم"1؛ لأنها النعمة الكبرى التي أنعم الله بها عليهم، وقد كان من عوامل سقوط اعتبار الفرد في الهيئة الاجتماعية أن تقوم المعز أو صغار الماشية في حياته مقام الإبل2، وبينما كانت المعز مادة يشتق منها الساخرون من الهجائين عناصر سخريتهم، كانت الإبل مادة يشتق منها المادحون عناصر مدحهم، أما الغنم فليست بحيوان الصحراء الأول، لشدة حاجتها إلى المراعي، وقلة صبرها على الماء. ومن هنا كانت الإبل حيوان الصحراء الأول بلا منازع، والدعامة التي تقوم عليها ثروة أبنائها، وبحق سموها مالا3؛ لأنها -على حد التعبير الاقتصادي الحديث- "الرصيد" الذي تعتمد عليه "ميزانيتهم"، و"العملة" التي يتعاملون بها في حياتهم، "منها مهور نسائهم، وديات دمائهم، ورهن ميسرهم"4. ولهذا كانت كل قبيلة تتخذ "وسما" خاصا لإبلها تميزها به5، كما تتخذ كل دولة في العصر الحديث رسما خاصا لنقدها. وكانت ثروة الأفراد في المجتمع البدوي تقاس بمقدار ما يملكون من الإبل، "فكل ثرائهم كان يقوم بالإبل"6، وما أكثر ما نسمع عن أولئك   1 لسان العرب مادة "نعم". 2 lammens; le berceau de i'islam, vol. i, p. 134. 3 "وأكثر ما يطلق المال عند العرب على الإبل" "لسان العرب، مادة مول"، ويقول الزمخشري "مال العرب الإبل" "أساس البلاغة، المادة نفسها"، ويقول الشاعر "فلم أر مثل الإبل مالا لمفتن" "حماسة أبي تمام 4/ 67". 4 lammens; le berceau de i'islam, vol. i, p. 134. 5 smith kinship and marriage in early arabia, p. 247. 6 lammens; le berceau de i'islam, vol. i, p. 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 الذين كان لهم "نعم قد ملأ الأرض"1، أو "نعم قد ملأ كل شيء"2، أو أولئك الذين كانوا يفقئون أعين فحلهم ليردوا عن إبلهم العين لأنها بلغت ألفا3، أو ذلك الذي فقأ أعين عشرين بعيرا لأن إبله بلغت عشرين ألفا، والذي ربما ذبح في أيام الحجيج عشرة آلاف بدنة4، وفي الأخبار أن عتاب بن ورقاء تكفل مرة بدفع تسع ديات5، وما أكثر ما نسمع عن ديات بلغت آلافا من الإبل6. وإلى جانب هذه الطبقة من المالة الذين ملأ نعمهم الأرض، وجدت طبقة أخرى من الصعاليك لا تكاد تملك شيئا، أو -كما يقول بعض شعرائها- "تجرر حبلا ليس فيه بعير"7. وقد رأينا في الفصل الأول صورة لفقر هؤلاء الصعاليك، وكيف أن بعضهم كان يملق حتى لا تبقى له شيء، أو يفتقر فيخرج وقد آلى على نفسه ألا يرجع حتى يستغني. والأمر الذي لا شك فيه أن حياة هذه الطبقة الفقيرة من البدو كانت في مستوى اقتصادي سيئ جدا، حتى ليضطر بعضهم إلى قتل أولادهم خشية إملاق، كما يحدثنا القرآن الكريم8، أو بيعهم ليستعينوا بأثمانهم على الحياة، كما نرى فيما يرويه الرواة عن صعصعة بن ناجية الذي كان يشتري الموءودات من آبائهن؛ إذ يذكرون عنه إنه لما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأسلم، قال له: "يا رسول الله، إني كنت أعمل عملا في الجاهلية، أفينفعني   1 نقائض جرير والفرزدق 1/ 234. 2 الأغاني 18/ 134. 3 نقائض جرير والفرزدق 1/ 234. 4 ابن كثير: البداية والنهاية 1/ 187. 5 الجاحظ: البيان والتبيين 3/ 134. 6 بلغت الدية التي دفعت لبني ثعلبة بن سعد في حرب داحس والغبراء ألف ناقة "نقائض جرير والفرزدق 1/ 105" وقد عرض بنو أسد على امرئ القيس بعد قتلهم أباه ألف بعير دية "الأغاني 19/ 85" وبلغت الديات في حرب عبس وذبيان ثلاثة آلاف بعير "الأغاني 10/ 297". 7 الأحيمر السعدي في المؤتلف والمختلف للآمدي/ 36. 8 الأنعام/ 151، والإسراء/ 31. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 ذلك اليوم؟ قال: $"وما عملك؟ " قال: أضلك ناقتين عشراوين، فركبت جملا ومضيت في بغائهما، فرفع لي بيت حريد، فقصدته فإذا شيخ جالس بفناء الدار، فسألته عن الناقتين، فقال: ما نارهما؟ قلت: ميسم بني دارم فقال: هما عندي وقد أحيا الله بهما قوما من أهلك من مضر، فجلست معه لتُخْرَجا إليَّ، فإذا عجوز قد خرجت من كسر البيت فقال لها: ما وضعت؟ فإن كان سقبا شاركنا في أموالنا، وإن كانت حائلا وأدناها، فقالت العجوز: وضعت أنثى، فقلت: أتبيعها؟ قال: وهل تبيع العرب أولادها؟ قلت: إنما أشتري منك حياتها ولا أشتري رقها، قال: فبكم؟ قلت: احتكم، قال: بالناقتين والجمل، قلت: ذاك لك على أن يبلغني الجمل وإياها، قال: ففعل فآمنت بك يا رسول الله وقد صارت لي سنة في العرب على أن أشتري كل موءدة بناقتين عشراوين وجمل، فعندي إلى هذه الغاية ثمانون ومائتا موءودة فقد أنقذتها1 ... "، وهي قصة تعطينا صورة واضحة عن الفرق الكبير بين هاتين الطبقتين الاقتصاديتين في المجتمع البدوي، وبين أولئك الذين يبيعون بناتهم بهذا الثمن البخس، وذلك الذي يشتري ثمانين ومائتي موءودة، ثم أرأيت إلى هذا اللون من ألوان "التجارة" عند هؤلاء الأعراب الفقراء؟ بيع بناتهم نظير ناقتين وجمل راجين من وراء ذلك أن يتكون لهم رأس مال من الإبل يعينهم على الحياة، ويساعدهم على رفع مستواهم الاقتصادي، ولو كان ذلك على حساب أكبادهم التي تمشي على الأرض، كما يقول شاعرهم القديم2. والقصة بعد هذا تشير إلى نفسية أولئك الفقراء، وإحساسهم بما سميناه "القرب النفسي" بينهم وبين الأغنياء، أرأيت إلى ذلك الأعرابي كيف يقول لذلك السيد إن ناقتيه اللتين أضلهما قد أحيا الله بهما قوما من أهله؟ كأنما يرى أن الأغنياء والفقراء أسرة واحدة، وأن هذا الفرق الاقتصادي بينهما   1 المبرد: الكامل/ 278، 279. 2 حطان بن المعلى، في حماسة أبي تمام 1/ 153. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 لا تأثير له في "العامل المشترك" بينهما وهو كرم العنصر وطيب النجار، ثم أرأيت إليه كيف يتساءل منكرا: وهل تبيع العرب أولادها؟ وانظر كيف عبر بالعرب ولم يقل الناس، كأنما يرى أن العرب جنس متميز لا يجري عليهم ما يجري على سائر الأجناس، أولئك الذين يرى أولادهم رقيقا يشترى عند "أهله" من السادة الأغنياء؟ وليس ينقض هذا الإحساس بالجنس أنه باع ابنته بعد ذلك، فقد كان ذلك تحت ضغظ الفاقة وإلحاح الحاجة، ثم هو لم يفعل ذلك إلا بعد أن تعهد له هذا السيد بأنه لن يستعبدها، وهو عذر -مهما يكن واهيا- يصور ذلك الإحساس النفسي الذي كان يسيطر على نفوس هؤلاء البدو، فإن "الصفقة" لم تتم بين ذلك السيد وذلك الصعلوك إلا بعد هذه المحاولة من السيد لإرضاء نفس الصعلوك. ومهما يكن من أمر ذلك الأعرابي، فالشيء الذي لا ريب فيه هو أن هؤلاء البدو -بقدر ما كانوا في فقر مادي- كانوا على جانب كبير من الغنى النفسي. ومعنى هذا أن البدوي الفقير كان يرى نفسه مساويا للسيد الغني، ويرفض أن يكون فقره سببا في النزول بنفسه أو تطامن كبريائه، وأن الحياة إذا كانت قد ظلمته برغمه، فإن عليه أن يعمل على أن يزيل عنه ذلك الظلم، سالكا في ذلك أي سبيل، والغاية تبرر والوسيلة. ولسنا في الحاجة إلى القول بأن مجال العمل أمام هؤلاء البدو الفقراء كان ضيقا جدا، فهذه قضية مفروغ منها؛ لأن أخلاف الحياة الاقتصادية الثلاثة: الزراعة والتجارة والصناعة لا تدر خيرا فوق رمال الصحراء القاحلة، وفي وسط تلك الظروف الحضارية المتأخرة. ومن هنا لم يكن أمامهم إلا أن يعملوا لهؤلاء الأغنياء، يقومون لهم بالرعي وخدمة الإبل، أو يعينون نساء الحي، كما يقول عروة بن الورد1، فإذا رفضت نفوسهم القيام بهذه الأعمال لم يكن هناك بد -إبقاء على حياتهم- من الغزو والإغارة للسلب والنهب محاولين -كما يقول بعض الباحثين- "أن يزيلوا هذا الحيف المقدر بأسنة رماحهم،   1 انظر ديوانه/ 77. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 معتقدين أن من الحلال دهم القوافل، وسلب ما بأيديهم، تعويضا لهم عما لم تقدر أن تجود عليهم به أراضيهم القاحلة"1. ولكن يجب أن نسجل أن حركات القبائل في هذا الصراع بين الفقر والغنى كانت حركات قبلية، تصدر عن القبيلة وتجري برضاها، أما حركت الصعاليك فقد كانت حركة فردية، تصدر عن شخصياتهم المتمردة، حتى لو أدى الأمر إلى أن يخلع الصعلوك نفسه من قبيلته في سبيل تنفيذ حركته. وعلى هذا الأساس في التفسير الاقتصادي نستطيع أن نفهم كثيرا من حركات صعاليك العرب. ومعنى هذا أن ثمة صراعا كان يدور في داخل البادية العربية بين طبقة المالة أصحاب المخائض والمتمردين من طبقة الصعاليك، وأن مادة هذا الصراع التي دار حولها كانت الإبل عادة؛ لأنها الثروة الأساسية في المجتمع البدوي، فكان هؤلاء المتمردين يتربصون بقطعان الإبل ما أمكنتهم الفرصة، وينهبون منها ما يقدرون على نهبه، أو يقتلون أصحابها أو رعاتها ويسوقون القطيع بأسره، ولكن ليس معنى هذا أن الإبل كانت المادة الوحيدة التي دار حولها هذا الصراع، فإن أيدي الصعاليك لم تكن تمتنع عن أية غنيمة تعرض لهم، ففي أخبار تأبط شرا أنه خرج غازيا مع رجل يريدان بجيلة، فأتى ناحية منهم "فقتل رجلا ثم استاق غنما كثيرة"2، وفي أخبار عروة أن سلب هذليًّا فرسه3، ولكن الأمر الذي نراه بكثرة تلفت النظر في أخبار هؤلاء الصعاليك وأشعارهم تعرضهم للإبل ونهبها.   1 جوستاف لوبون: حضارة العرب/ 82. 2 الأغاني 18/ 213. 3 الأغاني 3/ 84. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 الباب الثاني: شعر الصعاليك الفصل الأول: ديوان الصعاليك مصادره ... الفصل الأول: ديوان الصعاليك 1- مصادره: يقف الدارس لشعر الصعاليك أمام مسألة بالغة الخطر، تواجهه منذ البداية، وتوشك أن تنصرف به عن المضي في دراسته، إذ هي عماد هذه الدراسة، المحور الذي تدور حوله، تلك هي مسألة مصادر هذا الشعر: أين هي؟ ومن الحق أن نسجل قبل الإجابة عن هذا السؤال أن مسألة مصادر الشعر الجاهلي من المسائل التي تواجه الباحثين فيه منذ البداية؛ ذلك لأن أكثر مجموعات شعر القبائل التي تزخر بأسمائها كتب التراجم قد فقدت، ولم يصل إلينا منها إلا القليل، أما دواوين الشعراء فقد تركزت عناية الرواة والشراح بدواوين المشهورين منهم، أما أولئك الذين لم يكن لهم خطر في نظرهم فلم يكن حظهم من العناية بهم كبيرا. هذا إلى أن عمل هؤلاء الرواة والشراح قد اتجه اتجاها فنيا أو لغويا خالصا، أما فكرة جمع الوثائق الأدبية التي تمثل الجوانب الاجتماعية أو الاقتصادية أو الدينية أو غير ذلك من جوانب العصر المختلفة فشيء وراء اهتمام هؤلاء الرواة، مع ما له من أهمية للباحث الأدبي والباحث التاريخي على حد سواء. وليس من شك في أن هؤلاء الرواة لو نظروا إلى عملهم على أنه عمل تاريخي يحرص على تسجيل كل جوانب العصر الذي يجمعون وثائقه الأدبية، حتى تلك التي تصور انحطاطه أو ضعفه، لتغير وجه التاريخ الأدبي للعصر القديم تغيرا كبيرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 أما أولئك المغمورون من الشعراء فقد بُعثرت مجموعاتهم الشعرية بين ثلاثة مصادر: كتب الثقافة العربية المختلفة، كل منها يستغلها لأغراضه الخاصة وفي دائرته الخاصة، ثم مجموعات المختارات من شعر الشعراء، وهذه -بطبيعة الحال- كانت متأثرة بذوق أصحابها، كما أنها كانت محصورة داخل دائرة الاختيار، وهي دائرة مهما تتسع ضيقة، ثم كتب التراجم التي تذكر بعض أخبار من تترجم لهم وبعض نماذجهم الفنية، وحتى هذه -أو على الأقل أكثرها- لم تكن تعنى إلا بالمشهورين. ولنستمع إلى ابن قتيبة في مقدمة "الشعر والشعراء" يحدثنا عن الأساس الذي أقام عليه كتابه، لنرى صورة من ذلك الاهتمام الذي يقف عند المشهورين فحسب، ولا يكاد يفكر فيمن عداهم: "قال أبو محمد: وكان أكثر قصدي للمشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جل أهل الأدب، والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب وفي النحو وفي كتاب الله عز وجل وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأما من خفي اسمه، وقل ذكره، وكسد شعره، وكان لا يعرفه إلا بعض الخواص، فما أقل من ذكرت من هذه الطبقة"1. ومعنى هذا أن رواة الشعر العربي -أو على الأقل أكثرهم- كانوا ينظرون إلى الشعر القديم على أنه وسيلة لأغراض لغوية لا على أنه نتاج عصر متعدد الجوانب. والأمر في شعر الصعاليك أسوا من هذا. فقد عرفنا أن هؤلاء الصعاليك كانوا يمثلون طائفة خارجة على المجتمع، متمردة على أوضاعه وتقاليده، لا تحرص على قبائلها كما لا تحرص قبائلها عليها، ونتيجة هذا أن القبائل لم تحرص على شعرهم؛ لأنه يمثل ذلك الخروج عليها، وذلك التمرد على أوضاعها وتقاليدها، ولأنه حديث فردي يعني بتصوير شخصيات أصحابه بقدر ما يهمل شخصيات قبائلهم، وما حاجة القبائل إلى ذلك اللون من الشعر الذي لا يهتم بها في شيء، بل على العكس يهتم بتسجيل تمرده عليها والإساءة إليها؟ وماذا يحمل هذه القبائل على الحرص على هذا الشعر بعد أن لم تحرص على أصحابه؟ وقد رأينا إلى جانب   1 ص2، 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 هذا أن هؤلاء الصعاليك عاشوا حياة متشردة بين أرجاء الصحراء الواسعة الرهيبة، حيث يعيش الحيوان النافر، والوحش الضاري، ونتيجة هذا أن سبل الاتصال بين هؤلاء الصعاليك وبين مجتمعهم لم تكن ميسرة، بل على العكس كانت معقدة أشد التعقيد؛ إذ هي صلة عداوة مستحكمة، لا تجعل أحدهما يطمئن إلى الآخر، وقد قلنا من قبل إن المجتمع فقد اطمئنانه إلى هؤلاء الصعاليك كما فقدوا هم طمأنينتهم فيه. ومعنى هذا أن كثيرا من شعر الشعراء الصعاليك ضاع بين آفاق الصحراء المجهولة، وذهبت أنغامه ما بين حيوانها ووحشها، حيث لا ناطق ولا سميع ولا راوية إلا هؤلاء الصعاليك أنفسهم الذين بعد ما بينهم وبين مجتمعهم، وقد هدد تأبط شرا عاذليه إن لم يتركوا عذله ليتركنهم إلى آفاق الصحراء المجهولة حيث لا أحد -مهما تكن معرفته- بمنبئهم عن موضعه1، وإذن فكيف يصل ما يقوله من شعر في تلك الآفاق المجهولة إلى آذان المجتمع الأدبي؟ ومع ذلك فقد وصلت إلينا مجموعة لا بأس بها -وإن تكن قليلة- من شعر هؤلاء الصعاليك. وقد نتساءل: كيف وصلت إلينا هذه المجموعة برغم كل هذا؟ مصادر هذه المجموعة، عندي، ثلاثة: فليس من شك في أن هؤلاء الشعراء الصعاليك قد مرت بهم في حياتهم فترات عاشوا فيها من قبائلهم حياة قبلية متوافقة توافقا اجتماعيا، وهي تلك الفترات التي سبقت حياتهم المتصعلكة؛ إذ ليس مما يمكن تصوره أن يبدأ هؤلاء الصعاليك حياتهم المتصعلكة منذ أن ترى أعينهم نور الحياة، وإنما الذي يمكن تصوره أنهم عاشوا فترة من حياتهم -قصرت أو طالت- مع قبائلهم، فليس التصعلك بالظاهرة الوراثية، وإنما هو كما رأينا في الفصول السابقة ظاهرة تعمل فيها عوامل جغرافية واجتماعية واقتصادية. ومن الطبيعي أن يكون بعض هؤلاء الشعراء الصعاليك قد اكتملت ملكاتهم الفنية قبل أن يتصعلكوا،   1 انظر البيتين 23 و24 من قصيدته القافية "ابن الأنباري: شرح المفضليات/ 18". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 وأن يكونوا قد شاركوا سائر شعراء قبائلهم في حياتهم الفنية، وقد رأينا مثلا لهذا قيس بن الحدادية الذي شارك قبيلته اجتماعيا وفنيا مشاركة قوية، خاض معها غمار أيامها، بل قادها أحيانا إلى مواطن النصر، وتغنى بهذا كله في شعره. ومن الطبيعي أيضا أن تحرص القبيلة على هذا الشعر وترويه، وتتغنى به، وتتناقله جيلا بعد جيل، حتى يتلقفه من أفواه أبنائها رواة الشعر العربي الذين كانوا يشدون الرحال إلى البادية ليجمعوا شعر قبائلها. ومعنى هذا أن جزءا من شعر الصعاليك، وهو ما يصح أن نطلق عليه "الشعر خارج دائرة الصعلكة"، قد وصل إلينا عن طريق قبائلهم نفسها. ومن هذه المجموعة أيضا ذلك الشعر الذي خلا من مهاجمة القبيلة أو التعرض لها بما تكره، كوصف الغارات، أو وصف وحش الصحراء، أو قصص تلك الأشباح التي كانت تتراءى للصعاليك في تشردهم في ليالي الصحراء المظلمة، فما على القبيلة ضير من رواية هذا الشعر، أو هذه الأقاصيص العجيبة التي ترضي الذوق الشعبي، في أوقات فراغها أو في ليالي أسمارها. ولعل مما يؤيد هذا قلة ما وصل إلينا من شعر هؤلاء الصعاليك الذي هاجموا فيه قبائلهم، أو تعرضوا فيه لها بما تكره، وليس من شك في أنه كان شعرا كثيرا، فإن هذه المجموعة من الشعر قد أغفلتها القبائل ما استطاعت إلى ذلك سبيلا. ويشبه هذا ما نلاحظه من ضياع تلك المجموعة من الشعر التي قالها مشركو مكة في أول ظهور الإسلام، عند احتدام الصراع بين شعراء مكة المشركين وشعراء المدينة الذين اعتنقوا الإسلام، ووقفوا يدعون له، ويدافعون عنه. ومن هذه المجموعة أيضا شعر أولئك الصعاليك الذين فقدوا توافقهم الاجتماعي مع قبائلهم لأسباب اقتصادية في أكثر الأحيان، أو اجتماعية في بعض الأحيان، ولكنهم لم يفارقوها، كما نرى عند طائفة من صعاليك هذيل، أو عند السليك الذي قلنا إن العصبية القبلية عنده قد اتسعت حتى أصبحت "عصبية جنسية"، أو عند تأبط شرا الذي جعل من قبيلته فهم -أو بتعبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 أدق- من موطنها مركزا يعود إليه بعد غاراته1، فهذه الطوائف من الصعاليك لم تجد قبائلهم ضيرا من أن تروي ما وصل إليها من شعرهم، وبخاصة لأنه يصلح مادة للسمر الممتع الشهي. ومعنى هذا المصدر الأول من مصادر شعر الصعاليك هو قبائلهم نفسها. وقد رأينا أن الصعاليك الخلعاء الذين تبرأت منهم قبائلهم، وطردتهم من حماها، قد استجاروا ببعض القبائل أو ببعض ساداتها، إما استجارة دائمة وإما استجارة مؤقتة. ومن الطبيعي أن يتحدث شعراء هذه الطائفة من الصعاليك الشذاذ عن هذا الجوار في شعرهم، فيمدحوا من أجاروهم، ويثنوا عليهم بما يرونه ردا لذلك الدين الذي طوقت به أعناقهم. ومن الطبيعي أيضا أن يعرضوا لقبائلهم التي خلعتهم، فيكيلوا لها الهجاء، ويخصوا بالذات أولئك الذين كانوا سببا في خلعهم، ومن الطبيعي أن تحرص هذه القبائل التي أجارتهم، هؤلاء السادة الذين أنزلوهم في حماهم، على هذا الشعر حرصا شديدا، وأن يعملوا على إذاعته بين العرب؛ لأنه تسجيل لبعض مفاخرهم، وإشادة ببعض أمجادهم، وليس ما يمنع من أن تذيع هذه القبائل ما قاله هؤلاء الصعاليك في قبائلهم التي خلعتهم؛ لأنه فرصة للنيل منها. وإذن فالمصدر الثاني من مصادر شعر الصعاليك هي تلك القبائل التي استجار بها الخلعاء منهم. والمصدر الثالث من مصادر شعر الصعاليك هم الصعاليك أنفسهم. وأظن أنه ليست هناك غرابة في أن يروي الصعاليك شعر شعرائهم، ويتغنوا به، ويرددوه في كل مناسبة؛ لأنه صورة من حياتهم، وصدى لما يدور في نفوسهم. ومن الطبيعي أن يعمل هؤلاء الصعاليك على أن يذيعوا هذا الشعر ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا؛ لأنه تعبير عن مذهبهم في الحياة، وتعليل لذلك الأسلوب الذي سلكوه في حياتهم، لعلهم بهذا يضمون إليه أنصارا جددا،   1 فأبت إلى فهم وما كدت آئبا ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر "حماسة أبي تمام 1/ 38". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 أو يقنعون مجتمعهم بأنهم على حق في حركتهم. وساعدهم على هذا ما كان يجده هذا الشعر من إعجاب في الأوساط الشعبية التي كانت تفتن بهذا اللون من الشعر، بما فيه من غرابة، وما فيه من بطولة، ولأنه تعبير عن أشياء لعلهم أكثر من يحسونها ويشعرون بها. ولعل شعر عروة بن الورد وصل إلينا أكثره عن طريق هذا المصدر؛ لأن عروة كان يمثل شخصية الزعيم الشعبي صاحب المذهب الذي يحرص على أن يضم إليه أكبر عدد ممكن من الأنصار، ولعل هذا هو السبب في أن شعر عروة هو أكبر مجموعة من شعر الصعاليك وصلت إلينا. أما تلك المجموعة من الشعر التي نظمها الصعاليك المخضرمون بعد ظهور الإسلام، والتي يصح أن نطلق عليها "شعر ما بعد الصعلكة"، فإن شأنها شأن سائر الشعر في ذلك العصر، رواها الروة كما رووه، وحفظوها كما حفظوه؛ إذ أن الصعاليك المخضرمين قد ودعوا حياة التصعلك بعد ظهور الإسلام وشاركوا في الحياة الجديدة كما شارك غيرهم. عن طريق هذه المصادر وصل إلينا شعر الصعاليك. ويبدو أن بعض رواة الشعر العربي قد تنبهوا إلى أن هذا الشعر يكون مجموعة متشابهة المقومات الفنية، فعملوا على جمعه في دواوين خاصة به1. ولكن مع الأسف الشديد لم يصل إلينا من هذه الدواوين إلا أسماؤها وأسماء مؤلفيها، أما هي فقد ضاعت مع ما ضاع من التراث العربي القديم، وليس بين أيدينا الآن من هذه الدواوين -فيما أعرف- سوى قطعة من "كتاب أشعار اللصوص" لأبي سعيد السكري الذي أشار إليه البغدادي في مقدمة الخزانة بين الكتب التي اعتمد عليها في تأليفها2، والذي ذكره ابن النديم من بين مؤلفات السكري3، ويذكر بركلمان أن هذه القصة هي ديوان طهمان من العصر الأموي، وأن   1 انظر ما ورد في فهارس معجم الأدباء لياقوت عن كتب أشعار اللصوص والشطار والفتيان والفتاك "جزء 20". 2 خزانة الأدب 1/ 10. 3 الفهرست/ 78. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 الأستاذ رايت نشرها1، وفي خزانة الأدب للبغدادي قطعة أخرى منه2، هي مجموعة من أخبار عبيد الله بن الحر وأشعاره، وهو أيضا من صعاليك العصر الأموي، وينقل عنه ياقوت في معجم البلدان في كثير من المواضع3، وكذلك ينقل عنه صاحب الأغاني4، ويذكر بركلمان أن في شرح الحماسة للتبريزي مقتطفات منه5. ويبدو أن هذا الكتاب من الكتب التي كانت لها قيمتها، والقطع التي وصلت إلينا منه تدل على هذا دلالة قوية، وصاحب الخزانة يثني عليه6، وحسب هذا الكتاب أنه من عمل السكري الذي يقول عنه ابن النديم "الذي عمل من علماء أشعار الشعراء فجود فأحسن أبو سعيد السكري"7. وللسكري أيضا كتابان آخران يذكرهما ابن النديم، هما أشعار فهم وأشعار الأزد8. وليس من شك في أن هذين الكتابين كانا يضمان شعر تأبط شرا وغيره من صعاليك فهم، والشنفرى وحاجز وغيرهما من صعاليك الأزد. ومما يؤسف له حقا أن تضيع هذه المجموعة من كتب السكري التي لو قد وصلت إلينا لأفادتنا كثيرا كما أفادنا ديوان الهذليين له. وتشير مصادر الأدب العربي إلى دواوين لبعض الشعراء الصعاليك، فيشير الآمدي في ترجمته لأبي الطمحان القيني إلى "ديوانه المفرد"9، وينقل ذلك عنه البغدادي في خزانته10، ويذكره أيضا ابن النديم، ويذكر   1 brocjelmann; geschichte der arabischer literatur, i, p. 21. 2 1/ 297-299 . 3 انظر على سبيل المثال مادة "شعفان" 5/ 274، ومادة "شعفين" ص275 في أخبار عن عروة بن الورد. 4 انظر 20/ 159. 5 brocjelmann; geschichte der arabischer literatur, i, p. 108. 6 1/ 299. 7 الفهرست/ 157. 8 المصدر السابق/ 159. 9 المؤتلف والمختلف/ 149. 10 3/ 426. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 أن الذي عمله الأصمعي وأبو عمرو1، ومما يؤسف له أن يفقد هذا الديوان أيضا. ويشير صاحب الخزانة أيضا إلى ديوان تأبط شرا في نص ينقله عن ابن جني في تصحيحه رواية بيت له يقول فيه "وكذلك وجدتها في شعر هذا الرجل بالخط القديم، وهو عتيد عندي إلى الآن"2، ويذكر بركلمان في حديثه عن تأبط شرا أن "بعض مختارات من ديوانه جمعها ابن جني مخطوطة في الإسكوريال المجلد الثاني/ 778"3. وقد وصل إلينا من دواوين الشعراء الصعاليك ديوانان: ديوان عروة بن الورد، وديوان الشنفرى. ويذكر ابن النديم أن شعر عروة قد جمعه اثنان من الرواة: الأصمعي وابن السكيت4، ولكن لم يصل إلينا إلا الثاني. وقد طبع هذا الديوان عدة مرات، طبعة نولدكه في جوتنجن سنة 1863 مع مقدمة وتعليقات وترجمة ألمانيا، ثم طبع مرة أخرى في المطبعة الوهبية بمصر سنة 1293هـ في مجموع مشتمل على أربعة دواوين أخرى هي دواوين النابغة الذبياني، وحاتم الطائي، وعلقمة الفحل، والفرزذق، تحت اسم "مجموع مشتمل على خمسة دواوين من أشعار العرب"، وديوان عروة فيه مختلف في ترتيبه عن طبعة نولدكه، وفي أول ترجمة عروة نقلا عن الأغاني دون إشارة إلى ذلك، ثم طبع هذا المجموع مرة أخرى في بيروت بالمطبعة الأهلية بدون ذكر لتاريخ الطبع، ويبدو أن هذه الطبعة منقولة عن الطبعة المصرية، وإن يكن صاحبها يذكر في أولها أنها "طبعة جديدة مصححة منقحة، مقابلة على عدة نسخ، مرتبة على الحروف، مضافا عليها كثير من شعره مما تفرق في دواوين الأدب". وأدرج لويس شيخو ديوان عروة مع شرح ابن السكيت في شعراء   1 الفهرست/ 158. 2 3/ 540. 3 geschichte der arabischer literatur, i, p. 25 4 الفهرست/ 158. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 النصرانية1، وأضاف إليه ما ورد في شرح التبريزي على حماسة أبي تمام مع بعض أخبار منقولة عن الأغاني. ثم طبعه مرة أخرى الشيخ ابن أبي شنب الأستاذ بكلية الأدب بالجزائر، بمطبعة جول كربونل بالجزائر سنة 1926، وأضاف إليه جملة من شعره مما لم يذكر فيه، وشرحا على الأبيات يكمل به شرح ابن السكيت. ومن ديوان عروة نسخة خطية في دار الكتب المصرية تحت رقم 5084 "أدب"، وهي أيضا من جمع ابن السكيت وشرحه، وهي صورة من ديوانه المطبوع. ولديوان عروة ترجمة فرنسية قام بها الأستاذ r. basset ونشرها في المجلة الإفريقية التي تصدرها كلية الأدب بالجزائر بالعدد 62 سنة 1928. أما ديوان الشنفرى فقد كان حظه من العناية دون حظ ديوان عروة، فبين أيدينا منه نسختان: نسخة مطبوعة صنعها الأستاذ عبد العزيز الميمني، ونشرها في مجموعة "الطرائف الأدبية" بلجنة التأليف والترجمة والنشر سنة 1937 يذكر في مقدمتها أنها عن نسخة خطية من الديوان عثر عليها بكتبخانة خسرو باشا في إستنبول تحت رقم 149، وعن مجموعة بدار الكتب المصرية تحت رقم 1864 "أدب" يظن أنها نسخة أخرى من الديوان متبورة، وقد أضاف إلى ما ورد في هاتين المخطوطتين بعض أبيات وجدها في مصادر الأدب العربي الأخرى، ولكنه أسقط من الديوان التائية المفضلية، ولامية العرب، ورثاء تأبط شرا "لأن الأوليين وإن كانتا توجدان في النسختين إلا أن ما عند غيرهما أوفى وأتم، والثالثة خلتا عنها مرة، فما لي ولإثباتها، وهي في عامة الكتب، على أنها لا يُوثق بعزوها إليه" -كما يقول في مقدمته2. والنسخة الأخرى التي بين أيدينا من هذا الديوان نسخة مأخوذة بالتصوير الشمسي عن نسخة خطية بخط محاسن بن إسماعيل بن علي من شعراء حلب،   1 من ص880 إلى ص916. 2 ص30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 فرغ من كتابتها بدمشق في منتصف شهر جمادى الآخر سنة 835هـ. وهذه النسخة المصورة محفوظة بدار الكتب المصرية تحت اسم "شعر الشنفرى" تحت رقم 6676 "أدب"، وهي نسخة من الراجح أن الميمني لم يطلع عليها لأنه لم يشر إليها في ديوانه الذي طبعه. وإلى جانب هذين الديوانين هناك مجموعة أشعار هذيل التي عملها السكري أيضا1، وبين أيدينا منها الجزء الأول الذي نشره الأستاذ كوسجارتن john godfirey lewis kosegarten تحت اسم "كتاب شرح أشعار الهذليين" في لندن سنة 1854، والجزء الذي نشره الأستاذ يوسف هل في ليبزج، سنة 1933 تحت اسم "مجموعة أشعار الهذليين الجزء الثاني"، والقسم الذي نشرته دار الكتب المصرية تحت اسم "ديوان الهذليين القسم الثاني" في سنة 1948. ففي هذه المجموعات من أشعار الهذليين طائفة من دواوين صعاليك هذيل: أبي خراش2، والأعلم3، وصخر الغي4، وعمرو ذي الكلب5، كما أن فيها طائفة متناثرة من شعر تأبط شرا6، والذي كانت بينه وبين هذيل عداوة مشبوبة الأوار. فإذا ما تركنا هذه المجموعة من دواوين الشعراء الصعاليك وجدنا أنفسنا أمام مشكلة صعبة، هي مشكلة شعر سائر الصعاليك: أين نجده؟ لا مفر لنا -من أجل هذا- من الرجوع إلى كل مصادر الأدب العربي، سواء منها المطبوعة أو المخطوطة، لننقب -بعد استئذان علماء الآثار- عن أبياته ومقطوعاته وقصائده. والواقع أن شعر الصعاليك مفرق تفريقا شديدا بين   1 ابن النديم: الفهرست/ 78. 2 مجموعة أشعار الهذليين 2/ 47-78، وديوان الهذليين القسم الثاني/ 116-172. 3 شرح أشعار الهذليين 1/ 54-69، وديوان الهذليين القسم الثاني/ 77-87. 4 شرح أشعار الهذليين 1/ 6-49، وديوان الهذليين القسم الثاني/ 51-76، 223-240. 5 شرح أشعار الهذليين 1/ 232-241، ولم تصل طبعة دار الكتب إلى ديوانه. 6 انظر شرح أشعار الهذليين 1/ 4، 238، 252، وهناك طائفة من أخباره وحديث شعراء هذيل عنه متناثرة في 46، 245، 248، 249، 253، 257. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 هذه المصادر، حتى ليصح أن نقول -في شيء من الحذر- إن كل هذه المصادر تضم أبياتا من شعر الصعاليك. وأظن أن ليس في هذا غرابة، فما دام شعر الصعاليك يمثل البادية العربية في كثير من جوانبها اللغوية والجغرافية والاجتماعية والاقتصادية تمثيلا صادقا صحيحا، فمن الطبيعي أن يتخذه اللغويون والرواة والجغرافيون والمؤرخون مصدرا من مصادرهم الأساسية؛ لأنهم يجدون فيه شواهد لكثير مما يقررون. ومن هنا كانت المجموعة اللغوية من أهم مصادر شعر الصعاليك، وأخص بالذكر منها لسان العرب وتاج العروس وجمهرة اللغة لابن دريد، وأهمية هذه المصادر -إلى جانب ما تقدمه لدارس شعر الصعاليك من شرح لألفاظه ومعانيه، وإلى جانب ما تتيحه له من فرصة الموازنة بين الروايات المختلفة- ترجع أيضا إلى ما انفردت به من أبيات لم ترو في مصادر هذا الشعر الأخرى1، بل إن الأمر ليصل أحيانا إلى انفرادها بمجموعة كبيرة من الأبيات لشاعر واحد من بحر واحد وقافية واحدة مما يرجح أنها من قصيدة واحدة2، أو انفرادها بأبيات تصلح أن تكون تكملة لما روته المصادر الأخرى3. فإذا تركنا هذه المجموعة اللغوية وجدنا أن المجموعة الجغرافية، وأخص بالذكر منها معجم البلدان لياقوت، ومعجم ما استعجم للبكري، من المصادر   1 انظر على سبيل المثال في لسان العرب المواد: قطر. وجر. بأس. سكن. نوم "تأبط شرا" - جوش. شهق. قها "أبو الطمحان" - رمل. صرى "السليك" - ولغ "حاجز" - وانظر أيضا ابن دريد: جمهرة اللغة 1/ 140 "حاجز". 2 انظر الأبيات اللامية من بحر الطويل لتأبط شرا في المواد: جلب. خعب. ركب. شحب. كلب. صوف. ثمل. ختل. رسل. رعل. سلل. كدل. هبل. هدمل. جثم. رعى. غزا. وهي أبيات نرجح -لاتحاد وزنها وقافيتها وموضوعها- أنها من قصيدة واحدة لم تصل إلينا، كما نرجح أن الأبيات التي تروى في معلقة امرئ القيس، والتي يشك الرواة في صحة نسبتها إليه، ويرجحون أنها لتأبط شرا، وهي التي يتحدث فيها عن حمله قوية الماء وقطعه الوادي المقفر حيث تعوي الذئاب، من هذه القصيدة أيضا. 3 انظر على سبيل المثال لسان العرب: مادة "جذمر" حيث يروي بيت لتأبط شرا لعله من قصيدته الرائية التي يرويها له الأصمعي في الأصمعيات/ 35. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 الأساسية أيضا لشعر الصعاليك. ويرجع ذلك إلى أن هذا الشعر -لكثرة ما يرد فيه من أسماء الأماكن في الجزيرة العربية- يعد مادة صالحة يستشهد بها هؤلاء الجغرافيون في دراستهم. وقيمة هذه المجموعة من المصادر -إلى جانب ما تقدمه لنا من هذا الشعر- ترجع إلى أنها تعيننا على ضبط نصوصه، وتصحيح روايته، بما تقدمه لنا من ضبط لألفاظ الأماكن التي ترد فيه، والتي قد تكون واردة في المصارد الأخرى محرفة أو مصحفة1. فإذا ما تركنا هاتين المجموعتين اللتين تعنيان بشعر الصعاليك من حيث هو وسيلة لأغراضهما اللغوية والجغرافية، نصل إلى مجموعة تُعنى بهذا الشعر من حيث هو غاية فنية تقصد لذاتها، وهي مجموعة المختارات من شعر الشعراء، وعلى رأس هذه المجموعة نضع المفضليات للضبي، لا لكثرة ما فيها من شعر الصعاليك، فليس فيها منه سوى قصيدتين: إحداهما قافية تأبط شرا2، والأخرى تائية الشنفرى3، ولكن لأنها روت هاتين القصيدتين كاملتين، مما أتاح لنا فرصة الوقوف أمام نصين كاملين من ديوان الصعاليك. هذا إلى جانب أن ابن الأنباري في شرحه عليها قدم لنا مجموعة أخرى من شعر الصعاليك، لم ترو في المصادر الأخرى4. ومن الطبيعي أن نذكر مع المفضليات الأصمعيات؛ لأنها بمثابة التكملة لها، أو الجزء الثاني منها، وقد قدمت لنا أيضا قطعتين من ديوان الصعاليك،   1 انظر على سبيل المثال ما ورد في لسان العرب، مادة "مرج"، للسليك: وأذعر كلابا يقود كلابه ... ومرجة لما أقتبسها بمقنب فإننا حين نمضي إلى المجموعة الجغرافية لا نجد "مرجة" بالجيم، وإنما هي "مرخة" بالخاء وهي "بلد باليمن ومن نواحيه واد كثير النخل" "ياقوت: معجم البلدان 8/ 19"، فإذا أضفنا إلى هذا ما قررناه في التفسير الجغرافي لظاهرة الصعلكة من أن السليك قد تخصص في الإغارة على اليمن، وأن حركات الصعاليك كانت تتجه إلى المناطق الخصبة، تأكد لنا أن صحة هذا الاسم بالخاء، وأن موضعه في لسان العرب يجب أن يكون في "مرخ" لا في "مرج". 2 من ص1-20. 3 من ص194-207. 4 انظر بيتي الشنفرى الداليين في ص197، وأبياته الثلاثة الدالية أيضا في ص198، وقد نقلها الميمني عنه في ديوانه الذي نشره في الطرائف الأدبية "ص34، 35". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 إحداهما رائية عروة المشهورة1، والأخرى رائية لتأبط شرا2، وهذه الأخيرة قد انفردت بها الأصمعيات دون المصادر الأخرى، وقد قلنا منذ قليل أن في لسان العرب بيتا نرجح أن يكون منها. وهناك "جمهرة أشعار العرب" لأبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، وفيها قطعة كبيرة من رائية عروة المشهورة3 يضعها في مجموعة "المنتقيات". ثم هناك "منتهى الطلب من أشعار العرب" لمحمد بن المبارك، وهي مخطوطة بدار الكتب المصرية "تحت رقم 53 ش أدب"، الموجود منها جزءان، في الأول منهما طائفة من قصائد عروة بن الورد، وفي الثاني بعض مقطوعات للشنفرى وتأبط شرا. وهناك مخطوطة أخرى مجهولة المؤلف في الخزانة التيمورية "تحت رقم 1275 تيمورية شعر" فيها قصائد للشنفرى ولعمرو بن براقة الهمذاني. ثم هناك مجموعات الحماسة، وعلى رأسها حماسة أبي تمام التي تمدنا بمجموعة كبيرة من شعر الصعاليك متنوعة الأغراض، كما يمدنا التبريزي في شرحه عليها بمجموعة أخرى كبيرة، تجعل من هذا المصدر مصدرا أساسيا لشعر الصعاليك. وتقف إلى جانب حماسة أبي تمام في مستوى واحد حماسة الخالديين، وهي مخطوطة بالخزانة التيمورية بدار الكتب المصرية "تحت رقم 262 تيمورية شعر"، فإنها تمدنا بمجموعة كبيرة من شعر الصعاليك، بل إنها تنفرد أحيانا برواية قطع منه4. ثم هناك حماسة البحتري، وهي أيضا تمدنا بمجموعة لا بأس بها من شعر الصعاليك موزعة على أغراضها.   1 ص29، 30. 2 ص35. 3 ص114، 115. 4 انظر على سبيل المثال: أبيات عمرو بن براقة "ورقة رقم 443"، وبيتي السليك "ورقة رقم 370 ورقم 371" وبيتي تأبط شرا "ورقة رقم 291". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 ثم هناك الحماسة الصغرى لأبي تمام، وهي المعروفة بالوحشيات، ومنها نسخة مصورة بدار الكتب المصرية "تحت رقم 2297 أدب" وفيها أيضا مجموعة لا بأس بها من شعر الصعاليك. وهناك أيضا الحماسة البصرية لعلي بن أبي الفرج البصري، ومنها نسختان في دار الكتب المصرية، إحداهما مخطوطة "تحت رقم 520 أدب"، والأخرى مصورة "تحت رقم 6300" أدب، وفيها أيضا مجموعة لا بأس بها من شعر الصعاليك. وهناك حماسة ابن الشجري، وهي مطبوعة، وفيها قصيدة لتأبط شرا، هي لامية له1، وقطعة لعمرو بن براقة من قصيدته الميمية المشهورة2. فإذا ما تركنا هذه المجموعة من المختارات التي تُعنى بشعر الصعاليك من حيث هو غاية فنية تُقصد لذاتها، فإننا نقف عند مجموعة أخرى من مصادر هذا الشعر تُعنى به من حيث هو جانب من جوانب حياتهم، ونعني بها كتب التراجم، وما أحسبني في حاجة إلى القول بأن كتاب الأغاني لأبي الفرج على رأس هذه المجموعة بدون استثناء، ففيه أكبر مجموعة من شعر الصعاليك يرويها صاحبه في أثناء تراجمه لأصحابها3. وكذلك الشعر والشعراء لابن قتيبة، ولكننا نلاحظ أنه أغفل ترجمة الشنفرى، وإن يكن قد روى له بضعة أبيات في مقدمته4، وربما كانت ترجمة الشنفرى قد سقطت من مخطوطات الكتاب.   1 ص47. 2 ص55. 3 عروة بن الورد "3/ 73-88 دار الكتب"، وفضالة بن شريك "10/ 171-173 بولاق" وأبو الطمحان "11/ 130-134 بولاق"، وحاجز "12/ 49-53 بولاق". وقيس بن الحدادية "13/ 2-8 بولاق"، والسليك "18/ 133-138 بولاق". وتأبط شرا "18/ 209-218 بولاق"، وصخر الغي "20/ 20-22 بولاق" وعمرو ذو الكلب "20/ 22، 23 بولاق"، وأبو خراش "21/ 54-70 ليدن"، والشنفرى "21/ 134-143 ليدن"، وعمرو بن براق "21/ 175، 176 ليدن". 4 ص19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 ثم المؤتلف والمختلف للآمدي، ومعجم الشعراء للمرزباني، وتراجم الشعراء فيهما -وإن تكن موجزة جدا- تمدنا بمجموعة لا بأس بها من شعرهم. ثم كتاب "المغتالين" لابن حبيب، ومنه نسختان في دار الكتب المصرية: نسخة خطية "تحت رقم 57 ش أدب" ونسخة مصورة "تحت رقم 2606 تاريخ". وطرافة هذا الكتاب تأتي من أنه يهتم بتلك اللحظات الأخيرة في حياة من يترجم لهم، فإذا لاحظنا أن أكثر الشعراء الصعاليك قد قتلوا، أدركنا أهمية هذا الكتاب للباحث في شعر الصعاليك، وإن كنا نلاحظ أن تراجم الشعراء فيه موجزة. ثم كتاب "من نسب إلى أمه من الشعراء" لابن حبيب أيضا، وقد كنا ننتظر أن نجد في هذا الكتاب شيئا كثيرا عن الشعراء الصعاليك ما دام كثير منهم كانوا أغربة ينسبون إلا أمهاتهم، ولكن ابن حبيب، أو لعل النسخة التي وصلت إلينا من كتابه، قد خيبت ظننا، فليس فيها من الشعراء الصعاليك سوى قيس بن الحدادية، وليس فيه من شعره سوى قطعة من أرجوزته التي أنشدها قبيل مقتله1. ثم كتاب "المعمرين" للسجستاني، وفيه البيتان اللذان أنشدهما أبو الطمحان في شيخوخته2. فإذا ما تركنا مجموعة كتب التراجم التي تُعنى بشعر الصعاليك من حيث هو جانب من جوانب حياتهم، وصلنا إلى مجموعة أخرى تُعنى به من حيث هو مادة للدراسة الأدبية أو اللغوية، ونعني بها كتب الأمالي والمحاضرات والأحاديث، ونخص بالذكر منها الكامل للمبرد، والأمالي للقالي، والنوادر له أيضا، والتنبيه لأبي عبيد البكري، والعقد الفريد لابن عبد ربه، والبيان والتبيين للجاحظ، والمحبر لابن حبيب، ومحاضرات الأدباء للراغب، ولباب الآداب لأسامة بن منقذ، ونقد الشعر لقدامة، وعيون الأخبار لابن قتيبة،   1 ص6. 2 ص63. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 والوساطة بين المتنبي وخصومه، وغيرها من كتب تلك المجموعة الضخمة من التراث العربي. ثم هناك مجموعة كتب الشواهد، ونخص بالذكر منها خزانة الأدب للبغدادي، وشرح الشواهد الكبرى للعيني، ففيهما مقدار كبير جدا من شعر الصعاليك. ومرد ذلك إلى اهتمام النحاة بهذا الشعر في شواهدهم. وميزة الخزانة -فوق هذا- أنها ترد كل ما ترويه إلى مصادره التي تنقله عنها، وما أكثر المصادر التي اعتمد عليها صاحب الخزانة في تأليفها، والتي أشار إليها في مقدمته لها1، حتى لتعد الخزانة من المصادر الأولى لشعر الصعاليك. وقد قلنا إن الشعراء الصعاليك -نتيجة لتشردهم- ذكروا طائفة كبيرة من حيوان الصحراء في شعرهم، ومعنى هذا أن الكتب العربية التي تُعنى بدارسة الحيوان تضم مجموعة لا بأس بها من شعر الصعاليك، ونخص بالذكر من بين هذه الكتب كتاب الحيوان للجاحظ. ومن بين الشعراء الصعاليك جماعة أدركوا الإسلام، وأسلموا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، كأبي خراش وأبي الطمحان، فهؤلاء نجد تراجمهم وطائفة من شعرهم في كتب الصحابة، كالإصابة لابن حجر، وأسد الغابة لابن الأثير. ومن هذا القبيل أيضا ما ترويه كتب السيرة من شعر عروة بن الورد وأخباره؛ نظرا لأن إحدى سبياته كانت في بني النضير عندما أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر2. هذه أهم المجموعات التي تكون مصادر "ديوان الصعاليك"، وهذه أهم كتبها، ولم نقصد من ذكرها إلى الحصر، فإنه ليس باليسير، وقد قلنا في أول حديثنا عنها إننا نستطيع أن نقول، في شيء من الحذر، إن كل مصادر الأدب العربي تضم أبياتا من شعر الصعاليك، وإنما كل ما قصدنا إليه من هذا الحديث هو أن نهيئ "المفاتيح" التي نتوصل بها إلى "كنوز" ديوان الصعاليك.   1 انظر 1/ 8-12. 2 انظر على سبيل المثال: السهيلي: الروض الأنف 2/ 178-181. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 2- مادته : حين ننظر في "المادة" التي تجمعت لنا من كنوز ديوان الصعاليك نلاحظ عليها ثلاثة أشياء: قلتها، وكثرة الاضطراب في رواية نصوصها، ثم الشك الذي يحيط ببعض نصوصها. والأمر الذي لا شك فيه هو أن مادة شعر الصعاليك قليلة قلة لا تتكافأ مع كثرة مصادرها، ومرد ذلك من غير شك إلى ضياع جزء كبير منها؛ لأنها -من ناحية- شعر جاهلي، ونحن نعرف أن الشعر الجاهلي قد ضاع أكثره، ولم يصل إلينا منه إلا أقله، وهي حقيقة معروفة مقررة عند القدماء1، ثم هي -من ناحية أخرى- نتاج طائفة من الشعراء متمردة على قبائلها، متشردة في مجاهل الصحراء. وليس الأمر استنتاجا نظريا، وإنما هي حقيقة يذكرها القدماء، فهم يذكرون عن قيس بن الحدادية أنه "شاعر قديم كثير الشعر"2، وليست مجموعة شعر قيس التي بين أيدينا بالتي يصح أن نطلق على صاحبها أنه "كثير الشعر". وليس من شك في أن كثيرا من الشعراء الصعاليك كانوا مثل قيس من حيث كثرة الشعر، وأن كل الشعراء   1 يقول أبو عمرو بن العلاء "ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله، ولو جاءكم وافرا لجاءكم علم وشعر كثير" "ابن سلام: طبقات الشعراء/ 10"، ويعلل عمر بن الخطاب لهذا بهلاك رواته من العرب في الفتوح الإسلامية "المصدر السابق/ 10"، ويقول ابن قتيبة "ولا أحسب أحدا من علمائنا استغرق شعر قبيلة حتى لم يفته من تلك القبيلة شاعر إلا عرفه ولا قصيدة إلا رواها "الشعر والشعراء/ 3"، ويحدثنا الأصمعي أنه "كان ثلاثة إخوة من بني سعد لم يأتوا الأمصار فذهب رجزهم" "المصدر السابق/ 4". 2 المرزباني: معجم الشعراء/ 326. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 الصعاليك كانوا مثله ومثل سائر الشعراء الجاهليين من حيث ضياع أكثر شعرهم. وإلى جانب هذه القلة في المادة نلاحظ أيضا كثرة الاضطراب في رواية نصوصها، وهي ظاهرة تُلاحظ على كل نصوص الشعر الجاهلي، ولكنها تُلاحظ بصورة قوية في نصوص شعر الصعاليك. ومن اليسير أن نفهم هذا ما دمنا قد عرفنا أن الشعراء الصعاليك كانوا يمثلون طائفة متمردة على قبائلها، متشردة في مجاهل الصحراء، وما دام هذا الشعر قد وصل إلينا مفرقا في مصادر الأدب العربي المختلفة، ولم يصل إلينا إلا قليل منه في دواوين مستقلة. وكما يُلاحظ هذا الاضطراب في ألفاظ هذا الشعر، يُلاحظ في ترتيب أبياته، ويُلاحظ أيضا في عدد هذه الأبيات، وهذا ما سنحاول الإشارة إليه فما يمر بنا منه في هذا البحث. فإذا ما تركنا هاتين الملاحظتين الشكليتين، فإننا نصل إلى الملاحظة الثالثة، وهي الشك الذي يحيط ببعض نصوص هذا الشعر، وهي ملاحظة جوهرية؛ لأنها تتصل بالمادة التي بين أيدينا: أهي حقا لأصحابها أم هي مزيفة عليهم؟ وشعر الصعاليك في هذه المسألة ليس بدعا من سائر الشعر الجاهلي الذي اتهم بالتزييف والانتحال اتهاما شديدا، والذي تعرض لحملة شديدة كانت على وشك أن تعصف بأركانه. ولسنا نبرئ الشعر الجاهلي من هذا الاتهام، ولكنا أيضا لا نمضي مع هذا الاتهام إلى ذلك الحد الذي يجعل من رواة الشعر الجاهلي "عصبة من المزيفين" لا هم لهم إلا صناعة نماذج من الشعر ثم حملها على الشعراء الجاهليين، والذي يجعل درس الشعر الجاهلي ضربا من الأعمال "البوليسية" التي لا هم لها إلا البحث عن هؤلاء المزيفين ومصادرة "عملتهم" الزائفة. والأمر الذي لا أكاد أشك فيه هو أن الشعر الجاهلي قد لقي من عناية القدماء نصيبا موفورا، وأن نقاد هذا الشعر لم يشكوا في شيء منه إلا سجلوا هذا الشك، وحسبنا هذا الشك دليلا على عناية القدماء بأمر هذا الشعر. أما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 ما كان التزييف فيه بارعا إلى درجة خفيت على القدماء أنفسهم من النقاد والرواة، فما أظن أننا نبيح لأنفسنا الادعاء بأننا أدق حسا بالشعر الجاهلي من هؤلاء القدماء الذين كانوا أقرب منا عهدا بعصر هذا الشعر، أما إذا كان الراوية أو الناقد مجرحا عرفت عنه الغفلة أو الكذب، أو كان المتن نفسه يحمل في أثنائه دليلا على الكذب أو التزييف، فهنا تكون مواضع الشك والاتهام. وليست هذه الخطة بدعا في الدرس، وإنما هي خطة سار عليها علماء الحديث في دراستهم لأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وتحقيقها. ومجموعة شعر الصعاليك التي دارت حولها أحاديث الشك نوعان: فمجموعة كان الشك فيها "داخليا" بمعنى أن الرواة قد اتفقوا على أنها من شعر الصعاليك، ولكنهم اختلفوا في نسبتها إلى أيهم، ومن الأمثلة على هذه المجموعة تلك البائية التي تروى مرة لأبي خراش الهذلي1، ومرة للأعلم الهذلي2، ومرة لتأبط شرا3 وهم جميعا من صعاليك منطقة واحدة هي منطقة السراة. ومن الأمثلة على هذه المجموعة أيضا تلك الدالية التي يرويها الأصمعي وأبو عمرو الشيباني والسكري لصخر الغي الهديل4، والتي يذكر أبو عبيدة "أنه رأى جماعة من شعراء هذيل يختلفون في هذه القصدية فيرويها بعضهم لصخر الغي، ويرويها بعضهم لعمرو ذي الكلب، وأن الهيثم بن عدي حدثه عن حماد الرواية أنها لعمرو ذي الكلب"5، وكلا الشاعرين من صعاليك هذيل. والخطب في هذه المجموعة هين، فإن المسألة لم تخرج عن دائرة الصعاليك. وهذا الاختلاف -وإن يكن له تأثير في الدراسة الفنية للشاعر الواحد-   1 ديوان الهذليين، القسم الثاني/ 168، 169. 2 الآمدي: المؤتلف والمختلف/ 95. 3 ديوان الهذليين، القسم الثاني/ 168، 169، وابن دريد: جمهرة اللغة 1/ 240. 4 الأغاني 20/ 19، وشرح أشعار الهذليين 1/ 12، ويرويها له أيضا ابن قتيبة في الشعر والشعراء/ 420. 5 الأغاني 20/ 19. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 لا تأثير له في الدراسة الفنية لشعر الصعاليك من حيث هو شعر مجموعة، ولا تأثير له في الدراسات الاجتماعية لظاهرة الصعلكة. ومن هنا وقفنا من هذه المجموعة موقفين مختلفين، فاعتمدنا عليها في دراسة ظاهرة الصعلكة، وفي دراسة شعر الصعاليك من حيث هو شعر مجموعة، أما حين ندرس شاعرا معينا، فمن الطبيعي ألا نعتمد عليها، لا في دراسة حياته، ولا في دراسة فنه، وإلا وصلنا إلى نتائج مشكوك في مقدماتها. أما المجموعة الأخرى فإن الشك فيها شك "خارجي" بمعنى أنه يدور حول نسبتها إلى الشعراء الصعاليك أو إلى غيرهم من الشعراء، كتلك الأبيات التي تنسب مرة إلى تأبط شرا1، ومرة ثانية إلى البعيث2، ومرة ثالثة إلى هدبة العذري3، وكتلك الأبيات البائية التي تنسب في بعض المصادر إلى أبي الطمحان4، وفي بعضها إلى لقيط بن زرارة5، وكالبيتين اللذين ينسبان في بعض المصادر إلى السليك6، وفي بعضها إلى المعتصم بالله بن هارون الرشيد7. وقد يكون من اليسير أن ينتهي الباحث إلى رأي في هذا الاختلاف إذا أعانته بعض الخصائص الفنية في نصوص هذه الأبيات على التعرف على شخصيات أصحابها، فمثلا قد يكون من اليسير أن نصحح نسبة البيتين الأخيرين إلى المعتصم؛ إذ إن سمات "الأرستقراطية" تبدو عليهما في صورة ذلك السيد الذي يأمر غلامه بأن يهيئ له حصانة ويطرح عليه سرجه ولجامه، فإذا أضفنا إلى هذا أن البيت الثاني يُروى في بعض المصادر "أبلغْ الأتراك"8   1 ابن قتيبة: عيون الأخبار، المجلد الأول/ 281. 2 المصدر السابق/ 276. 3 ابن عبد ربه: العقد الفريد 1/ 116. 4 المبرد: الكامل/ 30، وانظر أيضا ص66، 507. 5 الجاحظ: الحيوان 3/ 93، وابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 447. 6 أسامة بن منقذ: لباب الآداب/ 182. 7 المرزباني: معجم الشعراء/ 425. 8 المصدر السابق/ 425. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 مكان "أبلغ الفتيان"، رجحت لدينا نسبة هذين البيتين للمعتصم، ومن الحق أن السليك كان له فرس اسمه "النحام"1، ولعل هذا هو الذي أشكل على بعض الرواة فنسبوا البيتين له، ولكن هذا ليس كافيا لإثبات صحة هذه النسبة، فقد يكون في خيل المعتصم ما يحمل هذا الاسم. والأمر في الأبيات التي تنسب إلى أبي الطمحان أو لقيط بن زرارة يشبه هذا الأمر، فإن في الأبيات فخرا بقوم الشاعر بالسيادة والحسب، وهذا أليق بلقيط ذلك السيد التميمي الذي يصفه ابن قتيبة بأنه "كان أشرف بني زرارة"2، وكما أن فخر الشاعر بلسان قومه ليس من الخصائص المألوفة في شعر الصعاليك، ومن هنا نستطيع أن نرجح نسبة هذه الأبيات إلى لقيط، وقد تنبه ابن قتيبة إلى هذا حيث يقول "وبعض الرواة ينحل هذا الشعر أبا الطمحان القيني، وليس كذلك، إنما هو للقيط"3. وقد تنبه القدماء إلى مثل هذا، فقد اختلف الرواة في أربعة أبيات من معلقة امرئ القيس: أهي له أم لتأبط شرا؟ وهي تلك الأبيات التي يتحدث فيها الشاعر عن حملة قربة الماء، وتشرده في الوديان المقفرة مع الذئاب الجائعة، وعن فقره وإسرافه وهزاله4: أما الأصمعي فقد ذهب إلى أن هذه الأبيات ليست لأمرئ القيس وإنما هي لتأبط شرا، وتابعه في هذا الرأي أبو حنيفة الدينوري وابن قتيبة، وأما السكري فقد خالفهم في هذا ورواها لامرئ القيس في معلقته5، وقد تنبه صاحب خزانة الأدب إلى أن هذا الشعر أشبه بكلام اللص والصلعوك لا بكلام الملوك6. وقد يقال إن امرأ القيس تصعلك حقبة من حياته، فلعله يعبر عن هذه   1 انظر الكامل للمبرد/ 471، ولسان العرب مادة "نحم". 2 الشعر والشعراء/ 446. 3 المصدر السابق/ 447. 4 التبريزي: شرح القصائد العشر/ 37، 38. 5 البغدادي: خزانة الأدب 1/ 65. 6 المصدر السابق/ 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 الحقبة في هذه الأبيات، ولكن يلاحظ أن وضع هذه الأبيات في المعلقة وضع قلق، إذ إنها حديث شاب "أرستقراطي" عن اللهو والنساء والصيد فليس من المعقول أن يتحدث في أثناء هذا عن حملة قربة الماء وفقره وتشرده، وقد رجحنا منذ قليل أن هذه الأبيات قطعة من لامية لتأبط شرا لم تصل إلينا، وقلنا إنه من الممكن أن تتألف من تلك الأبيات الكثيرة الواردة له في لسان العرب من وزن واحد وعلى قافية واحدة. وصورة أخرى من هذا "الشك الخارجي" نراها حين تتهم بعض نصوص شعر الصعاليك بأنها قد صنعت وحملت عليهم، فمثلا يقول أبو عمرو تعليقا على القصيدة القافية المنسوبة إلى قيس بن الحدادية في مدح أسد بن كرز: "وهذه الأبيات من رواية أصحابنا الكوفيين، وغيرهم يزعم أنها مصنوعة، صنعها حماد الراوية لخالد القسري في أيام ولايته وأنشده إياها، فوصله، والتوليد بين فيها جدا"1، ويذكر أبو الفرج بعد أن روى القصيدة البائية المنسوبة إلى قيس الحدادية أيضا التي يفتخر فيها بقومه، ويعيِّر عامر بن الظرب بفراره: "هذه القصيدة مصنوعة والشعر بيِّن التوليد"2. ولعل أشهر ما تعرض لهذا الشك من شعر الصعاليك لاميتان: إحداهما تنسب إلى الشنفرى، وهي المعروفة بلامية العرب، ومطلعها: أقيموا بني أمي صدور مطيكم ... فإني إلى قوم سواكم لأميل والأخرى اختلف القدماء في نسبتها اختلافا شديدا، ومطلعها: إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلا دمه ما يطل وكلتا اللاميتين اتهم بصنعهما خلف الأحمر3. والقدماء يصفون خلفا بأنه "كان من أمرس الناس لبيت شعر"4،   1 الأغاني 13/ 5 "بولاق". 2 المصدر السابق/ 4. 3 ابن عبد ربه: العقد الفريد 5/ 307، وابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 497، والجاحظ: الحيوان 1/ 182، والقالي: الأمالي 1/ 156. 4 ابن النديم: الفهرست/ 50. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 ويقول ابن سلام: "أجمع أصحابنا أن الأحمر كان أفرس الناس ببيت شعر"1، ويقول الأخفش: "لم أدرك أحدا أعلم بالشعر من خلف الأحمر الأصمعي"2، ويقول أبو اليزيد: "أتيت بغداد حين قام المهدي محمد، فوافاها العلماء من كل بلدة بأنواع العلوم، فلم أر رجلا أفرس ببيت شعر من خلف"3. ولكنهم مع الأسف يصفونه بأنه "كان يقول الشعر فيجيد، وربما نحله الشعراء المتقدمين، فلا يتميز من شعرهم لمشاكلة كلامه كلامهم"4 ويقول أبو الطيب عبد الواحد اللغوي: "كان خلف يضع الشعر وينسبه إلى العرب فلا يُعرف"5، ويذكر ابن قتيبة أنه "كان يقول الشعر وينحله المتقدمين"6، ويقول ابن عبد ربه: "وكان خلف مع روايته وحفظه يقول الشعر فيحسن وينحله الشعراء"7، ويذكر ابن النديم عنه أنه "كان شاعرا يعمل الشعر على لسان العرب وينحله إياهم"8، بل إنه هو نفسه يصرح بهذا ففي بعض الأخبار أنه قال: "كنت آخذ من حماد الرواية الصحيح من أشعار العرب، وأعطيه المنحول فيقبل ذلك مني، ويدخله في أشعارها"9. ومعنى هذا أننا أمام "مزيف" بارع يعرف أساليب العرب في الشعر ويقلدها ثم يحملها عليهم، فلا يكادون يميزونها، وهنا موطن الخطر، فلو لم يكن خلف على هذه البراعة، لاستطاع القدماء، ولاستطعنا نحن أيضا، أن نعرف ما هو صحيح النسبة إلى أصحابه مما يرويه من الشعر وما هو منحول عليهم.   1 ياقوت: معجم الأدباء 11/ 67. 2 المصدر السابق 11/ 67. 3 ابن النديم: الفهرست/ 54. 4 ابن الأنباري: نزهة الألباء في طبقات الأدباء/ 69، 70. 5 ياقوت: معجم الأدباء 11/ 68. 6 الشعر والشعراء/ 497. 7 العقد الفريد 5/ 307. 8 الفهرست/ 50. 9 الأغاني 6/ 92. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 ولعل الأمر في اللامية الأخيرة "إن بالشِّعب" أيسر، فإن الشك يكتنفها اكتنافا شديدا لم تتعرض لمثله أية قصيدة أخرى من "ديوان الصعاليك"، وتكاد مصادر الأدب العربي المختلفة لا تتفق على قائلها، فهي مرة تنسب إلى تأبط شرا1، ومرة إلى ابن أخت تأبط شرا2، ومرة إلى الشنفرى3، هذا إلى جانب نسبتها إلى خلف الأحمر4، بل إن أبا تمام الذي ينسبها في حماسته في صراحة إلى تابط شرا5، ينسبها في بعض المصادر الأخرى في صراحة أيضا إلى الشنفرى6، بل الغريب أن تنسب أحيانا إلى الشنفرى في رثاء تأبط شرا7، مع أن المعروف أن الشنفرى قتل قبل تأبط شرا، وأن تابط شرا هو الذي رثاه8، والجاحظ لا يعرض لها إلا متشككا، فهو يقول مرة: "وقال تأبط شرا أو أبو محرز خلف بن حيان الأحمر"9، ويقول مرة أخرى: "وقال تأبط شرا، وإن كان قالها"10. وينقل ابن دريد بيتا منها في أسلوب المتشكك حيث يقول: "وقد رُوي البيت المنسوب إلى الشنفرى أو إلى تأبط شرا ... "11، ووضع العبارة على هذه الصورة المتشككة، والتعبير بكلمة "المنسوب"، يشعران بما كان يدور في نفس ابن دريد من الشك في صحة هذه النسبة إلى أي من الشاعرين. ويقول ابن عبد ربه: "ويقال   1 حماسة أبي تمام 2/ 160. ولسان العرب: مادة "سلع". 2 ابن عبد ربه: العقد الفريد 1/ 252، 3/ 298، 5/ 345، 346. 3 البغدادي: خزانة الأدب 3/ 532. ولسان العرب: مادة "سلع". وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة 249. 4 ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 497. 5 حماسة أبي تمام 2/ 160. 6 حماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة 250. 7 البغدادي: خزانة الأدب 3/ 532. ولسان العرب: مادة "سلع". وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة 249. 8 الأغاني 21/ 136. 9 الحيوان 1/ 182. 10 المصدر السابق 3/ 68. 11 جمهرة اللغة 1/ 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 إن الشعر المنسوب إلى ابن أخت تأبط شرا وهو: إن بالشعب الذي دون سلع ... لقتيلا دمه ما يطل لخلف الأحمر، وإنه نحله إياه"1. ويقول التبريزي في صراحة عن هذا الشعر: "وذكر أنه لخلف الأحمر، وهو الصحيح"2. وكذلك يفعل ابن قتيبة إذ يذكر في صراحة لا تحتمل شكا أن قائل هذه القصيدة هو خلف، وهو يذكر هذا في ترجمته له3. ومعنى هذا أن القدماء لم يتفقوا على نسبتها إلى أحد من الشعراء الصعاليك، وإنما كان اختلافهم في هذا اختلافا عريضا، وأنهم يقفون منها موقف المتشكك في صحة نسبتها إلى أي من الشعراء الصعاليك، بل إن بعض من يعتد برأيهم يصرحون في قوة بأنها لخلف. ولكنا نعود فنقف أمام نص الخالديين في حماستهما يذكران فيه -بعد أن ذكرا هذه القصيدة منسوبة إلى الشنفرى- "وقد زعم قوم من العلماء أن الشعر الذي كتبنا للشنفرى هو لخلف الأحمر، وهو غلط"4، ثم يرويان خبرا طويلا5 عن الصولي عن أبي العيناء عن العتبي في إثبات هذا، خلاصته أن العتبي كان جالسا يوما بالمربد مع "جماعة من أهل الأدب" ومعهم خلف الأحمر يتذاكرون "أشعار العرب"، ثم أخذ خلف ينشدهم قصيدة له على روي هذه اللامية وقافيتها "يذكر فيها ولد أمير المؤمنين عليهم الرحمة وما نالهم وجرى عليهم من الظلم"؛ إذ هجم عليهم الأصمعي، وكان منحرفا عن أهل البيت، فقطع خلف قصيدته، ودخل في هذه اللامية، ولم يكن في الجماعة "أحد عرف هذا الشعر ولا رواه للشنفرى"، فلما انصرف الأصمعي أقبلوا على خلف ينظرون سرعة بديهته، ومقدرته على الارتجال، ولكنه قال لهم   1 العقد الفريد 5/ 307. 2 شرح حماسة أبي تمام 2/ 160. 3 الشعر والشعراء/ 497. 4 ورقة رقم 250 "مخطوطة". 5 من ورقة رقم 251 - إلى ورقة رقم 254. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 177 "إن كان تقريظكم لي لأني عملت الشعر فما عملته والله، ولكنه للشنفرى تأبط شرا1، والله لو سمع الأصمعي بيتا من الشعر الذي كنت أنشدكموه ما أمسى أو يقوم به خطيبا على منبر البصرة فيتلف نفسي، فادعاء شعر لو أردت قول مثله ما تعذر عليَّ أهون عندي من أن يتصل بالسلطان فألحق باللطيف الخبير". والخبر على هذه الصورة يحمل في ثناياه كذبه، فماذا يحمل خلفا على أن يدعي أمام الأصمعي أن هذه القصيدة له، ولا ينسبها صراحة إلى صاحبها؟ ثم كيف نتصور أن الأصمعي لم يكن يعرف هذه القصيدة لو كانت حقا للشنفرى أو غيره من الشعراء الجاهليين، وهو الذي يقرنه الأخفش بخلف الأحمر في العلم بالشعر، ويقول إنه لم يدرك أحد أعلم بالشعر منهما؟ 2 كيف نتصور أن خلفا يسيئ الظن بالأصمعي إلى هذا الحد الذي ينشده فيه قصيدة جاهلية، ويدعيها لنفسه، دون أن يظن أن الأصمعي قد يكون يرويها هو أيضا؟ ثم كيف نتصور أن هذه "الجماعة من أهل الأدب" المجتمعة لتتذاكر "أشعار العرب" -على حد تعبيرات القصة- قد خلت من واحد يعرف أن هذه القصيدة جاهلية؟ ثم أين سائر أفراد هذه "الجماعة من أهل الأدب" ولِمَ لَمْ يذكر واحد منهم غير العتبي هذا الخبر؟ أما أنا فأرجح ترجيحا شديدا أن العتبي راوي هذا الخبر هو مختلقه. ويؤيد هذا انفراده بروايته، وقوله إنه لم يبق من يعرفه غيره، وأنه تحدث به في مجلس له ورجل يقرأ عليه شعر الشنفرى، فلما وصل إلى هذه اللامية قال بعض من كان في المجلس: هذه القصيدة لخلف الأحمر، فضحك العتبي مستخفا به، ومضى يقص هذا الخبر. وهذا يجعلنا نرجح أن المسألة كانت تحديا بينه وبين بعض الحاضرين، وفي مثل هذا الموقف قد يعمد بعض الناس إلى الاختلاق. ثم قد يكون العتبي اختلق هذه القصة ليبرئ خلفا من   1 كذا في المخطوطة "ورقة رقم 252" وأظن أن صوابه "للشنفرى يرثي تأبط شرا". 2 ياقوت: معجم الأدباء 11/ 67. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 تهمة الكذب، وكلاهما شيعي. هذا من الناحية التاريخية، أما من الناحية الفنية فقد حاول القدماء ممن نسبوها إلى خلف أن يدللوا على صحة هذه النسبة، ويروي التبريزي عن النمري أنه قال "ومما يدل على أنها لخلف الأحمر قوله فيها -جل حتى دق فيه الأجل- فإن الإعرابي لا يكاد يتغلغل إلى مثل هذا"1. ويروى عن أبي الندى أنه قال "مما يدل على أن هذا الشعر مولد أنه ذكر فيه سلعا وهو بالمدينة، وأين تأبط شرا من سلع؟ وإنما قُتل في بلاد هذيل2". ولكن صاحب معجم البلدان يذكر أن في ديار هذيل جبلا اسمه سلع3، ولكنه -من ناحية أخرى- ينقل عن بعض العلماء أنهم استدلوا على أن هذه القصيدة ليست لتأبط شرا "بأن سلعا ليس دونه شعب"4. على هذه الأسس التاريخية والفنية نظن، بل نرجح، أن هذه اللامية ليس لأحد من الشعراء الصعاليك ولا في رثاء أحد من الصعاليك. أما القصيدة الأخرى، لامية العرب، فإن الأمر فيها أصعب من هذا، فليس حولها هذا الخلاف العريض الذي رأيناه حول اللامية الأولى، فإن الرواة الذين تعرضوا لها ينسبونها إلى الشنفرى5، ما عدا صاحب تاج العروس الذي ينسبها إلى تأبط شرا6، وليس بين أيدينا من النصوص الصريحة على أنها ليست للشنفرى سوى نص يرويه القالي عن ابن دريد يذكر فيه أن هذه القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى لخلف الأحمر7. وهو نص له قيمته؛ لأن ابن دريد   1 شرح حماسة أبي تمام 2/ 160، 161. 2 المصدر السابق/ 161. 3 ياقوت: معجم البلدان 3/ 108، مادة "سلع". 4 المصدر السابق 1/ 5 "المقدمة". 5 انظر على سبيل المثال التبريزي في شرحه على حماسة أبي تمام 1/ 234، والبغدادي في خزانة الأدب 2/ 414، 3/ 334، والعيني في شرح الشواهد الكبرى "على هامش خزانة الأدب" 2/ 117 وإن كنا نلاحظ أن العيني يذكر أن الشنفرى هو عمرو بن براق، وهو خلط، وهبة الله العلوي في ديوان مختارات شعراء العرب/ 21، وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة رقم 130. 6 مادة "آم". 7 الأمالي 1/ 156. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 كان قريب عهد بخلف، فأكثر أخباره مروية عن تلاميذ الأصمعي عن خلف، ثم إنه كان على صلة بأعمال المدرسة البصرية التي ينتمي إليها خلف1، فإذا أضفنا إلى هذا أن أبا الفرج قد أغفل هذه اللامية في ترجمته للشنفرى إغفالا تاما ولم يشر إليها أي إشارة على كثرة ما روى من شعره2، كما فعل مع اللامية الأولى في ترجمته لتأبط شرا3، وأن لسان العرب -على كثرة ما نقل من شعر الصعاليك- لم يرد أي ذكر لها ولا أي بيت منها، بدأت كفة الشك في صحة نسبتها إلى الشنفرى ترجح. هذه من الناحية التاريخية، أما من الناحية الفنية فإن أول ما يلفت نظرنا أن هذه اللامية طويلة طولا ليس مألوفا في شعر الصعاليك، وسنرى فيما بعد أن شعر الصعاليك كان في مجموعة شعر مقطوعات، فهذه اللامية تبلغ ثمانية وستين بيتا، في حين لا تزيد أطول قصيدة في "ديوان الصعاليك" وهي تائية الشنفرى المفضلية على خمسة وثلاثين بيتا في بعض المصادر4، أي أن هذه اللامية تبلغ ضعف أطول قصيدة في ديوان الصعاليك تقريبا وإلى جانب هذه نلاحظ قلة الاضطراب في رواية ألفاظها، وفي ترتيب أبياتها، وهي ظاهرة ليست مألوفة في شعر الصعاليك، فقد لاحظنا في أول هذا الفصل أن مما يميز شعر الصعاليك الاضطراب في رواية ألفاظه وترتيب أبياته. فإذا أضفنا إلى هذا ما لاحظه كرنكو5 من قلة أسماء المواضع والأشخاص فيها، وهي ظاهرة ليست طبيعية في قصائد الشعر العربي المبكرة، زادت كفة الشك في صحة نسبة هذه اللامية إلى الشنفرى في الرجحان. وقد نتساءل بعد هذا: ما السر في تلك العناية الغريبة التي لقيتها هذه   1 Kenkow; the ency. of islam, art. al-shanfara. 2 21/ 134-143 . 3 18/ 209-218 . 4 انظر في شرح ابن الأنباري على المفضليات "ط بيروت" تعليق الأستاذ lyall على البيت الأخير من التائية "ص207". 5 the ency of islam, art. al-shanfara. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 اللامية حتى تؤلف فيها تلك الشروح الكثيرة المتعددة1، وحتى يحرص الغربيون على ترجمتها إلى لغاتهم؟ 2 الذي يبدو لي أن سر إقبال الشراح العرب عليها هو أنهم وجدوا فيها مادة لغوية طيبة، ثم أخذت المسألة تصبح لونا من التقليد والتنافس بين الشراح، أما الغربيون فقد وجدوا فيها صورة متقنة لحياة الأعراب في الجزيرة العربية، فكان اهتمامهم بها لغرض اجتماعي، كما كان اهتمام العرب بها لغرض لغوي. والحق يقال إن خلفا قد صور حياة صعاليك العرب في هذه اللامية تصويرا رائعا ممتازا، حتى ليصح أن تكون مصدرا من مصادر دراسة حياتهم الاجتماعية. والأمر الذي لا شك فيه هو أن خلفا قد تمثل أولا حياة صعاليك العرب وخصائص شعرهم الفنية، ثم مضى يصور هذه الحياة وهذا الفن في قصيدة رائعة، حاول ما استطاع أن يجعلها صورة صادقة لما عرف عن شعرهم وأخبارهم، حتى ليصح أن نطلق عليها لا "لامية العرب" وإنما "لامية الصعاليك" أو "دنيا الصعاليك".   1 انظر فهرس دار الكتب المصرية في شروح هذه اللامية التي تبلغ أكثر من عشرين شرحا. 2 the ency. of islam, art. al-shanfara. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 الفصل الثاني: موضوعات شعر الصعاليك 1- الشعر داخل دائرة الصعلكة أحاديث المغامرات: من الطبيعي -ما دامت حياة صعاليك العرب قد اتخذت شعارها "الغزو والإغارة للسلب والنهب"- أن يكون أكبر ما يُعنى به شعراؤهم أحاديث مغامراتهم؛ لأن هذه المغامرات هي "الحرفة" التي قامت عليها حياتهم، والأسلوب الذي انتهجوه فيها لتحقيق غاياتهم. وهم يتحدثون عن هذه المغامرات حديث المؤمن بقيمتها في حياته، المعجب بها، الفخور ببطولته فيها، أو بمقدرته على النجاة من أخطارها وقد ضاقت في وجهه سبل النجاة. وهم يصفون كل ما يحدث في هذه المغامرات، منذ أن تأخذ جماعة الصعاليك في وضع خطتها، إلى أن تنتهي الغارة، ويعود فتيان الصعاليك بأسلابهم بعد أن نفذوا خطتهم، وحققوا أهدافهم، وهم يصفون، في أثناء ذلك، الطريق الذي سلكوه، ويتحدثون عن رفاق الغارة، ودور كل واحد فيها، وكيف نفذوا خطتهم، وكيف كانت آثارها في أعدائهم، وكيف انتهت الغارة وعاد فتيان الصعاليك إلى قواعدهم سالمين بعد أن قتلوا وسلبوا ونهبوا. فهذا الشنفرى يخرج في عدة من فهم1 فيهم عامر بن الأخنس وتأبط شرا والمسيب وعمرو بن براقة ومرة بن خليف يقصدون العوص، وهم حي من بجيلة، فلما انتهوا من الغارة، وأخذوا طريق العودة، اعترضت لهم خثعم،   1 الأغاني 18/ 215، 216، وديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية/ 32. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 ودارت بينهم معركة انتهت بانتصار الصعاليك، فإذا ما انتهت المعركة فرغ الشنفرى إلى فنه يحدثنا عنها حديثا رائعا فيه دقة وتفصيل، يبدأ منذ أن أعلن امرأته أنه خارج لها، غير مبال بحياته أو حريص عليها، وفيم المبالاة أو الحرص وهو يعلم أن أجله لا بد آت في يوم من الأيام: دعيني وقولي بعد ما شئت إنني ... سيغدَى بنعشي مرة فأغيب وهو لا يطيل في هذا الحديث لأنه في لهفة إلى أن يدرك رفاقه، والموقف لا يحتمل ريثا ولا إبطاء، فليترك امرأته بعد هذا القول الفاصل "دعيني وقولي بعد ما شئت"، وبعد هذه الحجة القاطعة "إنني سيغدى بنعشي مرة فأغيب"، وليسرع إلى رفاقه في لهفة شديدة، يمثلها انتقاله السريع من هذا الحديث إلى حديثه عن خروجهم في مغامرتهم. وهو يذكر لنا أنهم كانوا ثمانية، وأنهم خرجوا جميعا مسرعين، لم يعهدوا إلى أحد بالقيام على شئونهم، ولم يوصوا أحد بأهلهم، وهم جميعا فتيان كأنهم الذئاب، وجوههم مشرقة لا تبدو عليها مظاهر جزع أو خوف: خرجنا فلم نعهد وقلت وصاتنا ... ثمانية ما بعدها متعتب سراحين فتيان كأن وجوههم ... مصابيح أو لون الماء مذهب1 ثم هاهم أولاء في طريقهم إلى هدفهم مسرعين، لا يعرجون على شيء حتى على الماء، على شدة حاجتهم إليه، وعلى علمهم أن الزاد ظن مغيب، ثم هاهم أولاء بعد ثلاثة أيام على أقدامهم يصلون إلى هدفهم يتقدمهم دليل خفيف فارع شجاع: نمر برهو الماء صفحا وقد طوت ... ثمائلنا، والزاد ظن مغيب ثلاثا على الأقدام حتى سما بنا ... على العوص شعشاع من القوم محرب2   1 الذي هنا رواية الأغاني، وفي الديوان "مستعتب" مكان "متعتب". والسراحين: الذئاب. 2 الرهو: مستنقع الماء. الثمائل جمع ثميلة وهي سقاء الماء. الشعشاع: الطويل الخفيف. المحرب: الشديد الحرب الشجاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 ثم يصور المعركة التي دارت قبيل الفجر، في ظلام الهزيل الأخير من الليل، وقد تنبه لهم الحي الذي يهاجمونه، فعلت صيحاتهم، واختلطت بصيحات الصعاليك. ودارت المعركة وقام كل من الصعاليك بدوره فيها في بطولة وشجاعة: أما تأبط شرا فقد بدأ هجومه السريع بسيفه الذي يهتز في يده لسرعة ضرباته، وأما المسيب فقد أعمل فيهم سيفه في تصميم لا يلين، وأما الشنفرى فقد وقف للدفاع هو وجماعة من فتيان الصعاليك، وثبتوا في موقفهم، حتى انجلت المعركة عن انتصار الصعاليك بعد أن قتلوا جماعة من أعدائهم وسلبوهم، أما سائرهم -على كثرتهم- فقد انتابهم فزع شديد، حتى خيل إليهم أن كل مرتفع من الأرض يصب عليهم كل الصعاليك الثمانية: فثاروا إلينا في السواد فهجهجوا ... وصوت فينا بالصباح المثوب فشن عليهم هزة السيف ثابت ... وصمم فيهم بالحسام المسيب وظلت بفتيان معي أتقيهم ... بهن قليلا ساعة ثم خيبوا وقد خر منهم راجلان وفارس ... كمي صرعناه وخوم مسلب يشن إليه كل ريع وقلعة ... ثمانية، والقوم رجل ومقنب1 وهنا، وقد انتهى الشاعر من تصوير هذه الغارة الناجحة، لم يعد أمامه هو أصحابه إلا أن يسرعوا عائدين إلى قواعدهم سالمين، ليحدثوا قومهم الصعاليك في فخر واعتزاز بما قاموا به من بطولة: فلما رآنا قومنا قيل أفلحوا ... فقلنا اسألوا عن قائل لا يكذب وهذا السليك يخرج مع رفيقين له يريدون الغارة "في عشية فيها ضباب ومطر"، حتى يأتوا بيتا "قد انفردت من البيوت"، ويأبى السليك إلا أن يكون بطل هذه الغارة، فيخلف صاحبيه وراءه، ويتربص هو بمفرده، حتى   1 هجهجوا: صاحوا. المثوب: الداعي المكرر الدعاء. الوخوم: الثقيل. الربع: المرتفع من الأرض. الرجل: الجماعة على أرجلهم. المقنب: الجماعة على الخيل - وقد خالفنا الأستاذ الميمني في شرحه للبيت الأخير "انظر الطرائف الأدبية/ 32". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 إذا خرج رب البيت بإبله ليعشيها تبعه السليك، حتى إذا ما أخذت الشيخ سنة من النوم وقد غطى وجهه بثوبه من البرد حانت الفرصة للسليك، فاستله من ردائه فضربه فأطار رأسه، وصاح بالإبل فطردها إلى حيث ينتظره صاحباه، فطرداها معه1، حتى إذا ما اطمأنوا فرغ السليك لفنه مسجلا هذه المغامرة في هذه المقطوعة الرائعة: وعاشية راحت بطانا ذعرتها ... بسوط قتيل وسطها يتسيف2 كأن عليه لون برد محبر ... إذا ما أتاه صارم يتلهف3 فبات له أهل خلاء فناؤهم ... ومرت بهم طير فلم يتعيفوا4 وباتوا يظنون الظنون، وصحبتي ... إذا ما علوا نشزا أهلوا وأوجفوا5 وما نلتها حتى تصعلكت حقبة ... وكدت لأسباب المنية أعرف6 وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني ... إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف7 فالشاعر الصعلوك هنا يبدأ مقطوعته من حيث انتهت مهمته الخطرة، فهو لا يذكر شيئا عن خروجه للغارة ولا عن تربصه لها، وإنما يبدأ بذكر طرده الإبل بعد أن قتل صاحبها، كأنما هو فرح بتلك الغنيمة التي أنقذته من الجوع والإشراف على الهلاك، فهو لا يرى إلا تلك الإبل التي نهبها، ثم ينتقل إلى موازنة طريفة بين طرفي الصراع: بين أصحابه الصعاليك وأهل ذلك الشيخ القتيل، أما هؤلاء فقد خلا فناؤهم من إبلهم، ولكنهم مطمئنون حتى إنهم لم يتعيفوا الطير التي مرت بهم؛ لأن خبر الغارة لما يبلغهم بعد، وأما أولئك   1 الأغاني 18/ 134، 135، والميداني: مجمع الأمثال 1/ 399. 2 هذه رواية الأغاني، وفي مجمع الأمثال "وعاشية روح بطان"، و"بصوت قتيل". والعاشية: الإبل ترعى ليلا. ويتسيف: يضرف بالسيف. 3 هذه رواية الأغاني، وفي مجمع الأمثال "صارخ" مكان "صارم"، وفيه أيضا "متلهف". ويريد بقوله "لون برد محبر" طرائق الدم على القتيل. 4 هذه رواية الأغاني، وفي مجمع الأمثال "لها" مكان "له". 5 كذا في المصدرين. النشز: المكان المرتفع. أهل: صاح ورفع صوته. أوجفوا: حملوا الإبل على الوجيف وهو ضرب من السير. 6 كذا في المصدرين. 7 هذه رواية الأغاني، وفي مجمع الأمثال "يغشاني". أسدف أي أظلم بصره من شدة الجوع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 فقد نجوا بغنيمتهم فوق طريق جبلي وعر، وهم يصيحون صيحة الفرح والفوز، ويحثون الإبل المنهوبة على الإسراع بينما أهل الشيخ يفكرون أين استقر به وبإبله المقام؟ وماذا أخره حتى تلك الساعة من الليل؟ وفي هذه الغمرة من الفرح لا ينسى السليك أن يبرر غارته، فهو لم يقدم عليها إلا بعد أن أصبحت المسألة مسألة حياة أو موت، فقد أشرف على الهلاك لشدة فقره وجوعه، حتى ليصيبه الدوار كما قام لفرط ضعفه وإعيائه، وتظلم عيناه لشدة هزاله وإجهاده. وهذا تأبط شرا يحدثنا في مقطوعة له1 عن مغامرة طريفة من مغامراته، خرج فيها إلى غار في بلاد هذيل، أعدائه الألداء، ليشتار عسلا، وعلمت هذيل بخبره، فوجدوا الفرصة سانحة ليتخلصوا منه، فحاصروه في الغار وطلبوا إليه التسليم، ولكنه راح يراوغهم وقد أخذ "يُسيل العسل على فم الغار، ثم عمد إلى زق فشده على صدره، ثم لصق بالعسل، ولم يزل يزلق حتى جاء سليما إلى أسفل الجبل، فنهض وفاتهم". يبدأ الشاعر الصعلوك قصيدته بأبيات في الحكمة يودعها خلاصة تجربته التي مر بها، فالشخص الحازم هو الذي يستعين بالحيلة في مواطن الخطر، لينجو بها منه، وهو الذي يعمل للأمر حسابه قبل أن يأخذه على غرة، وعلى المرء أن يكون مرنا في تصرفاته إذا ما سدت منافذ الأمر عليه: إذ المرء لم يحتل وقد جد جده ... أضاع وقاسى أمره وهو مدبر ولكن أخو الحزم الذي ليس نازلا ... به الخطب إلا وهو للقصد مبصر فذاك قريع الدهر ما عاش حول ... إذا سُد منه منخر جاش منخر2   1 التبريزي: شرح حماسة أبي تمام 1/ 38 وما بعدها، والبغدادي: خزانة الأدب 3/ 357 وما بعدها، والعيني: شرح الشواهد الكبرى "على هامش الخزانة" 2/ 165-170، وفي الأغاني 18/ 215 مع اختلاف في ترتيب الأبيات عن سائر المصادر الأولى، ومع انفراده بزيادة بيت على آخر القصيدة، وقد آثرنا رواية المصادر الأولى لأنها أدق في التعبير عن نفسية الشاعر. 2 قريع الدهر: يريد به المجرب البصير. وقوله: "إذا سد منه منخر" المراد به إذا ضاقت عليه الأمور، وسدت المسالك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 فإذا ما انتهى الشاعر من هذا "الدرس النظري" انتقل إلى "التطبيق العملي"، يبدأ به منذ أن تحرجت أموره حين حاصرته لحيان1، وينقل لنا ظرفا من حواره معهم، ذلك الحوار الذي أراد أن يخدعهم به حتى يفرغ من إعداد وسيلته للنجاة: أقول للحيان وقد صفرت لهم ... وطابي، ويومي ضيق الحجر معور2 هما خطتا إما إسار ومنة ... وإما دم، والقتل بالحر أجدر وأخرى أُصادي النفس عنها وإنها ... لمورد حزم إن فعلت ومصدر ولا يكاد الشاعر يفرغ من تهيئة وسيلة نجاته حتى يسارع إلى تنفيذها، فإذا هو يفرش لها صدره في براعة تساعده عليها ضخامة صدره ودقة متنه، حتى نجا من الموت الذي وقف ينظر إليه خزيان، ثم إذا هو في قبيلته وقد عاد إليهم بعد أن كاد يهلك: فرشت لها صدري فزل عن الصفا ... به جؤجؤ عبل ومتن مخصر3 فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا ... به كدحة، والموت خزيان ينظر فأبت إلى فهم ولم أك آيبا ... وكم مثلها فارقتها وهي تصفر4 شعر المراقب: كما تحدث الشعراء الصعاليك عن مغامراتهم، تحدثوا أيضا عن تربصهم بأعدائهم، وترصدهم لضحاياهم، وارتقابهم الفرصة الملائمة لمهاجمتهم، فوق المرتفعات العالية التي يشرفون منها على الطريق بحيث يرون الناس ولا يرونهم، والتي كانوا يسمونها "المراقب". وتكثر في شعر الصعاليك هذه الأحاديث   1 لحيان: بطن من هذيل. 2 الوطاب: جمع وطب وهو سقاء اللبن. وصفرت: خلت. والمراد بقوله "صفرت لهم وطابي" أن نفسه أشرفت على الهلاك بسببهم. والمعور: الذي انكشفت عورته للعدو فهو مكشوف غير محصن. والمراد بقوله "ويومي ضيق الحجر معور" أنه في مركز حرج ضيق المنافذ. 3 الصفا: الصخر. والجؤجؤ: الصدر. والعيل: الضخم. 4 فهم: قبيلته. وقوله "وهي تصفر" المراد به أنها تلغط في أمره، وتكثر القول في شأنه، أو المراد أنها تتأسف على إفلاته منها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 التي يصح أن نطلق عليها "شعر المراقب". والمرقبة التي يتربص فوقها الشاعر الصعلوك دائما منيعة أبية على سواه، وأكثر ما يتحدثون عن تربصهم فوقها والليل مقبل يغشى الكون بدياجيه الكثيفة، ليكون هذا أمعن في التخفي، وأقرب إلى مواتاة الفرصة، وأدل على جرأتهم وقوة قلوبهم، و"الليل أخفى للويل" كما يقول العرب في أمثالهم1، و"الصعاليك نومهم قليل" كما يقول الشاعر الصعلوك عمرو بن براقة2. ويرسم الشنفرى في قصيدة من شعره لوحة رائعة لمرقبة منيعة عالية يعجز دونها الصياد الماهر الخفيف الذي يخرج بكلابه المضراة للصيد، ويصف كيف صعد إليها وقد أقبل الليل بظلامه الحالك الشديد الذي يلف الكون، وكيف قضى الليل فوقها متربصا، محدبا على ذراعيه مبالغة في تخفيه كما يتطوى الأفعوان المتكسر، ولا شيء معه سوى نعلين باليتين، وثياب أخلاق، ثم أصحابه الذين لا يفارقونه، سيفه وقوسه وسهامه: ومرقبة عيطاء يقصر دونها ... أخو الضروة الرجل الخفيف المشفف نميت إلى أعلى ذراها وقد دنا ... من الليل ملتف الحديقة أسدف فبت على حد الذراعين محدبا ... كما يتطوى الأرقش المتقصف قليل جهازي غير نعلين أسحقت ... صدورهما مخصورة لا تخصف وملحفة درس وجرد ملاءة ... إذا أنجمت من جانب لا تكفف3   1 الميداني: مجمع الأمثال 2/ 120. 2 الأغاني 21/ 175. 3 الأغاني 21/ 140، 141. وديوانه في الطرائف الأدبية/ 37. وديوانه المصور لوحة رقم 50. ورواية الأبيات في المصدرين الأخيرين مضطربة يكثر فيها التحريف، ولذا آثرنا رواية الأغاني - العيطاء: العالية المرتفعة، أو الأبية الممتنعة. أخو الضروة: الصياد معه كلاب ضراها للصيد. الرجل بسكون الجيم وفتح الراء كالرجل بضمهما. المشفف: النحيل. الأسدف: المظلم. محدبا: من أحدب إذا انحنى. أسحقت: بليت. الملحفة: ما يلبس فوق الثياب من دثار البرد ونحوه. الدرس بكسر الدال: الثوب الخلق، ومثله الجرد بفتح الجيم. أنجمت: ظهرت وطلعت. كف الثوب: خاط حاشيته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 فإذا ما قتل الشنفرى، ووقف تأبط شرا يرثيه، لم ينس تلك المراقب الشماء التي طالما ربض فوقها في انتظار فرائسه، فرائس الغزو وفرائس الثأر: ومرقبة شماء أقعيت فوقها ... ليغم غاز أو ليدرك ثائر1 وأما عند تأبط شرا فالمرقبة ذات صورة طريفة، إنها مرقبة تعلو سائر المراقب، وهي -إلى جانب هذا- معقدة ذات تجاعيد كأنها عجوز شمطاء عليها ثياب بالية، ولكنه -مع ذلك- ما إن ينتصف الليل حتى ينهض إليها ليبدأ في تنفيذ خططه: ومرقبة يا أم عمرو طمرة ... مذبذبة فوق المراقب عيطل نهضت إليها من جثوم كأنها ... عجوز عليها هدمل ذات خيعل2 وأما ذو الكلب فالمرقبة التي يتربص فوقها بعيدة واسعة عالية ملساء، وهو متربص فوق حرفها طول يومه يخفي شخصه، حتى إذا حانت الفرصة تحدر فوقها وهو ما يزال متخفيا كما يتحدر الماء الصافي: ومرقبة يحار الطرف فيها ... تزل الطير مشرفة القذال أقمت بريدها يوما طويلا ... ولم أشرف بها مثل الخيال ولم يشخص بها شرفي ولكن ... دنوت تحدر الماء الزلال3 وأما أبو خراش فالصورة التي يرسمها لمرقبته أشمل وأكثر تفصيلا، فهي مرقبة في نتوء مشرف من الجبل كأنه حد الفأس، يشرف على طريق ضيق كأنه النفق، يتسرب فيه الناس بعضهم في إثر بعض، وقد أقيم فوق هذا النتوء عرش يستظل المتربص تحته ويختفي فيه، ولكن هذا العرش قديم متهدم لم يبق منه إلا عودان أحدهما قائم والآخر ملقى على الأرض:   1 ديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية/ 28. 2 لسان العرب، مادة "هدمل"، ومادة "جثم". ويروى البيت الثاني أيضا في أمالي القالي 1/ 38 - الطمرة: المرتفعة. العيطل: الطويلة. الهدمل: الثوب الخلق. الخيعل: ثوب من ثياب النساء كالقميص، أو هو قميص لا كمين له. 3 شرح أشعار الهذليين 1/ 237 - القذال: الرأس، يريد به رأس المرقبة. الريد: الحرف يندر من الجبل، ومعنى البيت الثاني أنه أقام بها منكبا ولم يقم مشرفا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 لست لمرة إن لم أوف مرقبة ... يبدو لي الحرف منها والمقاضيب في ذات ريد كذلق الفأس مشرفة ... طريقها سرب بالناس دعبوب لم يبق من عرشها إلا دعامتها ... جذلان: منهدم منها ومنصوب1 ولكن أبا خراش يختلف هنا عن زملائه شعراء المراقب، فهو لم يكن وحيدا فوق مرقبته، وإنما كان معه صاحب له، وهو معني بصاحبه أكثر من عنايته بنفسه، فهو صاحب حذر قوي النفس لم يرض لها أن يكون عبدا راعيا، وإنما آثر أن يكون صعلوكا عاملا، يتربص فوق المراقب في سواد الليل، رافضا تلك الراحة البغيضة التي ينعم بها الضعفاء الذين لا خير فيهم، ممن يؤثرون النوم والدفء على العمل والكفاح: بصاحب لا تنال الدهر غرته ... إذا افتلى الهدف القن المعازيب بغثته بسواد الليل يرقبني ... إذ آثر النوم والدفء المناجيب2 ويمضي أبو خراش بعد ذلك مضيفا إلى صورة صاحبه خطين آخرين، فهو قائم فوق هذه المرقبة كأنه السهم، ثم هو سمح النفس على نحافته وقلة لحمه: يظل في رأسها كأنه زلم ... من القداح به ضرس وتعقيب سمح من القوم عريان أشاجعه ... خف النواشر منه والظنابيب3   1 ديوان الهذليين 2/ 159، 160 - أوفى: أشرف. الحرف من الجبل: أعلاه المحدد، وقد رجحنا من قبل أنها هنا تحريف صوابه "الحرث" بمعنى النبات، بدليل "المقاضيب" التي تأتي بعدها، وهي الأرض تنبت النبات الرطب. ذلق الفأس: حدها. السرب: الشائع الذي يتسرب فيه الناس بعضهم في إثر بعض. الدعبوب: الموطوء. الجذل: العود. 2 ديوان الهذليين 2/ 160 - افتلى الهدف أي فلاه من أهله، أي عزله وفصله. الهدف: الثقيل الوخم من الرجال. القن: الذي أبوه عبد وأمه أمة. المعازيب: الإبل والشاء التي تعزب عن أهلها في المرعى. يريد بصاحب ليس براع تبعده إبله وشاؤه عن أهله. المناجيب: الضعفاء الذين لا خير فيهم. 3 المصدر السابق/ 161 - الزلم بفتح الزاي وضمها: القدح لا ريش عليه. الضرس: تأثير العض. عريان أشاجعه يعني ليس بكثير اللحم. النواشر: عصب ظهر الكف. الظنابيب: عظام الساق أو حرفها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وأما صخر الغي -وإن لم يرد فيما بين أيدينا من شعره حديث عن المراقب- فإن حديثها قد ورد عنه في رثاء شاعر هذلي له هو أبو المثلم، حيث يصفه بأنه "رباء مرقبة"1 وأما عروة فصفة الزعامة لا تفارقه، فهو لا يقف ربيئا لأصحابه، وإنما يبعث أحدهم ليرقب لهم الطريق فوق المرتفعات، وهو يرسم في بعض شعره صورة لهذا الربيء، وقد وقف فوق مرقبة ثابتا لا يتحرك كأنما غرس فوقها، ولكن عينيه لا تستقران، فهو يقلبهما دائما في الفضاء الذي يحيط بهم، حيث أناخوا إبلهم، وأوقدوا مواقدهم يهيئون لأنفسهم طعاما: إذا ما هبطنا منهلا في مخوفة ... بعثنا ربيئا في المرابئ كالجذل يقلب في الأرض الفضاء بطرفه ... وهن مناخات ومرجلنا يغلي2 التوعد والتهديد: كما تحدث الشعراء الصعاليك عن التربص والترصد تحدثوا عن التوعد والتهديد، حتى يجمعوا بين ركني الجريمة القانونيين: التربص وسبق الإصرار! وأكثر من يتوعدهم الشنفرى بنو سلامان، أولئك الذين أشربت نفسه بغضهم، والذين كانوا السبب المباشر لتصعلكه، والذين عاهد نفسه ليقتلن منهم مائة بما اعتبدوه3. وهو يتوعدهم في شعره توعدا عنيفا، فيعلن لهم أنه -ما لم يحل الموت بينه وبينهم- لن يكف عن غزوهم، فالمسألة عنده مفروغ منها، وكل ما يرجوه أن يمد الله في أجله حتى يشفي غليله منهم حين يلاقيهم في عقر دارهم: فإلا تزرني حتفتي أو تلاقني ... أمش بدهو أو عداف بنورا أمشي بأطراف الحماط، وتارة ... ينفض رجلي بسيطا فعصنصرا أبغي بني صعب بن مر بدارهم ... وسوف ألاقيهم إن الله أخرا   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 34. 2 ديوانه/ 111، 112 - الجذل هنا جذع الشجرة. 3 انظر الأغاني 21/ 134. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 ويوما بذات الرأس أو بطن منجل ... هنالك نبغي القاصي المتغورا1 وهو إذا كان يتأخر عن غزوهم أحيانا فليس هذا دليلا على أنه قد كف عنهم، وإنما هو يمهلهم إلى حين، وهو واثق من قدرته على غزوهم، فهو يعرفهم وهم يعرفونه، وأحب شيء إليه أن يُغير عليهم، وأن يقطع الطريق على سادتهم، وهو الخبير بطرق الصحراء ومسالكها، القدير على الاهتداء في مجاهلها: كأن قد، فا يغررك مني تمكثي ... سلكت طريقا بين يربغ فالسرد وإني زعيم أن ألف عجاجتي ... على ذي كساء من سلامان أو برد وأمشي لدى العصداء أبغي سراتهم ... وأسلك خلا بين أرفاغ والسرد هم عرفوني ناشئا ذا مخيلة ... أمشي خلال الدار كالأسد الورد كأني إذا لم أمس في دار خالد ... بتيماء لا أهدَى سبيلا ولا أهدِي2 أما عمرو ذو الكلب فيعلن أعداءه بأن الصراع بينه وبينهم سيكون مريرا لا رحمة فيه، الويل فيه للمغلوب، وينذرهم بأنه لن يرحمهم إذا ظفر بهم، كما أنه لا يريد منهم رحمة إذا هم ظفروا به، فليكن الصراع بينه وبينهم عنيفا، وليغزهم برفاقه الصعاليك الشجعان الذين يختلف عددهم بين الواحد والجماعة، وهو -فوق ذلك كله- يتوعدهم بأنه لن يكف عن غزوهم حتى يقتلهم ويرمل نساءهم: فإن أثقفتموني فاقتلوني ... وإن أثقف فسوف ترون بالي فأبرح غازيا أهدى رعيلا ... أؤم سواد طود ذي نجال ويبرح واحد واثنان صحبي ... ويوما في أضاميم الرجال   1 ديوانه في الطرائف الأدبية/ 35، 36. والأغاني 21/ 135. وديوانه المصور، لوحة رقم 10، 11. مع اختلاف في الألفاظ والترتيب - دهو أو رهو، وعداف، وبنور، وبسيط، وعصنصر: أسماء جبال. الحماط: شجر يشبه شجر التين. بنو صعب بن مر هم إخوة سلامان. ذات الرس وبطن منجل: موضعان. 2 ديوانه في الطرائف الأدبية/ 34. والأغاني 21/ 135. والبكري: معجم ما استعجم 1/ 139. يربغ: موضع بين عمان والبحرين. السرد وأرفاغ: جبلان لبني سلامان، وبهما منازلهم. العصداء: أرض لبني سلامان. الخل: الطريق ينفذ في الرمل، أو النافذ بين رملتين، أو النافذ في الرمل المتراكم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 بفتيان عمارط من هذيل ... هم ينفون آناس الحلال وأبرح في طوال الدهر حتى ... أقيم نساء بجلة بالنعال1 وأما تأبط شرا فقد كان أوسع ميدانا من ذي الكلب، فإنه لا يقنع بغير غزو خثعم وبجيلة وثمالة وهذيل، وهو يرد الفضل في هذا كله إلى قدميه اللتين أودع الله فيهما عذابا وشرا يصبهما عليهم: أرى قدمي وقعهما خفيف ... كتحليل الظليم حذا رئاله أرى بهما عذابا كل يوم ... لخثعم أو بجيلة أو ثمالة وشرا كان صب على هذيل ... إذا علقت حبالهم حباله2 وهو لا يترك دم صديقه دون أن يثأر له، وإنما يهدد بالانتقام الشنيع، يقتل في الرجال، ويسبي النساء، فأكبر همه كما يقول "دم الثأر أو يلقى كميا مسفعا"3، غاية ما في الأمر أن يحترم تقاليد مجتمعه الدينية، فيؤخر انتقامه حتى تنتهي الأشهر الحرم: فعدوا شهور الحرم ثم تعرفوا ... قتيل أناس أو فتاة تعانق4 وهو في هذا الاحترام لمقدسات مجتمعه يخالف تلميذه الشنفرى الذي يُصرح في بعض شعره بأنه قتل قتيلا في أيام حجة وسط الحجيج المصوت بمنى: قتلنا قتيلا مهديا بملبد ... جمار منى وسط الحجيج المصوت5   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 233، 234 - أثقفه: ظفر به. البال في البيت الأول معناه الحال. قوله "فأبرح غازيا" يريد به فلا أبرح. الرعيل: الجماعة المتقدمة. النجال: ما يخرج من الأرض. الأضاميم: الجماعات، واحدها إضمامة. العمارط: الصعاليك. الحلال: جمع حلة، والمعنى أنهم يمرون بأصحابها فيهربون من خوفهم. بجلة: قبيلة. 2 الأغاني 18/ 218، وأيضا/ 216 - التحليل: العدو. الرئال: جمع رأل وهو ولد النعام. حذا: حاذى. 3 حماسة أبي تمام 1/ 46. والأغاني 18/ 217 وفيه "مقنعا" مكان "مسفعا". 4 الأغاني 18/ 214. الحرم: الإحرام. ويريد بقوله "فتاة تعانق" سبية تقع في أسره. 5 المفضليات/ 205. والأغاني 21/ 140 وفيه "محلهما بين الحجيج". وأيضا/ 137= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 ومن أطرف ما نصادفه في هذا الباب توعد الصعلوك للصعلوك، وتأتي طرافته من أنه يمثل صراعا بين قوتين متكافئتين، ومن هنا كان حرص كل منهما على تجنب الاصطدام بالآخر من أخص ميزات هذا اللون من التوعد، ولكن هذا الحرص ليس جبنا، وإنما هو محاولة لتفادي الكارثة، ولهذا كان حديث الشاعر الصعلوك عن حرصه هذا مقرونا عادة بحديثه عن قوته، ومقدرته على التغلب على خصمه إذ إن أي ضعف يبدو منه في هذا الحديث قد يكون سببا في أن يدفع حياته ثمنا له، ولهذا كله كان توعد الصعلوك للصعلوك في شعر الصعاليك قليلا جدا، ولعل أصدق مثال لهذه "الحرب الباردة" بين الشعراء الصعاليك توعد صخر الغي الهذلي لتأبط شرا، أو ابن ترنى كما كان يلقبه، فهو في قصيدة له يصفه أولا بأنه يعاني صراعا نفسيا، سببه حقده عليه وعجزه عنه، ثم ينصحه ثانيا بأن يخفف من حدة هذا الصراع النفسي، ولكنه يحذره من أن يجعل وسيلته إلى ذلك الاصطدام به، فإنه لو فعل للقي حتفه لا محالة، ثم يعود فيخفف قليلا من حدة أسلوبه، فيمزج العنف باللين في حديث فيه لياقة وفيه دهاء، يجعل وسيلته إليه أن يشير إلى بعض الصفات المحمودة في خصمه، ويسأله ألا يكون سببا في الإساءة إليها: فإن ابن ترنى إذا جئتكم ... أراه يدافع قولا عنيفا قد افنى أنامله أزمه ... فأمسى يعض على الوظيفا فلا تقعدن على زخة ... وتضمر في القلب وجدا وخيفا ولا تقدمن على خطة ... تكون إذن لك حتفا ذفيفا ولا أبغينك بعد النهي ... وبعد الكرامة شرا ظليفا ولا أرفعنك رقع الصديـ ... ـع لاءم فيه الصناع الكتيفا1   = وفيه "قتلت حراما" و"ببطن منى وسط الحجيج"، وهي رواية البغدادي في خزانة الأدب 2/ 18- المهدي: الذي يقدم الهدي. والملبد: المحرم الذي يأخذ صمغا فيلبد به شعره لئلا يشعث في مدة الإحرام. والمعنى: قتلنا رجلا محرما برجل محرم. وقوله "جمار منى" أي عند جمار منى. والمصوت: الملبي الذي يرفع صوته بالتلبية في الحج. 1 شرح أشعار الهذليين 1/ 46، 47 - الأزم: العض. الوظيف: الذراع. الزخة:= الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 وصف الأسلحة: ومن الطبيعي أن يتحدث الشعراء الصعاليك عن أسلحتهم، فهي القوة الثالثة التي يعتمدون عليها في مغامراتهم إلى جانب قوة قلوبهم وقوة أرجلهم، تلك القوى الثلاث التي تقوم عليها حياة الصعلوك يجمعها تأبط شرا في رثائة للشنفرى حيث يقول: فلا يبعدن الشنفرى، وسلاحه الـ ... ـحديد، وشد خطوة متواتر1 والأسلحة التي يصفها الشعراء الصعاليك هي تلك التي كان يعرفها العرب في العصر الجاهلي، سواء منها أسلحة الهجوم: السيف، والرمح، والقوس، والسهام، أو أسلحة الدفاع: الدرع، والترس، والمغفر. ويلح الشعراء الصعاليك على الحديث عن هذه الأسلحة إلحاحا شديدا، وليس في هذا غرابة؛ إذ إنها تكاد تكون كل ما يملكون في حياتهم الفقيرة، وهي من غير استخدام لأفعال المقاربة كل ما يحرصون عليه في هذه الحياة الحمراء المتمردة. وفي أبيات لعروة يذكر أنه لن يخلف لورثته بعد موته سوى درع ومغفر وسيف ورمح وجواد2، فهذا كل ما يحرص عليه في حياته، وكل ما سيظل محافظا عليه إلى آخر رمق منها حتى يرثه ورثته من بعده. ويصرح صخر الغي في بعض شعره بأنه حريص على سلاحه لا يفرط فيه، لئلا يطمع فيه أحد من أولئك الذين يتوعدونه، ويتربصون به، من أعدائه الذين طالما وترهم، فهو يعدد سلاحه في قصيدة طويلة له ويصفه، ثم يقول عنه: ذلك بزي فلن أفرطه ... أخاف أن ينجزوا الذي وعدوا3 ويصل اعتداد الأعلم الهذلي بسلاحه إلى درجة أن يرى فيه وسيلة تنقله من   = الغيظ. الخيف: جمع خيفة. الحتف الذفيف: القاتل الذي يجهز عليه. الظليف: الشديد أو الغليظ. رقعه: أصلحه بالرقاع كرقعه "بالتشديد". الصديع: النصف من الشيء المشقوق نصفين. لاءم: أصلح. الكتيف: الضبات، يريد لا أرقعنك بالهجاء. 1 الأعاني 21/ 137. وديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية/ 29 - الشد: الجري. 2 انظر ديوانه/ 207. 3 شرح أشعار الهذليين 1/ 13 - والبز: السلاح. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 دائرة البشرية إلى دائرة يكون فيها صنوا للموت: متى ما تلقني ومعه سلاحي ... تلاق الموت ليس له عديل1 ويصف الشعراء الصعاليك أسلحتهم المختلفة وصف المفتون بها الذي يهتم بكل أجزائها، ويحرص على أن يسجل في حديثه عنها كل شيء فيها: لونها، وشكلها، وصوتها، وطريقة صنعها، وطريقة استخدامها، وقيمتها في حياته، وفعلها في أعدائه. فالسيف عند عمرو بن براقة "جل ماله" لا يفارق يمينه، بل هو طوع أمرها، ولكن لحمله تقاليد، فصاحبه يجب أن لا ينام الليل؛ إذ إن من تقاليد حمله أن يكون صاحبه من "أبناء الليل" الذين يرعون حق "أبوته": وكيف ينام الليل من جل ماله ... حسام كلون الملح أبيض صارم غموض إذا عض الكريهة لم يدع ... له طعما، طوع اليمين ملازم2 وهو عنده أحد أركان ثلاثة يعتمد عليها من يريد أن تجتنبه المظالم في ذلك المجتمع الذي يدين بشريعة القوة: متى تجمع القلب الذكي وصارما ... وأنفا حميا تجتنبك المظالم3 وهو عند عمرو ذي الكلب الهذلي وشاح لصدره: نمناني وأبيض مشرفيا ... وشاح الصدر أخلص بالصقال4 وصخر الغي الهذلي حريص على أن يرسم لسيفه صورة دقيقة، فهو سيف من حديد جيد أصيل، رقيق الشفرتين، يجري الفرند في متنه، ثم هو سيف منتقى، فلا عنه سيوف أريح حتى أخرجه من بينها سيف معدوم النظير، لا تقوى أشد العظام على ضربته، وإنما تتكسر تحتها قطعا: وصارم أخلصت خشيبته ... أبيض مهو في متنه ربد   1 المصدر السابق/ 63. 2 القالي: الأمالي 2/ 122، والأغاني 21/ 175، وفيه "صموت" مكان "غموض"، "مكارم" مكان "ملازم". السيف الغموض: الذي يغيب في اللحم. 3 المصدران السابقان: الأمالي الصفحة نفسها، والأغاني/ 176. 4 شرح أشعار الهذليين 1/ 235. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 فلوت عنه سيوف أريح إذ ... باء بكفي ولم أكد أجد فهو حسام تتر ضربته ... ساق المذكي فعظمها قصد1 أما تأبط شرا فيعرض علينا صورة طريفة لسيفه، فهو -إلى جانب أنه حاد ثقيل لا يفارقه حتى أبلى محمله- سيف أصيل إذا كل لا يحتاج إلى صيقل، وإنما حسبه أن يحده صاحبه على الصخر فإذا هو حاد كما كان: فطار بقحف ابنه الجن ذو ... سفاسق قد أخلق المحملا إذا كل أمهيته بالصفا ... فحد ولم أره صيقلا2 وأما الشنفرى فيهتم بأثر سيفه في أعدائه، وبالحديث عن براعته في استخدامه، فهو يقصد به أطراف سواعدهم، ليعجزهم بذلك عن العمل: وأبيض من ماء الحديد مهند ... مجذ لأطراف السواعد مقطف3 وهو حريص على أن يصور رفاقه ونفسه في غاراتهم وهم يستخدمون سيوفهم في الهجوم والدفاع حتى ينهزم أعداؤهم: فشن عليهم هزة السيف ثابت ... وصمم فيهم بالحسام المسيب وظلت بفتيان معي أتقيهم ... بهن قليلا ساعة ثم خيبوا4 ولا يعدل وصف السيف عند الشعراء الصعاليك إلا وصفهم القوس والسهام. وأكثر من اهتم بوصفها منهم الشنفرى والهذليون. ويبدو أن مرد هذه الظاهرة الفنية إلى ظواهر اجتماعية خاصة في حياتهم، فقد كان الشنفرى -كما يصوره الرواة مفتونا بسهامه، حريصا على أن تكون معلمة يعرفها الناس،   1 المصدر السابق/ 13 خشيبته: طبيعته. مهو: رقيق الشفرتين. ربد: أي لمع تخالف لونه، يريد الفرند. فلا: بحث. أريح: قرية بالشام. باء بكفي: أي صار بكفي. تتر: تبري. المذكي: المسن أو اليدين. القصد: الكسر، أو القطع فيها مخ. 2 ابن قتيبة: الشعر والشعراء/ 176 - سفاسق السيف: طرائفه. أمهى السيف: أحده. 3 ديوانه في الطرائف الأدبية/ 38. وديوانه المصور لوحة رقم 50. والأغاني 21/ 141 وفيه "فحد لأطراف السواعد معطف". والتحريف فيه واضح. 4 الأغاني 18/ 216، وديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية /32 - لضمير في "بهن" يعود على السيوف المفهومة من السياق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 فكان يميزها بعلامة خاصة حتى تعرف، ويحدثنا الرواة أنه كان "يصنع النبل ويجعل أفواقهم من القرون والعظام"، فكان أعداؤه إذا رماهم "يعرفون نبله بأفواقها في قتلاهم"1، وأما الهذليون فقد عرف عنهم الرمي من بين ثلاث صفات مميزة سجلها لهم القدماء2. وهم يصفون السهام في جميع أطوارها، منذ بريها، وتركيب الريش فيها، حتى استخدامها، في الرمي، كما يصفون نصالها وأفواقها. ويتحدث الشنفرى في بعض شعره عن سهامه وكيف يتخيرها، وكيف يركب في قداحها الريش، وكيف يتابع فيها البري حتى تصير صالحة للاستعمال، ثم يتحدث عن قيمة هذه السهام التي أعدها هدية لأعدائه الذين يبغضهم: وردت بمأثور يمان وضالة ... تخيرتها مما أريش وأرصف أركبه في كل أحمر غاثر ... وأنسج للولدان ما هو مقرف وتابعت فيه البري حتى تركته ... يرن إذا أنزفته ويزفزف بكفي منها للبغيض عراضة ... إذا بعت خلا ما له متعرف3 ويتحدث في مقطوعة أخرى عن رمية أحد أعدائه بسهم قوي لا عوج فيه، ثم يصف أجزاء هذا السهم، فهو عود من نبع عليه ريش من ريش العقاب، وله فوق كأنه عرقوب القطاة: ومستبسل ضافي القميص ضممته ... بأزرق لا نكس ولا متعوج   1 الأغاني 21/ 142 - "أفواقهم" كذا في المصدر، ومن الواضح أنه خطأ صوابه "أفواقها". وأفواق جمع فوق وهو موضع الوتر من السهم. 2 يقول الأصمعي: "إذا فاتك الهذلي أن يكون شاعرا أو ساعيا أو راميا فلا خير فيه". "المصدر السابق / 75". 3 ديوانه في الطرائف الأدبية / 38. والأغاني 21/ 141. وديوانه المصور، لوحة رقم 51. مع اختلاف في الروايات، والذي هنا رواية المصدر الأولى - المأثور: السيف. الضالة: يريد هنا السهام. الغثرة: غبرة إلى خضرة. المقوف: الداني. أنزفته: كذا في نسختي الديوان، وأظنها تحريفا صوابه ما في الأغاني "أنفذته". الزفزفة: صوت القدح حين يدار على الظفر. العراضة: الهدية. الخل: الطريق في الرمل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 عليه نساوي على خوط نبعة ... وفوق كعرقوب القطاة مدحرج1 وأما عمرو ذو الكلب فيُعنى بوصف نصال سهامه لأنها التي يكمن في سنانها الموت، فهي حينا رماح طائرة يكسوها ريش منسول: وثجرا كالرماح مسيرات ... كسين دواخل الريش النسال2 وهي حينا آخر كأنها شوك العضاه: وفي قعر الكنانة مرهفات ... كأن ظباتها شوك السيال3 وهم يتحدثون أحيانا عن عددها، فهذا الشنفرى يصف تأبط شرا أو "أم العيال" كما كان يسميه مداعبا، ويذكر عدد سهامه التي يحملها في جعبته: لها وفضة فيه ثلاثون سيحفا ... إذا آنست أولي العدي اقشعرت4 أما حين يذكرون القوس فأشد ما يهتمون به صوتها حين ينبضون فيها، أو حين يتهيئون للرمي، فهو صوت يفتنهم فتنة شديدة تبدو في ذلك الإلحاح الشديد على تسجيله في شعرهم، وليس في هذا غرابة فإن هذا الصوت إيذان ببدء عملهم الذي وهبوا حياته له. وصوت القوس في سمع صخر الغي عندما ينبض فيها كأنه أصوات قوم يبحثون عن شيء فقدوه: وسمحة من قسي زرارة صفـ ... ـراء هتوف عدادها غرد   1 ديوانه المطبوع / 34. والأغاني 21/ 141. وديوان المصور، لوحة رقم 52. مع اختلاف في رواية البيتين - الأزرق يريد به السهم. النكس: السهم ينكسر فوقه فيجعل أعلاه أسفله. النساري: ريش النسارية وهي العقاب، ويذكر الميمني في تعليقاته على الديوان أنه لم يجدها في المعاجم، وقد ظن أنها من ريش النسر. المدحرج: المدور. 2 شرح أشعار الهذليين 1/ 235 - الثجر: جمع أثجر وهو النصل العريض الوسط. النسال: ما تساقط من الريش. 3 شرح أشعار الهذليين 1/ 235 - السيال: نبات له شوك أبيض طويل، أو ما طال من السمر. 4 المفضليات/ 204. والأغاني 21/ 140 وفيه "سلجما" و"إذا ما رأت" - الوفضة: الجعبة. السيحف: السهم العريض النصل. العدي: القوم من الرجالة. اقشعرت: تهيأت للقتال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 كأن إرنانها إذا ردمت ... هزم بغاة في إثر ما فقدوا1 ولكنه في سمع عمرو ذي الكلب عجيج، كأنه حنين ناقة مسنة تسبقها إبل شابة فنية، فهي عاجزة عن مسايرتها وهي لهذا دائمة الحنين: وفي الشمال سمحة من النشم ... صفراء من أقواس شيبان القدم تعج في الكف إذ الرامي اعتزم ... ترنم الشارف في أخرى النعم2 وهو في سمع الشنفرى رنين وهتاف، ولكنه رنين حزين كصوت الشجي أثقلته شجونه وأحزانه: وصفراء من نبع أبي ظهيرة ... ترن كإرنان الشجي وتهتف3 ولكن هذا الصوت الحزين الخافت ينقلب عندما تأخذ السهام في الانطلاق إلى صوت نشط مدو كأنه دوي نحل عائد إلى غاره، فهو ملتف حوله مطيف به، يبحث عن منقذ إلى داخله في نشاط ودوي: إذا طال فيها النزاع تأبى بعجسها ... وترمي بذرويها بهن فتقذف كأن حفيف النبل من فوق عجسها ... عوازت نحل أخطأ الغار مطنف4 يلاحظ أن القوس عند الرمي صوتين: صوتا عند بدء الرمي، وصوتا بعد الانتهاء منه، فانطلاق السهم يبدأ بصوت عال صارخ ثم ما إن ينطلق السهم حتى يهدأ رنين القوس، ويتحول إلى صوت ضعيف خافت نتيجة لاهتزازات وترها، فهما صوتان مختلفان، أما أولهما فهو عنده صياح، وأما الآخر فأنين كأنين الجريح:   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 13. وديوان الهذليين 2/ 60 - السمحة: القوس المواتية. زارة: حي من أزد السراة. عدادها: صوتها. غرد: شديد الصوت. ردمت: أنبض فيها. الهزم: الصوت. 2 شرح أشعار الهذليين 1/ 239، 240 - النشم: شجر. الشارف: الناقة المسنة. 3 الأغاني 21/ 141. ديوانه المطبوع / 38. وديوانه المصور، لوحة رقم 50، وفيهما "وحمراء" بدلا من "وصفراء" - الظهيرة: القوية الظهر. 4 الأغاني 21/ 141. وديوان المطبوع / 38. وديوانه المصور، لوحة رقم 51، مع اختلاف في الروايات - العجس، مثلثة العين، مقبض القوس. والذروان: طرفاها. والمطنف: الذي يعلو الطنف وهو رأس الجبل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 وقاربت من كفي ثم فرجتها ... بنزع إذا ما استكره النزع مخلج فصاحت بكفي صيحة راجعت بها ... أنين الأميم ذي الجراح المشجج1 وكما يهتم الشعراء الصعاليك بصوت القوس، يهتمون أيضا بلونها، وهي عند الهذليين في ضوء ما وصل إلينا من شعرهم صفراء دائما: وسمحة من قسي زارة صفـ ... ـراء هتوف عدادها غرد2 وصفراء البراية عود نبع ... كوقف العاج في ورك حدال3 وفي الشمال سمحة من النشم ... صفراء من أقواس شيبان القدم4 ولكنها عند الشنفرى أحيانا صفراء وأحيانا حمراء، ويبدو أن مرد هذا إلى دقة ملاحظة الشنفرى، وصدق تعبيره عن تجاربه، فالقوس تكون صفراء في أول أمرها، فإذا ما كثر أستعمالها وتعرضت للشمس والمطر والتقلبات الجوية صارت حمراء. يقول في تائتيه متحدثا عن أصحابه في بعض غزواته بهم: وباضعة حمر القسي بعثتها ... ومن يغز يغم مرة ويشمت5 ويقول في قصيدة أخرى: وصفراء من نبع أبي ظهيرة ... ترن كإرنان الشجي وتهتف6 ومن هنا اختلف الرواة في هذا البيت، فبعضهم يرويه "حمراء من   1 الأغاني 21/ 141، 142. وديوانه المطبوع / 34. وديوانه المصور، لوحة رقم 52، مع اختلاف في الروايات - النزع: مد القوس. مخلج: من خلج بمعنى جذب وغمز وانتزع، وفي نسختي الديوان "محلج" من حلج النداف. الأميم: المشجوج على أم رأسه. 2 انظر ص200 من هذا البحث، الهامش رقم 1. 3 شرح أشعار الهذليين 1/ 235 - الوقف: السوار. الورك: جانب القوس، ومجرى الوتر منها، والقوس المصنوعة من ورك الشجرة أي عجزها. القوس الحدال: التي مال عنقها، وتطامنت إحدى سيتيها. 4 انظر ص200 من هذا البحث، الهامش رقم 2. 5 المفضليات/ 202 - الباضعة: القاطعة، ويريد بها قوما غزاة. حمر القسي: يقول ابن الأنباري في شرحه على المفضليات / 203 "غزوا مرة بعد مرة فاحمرت قسيهم للشمس والمطر، والقسي تحمر على القدم". يشمت: يخيب ولا يغنم. 6 انظر ص200 من هذا البحث، الهامش رقم3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 نبع"1، ولكن من الطريف أن تأبط شرا في رثائه له يصف قوسه بأنها صفراء: يفرج عنه غمه الروع عزمه ... وصفراء مرنان وأبيض باتر2 أما وصف الصعاليك للرماح فهو قليل، ولعل السبب في هذا قلة اعتمادهم عليها في مغامراتهم، وذلك لأنها من الأسلحة التي يستخدمها الفرسان أكثر مما يستخدمها الرجالة، ومن هنا كان أشهر من تحدث عنها من الشعراء الصعاليك عروة بن الورد وهو من الصعاليك الفرسان3، وهو يرسم في رائيته المشهورة صورة رائعة له ولأصحابه، وهم على خيلهم يطاردون إبلا نهبوها، وقد أشرعوا رماحهم وسيوفهم ليدفعوا عنها أصحابها الذين خرجوا خلفهم ليستردوها: سيفزع بعد اليأس من لا يخافنا ... كواسع في أخرى السوام المنفر نطاعن عنها أول القوم بالقنا ... وبيض خفاف ذات لون مشهر4 وهي صورة تستمد روعتها من صدقها وحيويتها، فهذه الخيل القوية السريعة التي يمتطيها الفرسان الصعاليك مشغولة بمطاردة أخريات الإبل المنهوبة، أما فرسانها أنفسهم فمشغولون بمقاتلة القوات المهاجمة من أصحاب الإبل. وقد مر بنا أن عروة ذكر رمحه من بين الأسلحة التي هي كل ما سيخلفه لورثته من بعده، وهو يذكر أنه رمح أسمر، قناته من الخطي المشهور، ثم هو رمح مقوم معتدل: وأسمر خطي القناة مثقف ... وأجرد عريان السراة طويل5 والطريف في حديث عروة عن رمحه أنه لا يذكره إلا مقترنا بجواده، كما نرى في هذين المثلين، مما يؤيد تعليلنا لقلة وصف الشعراء الصعاليك للرماح بأنها من أسلحة الفرسان   1 انظر الموضع السابق، الهامش نفسه. 2 ديوان الشنفرى المطبوع / 28. وحماسة الخالديين "مخطوطة"، ورقة رقم 417. 3 الأغاني 3/ 73. 4 ديوانه/ 83، 84. 5 انظر ص54 من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 ومع ذلك نجد عند بعض الصعاليك السرويين آثارا ضئيلة من أحاديث الرماح. يتحدث تأبط شرا، في رثائه لصاحبين له قتلا في بعض غزوهما، عن مغامراته بفتيان من الصعاليك يحملون في أيمانهم نوعين من الأسلحة، رماحا سمرا ونصالا ذات شعبتين: لأطرد نهبا أو نرود بفتية ... بأيمانهم سمر القنا والفتائق1 ويتحدث الشنفرى عن طعنه قتلة أبيه طعنة سامة تمج من حولها سم ثعبان خطر: فإن تطعنوا الشيخ الذي لم تفوقوا ... منيته، وغبت إذ لم أشهد فطعنة خلس منكم قد تركتها ... تمج على أقطاها سم أسود2 ويتحدث أبو الطمحان عن ضرب يزيل الرءوس عن الأعناق، وطعن شديد يحدث صوتا كأنه تشهاق ولد الحمار حين يهم بالنهق: بضرب يزيل الهام عن سكناته ... وطعن كتشهاق العفا هم بالنهق3 وهي جميعا -ما عدا بيت تأبط شرا- حديث عن آثار استخدام الرماح في الطعن، وليست وصفا صريحا لها. ومن الطريف أننا لا نجد حديثا عن الرماح في شعر صعاليك هذيل، ما عدا بيتا واحدا لأبي خراش، وهو مع ذلك ليس في مقام الحديث عن   1 الأغاني 18/ 214 - النهب: الغنيمة. والفتيق: النصل له شعبتان. 2 ديوانه المطبوع / 35. وشرح ابن الأنباري على المفضليات/ 198 - لم تفوقوا: يرى الميمني في تعليقاته على الديوان أنه تحريف "ولعل صوابه لم تفوتوا من الفوت"، ويرى bevan أن صوابه "لم تعوقوا" "انظر تعليقات lyall على هذا البيت في شرح المفضليات / 198"، وعندي أن الكلمة صحيحة لا تحريف فيها، وأنها من فوق الفصيل إذا سقاء اللبن فواقا فواقا، والفواق ما بين الحلبتين من الوقت، والمفوق ما يؤخذ قليلا من مأكول ومشروب، ويكون المعنى على هذا "أنكم طعنتموه طعنة قاتلة لم تدع له فرصة للنجاة". والطعن خاص بالرماح "انظر الثعالبي: فقه اللغة/ 301". 3 لسان العرب: مادة "شهق". والسيوطي: المزهر 2/ 234، وفيه "بضرب كآذان الفراء فضوله" - السكنة: مقر الرأس من العنق. التشهاق: الشهيق. العفا: ولد الحمار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 استخدامه لها، وإنما في مقام تشبيه إخوته الذين يرثيهم بها1. وكما يتحدث الشعرء الصعاليك عن أسلحة الهجوم، يتحدثون عن أسلحة الدفاع: الدرع والترس والمغفر، ولكنه حديث خافت الأنغام. وهذا طبيعي لأن الصعاليك ليسوا في حاجة إلى أسلحة للدفاع لأن سلاحهم الدفاعي الأول -أو بتعبير أدق- سلاح أكثرهم سرعة العدو الخارقة للعادة، وهو سلاح طالما استخدموه فأنجاهم. ولهذا كان طبيعيا أن يتحدث عروة عن درعه ومغفره كما نرى في أبياته التي أشرنا إليها والتي يتحدث فيها عما سيخلفه لورثته من بعده، فإن عروة كما نعرف عنه لم يكن من العدائين، ومع ذلك لم يتحدث عن هذه الأسلحة الدفاعية إلا في هذا الموضع، إلا إذا كان شعر عروة الذي بين أيدينا ليس كل شعره، وكان في شعره المفقود حديث عن هذه الأسلحة الدفاعية. ولكن الغريب حقا أن يرد ذكر هذه الأسلحة الدفاعية في شعر صعاليك هذيل، ووجه الغرابة أن الهذليين مشهورون بالعدو، فهم ليسوا في حاجة إلى هذه الأسلحة الدفاعية لأن سلاحهم معهم دائما. ومع ذلك فالمسألة لا تصل إلى درجة المشكلة لأن حديث صعاليك هذيل عن هذه الأسلحة لم يتجاوز حديثهم عن الترس فقط، وهو مع هذا حديث خافت الأنغام لا يعدو حالتين: إما إشارة سريعة له، وإما وصفا لصنعه، فصخر الغي يشير إلى ترسه، عند ذكره لمجموعة أسلحته، أو "بزه" كما يسميها، إشارة سريعة لا يتجاوز جزءا من شطر يصفه فيه بأنه مقبب موثق: إني سينهى عني وعيدهم ... بيض رهاب ومجنأ أجد2 وقد يكون عمرو ذو الكلب أشد عناية بترسه من صخر الغي، فهو يفرد له بيتا في إحدى قصائده يصفه فيه بخمس صفات: فهو أسمر، مقبب، مصنوع من جلد ثور، أصم لا خلل فيه، تصيبه النصال فترتد عنه وقد تكسرت ظباتها:   1 ديوان الهذليين 2/ 124 "البيت الأول". 2 شرح أشعار الهذليين 1/ 13 - رهاب أي رقاق. مجنأ أي مقبب. أجد أي موثق قوي. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 وأسمر مجنأ من جلد ثور ... أصم مفللا ظبة النصال1 أما أبو خراش، ثالث الصعاليك الهذليين الذين وصفوا الترس، فقد وصف ترسه بأنه موثق، مصنوع من جلد ثور، ولكن وقفته طالت عند هذه الصفة الثانية؛ إذ مضى يصف هذا الثور، وكيف نشأ في واد خصيب مطير، حتى شب قويا يطعن الثيران المتصدية له، فترتد دامية من طعناته، ضخما كأنه خيمة كبيرة: أواقد، لا آلوك إلا مهندا ... وجلد أبى عجل وثيق القبائل غذاه من السرين أو بطن حلية ... فروع الأباء في عميم السوائل مشب إذا الثيران صدت طريقه ... تصدعن عنه داميات الشواكل يظل على البرز اليفاع كأنه ... طراف رست أوتاد عند نازل2 وهكذا نستطيع أن نقرر، في ضوء ما بين أيدينا من شعر الصعاليك، أنهم بقدر ما كانوا حريصين على ذكر أسلحة الهجوم، مفتونين بوصفها، كانوا نفورين من ذكر أسلحة الدفاع، مقلين من وصفها. الحديث عن الرفاق: كما يتحدث الشعراء الصعاليك عن أسلحتهم التي يستخدمونها في مغامراتهم، يتحدثون عن رفاقهم الذين يرافقونهم فيها، ودور كل واحد منهم. وما أكثر ما نجد في شعرهم ألفاظ الرجل، والمنسر، والسربة، والمقنب، والفتيان، والأصحاب، والصحب، والقوم، وأمثال هذه الألفاظ التي تدل على الجماعة،   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 235. 2 ديوان الهذليين 2/ 139 - لا آلوك: أي أدع جهدا في أمرك. أبو عجل هو الثور. السرين: هي رتقة السرين بلدة على الساحل قريبة من مكة بين حلى وجدة. الأباء: القصب. العميم: ما اعتم من النبت في سوائل المطر، والسوائل الأماكن التي تسيل بالماء. المشب: الشاب من الثيران أو المسن. الشواكل: كل لحم مضطرب بين الجنب والورك. الطراف: الخيمة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وما أكثر ما نجد في شعرهم استخدام ضمير الجماعة، يعبرون به عن رفاقهم لا عن قبائلهم. وقد مر بنا في صدر هذا الفصل1 حديث الشنفرى في بائيته عن رفاقه الذين خرج معهم ليغزوا العوص، أولئك الرفاق الثمانية الذين يعتز بهم، ويملأ الإعجاب بهم نفسه، حتى ليصفهم بأنهم: سراحين فتيان كأن وجوههم ... مصابيح أو لون من الماء مذهب ورأينا كيف وصف خروجهم معه، وسيرهم إلى العوص ثلاث ليال على الأقدام، والدور الذي قام به كل واحد منهم في الغارة، فمن مهاجم بسيفه لا يثني ولا يلين، ومن مدافع عن رفاقه يحمي ظهورهم، حتى تم لهم النصر، وعادوا بغنيمتهم إلى قومهم الصعاليك. وفي تائيته المفضلية المشهورة يحدثنا الشنفرى أيضا عن غزوة له لبني سلامان أعدائه الألداء، بل ألد أعدائه، على رأس جماعة من رفاقة الصعاليك2، وهو يبدأ الحديث برسم صورة لرفاقه، صورة سريعة ولكنها قوية ومعبرة، فهم جماعة من الغزاة المغامرين قد احمرت قسيهم لكثيرة غزواتهم، ويقدم نفسه لنا رئيسا عليهم، يبعثهم للغزو وهو يعلم أن النصر والهزيمة أمران يتعرض لهما كل مغامر، وما احتمال الهزيمة بصارف له من المغامرة، فهذه طبيعة المغامرة، ومن يغز يغنم مرة ويشمت مرة أخرى. ثم بعد أن ينتهي من تقديم رفاقه وتقديم نفسه، يأخذ في وصف خروجهم، فيحدد أولا الموضع الذي اجتمعوا فيه بأمره تحديدا جغرافيا دقيقا، ثم يذكر الدوافع التي دفعته إلى هذه المغامرة، ثم يهون على نفسه مشقة الطريق، فستنتهي هذه المشقة باقترابه من هدفه حيث يراوح أعداءه ويغاديهم بغاراته، ثم يعود بعد هذا إلى رفاقه ليتحدث عنهم حديث طويلا، وهو يخص أحدهم -وهو تأبط شرا الذي كان يقوم على زادهم في غزواتهم، ويتولى أمر "التموين" فيها- بحديث مرح   1 انظر: ص182 من هذا البحث. 2 المفضليات/ 202-205 وانظر أيضا ص50 من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 يداعبه فيه مداعبة طريفة، فهو "أمهم" التي تقوم على قوتهم، وتقتر عليهم مخافة أن تطول الغزاة بهم فيموتوا جوعا، يعلن أنه غير راض عن هذه السياسة التي تنتهجها "أمهم" لأن "عيالها" جياع من تقتيرها، فما تخشاه عليهم توقعهم فيه، ولكنها لا تؤثر نفسها بشيء عليهم، حتى لقد أصبحت نحيلة دقيقة، وهي "أم" ليست كسائر الأمهات، إنها غير محجبة، لا يحجبها ستر، ولا يضمها بيت، تحمل جعبة فيها ثلاثون سهما عريضة النصال، وتعدو في سرعة فائقة وفي يمينها سيف صارم بتار: وأم عيال قد شهدت تقوتهم ... إذا أطعمتهم أوتحت وأقلت تخاف علينا العيل إن هي أكثرت ... ونحن جياع، أي آل تألت مصعلكة لا يقصر الستر دونها ... ولا تُرتجى للبيت إن لم تنبت لها وفضة فيها ثلاثون سيحفا ... إذا آنست أولي العدي اقشعرت وتأتي لعدي بارزا نصف ساقها ... تجول كعير العانة المتلفت إذا فزعوا طارت بأبيض صارم ... ورامت بما في جفرها ثم سلت حسام كلون الملح صاف حديده ... جراز كأقطاع الغدير المنعت تراها كأذناب الحسيل صوادرا ... وقد نهلت من الدماء وعلت1 ويتحدث عروة كثيرا عن أصحابه، ولكنه حديث الزعيم أو القائد، لا حديث الرفيق أو الزميل، فهو يدعوهم إلى الخروج معه للغزو والغارة: أقيموا بني لبني صدور مطيكم ... فإن منايا القوم خير من الهزل   1 أوتحت: أفلت. العيل: الفقر. قوله "أي آل تألت" يعني أي سياسة ساست، يقال آله أولا إذا ساسه. مصعلكة بكسر اللام: صاحبة صعاليك، وبفتحها: نحيفة. الوفضة: للقتال. المتلفت: أي الذي يتلفت إلى الحمر يطردها عن أتنه، ويُروى "المتفلت" أي الذي يتفلت إلى قتال الحمر عن عانته، والعانة: جماعة الأتن الوحشية. الجفر: الكنانة. الجراز: السيف القاطع. الحسيل: جمع حسيلة وهي أولاد البقر، شبه السيوف بأذناب الحسيل إذا رأت أمهاتها فجعلت تحرك أذنابها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 فإنكم لن تبلغوا كل همتي ... ولا أربتي حتى تروا منبت الأثل1 وهو يصرح بأنه سيغزو بهم -لا معهم- ليحقق أهدافه، أو يرضي نفسه: فإني لمستاف البلاد بسربة ... فمبلغ نفسي عذرها أو مطوف2 وهو قائد بارع، يجمع جنوده، ويخرج بهم فرسانا ورجالة ليغيروا، حتى إذا ما انتهت الغارة، وأخذوا طريق العودة، ونزلوا عند بعض المياه لينحروا مما نهبوه، حتى ينالوا حظهم من الطعام والراحة، تحول القائد البارع إلى قائد حذر، يبعث ربيئا منهم فوق شرف عال، ليراقب لهم الطريق حتى لا يفجأهم عدو وهم غافلون: لعل انطلاقي في البلاد ورحلتي ... وشدي حيازيم المطية بالرحل سيدفعني يوما إلى رب هجمة ... يدافع عنها بالعقوق وبالبخل قليل تواليها وطالب وترها ... إذا صحت فيها بالفوارس والرجل إذا ما هبطنا منهلا في مخوفة ... بعثنا ربيئا في المرابئ كالجذل يقلب في الأرض الفضاء بطرفه ... وهن مناخات، ومرجلنا يغلي3 ولعل أطرف ما في حديث عروة عن أصحابه حديثه عن مضايقاتهم له، وشكواه من بعض تصرفاتهم التي يضيق صدره بها، وبخاصة تنكرهم له بعد أن يخصبوا ويستغنوا ويصبحوا كالأغنياء المتمولين، ولكنه -مع هذا كله- يغفر لهم؛ لأنهم عياله وأبناؤه، وهو أبوهم الذي يتقبل منهم ما يرتكبونه في حقه، ثم لأنه يقوم منهم مقام السيد الذي تفرض عليه سيادته أن يتحمل ما يصدر عنهم، فيعفو عن جاهلهم، ويغفر لمسيئهم، ثم لأنه أخيرا يقف   1 ديوانه/ 106، وشرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 8، 9. مع اختلاف لفظي يسير. 2 ديوانه/ 93. 3 ديوانه/ 108-112. الهجمة: الجماعة من الإبل، أولها أربعون إلى ما زادت، أو ما بين السبعين إلى المائة، أو إلى دوينها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 منهم موقف الزعيم الخبير بنفسية جماهيره1. ويتحدث تأبط شرا عن رفاقه حديث المعجب بهم، المعتز برفقتهم، المقدر لقيمتهم في حياته المغامرة، تلك الحياة التي يحياها وحيدا إلا منهم، فهم عونة على هذه الحياة، يستعين بهم عليها، ويستغيث بهم إذا أفزعه أمر. وهم دائما أبطال شجعان شعث، لكثرة اشتغالهم بالغزو والكفاح، والضرب في أعماق الصحراء، وجوب آفاقها، عيونهم نفاذة تتوقد بنار الحماسة والجرأة والإقدام كأنها نار الغضا المتأججة: مساعرة شعث كأن عيونهم ... حريق غضا تُلقى عليه الشقائق2 وهو لهذا لا ينسى أبدا فضلهم وقيمتهم في مغامراته، وهو يسأل الله أن يتولى عنه جزاءهم؛ لأنه عاجز عن جزائهم: جزى الله فتيانا على العوص أمطرت ... سماؤهم تحت العجاجة بالدم3 فإذا ما سقط أحدهم صريعا اشتد جزعه عليه، فإذا مصابه فيه لا يعدله مصاب، وإذا آماله في الحياة تنهار: أبعد قتيل العوص آسى على فتى ... وصاحبه أو يأمل الزاد طارق4 وهي يرى أن فقد أحدهم خسارة لا تعوض، وإضعاف للجماعة التي تشق طريقها في الحياة بقوة أبنائها، وكسر لسلاح من أسلحتها يستحق الأسف، بل يستحق الأسى والحزن والبكاء، وهو -على قلة دموعه- لا بيخل بها على من تفقده هذه الجماعة من أبنائها الممتازين، أولئك الذين يمتازون بما يجب أن يمتاز به كل صعلوك عامل: من بصر بكسب المحامد، وسبق إلى غايات المجد، وقوة وزعامة بين الرفاق، وخفة في الجسم، وجرأة على اقتحام الأهوال   1 انظر أبياته اللامية التي يقص فيها قصة من هذه المضايقات في ديوانه من ص113 - إلى ص118، ومن ص123 - إلى ص125. 2 الأغاني 18/ 214 - مساعرة: جمع مسعر وهو موقد نار الحرب. والشقائق هنا المراد بها أعشاب الجبال. 3 الأغاني 18/ 215. 4 المصدر السابق / 214. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 والسرى في الليل البهيم المظلم، وشجاعة فائقة، ورأي صائب، وكرم واسع، وفصل في الأمور، وحب للحركة والغزو، وبغض للدعة والإقامة والاستقرار: لكنما عولى إن كنت ذا عول ... على بصير بكسب الحمد سباق سباق غايات مجد في عشيرته ... مرجع الصوت هدا بين أرفاق عاري الظنابيب ممتد نواشره ... مدلاج أدهم واهي الماء غساق حمال أولوية، شهاد أندية ... قوال محكمة، جواب آفاق فذاك همي وغزوي أستغيث به ... إذا استغثت بضافي الرأس نغاق1 ومن هنا كثر رثاؤه لأصحابه، فهو وفي لهم ولذكراهم، لا تنسيه إياهم شواغل الحياة. وهي يرثي صديقه الأعز، وتلميذه النابغة، الشنفرى، رثاء حارا تتجلى فيه تلك اللوعة التي أصابته بعده، وتلك الحسرة التي استشعرها لفقده، وتلك الفجيعة التي لا يجد لها دفعا، وهو يأسف لأنه لم يكن معه في ساعة الشدة حين قتل، إذن لوقف إلى جانبه أخا ناصرا معينا: فلو نبأتني الطير أو كنت شاهدا ... لآساك في البلوى أخ لك ناصر2 وهو لا ينسى في غمرة هذا الأسى أن يسجل تعاونهما معا في ساعات الشدة، وأوقات الكفاح: إذا راع روع الموت راع، وإن حمى ... حمى معه حر كريم مصابر3   1 المفضليات/ 13-15. العول: الإعوال: مرجع الصوت: يريد أنه يصبح بأصحابه آمرا وناهيا. الهد: الصوت الغليظ. الظنابيب: جمع ظنبوب وهو حرف عظم الساق، ويريد بقوله "عاري الظنابيب" أنه خفيف اللحم، والعرب تمدح الهزل وتذم السمن. النواشر: عروق ظاهر الذراع، ويريد بقوله "ممتد نواشره" أنه طويل الذراعين دلالة على تمام خلقه. الأدهم هنا: الليل، والغساق: الشديد الظلمة. المحكمة: الكلمة الفاصلة القاطعة للأمور. ضافي الرأس: رجل كثير شعر الرأس لكثرة اشتغاله بالغزو فهو لا يتعاهد شعره. النفاق: الذي يصبح في إثر الطرائد. 2 ديوان الشنفرى المطبوع/ 29. 3 المصدر السابق/ 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 أحاديث الفرار: كما يتحدث الشعراء الصعاليك عن مغامراتهم وانتصارهم فيها، وفوزهم على أعدائهم، يتحدثون أيضا عن فرارهم وهربهم، دون أن يجدوا في هذه الأحاديث غضاضة، أو أمرا يدعو إلى الخجل والمداراة. وفيم الخجل ما دام الفرار أمرا طبيعيا من قوم عدائين، أو -بعبارة أخرى- سلاحا من أسلحتهم يضمن لهم النجاة ليعيدوا الكرة من جديد ليحققوا أهدافهم الاجتماعية والاقتصادية؟ فإذا لاحظنا -إلى جانب هذا- أن الفرار فرصة تتيح لهم إظهار تلك الميزة التي يفخرون بها دائما، وهي سرعة العدو، أدركنا سر حرصهم على أحاديث الفرار في شعرهم؛ لأنها أحاديث تتيح لهم مجال الفخر بهذه الميزة. وقد اشتهر بعض الصعاليك بفرارهم، وبخاصة صعاليك الحجاز ومنطقة جبال السراة، وبالذات صعاليك هذيل التي كانت تنزل في هذه المنطقة، وقد رأينا من قبل1 ما يذكره الأصمعي من كثرة انتشار العدائين في الحجاز والسراة، أولئك الذين كانوا "يعدون على أرجلهم ويختلسون"، وما يذكره من "أن بهذيل وحدها منهم أربعين"، ويصف الرواة حاجزا الأزدي بأنه "كان مع غاراته كثير الفرار"2. ويفرد البحتري في حماسته بابا "فيما قيل في الفرار على الأرجل"3، يروي فيه اثنتي عشرة مقطوعة لثمانية من الشعراء، منها ثماني مقطوعات لأربعة من الصعاليك4، أي أن ثلثي المقطوعات من شعر الصعاليك، ونصف الشعراء من الصعاليك، فإذا لاحظنا أن من هذه المقطوعات الثماني ثلاثا لحاجز وحده5، أدركنا أن الرواة كانوا على حق حين وصفوه بكثرة الفرار، وإذا لاحظنا أيضا أن من المقطوعات الاثنتي عشرة   1 انظر: ص80 من هذا البحث "فصل التفسير الجغرافي". 2 الأغاني 12/ 52 "بولاق". 3 الباب الخامس والعشرون من ص63 - إلى ص69. 4 أبو خراش الهذلي "ص63، 64"، وحاجز الأزدي "ص64، 65"، والأعلم الهذلي "66"، وتأبط شرا "ص68، 69". 5 ص64، 65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 التي يضمها الباب أربعا لشعراء من هذيل1، أي ثلث الباب كله أو ما يعادل نصف عدد مقطوعات الصعاليك أدركنا دقة ملاحظة الأصمعي عن كثرة العدائين في هذيل. والواقع أن أحاديث الفرار ظاهرة واضحة كل الوضوح في أخبار الهذليين وأشعارهم حتى لتعد سمة من سمات الشعر الهذلي. وفي شعر الأعلم الهذلي قصيدة طويلة2 يتحدث فيها عن فراره مع صاحب له من مغامرة لهما في بعض بلاد كنانة. وهو يبدؤها مباشرة بالحديث عن ذلك المازق الحرج الذي وجد نفسه فيه حين رأى القوم يطاردونه هو وصاحبه، وقد اقتربوا منهما حتى لم يعد بينهما وبينهم إلا أقل من رمية سهم، ثم يصور الفزع الذي انتابه فشل مقدرته على الرمي، وإن لم يشل تفكيره عن أن يحث صاحبه على العدو حتى ينجو معا: لما رأيت القوم بالـ ... ـعلياء دون قدى المناصب وفريت من فزع فلا ... أرمي ولا ودعت صاحب يغرون صاحبهم بنا ... جهدا وأغري غير كاذب أغري أبا وهب ليعـ ... ـجزهم ومدوا بالحلائب3 ثم يمضي في وصف تلك الجماعات التي تطاردهما، وسرعة عدو أحد مطارديه، ثم ينتقل إلى الاعتذار عن فراره بأنه خشي أن يقتل بسيوفهم فيصير طعاما للذئاب والضباع والثعالب والطير الجارحة: وخشيت وقع ضريبة ... قد جربت كل التجارب فأكون صيدهم بها ... وأصير للضبع السواغب جزرا وللطير المربـ ... ـة والذئاب وللثعالب   1 ص63، 64، 65، 66. 2 شرح أشعار الهذليين 1/ 55 وما بعدها، وديوان الهذليين 2/ 77 وما بعدها. وفي حماسة البحتري / 66 قطعة منها. 3 القدى: القدر. المناصب: الرامي الذي يناصبك الرمي، ويرميك وترميه. فريت: تحيرت ودهشت. الحلائب: الجماعات يجيء بعضها في إثر بعض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 وتجر مجرية لها ... لحمي إلى أجر حواشب1 ثم يصف هذه الضباع وجراءها، وكيف تنزع جلد المرء نزعا شديدا، ولا يكاد ينتهي من رسم هذه الصورة المفزعة لمصيره لو قتل، حتى يعود لذكر عدوه في شدة الحر، ولكنه لا يبالي بشيء من هذا، فقد اقترب من منطقة الأمان، ولاحت لعينيه منازل السلامة، وهنا فقط يذكر أهله وفقرهم، وأولاده الصغار وحاجتهم، كأنما يؤنب نفسه التي أغرته بالفرار والهرب دون أن يحقق شيئا من أهدافه: حتى إذا انتصف النها ... ر وقلت يوم حق ذائب رفعت عيني الحجا ... ز إلى أناس بالمناقب وذكرت أهلي بالعرا ... ء وحاجة الشعث التوالب المصرمين من التلا ... د اللامحين إلى الأقارب2 ولا يجد حاجز غضاضة من أن يتحدث عن فراره إلى صاحبته الجميلة المتأنقة، وحسبه -وحسبها أيضا- أن نجا من أعدائه بعد أن كادوا يقتلونه: ألا هل أتى ذات الخواتم فرتي ... عشية بين الجرف والبحر من بعر عشية كادت عامر يقتلونني ... لدى طرف السلماء راغية البكر3 وهو ينهزها فرصة كغيره من الشعراء الصعاليك العدائين، ليتحدث عن سرعة عدوه التي تفوق سرعة الظبي الهارب من مطاردة طائر جارح له: فما الظبي أخطت حلقة الظفر رجله ... وقد كاد يلقى الموت في حلقة الظفر كمثلي أوان القوم بين معيع ... وآخر كالنشوان مرتكز يعزي3   1 الضريبة: السيف. جزرا: أي قطعا، يقال: تركته جزر السباع. الطير المربة: المقيمة على لحم أبدا. مجرية: أي ضبع ذات جراء. الأجرى: الجراء. الحواشب: المنتفخات البطون. 2 يوم حق ذائب: أي شديد الحر. المناقب: أماكن. التوالب: الجحاش الصغار، يريد بها هنا أولاده. 3 حماسة البحتري / 65. والأغاني 12/ 52 "بولاق"، والرواية فيه مضطربة لفظيا. عيع: عي عن أمر قصده. ومرتكز أي معتمد على سية قوسه. والجرف وبعر: موضعان. وراغية البكر: مثلي في الشدة والشؤم ضرب في بكر ناقة صالح. "انظر أساس البلاغة مادة: رغو". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 ويدافع تأبط شرا في قصيدة له عن فراره وتركه رفيقا له بأنه ما كان ليستطيع أن ينتظر حتى يدهمه مطاردوه الذين كانوا وراءه كالنحل، ولا أن يبطئ في عدوه حتى تصيبه السهام التي كانوا يرسلونها خلفه فترديه صريعا، وهو لهذا يثني جسده، ويسرع بعيدا عن الشر كأنه الظليم المذعور: ولم أنتظر أن يدهموني كأنهم ... ورائي نحل في الخلية واكنا ولا أن تصيب النافذات مقاتلي ... ولم أك بالشد الذليق مداينا فأرسلت مثنيا عن الشر عاطفا ... وقلت تزحزح لا تكونن حائنا وحثحثت مشعوف النجاء كأنني ... هجف رأى قصرا سمالا وداجنا1 وبعد أن يمضي في وصف سرعة الظليم، على طريقة الهذليين في الإلحاح على أوصاف المشبه به، ينتقل إلى الصورة التي رأيناها عند الأعلم، صورة الفزع من الموت على أيدي الأعداء، تلك الصورة التي تقترن عادة بإلقاء الجسد لحيوان البادية الضاري، وبخاصة الضباع، تلك الفصيلة التي اشتهرت بولعها بجيف الموتى كما يقرر علماء الحيوان2، فيحدثنا عن نجاته من مطارديه، ولو لم ينج منهم لأمسى قتيلا في صحراء غبراء، أو بين براثن ضبع تنبش الأرض بحثا عن الجيف: فزحزحت عنهم أو تجئني منبتي ... بغبراء أو عرفاء تفري الدفائنا كأني أراها الموت، لا در درها ... إذا أمكنت أنيابها والبراثنا3 ويدافع أبو خراش عن فراره، ويضفي على دفاعه لونا من "المذهبية"،   1 الأغاني 18/ 213 - الشد: العدو. الذليق: الحاد. النجاء: الإسراع، والمشعوف هنا: من أصيب قلبه بذعر. الهجف: الظليم. والقصر هنا: اختلاط الظلام. والسمال: جمع سملة وهي بقية الماء في الحوض. والداجن: لعل معناه هنا المطر المطبق، أو الصياد المتعوذ للغزو. ويكون الشاعر بهذا يصور فزغ الظليم حين أخذ الظلام يختلط، والمطر يسقط، أو حين رأى عند اختلاط الظلام ماء عنده صياد متربص. 2 الدميري: حياة الحيوان 2/ 71. 3 الأغاني 18/ 213 - العرفاء: الضبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 فهو يفر لا لأنه جبان، فهو إلى جانب فراره مقاتل شجاع، ولكن لأنه يرى أحيانا أن قتاله لا يجديه شيئا إلا أن يورده موارد هلاك، وهو مع ذلك لا يكف عن القتال إلا إذا لم يجد لنفسه مجالا فيه: فإن تزعمي أن جبنت فإنني ... أفر وأرمي مرة كل ذلك أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلا ... وأنجو إذا ما خفت بعض المهالك1 ولكن الأعلم يعلن في منتهى الصراحة والبساطة أنه حين تكاثر عليه أعداؤه فر منهم مسرعا، ولم يحاول قتالهم: بذلت لهم بذي وسطان شدي ... غداتئذ ولم أبذل قتالي2 سرعة العدو: ولا يكاد الشعراء الصعاليك يتحدثون عن شيء في مثل ذلك الإلحاح الذي نراه في حديثهم عن مغامراتهم كما يتحدثون عن سرعة عدوهم، ويبدو أن مرد هذا إلى أمرين: أولهما شعورهم بأنها ميزة تفردوا بها من بين إخوانهم في البشرية، وثانيهما إيمانهم بأنها من الأسباب الأساسية في نجاتهم من كثير من المآزق الحرجة. ومن هنا كان حديثهم عنها حديث المعجب بنفسه تارة، والمعجب بها تارة أخرى: المعجب بنفسه لأنه تفرد بها من سائر الناس، والمعجب بها لأنها كم أنقذته من أخطار أحدقت به. وأحسب أننا لسنا في حاجة إلى القول بأن الشعراء الصعاليك الذين يتحدثوا عن سرعة عدوهم هم أولئك الذين تحدثنا عنهم في تفسيرنا الجغرافي لظاهرة الصعلكة وهم الصعاليك السرويون -كما يسميهم الأصمعي-3 وبخاصة صعاليك هذيل وفهم والأزد، أما أولئك الذي لم يعرفوا بالعدو كعروة بن الورد فمن الطبيعي ألا يتحدثوا عن شيء لم يُعرفوا به. ويتحدث الصعاليك العداءون من هذه الميزة حديث المعجبين بأنفسهم   1 ديوان الهذليين 2/ 169، وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة 397. 2 شرح أشعار الهذليين 1/ 63. 3 فحول الشعراء "مخطوطة" ورقة رقم 15. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 الذين يرون أنهم قادرون على شيء يعجز عنه بعض الناس، على نحو ما نرى في قول الأعلم: فلا وأبيك لا ينجو نجائي ... غداة لقيتهم بعض الرجال1 ولكن ذا الكلب لا يرضى بهذه "البعضية"، وإنما يوسع حكمه حتى تشمل كل ذي قدم: فجئت لا يشتد شدى ذو قدم2 بل إن أبا خراش لا يرضى بالبشر طرفا ثانيا في هذه المباراة كأنما يرى أن البشر أبطأ من أن يصلحوا لها. وإنما يعقد المباراة بينه وبين حمار الوحش، ذلك الحيوان المشهور بسرعة العدو، ومع ذلك فحمار الوحش لا يستطيع أن يجاريه في عدوه: أقبلت لا يشتد شدى واحد ... علج أقب مسير الأقراب3 وقد رأينا حاجز يتحدث إلى صاحبته الجميلة المتأنقة عن فرته دون أن يجد في هذا الحديث غضاضة، وما من سبب لذلك سوى إعجابه بنفسه إذ استطاع النجاة من أعدائه عدوا على قدميه، فهو في هذا الحديث كأنما يقدم إلى صاحبته لونا من ألوان البطولة التي يراها جديرة بإعجابها، حتى ليتساءل في أول حديثه في لهفة ظاهرة "ألا هل أتى ذات الخواتم فرتي؟ ". وهم يتحدثون عن هذه الميزة أيضا حديث المعجبين بها، المقدرين لقيمتها في حياتهم. يصرح حاجز بأن الفضل الأكبر في نجاته من بعض مواقفه الضيقة لا يرجع إلى قتاله، وإنما يرجع إلى عدوه، وهو -لهذا ولشدة إعجابه برجليه اللتين أتاحتا له هذا العدو- لا يتورع من أن يفديهما بأمه وخالته، وماذا جنى   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 60. 2 المصدر السابق / 239، وتُروى لأبي خراش، وقد قلنا في الفصل السابق إن هذا الاختلاف لا يضيرنا في هذا الدراسة لأنه اختلاف داخلي. 3 ديوان الهذليين 2/ 169، وتُروى لتأبط شرا وللأعلم، والقول في هذا كالقول في البيت السابق - والعلج: حمار الوحش السمين القوي. والأقب: الضامر البطن. ومسير الأقراب: أي مخطط الخاصرتين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 من أمه وخالته غير ذلك السواد الذي صبغه بصبغة بغيضة كانت سببا من أسباب تلك الحياة المتصعلكة التي يحياها، والتي زجت به في هذا الموقف الضيق الذي لولا رجلاه لفقد حياته فيه: فغير قتالي في المضيق أغاثني ... ولكن بذلي الشد غير الأكاذب فدا لكما رجلي أمي وخالتي ... بشدكما بين الصفا والأثائب1 ويصرح أبو خراش بأنه لولا سرعة عدوه فرارا من أعدائه لآمت امرأته ويتم ابنه: ولولا دراك الشد قاظت حليلتي ... تخير من خطابها وهي أيم فتقعد أو ترضى مكاني خليفة ... وكاد خراش يوم ذلك ييتم2 ويقص علينا تأبط شرا في قافيته المشهورة كيف أنجاه عدوه من عدوه، برغم ما أرسلوه خلفه من خيل سريعة: ليلة صاحوا وأغروا بي سراعهم ... بالعيكتين لدى معدَى ابن براق كأنما حثحثوا حصا قوادمه ... أو أم خشف بذي شث وطباق لا شيء أسرع مني، ليس ذا عذر ... وذا جناح بجنب الريد خفاق حتى نجوت ولما ينزعوا سلبي ... بواله من قبيض الشد غيداق3 وكما يتحدث الصعاليك العداءون عن شدة عدوهم، يتحدثون عن شدة عدو رفاقهم، ويصف تأبط شرا أحد أصحابه الصعاليك بأنه سريع العدو يسبق الريح:   1 حماسة البحتري / 64. والأغاني 12/ 52 "بولاق". 2 ديوان الهذليين 2/ 148. والأغاني 21/ 56، 57 - قاظت: من القيظ، أي أدركها القيظ، وهو الصيف. 3 المفضليات / 7-11. حصا قوادمه يريد به الظليم، والأحص: الذي تناثر ريشه وتكسر، والقوادم من ريش الجناح: ما ولي الرأس. وأم خشف يريد بها الظبية. والشث والطباق: من نبت السراة، وإنما خصهما لأنهما يضمران ما يرعاهما من الحيوان، ويشدان لحمه، وذا عذر يعني به فرسا، والعذر: ما أقبل من شعر الناصية على الوجه. الربد: أعلى الجبل، وإنما خص جارح الجبل لأنه أسرع طيرانا من جارح السيل. الواله: الذاهب العقل. والقبيض: السريع. والغيداق: الكثير الواسع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 ويسبق وفد الريح من حيث ينتحي ... بمنخرق من شدة المتدارك1 ويشبه الأعلم انقضاض جماعة من الصعاليك العدائين من كل ناحية على فريسة عرضت لهم في أثناء تربصهم بالصحراء بتفجر الماء من حوض قديم متهدم يحاول صاحبه أن يصلحه ولكن الماء يغلبه فيتفجر من شتى نواحيه: تخاف لزام عادية ثعول ... كما يتفجر الحوض اللقيف2 ويرسم أبو خراش صورة رائعة لجماعة من العدائين يحرص كل منهم على ألا يتخلف عن رفاقه حتى لا يفتضح بينهم، وهم خارجون للغزو في ليلة ممطرة، وقد ابتلت أقدامهم، والشجر يتكسر من وقعها، فيلتف تحتها أكواما كأنها أوساط الإبل السود: وليلة دجن من جمادى سريتها ... إذا ما استهلت وهي ساجية تهمي وشوط فضاح قد شهدت مشايحا ... لأدراك ذحلا أو أشيف على غنم إذا ابتلت الأقدام والتف تحتها ... وغثاء كأجواز المقرنة الدهم3 وكما يتحدثون عن شدة عدو رفاقهم، يتحدثون عن شدة عدو أعدائهم أيضا، ليثبتوا لأنفسهم تلك الميزة عن طريق غير مباشر. ويرسم الأعلم في يائيته التي يتحدث فيها عن فراره هو وصاحب له من بعض أعدائهما صورة رائعة لمطاردتهم لهما، يصف فيها خروجهم خلفهما، وكيف يغرون أسرعهم ليدركهما، بينما يغري هو صاحبه ليفوتهم، ثم يصف تلك الجماعات التي تطاردهم، والتي يجيء بعضها في إثر بعض، كما تدفع الرياح السحب فتجلجل بالرعود، ثم يصف سرعة عدو أحد مطارديه الذي ينطلق خلفه كأنه حمار وحش ضامر يسرع ليرد الماء:   1 حماسة أبي تمام 1/ 48. 2 شرح أشعار الهذليين 1/ 68 - اللزام: العذاب. الثعول: التي لها زيادات بمنزلة الضرع. اللقيف: الذي أصلحه صاحبه فطينه وسواه من نواحيه. 3 ديوان الهذليين 2/ 130 - شوط فضاح: أي إن سبق فيه رجل افتضح. المشايح: الجاد في كلام هذيل. أشيف: أشرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 يغرون صاحبهم بنا ... جهدا وأغري غير كاذب أغري أبا وهب ليعـ ... ـجزهم ومدوا بالحلائب مد المجلجل ذي العما ... ء إذا يراح من الجنائب يغري جذيمة والردا ... ء كأنه بأقب قارب1 ويرسم أبو خراش في ميميته التي يتحدث فيها عن فراره من خزاعة صورة دقيقة لمطارديه، وقد اقترب منه أحدهم حتى صار كأنه توءم له، والسهام تنهال حوله ولكنها تخطئه، وكيف زاد من سرعته حين رأى وراء ظهره أحد مطارديه مسرعا وقد بسط ذراعيه، ومد ساقيه الطويلتين، وهو حريص على أن يدركه لأن له ثأرا عنده، وأبو خراش حريص على أن ينجو منه لأنه شخص فاتك جريء أثيم: بأسرع مني2 إذ عرفت عديهم ... كأني لأولاهم من القرب توءم وأجود مني يوم وافيت ساعيا ... وأخطأني خلف الثنية أسهم أوائل بالشد الذليق وحثني ... لدى المتن مشبوح الذراعين خلجم تذكر ذحلا عندنا وهو فاتك ... من القوم يعروه اجتراء ومأثم3 ومن أطرف الأشياء أن يحدثنا الأعلم عن كراهيته لمطارده، لا لشيء إلا لأنه عداء سريع لا يألو جهدا في مطاردته: كرهت جذيمة العبدي لما ... رأيت المرء يجهد غير آلي4 وأكثر ما يتحدث الصعاليك العداءون عن شدة عدوهم مقرونة بموازنة بينهم وبين الطير أو بعض حيوان الصحراء المشهور بسرعة العدو. ويتردد ذكر حمار الوحش عند صعاليك هذيل، ولا نعثر به عند غيرهم   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 55، 56. وحماسة البحتري / 66 - العماء: أرفع السحاب في السماء. يراح: تصيبه الريح. القارب: طالب الماء ليلا. أبو وهب صاحبه، وجذيمة عدوه. 2 متعلقة بوصفه ظبيا يطارده الصيادون يشبه به نفسه في شدة عدوه. 3 ديوان الهذليين 2/ 147. وحماسة البحتري / 64. والأغاني 21/ 56 - واءل: طلب النجاة. مشبوح الذراعين: عريضهما. الخلجم: الطويل. 4 شرح أشعار الهذليين 1/ 60. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 من الشعراء الصعاليك فيما بين أيدينا من شعرهم، فيما عدا مقطوعة تروى لأبي خراش أو للأعلم أو لتأبط شرا، وهي تلك البائية التي أشرنا إليها1، حتى ليصبح أن نقول إن ذكر حمار الوحش في صدد الحديث عن العدو خاصة هذلية. يصف صخر الغي صاحبا له بشدة العدو فيشبهه بحمار وحش ضامر تعضه الحمر فيفر منها هاربا: معي صاحب داجن بالغزا ... ة لم يك في القوم وغلا ضعيفا ترى عدوه صبح إقوائه ... إذا رفع المأبضان الحشيفا كعدو أقب رباع ترى ... بفائله ونساه نسوفا2 أما الأعلم فالصورة التي يرسمها لحمار الوحش أكثر خطوطا وألوانا، فهو عنده ضامر البطن ولكن في غير هزال كأنه عرق السدر في حمرته، وهو سريع يسبق الإبل والخيل النجيبة، خرج ليلا في طلب الماء، فلاحت له أتان سمينة مكتنزة اللحم، فهو حريص على إدراكها: يغرَى جذيمة والردا ... ء كأنه بأقب قارب خاظ كعرق السدر يسـ ... ـبق غارة الخوص النجائب عنت له سفعاء لكـ ... ـت بالبضيع لها الخبائب3 وأما الظليم، وهو من أسرع حيوان الصحراء عدوا4، فقد ورد ذكره عند تأبط شرا والأعلم، كما ورد ذكر النعامة عند أبي خراش. أما تأبط شرا   1 انظر: ص216 الهامش 3. 2 شرح أشعار الهذليين 1/ 48 - داجن: معاود مرة بعد مرة، أو متعود للغزو. الوغل: النذل. الإقواء هنا: النزول في الفقر من الأرض. المأبضان: باطن الركبة وباطن المرفق. الحشيف: الثوب الخلق. الرباع: الذي ألقى رباعيته وهي السن التي بين التثنية والناب. الفائل والنسا: عرقان. النسوف: آثار العض. 3 شرح أشعار الهذليين 1/ 56 - خاظ أي مكتنز ممتلئ لحما. سفعاء: سوداء الوجه في حمرة. لكت: قذفت باللحم. البضيع: اللحم. الخبائب: طرائق اللحم. لها هنا بمعنى منها. 4 في أمثال العرب "أعدى من الظليم" "الميداني: مجمع الأمثال 1/ 429". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 فالظليم عنده مذعور يقطع الصحراء وقد مد جناحيه، وكل ما يحرص عليه تأبط شرا وصفه بالسرعة، ومن هنا كثرت في أبياته تلك المترادفات التي تدل على السرعة، ولكنه لا يكتفي بهذا بل يعقد بين هذا الظليم وبين الخيل السريعة مباراة، فإذا هو أسرع منها: وحثحثت مشعوف النجاء كأنني ... هجف رأى قصرا سمالا وداجنا من الحص هزروف كأن عفاءه ... إذا استدرج الفيفا ومد المغابنا أزج زلوج هذرفي زفازف ... هزف يبذ الناجيات الصوافنا1 وأما الأعلم فالصورة عنده أكثر خطوطا وألوانا، فالظليم عنده سريع يعترض فراخه في وقت العشية، وهو غليظ الساقين طويلهما، وقد تساقط ريشه، وهو مذعور قد اختبأ بين الأشجار طويلة، فإذا عدا خفق جناحاه خفقان ريح جنوبية بثياب جديدة غير ممزقة: كأن ملاءتي على هزف ... يعن مع العشية للرئال على حث البراية زمخري الـ ... أسواعد ظل في شري طوال كأن جناحه خفقان ريح ... يمانية بريط غير بالي2 وأما أبو خراش فهو يشير للنعامة في صدد حديثه عن شدة عدوه إشارة سريعة3، كما يفعل مع حمار الوحش، وهو لا يقف طويلا عندهما لأنه مشغول بحيوان آخر سريع هو الظبي.   1 الأغاني 18/ 213 - الهزروف: الظليم السريع الخفيف. الحص: جمع أحص هو القليل شعر الرأس. المغابن: جمع مغبن وهو الأبط. الأزج من النعام. البعيد الخطو. الزلوج: الناجي من الغمرات. الهذرفي: نسبة إلى الهذرفة وهي السرعة. زفازف: من الزفزفة وهي رمي الطائر بنفسه أو بسط جناحيه. هزف: سريع. 2 ديوان الهذليين 2/ 83، 84. وحماسة البحتري/ 66. وروي البيت الأول في لسان العرب مادة "خرق" وفيه "هجف" مكان "هزف"، وروي البيت الثاني في مادة "شري" ومادة "حت" - الرئال: جمع رأل وهو ولد النعام أو حوليه. الزمخري: الأجوف، وكان العرب يظنون أن النعام لا مخ بساقيه. وقوله "على حت البراية" يريد به أنه سريع حتى لا يبقى منه إلا براية. والشري: شجر. 3 ديوان الهذليين 2/ 145 - البيت الأول. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 والمنظر الذي يتخيره أبو خراش للظبي حين يخرج الصيادون لصيده، وقد بثوا حبالهم في مسارحه ليعلق فيها، ولكنه ينجو منها، فلا يجد الصيادون مفرا من رمية بسهامهم وإطلاق كلابهم خلفه، ولكنه يفوتها، ومع ذلك يظل مذعورا غير مطمئن يصغي إلى ناحيتهم وقد نصب أذنيه كأنهما قطعتا لعدم تحركهما، فإذا ما سمع صوت ذباب يطوف حوله ذعر وخيل إليه أنه صوت سهام الرماة، فانطلق كما ينطلق السهم مخلفا وراءه غبارا مختلفا ألوانه كأنه الملاء: فو الله ما ربداء أو علج عانة ... أقب وما إن تيس ربل مصمم وبثت حبال في مراد يروده ... فأخطأه منها كفاف مخزم يطيح إذا الشعراء صاتت بجنبه ... كما طاح قدح المستفيض الموشم كأن الملأ المحض خلف ذراعه ... صراحيه والآخني المتحم تراه وقد فات الرماة كأنه ... أمام الكلاب مصغي الخد أصلم بأسرع مني إذ عرفت عديهم ... كأني لأولاهم من القرب توءم1 ويتردد ذكر الظبي أيضا في شعر حاجز، وهو حينا يتخير منظر الظبي المذعور الهارب من جوارح الطير بعد أن كاد يلقى الموت في أظفارها، كما رأينا في أبياته الرائية من قبل، وهو حينا آخر يذكره مع حيوانين آخرين من حيوان الصحراء السريع: الأرنب، والوعل، وهو لهذا يكتفي بأن يذكر أنه ظبي في منطقة جبلية، فهو خفيف نشيط قوي، أما الأرنب فهو يمر بها مرا سريعا، أما الوعل فيتخير له منظرا يكون فيه في أقصى سرعته، حين يحس الصيادين خلفه ومعهم كلابهم المدربة:   1 المصدر السابق / 145، 146. والأغاني 21/ 56 - الربداء: النعامة السوداء إلى غبرة. والتيس هنا الذكر من الظباء. والربل: نبت ينبت في أول الشتاء. وقوله: في مراد يروده أي في مسارح يسرح فيها. والكفاف: الحبالة يصيدون بها الظباء تجعل كالطوق. والمخزم: المنظم. يطيح: يسرع. والشعراء: ذباب يلسع. والمستفيض: الذي يفيض بالقداح يضرب بها. والموشم: الذي به علامات. وصراحيه: أبيضه. والآخنى: نوع من الثياب. والمتحم: الذي به خطوط خضر وحمر. والأصلم: المستأصل الأذن. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 وكأنما ابتعث الفوارس أرنبا ... أو ظبي رابية خفاقا أشعبا وكأنما طردوا بجنبي عاقل ... صدعا من الأروى أحس مكلبا1 وهذان البيتان هما الموضع الوحيد فيما بين أيدينا من شعر الصعاليك الذي ورد فيه ذكر للأرنب والوعل في صدد الحديث عن العدو. وإذا كان حاجز يشبه نفسه بالظبي الهارب من جوارح الطير فإن أبا خراش يعكس هذه الصورة فيشبه نفسه بالعقاب تطارد صيدا، فهو يقدم لنا في بعض قصائده صورة رائعة قوية لتلك المطاردة، فهي عقاب كاسرة منقضة تطلب الصيد، ولها فرخ في رأس جبل، تحمل له طعامه مما تصيد حتى امتلأ وكرها بعظامه، وقد رأت على بعد صيدا فتحفزت له ثم انقضت فوقه في أرض فضاء ليس فيه ما يستره: كأني إذ عدوا ضمنت بزي ... من العقبان خائتة طلوبا جريمة ناهض في رأس نيق ... ترى لعظام ما جمعت صليبا رأت قنصا على فوت فضمت ... إلى حيزومها ريشا رطيبا فلاقته ببلقعة براز ... فصادم بين عينيها الجبوبا2 وهذ أيضا الموضع الوحيد فيما بين أيدينا من شعر الصعاليك الذي ورد فيه ذكر العقاب في صدد الحديث عن شدة العدو. ويشبه أبو خراش ابنه، والقوم يطاردونه بعد غارة له عليهم، بطائر خفيف العظم، قليل اللحم، عائد إلى وكره، وقد دنا الليل، فهو جاد في طيرانه يبسط جناحيه ويقبضهما في شدة وقوة:   1 حماسة البحتري/ 65 - الخفاف: الخفيف القلب المتوقد. الأشعب: ما كان بين قرنيه بعيدا جدا. الصدع بتحريك الدال وتسكينها: الفتى الشاب القوي. المكلب: معلم الكلب الصيد. وانظر البيتين أيضا في الأغاني 12/ 52 "بولاق" مع اختلاف لفظي. 2 ديوان الهذليين 2/ 133، 134 - الخائتة: العقاب تنقض على الصيد. الناهض هنا المراد به فرخها، وقوله "جريمة ناهض" يريد به أنها تكسبه، وجريمة القوم: كاسبهم. النيق: الشمراخ في الجبل. الصليب: الودك وهو الدسم، يقال: صلب العظام إذا استخرج ودكها على فوت أي على سبق. البراز: الفضاء البارز. الجبوب: الأرض. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 كأنهم يشبثون بطائر ... خفيف المشاش عظمه غير ذي نحض يبادر قرب الليل فهو مهابذ ... يحث الجناح بالتبسط والقبض1 وقد نتساءل: أين الخيل بين هذه الفصائل المختلفة من الحيوان السريع؟ ولماذا لم يذكرها الصعاليك العداءون في مجال حديثهم عن العدو كما ذكروا هذه الفصائل؟ يبدو لي أن سبب ذلك أن الصعاليك العدائين كانوا ينظرون إلى الخيل على أنها أقل منهم سرعة، وهي نظرة يؤيدها واقع حياتهم، وقد رأينا في الفصل الأول من الباب الأول أن رواة الأدب العربي يذكرون عنهم أنهم كانوا يسبقون الخيل، ويروون عنهم قصصا في هذا الصدد، ومهما يكن من مبالغة في هذه القصص فإنها تصور أصداء حقيقة واقعية، وقد فسرنا هذه الظاهرة في حياة الصعاليك العدائين عند تفسيرنا الجغرافي لظاهرة التصعلك، وانتهينا إلى أنها -على ما فيها من غرابة- ليست بالمستحيلة في الحياة الواقعية. فإذا أضفنا إلى هذا أن الصعاليك العدائين لم يكونوا على صلة دائمة بالخيل، وإنما كنت صلتهم بها صلة عداوة، وهي تلك الصلة بين المطارد والطريد مما جعل نفوسهم مشبعة بالسخط على ذلك الحيوان السريع الذي يستغله أعداؤهم في مطاردتهم، استطعنا أن نجد تعليلا آخر لهذه المسألة. ولهذا نلاحظ أن الصعاليك العدائين لا يذكرون الخيل في صدد الحديث عن عدوهم إلا مقترنة بأنهم أسرع منها، أو على الأقل بأنها ليست أسرع منهم، كما نرى عند تأبط شرا الذي يصرح بأنه يسبق الخيل عدوا على قدميه، ويكسو طلائعها المتقدمة الغبار الثائر من عدوه: يفوت الجياد بتقريبه ... ويكسو هواديها القسطلا2   1 ديوان الهذليين 2/ 159. ولسان العرب: مادة "هبذ" ومادة "هذب" - المشاش: جمع مشاشة وهي رأس العظم الممكن المضغ. النخض: اللحم أو المكتنز منه، المهابذ: الذي يسرع في طيرانه، من المهابذة وهي الإسراع في الطيران. 2 ابن قتيبة: الشعر والشعراء / 176. وحماسة ابن الشجري/ 47 - التقريب: ضرب من العدو. القسطل: الغبار. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 ويحرص الصعاليك العداءون على تسجيل ظاهرة طريفة في حديثهم عن العدو، وهي حركة ثيابهم عند عدوهم، وما يفعلونه أو تفعله الرياح بها، وهي ظاهرة تستمد طرافتها من صدقها وبساطتها وواقعيتها، ومن أطرف الأشياء في هذا الصدد أنهم أكثر ما يذكرون ثيابهم يذكرون أنها بالية ممزقة. يصف صخر الغي صاحب له بأنه يعدو فيرفع باطن ركبتيه ثوبه الخلق: ترى عدوه صبح إقوائه ... إذا رفع المأبضان الحشيفا كعدو أقب رباع ترى ... بفائله ونساه نسوفا1 أما أبو خراش فثوبه الخلق البالي يهتز في أثناء عدوه كأنه ينتفض من حمى تلازمه: فعديت شيئا والدريس كأنما ... يزعزعه ورد من الموم مردم2 وهو أحيانا يضيق بثيابه لأنها تعوقه عن سرعة العدو فيطرحها عنه: ورفعت ساقا لا يُخاف عثارها ... وطرحت عني بالعراء ثيابي3 وفي قصيدة أخرى يصف جماعة من العدائين وقد ألقوا ثيابهم عنهم من شدة عدوهم: وعادية تُلقي الثياب وزعتها ... كرجل الجراد ينتحي شرف الحزم4 ويتحدث تأبط شرا عن مطاردة حاجز الأزدي وأصحابه له، ويصفهم بأنهم قد ألقوا عن أجسادهم ثيابهم البالية، وشمروا عن سيقانهم ليسهل عليهم إدراكه: فتعتعت حضني حاجز وصحابه ... وقد نبذوا خلقانهم وتشنعوا5   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 48. وانظر: ص220 من هذا البحث. 2 ديوان الهذليين 2/ 144. والأغاني 21/ 56. وحماسة البحتري / 63 - الدريس: الثوب الخلق. الموم: الحمى. المردم: الملازم. 3 ديوان الهذليين 2/ 168، وتُروى للأعلم ولتأبط شرا، وهذا الاختلاف لا يضيرنا في شيء فهم جميعا صعاليك. 4 المصدر السابق/ 132 - الرجل بالكسر: القطعة العظيمة من الجراد. الحزم: المكان المرتفع كالحزن. 5 الأعاني 18/ 218، وفيه "تتعتعت" وواضح أنه تحريف - تعتعه: حركه بعنف. تشنعوا: تهيئوا للقتال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 ومما يتصل بهذا حديثهم عن نعالهم، ووصفها بأنها بالية ممزقة، لكثرة سيرهم وعدوهم. يتحدث تأبط ششرا عن صعوده إلى المرقبة بنعل بالية ممزقة قد شدها بسيور بع أن جعل تحتها نعلا أخرى: بشرثة خلق يُوقى البنان بها ... شددت فيها سريحا بعد إطراق1 ويصف الشنفرى نعليه بأنهما ممزقتان كأنهما أشلاء السماني، وبأنه خلعهما في بعض طريقه إما ليسهل عليه عدوه، وإما لأنهما لم تعودا صالحتين للاستعمال لتمزقهما الشديد: ونعل كأشلاء السماني تركتها ... على جنب مور كالنحيزة أغبرا2 وهي صورة نجدها عند أبي خراش أيضا: ونعل كأشلاء السماني نبذتها ... خلاف ندى من آخر الليل أورهم3 ومن الطريف أننا نجد لأبي خراش قصيدة نظمها في مدح رجل حذاه نعلين جديدتين4، وهو فيها مقدر له هذا الصنيع تقديرا كبير، معجب بنعليه الجديدتين، يصفهما، ويصف صنعهما، ويتحدث عن قيمتهما في حياته؛ إذ يروح بهما متأنقا للهوه، ويستخدمهما في سيره وعدوه، ومن يدري فلعل له فيهما مآرب أخرى!! وهنا نقف لنتساءل: أين شعر السليك في العدو، وهو الصعلوك العداء الرجلي الذي يضرب به المثل في سرعة العدو، والذي تحدث عن سرعته رواة   1 المفضليات/ 17 - الشرثة: النعل البالية. والسريح: القد أو السيور التي تشد بها النعال. والإطراق: أن يجعل تحت النعل مثلها. 2 ديوانه المطبوع / 35. وديوانه المصور: لوحة رقم 10، وفيه "وأشلاء نعل كالسماني" المور: الطريق الموطوء المستوي. والنحيزة: لعل أقرب معانيها إلى معنى البيت أنها نسيجة شبه الحزام تكون على الفسطاط. 3 ديوان الهذليين 2/ 131 - الرهم: المطر الضعيف الساكن اللين. 4 انظرها في المصدر السابق / 140، 141. وفي الأغاني 21/ 57، 58. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 أخباره والشعراء المعاصرون له، والذي اتخذه الشعراء من بعد مادة طريفة لأحاديثهم عن السرعة؟ الحق يقال إنها مسألة غريبة ألا نجد للسليك شعرا يتحدث فيه عن سرعة عدوه، ولكن يبدو أن أقرب الفروض لتعليل هذه المسألة هو أن شعر السليك في عدوه وسرعته قد فقد. وليس من شك عندي في أن جانبا كبيرا من شعر السليك قد فقد، فليس من المعقول أن كل ما نظمه السليك من شعر لا يعدو تلك الأبيات القليلة المتفرقة في مصادر الأدب العربي المختلفة. وإذا كنا قد لاحظنا أن مجموعة السليك الفنية لا تضم حديثا عن هذا الجانب من حياته، فإننا نلاحظ أيضا أنها لا تصور جوانب حياته الأخرى تصويرا كاملا أو شبه كامل، وإنما هي مقطوعات قليلة لا تكاد تصور حياة صاحبها. أما صورة حياة السليك فمصدرها الأول أخبار الرواة وأقاصيصهم عنه. ومع ذلك فشعر السليك -كما يبدو مما وصل إلينا- ليس من الجودة بحيث نأسف على ضياعه، وقديما سئل الأصمعي عنه فقال "ليس من الفحول"1. الغزوات على الخيل: ويتحدث الشعراء الصعاليك أيضا عن عزواتهم على الخيل. وليس هناك ما يمنع الصعاليك من استخدام الخيل في غزواتهم إذا وجدت، وليس في هذا ما يطعن في مقدرتهم على العدو، فهي مقدرة معترف لهم بها. هذا إلى أن بعض الصعاليك لم يكونوا عدائين. وقد عرفت أسماء خيل بعض الصعاليك، فقرمل فرس عروة بن الورد2، والنحام فرس السليك3، واليحموم فرس الشنفرى4.   1 فحولة الشعراء "مخطوطة" ورقة رقم 15. 2 ديوانه/ 120. ولسان العرب: مادة "قرمل". 3 القالي: النوادر / 185. ولسان العرب: مادة "نحم". 4 ديوانه المطبوع /40. وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة رقم 400. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 ويتحدث الصعاليك أحيانا عن غزواتهم على الخيل مقترنة بغزواتهم على الأقدام، على نحو ما رأينا في الفصل الأول من الباب الأول من أبيات تأبط شرا وعروة. ويتحدثون أحيانا أخرى عن غزواتهم على الخيل حديثا مستقلا. وهي ظاهرة أكثر ما نجدها في شعر عروة. فهو يتوعد حينا أولئك الأغنياء المطمئنين الذين حسبوا أن لن يجرؤ على غزوهم أحد، وينذرهم بأنه سوف يفزعهم بخيل نشطة تطرد أمامها إبلهم المنفرة طردا عنيفا: سيفرع بعد اليأس من لا يخافنا ... كواسع في أخرى السوام المنفر1 وحينا آخر يصرح بأنه لن يكف عن المغامرة في سبيل الغنى ومعه جماعة من الصعاليك الفرسان حتى يحقق أهدافه أو يعذر نفسه: فإني لمستاف البلاد بسربة ... فمبلغ نفسي عذرها أو مطوف2 ويشير أحيانا أخرى إلى نجاته من مأزق حرج على ظهر جواده "قرمل"، وهو يعد ذلك منة لهذا الجواد لا تنسى: كليلة شيباء التي لست ناسيا ... وليلتنا إذ من ما من قرمل3 ويصرح السليك، ذلك الرجلي الذي يُضرب به المثل في سرعة العدو، بشدة حاجته إلى فرسه في أثناء غارات أصحابه الفرسان على أهدافهم: وما يدريك ما فقري إليه ... إذا ما الركب في نهب أغاروا4 وكذلك الشنفرى، ذلك الرجلي الآخر الذي يُضرب به المثل أيضا في سرعة العدو، يتحدث عن فرسه طريفا، ففرسه لا عيب فيه سوى هزاله، ولكنه جريء مقدام، تطغى جرأته وإقدامه في أثناء القتال على هزاله، بل إن الخيل السمينة لا تستطيع الوقوف أمامه:   1 ديوانه/ 83. 2 ديوانه/ 93. 3 ديوانه/ 120. 4 لسان العرب: مادة "ركب". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ولا عيب في اليحموم غير هزاله ... على أنه يوم الهياج سمين وكم من عظيم الخلق عبل موثق ... حواه وفيه بعد ذاك جنون1 وطرافة الصورة تأتي من أن الشنفرى يضفي صفات التصعلك على جواده، فهو جواد هزيل كصاحبه، جنى عليهما الفقر والجوع، ولكنه كصاحبه أيضا جريء مقدام، كأنما يشعر كما يشعر صاحبه بأن الحق للقوة، وأن الرزق في الشجاعة، وأن الجواد الخامل كالصعلوك الخامل. وتأتي طرافة الصورة أيضا من أن الشنفرى يلون صورة جواده بألوان مغامراته هو، فإذا جواده صورة منه، كم حوى من خيل سمينة قوية موثقة، كشأنه هو مع أفراد مجتمع الأغنياء، وهكذا يقدم لنا الشنفرى جواده على أنه "جواد صعلوك". فإذا ما قتل الشنفرى، وفزع صديقه الحميم وأستاذه تأبط شرا لأحزانه عليه يستمد منها رثاءه له، لم ينس ذلك "الجواد الصعلوك" فخصه ببيتين رائعين من مرثيته، عند حديثه عن الوسائل التي كان يعتمد عليها الشنفرى في قتاله، عزمه، وقوسه، وسيفه، وفرسه: وأشقر غيداق الجراء كأنه ... عقاب تدلى بين نيقين كاسر يجم جموم البحر طال عبابه ... إذ فاض منه أول جاش آخر2 الآراء الاجتماعية والاقتصادية: من الطبيعي أن يعلل الشعراء الصعاليك لمغامراتهم الدامية التي وهبوا لها حياتهم، وأن يفسروا الدوافع التي دفعتهم إلى تلك الثورة التي أشعلوها في وجه مجتمعهم، حتى تكون حركتهم التي وصفها مجتمعهم بالشذوذ قائمة على أساس معلل مسبب، وحتى تكون إجاباتهم حاضرة لكل من يسألهم:   1 ديوانه المطبوع / 40. وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة رقم 400. 2 ديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية / 28. وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة رقم 417 - الغيداق: الطويل. والجراء: لجري. والنيق: أرفع موضع في الجبل. وجم الماء: كثر واجتمع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 تلك المقطوعة التي أشار فيها الشنفرى إلى أنه هجين1 لا نكاد نعثر فيما بين أيدينا من شعر الصعاليك الأغربة على إشارة إلى هذه الظاهرة ذات الأثر البعيد في حياتهم. والذي يبدو لي تعليلا لهذا هو أن الصعاليك الأغربة كانوا يجدون غضاضة في الحديث عن هذه الظاهرة التي كانت مصدر احتقار المجتمع الجاهلي لهم، حتى إن إشارة الشنفرى إليها في تلك المقطوعة السابقة كانت إشارة ملتوية تبدو عليها محاولة التنصل منها، أو على الأقل الدفاع عنها. كما أن حديثهم عنها لا يفيدهم شيئا في قضيتهم؛ لأنها ظاهرة خلقية لا بد لهم فيها، ولا قدرة لهم على تغييرها، وهذا عكس الفقر الذي كثر حديثهم عنه، فهو ظاهرة يستطيعون دفعها وتغييرها، والمقصر في هذا من الصعاليك الخاملين عليه وزره، وعليه لعنة الصعاليك العاملين، وهذا -بطبيعة الحال- إذا لم يكن فيما فُقد من شعر الصعاليك الأغربة حديث عنها. أما عقدة العقد التي اشترك فيها جميع الصعاليك، وتحدث عنها جميع شعرائهم فهي الفقر، تلك الظاهرة الاجتماعية والاقتصادية التي كانت السبب الأقوى في تصعلكهم. ويتحدث الشعراء الصعاليك في أكثر من موضع من شعرهم عن فقرهم، وأسبابه، وتأثيره في أجسامهم، وأثره في حياتهم الاجتماعية، والوسائل التي يسلكونها للتخلص منه، والأسباب التي يحرصون من أجلها على التخلص منه، إلى غير ذلك من ألوان الحديث. يصورالأعلم الهذلي فقره في صورة بدوية ساذجة، ولكنها طريفة: زعمت خناز بأن برمتنا ... تغلي بلحم غير ذي شحم2 والشاعر الصعلوك هنا قد سجل على نفسه الفقر. ولن تجديه شيئا هذه   1 ديوانه المطبوع/ 40 قصيدة حرف "أك"، وديوانه المصور لوحة رقم 2. 2 شرح أشعار الهذليين 1/ 65، ولسان العرب مادة "خنز" وفيه "تجري" مكان "تغلي" - وخناز: لقب امرأة، والخناز في اللغة: المنتنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 المحاولة "المكشوفة" لمدارة فقره حين ادعى أنه زعم من هذه المرأة التي يسبها، ومع ذلك فهو يرد عليها في آخر مقطوعته بأنه يفخر بأكل هذا اللحم الهزيل، ما دامت نفسه لم يمسسها عار ولا إثم: إنا لنأكل لحمنا، فاستيقني ... في غير منقصة ولا إثم1 وفي قصيدته البائية المشهورة يرسم صورة إنسانية مؤثرة له، وهو يفر من أعدائه بعد مغامرة من مغامراته في سبيل العيش، وقد ذكر أهله الفقراء في صحرائهم المجدبة، وحاجة أولاده الصغار الشعث الذين خلفهم وراءه في العراء ولا شيء لهم سوى تلك الذلة التي تبدو عليهم كلما نظروا لمحا إلى أقاربهم في انتظار شيء يجودون به عليهم: وذكرت أهلي بالعرا ... ء وحاجة الشعث التوالب المصرمين من التلا ... د اللامحين إلى الأقارب2 ويتحدث الشعراء الصعاليك عن أسباب فقرهم، وهم يردونه عادة إلى كرمهم وإسرافهم. فعروة أبو الصعاليك يرد فقره إلى بذله ماله للفقراء المحتاجين الذين يأتون إليه يشكون فقرهم وعوزهم وكثرة أولادهم: إذا قلت قد جاء الغنى حال دونه ... أبو صبية يشكو المفاقر أعجف له خلة لا يدخل الحق دونها ... كريم أصابته خطوب تجرف3 ويسجل تأبط شرا في قافيته المفضلية حوارا بينه وبين شخص يعذله على كرمه وإسرافه، يصور نفسه فيه كريما لا يُبقي على شيء عنده، مغامرا في سبيل الحصول على مزيد من المال ليرضي به مطالب كرمه، وماذا في الحياة يدفعه إلى الحرص ما دام كل ما فيها فانيا مهما يحرص الإنسان عليه: بل من لعذالة خذالة أشب ... حرق باللوم جلدي أي تحراق يقول أهلكت مالا لو قنعت به ... من ثوب صدق ومن بز وأعلاق   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 66. 2 المصدر السابق / 58. وانظر ص213 من هذا البحث. 3 ديوانه/ 92. وحماسة أبي تمام 4/ 122. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 عاذلتي إن بعض اللوم معنفة ... وهل متاع وإن أبقيته باق1 ويذكر أبو خراش أنه كريم يدعو امرأته دائما إلى ألا تدخر شيئا، ولا تبقي لغد شيئا، فإذا لم يجدا في غد بعض زادهما فسيحاول أن يحصل لها على زاد غيره، أو فلتمسك فمها عن الطعام: لقد علمت أم الأديبر أنني ... أقول لها: هدي ولا تذخري لحمي فإن غدا إلا نجد بعض زادنا ... نُفئ لك زادا أو نُعدك بالأزم2 ويتحدث الشعراء الصعاليك أيضا عن أثر الفقر في أجسامهم، وما يحمله لهم من جوع وهزال. وقد مر بنا3 حديث السليك عن فعل الجوع به في أشهر الصيف المحرقة، وما كان يصيبه من إغماء ودوار، حتى لقد أوشك أن يفقد حياته صريع الفقر والجوع والهزال، أو -بعبارة أخرى- صريع الصعلكة: وما نلتها حتى تصعلكت حقبة ... وكدت لأسباب المنية أعرف وحتى رأيت الجوع بالصيف ضرني ... إذا قمت تغشاني ظلال فأسدف ويرسم تأبط شرا في بعض شعره صورة لجسمه دقيقة كل الدقة، صورة الشخص الذي لا يبقي من الزاد إلا ما يتعلل به، حتى لقد نشزت أضلاعه، والتصق معاه: قليل ادخار الزاد إلا تعلة ... فقد نشز الشرسوف والتصق المعي4 وينظر بعض الشعراء الصعاليك إلى المسألة من زاوية أخرى، فيتحدثون عن صبرهم على الجوع واحتمالهم له، متخذين من هذا الحديث مجالا للفخر   1 المفضليات/ 18 - الخذالة: الذي يخذله في إرادته ويخالفه فيها. والأشب: المختلط عليه المعترض. والبيت الثاني معناه أنه يأمره أن يبخل ويمسك عليه ماله حتى يستغني عن الغزو ولا يحتاج إلى طلب المال "انظر شرح ابن الأنباري". 2 ديوان الهذليين 2/ 125 - هدي: أي اقسمي هديتك وما عندك. الأزم: الإمساك وترك الأكل. 3 انظر الباب الأول: الفصل الأول "التعريف بالصعلكة" ص30. 4 حماسة أبي تمام 2/ 27، والأغاني 18/ 217. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 بقوة نفوسهم وصدق عزائمهم، ولكننا نلاحظ أن بين النظرتين فرقا في المجال: فأما الذين يشكون من الجوع فإنهم يتحدثون عن ذلك في مجال حديثهم عن مغامراتهم المتمردة، وأما الذين يتحدثون عن صبرهم عليه فإنهم يتحدثون عن ذلك في مجال حديثهم عن قوة نفوسهم. ويقدم لنا أبو خراش صورة نبيلة لذلك الجوع. الذي يطيل حبسه حتى يمله فيمضي عنه دون أن يلحقه من عار، وهو يكتفي بالماء القراح في حين يستمتع البخلاء الأشجاء بزادهم، فإذا ما تلظى الجوع في بطنه فإنه يرده ويغلبه على أمره، وهو يؤثر عياله على نفسه بالطعام، وهو يفعل ذلك كله حتى يعيش حياة كريمة مترفعة لا تسقط إلى مهاوي المذلة والهوان والعار حيث يكون الموت خيرا من الحياة: وإني لأثوي الجوع حتى يملني ... فيذهب لم يدنس ثيابي ولا جرمي وأغتبق الماء القراح فأنتهي ... إذا الزاد أمسى للمزلج ذا طعم أرد شجاع البطن قد تعلمينه ... وأوثر غيري من عيالك بالطعم مخافة أن أحيا برغم وذلة ... وللموت خير من حياة على رغم1 ومن الطبيعي أن يتحدث الشعراء الصعاليك عن تلك السياط النفسية التي يصبها الفقر على نفوسهم، والتي تحدثنا عنها في الفصل الأول من الباب الأول. وفي شعر عروة أحاديث طويلة عن هوان منزلة الصعاليك الاجتماعية، ومقامهم خلف أدبار البيوت، وسوء منظرهم في هذا المقام الذليل، وعن تلك الغضاضة التي يراها عليهم، وكيف يتوارون عن الناس، فلا يقيمون إلا حيث لا يراهم أحد، وعن ضيق أقاربهم حتى ليوشكوا أن ينكروا قرابتهم لهم: رأيت بني لبني عليهم غضاضة ... بيوتهم وسط الحلول التكنف2 ذريتي أطوف في البلاد لعلني ... أخليك أو أغنيك عن سوء محضر فإن فاز سهم للمنية لم أكن ... جزوعا، وهل عن ذاك من متأخر   1 ديوان الهذليين 2/ 127، 128، والأغاني 21/ 60 - المزلج: البخيل. 2 ديوانه/ 94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 وإن فاز سهمي كفكم عن مقاعد ... لكم خلف أدبار البيوت ومنظر1 إذا المرء لم يطلب معاشا لنفسه ... شكا الفقر أو لام الصديق فأكثرا وصار على الأذنين كلا، وأوشكت ... صلات ذوي القربى له أن تنكرا2 ويرسم السليك صورة إنسنية مؤثرة لما تلاقيه خالاته الإماء السود من الضيم والهوان، وهو عاجز لفقره عن أن يفعل من أجلهن شيئا حتى ليشيب رأسه مما يقاسيه نفسيا من أجلهن: أشاب الرأس أنى كل يوم ... أرى لي خالة وسط الرحال يشق علي أن يلقين ضيما ... ويعجز عن تخلصهن مالي3 والسليك في هذين البيتين لا يقصد خالاته القريبات شقيقات أمه بالذات، ولكنه يقصد بهن عامة الجنس، فهو يصور فيهما هوان الجنس الأسود الذي تنتمي إليه خالاته، ويقول المبرد "وإنما توجع لخالاته لأنهن كن إماء"4. ومن الطبيعي أن يتحدث الشعراء الصعاليك، بعد أن عرضوا لمشكلة الفقر وأثرها وأسبابها، عن آرائهم فيها، وكيف يكون السبيل إلى حلها. والسبيل الوحيد إلى ذلك عندهم، كما أسلفنا، الثورة على المجتمع، أو بالذات على طبقة المالة فيه، واغتصاب حقوقهم منها، متعمدين على قوتهم، مهما يكلفهم ذلك من ثمن. وقد صور الشعراء الصعاليك هذا كله في شعرهم، فكما تحدثوا عن مغامراتهم وهي الناحية العملية من حلهم للمشكلة، تحدثوا عن الناحية النظرية فيها، فسجلوا آراءهم الاجتماعية والاقتصادية تسجيلا صادقا بارعا. فهم يحتقرون تلك الطائفة الخاملة من الصعاليك الذين قبلوا وضعهم الاجتماعي الذليل وقنعوا به، فعاشوا على هامش المجتمع ينتظرون من فضلات   1 ديوانه/ 67. 2 ديوانه/ 190. 3 المبرد: الكامل / 299. والبغدادي: خزانة الأدب 3/ 128 وفيهما "يعز" مكان "يشق". 4 الكامل / 229. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 الأغنياء ما يسدون به رمقهم، ويعدون ذلك الغنى كل الغنى، لا يفكرون إلا في أنفسهم يلتمسون لها ذلك الزاد القليل الذليل، أما التفكير في أن يكون لهم من الثراء ما يطعمون به غيرهم، ويسجلون به لأنفسهم أحاديث خالدة تتناقلها الأجيال من بعدهم، فهذا أبعد الأشياء عن محيط نفوسهم الضعيفة التي تحيا حياة خاملة متكاسلة أقصى ما فيها من عمل خدمة النساء "الأرستقراطيات" إذا احتجن إليهم. أما الصورة التي يريدون أن يكون عليها أفراد جماعة الصعاليك فهي صورة الصعلوك المغامر القوي النفس الجسد، الذي يشرق وجهه في أوقات الشدة، والذي يهب حياته للمغامرة، ويبث الرعب في قلوب أعدائه حتى ليخشونه في وجوده وفي غيابه، فإذا استغنى فإنه جدير بهذا الغنى لأنه حصل عليه بقوته، وإذا جاءه أجله في ميدان كفاحه فليمض إلى ربه حميدا مبرأ من العار والذم1. وهم حريصون كل الحرص على أن يفرق المجتمع بين هاتين الطائفتين، وكم يتمنون لو عرف لكل طائفة قيمتها، فاحتقر الأولى، وقدر الأخرى حق قدرها. وهذا السليك يوضح ذلك الفرق لصاحبته حتى تكون على بينة من أمرها فلا تخلط بينه وبين صعاليك الطائفة الأولى الخامدة الضعيفة، لعلها إن أدركت هذا لفرق كفت عن هجرة ونال إعجابها: ألا عتبت علي فصارمتني ... وأعجبها ذو اللمم الطوال فإني يابنة الأقوام أربى ... على فضل الوضيء من الرجال فلا تصلي بصعلوك نئوم ... إذا أمسى يعد من العيال ولكن كل صعلوك ضروب ... بنصل السيف هامات الرجال2   1 انظر الحديث عن هاتين الصورتين: صورتي الصعلوك الخامل والصعلوك العامل في رائية عروة في ديوانه/ 73-82 والأصعميات/ 29، 30 وجمهرة أشعار العرب/ 115، وحماسة أبي تمام 1/ 219، 220. وانظر ص329 من هذا البحث. 2 المبرد: الكامل / 298. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 وما دام الأمر كذلك فليرسموا لأولئك الذين آمنوا بدعوتهم خطة العمل، وليحببوها إلى قلوبهم، وليدافعوا عنها وعنهم كما دفعوهم إليها. وقد ترددت هذه المعاني كثيرا في شعرهم، ووقف عروة بن الورد بالذات -كما يقف صاحب المذهب- يدعو إلى مذهبه ويحببه إلى قلوب الناس، ويدافع عنه. وليس في هذا غرابة، فلم يكن عروة يعد نفسه صعلوكا من الصعاليك، وإنما كان يعد نفسه زعيما للصعاليك، أو داعية لفلسفة التصعلك، إن صحت العبارة. وبهذه النظرية نظر إليه رفاقه، وبحق سموه أبا الصعاليك1. والخطة العملية في فلسفتهم الغزو والإغارة، وكما كثر في شعرهم الحديث عن الجانب التنفيذي من هذه الخطة، كثر أيضا حديثهم عن الجانب التشريعي منها، أو بعبارة أخرى كثرت دعوتهم إليها. وأكثر من ظهر عنده هذا الجانب التشريعي عروة بحكم وضعه داعية لفلسفة الصعلكة. وأساس دعوتهم أن هذه الخطة هي السبيل الوحيدة للغنى لمن هو في مثل حالتهم: متى تطلب المال الممنع بالقنا ... تعش ماجدا أو تخترمك المخارم2 ويتحدث الشعراء الصعاليك أيضا عن الأهداف التي يقصدونها بغزواتهم، فيحددون تلك الطوائف من مجتمعهم التي يرون أن يوجهوا إليها رءوس حرابهم، ومن الطبيعي أن تكون طبقة المالة أكثر طبقات مجتمعهم تعرضا لغزواتهم؛ لأنها الهدف الدسم الذي يسيل له لعابهم. ويتحدث تأبط شرا عن ثلاث طوائف من هؤلاء المالة كان يوجه إليهم غزواته: أصحاب المواشي، وأصحاب المزارع الخصبة، وأصحاب النوق الحوامل: فيوما على أهل المواشي وتارة ... لأهل ركيب ذي ثميل وسنبل3 ولكن أرباب المخاض يشفهم ... إذا اقتفروه واحدا أو مشيعا4   1 الأغاني 3/ 81. 2 عمرو بن براقة في الأمالي للقالي 2/ 122. 3 لسان العرب: مادة "ركب" ومادة "ثمل" - الركيب: المزرعة. والثميل: الحب. 4 حماسة أبي تمام 2/ 28، والأغاني 18/ 217 - يشفهم: يهزلهم، ويكد عيشهم. واقتفروه: تتبعوا أثره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 أما الأعلم فإنه يقصد أولئك السمان المترفين ضعاف القلوب، وهو يرسم في مقطوعة له صورة ساخرة طريفة نموذج من أولئك الذي يجعل منهم أهدافا لغزواته، فهو رجل غني سمين مترف، يعيش بين الستائر والحظائر، وجهت امرأته إليه برها وعنايتها حتى سمنته فأصبح من صنعها، ولكنه مع ذلك ضعيف القلب لو اخترق صحراء لفزعته شخوصها، ولحسب كل شخص فيها فارسا؛ لأنه خائف من أولئك الصعاليك المتربصين به وبأمثاله في أرجائها، الذين إذا رأوه انصبوا عليه كما تتفجر المياه من حوض متهدم يحاول صاحبه إصلاحه دون جدوى، وعندئذ تضطرب نفسه، وينهار كيانه، ويفر هاربا، ويذهب صنع امرأته فيه سدى: أيسخط غزونا رجل سمين ... تكننه الستارة والكنيف ولو رفعت ثوبك في خروق ... تروعك في مهالكها الشدوف تخاف لزام عادية ثعول ... كما يتفجر الحوض اللقيف إذن لذكرت حالك غير عصر ... وأفسد صنعها فيك الوجيف1 أما أولئك الصعاليك الذين خلعتهم قبائلهم، أو خلعوا هم أنفسهم منها، فكما يشاركون غيرهم من الصعاليك في غزوهم أولئك الأغنياء، يحرصون -إلى جانب ذلك- على الانتقام من أولئك الذين كانوا سببا في صعلكتهم. ومن هنا نجد أن لهم أهدافا أخرى غير هؤلاء الأغنياء. كما كان يفعل الشنفرى مع بني سلامان. ويتحدث الشعراء الصعاليك أيضا عن الغاية التي يريدون أن يصلوا إليها من وراء هذه الخطة الدامية التي يسلكونها في حياتهم، وهي -بطبيعة الحال- الغنى. ويسجل الأعلم في أبيات له الأسباب التي يحرص على الغنى من أجلها   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 68، 69 - الخروق: جمع خرق وهو القفر والأرض الواسعة تتخرق فيها الرياح. والشدوف: جمع شدف "بالتحريك" وهو الشخص. واللزام: العذاب. والثعول: التي لها زيادات بمنزلة الضرع. واللقيف: الذي أصلحه صاحبه فطينه وسواء من نواحيه. والوجيف: ضرب من السير، أو هو الاضطراب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 في ثلاثة: فأمواله تغنيه عن الناس من ناحية، وهو يعين بها الدعين إذا حلت بهم عظيمة من ناحية ثانية، ثم هو -من ناحية ثالثة- يعدها للأضياف والمعوزين في أيام الجدب والشدة التي لا يجد الناس فيها ما يطعمون به من بكرت بغلام، ولا تجد الأم شيئا تسكت به فطيمها عن البكاء والصراخ جوعا: أحبشي إنا قد يُمتعنا الغنى ... بأموالنا نريحها ونسيمها ونحبسها على العظائم نتقي ... بها دعوة الداعين، إنا نقيمها إذا النفساء لم تخرس ببكرها ... غلاما، ولم يسكت بحتر فطيمها1 ويذكر صخر الغي أنه قتل رجلا من مزينة وسلبه ماله، ليقوي به مال رجل فقير كريم لا يكاد يثبت له مال: في المزنى الذي حششت به ... مال ضريك تلاده نكد2 أحاديث التشرد: قلنا إن هذه الحياة الواقفة في وجه المجتمع المتمردة عليه الخارجة على نظمه، كان من أثرها أن فقد المجتمع اطمئنانه إلى أصحابها، كما فقد هؤلاء طمأنينتهم فيه، وقلنا إن النتيجة الطبيعية لهذا كانت هي التشرد. وقد تحدث الشعراء الصعاليك عن تشردهم في أرجاء الصحراء الموحشة، ووديانها المخيفة، وافتخروا باهتدائهم فيها دون دليل، أو قيامهم بمهمة الدليل لجماعة من رفاقهم، واتخذوا من هذا مادة للفخر بأنفسهم، أو لمدح رفاقهم الصعاليك. يفتخر تأبط شرا -في حديثه إلى امرأة خطبها فامتنعت عليه- بأنه لطول تشرده ألفته وحش الصحراء واطمأنت إليه، حتى لتوشك أن تصافحه لو أن وحشا تصافح إنسا: يبيت بمغنى الوحش حتى ألفنه ... ويصبح لا يحمي لها الدهر مرتعا   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 67. و"بها" في البيت الثاني ساقطة، ولا يستقيم الوزن بدونها. لخرسة: طعام الولادة. والحتر: الشيء القليل. 2 المصدر السابق/ 13 - حششت به: قويت به. ضربك: فقير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 رأين فتى لا صيد وحش يهمه ... فلو صافحت إنسا لصافحته معا1 ويفتخر في قافيته المشهورة بكرمه وتشرده، ويتوعد عاذليه إن لم يكفوا عن عذله بترك ديارهم والمضي متشردا في الآفاق البعيدة حتى يختفي عنهم وما هم بقادرين على معرفة مكانه مهما يجدوا في السؤال عنه: إني زعيم لئن لم تتركوا عذلي ... أن يسأل الحي عني أهل آفاق أن يسأل القوم عني أهل معرفة ... فلا يخبرهم عن ثابت لاق2 ويمدح صديقا له من الصعاليك، فلا يجد خيرا من أن يبدأ مدحه بذكر تشرده: قليل التشكي للمهم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك يظل بموماة ويمسي بغيرها ... جحيشا ويعروري ظهور المهالك3 ثم يمدحه بطائفة من المعاني الأخرى، ولكنه لا ينسى أن يختم مقطوعته بذكر تشرده مرة أخرى، كأنما هو حريص على أن يؤكد هذه الميزة لصاحبه الذي بلغ به تشرده أن أصبحت الوحشة أنسه الأنيس، والصحراء الغامضة المجهولة كتابا مفتوحا يهتدي فيه كما تهتدي الشمس في فلكها: يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك4 ويفتخر عروة بمقدرته على الاهتداء في الفلاة الغامضة المخوفة التي يعرض سالكها نفسه للمهالك من غير أن يستشير أحدا أو يستعين بأحد: وغبراء مخشي رداه مخوفة ... أخوها بأسباب المنايا مغرر قطعت بها شك الخلاج ولم أقل ... لخيابة هبابة كيف تأمر5   1 الأغاني 18/ 217. 2 المفضليات/ 18. وابن قتيبة: الشعر والشعراء / 175، 176. 3 حماسة أبي تمام 1/ 47 - جحيشا: متفردا. يعروري: يركب. 4 المصدر السابق / 49. 5 ديوانه/ 130 - غبراء: مظلمة ليست بمفردة الطرق. وشك الخلاج: ما يخالجه ويشككه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وتأخذ الصورة عند أبي خراش وضعا آخر، فهو لا يقنع باهتدائه في مجاهل الصحراء، بل يذكر في مجال فخره أنه يهدي رفاقه في الليالي المظلمة: وإني لأهدى القوم في ليلة الدجى ... وأرمي إذا ما قيل هل من فتى يرمي1 ويتحدث الشعراء الصعاليك عن أماكن تشردهم في قلب الصحراء، وبعدها عن المناطق المأنوسة، وما يحيط بها من أهوال، وما يكتنف الطريق إليها من مخاوف. يتحدث تأبط شرا عن شعب من شعاب الصحراء، في جهة نائية مهجورة، ضربت حوله الجبال نطاقا، حتى غدا الطريق إليه وعرا، وملأته الصخور، وتجمعت فيه آثار من مياه قديمة لا تُعرف مصادرها، ويفتخر بأنه اهتدى إليه دون دليل، ودون أن يسأل أحدا عنه: وشعب كشل الثوب شكس طريقه ... مجامع صوحيه نطاق محاصر به من سيول الصيف بيض أقرها ... جبار، لصم الصخر فيه قراقر تبطنته بالقوم، لم يهدني له ... دليل، ولم يثبت لي النعت خابر به سملات من مياه قديمة ... مواردها ما إن لهم مصادر2 ويتحدث الشنفرى عن واد بعيد في أعماق الصحراء ملتف الشجر، قد ألفته الجن والآساد، حتى بات يخشاه المغامرون الشجعان، وكيف أقدم في جرأة وشجاعة على السير فيه في وقت مبكر قبل أن يتطاير الندى عن أشجاره: وواد بعيد العمق ضنك جماعه ... بواطنه للجن والأسد مألف تعسفت منه بعد ما سقط الندى ... غماليل يخشى غيلها المتعسف3 وقد قلنا إنه نتيجة لهذا التشرد وردت في أشعار الصعاليك أحاديث كثيرة   1 ديوان الهذليين 2/ 131. 2 الأصمعيات 1/ 35. ويُروى البيت الثاني في لسان العرب مادة "جبر" "به من نجاء الصيف" - الشل: أن يصيب الثوب سواد ولا يذهب بغسله. الصوح: حائظ الوادي وأسفل الجبل أو وجهه القائم كأنه حائط. الجبار: السيل. السملة: الماء القليل. 3 الأغاني 21/ 141 - الغماليل: الروابي. والغيل: الشجر الكثير الملتف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 عن حيوان الصحراء ووحشها وطيرها وحشراتها وما يخيل للساري فيها من أشباح. وحين نستعرض مجموعة شعر الصعاليك التي بين أيدينا نجد أنهم تعرضوا بالذكر لسبعة وعشرين نوعا من هذه الفصائل السابقة: الذئب، والضبع، والسمع، والنمر، والأسد، والثعلب، والضب، ثم حمار الوحش، والنعام، والوعول، والظباء، والأرانب، ثم الحيات، والعظايا، ثم النسر، والصقر، والعقاب، والغراب، والبوم، والسماني، والقمري، والقطاة، والهدهد، ثم النحل، والجراد، ثم الجن، والغيلان. ومن الطبيعي ألا يتحدث الشعراء الصعاليك عن هذه الأنواع جميعا بدرجة واحدة، فإن بعضها أقرب إلى طبيعة حياتهم، وأدل على تصويرها، وأصلح للانتفاع به في فنهم من بعضها. ومن هنا تفاوت اهتمام الشعراء الصعاليك بهذه لأنواع تفاوتا كبيرا. وقد رأينا كيف استغل العداءون منهم تلك المجموعة من الحيوان السريع العدو في حديثهم عن سرعة عدوهم استغلالا رائعا ممتازا، ورأينا تأبط شرا يذكر في بعض شعره أن وحش الصحراء قد ألفته ولم تعد تشخاه أو تنفر منه، كما رأينا الشنفرى، وهو يصف الوادي البعيد الذي اعتسفه، يذكر أنه موطن للجن والآساد. ولكن الأمر لا يقف بالشعراء الصعاليك عند هذا الحد، بل يتجاوز ذلك أحيانا إلى تعرضهم لبعض هذه الأنواع بالوصف الدقيق المفصل، الأمر الذي لا يتهيأ إلا لمن اتصل بها اتصالا قريبا عرف منه طبائعها وعاداتها. ففي شعر عروة وصف للأسد، فهو عريض الساعدين عريض الصدر، رابض فوق أجمة يتساقط قصبها فوق ظهره، ولكن إذا بدت له فريسة فما هي إلا وثبة واحدة حتى يقتنصها، أما زئيره فيشبه صوت الرعد: تبغاني الأعداء إما إلى دم ... وإما عراض الساعدين مصدرا بظل الأباء ساقطا فوق متنه ... له العدوة الأولى إذا القرن أصحرا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 كأن خوات الرعد رز زئيره ... من اللاء يسكن الغريف بعثرا1 وتستأثر الضباع بجزء كبير من شعر الأعلم، وهو يصفها وصفا دقيقا، ويصف جراءها، وفعلهن بفريسنهن، فالضبع غليظة لها ثماني جواعر خلف أظلافها شعرات مجتمعة، وفويق هذه الشعرات دوائر مثل الخلاخيل يخالف لونها سائر لون الأرجل: عشنزرة جواعرها ثمان ... فويق زماعها خدم حجول2 ويصف جراءها، وانتفاخ بطونهن، وسواد جلودهن كأنما ارتدين ثياب رهبان، وقصر آذانهن العريضة التي تشبه المغارف، وما يفعلنه بالفريسة المسكينة التي تجر أمهن إليهن لحمها، وكيف ينتزعن جلدها كما ينزع القيون بطائن الجفون البالية: وتجر مجرية لها ... لحمي إلى أجر حواشب سود سحاليل كأن ... جلودهن ثياب راهب آذانهن إذا احتضر ... ن فريسة مثل المذانب ينزعن جلد المرء نز ... ع القين أخلاق المذاهب3 وهي صورة يخشاها تأبط شرا أيضا، ويصورها في بعض قصائده، فالضبع تنبش الأرض عن الجيف المدفونة، ثم تنشب فيها أنيابها وبراثنها، ثم تدعو رفيقاتها وبناتها، فيسارعن إليها ليشاركنها نهشها:   1 ديوانه/ 55، 56 - العراض: العريض. والمصدر: العريض الصدر. والأباء: القصب. وأصحر: برز إليه. وخوات الرعد: صوته. والرز: الصوت تسمعه من بعيد ولا ترى صاحبه. والغريف: الشجر الملتف. وعثر: أرض قبل تبالة تسكنها الأسود، وتبالة بلدة من أرض تهامة جنوبي الطائف. 2 شرح أشعار الهذليين 1/ 64 - العشنزرة: الغليظة المسنة. والزماع: جمع زمعة، وهي شعرات خلف ظلف الشاة فضربه مثلا. والخدم جمع خدمة وهي لون يخالف سائر لون رجلها مثل الخلخال. 3 المصدر السابق 1/ 57، 58 - مجرية: أي ضبع ذات جراء. والحواشب: المنتفخات الجنوب. والسحاليل: العظام البطون. والمذانب: المغارف التي يغرف بها. والمذاهب: بطائن مذهبه تغشى بها أجفان السيوف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 فزحزحت عنهم أو تجئني منبتي ... بغبراء أو عرفاء تفري الدفائنا كأني أراها الموت لادر درها ... إذا أمكنت أنيابها والبراثنا وقالت الأخرى خلفها وبناتها: ... حتوف تنقي مخ من كان واهنا أخاليج وراد على ذي محافل ... إذا نزعوا مدوا الدلا والشواطنا1 أما الشنفرى فلا يخشى على جسده الضبع، بل يحرص على أن يهيئ لها منه وليمة شهية، وهو لهذا يبشرها بمقتله، ويطلب إلى قاتليه ألا يدفنوه: لا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أم عامر2 ويرسم أبو خراش في قصيدة له صورة طبيعية صادقة لحمار الوحش وأتنه التي استبان حملها، وما يدور بينه وبينها، فهي تتأبى عليه، وهو يصاولها ويتبعها. ولكن هذا ليس كل شيء في حياة هذا الحيوان، وإنما هناك جانب نفسي آخر في حياته، هو ذلك الذعر الذي يملأ نفسه همًّا من خشية الصيادين، ويعبر الشاعر عن هذا الذعر بمنظر الحمار وقد اعتلى مرتفعا من الأرض يشرف منه على الآفاق حوله، وقد امتلأت نفسه خوفا وهما، حتى إذا آذنت الشمس بالمغيب بعد يوم طويل شديد الحر تذكر إناثه، فأخذ يطاردها مرة أخرى وهي تعدو أمامه فتثير غبارا ممتدا كأنه خيوط لم تبرم: أرى الدهر لا يُبقي على حدثانه ... أقب تباريه جدائد حول أبن عقاقا ثم يرمحن ظلمه ... إباء وفيه صولة وذميل يظل على البز اليفاع كأنه ... من الغار والخوف المحم وبيل وظل لها يوم كأن أواره ... ذكا النار من فيح الفروغ طويل فلما رأين الشمس صارت كأنها ... فويق البضيع في الشعاع خميل   1 الأغاني 18/ 213 - الضمير في "عنهم" يعود على أعدائه الذين يطاردونه وهو يفر منهم. والأخاليج: جمع إخليج وهو السريع، أو من خليج بمعنى جذب وانتزع. الدلال: هي الدلاء جمع دلو. والشواطن: الحبال. 2 ديوانه في الطرائف الأدبية/ 36. والشعر والشعراء/ 19 - وأم عامر: الضبع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 فهيجها وانشام نقعا كأنه ... إذا لفها ثم استمر سحيل1 ويرسم أيضا صورة طبيعية صادقة للون من ألوان الصراع الذي يدور في تلك الصحراء المقفرة بين كائناتها الحية، والصراع هنا بين صقر وأرنب، فالصقر فوق مرتفع مشرف على الآفاق، رأى على بعد أرنبا بين شقوق الأرض، فهوى إليها، ولكنها تسرع لتنجو منه، فيزيد هو من سرعته حتى انقض عليها فانتظم قلبها: ولا أمعر الساقين ظل كأنه ... على محزئلات الإكام نصيل رأى أرنبا من دونها غول أشرج ... بعيد عليهن السراب يزول فضم جناحيه ومن دون ما يرى ... بلاد وحوش أمرع ومحول توائل منه بالضراء كأنها ... سفاة لها فوق التراب زليل يقربه النهض النجيح لما يرى ... ومنه بدو تارة ومثول فأهوى لها في الجو فاختل قلبها ... صيود لحيات القلوب قتول2 ولعل أطرف ما في شعر الصعاليك من هذا الباب أحاديث الجن والغيلان.   1 ديوان الهذليين 2/ 117-119. أقب: حمار ضامر البطن، جدائد: جمع جدود وهي التي لا لبن لها، وحول: جمل حائل وهي التي لم تحمل من عامها. والعقاق: الحمل. والظلم: طلب السفاد في غير موضعه. والذميل: سير لين من سرعة. والبرز: ما يبرز للشمس. واليفاع: المرتفع من الأرض. وقوله الخوف المحم يريد به الخوف الذي يأخذه معه هم وحديث نفس. والوبيل: العصا الغليظة الشديدة، يريد أنه من الخوف ضمر حتى صار كالعصا. ذكا النار: اشتعالها. من فيح الفروغ: أي يفور ويهتاج من مجراه الذي يجري منه كمثل فرغ الدلو. البضيع: الجزيرة في البحر. والخميل: القطيفة لها أهداب، يقول: صارت الشمس حين دنت للغروب فوق جزر البحر كأنها قطيفة لها أهداب يشبه بها أشعتها. وقوله: انشام نقعا أي دخل فيه، والنقع: الغبار. والسحيل: خيط لم يبرم يشبه به الغبار، أي أن الحمار دخل في غبار كأنه هذا النسيج قبل أن ينسج. 2 ديوان الهذليين 2/ 121-123. أمعر الساقين: لا ريش عليهما، يريد به صقرا. المحزئل: المرتفع. النصيل: حجر طويل أملس يجعل في البئر. الأشرج: شقوق تكون في الأرض بعيدة طوال. غول: أي ذات بعد. يزول: أي يتحرك. بلاد وحوش: أي بلاد واسعة تسكنها الوحوش. توائل: أي تتوارى لتنجو منه. الضراء: ما واراك من الشجر. السفاة: الشوكة. وقوله لها فوق التراب زليل: أي من خفتها تزل فوق الأرض. اختل قلبها: أي انتظمه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 وأكثر ما يرد ذلك في شعر تأبط شرا، وهي صورة -وإن تكن محاطة بإطار أسطوري- تصور ما كان يخيله الوهم لذلك الصعلوك المغامر المتشرد البعيد الآفاق في الليالي المظلمة بين أرجاء الصحراء الموحشة، حيث تتجسم الرؤى أشباحا مخيفة، وتختلط الأصوات في لحن غامض رهيب. ومع ذلك فقد يكون ما يقصده تأبط شرا من الغيلان تلك الفصيلة من الحيوان المعروفة باسم "الغورلا"1، ولكن هذا لا ينفي أن صورتها عنده محاطة بإطار أسطوري. وهو يصور لقاءه لها، بعد أن يمهد لذلك بالحديث عن الليل، ثم يصفها، ويسجل ما دار بينه وبينها، وتنتهي القصيدة بينهما دائما بقتلها: وأدهم قد جبت جلبابه ... كما اجتابت الكاعب الخيعلا إلى أن حدا الصبح أثناءه ... ومزق جلبابه الأليلا على شيم نار تنورتها ... فبت لها مدبرا مقبلا فأصبحت والغول لي جارة ... فيا جارتا أنت ما أهولا وطالبتها بضعها فالتوت ... بوجه تغول فاستغولا فقلت لها يا انظري كي ترى ... فولت فكنت لها أغولا فطار بقحف ابنة الجن ذو ... سفاسق قد أخلق المحملا إذا كل أمهيته بالصفا ... فحد ولم أره صيقلا عظاية قفر لها حلتا ... ن من ورق الطلح لم تغزلا فمن سال أين ثوت جارتي ... فإن لها باللوى منزلا2 وهناك مقطوعتان أخريان تصوران قصتين أخريين مع الغول والجن3، ولكن الشك يحيط بنسبتهما إلى تأبط شرا؛ إذ إنهما كما تنسبان له تنسبان لغيره من الشعراء، ولكن هذا لا يدل دلالة واضحة على شهرة تأبط شرا بحديثه عن الجن والغيلان، حتى ليختلط الأمر على الرواة فيما يروى من هذا الحديث أهو له أم لغيره من الشعراء.   1 في القاموس المحيط: من معاني الغول والسعلاة، والحية، وساحرة الجن، "أو دابة رأتها العرب وعرفتها، وقتلها تأبط شرا" "مادة غول". 2 الشعر والشعراء / 176، 177. والأغاني 18/ 210 - الخيعل: ثوب تلبسه المرأة كالقميص، أو قميص لا كمين له. العظاية: دويبة كسام أبرص. 3 انظر الأغاني 18/ 210، 212، 213 والبغدادي: خزانة الأدب 3/ 108. والبكري: معجم ما استعجم 1/ 257. ولسان العرب: مادة "حد". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 2- الشعر خارج دائرة الصعلكة : آثار القبلية في شعرهم: الباحث في شعر الصعاليك يجد مجموعة من القصائد والمقطوعات قيلت في أغراض قبلية، وتتسم بسمات الشعر الجاهلي القبلي، وهي مجموعة -وإن تكن قليلة متضائلة- تبدو للنظرة الأولى غريبة على شعر الصعاليك؛ لأننا نعرف أن هؤلاء الصعاليك قد تحللوا من التزاماتهم القبلية، فتحللت شخصياتهم الفنية من التأثر بها، فكان طبيعيا أن يخلو شعرهم من تلك الأغراض القبلية التي نراها في سائر الشعر الجاهلي. ولكن المسألة لا تصل إلى درجة المشكلة، فمن الطبيعي أن حياة هؤلاء الصعاليك قد مرت بدورين اجتماعيين: الدور الأول وهو فترة ما قبل التصعلك، تلك الفترة التي كان الصعلوك فيها عضوا عاملا في المجتمع القبلي قبل أن يبلغ سوء توافقه الاجتماعي الذروة التي يبدأ من عندها الدور الثاني في حياته الاجتماعية، وهي فترة تصعلكه التي قد تستمر حتى مقتله أو موته. وليس يعنينا أن يقلع الصعلوك عن تصعلكه، فهو في هذه الحالة لا يبدأ دورا ثالثا في حياته الاجتماعية، وإنما يعود عودة اجتماعية لا عودة زمنية إلى الدور الأول. ومن الطبيعي أيضا أن يكون بعض هؤلاء الصعاليك قد اكتملت مواهبهم الفنية في الدور الأول فشاركوا شعراء القبيلة في حياتهم الفنية، وأيضا قد يشاركونهم فيها إذا ما انتهى الدور الثاني بالعودة إلى الحياة القبلية. ومعنى هذا أن هذه المجموعة القبلية من شعر الصعاليك نتاج لفترتين تمثلان في الحقيقة دورا اجتماعيا واحدا: فترة ما قبل التصعلك وفترة ما بعد التصعلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ولعروة بن الورد العبسي مجموعة قليلة من القصائد والمقطوعات في موضوعات قبلية1، كما نعثر برواسب ضيئلة جدا من الحياة القبلية عند صخر الغي الهذلي، والسليك بن السلكة السعدي. أما صخر الغي فلا يتجاوز ما وصل إلينا من شعره القبلي أبياتا قليلة في مقطوعتين يناقض فيهما شاعرا فيهدده بكثرة قومه، وبأنهم ينصرونه، ويأبون له الضيم: وخفض عليك القول واعلم بأنني ... من الأنس الطاحي الحلول العرمرم أبت لي عمرو أن أضام ومازق ... وقرد ولحيان وسهم فسلم2 ويعلنه بأن قومه يلبون دعوته إذا دعاهم، فيسرعون لنصرته كما تسيل الشعاب بالماء: أبا المثلم إني غبر مهتضم ... إذا دعوت تميما سالت المُسُل3 وأما السليك فكل ما وصل إلينا من شعره القبلي مقطوعة واحدة في ثلاثة أبيات يحذر فيها قومه من مغيرين قابلهم في بعض تشرده مسرعين إليهم، ويذكر أن قومه يكذبونه، ويؤكد لهم صدقه: يكذبني العمران عمرو بن جندب ... وعمرو بن سعد والمكذب أكذب ثكلتكما إن لم أكن قد رأيتها ... كراديس يهديها إلى الحي موكب كراديس فيها الحوفزان وقومه ... فوارس همام متى يدع يركبوا4 ومن مجموعة شعر حاجز القليلة التي وصلت إلينا خمس قطع من هذا الشعر القبلي قالها في ظروف قبلية معروفة يذكرها الرواة. وحاجز في هذه القطع مندمج في المجتمع القبلي اندماجا واضحا، يعبر بلسان قومه كما يعبر أي شاعر جاهلي قبلي، يفخر بهم فيذكر أنهم كرماء، ويعتز بأبيه وعمه اللذين أسديا   1 انظر ديوانه: القطعتين رقم 10 ورقم 24. 2 شرح أشعار الهذليين 1/ 21 - الأنس: الحي. والطاحي: المتسع المنتشر. والأسماء في البيت الثاني أسماء قبائل. 3 المصدر السابق/ 24 - وتميم هنا من هذيل. والمُسُل: جمع مسل وهو مسيل الماء. 4 الأغاني 18/ 136. والشعر والشعراء / 216. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 للقبيلة يدين بيضاوين في يومين من أيامها. والطريف حقا أن حاجزا يبدأ إحدى هذه القصائد كما يبدأ الشعراء القبليون قصائدهم بالنسيب1، فيحيي صاحبته ويدعو لها بالسلامة، ثم يصفها ويتحدث عن صرمها له وبعدها عنه، ثم ينتقل -كما يفعل الشعراء القبليون أيضا- إلى الحديث عن ناقته ورحلته عليها، ثم ينتقل انتقالا مفاجئا -كعادة الشعراء القبلين أيضا- إلى الحديث عن قومه. وكما يفخر حاجز بقومه يذكر أيامهم التي انتصروا فيها: إن تذكروا يوم القرى فإنه ... بواء بأيام كثير عديدها فنحن أبحنا بالشخيصة واهنا ... جهارا فجئنا بالنساء نقودها ويوم كراء قد تدارك ركضنا ... بني مالك والخيل صعر خدودها ويوم الأراكات اللواتي تأخرت ... سراة بني لهبان يدعو شريدها ونحن صبحنا الحي يوم تنومة ... بملمومة يُهوي الشجاع وئيدها ويوم شروم قد تركنا عصابة ... لدى جانب الطرفاء حمرا جلودها فما رغمت حلفا لأمر يصيبها ... من الذل إلا نحن رغما نزيدها2 ويسجل شماتته، أو -بعبارة أدق- شماتة قبيلته بأعدائهم، ويعيرهم بما فعلوه بهم من قتل رجالهم وسبي نسائهم: يا ضمر هل نلناكم بدمائنا ... أم هل حدونا نعلكم بمثال تبكي لقتلى من فقيم قتلوا ... فاليوم تبكي صادقا لهلال ولقد شفاني أن رأيت نساءكم ... يبكين مردفة على الأكفال يا ضمر إن الحرب أضحت بيننا ... لقحت على الدكاء بعد حيال3 ويتوعد أعداء قبيلته، ويهددهم بأبطال شجعان من قومه مسلحين   1 "ميميته" الأغاني 12/ 50 "بولاق". 2 المصدر السابق/ 51. البواء: الكفء. والملمومة: الكتيبة. 3 المصدر السابق/ 52. الحيال: العقم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 بالسيوف والرماح قد عرفتهم القبائل من قبل: ستمنعنا منكم ومن سوء صنعكم ... صفائح بيض أخلصتها الصياقل وأسمر خطي إذا هز عاسل ... بأيدي كماة جربتها القبائل1 وأما قيس بن الحدادية ففي مجموعة شعره القليلة أيضا التي وصلت إلينا، نعثر بثلاث قطع من الشعر القبلي، إذا أخرجنا تلك القصيدة البائية المشكوك فيها، والتي أشرنا إليها في الفصل السابق2. وشأن قيس في هذا الشعر شأن حاجز في شعره القبلي شأن سائر الشعراء القبليين، يفخر بانتصار قومه على أعدائهم، ويسجل أسماء من قتلوا منهم، ويذكر عودتهم بالإبل التي غنموها، والنساء اللاتي سبوهن3، ويعتز بقومه حين تغزوهم قبيلة أخرى فيثبتون لهم، ويردونهم على أعقابهم خاسرين، بعد أن أعمل فيه فرسانهم الرماح والسيوف التي تنتزع سواعدهم4، ويهجو أعداء قومه ويرد عليهم دعواهم بالنصر بأنهم يفخرون بيوم ليس لهم، ويعيرهم بفراراهم أمامهم، والخيل تركض خلفهم، وقد تركوا وراءهم أسرى5. وقد يكون من الطريف أن نلاحظ أن اثنتين من هذه القطع الثلاث نقيضتان بين قيس وبين شاعرين من أعداء قومه6 يرد بهما عليهما، وهي صورة أدل على قبلية هذا الشعر؛ لأن قيسا حريص على أن يكون رده على هذين الشاعرين من جنس قولهما، وهما شاعران قبليان. وعلى كل حال فهذه المجموعة من الشعر القبلي التي تقابلنا في شعر الصعاليك قليلة، كما أن عدد شعرائها قليل أيضا.   1 المصدر السابق/ 50. 2 الأغاني 13/ 4 "بولاق". وانظر ص174 من هذا البحث. 3 انظر قصيدته الحائية في المصدر السابق/ 3. 4 انظر مقطوعته الدالية في المصدر نفسه/ 5. 5 انظر مقطوعته الميمية في المصدر نفسه/ 4. 6 الحائية والميمية السابقتان. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 المجموعة الإسلامية في شعرهم: حين ننظر فيما بين أيدينا من شعر الصعاليك نجد مجموعة أخرى قليلة نظمها المخضرمون منهم: أبو الطمحان القيني، وأبو خراش الهذلي، وفضالة بن شريك الأسدي، بعد أن أشرقت الجزيرة العربية بنور ربها. وقبل أن نمضي في استعراض موضوعات هذه المجموعة التي يصح أن نطلق عليها "المجموعة الإسلامية في شعر الصعاليك" نقف لنسجل ملاحظتين: أولاهما أن مجموعة من شعر أبي الطمحان ليس من اليسير تمييز الجاهلي فيها من الإسلامي؛ إذ إن كل ما يرويه الرواة حولها من أخبار لا يكفي لتحديد الوقت الذي قيلت فيه، كما أن هذه المجموعة خالية تماما من الإشارات التي تحدد زمنها، ما عدا بيتين يصف فيهما انحناء جسمه وتقارب خطوه1، مما يرجح أنه قالهما في شيخوخته المتأخرة، وبيتين آخرين في مدح يزيد بن عبد الملك يذكر الأصمعي أنه أعطاهما مغنيا ليتغنى بهما في مجلس يزيد2. وأما الملاحظة الأخرى فهي أن كل ما وصل إلينا من شعر فضالة بن شريك إسلامي، تؤكد ذلك أخباره والأسماء الإسلامية التي وردت فيه، أما شعره الصعلكي فلم يصل إلينا شيء منه، مع أنهم يذكرون عنه أنه "كان شاعرا فاتكا صعلوكا مخضرما أدرك الجاهلية والإسلام"3. وهي ظاهرة غريبة وقفت طويلا أمام تعليلها، وانتهيت إلى فرضين: إما أن فضالة لم يكن قد نضج فنيا في الجاهلية، ولم يتم نضجه إلا بعد الإسلام، وإما أن يكون له شعر داخل دائرة التصعلك ولكن عملت ظروف خاصة على ضياعه، وأنا أرجح هذا الفرض الأخير، وأرجح أن أهم هذه الظروف المركز الاجتماعي لابنه فاتك، فقد "كان سيدا جوادا"4، وكان كريما على بني أمية، وهو   1 السجستاني: كتاب المعمرين / 63. والبغدادي: خزانة الأدب 3/ 426. والأغاني 11/ 130، "بولاق" وحماسة البحتري / 323. 2 العقد الفريد 6/ 37. 3 الأغاني 10/ 171 "بولاق". 4 المصدر السابق / 171. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 الوافد على عبد الملك بن مروان قبل أن ينهض إلى حرب ابن الزبير فضمن له على أهل العراق طاعتهم وتسليم بلادهم إليه، وأن يسلموا مصعبا إذا لقيه ويتفرقوا عنه، وله يقول الأقيشر في هذه الوفادة: وفد الوفود فكنت أفضل وافد ... يا فاتك بن فضالة بن شريك1 وقد يؤيد هذا أن كل أخبار تصعلك فضالة قد ضاعت أيضا، والسبب هنا هو السبب هناك، ولو قد وصل إلينا شيء منها لوقفنا من هذا الفرض موقف المتشكك. ومهما يكن من أمر فإن موضوعات "المجموعة الإسلامية في شعر الصعاليك" قد خلت من تلك الموضوعات التي عرفناها في شعرهم داخل دائرة التصعلك، وهذا طبيعي بعد أن غير الإسلام من أوضاع الحياة العربية الاجتماعية والاقتصادية ولم يعد للتصعلك مجال فيها. وتوشك موضوعات هذه المجموعة الإسلامية أن تنحصر في تلك الموضوعات العامة التي يعرفها الشعر العربي: المدح والهجاء والرثاء. أما المدح والهجاء فيوشك فضالة أن يستأثر بهما. ويبدو أن فضالة أدرك أن هذه وسيلة من وسائل العيش تغنيه عن التصعلك، فاندمج في الوسط السياسي الأموي، وشارك شعراءه، وأصبح شاعرا أمويا يمدح الأمويين ويهجو أعداءهم. وهو يؤثر بالمدح خاصة يزيد بن معاوية2، وقد تبدو هذه الصلة بين يزيد وفضالة طبيعية، فقد كان يزيد بما فيه من استهتار وجاهلية أقرب إلى نفس فضالة الصعلوك، حتى ليجيره من عمرو بن سعيد بن العاص أمير المدينة يؤمئذ بعد أن هرب منها لهجائه عاصم بن عمر بن الخطاب، واستعداء عاصم الأمير عليه3، وهو -وإن يكن قد آثر يزيد بمدحه- لم ينس أن يمدح بني أمية عامة4.   1 الأغاني 11/ 271 "دار الكتب" وانظر أيضا 10/ 171 "بولاق". 2 الأغاني 10/ 170، 172 "بولاق". 3 المصدر السابق/ 171، 172. 4 المصدر نفسه/ 170، 172، 173. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 أما الهجاء فقد صبه مرة على عاصم بن عمر بن الخطاب، كما رأينا؛ لأنه "نزل به فلم يقره شيئا، ولم يبعث إليه ولا إلى أصحابه بشيء وقد عرفوه مكانهم"، وهو يعلن له في بعض هجائه أنه لولا فضل أبيه لقلده خزيا وعارا: فلولا يد الفاروق قلدت عاصما ... مطوقة يخزى بها في المواسم1 وصبه مرة ثانية على رجل من سليم أودع عنده ناقة وخرج في سفر فلما عاد وطلبها منه ذكر السلمي أنها سرقت2. وصبه مرة ثالثة على عبد الله بن مطيع وإلى عبد الله بن الزبير على الكوفة بعد أن طرده عنها المختار الثقفي3، وعلى عبد الله بن الزبير نفسه في قصيدة ينسبها بعض الرواة إليه، وينسبها بعضهم إلى ابنه عبد الله4. وصبه مرة رابعة على رجل من الكوفة تزوج امرأة فسأل في صداقها5، وهي مسألة مشينة وبخاصة في نفس صعلوك لم يرض أن يتخذ من السؤال وسيلة للعيش في يوم من الأيام. وقد روى بيتان لأبي الطمحان يمدح بهما يزيد بن عبد الملك وكان قد انتجعه: يكاد الغمام الغر يرعد أن رأى ... محيا ابن مروان وينهل بارقه يظل فتيت المسلك في رونق الضحى ... تسيل به أصداغه ومفارقه6 أما الرثاء فقد اختص به أبو خراش، شأنه في ذلك شأن سائر الشعراء الهذليين الذين عرفوا بمقدرتهم الرثائية الفائقة. والطريف أن أبا خراش في الإسلام يرثي أصدقاءه في الجاهلية، وبين أيدينا من شعره الإسلامي أربع قطع يرثي بها صديقين من أصدقاء الجاهلية: أخاه أو ابن عمه زهير بن   1 المصدر نفسه/ 177. 2 المصدر نفسه/ 172، 173. 3 المصدر نفسه/ 172. 4 المصدر نفسه/171، 173. 5 المصدر السابق/ 172. 6 ابن عبد ربه: العقد الفريد 6/ 37، 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 العجوة1 الذي يخصه بثلاث منها: قصيدتين ومقطوعة2، ودبية سادن العزى الذي يرثيه بمقطوعة من أربعة أبيات3. وتتجلى لوعته وفجيعته بالذات على زهير الذي يبدو من حديثه عنه أنه كان أيضا رفيقا له في مغامراته4، أما دبية فلا يتحدث عنه حديث الملتاع المفجوع بقدر ما يتحدث عنه حديث الذاكر لأيامه الآسف على انقضائها، ولعله وفاء بدين كان لدبية في عنق أبي خراش، أو -بعبارة أدق- في قدمي أبي خراش منذ أيام تصعلكه، فقد حذاه دبية مرة نعلين فرح بهما فرحا شديدا، ومدحه بمقطوعة يسجل فيها هذه الهدية وقيمتها له5. والأمر الذي لا شك فيه أن أبا خراش كان جريئا حين وقف في الإسلام يرثي دبية سادن العزى الذي قتله خالد بن الوليد بأمر من النبي صلى الله عليه وسلم6. ومع ذلك فمن المحتمل أن أبا خرش حين قتل دبية لم يكن قد أسلم بعد، ولكن يبدو أنه احتمال ضعيف نظرا لطبيعة المرثية التي بين أيدينا، فإن أبا خراش فيها لم يتعرض لقاتل دبية على الإطلاق، ولو كان أبو خراش قالها قبل إسلامه لتعرض لخالد بن الوليد كما فعل مع قاتل زهير. ومع ذلك فقد يكون الرواة أسقطوا منها تعرضه لخالد، وحتى مع هذا الاحتمال بأنه قالها قبل إسلامه فلا شك في أنه كان جريئا حتى وقف يرثي دبية في ذلك الوقت الذي أخذ فيه المسلمون يسيطرون على الموقف في جزيرة العرب؛ إذ إن دبية لم يقتل إلا بعد فتح مكة7. ويرثي أبو خراش صديقيه بمعان مألوفة في الشعر الجاهلي عامة: الكرم والشجاعة وعجز الإنسان أمام الموت الذي لا ينجو منه حي حتى الحيوان   1 يقال إنه أخوه، ويقال إنه ابن عمه "انظر ابن الأثير: أسد الغابة 5/ 178، 179". 2 ديوان الهذليين 2/ 147-150، 161-164، 157. 3 المصدر السابق/ 155، 156. 4 انظر الأبيات السبعة في المصدر السابق/ 150. 5 انظر مقطوعة اللامية في المصدر السابق/ 140، 141. وانظر كتاب الأصنام/ 22، 23. 6 انظر كتاب الأصنام/ 24-26. 7 المصدر السابق/ 24، 25. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 الشارد في صحرائه، ولكنا نقف أمام ظاهرتين طريفتين تستحقان التسجيل: أولاهما: رواسب الصعلكة في شعر أبي خراش الإسلامي. والأخرى: تأثير الإسلام فيه. فما زالت صورة الفقراء المهتلكين الجياع ذوي الثياب البالية، والضباع التي تنتظر أجساد القتلى في اشتهاء ظامئ، والثأر الذي يملأ النفوس حقدا وغليلا، وذكريات الماضي الذي لا ينساه أبو خراش، تتردد في رثائه لزهير، وبخاصة في لاميتيه1. ومع هذه الصورة نعثر على صورة أخرى لتلك الحياة التي تغيرت ظروفها نتيجة لظهور الإسلام، فقد أحاطت برقاب هؤلاء الصعاليك سلاسل الدين الجديد، فلم يعودوا قادرين على أن يمضوا في حياتهم كما كانوا في الجاهلية، وأصبح مقياس الأمور في هذه الحياة الإسلامية العدل والحق، أما الظلم والباطل فقد مضى عهدها الطائش الجاهل، وأصبح فتيان الصعاليك وقد تفرقت جماعاتهم كأنما فرق بينهم الموت: فليس كعهد الديار يا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل وعاد الفتى كالكهل ليس بقائل ... سوى العدل شيئا فاستراح العواذل فأصبح إخوان الصفاء كأنما ... أهال عليهم جانب التراب هائل2 وأشد ما يملأ نفس أبي خراش غيظا وغليلا أنه أصبح عاجزا عن أن يثأر لصاحبه من قاتله، وهو من قريش، أولئك الذين صارت الإمارة والملك فيهم، ولولا ذلك ما كان ليخشاهم، ولكن ماذا يفعل سوى أن يظل طول عمره مغيظا محنقا عليهم حتى يُقتلوا بصاحبه: فما كنت أخشى أن تنال دماءنا ... قريش ولما يُقتلوا بقتيل وأبرح ما أمرتم وملكتم ... يد الدهر ما لم يُقتلوا بغليل3   1 ديوان الهذليين 2/ 148-150، 157. 2 المصدر السابق/ 150. 3 المصدر نفسه/ 157. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وهكذا تمتزج الصورتان في صورة رائعة طريفة لوناها التصعلك والإسلام. والطريف أيضا أن أبا خراش بعد أن أسلم وحسن إسلامه1، وبعد أن عاش في الإسلام عمرا طويلا امتد به حتى خلافة عمر بن الخطاب2، حين يقف على البرزخ الفاصل بين الحياة والموت، لا يأسف على شيء كما يأسف على ساقه التي نهشتها حية، والتي طالما أعانته في حياته وكان لها عليه فضل أي فضل: لعمرك والمنايا غالبات ... على الإنسان تطلع كل نجد لقد أهلكت حية بطن أنف ... على الأصحاب ساقا ذات فقد3 لقد أهلكت حية بطن أنف ... على الأصحاب ساقا ذات فضل فما تركت عدوا بين بصرى ... إلى صنعاء يطلبه بذحل4 وهذه أيضا من رواسب تلك الحياة المتصعلكة التي أخلص لها أبو خراش في جاهليته إخلاصا عميقا ظلت آثاره تتسرب من حين إلى حين في شعره الإسلامي. ولأبي خراش بعد ذلك قصيدة في سبعة أبيات يصور فيها حزنه على هجرة ابنه خراش الذي كان قد حمد الله في بعض أيام تصعلكه البعيدة على أن أنجاه له يوم قتل عروة أخوه5، وكان خراش قد هاجر في خلافة عمر وغزا مع المسلمين، وكان أبوه بطبيعة الحال في ذلك الوقت شيخا كبيرا، فهو يتحدث إلى ابنه في نهاية الأبيات حديثا تبدو فيه روح الإسلام واضحة، فليس البر أن يهاجر خراش لينال أجر الشهادة مع المجاهدين مخلفا أباه رواءه شيخا كبيرا ضعيفا في أشد الحاجة إليه، وإنما البر أن يرعى أباه الذي بلغ عنده الكبر:   1 ابن الأثير: أسد الغابة 5/ 178، 179. 2 المصدر السابق/ 179. 3 ديوان الهذليين 2/ 171. والأغاني 21/ 19. 4 الأغاني 21/ 70. 5 ديوان الهذليين 2/ 157-159. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 ألا فاعلم خراش بأن خير الـ ... ـمهاجر بعد هجرته زهيد فإنك وابتغاء الخير بعدي ... كمخضوب اللبان ولا يصيد1 وكأنما نستشف من هذين البيتين الآيتين الكريمتين {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا، إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا، وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} 2. وبحق أمر عمر رضي الله عنه بعد أن استمع إلى هذه الأبيات بأن يعود خراش إلى أبيه، وألا يغزو من كان له أب شيخ إلا بعد أن يأذن له3.   1 المصدر السابق/ 171. والأغاني 21/ 69. 2 سورة الإسراء/ 23، 24. 3 الأغاني 21/ 69. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 الفصل الثالث: الظواهر الفنية في شعر الصعاليك 1- شعر مقطوعات : حين ننظر في شعر الصعاليك الذي بين أيدينا من الزاوية التي تظهر على بنائه الخارجي، فأول ما يلفت نظرنا فيه أنه شعر مقطوعات. ولسنا نعني بهذا انعدام القصيدة فيه، وإنما نعني ذيوع المقطوعة أكثر من ذيوع القصيدة. وإذا استثنينا تائية الشنفرى المفضلية ذات الأبيات الأربعة والثلاثين في بعض المصادر1. والخمسة والثلاثين في بعض المصادر الأخرى2، ولامية عمرو ذي الكلب الهذلي ذات الثلاثين بيتا3، ورائية عروة بن الورد المشهورة4. وفائة صخرة الغي الهذلي5، وكل منهما في سبعة وعشرين بيتا، ثم تلك الأبيات المفرقة لتأبط شرا في رثاء الشنفرى التي جمعها ناشر ديوان الشنفرى وتألفت منها قصيدة في سبعة وعشرين بيتا6، وقافية تأبط شرا المفضلية ذات الأبيات الستة والعشرين7، وبائية الأعلم8، وميمية أبي خراش9، وكلتاهما في   1 المفضليات 194-207. 2 انظر في المصدر السابق/ 207 تعليق lyall على البيت الأخير من التائية. 3 شرح أشعار الهذليين 1/ 232-237. 4 ديوانه/ 63-85. 5 شرح أشعار الهذليين 1/ 42-49. 6 ديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية/ 28-29. 7 المفضليات/ 1-19. 8 شرح أشعار الهذليين 1/ 55-60. 9 ديوان الهذليين القسم الثاني/ 125-132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 أربعة وعشرين بيتا، ودالية صخر الغي ذات الأبيات الثلاثة والعشرين1، إذا استثنينا هذه القصائد التسع، واستثنينا معها تلك المجموعة القليلة من القصائد الطويلة التي قيلت في أغراض عامة، والتي أخرجناها في الفصل السابق من دائرة شعر التصعلك، فإننا نجد أنفسنا أمام مجموعة كبيرة من المقطوعات التي يتراوح عدد أبيات الواحدة منها بين البيتين والسبعة، وأمام مجموعة أخرى من القصائد القصيرة التي توشك أن تكون مقطوعات لا تتجاوز أطوالها، وهي فائية للشنفرى، عشرين بيتا في بعض المصادر2، وتسعة عشر بيتا في بعض المصادر الأخرى3، هذا إلى جانب مجموعة كبيرة من الأبيات المفردة التي يرجح جدا أنها أبيات من قصائد أو مقطوعات لم تصل إلينا. وقد يكون من الطريف أن نلاحظ أن كل ما وصل إلينا من شعر أبي الطمحان مقطوعات قصيرة، أطولها في أربعة أبيات4، وأقصرها في بيتين5، وأن كل ما وصل إلينا من شعر حاجز، ما عدا قصيدة ميمية في تسعة أبيات6، مقطوعات قصيرة أقصرها في بيتين7، وأطولها في سبعة8، وأن كل ما وصل إلينا من شعر السليك مقطوعات أقصرها في بيتين9 وأطولها في ستة أبيات10، وإن تكن إحداها قد بلغت أربعة عشر بيتا11، وكذلك قيس بن الحدادية،   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 12-13. 2 ديوانه في الطرائف الأدبية / 37-39. 3 الأغاني 21/ 140، 141. 4 اللامية في الحيوان للجاحظ 1/ 380، والبيان والتبيين 3/ 150، 151، والأغاني 11/ 132 "بولاق"، ورواية الجاحظ أصح، والبائية في الأغاني 11/ 132، 133 "بولاق"، والقافية في المصدر نفسه / 133، والرائية في الحيوان للجاحظ 6/ 113. 5 النونية في الأغاني 11/ 134 "بولاق" والقافية في البيان والتبيين 3/ 202. 6 الأغاني 12/ 50 "بولاق". 7 المصدر السابق/ 52، 53. 8 المصدر نفسه/ 51. 9 الأغاني 18/ 134، 137. والشعر والشعراء / 215. 10 الأغاني 18/ 135. والميداني: مجمع الأمثال 1/ 399. 11 الأغاني 18/ 136. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 إذا استثنينا قصيدتين له في الغزل1 لأنهما خارج دائرة التصعلك، فإن كل ما لدينا من شعره بين الأبيات الثلاثة والتسعة، بل إن تأبط شرا، ومجموعته الشعرية أوفر عددا من هؤلاء، إذا استثنينا قصيدتيه اللتين ذكرناهما بين القصائد العشر المطولات، واستثنينا خمسا أخرى بين تسعة أبيات وستة عشر بيتا2، فكل ما يتبقى أمامنا مجموعة بين بيت واحد وستة أبيات. وهنا نقف لنتساءل: ما السر في هذا؟ نحن بين أمرين: إما أن نفترض أن مجموعة شعر الصعاليك التي بين أيدينا ناقصة لا من حيث عدد قصائده ومقطوعاتها فحسب، ولكن من حيث عدد أبياتها أيضا. وهو فرض له إغراؤه لأنه مريح من ناحية، ولأنه يتفق مع ما يذكره مؤرخو الأدب العربي من ضياع أكثر الشعر الجاهلي من ناحية ثانية، ولأنه -من ناحية ثالثة- مقبول في مثل حالة الشعراء الصعاليك الذين رأينا أن قبائلهم لم تكن تحرص على شعرهم، وحتى لو حرصت عليه فليست السبيل إليه ميسرة لهم. وإما أن نقبل الحقيقة الماثلة أمامنا وهي أن مجموعة شعر الصعاليك -في مجموعها- مقطوعات قصيرة، ثم نتلمس العلة في ذلك. والعلة عندي هي طبيعة حياتهم نفسها، تلك الحياة القلقة المشغولة بالكفاح في سبيل العيش التي لا تكاد تفرغ للفن من حيث هو فن يفرغ صاحبه لتطويله وتجويده، وإعادة النظر فيه، كما كان يفعل الشعراء القبليون، تلك الطائفة "الأرستقراطية" التي فرغت للفن تلك فراغا هيأته لها قبائلها لا من أجل الفن ولكن من أجل أنفسها. وإلا فما معنى تلك الفرحة التي كانت تعم أفراد القبيلة جميعا حين ينبغ فيها شاعر إن لم تعمل القبيلة على الاستفادة من شاعرها وتهيئ له أو -بتعبير أدق- لها سبيل هذه الاستفادة؟ وهل نتصور مثلا أن يفرغ الشاعر الصعلوك لفنه كما كان يفرغ زهير   1 الأغاني 13/ 6، 7، 8 "بولاق". 2 حماسة أبي تمام 1/ 46، 2/ 26، والأغاني 18/ 213، 214، 215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 لحولياته، أو أمرؤ القيس في حياته اللاهية الفارغة المطمئنة التي ضمن له رغدها ملك أبيه، أو النابغة في حياته المستقرة في بلاط المناذرة والغساسنة؟ الأمر الذي لا شك فيه هو أن حياة الصعاليك كانت حياة قلقة مضطربة، وأنهم جميعا كانوا يشعرون شعورا عميقا بأنها حياة قصيرة، وبأنهم دائما على موعد مع الموت الذي يترصدهم ترصد الموتور، حتى كثر ذكر الموت عندهم، وتردد الحديث عنه في شعرهم، صدى لما كان يجيش في نفوسهم من إحساس عميق بقصر حياتهم، وهل نظن شاعرا هذه طبيعة حياته يستطيع أن يفرغ لفنه يطيله ويجوده ويعيد النظر فيه المرة بعد المرة؟ أظن أن الطبيعي أن مثل هذه الحياة التي لا يكاد الشاعر يفرغ فيها لنفسه لا تنتج إلا لونا من الفن السريع الذي يسجل فيه الشاعر ما يضطرب في نفسه في مقطوعات قصير وموجزة، يسرع بعدها إلى كفاحه الذي لا ينظره ولا يمهله. أما تلك القصائد الطويلة القليلة فهي أصداء لفترات قليلة كانت تمر بحياة الشعراء الصعاليك يستريحون فيها من الكفاح في سبيل العيش، فيفرغون لأنفسهم يستخرجون من رواسبها العميقة فنا متأنيا مطمئنا مطولا مجودا رائعا ممتازا. أما أنا فأميل كل الميل إلى هذا الرأي الثاني الذي يفسر الحقيقة الماثلة أمامنا تفسيرا واقعيا دون أن يتكلف في سبيل إنكارها الفروض النظرية التي إن جاز قبولها جاز رفضها. ومع ذلك أليس من المحتمل أن يكون السبب في كثرة المقطوعات في شعر الصعاليك أنه وصل إلينا مفرقا في مصادر مختلفة اقتصر كل منها على ما يستشهد به منه، وأنه لو كان قد وصل إلينا مجموعا في ديوان مفردا أو دواوين مفردة لكان من الجائز أن يكون قصائد طويلة؟ وهو احتمال له وجاهته. وهنا لا يسعنا مرة أخرى إلا إبداء الأسف على عدم حصولنا على تلك المجموعة من أشعار اللصوص التي جمعها السكري، وعلى مخطوطة ديوان تأبط شرا الذي جمعه ابن جني. ولكن بين أيدينا مجموعة من الدواوين المفردة لطائفة من الشعراء الصعاليك: صخر الغي، والأعلم، وعمرو ذي الكلب، وأبي خراش في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 مجموعة أشعار الهذليين، وعروة بن الورد، والشنفرى في ديوانين مستقلين. وحين ننظر في هذه الدواوين نجد أن ظاهرة انتشار المقطوعات فيها واضحة كل الوضوح، فليس في ديوان صخر الغي سوى ثلاث قصائد طويلة1 من مجموعة شعره التي تبلغ ثلاث عشرة قطعة، ومن هذه القصائد الثلاث واحدة خارج دائرة التصعلك2، وليس في ديوان الأعلم سوى قصيدتين طويلتين3 من مجموعة شعره التي تبلغ ست قطع، وليس لأبي خراش سوى سبع قصائد طويلة4، منها اثنتان خارج دائرة التصعلك5، من مجموعة شعره الكبيرة التي تبلغ اثنتين وعشرين قطعة، وكل ما سوى هذه القصائد السبع مقطوعات وقصائد قصيرة لا تتجاوز أطولها تسعة أبيات، وأما ذو الكلب فله قطعتان: إحداهما قصيدة طويلة6، والأخرى أرجوزة قصيرة7، وأما عروة بن الورد فإذا أخرجنا من إحصائيتنا تلك المجموعة التي أضافها ناشر ديوانه مما عثر عليه في مصادر الأدب المختلفة؛ لأننا نبني حكمنا على ما جمعه القدماء من شعر هؤلاء الصعاليك في دواوين مفردة، واقتصرنا على المجموعة التي رواها ابن السكيت وهي تبلغ إحدى وثلاثين قطعة، فإننا لا نجد فيها سوى سبع قصائد طويلة8، وأقصرها في أحد عشر بيتا9، وأطولها في سبعة وعشرين10، وكل ما عدا ذلك مقطوعات لا تتجاوز أطولها ثمانية أبيات، وتنخفض مجموعة منها إلى بيتين، وأما الشنفرى، فإذا استثنينا اللامية التي   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 12-13، 36-37، 42-49. 2 المصدر السابق/ 36-37. 3 المصدر نفسه/ 54-60، 60-61. 4 ديوان الهذليين القسم الثاني/ 116-123 و125-132 و132-136 و144-147 و148-150 و151-153 و 161-164. 5 المصدر السابق/ 166-123 و151-153. 6 شرح أشعار الهذليين 1/ 232-237. 7 المصدر السابق/ 239-240. 8 ديوانه: القصائد 1، 2، 3، 6، 7، 9، 23. 9 المصدر السابق: قصيدة رقم 6. 10 المصدر نفسه: قصيدة رقم 3. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 تُنسب إليه أحيانا، ويشك في نسبتها إليه أحيانا أخرى، والتي بينا رأينا فيها في الفصل الأول من هذا الباب الثاني، فإننا لا نجد في ديوانه المخطوط -لأننا لا نريد أن نعتمد على ديوانه المطبوع الذي أضاف إليه ناشره طائفة من شعره من مصادر متفرقة- سوى قصيدتين طويلتين هما تائيته1 وفائيته2، وما عداهما مقطوعات لا تتجاوز أطولها ستة أبيات3. أليس في هذا ما يجعلنا نقف من هذا الاحتمال موقف المتشكك في قبوله، ونظل عند ميلنا إلى قبول الحقيقة الماثلة أمامنا، وهي ظاهرة "انتشار المقطوعة في شعر الصعاليك" دون حاجة إلى تكلف فروض واحتمالات؟   1 من لوحة رقم 46 - لوحة رقم 50. 2 من لوحة رقم 50 - لوحة رقم 52. 3 لوحة رقم 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 2- الوحدة الموضوعية : وإذ انتهينا إلى تسجيل هذه الظاهرة ننتقل إلى تسجيل ظاهرة أخرى تتصل بها، وهي ظاهرة "الوحدة الموضوعية في شعر الصعاليك". فالناظر في شعر الصعاليك تلفت نظره تلك الوحدة الموضوعية في مقطوعاته وأكثر قصائده، بحيث يستطيع أن يضع لكل مقطوعة عنوانا خاصا بها، دالا على موضوعها. وهي ظاهرة لم تعرفها قصائد الشعر الجاهلي القبلي في مجموعه، تلك القصائد التي تبدأ عادة بمقدمة طللية، ثم تظل تنتقل من موضوع إلى موضوع حتى تصل إلى نهايتها، حتى لتصبح براعة الانتقال من المقاييس الفنية المعترف بها عند نقاد الشعر العربي القدماء. ونستطيع أن نمضي مع مجموعة شعر الصعاليك فلا نكاد نخطئ الوحدة الموضوعية في كل مقطوعاتها وأكثر قصائدها، سواء ما كان منها في وصف المغامرات أو الحديث عن سرعة العدو أو الفرار أو تقرير فكرة اجتماعية أو اقتصادية أو غير ذلك من موضوعات شعر الصعاليك التي عرضنا لها في الفصل السابق، ولا نكاد نجد صعوبة في وضع العناوين المختلفة لها، المعبرة عنها، الدالة على موضوعاتها، فمثلا بائية الشنفرى1 "غارة على العوص"، ورائية تأبط شرا2 "احتيال"، وفائية السليك3 "والعاشية المذعورة"، وبائية حاجز4 "نجاة"، ورائيته5 "فرار"، ورائية أبي الطمحان6 "حنين"، وكافية تأبط شرا7 "الصديق الصعلوك"، ورائية الشنفرى التي أنشدها قبيل مقتله8 "نهاية الصعلوك" أو "وصية الصعلوك" أو "وليمة الضبع"، ورائيته التي أنشدها فيما كان يطالب به بني سلامان9 "تهديد"، وفائية الأعلم10 "الأرستقراطي الهلوع"، وضادية أبي خراش11 "فرحة وأحزان"، وبائيته12 "رقيق المرقبة"، وفائية عروة13 "طواف الاستقرار" ورائيته14 "الفقير والغني"، ولاميته15 "تراث الصعلوك"، وهكذا نستطيع أن نفعل بسائر مقطوعات   1 الأغاني 18/ 216، وديوانه في الطرائف الأدبية / 32. 2 حماسة أبي تمام 1/ 38 وما بعدها. 3 الأغاني 18/ 135. 4 الأغاني 12/ 52 "بولاق"، وحماسة البحتري / 65. 5 الأغاني 12/ 52 "بولاق". 6 الأغاني 11/ 134 و16/ 69 "بولاق". 7 حماسة أبي تمام 1/ 46. 8 ديوانه المطبوع / 36. وديوانه المصور: لوحة رقم 6. 9 المصدران السابقان: المطبوع / 35، 36، المصور / 10، 11. والأغاني 21/ 135. 10 شرح أشعار الهذليين 1/ 68، 69. 11 ديوان الهذليين 2/ 157. والمبرد: الكامل / 327، 338. وحماسة الخالديين "مخطوطة": ورقة رقم 115، 116. 12 ديوان الهذليين 2/ 159-161. 13 ديوانه/ 91-95. 14 ديوانه/ 198، 199. 15 ديوانه/ 207. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 شعر الصعاليك وقصائده القصيرة دون أن نشعر بأي تفاوت بينها وبين عناوينها. ونتساءل: ما موقف القصائد الطويلة في مجموعة شعر الصعاليك من هذه الظاهرة؟ وهل استجابت لها كما استجابت المقطوعات والقصائد القصيرة؟ الأمر الذي لا شك فيه والذي يلاحظه كل ناظر في هذه القصائد الطويلة أول ما يلاحظ، أنها لم تقف عند غرض واحد، بل تناولت طائفة متعددة من الأغراض، ولكن أيخرج بها هذا عن الوحدة الموضوعة أم لا يخرج؟ هذه هي المسألة. حين ندقق النظر في هذه الأغراض المتعددة نلاحظ أنها في القصيدة الواحدة ترجع عادة إلى أصل موضوعي واحد تتفرع منه كما تتفرع أغصان الشجرة من جذعها، فليس التعدد هنا تعددا في الموضوع، وإنما هو تفرع في أغراض الموضوع، فلامية ذي الكلب الهذلي1 على كثرة ما تناوله فيها من أعراض فرعية من حديث إلى صاحبته عن عزواته، ومن حديث عن تربص أعدائه به، وتربصه بهم وتهديده إياهم، ومن حديث عن رفاقه وعن أسلحته وعن المرقبة التي يتربص فوقها، ترجع في حقيقة الأمر إلى موضوع واحد هو ذلك الصراع بينه وبين أعدائه، حتى ليصح أن نسميها "صراع الصعلوك". ورائية عروة2 التي يتحدث فيها عن مذهبه في الغزو ودوافعه، وعن الصعلوك الخامل والصعلوك العامل، وعن كرمه وفقره، ترجع في حقيقة الأمر إلى موضوع واحد هو فكرة التصعلك، حتى ليصح أن نجعل "فلسفة الصعلكة" عنوانا لها. وميمية أبي خراش3 التي يتحدث فيها إلى امرأته عن فقره وكرم نفسه، وشجاعته، وصبره على الجوع، ومغامراته، وشدة عدوه، ومقدرته على الاهتداء في الليالي المظلمة، وبراعته في الرمي، والتي يوازن فيها بينه وبين   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 232-237. 2 ديوانه/ 63-85. 3 ديوان الهذليين 2/ 125-132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ذلك الرجل الغني الذي تطمح امرأته إليه، أليس من اليسير أن نردها إلى أصل موضوعي واحد نجعله عنوانا لها وهو "مفاخر الصعلوك"؟ وهكذا نستطيع أن نمضي مع كل قصيدة من تلك القصائد التسع المطولات فترد أغراضها الفرعية إلى أصل موضوعي واحد يصلح أن يكون عنوانا لها. ولكن يبدو أن في هذا الحكم بعض الإطلاق، وأنه يجدر بنا أن نخفف قليلا من إطلاقه، فبين أيدينا بعض القصائد، وإن تكن قليلة جدا، لا تخضع لهذا الحكم: تائية الشنفرى وقافية تأبط شرا المفضليتان، وفائية صخر الغي وداليته، فهذه القصائد الأربع لا تخضع للوحدة الموضوعية، وإنما تتعدد موضوعاتها، وهو، وإن يكن تعددا يسيرا لا يغير من الحقيقة التي نقررها كثيرا إذ إنه في كل منه لم يتجاوز الموضوعين، فإنه على كل حال يجب أن يدعونا إلى وقفة قصيرة نحاول فيها أن نتبين السر فيه. الذي يبدو لي تفسيرا لهذا أنه تقليد للشعر القبلي الذي كان مسيطرا على الحياة الفنية في المجتمع الجاهلي، وهذا التقليد ليس من الصعب أن نتصوره فأظن أنه ليس من اليسير أن نتصور أن الشعراء الصعاليك -برغم ما كان بينهم وبين مجتمعهم من نفور- قد بعدوا كل البعد عن الحياة الفنية في مجتمعهم أو نفروا كل النفور منها، وإنما المعقول أن نتصور أنهم كانوا أحيانا يحاولون تقليد تلك النماذج الفنية التي كان مجتمعهم يقدرها كل التقدير، لعلهم يظفرون بنوع من تقدير المجتمع لهم، ولو تقديرا فنيا، بعد أن يئسوا من تقديره لهم تقديرا اجتماعيا. ولن يضيرهم أن يقلدوا أحيانا تلك النماذج الفنية من الشعر القبلي في صورتها الشكلية، فلن يغير هذا شيئا من طبيعة حياتهم الاجتماعية المتمردة على القبيلة، ولن يغير كثيرا من تقاليدهم الفنية الأساسية. وعلى كل حال فهذه الظاهرة، ظاهرة تقليد الشعراء الصعاليك للشعر القبلي في صورته الشكلية، ظاهرة قليلة الذيوع في مطولات شعر الصعاليك، ومنعدمة تماما في مقطوعاته، فليست من الخطر في شيء على فكرتنا التي نقررها، فكرة "الوحدة الموضوعية في شعر الصعاليك". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 التخلص من المقدمات الطلية ... 3- التخلص من المقدمات الطللية: إذا استثنينا هذه المجموعة التقليدية من شعر الصعاليك فإننا نصل إلى تسجيل ظاهرة ثالثة، وهي ظاهرة "التخلص من المقدمات الطليلة". وهذا طبيعي ما دام الشعراء الصعاليك يحرصون على الوحدة الموضوعية في شعرهم؛ إذ إن المقدمات الطللية تخل -بطبيعة الحال- بهذه الوحدة الموضوعية. وفيما عدا تلك المجموعة التقليدية التي أشرنا إليها لا نعثر فيما بين أيدينا من شعر الصعاليك على مقطوعة أو قصيدة تبدأ بمقدمة غزلية، وإنما اتخذ الشعراء الصعاليك لهم مذهبا آخر استعاضوا به عن هذه المقدمات، وهي مذهب جعلوا محوره "حواء الخالدة" أيضا، ولكنها ليست المرأة المحبوبة التي عرفناها عند الشعراء القبليين، تلك التي يتدله الشاعر في حبها ويبكي أيامه معها، ويقف على أطلال ديارها، ويدعو أصحابه إلى الوقوف معه، ولكنها المرأة المحبة الحريصة على فارسها، التي تدعوه دائما إلى المحافظة على حياته، إن لم يكن من أجل نفسه فمن أجلها هي. وليس من شك في أنها براعة ممتازة أن يضع الشعراء الصعاليك في مستهل قصائدهم صورة للأنثى الضعيفة التي يظهر صاحبها إلى جوارها بطلا قويا مستهينا بحياته من أجل فكرته، يرفض نصيحتها في رفق وأدب، ويقابل جزعها بابتسامة الواثق بنفسه، المعتد بشخصيته، ويحاول أن يقنعها في قوة وإيمان بسداد رأيه، وسلامة مذهبه في الحياة. والبراعة هنا ترجع إلى وضع صورتين متقابلتين في معرض واحد مما يترتب عليه وضوح الألوان الفنية في كلتيهما، وهو وضع يذكرنا بما نعرفه من آداب فرسان أوربا في العصور الوسطى، حيث كانت لكل فارس سيدة يضع كل مفاخر حياته بين يديها. ومن هنا نستطيع أن نطلق على هذه المقدمات النسائية عند الشعراء الصعاليك "مقدمات الفروسية في شعر الصعاليك" في مقابل "المقدمات الطليلة في الشعر القبلي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 وقد رأينا الشنفرى في قصيدته البائية التي جعلنا عنوانها "غارة على العوص" يستهلها بحديث إلى صاحبته بأن تتركه وشأنه الذي هو ماض إليه، ولا تثبط عزيمته، ولتقل بعد مضية ما تشاء، فكل ما يعرفه هو أنه لن يموت إلا مرة واحدة. ويستهل عمرو بن براقة قصيدته الميمية1 بحديث بينه وبين صاحبته، تنصحه فيه بألا يعرض نفسه للمخاطر، وأن يجعل ليله سباتا يستريح فيه، ولكنه يعجب من هذه النصيحة فكيف ينام الليل من وهب حياته للبطولة والمغامرة؟ ألم تعلم بأنه أحد أفراد طائفة الصعاليك الذين لا ينامون من الليل إلا قليلا؟ وهل تريد منه أن يكون كأولئك الخليين المسالمين الذين ينامون الليل كله؟ تقول سليمى لا تعرض لتلفة ... وليلك عن ليل الصعاليك نائم وكيف ينام الليل من جل ماله ... حسام كلون الملح أبيض صارم غموض إذا عض الكريهة لم يدع ... ألم تعلمي أن الصعاليك نومهم له طمعا، وطوع اليمين ملازم ... قليل إذا نام الخلي والمسالم ويستهل السليك مقطوعة له لم يصل إلينا منها -فيما بين أيدينا من مصادر- سوى بيتين يتحدث في أولهما عن تحذير صاحبته له، ويطمئنها على نفسه لأنه واثق في شجاعته وقوة نفسه: تحذرني أن أحذر العام خثعما ... وقد علمت أني امرؤ غير مسلم2 وأكثر ما نرى هذه الظاهرة عند عروة بن الورد، فكثير من قصائده ومقطوعاته تبدأ بحوار بينه وبين صاحبته، أو لعلها امرأته كما يقول رواة شعره، وهي تلومه على كرمه وإسرافه، وتعاتبة على مخاطرته بحياته، وتغريه على   1 القالي: الأمالي 2/ 122، والأغاني 21/ 175، 176. والعيني: شرح الشواهد الكبرى "على هامش خزانة الأدب" 3/ 332، 333. 2 ابن حبيب: كتاب المغتالين "مصورة" لوحة رقم 90، والتبريزي: شرح حماسة أبي تمام 2/ 192. وفيه "القوم" مكان "العام". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 البقاء إلى جانبها، تارة بمعسول القول: تقول سليمى لو أقمت لسرنا ... ولم تدر أني للمقام أطوف1 وتارة أخرى بحار الدمع الذي ينهل من عينيها الجميلتين: تقول ألا أقصر عن الغزو، واشتكى ... لها القول طرف أحور العين دامع2 وتارة غيرهما بتخويفه الأعداء الذين يتربصون به: أرى أم حسان الغداة تلومني ... تخوفني الأعداء، والنفس أخوف3 أما هو فيجيبها في رفق قوي، أو في قوة رفيقة، بأنه لا يفعل هذا إلا من أجلها، ومن أجل من يغشاهما من الأهل، ومن ينزل بهما من الفقراء. يقول لها مرة: ذريني أطوف في البلاد لعلني ... أخليك أو أغنيك عن سوء محضر4 ويقول أخرى: أبي الخفض من يغشاك من ذي قرابة ... ومن كل سوداء المعاصم تعتري5 وكل ما يطلبه أن تتركه ونفسه ليشتري بها المجد الخالد، والأحاديث الباقية، قبل أن تفلت منه الفرصة فإذا هو عاجز عن البيع والشراء، بيع النفس وشراء الأحاديث: ذريني ونفسي أم حسان إنني ... بها قبل أن لا أملك البيع مشتري أحاديث تبقى والفتى غير خالد ... إذا هو أمسى هامة فوق صير تجاوب أحجار الكناس، وتشتكي ... إلى كل معروف تراه ومنكر6 وهو لا يجزع من الموت، وهل يملك الإنسان تأخير ساعته إذا دنت؟ إن لكل إنسان ساعة إذا حلت فلا متأخر عنها:   1 ديوانه/ 93. 2 ديوانه/ 176. 3 ديوانه/ 91. 4 ديوانه/ 66. 5 ديوانه/ 71. 6 ديوانه/ 63-65. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 فإن فاز سهم للمنية لم أكن ... جزوعا، وهل عن ذاك من متأخر1 وهل يضمن الإنسان إذا تخلف عن المغامرة والمخاطرة ألا يدركه الموت وهو في عقر داره؟ لعل الذي خوفتنا من أمامنا ... يصادفه في أهله المتخلف2 إنها مسألة مفروغ منها، لا ينبغي لأحد أن تقعد به عن هدفه وغاتيه: ألم تعلمي يا أم حسان أننا ... خليطا زيال ليس عن ذاك مقصر وأن المنايا ثغر كل منية ... فهل ذاك عما يبتغي القوم محصر3 والواقع أن عروة يعد خير من يمثل هذه الظاهرة من بين الشعرء الصعاليك، وفي كثير من قصائده ومقطوعاته نرى هذا اللون من أحاديث "الفروسية"4. وربما كان السبب في هذا راجعا إلى طبيعة مركز عروة في حركة الصعلكة الجاهلية زعيما لها، ومشرعا لفلسفتها، وواضعا لتقاليدها الاجتماعية والفنية. وقد تنحرف هذه المقدمات أحيانا بعض الانحراف، فلا تكون حديثا بين الشاعر الصعلوك وصاحبته، وإنما تصبح حديثا من الشاعر الصعلوك إلى صاحبته، يحدثها عن شيء سوف يفعله، أو شيء قد فعله، في اعتداد وثقة بنفسه، أو في إعجاب وفخر بها: كأن قد فلا يغررك مني تمكثي ... سلكت طريقا بين يربغ فالسرد وإني زعيم أن ألف عجاجتي ... على ذي كساء من سلامان أو برد5   1 ديوانه/ 67. 2 ديوانه/ 91. 3 ديوانه/ 128، 129. 4 انظر على سبيل المثال في ديوانه: القصيدة الثالثة/ 63، والرابعة/ 91، والتاسعة/ 127، والثالثة والعشرين/ 164، والسادسة والعشرين/ 176، والثانية عشرة من الزيادات/ 206. 5 الشنفرى في ديوانه في طرائف الأدبية / 34، والبيت الأول غير مروي في النسخة المصورة من ديوانه، وإنما تبدأ المقطوعة هناك بالبيت الثاني "لوحة رقم 10"، وروايته "إني لأهوى أن ألف عجاجتي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 ألا هل أتى ذات القلائد فرتى ... عشية بين الجرف والبحر من بعر1 وقد تنحرف هذه المقدمات انحرافا آخر، فلا تكون حديثا من الشاعر الصعلوك إلى صاحبته، وإنما تصبح حديثا من صاحبته عنه، حديثا ساخرا تتهكم فيه، فيرد عليها مفتخرا بنفسه: تقول سليمي لجاراتها ... أرى ثابتا يفنا حوقلا لها الويل ما وجدت ثابتا ... ألف اليدين ولا زملا2 ألا عتبت عليَّ فصارمتني ... وأعجبها ذوو اللمم الطوال فإني يابنة الأقوام أربى ... على فعل الوضيء من الرجال3 ومن اليسير أن نفهم هذين الانحرافين: أما الأول فمن الطبيعي جدا أن يتحدث الشاعر الصعلوك إلى صاحبته بمفاخره لعله يثير في نفسها إعجابها به وتقديرها له، وأما الآخر فإن النساء مفتونات أبدا بالمال والجمال. وهنا نقف أمام ملاحظتين متناقضتين كل التناقض: أما أولاهما فتؤيدنا فيما لاحظناه من تخلص الشعراء الصعاليك من المقدمات الطللية، وأما الأخرى فإنها تثير إشكالا على هذه الملاحظة. ذلك أن السكري في شرحه لأشعار الهذليين يروي قصيدة لامية لعمرو ذي الكلب عن أبي عمرو وأبي عبد الله والأصمعي، تبدأ ببيتين من الغزل في رواية أبي عمرو وأبي عبد الله، أما الأصمعي فلم يرو هذين البيتين. وإنما تبدأ القصيدة عنده بحوار بين الشاعر الصعلوك وصاحبته أو امرأته بعد أن رجع سالما من بعض غزواته4. والملاحظة التي نريد تسجيلها هنا هي عدم اتفاق رواة القصيدة على رواية هذه المقدمة الغزلية، كأنما كان يرى بعض   1 حاجز في الأغاني 12/ 52 "بولاق"، وفي حماسة البحتري / 65 "ذات الخواتم". 2 تأبط شرا في الشعر والشعراء لابن قتيبة / 176، وحماسة ابن الشجري/ 47 - اليفن: الشيخ الكبير. والحوقل: الضعيف. والأنف: الثقيل البطيء العيي بالأمور. والزمل: الجبان الضعيف. 3 السليك في الكامل للمبرد / 298. 4 شرح أشعار الهذليين 1/ 232، 233. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 الرواة أن المقدمة الطبيعية في شعر الصعاليك هي ذلك الحوار بين الشاعر وصاحبته حول مغامراته، لا تلك المقدمة الغزلية التقليدية التي رأوا أنها غير مألوفة في شعرهم. ولكن المشكلة تأخذ في الظهور إذ نعثر ببيتين مفردين أحدهما للسليك في لسان العرب1 والآخر لتأبط شرا في معجم البكري2. والبيتان يظهر عليهما طابع المقدمات الطللية التي نعرفها في الشعر التقليدي القديم، فهما -أولا- مصرعان مما يشعر بأنهما مطلعا قصيدتين، ثم هما -ثانيا- صورة من أسلوب المطالع الجاهلية، ذلك الأسلوب الذي يحرص الشاعر فيه على ذكر أسماء المواضع، ثم هما -ثالثا- لون من ألوان المطالع الجاهلية في حديثها عن الخيال الذي يلم بالركب المسافر، وعن عفاء الديار بعد رحيل الأحباب. وهنا تظهر المشكلة فكيف يتفق هذا مع ما لاحظناه من تخلص الشعراء الصعاليك من المقدمات الطللية؟ لقد كانت المشكلة تكون أيسر حلا لو أن هذين المطلعين قد وصلت إلينا قصيدتاهما، إذن لاستطعنا أن نتبين أهما داخلتان في دائرة شعر الصعلكة أم خارجتان عنها. ونحن لم ننكر أن شعر الصعاليك الخارج عن دائرة الصعلكة قد قلد الشعر الجاهلي القبلي في كثير من خصائصه، ولكن المشكلة قد تعقدت بضياع هاتين القصيدتين من مجموعة شعر الصعاليك الذي بين أيدينا، ثم بإمعان هذين المطلعين في تقليد الشعر الجاهلي القبلي. وعلى كل حال فإذا صحت نسبة هذين المطلعين إلى السليك وتأبط شرا، ولم يكونا من صنع اللغويين والجغرافيين العرب، فإننا نضيفهما إلى تلك المجموعة التقليدية من شعر الصعاليك التي قلنا إنها تعد شذوذا على خصائص شعر الصعلكة وهما على كل حال لن يغيرا شيئا من الحقيقة التي قررناها، والتي نراها في أكثر نماذج شعر الصعلكة، وهي تخلصه من المقدمات الطللية.   1 مادة "نيل": ألم خيال من أميمة بالركب ... وهن عجال عن نيال وعن نقب 2 معجم ما استعجم 1/ 231: عفا من سليمى ذو عنان فمنشد ... فأجزاع مأثول خلاء فبدبد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 4- عدم الحرص على التصريع : وتتصل بهذه الظاهرة ظاهرة رابعة من حيث البناء الخارجي لشعر الصعاليك، وهي عدم الحرص على التصريع في مطالع نماذجه الفنية. وقد كان يخيل إلي في أول الأمر أن هذه الظاهرة قد تكون خاصة بمجموعة الشعر داخل دائرة الصعلكة دون سائر شعر الصعاليك، أو بالمقطوعات منه بالذات، أو بالقصائد ذات الوحدة الموضوعية، ولكني حين استعرضت مجموعة شعر الصعاليك كلها رأيت أن هذه الظاهرة توشك أن تكون مطردة في كل شعر الصعاليك سواء ما كان منه داخل دائرة الصعلكة وما كان خارجها، وسواء ما كان مقطوعات أو قصائد، وسواء ما كان خاضعا للوحدة الموضوعية أو خارجا عليها، وأقول "توشك" لوجود مجموعة من نماذجه الفنية يظهر التصريع في مطالعها، وهي مجموعة -وإن تكن قليلة- تحول دون إطلاق الحكم على كل شعر الصعاليك. ولكن الشيء الذي نحرص على تسجيله هو أن هذه الظاهرة لا تختص بمجموعة خاصة من شعر الصعاليك دون مجموعة، ولو أنها كانت مختصة بمجموعة دون مجموعة لالتمسنا تعليلها في خصائص المجموعة التي تختص بها، ولكن انتشارها بهذه الصورة "اللاقاعدية" تجعلنا نلتمس لها تعليلا آخر. وتعليلها عندي يرجع إلى تلك الحرية التي كانوا يعيشون فيها والتي كانت ترفض الخضوع لتقاليد مجتمعهم، تلك الثورة وتلك الحرية ظهرت آثارهما عن طريق العقل الباطن في حياتهم الفنية، فكان شعرهم ثائرا على الأوضاع الفنية في الشعر الجاهلي القبلي، حرا في أوضاعه الفنية. ولكنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 قلنا إن الشعراء الصعاليك لم ينجوا في بعض الأحيان من التقليد الفني للشعر الجاهلي القبلي، ومن هنا نجد تلك المطالع المصرعة في بعض نماذجهم الفنية. واستعراضنا لمجموعة شعر الصعاليك يظهرنا على طائفة من الملاحظات الطريفة: فكل شعر أبي خراش بدون استثناء قد تخلص من التصريع تخلصا تاما. وكل شعر الأعلم بدون استثناء أيضا قد تخلص من التصريع تخلصا تاما. وكل شعر عمرو بن ذي الكلب، إذا أخذنا برواية الأصمعي في لاميته التي عرضنا لها منذ قليل، قد تخلص أيضا من التصريع تخلصا تاما. وكل شعر الشنفرى ما عدا تائيته المفضلية، وكل شعر تأبط شرا ما عدا قافيته المفضلية، وكل شعر عروة بن الورد ما عدا رائيتين له1، وكل شعر صخر الغي ما عدا داليته2، وميميته التي قالها في رثاء ابنه3 قد تخلص من التصريع. وكل شعر السليك، ما عدا مقطوعة واحدة في بيتين اثنين4 قد تخلص أيضا من التصريع. وكل شعر أبي الطمحان، ما عدا مقطوعتين5 إحداهما في المدح فمن الطبيعي أن يلبس الشاعر فيها "الثياب الرسمية" التي يلبسها الشعراء المادحون حين يدخلون على من يمدحون، كل شعره ما عدا هاتين المقطوعتين قد خلا من التصريع. وكل شعر حاجز، ما عدا ثلاث قطع6 إحداها يفتخر فيها بقومه، قد خلا من التصريع. وحين ننظر في هذه الملاحظات فإننا نقف متسائلين أمام ظاهرة غريبة وهي انتشار التصريع -انتشارا نسبيا طبعا- في مقطوعات شعر الصعاليك وبخاصة عند حاجز. وقد يكون من المفهوم أن ينشر التصريع في القصائد الطويلة التي يحتفل لها الشاعر احتفالا فنيا خاصا، أما أن ينتشر في المقطوعات القصيرة السريعة كما رأينا في مقطوعة السليك ذات البيتين، فهنا وجه الغرابة. لست أرى تعليلا قويا لهذه الظاهرة الغريبة إلا أحد احتمالين: إما أن يكون هذا التصريع قد جاء عفوا دون أن يقصد إليه الشعراء الصعاليك قصدا، وهو احتمال مقبول، وإما أن تكون هذه المقطوعات، بخاصة التي قيلت في موضوعات خارج دائرة الصعلكة، أجزاء من قصائد طويلة لم تصل إلينا كاملة احتفل لها أصحابها احتفالا فنيا خاصا فصرعوا في مطالعها، وهو احتمال مقبول أيضا.   1 ديوانه/ 63، 127. 2 شرح أشعار الهذليين 1/ 12. 3 المصدر السابق/ 36. 4 الأغاني 18/ 134، والشعر والشعراء / 215. 5 الأغاني 11/ 133 "بولاق" "القافية والحائية". 6 الأغاني 12/ 49 "بولاق" "البائية في رثاء نفسه"، ص50 "الميمية في الافتخار بقومه"، ص52 "البائية في وصف فراره". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 5- التحلل من الشخصية القبلية : ونترك هذه الظاهرة الفرعية لنسجل ظاهرة أساسية في "الشعر داخل دائرة الصعلكة" وهي ظاهرة "التحلل من الشخصية القبلية". وهي ظاهرة ليست غريبة على شعر الصعاليك لأنها تتفق وما سجلناه من قبل في دراستنا الاجتماعية لظاهرة الصعلكة من فقد التوافق الاجتماعي بين الصعالك وقبائلهم مما ترتب عليه فقد الإحساس بالعصبية القبلية في نفوسهم. ومن الطبيعي ألا تظهر شخصية القبيلة عند شاعر فقد إحساسه بالعصبية القبلية، وما دامت الصلة بين الشعراء الصعاليك وبين قبائلهم قد انقطعت اجتماعيا فمن الطبيعي أن تنقطع فنيا، ونعني بانقطاعها فنيا تحلل الشاعر الصعلوك من ذلك "العقد الفني" الذي نراه بين الشاعر القبلي وقبيلته، فلا يكون الشاعر الصعلوك "لسان عشيرته" لأن ما بينه وبين عشيرته قد انقطع، ولا يكون شعره "صحيفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 قبيلته" لأنه لم تعد له قبيلة، وإنما يصح شعره صورة صادقة كل الصدق من حياته هو، يسجل فيه كل ما يدور فيها، ويصبح ضمير الفرد "أنا" أداة التعبير فيه بدلا من ضمير الجماعة "نحن" الذي هو أداة التعبير في الشعر القبلي، وتصبح المادة الفنية لشعره مشتقة من شخصيته هو لا من شخصية قبيلته. ومعنى هذا أن ظاهرة الفناء الفني لشخصية الشاعر القبلي في شخصية قبيلته التي نلاحظها بوضوح عند أصحاب المذهب القبلي في الشعر الجاهلي قد اختفت من مجموعة الشعر داخل دائرة الصعلكة. وحلت محلها ظاهرة أخرى يصح أن نطلق عليها "ظاهرة الوضوح الفني لشخصية الشاعر الصعلوك". ولكن شخصية الشاعر الصعلوك شخصية يشاركه فيها أفراد جماعته؛ لأنهم جميعا يؤمنون بمذهب واحد، ويدينون بعصبية مذهبية واحدة. ومن هنا كانت شخصية الشاعر الصعلوك شخصية "جماعية"، ولسنا نقصد بالجماعية فناء الشاعر الصعلوك في جماعته فناء يشبه فناء الشاعر القبلي في قبيلته، وإنما نقصد بها ذلك التشابه في الشخصيات بين أفراد جماعة الصعاليك. ومع ذلك فليس من اليسير أن نتصور جماعة الصعاليك قد تشابهت شخصياتها حتى أصبحت شخصية واحدة، فإن أساس حركة الصعلكة اعتداد بالشخصية الفردية، واعتزاز بمقدرة الفرد على الوقوف في وجه المجتمع. ومن هنا كانت لكل شاعر صعلوك إلى جانب شخصيته الجماعية شخصية فردية خاصة يتفرد بها بين جماعته. ولكنهم -مع اعتدادهم بشخصياتهم الفردية- كانوا حريصين على شخصيتهم الجماعية؛ لأنهم -من غير شك- أقدر جماعة على تحقيق مذهبهم في الحياة منهم أفرادا. ولعل أصدق الأمثلة على هذا عروة وجماعته، فقد كان عروة -مع اعتداده بشخصيته الفردية- يعبر عن جماعته ويتكلم بلسانها، وكذلك جماعة تأبط شرا التي كانت تدعوه "أمهم"1 لقيامه على شئونهم، وتنظيمه زادهم، مما يشعر بقوة روح الجماعة بينهم.   1 تائية الشنفرى في المفضليات شرح ابن الأبناري، البيت 19 وشرحه / 103، وابن دريد: جمهرة اللغة 1/ 21، والسيوطي: المزهر 1/ 302، وتاج العروس "مادة أمم". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 والذي نريد أن نصل إليه من هذا هو تفسير ما نراه في الشعر داخل دائرة الصعلكة من آثار الجماعة. فضمير الجماعة "نحن" الذي يتردد أحيانا فيه ليس هو الضمير نفسه الذي نراه في الشعر القبلي، فنحن هنا تعبر عن الشخصية الجماعية، ولكنها هناك تعبر عن الشخصية القبلية. ومهما يكن من أمر، فالشيء الذي لا ريب فيه هو أن الشعراء الصعاليك قد تخلصوا من الشخصية القبلية في شعرهم داخل دائرة الصعلكة كما تخلصوا منها في حياتهم، وأنهم أصبحوا شخصية فنية "شاذة" في الشعر الجاهلي كما كانوا شخصية اجتماعية "شاذة" في حياتهم، وهذا "الشذوذ" هو العامل المشترك بين شخصيتهم الفردية وشخصيتهم الجماعية، حتى ليصح أن نطلق عليهم أصحاب المذهب الشاذ في الشعر الجاهلي". وما أظن أننا في حاجة إلى القول بأن الشخصية القبلية ظاهرة في تلك المجموعة من شعر الصعاليك التي اصطلحنا على تسميتها "الشعر خارج دائرة الصعلكة". ومن هنا نستطيع أن نقول إن هذه المجموعة -وإن تكن صورة من الفن الجاهلي- تمثل "شذوذا" في مجموعة شعر الصعاليك "أصحاب المذهب الشاذ في الشعر الجاهلي". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 6- القصصية : وإذ قررنا أن شعر الصعاليك صورة صادقة كل الصدق من حياة أصحابه، يسجلون فيه كل ما يدور فيها، فإننا نصل إلى تقرير ظاهرة مترتبة على هذه الفكرة وهي ظاهرة "القصصية في شعر الصعاليك"، فشعر الصعاليك -في مجموعة- شعر قصصي يسجل فيه الشاعر الصعلوك كل ما يدور في حياته الحافلة بالحوادث المثيرة التي تصلح مادة طيبة للفن القصصي، فحوادث مغامراتهم الجريئة التي كانوا يقومون بها فرادى وجماعات وما كان يدور فيها من صراع دام مرير، وأخبار فرارهم وعدوهم، وتشردهم في أرجاء الصحراء بين وحشها وأشباحها، وتربصهم فوق المراقب في انتظار ضحاياهم، كل هذا وغيره من مظاهر حياتهم مادة صالحة للفن القصصي. وقد استغل الشعراء الصعاليك هذه المادة في شعرهم استغلالا قصصيا رائعا جمع في صورة بسيطة عناصر الفن القصصي الأساسية من الإثارة والتشويق وتسلسل الأحداث حتى تصل إلى غايتها الطبيعية المحتومة. وقد رأينا عند حديثنا عن "ظاهرة الوحدة الموضوعية في شعر الصعاليك" أن أكثر مقطوعاته وقصائده تقبل العناوين. ونظرة أخرى إلى هذه العناوين على ضوء هذه الظاهرة الجديدة، ظاهرة القصصية، ترينا أنها في مجموعها عناوين قصصية. وهل "غارة على العوص"، أو "العاشية المذعورة"، أو "احتيال"، أو "نجاة"، أو "فرار" إلا عناوين قصصية؟ وهل بائية السليك1 إلا قصة بطلاها الشاعر وصاحبه، ومسرحها تلك المهامة الرملية التي تصل بين ديارهما وديار أعدائهما في الفصل الأول منها، ثم ديار الأعداء في الفصل الثاني، وزمانها تلك الليلة التي خرجا فيها وذلك الصباح الذي بدأا فيه الصراع بينهما وبين أعدائهما، وحوادثها خروجهما من ديارهما وجزع صاحبه في الطريق، وتشجيع السليك له وبعث الطمأنينة والأمل في نفسه، ثم ذلك الصراع بينهما وبين أعدائهما، ثم تأتي الخاتمة أو الفصل الأخير من القصة بانتصار الصعلوكين واستيلائهما على الإبل ثم عودتهما بها؟ وهل لامية تأبط شرا2 إلا قصة تبدأ بحوار بين صاحبه الشاعر وجاراتها، ثم تتابع أحداث القصة التي تدور بين بطلها وهو الشاعر الصعلوك في ليلة مظلمة حالكة وبين غول قابلها، حتى تصل القصة إلى نهايتها حين يقتل الشاعر الصعلوك هذه الغول ويخلفها   1 بكى صرد لما رأى الحي ... أعرضت مهامه رمل دونهم وسهوب "الأغاني 18/ 136". 2 تقول سليمى لجارتهما ... أرى ثابتا يفنا حوقلا "الشعر والشعراء / 176، وحماسة ابن الشجري / 47". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 صريعة؟ وهل تائية الشنفرى المفضلية -إذا أخرجنا منها مقدمتها الغزلية- إلا قصة غزوة من غزواته مع جماعة من رفاقه يقص فيها استعدادهم للغزوة، ثم خروجهم لها، ومضيهم في طريقهم إليها، ثم تربصهم بأعدائهم، وانتظارهم الفرصة المواتية، وما كانوا يفعلونه في هذه الفترة من الانتظار والتربص، ثم تحقيق أهدافهم التي كانوا يسعون إليها، ثم تعليق من الشاعر على هذه القصة؟ وهل بائية الأعلم1 إلا قصة نفسية دقيقة تبدأ مباشرة بمنظر الشاعر الصعلوك مع صاحب له وهما يفران من أعدائهما الذين يطاردونهما مطاردة عنيفة تستمر حتى ينتصف النهار حين يصل الصعلوكان إلى منطقة الأمان؟ وهي قصة وإن تكن أحداثها قليلة فإن أروع ما فيها ذلك التحليل النفسي الدقيق لنفسية الهارب المذعور والمطارد الطامع في إدراكه، وذلك التصوير النفسي الرائع لخوف الهارب المذعور من الموت وحرصه على الحياة حين يشتد من خلفه الخطر، ثم طمأنينه نفسه بعد نجاته وتذكره تلك "العقد النفسية" التي تدفع به إلى مثل هذه المآزق الخطرة: فقره، وهوان أسرته، وترف الأغنياء من حوله. والقصيدة، أو القصة، من هذه الناحية من الممكن أن تسلك في عداد القصص النفسية التي يعرفها العصر الحديث. وهكذا نستطيع أن نمضي مع مجموعة الشعر داخل دائرة الصعلكة فإذا نحن أمام مجموعة من الأقاصيص يصح أن نطلق عليها كما يفعل القصاص المحدثون "أقاصيص صعلكة" أو "مغامرات الصعاليك" أو "غزوات وقصص أخرى". بل إن الأمر ليتجاوز هذه المجموعة إلى الشعر خارج دائرة الصعلكة، وبخاصة عند الهذليين في رثائهم، فقد اتخذ الهذليون فيه مذهبا قصصيا، عماده حيوان الصحراء الشارد في أرجائها، الممتنع فوق جبالها العالية، يضربون به المثل على أن الموت يدرك كل كائن حي مهما يكن بعده عن مواطن الخطر وامتناعه عليه. والصورة القصصية عندهم دائما حيوان آمن في سربه أو في معقله   1 لما رأيت القوم بالعليا ... ء دون قدى المناصب "شرح أشعار الهذليين 1/ 55-60". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 ثم يتيح له القدر صائدا، تارة يكون إنسانا، وتارة يكون جارحا من الطير، يتربص به حتى إذا أمكنته الفرصة انقض عليه فأورده موارد الهلاك. ولكن من الحق أن نسجل أن هذه الظاهرة ليست مقصورة على صعاليك هذيل، ولكنها ظاهرة عامة عند الشعراء الهذليين، وعند بعض الشعراء الجاهليين أيضا. وهنا نقف عند نص للأصمعي يرويه ابن دريد عن أبي حاتم عنه، يقول فيه: "ويقال إن كثيرا من شعر امرئ القيس لصعاليك كانوا معه"1 لعلنا نصل عن طريقه إلى فكرة قد تكون جديدة في تاريخ الشعر العربي، وقد تخالف ما قد تعارفنا عليه من أن امرأ القيس هو أول من اصطنع القصة في شعره، وأن تاريخ القصة في الشعر العربي يبدأ بامرئ القيس. ولن نقول مع الأصمعي إن كثيرا من شعر امرئ القيس لصعاليك كانوا معه، فتلك دعوى جريئة يعوزها الدليل، ولا تستطيع الوقوف أمام الدراسة الفنية لمجموعة شعره ذات الطابع الفني الواحد، والشخصية الفنية الوحدة، ولكننا نستطيع أن نقول إن هذا النص يشير إلى مسألة فنية مهمة أحسها القدماء وإن ضلوا الطريق إليها، وهي أثر الصعاليك في شعر امرئ القيس. فمن المعروف أن امرأ القيس في بعض فترات شبابه كان يتبع صعاليك العرب2، ومن الطبيعي أن النفس الفنية في هذه السن المبكرة تكون قابلة للتأثر لأن نضجها الفني لم يكن قد اكتمل بعد وإذن فليس من البعيد أن يكون امرؤ القيس قد تأثر من الناحية الفنية بفن هؤلاء الصعاليك وهو يستمع إليهم يقصون أقاصيص مغامراتهم وحياتهم في قصائدهم ومقطوعاتهم، وليس من البعيد أيضا أن يكون امرؤ القيس قد فتنه ذلك الأسلوب القصصي في شعر هؤلاء الصعاليك، فحاول تقليده في شعره، ثم اتخذه مذهبا فنيا له. وإذن فليس امرؤ القيس أو من اصطنع القصة في الشعر العربي بل هم الشعراء الصعاليك، وليس شعر امرئ القيس نقطة البدء في تاريخ القصة الشعرية بل تسبق هذه مرحلة أولى هي مرحلة الشعراء الصعاليك "رواد القصة الشعرية في الأدب العربي". ومن يدري؟ فلعل تلك الألوان القصصية في شعر امرئ القيس التي أشكلت على صاحب هذا الرأي الذي يرويه الأصمعي فخيلت إليه أن جزءا من شعر امرئ القيس من صنع صعاليك كانوا معه.   1 فحولة الشعراء "مخطوطة" ورقة رقم 4. 2 الأغاني 9/ 81. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 7- الواقعية : والظاهرة السابعة التي نلاحظها على شعر الصعاليك هي "الواقعية". وأول مظاهر هذه الواقعية اتخاذهم الحياة بما فيها من خير وشر مادة لموضوعاتهم، وبعدهم عن الإمعان في الخيال إمعانا ينقلهم من عالم الوقع إلى عالم الأوهام بسحبه العالية وأبراجه العاجية. ونظرة إلى موضوعات شعرهم التي عرضنا لها في الفصل السابق ترينا هذا المظهر واضحا جليا، فقد صور الشعراء الصعاليك في فنهم البيئة البدوية التي يعيشون فيها بكل مظاهرها: الصحراء القاسية بشعابها وجبالها وأغوارها، وصخورها ومياهها، وحرها وبردها، ولياليها المظلمة الرهيبة، وحيوانها الشارد في آفاقها، ووحشها الرابض في أرجائها، وحشراتها المتوارية في جحورها والساربة فوق رمالها، وصوروا مظاهر الطبيعية المختلفة كما شاهدوها: طلوع الفجر، وغروب الشمس، والندى المتساقط في أول الليل وفي آخره، والبرق والرعد، والسحاب والمطر، وصوروا الحياة الواقعية التي يحيونها بكل ما فيها من واقع خير وواقع شرير: الكرم والمروءة، والعطف على الفقراء والمرضى والضعفاء، والسلب والنهب وسفك الدماء، وبكل ما فيها من محاسن وعيوب: الشجاعة والبطولة، والقوة والمغامرة، والهرب والفرار، والفقر والجوع والهزال والهوان، وصوروا الشخصيات الإنسانية التي يتصلون بها كما يرونها في الواقع المحسوس بكل ما بينها من تباين واختلاف: الأعداء والأصدقاء، والصعاليك العاملين والصعاليك الخاملين، والنساء المشجعات والنساء المثبطات، والنساء المعجبات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 والنساء المتهكمات، والأغنياء المترفين والصعاليك المعوزين، كل هذه الجوانب من الحياة الواقعية هي الأسس التي قام عليها الشعراء الصعاليك بناءهم الفني. والمظهر الثاني لهذه الواقعية صدق النقل عن الحياة. ومطابقة الصورة للأصل، بحيث لا يشعر الناظر في شعر الصعاليك باختلاف بين الصورة الشعرية وأصلها في الحياة، أو بين ما يراه في شعرهم وما يشاهده في الحياة، حتى ليخيل إليه أنه أمام مجموعة من الصور "الفوتوغرافية". وهل صورة الضباع وجرائها عند الأعلم1. وحمار الوحش وأتنه عند أبي خراش2 إلا صور "فوتوغرافية" سجلتها "عدسات" الصعاليك لهذه النماذج من الطبيعة الحية؟ وهل صورة المرقبة عند الشنفرى3. وصورتها عند أبي خراش4، وصورة الشعب عند تأبط شرا5، وصورة البرق والرعد والسحاب والمطر عند صخر الغي6، إلا صور "فوتوغرافية" سجلتها "عدسات" الصعاليك لهذه الجانب من الطبيعة الصامتة؟ ومن مظاهر هذه الواقعية أيضا استكمال الصورة العامة، فحين ننظر مثلا في صورة حمار الوحش وأتنه عند أبي خراش نلاحظ أنها صورة واقعية كاملة استكملت كل عناصرها. بحيث نشعر بأننا أمام صورة طبيعية منقولة عن الواقع نقلا دقيقا كاملا. فحمار الوحش أقب خميص البطن، عنيف نشيط، وأتنه قد استبان حملها فهي متأبية عليه، والمكان فوق مرتفع من الأرض يشرف منه حمار الوحش على الآفاق خائفا يترقب، والزمان يوم شديد الحر من أيام الصيف الطويلة، ولكن المنظر يتغير حين تؤذن الشمس   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 57، 58. 2 ديوان الهذليين القسم الثاني/ 117-121. 3 ديوانه في الطرائف الأدبية/ 37، 38، وديوانه المصور لوحة رقم 50، 51. 4 ديوان الهذليين القسم الثاني/ 159-161. 5 الأصمعيات/ 35. 6 شرح أشعار الهذليين 1/ 24-45. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 بالمغيب، ويحين موعد أوبة هذه الحمر إلى منازلها، فترى حمار الوحش يترك مرقبته، ويهيج أتنه التي تسرع أمامه مثيرة خلفها حبلا طويلا من الغبار الممتد، فيسرع خلفها وسط هذا الغبار، ولكن الأتن تحس خطرا يتربص بها، ذلك أن صيادا فقيرا رث الحال يحمل سهامه الزرق في انتظارها، فترهف الأتن السمع، حتى إذا ما تأكدت من هذا الخطر أسرعت في قوة وشدة، ويعترض طريقها ماء آجن يكسوه نبات طويل، فتلقي بنفسها فيه، وتفتح ما بين أيديها، وتنطلق سابحة، ولكن الصياد يرسل سهامه، فأما الأتن فتنجو لأنها متقدمة، وأما حمار الوحش فقد كان أقرب إلى الصياد منها، فيخترق فؤاده سهم ضخم عريض النصل. وأظن أننا قد لاحظنا في هذه الصورة -إلى جانب استكمالها لكل عناصرها من الهيئة والمكان والزمان والحالة والفعل والنتيجة- حرصا على التفاصيل واهتماما بالجزيئات، وهو المظهر الرابع من مظاهر هذه الواقعية. فأبو خراش حريص على تسجيل حمل هذه الأتن وحذر حمار الوحش، ثم هذا الحبل من الغبار الذي يخترقه حمار الوحش خلف أتنه، ثم رثاثة حال الصياد، وشدة عدو الأتن بعد إحساسها بالخطر، وحركة أيديها وهي سابحة في الماء، وهذا النبات الطويل الذي يكسو صحفة الماء الآجن، ومركز حمار الوحش بين الأتن والصياد مما يسر إصابته ونجاتها. وحين ننظر في تصوير الأعلم للضباع وجرائها نجد مثلا آخر لهذا المظهر، فالأعلم حريص على التفاصيل حرصا شديدا، معني بالجزئيات عناية قوية، لا ينسى حين يذكر الجراء انتفاخ بطونها، وقصر قوائمها، وسواد جلدها، وقصر آذانها العريضة التي تنبسط حين تقبل على فريستها في نهم فتنتزع جلدها نزع القيون لبطائن الجفون، ولا ينسى حين يذكر الضباع المسنة غلظها، وجواعرها الثماني، بل لا ينسى تلك الشعرات المجتمعة خلف أظلافها، ولا تلك الدوائر التي تشبه الخلاخيل التي تقع فويق هذه الشعرات، والتي يخالف لونها سائر لون الأرجل. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 وهنا نصل إلى مظهر آخر من مظاهر حرص الشعراء الصعاليك على التفاصيل، وهو اهتمامهم "بظاهرة اللون". وقد رأينا الأعلم حريصا على تسجيل سواد الضباع وتلك الدوائر التي يخالف لونها سائر لون الأرجل، كما رأينا في الفصل السابق اهتمام الشعراء الصعاليك بلون القوس. والحق أن الشعراء الصعاليك قد اهتموا بألوان كل أسلحتهم تقريبا، وفرقوا بينها في دقة رائعة تستحق الإعجاب، فالسيف أبيض1، والقدح أحمر، والسهم والنصل أزرقان3، والرمح والترس أسمران4، والقوس إما صفراء وإما حمراء. وإلى جانب هذا نجد الظباء البيض عند حاجز5، والإبل الدهم عند أبي خراش6، والحصان الأشقر عند تأبط شرا7، والخيل الحو والكمت عند قيس بن الحدادية8، ونجد الدم الحالك عند أبي خراش9 والعصابة الحمر   1 الحديث عن بياض السيف كثيرا جدا في شعر الصعاليك، وفي الشعر العربي عامة، وحسبنا أن نشير هنا إلى بعض المواضع التي ورد فيها في شعر الصعاليك "حسام كلون الملح أبيض صارم" "عمرو بن براقة: أمالي القالي 2/ 122". "وطارت بأبيض صارم"، "حسام كلون الملح صاف حديده" "الشنفرى: المفضليات/ 205". "بكفي من المأثور كالملح لونه" "عروة: ديوانه/ 178". "بيض خفاف ذات لون مشهر" "عروة: المصدر السابق/ 84". 2 "أركبها في كل أحمر غاثر" "الشنفرى: ديوانه في الطرائف الأدبية/ 38". 3 "بأزرق لا نكس ولا متعرج" "الشنفرى: المصدر السابق/ 34، وديوانه المصور لوحة رقم 52". "رماح من الخطي زرق نصالها" "أبو خراش: ديوان الهزليين 2/ 124". 4 "وأسمر خطي" "حاجز: الأغاني 12/ 50 بولاق". "سمر القنا" "تأبط: الأغاني 18/ 214" - "وأسمر خطي القناة" "عروة: ديوانه/ 207". "وأسمر مجنا من جلد ثور" "ذو الكلب؛ شرح أشعار الهذليين 1/ 235". 5 "ترى البيض يركض المجاسد بالضحى" "الأغاني 12/ 51 بولاق". 6 "كأجواز المقرنة الدهم" "ديوان الهذليين القسم الثاني / 130". 7 "وأشقر غيداق الجراء" "ديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية / 28". 8 "رميناهم بالحو والكمت" "الأغاني 13/ 5 بولاق". 9 ولا بطلا إذا الكماة تزينوا ... لدى غمرات الموت بالحالك القدم "ديوان الهذليين القسم الثاني / 126". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 الجلود عند حاجز1، والوجوه المشرقة كلون الماء المذهب عند الشنفرى2، والنبت الأخضر في الربيع3، واسوداد أنامل الفقراء في الشتاء4، وسواد معاصم الفقيرات5، والقدر السوداء التي يجتمع حولها الفقراء الجياع6 عند عروة. والمظهر الخامس من مظاهر هذه الواقعية الصراحة في التصوير، وتسجيل الواقع كما هو دون محاولة لإخفائه، أو تغيير حقيقته، وقد رأينا في الفصل السابق أمثلة لهذه الصراحة التي تسجل الواقع كما هو في أحاديث الشعراء الصعاليك عن فرارهم وهربهم وعن فقرهم وجوعهم وهزالهم، وهوان وضعهم الاجتماعي. ولا يجد الشاعر الصعلوك حرجا من أن يتحدث عن فرحته بنعلين أهديتا له كما يفعل أبو خراش7، أو يتحدث عن نعليه الباليتين الممزقتين كما يفعل تأبط شرا والشنفرى وأبو خراش أيضا8، أو عن ثيابه الأخلاق التي "إذا أنجمت من جانب لا تكفف" كما يقول الشنفرى9، أو عن حمله قربة الماء كما يذكر تأبط شرا10. والمظهر السادس لهذه الواقعية الدقة في التعبير، تلك الدقة التي تحدد العبارة تحديدا واضحا لا غموض فيه. فحين يعتذر تأبط شرا عن فراره من أعدائه مخلفا صاحبه لهم يراه يضع   1 ويوم شروم قد تركنا عصابة ... لدى جانب الطرفاء حمراء جلودها "الأغاني 12/ 51 بولاق". 2 سراجين فتيان كأن وجوههم ... مصابيح أو لون من الماء مذهب "ديوان في الطرائف/ 32". 3 "حتى يؤكل النبت أخضرا" "ديوانه / 61". 4 "كريما إذا اسود الأمل أزهرا" "المصدر السابق / 69". 5 "ومن كل سوداء المعاصم تعتري" "المصدر السابق / 71". 6 "وإذ ما يريح الحي صرماء جوفة" "المصدر نفسه / 144". 7 ديوان الهذليين 2/ 140، 141. 8 المفضليات / 17، وديوان الشنفرى "المطبوع" / 35، وديوان الهذليين 2/ 131. 9 ديوانه "المطبوع" / 37، والأغاني 21/ 141. 10 البغدادي: خزانة الأدب 1/ 65، ولسان العرب: مادة "عصم". وقد رجحنا في الفصل الأول من هذا الباب أن هذه الأبيات لتأبط شرا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 المسألة وضعا "حسابيا"، فماذا يفعل وقد نظر فإذا هؤلاء الأعداء أكثر من ثلاثة؟ ولو أنهم كانوا اثنين مثليهما أو حتى ثلاثة ما فر مخلفا صاحبه لهم: تقول تركت صاحبا لك ضائعا ... وجئت إلينا فارقا متباطنا إذا ما تركت صاحبي لثلاثة ... أو اثنين مثلينا فلا أبت آمنا1 وحين يتحدث الشنفرى عن غارته على العوص مع أصحابه نراه يحدد عددهم تحديدا "حسابيا" أيضا، فيذكر أنهم كانوا ثمانية، ويحدد الزمن الذي استغرقه طريقهم حتى وصلوا إلى العوص، ثم يحدد أخيرا عدد من صرعوهم من أعدائهم2. وحين يتحدث عن صديقه تأبط شرا أو "أم العيال" كما يسميه، ويصف جعبة سهامه، يحرص على أن يقدم لنا إحصائية دقيقة عن عدد هذه السهام في ثلاثون سهما عراض النصال3. وإلى جانب هذا "التحديد الحسابي" الذي يستمد دقته من لغة الأرقام نجد صورة أخرى تأتي من "التحديد الجغرافي" الذي يستمد دقته من ذكر المواضع وتحديدها على نحو ما يفعل كتاب الوثائق والعقود!! فحين يصف الشنفرى خروجه مع أصحابه في بعض غزواتهم يحدد مكان خروجهم تحديدا جغرافيا دقيقا، فيذكر أنهم خرجوا من الوادي الذي يقع بين مشعل وبين الجبا4. وحين يهدد بني سلامان، أعداءه الألداء، يحدد المواضع التي سيلاقيهم بها تحديدا جغرافيا دقيقا، ويعددها موضعا موضعا، وهو تحديد يضفي على تهديده لونا من التحدي لهم والاستخفاف بهم؛ لأنه به "يكشف أوراقه"، كما يقال في لغة "اللاعبين"5. وحين يهدد عروة أعداءه من الأوس "يكشف لهم أوراقه" أيضا، فيحدد لهم   1 الأغاني 18/ 213. 2 ديوانه "المطبوع"/ 32. 3 المفضليات/ 204 - وديوانه المصور: لوحة رقم 48 - والأغاني 21/ 140. 4 المصادر السابقة: المفضليات/ 203، والديوان / 48، والأغاني / 139. 5 انظر رائيته في ديوانه المطبوع / 35، 36، وديوانه المصور: لوحة رقم 10. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 الموضع الذي سيلاقيهم به تحديدا دقيقا، فيذكر أنه سيلاقيهم "بمنبطح الأوعال من ذي السلائل"1. وكذلك يفعل الأعلم الهذلي: فلست لحاصن إن لم تروني ... ببطن صريحة ذات النجال وأمي قينة إن لم تروني ... بعورش وسط عرعرها الطول2 وإلى جانب هذا "التحديد الجغرافي" نجد صورة أخرى من صور الدقة في التعبير يصح أن نطلق عليها "التحديد التعبيري"، ونقصد به ذلك التحديد اللفظي الدقيق لمدلول العبارة الذي يأتي من طبيعة اللفظ أو النظم أو من طبيعتهما معا. فحين يصف تأبط شرا الحية يذكر أن خروجها يكون "بُعيد غروب الشمس": أصم قطارى يكون خروجه ... بُعيد غروب الشمس مختلف الرمس3 والدقة هنا تأتي من ذلك التصغير لظرف الزمان، وهو تصغير يحدد الوقت تحديدا دقيقا. وحين يصف غلاما قابله في بعض مغامراته، وكادت الأعجوبة أن تحدث ويسقط تأبط شرا صريع سهم من سهامه، لا يكفي بأن يذكر أنه غلام، ولكنه يحدد طوله وسنه تحديدا طريفا ولكنه دقيق، فهو غلام يزيد طوله على خمسة أشبار، ولكنه لم يبلغ السن التي تشتهيه فيها النساء: غلام نما فوق الخماسي قدره ... ودون الذي قد ترتجيه النواكح4 وحين يصف تلك القلة البارزة التي تشبه سنان الرمح، والتي يسرع إليها مع أصحابه، يحرص على أن يسجل لنفسه سبقه إياهم في الوصول إليها، ولكنه   1 انظر لاميته في ديوانه/ 210. وذو الشلائل فيه تصحيف صوابه ما أثبتناه هنا كما هو وارد في الأغاني 3/ 75، ومعجم البلدان لياقوت 5/ 105. 2 شرح أشعار الهذليين 1/ 237. 3 لسان العرب: مادة "قطر" - القطاري: الحية تأوي إلى قطر الجبل، أو مأخوذ من القطار وهو سمها الذي يقطر من كثرته. 4 الأغاني 18/ 216. وغلام خماسي: طوله خمسة أشبار "انظر القاموس المحيط مادة "خمس". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 في الوقت نفسه حريص على ألا يسيء إليهم، أو أن يكون حديثه عن نفسه طعنا فيهم، فتراه يعتمد على هذا "التحديد التعبيري" فيذكر أنه سبقهم إليها لا لأنهم كسالى، فهم جميعا صعاليك نشطون، ولكن لأنه أسرع منهم: وقلة قنتها صحبي وما كسلوا ... حتى نميت إليها بعد إشراق1 وهي دقة في التعبير يشبهها قوله في القصيدة نفسها حين أراد أن يتحدث عن قوة نفسه وأنه حريص على رفاقه أكثر من حرصه على رفيقاته: ولا أقول إذا ما خلة صرمت ... يا ويح نفسي من شوق وإشفاق لكنما عولي، إن كنت ذا عول ... على بصير يكسب الحمد سباق2 فهو لا يريد أن يسجل على نفسه ضعفا سواء في موقفه من رفيقته أو في موقفه من رفيقه، فحين أحس أنه قد ضعف في مطلع البيت الثاني استدرك وحدد عبارته تحديدا دقيقا أثبت به حرصه على رفيقه، ونفى ما بدا من ضعف في مطلع عبارته، فالدقة هنا تأتي من هذه المقدرة البارعة على النفي والإثبات في موضع واحد. والمظهر السابع من مظاهر هذه الواقعية ظهور الخبرة العملية في فنهم. وهو مظهر يجعلنا نشعر بأننا أمام إنسان يعيش في الواقع العملي لا أمام شاعر يعيش في الخيال والأوهام. وقد رأينا أبا خراش في حديثه عن حمر الوحش يذكر تمنع الأتن الحوامل على الذكر، وهي ظاهرة مقررة عند علماء الحيوان. وحين يصف الأعلم الظليم يذكر من بين أوصافه أنه "زمخري السواعد"3 أي أن عظامه جوف لا مخ فيها، ويذكر شراح شعره أن "النعام جوف   1 المفضليات/ 16، 17، ولسان العرب مادة "ضحا" 19/ 114، ومادة "نعم" 16/ 62 وفيها قلتها، وقبل إشراق. 2 المفضليات/ 11، 13. 3 شرح أشعار الهذليين 1/ 62، وشرح المفضليات لابن الأنباري / 229، لسان العرب مادة "حتت" 2/ 327 ومادة "زمخر" 5/ 148، ومادة "بري" 18/ 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 العظام لا مخ فيها"1، ويقول الجاحظ في حديثه عن النعام "ومن أعاجبيها أنها من عظم عظامها وشدة عدوها لا مخ لها"2، والطريف أن الجاحظ يستشهد على هذا ببيت الأعلم الذي نحن بصدده. وهكذا نرى شعر الصعاليك مصدرا من مصادر دراسة حيوان الصحراء يعتمد عليه الدارسون في تأييد آرائهم. وقد رأينا تأبط شرا حين يصف الحية يذكر أن خروجها يكون "بُعيد غروب الشمس"، وهو تحديد دقيق لوقت خروج الأفاعي من جحورها، تؤيده الخبرة العلمية، وليس غريبا على تأبط شرا أن يذكر ذلك؛ لأنه بحكم طبيعة حياته مضطرا إلى ملاحظة هذه الظواهر، وقد قيل له: "هذه الرجال غلبتها، فكيف لا تنهشك الحيات في سراك؟ فقال: إني لا أسري البردين، يعني أول الليل لأنها تمور خارجة من جحرتها، وآخر الليل تمور مقبلة إليها"3 وهكذا يكون هذا البيت صدى لتجربته العملية التي تصورها هذه العبارة. ومن أدل الأمثلة على هذه الخبرة العملية التي تظهر في شعر الصعاليك أنهم لا يكادون يذكرون الضباع إلا في مجال الحديث عن الموت، وقد رأينا ذلك الفزع الذي كان يسيطر على نفوس بعض الشعراء الصعاليك من أن تُلقى أجسادهم بعد مقاتلهم إلى الضباع، والذي ظهرت آثاره في شعر الأعلم وتأبط شرا، كما رأينا حديث تلك الوليمة التي يعدها الشنفرى للضبع من جسده بعد مقتله. ومن المقرر عند علماء الحيوان أن الضبع "مولعة بنبش القبور لكثرة شهوتها للحوم بني آدم4"، وهذه الحقيقة العلمية المقررة هي التي عرفها تأبط شرا الجاهلي، وظهرت آثارها في شعره، حين وصف الضبع في دقة رائعة بأنها "تفري الدفائنا"5. ومن الطريف أن الجاحظ عند حديثه عن الضباع وولعها بنبش القبور و"فرط طلبها للحوم الناس" يستشهد بأبيات   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 62 ص11، 12. 2 الحيوان 4/ 326. 3 الأغاني 18/ 210. 4 الدميري: حياة الحيوان 2/ 67. 5 الأغاني 18/ 213. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 الشنفرى التي يبشر فيها الضبع بجسده بعد مقتله ولكنه ينسبها لتأبط شرا1، وهو اختلاف لا يضير قضيتنا شيئا فكلا الشاعرين صعلوك. ولعل أكثر الأمثلة على خبرة الشعراء الصعاليك العملية دورانا في شعرهم تلك الموازنات التي يعقدها العداءون منهم بينهم وبين مجموعة حيوان الصحراء المشهور بشدة العدو. فإن اختيار هذه المجموعة دليل على خبرتهم العملية بها وكذلك تلك الأمثال التي يضربها الهذليون بطائفة من حيوان الصحراء الشارد الممتنع عند حديثهم عن الموت، فإن الإلحاح على ذكر أحوال هذا الحيوان وطباعه وخصاله دليل على خبرتهم العملية به. ومهما يكن من أمر هذه الحقائق التي يذكرها الشعراء الصعاليك فليس مما يعنينا هنا مطابقتها أو عدم مطابقتها لما يقرره العلم الحديث الآن؛ إذ ليس من الإنصاف أن نتخذ ما وصل إليه العلم التجريبي الحديث من حقائق علمية مقياسا لما يذكر هؤلاء الشعراء القدماء، وإنما حسبنا أن ما يذكرونه كان صدى صادقا لمشاهدتهم العملية في حياتهم الواقعية، أو لما كان يدور في مجتمعهم من معلومات.   1 الحيوان 6/ 450. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 8- السرعة الفنية : وإذ كانت حياة الشعراء الصعاليك قلقة مضطربة لا تكاد تعرف للاستقرار أو الطمأنينة طعما، فهم دائما مشغولون بكفاحهم من أجل العيش، ذلك الكفاح الدامي المرير الذي فرغوا له فراغا تاما، والذي وهبوا له حياتهم، وجعلوه مذهبا لهم يعيشون له ويموتون في سبيله، وإذ كان شعر الصعاليك صورة صادقة لحياتهم، كانت النتيجة الفنية لهذا أن اتسم شعرهم بالسرعة الفنية، فالعمل الفني عند الشعراء الصعاليك أشبه الأشياء بشوط من أشواط عدوهم، يندفعون فيه ولا يتوقفون حتى يصلوا إلى غايتهم. وليس من البعيد أن تكون هذه السرعة الفنية التي وسمت شعرهم صدى نفسيا لتلك السرعة التي اعتمدت عليها حياتهم، منبعثا من أعماق "اللاشعور". ولست أدري فقد يؤيد هذا ما نلاحظه من أن الصنعة الفنية في شعر عروة أبطأ وأشد أناة وإحكاما منها في شعر صعاليك السراة، ومن المعروف أن عروة لم يكن من العدائين وإنما الصعاليك العداءون -كما رأينا من قبل- هم أولئك الذين كانوا ينزلون منطقة السراة بين مكة واليمن1. وقد رأينا من مظاهر هذه السرعة الفنية انتشار المقطوعات والقصائد القصيرة في شعرهم، وتخلصهم من المقدمات الطللية، ومن التصريع، وهي مظاهر ترجع إلى الشكل العام أو البناء الخارجي للعمل الفني. وحين نمضي إلى داخل البناء الفني لشعر الصعاليك نجد أن أقوى مظاهر هذه السرعة "خفوت الصنعة الفنية" في شعرهم بحيث لا يكاد الناظر فيه يلمح أثرا من آثار التجويد الفني المتمهل الواضح الأناة، وإنما هو حديث سريع يتدفق من نفس الشاعر دون أن يحرص على أن يتمهل هنا أو هناك لينمقه أو يوشيه بتلك الألوان الفنية المختلفة التي يحرص عليها الشعراء المحترفون. والواقع أن حياة الشاعر الصعلوك لم تكن بالتي تتيح له من الفراغ والاطمئنان ما يجعله يتمهل في عمله الفني أو يتأنى فيه. وهل نستطيع مثلا أن نتصور أن السليك وقد مضى للغارة مع صعلوكين التقى بهما في طريقه، ثم مضى وحده ليستكشف لهما خبر نار لاحت لهم، حتى إذا ما بلغها ووجد أن ليس عندها سوى عبيد وإماء يسهل التغلب عليهم، رفع عقيرته متغنيا بهذين البيتين ليعلم صاحبيه أن الفرصة سانحة: يا صاحبي ألا لا حي بالوادي ... إلا عبيد وآم بين أذواد أتنظران قليلا ريث غفلتهم ... أم تعدوان فإن الريح للعادي2 هل نستطيع أن نتصور أن السليك في هذا الجو يستطيع أن يفرغ   1 الباب الأول: الفصل الثاني "التفسير الجغرافي" ص86. 2 ابن قتيبة: الشعر والشعراء / 215. والأغاني 18/ 134. وانظر البيت الثاني في لسان العرب: مادة "روح". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 لفنه مجودا منمقا موشيا؟ أظن أن الشاعر لم يكن يبغي من وراء هذين البيتين سوى أن يسمعهما صاحباه فيفهما عنه ما يريد، فالصنعة الفنية لم تكن هدفا يحرص عليه، وإنما كل حرصه على أن يبلغ صاحبيه هذه الرسالة، أو بتعبير أدق هذه "البرقية" في أسرع وقت حتى لا تفلت منهم الفرصة. ومثل السليك كان أكثر الصعاليك، وخاصة العدائين منهم، لم تتح لهم حياة الكفاح وما تلقيه على كواهلهم من تبعات جسام فراغا لفنهم يجودونه وينمقونه ويخرجونه إخراجا متأنيا متمهلا. ومن هنا نستطيع أن نقول أن الشعر عند الصعاليك لم يكن "حرفة" تقصد لذاتها، ويفرغ صاحبها لتجويدها، والوصول بها إلى المثل الأعلى الذي يستطيع معه أن يدخل حلبة المبارة الفنية ليقول لغيره من الشعراء: هأنذا، وإنما كان الشعر عندهم وسيلة يسجلون بها مفاخرهم، أو ينفسون بها عما تضيق به صدورهم من تلك العقد النفسية" التي تمتلئ بها أعماق نفوسهم، أو يدعون بها إلى مذهبهم في الحياة لعلهم يجدون من يؤمن بها وينضم إليهم، أما أن يرضى عنهم المجتمع الفني الذي يعيشون فيه فهذا أمر لم يكن في حسابهم، فهم يعرفون أنهم يعيشون في مجتمعهم شذاذا متمردين ليس بينهم وبينه إلا صلة الصراع، وهم لهذا يدركون أن مجتمعهم لن يرضى عن فنهم كما لم يرض عنهم، ولن يحرص عليه كما لم يحرص عليهم، ويعرفون أن القبائل لا تحرص إلا على شعرائها، ولا تشغل إلا بهم، ولا تقيم وزنا إلا لهم، ولا تخص بالتقدير والإعجاب إلا شعرهم. وهكذا انصرف الشعراء الصعاليك عن احتراف الشعر، ولو أنهم فكروا في احترافه لاتخذوا منه وسيلة يتكسبون بها كما يتكسب بها غيرهم من الشعراء، ولضمنوا بهذا لأنفسهم حياة هادئة مستقرة مطمئنة كالتي كان يحياها غيرهم من الشعراء المحترفين. ولعل "التشبيه" أقوى الألوان الفنية التي اعتمد عليها الشعراء الصعاليك في شعرهم، وهو لون يتفق تماما مع هذه السرعة الفنية التي لاحظناها؛ إذ إن الصنعة الفنية في التشبيه صنعة سريعة لا تتجاوز عقد موازنة بين أمرين يشتركان في معنى، وهو -من هذه الناحية- غير الاستعارة مثلا التي تعتمد على لون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 من الصنعة الفنية العميقة المتأنية. وفي صنيع القدماء من علماء البلاغة ما يشعر بهذا، فقد جعلوا التشبية المرحلة الأولى التي تبنى عليها الاستعارة، ووجه بنائها على التشبيه -كما يقولون- أن استعارة اللفظ إنما تكون بعد المبالغة في التشبيه، وإدخال المشبة في جنس المشبه به ادعاء. ومن هنا دار بينهم كلام طويل حول جعله بابا مستقلا من أبواب البيان مع أنه مقدمة لها تتوقف عليه، وهل توقف بعض الأبواب على بعض يوجب كون المتوقف عليه مقدمة للفن أو لا يوجب1. ومعنى هذا بتعبير أيسر أن العملية الفنية في التشبيه عملية بسيطة من درجة واحدة، ولكنها في الاستعارة عملية مركبة من درجتين. وعلى كل حال، وبدون الوقوف عند هذه التعليلات العقلية، فالأمر الذي لا شك فيه أن الصنعة الفنية في التشبيه صنعة سريعة لا تحتاج إلى أكثر من وضع الأمرين المراد عقد الموازنة التشبيهية بينهما في معرض واحد حتى يتضح وجه الشبه بينهما. وحين ننظر في شعر الصعاليك لنتين كيف استخدموا هذا اللون الفني في صناعة نماذجهم فإن أول ما نقف عنده تلك العناصر التي استخدموها في تأليف هذا اللون، أو بعبارة أخرى نستأذن أصحاب الرسم في استعارتها منهم "صندوق الأصباغ عند الشعراء الصعاليك". وصندوق الأصباغ عند الشعراء الصعاليك صندوق متعدد العناصر، ولكنها في مجموعها عناصر قاتمة قليلة الإشراق والتألق، مستمدة من تلك البيئة البدوية القاحلة التي يعيشون فيها، ومتأثرة بتلك الحياة الخشنة القاسية التي يحبونها، ومتسمة بتلك الواقعية التي تسيطر على تفكيرهم ومزاجهم. والحق أن هذه العناصر أكثر من أن تحصى؛ لأنها -من ناحية- مستمدة من واقع الحياة بكل ما فيه من مظاهر متعددة، ولأنها -من ناحية أخرى- منتشرة في شعرهم انتشارا واسعا. ولكنا مع ذلك سنحاول أن نردها إلى   1 انطر شروح التخليص عند قول صاحب التخليص في مقدمة علم البيان "ثم منه ما يبنى على التشبيه فتعين التعرض له" 3/ 289 وما بعدها "الطبعة الثانية بمطبعة السعادة بمصر سنة 1343هـ". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 ثلاثة منابع أساسية: عالم الحيوان أولا، والحياة الإنسانية ثانيا، ثم البيئة الطبيعية ثالثا، وهو ترتيب قائم على أساس "الكم"، كما يقول المناطقة. أما المنبع الأول فلعله أغزر المنابع التي اعتمد عليها الشعراء الصعاليك في تشبهاتهم، فقد استغلوا حيوان الصحراء ووحشها وطيرها وحشراتها استغلالا واسعا. ومرد ذلك من غير شك إلى حياتهم القريبة منها نتيجة لتشردهم في مواطنها الأصلية وبيئاتها الأولى. وقد رأينا في الفصل السابق أنهم تعرضوا بالذكر لسبعة وعشرين نوعا منها، وطبيعي أننا لم ندخل في ذلك الإحصاء تلك الأنواع الأليفة التي تعرضوا لها بالذكر كالإبل والخيل والغنم والبقر؛ لأننا كنا بصدد الحديث عن تشردهم. وقد رأينا في الفصل السابق كيف استغل الشعراء الصعاليك الطير وحيوان الصحراء المشهور بالعدو في حديثهم عن شدة عدوهم. وحين ننظر مرة أخرى في هذه الظاهرة الموضوعية في شعر الصعاليك من الزاوية الفنية التي ندرسها الآن نجد أن التشبيه هو أكثر الأساليب شيوعا في هذا الحديث. أما ضواري الصحراء، وجوارح طيرها، وأفاعيها، فأكثر ما يستغلها الشعراء الصعاليك في تشبيه أنفسهم أو رفاقهم أو أعدائهم بها. فالشنفرى سمع أزل لا يبالي بشيء مهما يكن صعبا: أنا السمع الأزل فلا أبالي ... ولو صعبت شناخيب العقاب1 وبنو سلامان أعداؤه الألداء يعرفون بشائر عرامته منذ صغره يوم أن كان يمشي بينهم كالأسد الورد: هم عرفوني ناشئا ذا مخيلة ... أمشي خلال الدار كالأسد الورد2 ويصف تربصه فوق المرقبة العالية المنيعة، وكيف بات على حد ذراعيه "كما ينطوي الأرقش المتقصف"3، أو "الأرقم المتعطف" في رواية   1 ديوانه المطبوع/ 33 - والسمع فيما يرى العرب ولد الذئب من الضبع. 2 المصدر السابق/ 34. 3 الأغاني 21/ 140. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 أخرى1. ويشبه قيس بن الحدادية قومه -في بعض شعره القبلي- بالضراغم، فيقول معيرا أعداءهم بالهزيمة: غداة توليتم وأدبر جمعكم ... وأُبنا بأسراكم كأنا ضراغم2 ويشبه صخر الغي وروده ماء مخوفا على حذر بمشي النمر حين يستقبل ريحا بادرة ندية: وماء وردت على زورة ... كمشي السبنتي يراح الشفيفا3 ورفاق الشنفرى "سراحين فتيان"4، وصاحب أبي خراش "كالسرحان سرحوب"5 وعدو أبي خراش يسقط صريعا كما يسقط نسر أكل لحما مسموما: به ندع الكمي على يديه ... يخر تخاله نسرا قشيبا6 وهي صورة قوية تستمد قوتها من عنصر "الحركة" الذي نتمثله في سقوط النسر صريعا، ذلك السقوط العنيف المفاجئ الذي يمثل لنا سقوط العدو تمثيلا قويا بعد أن عبر عنه الشاعر بتلك اللفظة الموحية المعبرة "يخر". ولكن تأبط شرا يخرج على هذه القاعدة، فيشبه حصان الشنفرى في رثائه له بالعقاب التي تنقض بين ذروتين شامختين: وأشقر غيداق الجراء كأنه ... عقاب تدلى بين نيقين كاسر7 ويستغل الشعراء الصعاليك النحل في صورتين: صورة تعتمد على الصوت، وصورة تعتمد على الهيئة. أما الأولى فهي صورة القوس حين تنطلق منها سهامها   1 ديوانه المطبوع/ 37. 2 الأغاني 13/ 4 "بولاق". 3 شرح أشعار الهذليين 1/ 47، وشرح المفضليات لابن الأنباري / 872، ولسان العرب مادة "روح" 3/ 282، ومادة "زور" 5/ 423، وورد الشطر الثاني فقط في مادة "شفف" 11/ 83. 4 ديوانه في الطرائف الأدبية/ 32، والأغاني 18/ 216. 5 ديوان الهذليين، القسم الثاني/ 161. 6 المصدر السابق/ 135 - القشيب هنا: المسموم. 7 ديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية/ 28، وحماسة الخالديين "مخطوطة" ورقة رقم 417. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 فتحدث حفيفا مبهما غير واضح هو في سمع بعض الشعراء الصعاليك كصوت النحل، وأما الأخرى فهي صورة الجماعات الكثيرة المتزاحمة سواء أكانوا أعداء يطاردونهم، أم وفود المعوزين المحتاجين على أبواب الكرماء. فحفيف النيل في سمع الشنفرى حين ينطلق من قوسه كصوت النحل العائد إلى غاره وقد أخطأ فهو يحوم حوله: كأن حفيف النيل من فوق عجسها ... عوازب نحل أخطأ الغار مطنف1 وأعداء تأبط شرا من خلفه وهم يطاردونه كالنحل الكثير الذي يتجمع في خليته: ولم أنتظر أن يدهموني كأنهم ... ورائي نحل في الخلية واكنا2 وطالبوا الحاجات الذين يغشون باب بعض الكرماء الذين يمدحهم أبو خراش يشبهون النحل الذي يهوي إلى غاره: ترى طالبي الحاجات يغشون بابه ... سراعا كما تهوي إلى أُدمى النحل3 وكما استغل الشنفرى النحل في تصوير حفيف سهامه استغل القطاة في تصوير أفواقها، ففوق سهمه مدور كعرقوب القطاة: عليه نساري على خوط نبعة ... وفوق كعرقوب القطاة مدحرج4 وإذا كان المطاردون عند تأبط شرا كالنحل فإن العدائين عند أبي خراش كأرجال الجراء الذي يقصد إلى الأماكن الغليظة المرتفعة: وعادية تلقي الثياب وزعتها ... كرجل الجراد ينتحي شرف الحزم5 ويستغل الشعراء الصعاليك من الغربان جانبين متناقضين: سوادها الحالك، وصفاء عيونها الشديد. فقطعان السوام عند صخر الغي كجماعات الأغربة في سوادها:   1 الأغاني 21/ 141. 2 الأغاني 18/ 213. 3 ديوان الهذليين 2/ 166 - أدمى: موضع. 4 ديوانه المطبوع/ 34. والمصور: لوحة 52. والأغاني 21/ 141. 5 ديوان الهذليين 2/ 132. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 فأرسلوهن يهتلكن بهم ... شطر سوام كأنها العجد1 أما عيون الماء في ديار أبي الطمحان التي يحن إليها وهو خليع مجاور في مكة فهي في صفائها كعين الغراب: إذا شاء راعيها استقى من وقيعة ... كعين الغراب صفوها لم يكدر2 ويستغل الشعراء الصعاليك السماني استغلالا طريفا، فهم يشبهون بأشلائها نعالم الممزقة، وهي طرافة تأتي من تلك المفارقة الغريبة بين طرفي التشبيه: ونعل كأشلاء السماني تركتها ... على جنب مور كالنحيزة أغبرا3 ونعل كأشلاء السماني تبذتها ... خلاف ندى من آخر الليل أورهم4 ويستغل الشعراء الصعاليك الإبل في تشبياتهم على صورة واسعة، ولكنها لا تصل إلى الدرجة التي نراها في استغلالهم لحيوان الصحراء السريع أو ضواربها. ومرد ذلك -فيما يبدو- إلى قلة اتصالهم بتلك الفصيلة من الحيوان التي هي أول سمات "الرأسمالية" العربية. وقد يؤيد هذا ما نلاحظه من أن أكثر الأوضاع التي يتخيرونها للإبل في تشبيهاتهم تعد من الناحية النفسية أصداء لذلك الحقد الذي كان يملأ نفوسهم عليها، فالصعلوك الخامل المذموم عند عروة: يعين نساء الحي ما يستعنه ... فيمسي طليحا كالبعير المحسر5 والجبل بعد أن غسله المطر وصقله عند صخر الغي كالبعير الأجوب الذي طلى ونتف: فذاك السطاع خلاف النجا ... ء تحسبه ذا طلاء نتيفا6 وحين يسخر أبو خراش من امرأته التي لا تستطيع صبرا على الجوع يذكر   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 13 - والحديث في البيت عن الفرسان والخيل. الاهتلاك: رمي النفس في تهلكة. والعجد: الغربان. 2 الأغاني 11/ 134 "بولاق". والحيوان للجاحظ 3/ 421 - والوقيعة: المكان الصلب يمسك الماء. وفي الأمثال "أصفى عينا من الغراب" "المصدر الأخير/ 421". 3 الشنفرى في ديوانه المطبوع/ 35. وانظر: ص226 من هذا البحث. 4 أبو خراش في ديوان الهذليين 2/ 131. وانظر: ص226 من هذا البحث 5 ديوانه/ 77. 6 شرح أشعار الهذلين 1/ 44 - السطاع: جبل. خلاف النجاء أي بعد المطر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 أن رجوفها كجوف البعير: إذا هي حنت للهوى حن جوفها ... كجوف البعير، قلبها غير ذي عزم1 والقبر عنده في احديدابه ومنظره العالم كالبعير: إذا راحوا سواي وأسلموني ... لخشناء الحجارة كالبعير2 ومع ذلك فلا يخلو الأمر من بعض الصور الطريفة التي أحسن الشعراء الصعاليك اختيار أوضاعها وألوانها، فحين يصف أبو خراش عدوه هو ورفاقه في ليلة ممطرة من ليالي جمادى الباردة، يشبه الغثاء الكثيف الملتف تحت أقدامهم بأوساط الإبل الدهم التي قرن بعضها ببعض: إذا ابتلت الأقدام والتف تحتها ... غثاء كأجواز المقرنة الدهم3 وصوت القوس عند عمرو ذي الكلب كحنين الناقة المسنة المتخلفة عن الإبل الفنية لأنها لا تستطيع مسايرتها: تعج في الكف إذا الرامي اعتزم ... ترنم الشارف في أخرى النعم4 أما الخيل فهي قليلة الدوران في تشبيهات الشعراء الصعاليك لدرجة كبيرة. ويبدو أن السبب في هذا قلة اعتمادهم عليها في حياتهم. ولكن الصور التي وردت -على قلتها- مشرقة زاهية. ولعل أطرف هذه الصور على الإطلاق صورتان: صورة الفجر عند تأبط شرا حين لاح ضوءه كأنه تلك الخطوط البيض في جواد أدهم: وقد لاح ضوء الفجر عرضا كأنه ... بلمحته أقراب أبلق أدهم5 وصورة البرق الذي يلمع بين السحاب الأسود عند عروة كأنه فرس بلقاء حديثة النتاج تنحي برجليها ذكور الخيل عن ولدها فيبدو بياض بطنها: إذا قلت استهل على قديد ... يحور ربابه حور الكسير   1 ديوان الهذليين: القسم الثاني/ 126. 2 المصدر السابق/ 126. 3 المصدر نفسه/ 130. 4 شرح أشعار الهذليين 1/ 240. 5 الأغاني 18/ 215. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 تكشف عائذ بلقاء تنفي ... ذكور الخيل عن ولد، شغور1 ويستغل تأبط شرا جبن الغنم وخوفها في رثائه للشنفرى، فيشبه أعداءه وهو يجيل فيه سلاح الموت بالغنم المذعورة: تجيل سلاح الموت فيهم كأنهم ... لشوكتك الحدى ضئين نوافر2 أما الشنفرى فيستغل أولاد البقر في رسم صورة غريبة، فهو يشبه سيوف رفاقه الصعاليك مشرعة في أيديهم وهي تنهل من دماء أعدائهم وتعل بأولاد البقر الصغار إذا رأت أمهاتها فجعلت تحرك أذنابها: تراها كأذناب الحسيل صوادرا ... وقد نهلت من الدماء وعلت3 وهي صورة تستمد غرابتها من هذه المفارقة بين طرفي التشبيه: أولاد البقر الصغيرة المسألة، وسيوف الصعاليك المخضبة بالدماء. أما المنبع الثاني لأصباغ لون التشبيه عند الشعراء الصعاليك، وهو الحياة الإنسانية، فمن الممكن أن نرده إلى أربعة مظاهر من مظاهر هذه الحياة: الحياة الاجتماعية، والحياة الاقتصادية، والحياة النفسية، والحياة الجسدية. وقد استخدم الشعراء الصعاليك عناصر هذا المنبع الإنساني استخداما طريفا، ولعل أطرف ما فيه أنه يصور كيف كان تأثر هؤلاء الصعاليك بالحياة التي كانت تدور حولهم أو التي كانوا يدورون فيها. فحين يرى صخر الغي السحاب الثقيل وهو مقبل في بطء لا تتراءى أمامه إلا صورة الأسير الذي يساق في قيوده فهو بطيء الخطو متثاقله: وأقبل مرا إلى مجدل ... سياق المقيد يمشي رسيفا4 وهي صورة من الطبيعي أن تترءى لهذا الصعلوك الهذلي الذي كان   1 ديوانه/ 42 - العائذ: الحديثة النتاج. وشغور صفة لعائذ، وهي التي ترفع رجليها. 2 ديوان الشنفرى المطبوع/ 28. وشرح المفضليات/ 199. مع اختلاف في ألفاظ الشطر الأول - الحدى: الحادة، مؤنث أفعل التفضيل. 3 المفضليات/ 205. 4 شرح أشعار الهذليين 1/ 43. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 يعيش قريب من مكة حيث سوق الرقيق يساق إليها الأسرى الذين لا يفتديهم أهلهم حيث يباعون. وحين يفرغ هذا السحاب مطره بعد ما تكاثفت أواخره، ويهدأ ذلك الدوي الذي كانت تثيره رعوده، ويرى الشاعر أن أقرب صورة لهذا المنظر صورة جماعة من النصارى مجتمعين في عيد من أعيادهم يسقي بعضهم بعض، وهم من مرحهم ولهوهم في ضجة وصخب، ولكنهم ينظرون فإذا أمامهم رجل من غير دينهم، فإذا ضجتهم تهدأ، وصخبهم ينقطع، حتى يتبينوا أمر هذا الغريب: كان تواليه بالملا ... نصارى يساقون لاقوا حنيفا1 وهي صورة ترسم في براعة ممتازة جانبا دقيقا من الحياة الدينية في العصر الجاهلي. ومن الطبيعي أن يعرف صخر الغي هذا الجانب معرفة دقيقة، فقد كانت هذيل تنزل في تلك المنطقة التي تقع فيها مكة المركز الديني الأول في جزيرة العرب، والتي تقام فيه أشهر الأسواق التي كان القسس والرهبان يردونها فيعظون ويبشرون، ويذكرون البعث والحساب والجنة والنار. ومن هنا أيضا نستطيع أن نكشف الستار عن تشبيه الأعلم الهذلي لجلود جراء الضباع السود بثياب الرهبان: سود سحاليل كأن ... جلودهن ثياب راهب2 ولكنا مع ذلك نحس شيئا من السخرية الماكرة من هذه التقاليد الكهنوتية في عقد الصلة بين جراء الضباع وبين الرهبان، وهي سخرية ليست غريبة على هؤلاء الصعاليك المتمردين على كثير من تقاليد مجتمعهم. وحين يلمع البرق فإن الصورة التي تتراءى لصخر الغي هي صورة ذلك البشير الذي أقبل بعد غزوة ناجحة وهي يحرك ترسه في كفه ليعلم أصحابه أنه قد عاد غانما:   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 45. وديوان الهذليين القسم الثاني/ 71 - وقد اختلف المفسرون في معنى هذا البيت اختلافا عريضا، ولكني أظن أن هذه الصورة التي رسمتها للبيت هنا هي أقرب الصور إلى معناه. 2 شرح أشعار الهذليين 1/ 57. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 أرقت له مثل لمع البشير ... يقلب بالكف فرضا خفيفا1 وهي صورة -كما نرى- تستمد أصباغها من اللون المشرق من حياة المغامرة التي يحياها هؤلاء الصعاليك، ومن هنا جاءت طرافتها. وحين يرسم أبو الطمحان صورة لشيخوخته، يستخدم لونين من ألوان الحياة الاجتماعية التي عاشها وتركت رواسبها في تفكيره، فالدهر قد حناه حتى صار كالصياد الماكر الذي يحني قامته ليخفي شخصه عن صيد يدنو منه، وهو قد أصبح قريب الخطو متثاقلا كالأسير المقيد: حنتني حانيات الدهر حتى ... كأني خاتل يدنو لصيد قريب الخطو يحسب من رآني ... ولست مقيدا أني بقيد2 وهذان اللونان اللذان استخدمهما أبو الطمحان عاش في جوهما زمنا طويلا، فليس من شك في أن حياته صعلوكا اتصلت بالصيد اتصالا قريبا، وليس من شك أيضا في أن حياته مستجيرا في مكة بعد خلعه جعلته قريبا من تلك الأسواق التي تستقبل الأسرى لتنقلهم من قيود الأسر إلى قيود العبودية. ويستخدم الشعراء الصعاليك ألوان المقامرة كثيرا في رسم صورهم التشبيهية. فالظبي المفزع عند أبي خراش ينطلق مسرعا كما ينطلق القداح المعلم يرسله الضارب بالقداح: يطيح إذا الشعراء صاتت بجنبه ... كما طاح قدح المستفيض الموشم3 وصاحبه في المرقبة يظل متربصا فوقها كأنه قدح كثير الفوز قد جعل صاحبه فيه علامة لشدة اعتزازه به وحرصه عليه: يظل في رأسها كأنه زلم ... من القداح به ضرس وتعقيب4 والصعلوك العامل الذي يمدحه عروة يظل مصدر تهديد لأعدائه مطلا   1 ديوان الهذليين القسم الثاني/ 69، وشرح أشعار الهذليين 1/ 43 وقد آثرت معنى البيت كما ورد في المصدر الأول - والفرض هنا الترس. 2 الأغاني 11/ 130 "بولاق"، والسجستاني: كتاب المعمرين / 63. 3 ديوان الهذليين القسم الثاني/ 146. 4 المصدر السابق/ 161. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 عليهم وهم يزجرونه ما يزجر المقامرون بعض قداحهم الخاسرة إذا ضربوا بها: مطلا على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهر1 ومن أطرف الصور التي نراها عند الشعراء الصعاليك تلك الصور التي استخدموا في رسمها ألوانا من الحياة الاقتصادية. ووجه الطرافة في هذه الصور هو أنها مرسومة بريشة أولئك الصعاليك الفقراء الذين ارتبطت حياتهم بهذه الحياة ارتباطا وثيقا. ولعل أطرف هذه الصور على الإطلاق ثلاث صور يرسمها صخر الغي، يشبه في إحداها أواخر السحب المتراكمة الثقيلة التي يتوالى بعضها في إثر بعض بسفائن أعجمي رست إلى بعض السواحل فأوقرت من صادراته: كأن تواليه بالملا ... سفائن أعجم ما يحن ريفا2 ويتصور في الثانية هذه السحب أيضا وقد حملت من الماء ما أثقلها كأنها مقبلة من تجارة وقد حملت بضائع كثيرة اشتريت بغير حساب: فأقبل من طوال الذري ... كأن عليهن بيعا جزيفا3 ويدعو في الثالثة أصحابه إلى أن يثبتوا في القتال، ويمشوا إلى أعدائهم كما تمشي جمال الحيرة المثقلة بالبضائع التي تحملها من تلك المنطقة التجارية الغنية: يا قوم ليست فيهم غفيرة ... فامشوا كما تمشي جمال الحيرة4 ويستغل الشعراء الصعاليك أيضا بعض مظاهر الحياة النفسية في تشبيهاتهم، على نحو ما رأينا عند الشنفرى الذي يشبه صوت قوسه بصوت الشجي الذي أثقلته همومه وأحزانه:   1 ديوانه/ 78 - المنيح هنا هو القدح الذي لا نصيب له. 2 شرح أشعار الهذليين 1/ 43، وديوان الهذليين القسم الثاني/ 69 - ما يحن أي خالطن. 3 المصدران السابقان: المواضع نفسها. 4 شرح أشعار الهذليين 1/ 33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 وصفراء من نبع أبي ظهيرة ... ترن كإرنان الشجي وتهتف1 وهي صورة نفسية معبرة برغم إيجازها وتركيز ألوانها. ولعل أطرف هذه الصور النفسية في شعر الصعاليك تلك الصورة التي يرسمها عروة لموقف صعاليكه منه بعد أن تعهدهم حتى "أخصبوا وتمولوا" فإذا هم يلتوون عليه ويتنكرون له. وهو يستخدم في رسم هذه الصورة لونا من ألوان الحياة النفسية التي تعرفها الحياة الإنسانية في مختلف عصورها: تلك الأم التي تعهدت وليدها الصغير متحملة في سبيله كل تعب وجهد، حتى إذا تم شبابه، وراحت تنتظره خير، وترتجى نفعه، تزوج فغلبت الزوجة الأم على ابنها، وأخذته منها تاركا أمه العجوز مكبة على حد مرفقيها تشكو وتولول مما نزل بها، وهي حائرة ماذا تفعل، ولكنها لا تملك في النهاية إلا أن ترجع صابرة متجملة. يقول عروة مخاطبا صعاليكه: فإني وإياكم كذي الأم أرهنت ... له ماء عينيها تفدي وتحمل فلما ترجت نفعه وشبابه ... فباتت لحد المرفقين كليهما أتت دونها أخرى جديد تكحل ... توحوح مما نابها وتولول تخير من أمرين ليسا بغبطة ... هو الشكل، إلا أنها قد تجمل2 والصورة هنا صورة نفسية متكاملة الخطوط والألوان، دقيقة التلوين والتظليل إلى حد كبير، ألح الشاعر فيها على المشبه به فجاءت تشبيها تمثيليا رائعا -على حد الاصطلاح البلاغي. وقد يكون طبيعيا أن تتراءى هذه الصورة من الحياة الإنسانية لعروة، وهو الإنسان الذي وهب حياته للعمل من أجل تلك العناصر الضعيفة في مجتمعه، وجعل من نفسه أبا للصعاليك. ويستخدم الشعراء الصعاليك بعض المظاهر الجسدية في رسم صورها التشبيهية. فالمأزق الحرج الذي تسد أمام المرء جميع منافذه حتى لا يعرف له مخرجا منه يشبه تأبط شرا بسد المنخرين. يقول في رثاء الشنفرى:   1 ديوانه المطبوع/ 38. 2 ديوانه/ 117، 118. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وأمر كسد المنخرين اعتليته ... فنفست منه والمنايا حواضر1 وهي صورة -على بساطتها- قوية تستمد قوتها من معرفة كل إنسان بها معرفة عملية وتسليمه بها تسليما تجريبيا لا مجال للتفكير النظري فيه، وهل يختلف اثنان في أن أشد ما يقع فيه إنسان أن تكتم أنفاسه حتى يشعر كأن صدره يوشك أن يتمزق؟ ويشبه أبو خراش اهتزاز ثوبه البالي في أثناء عدوه بانتفاضة الحمى: فعديت شيئا والدريس كأنما ... يزعزعه ورد من الموم مردم2 وهي صورة تستمد قوتها من تلك الدقة في اختيار المشبه به، ومن ذلك القرب بينه وبين المشبه، وهل هناك أقرب إلى اهتزاز الثوب وقد أخذت بصاحبه حمى العدو من انتفاضته وقد أخذت بصاحبه حمى المرض؟ ولا يجد الشنفرى ما يشبه به رهبة الماء المخوف الذي يفتخر بوروده في مغامراته الرهيبة مثل داء البطن الذي يخافه كل الخوف، ويخشاه كل الخشية. يقول مخاطبا صاحبته: وأمر كسد المنخرين اعتليته ... فنفست منه والمنايا حواضر1 وهي صورة -على بساطتها- قوية تستمد قوتها من معرفة كل إنسان بها معرفة عملية وتسليمه بها تسليما تجريبيا لا مجال للتفكير النظري فيه، وهل يختلف اثنان في أن أشد ما يقع فيه إنسان أن تكتم أنفاسه حتى يشعر كأن صدره يوشك أن يتمزق؟ ويشبه أبو خراش اهتزاز ثوبه البالي في أثناء عدوه بانتفاضة الحمى: فعديت شيئا والدريس كأنما ... يزعزعه ورد من الموم مردم2 وهي صورة تستمد قوتها من تلك الدقة في اختيار المشبه به، ومن ذلك القرب بينه وبين المشبه، وهل هناك أقرب إلى اهتزاز الثوب وقد أخذت بصاحبه حمى العدو من انتفاضته وقد أخذت بصاحبه حمى المرض؟ ولا يجد الشنفرى ما يشبه به رهبة الماء المخوف الذي يفتخر بوروده في مغامراته الرهيبة مثل داء البطن الذي يخافه كل الخوف، ويخشاه كل الخشية. يقول مخاطبا صاحبته: وإنك لو تدرين أن رب مشرب ... مخوف كالداء البطن أو هو أخوف وردت بمأثور يمان وضالة ... تخيرتها مما أريش وأرصف3 وهي صورة نستطيع أن نشعر بما فيها من قوة وصدق في الإحساس إذا تذكرنا أن حياة الصعاليك كانت تعتمد أكثر ما تعتمد على سلامة الجسد وقوته وأنهم كانوا يفخرون بأنهم ضامرو البطون مهازيل قد نشرت أضلاعهم، والتصقت أمعاؤهم، لإيثارهم غيرهم على أنفسهم بالزاد، ومن هنا كان أخوف ما يخافه أحدهم أن يصاب بمرض يضعفه، ويقعد به عن تحقيق رسالته في الحياة، وبخاصة أمراض البطن التي يُصاب بها المتخمون النهمون، والتي تعد بالنسبة لهم اتهاما صارخا بالتنكر لهذه الرسالة وخيانتها.   1 ديوان الشنفرى في الطرائف الأدبية/ 28. 2 ديوان الهذليين القسم الثاني/ 144. 3 ديوان المطبوع/ 38. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 أما المنبع الثالث لأصباغ لون التشبيه عند الشعراء الصعاليك، وهو البيئة الطبيعية، فلعله أقل المنابع الثلاثة تدفقا في شعر الصعاليك. ولست أرى سببا لهذا سوى شغل الصعاليك بكفاحهم في الحياة من أجل العيش عن التأمل في الطبيعية، واستغلال مظاهرها في فنهم. وسنرى أن أصباغ هذا المنبع أقل طرافة من أصباغ المنبعين السابقين، وأن الصور الطريفة فيه أقل منها فيهما. فظبات السهام عند عمرو ذي الكلب كشوك شجر السيال1، والربيء الذي يبعثه عروة ليرقب لهم الطريف يقوم فوق المربأة كأنه أصل شجرة لا يبرح موضعه: إذا ما هبطنا منهلا في مخوفة ... بعثنا ربيئا في المرابي كالجذل2 وعيون رفاق تأبط شرا، أولئك الرفاق الأبطال الشعث، كأنها نار الغضا التي تتأجج بما يُلقى عليها من أعشاب الجبال الجافة: مساعرة شعث كأن عيونهم ... حريق الغضا تُلقى عليها الشقائق3 ويتحدث تأبط شرا عن رجل كثير شعر الرأس متلبده لعدم عنايته به، فيشبهه بحقف الرمل الذي كثر صعود الناس عليه حتى أصبح صلبا متماسكا: فذاك همي وغزوى أستغيث به ... إذا استغثت بضافي الرأس نغاق كالحقف حدأة النامون قلت له ... ذو ثلتين وذو بهم وأرباق4 وحين يصف عروة الأسد يشبه زئيره بصوت الرعد، ولكنه يشعر أنه تشبيه عادي مألوف ليست فيه براعة ممتازة، فيحتال بعض الاحتيال ليضفي   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 235 بيت رقم 20 وانظر/ 199 من هذا البحث. 2 ديوانه/ 111. 3 الأغاني 18/ 214. 4 المفضليات/ 15 - النغاق: الذي يصيح في إثر الطرائد. والحقف: المجتمع من الرمل. النامون: الذين يرتفعون إليه ويدوسونه. وحدأة النامون أي داسوه وصلبوه بدوسهم إياه وصعودهم عليه. الثلة: القطعة من الغنم. والبهم: أولاد الشاء. والأرباق: جمع ربق وهو حبل يجعل منه مثل الحلق تشد فيه البهم. ويقال في شرح البيتين أيضا إنه يصف بهما فرسه. وعلى كلا المعنيين فالفكرة التي نقررها هنا واحدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 عليه شيئا من الغرابة والبراعة فيقلبه، فإذا صوت الرعد كأنه زئير الأسد: كأن خوات الرعد رز زئيره ... من اللاء يسكن الغريف بعثرا1 ولعل أطرف الصور التي رسمها الشعراء الصعاليك مستخدمين أصباغ هذا المنبع تلك الصورة التي رسمها الشنفرى لصاحبته في قصيدته التائية المشهورة، وهي صورة حشد لها الشنفرى مجموعة من الألوان المتناسقة الزاهية، وأجاد مزجها وعرضها إجادة رائعة، فصاحبته طيبة الرائحة تملأ البيت عطرا، كأن البيت أغلق على ريحانة مطلولة، سرت إليها نسمات باردة في وقت العشاء، فجاءت بأريجها المعطر، وهذه الريحانة نبتت في ربوة فهي لهذا قوية الرائحة، ثم هي ريحانة ناضجة قد خرج نورها، وانتشر عطرها في كل جانب، ثم هي فوق ذلك كله في بقعة خصبة كل ما حولها خصب غير مجدب: فبتنا كأن البيت حجر فوقنا ... بريحانه ريحت عشاء وطلت بريحانه من بطن حلية نورت ... لها أرج، ما حولها غير مسنت2 على هذا النحو استغل الشعراء الصعاليك هذه المنابع الثلاثة في تأليف أصباغهم التي استخدموها في رسم لوحاتهم التشبيهية.   1 ديوانه/ 56. 2 المفضليات/ 202 - ريحت: أصابتها ريح فجاءت بنسيمها. وطلت: أصابها الطل. والمسنت: المجدب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 9- آثار من الصنعة المتأنية : إذا كان لون التشبيه هو أقوى الألوان التي اعتمد عليها الشعراء الصعاليك في صنعتهم الفنية، وإذا كان هذا اللون يتفق والسرعة الفنية في شعرهم، فإننا لا نعدم في شعر الصعاليك آثارا من الصنعة الفنية المتمهلة المتأنية. ولننظر في هذه القطعة من شعر تأبط شرا التي سجل فيها نجاته من لحيان الذي حاصروه وهو في غار لهم يشتار عسلا، وهي قطعة يبدو أن الشاعر قد فرغ فيها لصنعته الفنية متمهلا متأنيا، والدليل الفني على هذا أنه يبدؤها1 أو يختمها2 بأبيات من الحكمة بيدو عليها أثر التفكير العقلي الهادئ الذي وعى التجربة ثم فلسفتها، أما الدليل الواقعي فواضح من أن الشاعر قد نظم هذه القطعة بعد أن نجا من أعدائه، وعاد إلى قومه، واطمأنت نفسه، ثم فرغ لفنه يسجل فيه قصته وفلسفته لها. فحين ننظر في هذه القطعة نلاحظ أن الشاعر يستخدم في البيت الأول3 لونا من ألوان المقابلة المعنوية الدقيقة الصنعة بين قوله "وقد جد جده" وقوله "وهو مدبر" إذ أن التعبير الأول يساوي قوله "وهو مقبل" أو -كما يقول البلاغيون في تعبيراتهم إن الجد في الأمر مسبب عن الإقبال عليه. ثم انظر إلى هذه الألوان الفنية الكثيرة التي حشدها الشاعر في هذه الأبيات الثلاثة المتتالية: فذاك قريع الدهر ما عاش حول ... إذا سد منه منخر جاش منخر أقول للحيان وقد صفرت لهم ... وطابي، ويومي ضيق الجحر معور هما خطتا إما إسار ومنة ... وإما دم، والقتل بالحر أجدر انظر كيف جسم الدهر فجعله جبارا لا يزال يقرع المرء بنوائبه حتى يصيره مجربا بصيرا حازما، وكيف مثل براعة المرء في الاحتيال إذا أخذ عليه طريق نفذ إلى آخر بتلك الصورة الحسية، صورة المرء "إذا سد منه منخر جاش منخر" وكيف مثل إشراقه على الهلاك بفراغ وطابه، وكيف جعل يومه الحرج ضيق الجحر معورا، ثم كيف ختم هذه الألوان الفنية المحتشدة بهذا التذييل الذي يجري مجرى المثل، كما يقول البلاغيون في اصطلاحاتهم في باب الإطناب. ثم يمضي الشاعر في أبياته مستخدما لون المطابقة مرة أخرى بين "مورد ومصدر"، ولكنها مطابقة لفظية مألوفة في الأساليب الجاهلية   1 في رواية الحماسة 1/ 38. 2 في رواية الأغاني 18/ 215. 3 فضلنا ترتيب الحماسة على ترتيب الأغاني لأنه أقرب إلى طبيعة فكرة القصيدة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 حتى لتوشك أن تكون روسما1 يطبعه الشاعر في كل مناسبة يحتاج فيها إليه. ولكنه يعود إلى صنعته الفنية الدقيقة فإذا هو يفرش صدره لخطته التي استقر عليها، وإذا الموت ينظر إليه خزيان من عجزه عنه، وإذا القبائل التي يفارقها تصفر أسفا على إفلاته منها. وهكذا يفرغ الشاعر من رسم لوحته التي استخدم في تلوينها أكثر ما استخدم ذلك اللون العميق من ألوان الصنعة الفنية المتمهلة المتأنية، وهو الاستعارة. وهذه الآثار من الصنعة الفنية المتمهلة المتأنية تتردد من حين إلى حين في نماذج شعر الصعاليك. فالمنية في ذهن أبي الطمحان ناقة يسوقها إلى الإنسان دليل بارع لا يضل، ولكن أبا الطمحان لا يرسم لوحته بهذه الألوان الواضحة، وإنما يعتمد على "التظليل" في إخفاء بعض جوانبها إخفاء فنيا رائعا، فإذا المشبه به قد أخفي وراء هذه الظلال الفنية الجميلة، ولكن الشاعر يشير إليه ببعض خصائصه، أو -كما يقول البلاغيون- "بشيء من لوازمه" وإذا اللوحة التي يرسمها لفكرته تعتمد على الظل أكثر مما تعتمد على النور -كما يقول أصحاب الرسم- أو تعتمد على الاستعارة المكنية -كما يقول أصحاب البلاغة: لو كنت في ريمان تحرس بابه ... أراجيل أحبوش وأغضف آلف إذن لأتتني حيث كنت منيتي ... يخب بها هاد بأمري قائف2 وصديق تأبط شرا إذا هز سيفه في عظام أعدائه ضحك الموت سرورا بما حصل عليه من أرواح، حتى لتبرق أسنانه من شدة ضحكه: إذا هزه في عظم قرن تهلك ... نواجذ أفواه المنايا الضواحك3 والعملية الفنية هنا عملية مركبة معقدة تقوم على استعارتين: استعارة في "تهلك" تقوم على تشبيه بريق الأسنان عند الضحك بلمعان البرق، واستعارة   1 الروسم: الطابع يطبع به "انظر القاموس المحيط: مادة -رسم-". 2 الأغاني 11/ 132 "بولاق". 3 حماسة أبي تمام 1/ 49. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 في "المنايا" تقوم على تشبيهها بإنسان يضحك. وأحكام الإسلام وقيوده عند أبي خراش سلاسل تطوق رقاب الصعاليك الذين أسلموا، ولكن أبا خراش يريد أن يكون مهذبا في تعبيره، فيخفي لفظة الإسلام وراء ظلاله الفنية، ويركز الضوء على المشبه به وهي السلاسل على طريقة الاستعارة التصريحية التي يرشح لها ببعض خصائص المشبه به وهي الإحاطة بالرقاب: فليس كعهد الداريا أم مالك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسل1 ولكن هذه الصنعة الفنية المتمهلة المتأنية -برغم قوة أنغامها ورنين أصدائها- قليلة لا تكفي لتكوين مذهب فني خاص نبيح لأنفسنا أن نجعله من خصائص شعر الصعاليك. وإلى جانب هذه الصنعة الفنية العميقة الدقيقة نجد آثارا ضئيلة لصنعة فنية بسيطة زاهية، هي بعض الألوان البديعية. وقد رأينا أمثلة من الطباق في رائية تأبط شرا التي عرضنا لها منذ قليل، وحين ننظر في سائر شعره نجد أمثلة أخرى، ففي قوله: قليل التشكي للمهم يصيبه ... كثير الهوى شتى النوى والمسالك2 نجد طباقا لفظيا ساذجا بين "قليل" و"كثير". وفي قوله من القصيدة نفسها: يرى الوحشة الأنس الأنيس ويهتدي ... بحيث اهتدت أم النجوم الشوابك3 نجد طباقا لفظيا آخر بين "الوحشة" و"الأنس". وفي قول أبي الطمحان: نمت بك من بني شمخ زياد ... لها ما شئت من فرع وأصل4   1 ديوان الهذليين القسم الثاني/ 150. 2 حماسة أبي تمام 1/ 47. 3 المصدر السابق/ 49. 4 الجاحظ: الحيوان 1/ 380. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 نجد ذلك الطباق اللفظي الذي تبدو عليه الصبغة العقلية بين "فرع" و"أصل". وفي تائية الشنفرى المشهورة نجد أمثلة أخرى من الطباق، مثل "دقت" و"جلت"1، و"حلو" و"مر"2. وليس الطباق هو اللون الطبيعي الوحيد في شعر الصعاليك، بل هناك ألوان أخرى كالجناس الذي نرى مثلا منه في بيت تأبط شرا السابق "قليل التشكي" بين "الهوى" و"النوى" وبين قافية هذا البيت وقافية البيت الذي يليه، "المسالك" و"المهالك"، وبين "نحيضا" و"نحيفا" في قول الأعلم: وقدح يخور خوار الغزا ... ل ركبت فيه نحيضا نحيفا3 كما نرى أمثلة أخرى في قوافي لامية أبي خراش حيث تتتابع أبياتها الأولى هكذا: قليل. جليل، جميل، عقيل، مقيل، ثقيل4، مؤلفة أمثلة متتابعة من الجناس اللفظي الناقص، بين قوافي البيتين الأول والثاني، ثم الثاني والثالث، ثم الرابع والخامس والسادس. كما نرى أمثلة غيرها في شعر أبي خراش أيضا بين "العقم" و"الرقم" وبين "جاجة" و"عاجة" في بيتين متتاليين من ميمية له5. كما نلاحظ مثلا من جناس الاشتقاق في قول الأعلم يصف الرعد: أجش ربحلا له هيدب ... يكشف للخال ريطا كشيفا6 والشيء الذي لا شك فيه هو أن أكثر هذه الألوان البديعية لم يقصد إليها الشعراء الصعاليك قصدا، وإنما جاءت عفوا في أثناء تعبيراتهم؛ إذ إن هذه الألوان التي تعتمد على نوع من التلاعب اللفظي لم تكن بالألوان الفنية التي يحرص عليها الشعراء الجاهليون، أو التي يقصدون إليها قصدا متعمدا، أو التي يتخذون منها أسسا لمذاهبهم الفنية.   1 البيت 12 من القصيدة في المفضليات / 202. 2 البيت 33 من القصيدة في المصدر نفسه / 207. 3 شرح أشعار الهذليين 1/ 49 - النحيض هنا: السنان الرقيق، من نحض السنان إذا رققه. 4 ديوان الهذليين القسم الثاني/ 116، 117. 5 ديوان الهذليين القسم الثاني/ 129. 6 شرح أشعار الهذليين 1/ 42 - الربحل: الضخم الطويل. والخال هنا: السحاب لا يخلف مطره أو البرق. والريط: جمع ريطة وهي الملاءة من نسج واحد وقطعة واحدة، أو كل ثوب لين رقيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 10- الخصائص اللغوية : حين ننظر في مجموعة شعر الصعاليك لنتبين خصائصها اللغوية فإن أول ما نلاحظه على لغتهم أنها هي اللغة الأدبية التي عرفها العصر الجاهلي بكل ما نعرفه عن هذه اللغة من خصائص، وهذه ظاهرة طبيعية ليس من الصعب تعليلها، فإن الشعراء الصعاليك، مهما يبلغ بهم الأمر في الخروج على تقاليد مجتمعهم الأدبي من ناحية موضوعات شعرهم، أو معانيه، أو خصائصه الفنية، فما هم بقادرين على الخروج عليه من ناحية لغتهم؛ لأن هذا الجانب اللغوي هو العامل المشترك بينهم وبينه، والوسيلة الأساسية للتفاهم بينهم وبين أفراده، أو -بعبارة أخرى- هو "العملة" التي اتفق المجتمع الأدبي على أنها أساس التبادل الفكري بين أفراده جميعا سواء منهم المتوافقون معه أو الخارجون عليه، وبدون هذه "العملة" يصبح عمل الشعراء الصعاليك الفني عملا "مزيفا" لا يصلح للتداول، أما تلك الجوانب الأخرى من العمل الفني: الموضوعات والمعاني والخصائص الفنية فإنها الجوانب الشخصية فيه التي يستطيع كلٌّ أن يتصرف فيها كما يشاء. ولكن يبدو أننا يجب أن نقيد هذا الكلام قليلا، فإن للمسألة جانبا آخر يجب ألا نغفله، فنحن نعرف أن الشعراء الصعاليك قد خرجوا على مجتمعهم القبلي، وانطلقوا إلى أعماق الصحراء النائية مشردين. ومعنى هذا أن صلة الشعراء الصعاليك بالمجتمع الأدبي من حولهم لم تكن صلة دائمة مستمرة، أو -بعبارة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 أخرى- أن المجتمع الأدبي من حولهم لم يكن على صلة دائمة مستمرة بهم. ونتيجة هذا من الناحية اللغوية أمران: الأول أن لغة الشعراء الصعاليك أقرب إلى فطرة اللغة العربية، وأصدق تمثيلا لها؛ إذ هي صادرة من منابعها الأولى قبل أن تؤثر فيها تلك التيارات الاجتماعية وغير الاجتماعية التي تؤثر في اللغات. ولسنا ندعي أن لغة سائر الشعراء الجاهليين لا تمثل فطرة اللغة العربية، ولكن الذي نقرره هو أن لغة الشعراء الصعاليك أقرب إلى فطرة اللغة العربية، وأصدق تمثيلا لها من سائر الشعراء الجاهليين. ولعل هذا هو السبب في كثرة ما يرد من شعر الصعاليك في المعاجم اللغوية، واعتماد أصحاب هذه المعاجم عليه في تكوين مادتهم اللغوية، وفي لسان العرب وتاج العروس مجموعة كبيرة من أبيات الشعراء الصعاليك، وقد رأينا أن المجموعة اللغوية تعد من المصادر الأساسية لشعر الصعاليك، أو -بعبارة أخرى- أن شعر الصعاليك من المصادر الأساسية للمجموعة اللغوية. والأمر الثاني كثرة الغريب في شعرهم، حتى ليشعر الناظر فيه أحيانا أنه أمام مجموعة من الطلاسم اللفظية، يضطر أمام كل لفظ منها إلى الرجوع إلى المعاجم المطولة؛ لأن المعاجم المختصرة لا تسعفه، ويكفي أن نقرأ هذه الأبيات لتأبط شرا: وحثحثت مشعوف النجاء كأنني ... هجف رأى قصرا وسمالا وداجنا من الحص هزروف كأن عفاءه ... إذا استدرج الفيفا ومد المغابنا أزج زلوج هذرفي زفازف ... هزف يبذ الناجيات الصوافنا1 أو هذين البيتين له أيضا: وشعب كشل الثوب شكس طريقه ... مجامع صوحيه نطاق محاصر به من سيول الصيف بيض أقرها ... جبار لصم الصخر فيه قراقر2   1 الأغاني 18/ 213 وانظر ص221 من هذا البحث. 2 الأصمعيات / 35. والبيت الثاني في لسان العرب مادة "جبر" وفي "به من نجاء الصيف" وانظر: ص242 من هذا البحث. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 أو هذه الأبيات للأعلم: فشايع وسط ذودك مستقنا ... لتحسب سيدا ضبعا تنول عشنزرة جواعرها ثمان ... فويق زماعها خدم حجول تراها الضبع أعظمهن رأسا ... جراهمة لها حرة وثيل1 أو هذه الأبيات لأبي الطمحان: فأصبحن قدأقهين عني كما أبت ... حياض الإمدان الهجان القوامح2 أو هذا البيت لحاجز: خضاخضة بخضيع السيو ... ل قد بلغ الماء حذفارها3 أو هذا البيت للأعلم: والحنطئ الحنطي يمـ ... ـثج بالعظيمة والرغائب4 يكفي أن نقرأ هذه الأبيات، وأمثالها كثير في شعر الصعاليك، لتبدو لنا هذه الغرابة اللفظية التي انبعثت من أعماق الصحراء حيث كان يعيش هؤلاء الصعاليك مشردين. والحق أن هذه الغرابة قد شعر بها رواة شعر الصعاليك وشراحه، كما شعر بها اللغويون أيضا، فصرحوا بأنهم لا يعرفون طائفة من ألفاظه، أو بأنها لم ترد إلا فيه، أو بأنها ألفاظ نادرة. ويصرح الأصمعي بأنه لا يعرف "سحاليل" في قول الأعلم يصف جراء الضباع: سود سحاليل كأن ... جلودهن ثياب راهب5 ويذكر السكري عند تفسيره لقول صخر الغي:   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 63، 64. ولسان العرب: مادة "قتن" ومادة "جعر" ومادة "عشزر". 2 لسان العرب: مادة "قها". 3 ابن دريد: جمهرة اللغة 1/ 140. 4 شرح أشعار الهذليين 1/ 59. ولسان العرب مادة "حنطأ" وفيه "يمنح" مكان "يمثج". 5 شرح أشعار الهذليين 1/ 57. وديوان الهذليين القسم الثاني/ 80. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 فلا تقعدن على زخة ... وتضمر في القلب وجدا وخيفا أنه لم يسمع "زخة" في شيء من كلام العرب ولا في أشعارها إلا في هذا البيت1، وكذلك يذكر الأصمعي عن هذه الكلمة2. ويروي صاحب لسان العرب أن "الخيعابة" بمعنى الرديء لم يسمع إلا في قول تأبط شرا: ولا خرع خيعابة ذي غوائل ... هيام كجفر الأبطح المتهيل3 ويذكر الأزهري أن "المكدل" بمعنى المكدر قد أهمله الليث، ثم يقول "ووجدت أنا فيه بيتا لتأبط شرا"4. ويذكر ابن سيده أنه يقال رجل ترعية لمن صناعته آبائه الرعاية، أما تِرعي بغير هاء فإنه نادر، وقد ورد في قول تأبط شرا: ولست بترعي طويل عشاوه ... يؤنفها مستأنف النبت مبهل5 ومن الأدلة على هذه الغرابة أيضا اختلاف اللغويين حول معاني بعض الألفاظ، فقد اختلفوا مثلا حول معنى "المسترعل" في قول تأبط شرا: متى تبغني ما دمت حيا مسلما ... تجدني مع المسترعل المتعبهل فقالوا إنه الذي ينهض في الرعيل الأول، وقيل هو الخارج في الرعيل، وقيل هو قائد الفرسان كأنه يستحثها، وفسره ابن الإعرابي بأنه ذو الإبل، ولكن ابن سيده يذكر أن هذا التفسير ليس بجيد6. وقد اختلفوا أيضا في معنى لفظة "زخة" التي وردت في بيت صخر الغي السابق، فالسكري والأصمعي يذكران أنها الغيظ7، واللحياني فيما يرويه   1 شرح أشعار الهذليين 1/ 46. 2 ديوان الهذليين القسم الثاني/ 74. 3 لسان العرب: مادة "خعب". 4 لسان العرب: مادة "كدل". 5 لسان العرب: مادة "رعي". 6 لسان العرب: مادة "رعل". 7 شرح أشعار الهذليين 1/ 46. وديوان الهذليين 2/ 74. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 صاحب الأمالي يذكر أنها الدفعة1. ويذكر صاحب اللسان في قول تأبط شرا: ولا حوفل خطارة حول بيته ... إذا العرس آوى بينها كل خوتل "قيل في تفسيره: الخوتل الظريف، ويجوز عندي أن يكون من الختل الذي هو الخديعة بنى منه فوعلا"2، وعبارة صاحب اللسان الأخيرة تشعر بأن هذه الكلمة قد تكون من اشتقاق تأبط شرا. ولعل عروة بن الورد أقل الشعراء الصعاليك إغرابا من الناحية اللغوية. ولعل سبب هذا أن عروة كان يقوم في حركة الصعلكة بدور الزعيم الشعبي، أو صاحب المذهب الذي يدعو الجماهير إلى اعتناق مذهبه، فكان طبيعيا أن يتبسط في الحديث إلى جماهيره باللغة التي يألفونها، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لم يكن عروة بالصعلوك الذي اعتزل مجتمعه، وعاش بين حيوان الصحراء ووحشها، كما كان يفعل غيره من الصعاليك، وإنما كان إنسانا بكل ما في الإنسانية من معان، يحرص على الاتصال بمجتمعه الإنساني والعمل من أجله، ومن هنا خلصت لغته من تلك الحوشية البدوية التي نلاحظها عند غيره من شعراء الصعاليك، وبخاصة تأبط شرا والشنفرى.   1 القالي: الأمالي 1/ 212، 213. 2 لسان العرب: مادة "ختل". الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 11- ظواهر عروضية : إذا نظرنا بعد ذلك في مجموعة شعر الصعاليك لنتبين خصائصها العروضية فإننا نلاحظ أن الأوزان التي صاغ فيها الشعراء الصعاليك شعرهم هي الأوزان نفسها التي عرفها سائر الشعراء الجاهليين: الطويل، والبسيط، والوافر، والكامل، والمتقارب، وأمثال هذه البحور التي ترددت فيها أنغام الشعر لجاهلي. كما نلاحظ في شعرهم الذي جاء من بحر الطويل ذلك الزحاف الشائع في الشعر الجاهلي في هذا البحر، وهو حذف ياء "مفاعيلن" ونون "فعولن" وتحول التفعيلة إلى "مفاعلن" و"فعول" وهو ما يسميه العروضيون "القبض"، وذلك قول تأبط شرا: تقول تركت صاحبا لك ضائعا ... وجئت إلينا فارقا متباطنا إذا ما تركت صاحبي لثلاثة ... أو اثنين مثلينا فلا أبت آمنا1 ومثل قول الشنفرى: فواكبدا على أميمة بعدما ... طمعت فهبها نعمة العيش زلت2 ومثل قول الأعلم: أحبشي إنا قد يمتعنا الغنى ... بأموالنا نريحها ونسيمها ونحبسها على العظائم نتقي ... بها دعوة الداعين، إنا نقيمها إذا النفساء لم تخرس ببكرها ... غلاما ولم يسكت بحتر فطيمها3 ومثل قول أبي خراش: كأن النضي بعدما طاش مارقا ... وراء يديه بالخلاء طميل4 والأمثلة على هذه الظاهرة العروضية أكثر من أن تعد، فهي متنشرة في شعرهم انتشارا واسعا، ويكفي أن ننظر مثلا في تائية الشنفرى المفضلية لنتبين مدى هذا الانتشار، فيما عدا أبياتا قليلة منها تنتشر هذه الظاهرة في كل بيت من أبياتها. كما نلاحظ أيضا انتشار تلك العلة الجارية مجرى الزحاف التي تنتشر أيضا في سائر الشعر الجاهلي. وهي إسقاط أول الوتد المجموع من "فعولن"   1 الأغاني 18/ 213. 2 المفضليات/ 200. 3 شرح أشعار الهذليين 1/ 67. وانظر ص240 من هذا البحث. 4 ديوان الهذليين 2/ 121 - النضي: السهم بلا نصل ولا ريش. والطميل: السهم لطخه الدم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 في أول القصيدة أو المقطوعة فتتحول إلى "فعلن"، وهو ما يسميه العروضيون "الخرم". وذلك مثل قول حاجز: إن تذكروا يوم القرى فإنه ... بواء بأيام كثير عديدها1 وقول أبي الطمحان: لو كنت في ريمان تحرس بابه ... أراجيل أحبوش وأغضف آلف2 وقول الشنفرى: لا تقبروني إن قبري محرم ... عليكم ولكن أبشري أم عامر3 وهي ظاهرة منتشرة أيضا في شعر الصعاليك انتشارها في سائر الشعر الجاهلي. ولكن هناك ظاهرة عروضية تلفت النظر في شعر الصعاليك وتستحق التسجيل، وهي انتشار الرجز قبيل مصارعهم، ولعل السبب في هذا سهولة هذا الوزن، واتفاقه مع حركات القتال. وقد لقي كثير من الصعاليك مصارعهم في أثناء قتالهم مع أعدائهم، وسقطوا في أثناء هذا القتال شهداء الفكرة التي عاشوا من أجلها. وحين ننظر في شعر الصعاليك الذي قالوه قبيل مصارعهم نجد أن كثيرا منه كان رجزا. فقيس بن الحدادية يقاتل أعداءه وهو يرتجز حتى يُقتل4، والشنفرى في ساعته الأخيرة حين يضرب أعداؤه يده فيقطعونها يرثيها رجزا5، وصخر الغي حين يحيط به أعداؤه في ساعته الأخيرة يرتجز حاثا أصحابه على الثبات معه وعدم الفرار حتى لتبلغ أراجيزه في الفترة الحرجة من حياته خمسا6.   1 الأغاني 12/ 51 "بولاق" - البواء: السواء والكفء، من باء دمه بدمه إذا عدله. 2 الأغاني 11 / 132 "بولاق". 3 الأغاني 21/ 136. 4 الأغاني 13/ 8 "بولاق". 5 الأغاني 21/ 143. وشرح ابن الأنباري على المفضليات / 199. 6 شرح أشعار الهذليين 1/ 31-33. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 ومع ذلك فلعمرو ذي الكلب1 أرجوزة طويلة يقص فيها قصة طريفة، هي غارة ذئب فاتك على غنمه، ورميه بسهم من سهامه يلقيه صريعا وقد اختضب بعضه من بعض بدم، كما يقول في نهايتها2. ولعلها رمز لذلك الصراع الدامي بين طبقة الصعاليك المظلومة وطبقة الرأسمالية الظالمة، وانتصار الصعاليك في النهاية في هذا الصراع.   1 وتروى لأبي خراش، وتروى لرجل من هذيل غير مسمى "شرح أشعار الهذليين 1/ 239". 2 شرح أشعار الهذليين 1/ 239، 240. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 الفصل الرابع: شخصيتان متميزتان 1- تشابه وتميز : رأينا في صعاليك العرب سلكوا جميعا أسلوبا واحدا في الحياة، آمنوا بأنه الأسلوب الوحيد الذي يستطيعون به أن يرفعوا عن كواهلهم ما وضعته فوقها ظروف مجتمعهم الجغرافية، وتقاليده الاجتماعية، وأوضاعه الاقتصادية، من ضيم وهوان، وهو ذلك الأسلوب الذي جعلنا شعاره "الغزو والإغارة للسلب والنهب". ورأينا أن صعاليك العرب جميعا، سواء منهم الخلعاء أو الأغربة أو الفقراء المتمردون، قد تخلصوا من فكرة "العصبية القبلية" وشقوا طريقهم في الحياة دون تقيد بقبائلهم، أو رجوع إليها، أو حرص على رضاها، حتى أولئك الذين ظلوا على صلة بقبائلهم، أو -بتعبير أدق- بمنازل قبائلهم، لم تكن حركاتهم مرتبطة بالحياة الاجتماعية العامة في قبائلهم. ورأينا أن مرد هذا إحساس هؤلاء الصعاليك بأنهم مهضمون الحق، مستضعفون في الأرض، وما نشأ عن هذا الإحساس بالضعة، وعن هذه الرغبة في التسامي، من "مركب نفسي"، اتجه بهم إلى التمرد. وليس من الطبيعي أن تكون كل شخصيات صعاليك العرب قد فنيت في هذه "العصبية المذهبية" التي استعاضوا بها عن "العصبية القبلية"، وإنما الطبيعي أنه برغم هذا التشابه في جماعات الصعاليك، يوجد تميز بين شخصياتهم، فقد رأينا أن أساس حركة الصعلكة قوة النفس، وأن قوامه مقدرة الفرد على الوقوف في وجه المجموع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ومن الطبيعي تبعا لهذا أن يختلف موقف الصعاليك من هذه الحركة التي وهبوا لها حياتهم. ونستطيع في سهولة أن نلحظ شخصيتين متميزتين نرد إليهما جماعة الصعاليك: فهناك تلك الشخصية المتمردة التي رأت في هذه الحركة فرصة سانحة تظهر فيها بطولتها الفردية، وتستغلها إلى أبعد حد في إرضاء ما في نفسها من نزعة شريرة، تصبغ حياتها كلها بلون من الدم الأحمر القاني محبب إليها، لا يرضيها إلا أن ترى تلك الرءوس اليانعة، رءوس الأغنياء المترفين، تتطاير تحت ضربات سيوفها، وذلك المال الذي يملكونه ينهب، بل هي لا تبالي في سبيل ذلك بأن توجه حركاتها المتمردة الشريرة ضد أية جماعة من الناس لا ترضى عنها. وإلى جانب هذه الشخصية التي رأت أن يكون تمردها الغاية والوسيلة معا، نرى شخصية أخرى رأت أن يكون تمردها وسيلة لغاية إنسانية معينة، هي رفع الظلم عن المظلومين، وحماية المتسضعفين من ضيم السادة الأقوياء، وتهيئة الفرصة للفقراء المهضومة حقوقهم ليشاركوا سائر أفراد مجتمعهم في حياة اجتماعية كريمة عن طريق إحداث نوع من العدالة الاجتماعية والتوازن الاقتصادي الفطري بين طبقتي هذا المجتمع الاقتصاديتين: طبقة المالة وطبقة الصعاليك، بما تنهبه من الطبقة الأولى لتوزعه على الطبقة الأخرى. وحين ننظر في مجموعة صعاليك العرب نجد أن أشهر من يمثل هذه الشخصية الأخرى عروة بن الورد، أبو الصعاليك، الذي أخذ على عاتقه من الناحية الاجتماعية أن يحقق هذه العدالة الاجتماعية وهذا التوازن الاقتصادي، ومن الناحية الفنية أن يقف موقف الداعية صاحب المذهب الذي يتخذ من شعره وسيلة للدعاية إلى مذهبه. أما الشخصية الأولى فإن أفرادها أكثر من أن يحصوا. لأنها تمثل طائفة المتمردين من فتيان المجتمع الجاهلي، وما أكثرهم! ولعل الشنفرى من أصلح ممثلي هذه الشخصية للدراسة الاجتماعية، نظرا لإمعانه في التمرد والشر. حتى ليذكر الرواة أنه آلى على نفسه ليقتلن مائة من بني سلامان بسبب لطمة لطمتها له إحدى فتياتهم، ولعله أصلح ممثلي الشخصية للدراسة الفنية لأن له بين أيدينا ديوانا مستقلا نستطيع أن نضمه في الكفة الأخرى من الميزان أمام ديوان عروة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 2- عروة بن الورد : ينتهي نسب عروة إلى قبيلة عبس، فهو عروة بن الورد بن زيد1 بن عبد الله بن ناشب بن هريم بن ليدم بن عوذ بن غالب بن قطيعة بن عبس2، فهو من هذه الناحية في شرف من قبيلته، ولكن أباه كانت عبس تتشاءم به؛ لأنه هو الذي أوقع الحرب بينها وبين فزارة بمراهنته حذيفة3. أما أمه فليس فيما بين أيدينا من أخباره ما يشير إليها، ولكن عروة نفسه قد كفانا مشقة البحث عنها، فهو يذكر في شعره أنها من نهد4 من قضاعة5، ولكن الشيء الذي يلفت النظر في حديث عروة عن أمه أنه دائم السخط على هذه الصلة التي ربطت بين أبيه وأمه6، وبل إنه يهجو أخواله هجاء مرا7، ولعل من أسباب هذا أن قبيلة نهد كانت أقل شرفا من عبس8، أو ربما كانت هناك أسباب أخرى لم تصل إلينا أخبارها.   1 وقيل ابن عمرو بن زيد "الأغاني 3/ 73". 2 المصدر السابق: الصفحة نفسها. وفي شرح التبريزي على حماسة أبي تمام "عروة بن الورد بن حايس بن زيد بن عبد الله بن ناشب بن سفيان بن هرم بن عوف بن غالب بن قطيعة بن عبس" "2/ 8" وفي تاريخ اليعقوبي "عروة بن الورد بن زيد بن عبد الله بن ناشب بن سفيان بن هرم بن عوف بن غالب بن قطيعة بن عبس" "1/ 309". 3 الأغاني 3/ 88. 4 ديوانه/ 157 البيت الأول. 5 المبرد: رسالة عدنان وقحطان / 24. 6 ديوانه/ 157، 158. 7 المصدر نفسه / 157. 8 the ency of islam; art. urwa b. al-ward. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 ولعل هذا الإحساس الذي سيطر على نفس عروة بأن أمه أقل شرفا من أبيه هو الذي جعله ينسب كل ما يحسه من عار إلى تلك الصلة التي تربطه بأخواله النهديين1. ومعنى هذا أن عروة قد وضع منذ نشأته الأولى بين شقي الرحى، فأبوه تتشاءم منه قبيلته، وأمه من قبيلة أقل شرفا. وليس لدينا عن نشأة عروة الأولى سوى خبر واحد، ولكنه قوي الدلالة على تلك الظروف الأولى التي جعلته يشعر بالظلم شعورا قويا سيطر عليه في كل مراحل حياته بعد ذلك، كما أنه قوي الدلالة على قوة نفسه التي بدأت براعمها في الظهور منذ وقت مبكر. ففي الأخبار أنه كان له أخ أكبر منه وكان أبوه يؤثره عليه فيما يعطيه ويقربه، "فقيل له: أتؤثر الأكبر مع غناه عنك على الأصغر مع ضغفه؟ قال: أترون هذا الأصغر؟ لئن بقي مع ما أرى من شدة نفسه ليصبرن الأكبر عيالا عليه"2. ومعنى هذا أن عروة تفتحت عيناه في الحياة على صورة مختلة التوازن من صورها: صورة الأخ الأكبر الذي يؤثره أبوه مع غناه عنه، وإلى جانبها صورة الأخ الأصغر الذي يهمله أبوه مع ضعفه وحاجته إليه. أليست هذه الصورة هي التي شاهدها عروة بعد ذلك في المجتمع الذي يعيش فيه في مجال أوسع: الأغنياء الذين تؤثرهم الحياة بكل شيء مع غناهم، وإلى جانبهم الفقراء الذين تحرمهم الحياة من كل شيء مع شدة حاجتهم وضعفهم؟ وهكذا بدأت براعم فلسفة عروة الاجتماعية والاقتصادية في الظهور في هذه السن المبكرة. وما إن تتقدم الأيام بعروة حتى تتفتح هذه البراعم عن فلسفة ناضجة، يؤمن بها كل الإيمان، ثم يأخذ في تنفيذها والدعوة إليها بكل قوة وحماسة.   1 وما بي من عار إخال علمته ... سوى أن أخوالي إذا نسبوا نهد "ديوانه/ 157". 2 الأغاني 3/ 88. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 ومن الطبيعي أن تجد دعوته آذانا صاغية، وقلوبا مؤمنة، وأنصارا مخلصين بين أولئك الفقراء المستضعفين الذين أجهدهم الفقر وأهزلهم الجوع، وأذلتهم الأوضاع الاجتماعية، وسدت الحياة في وجوههم سبل العيش الحر الكريم، فالتفت حوله طوائف من الصعاليك، يخرج بأقويائهم فيغير، ثم يوزع الغنائم على من أغار بهم، وعلى من تخلف عنه من المرضى والضعفاء أيضا، فربما عاد كل منهم إلى أهله وقد استغنى1. وقد عرف الصعاليك في عروة هذه النفس الإنسانية القوية فكانوا إذا أصابتهم السنة أتوه "فجلسوا أمام بيته حتى إذا بصروا به صرخوا وقالوا: يا أبا الصعاليك، أغثنا" فيخرج ليغزو بهم2. وقد عرف عروة لهذه "الأبوة" على حد تعبير هؤلاء الصعاليك الذين كان يسميهم "عياله"3 أو لهذه "الزعامة" -كما يصح أن نطلق عليها- حقوقها. فلم يكن يؤثر نفسه بشيء على صعاليكه، وإنما "كان صعلوكا فقيرا مثلهم"4، وفي بعض غارته، وهو مع قوم من هلاك عشيرته في شتاء شديد، قيض الله له رجلا "صاحب مائة من الإبل قد فر بها من حقوق قومه" فقتله وأخذ إبله ثم أقبل بالإبل يقسمها بين صعاليكه، وأخذ مثل نصيب أحدهم5. وعرف هذا "الزعيم الشعبي" "نفسية جماهيره" فكان يقبل منهم أحيانا التواءهم عليه إذا ما تحسنت حالتهم؛ لأنه يعرف أنهم "كما الناس" على حد تعبيره6، ولأنه يدرك أنهم "صنيعته"، ولو أنه عاملهم كما يعاملونه لأفسد   1 انظر الأغاني 3/ 78، 79، والتبريزي: شرح حماسة أبي تمام 2/ 9. 2 الأغاني 3/ 81. 3 ديوانه/ 99، وحماسة أبي تمام 2/ 7 البيت الأخير. 4 التبريزي: شرح حماسة أبي تمام 2/ 9. 5 الأغاني 3/ 79، وانظر التبريزي: شرح حماسة أبي تمام 2/ 9 وابن السكيت: شرح ديوان عروة/ 112. 6 ديوانه/ 113 البيت الأول، وشرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 9. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 مع يصنع، ولانفضت الجماهير من حوله، وهو حريص عليهم لأنه حريص على تنفيذ مذهبه في الحياة. ففي أخباره أنه غنم في بعض غزواته إبلا وامرأة، فلما أخذ في قسمة الإبل بين صعاليكه أخذ مثل نصيب أحدهم واستخلص المرأة لنفسه، "فقالوا: لا واللات والعزة لا نرضى حتى تجعل المرأة نصيبا، فمن شاء أخذها، فجعل يهم بأن يحمل عليهم فيقتهلم وينتزع الإبل منهم، ثم يذكر أنهم صنيعته، وأنه إن فعل ذلك أفسد ما كان يصنع، فأفكر طويلا، ثم أجابهم إلى أن يرد عليهم الإبل إلا راحلة يحمل عليها المرأة حتى يلحق بأهله، فأبوا ذلك عليه، حتى انتدب رجل منهم فجعل له راحلة من نصيبه"1. وهو إلى جانب هذه "الزعامة" الحكيمة "قائد" موفق يخرج "بجنوده" ويرسم لهم الخطط الدقيقة التي تضمن لهم الفوز. ففي أخباره أنه خرج بصعاليكه إلى أرض بني القين، فهبط أرضا ذات حجارة كبيرة فيها ماء، فرأى عليه آثارا "فقال: هذه آثار من يرد هذا الماء فاكمنوا، فأحر أن يكون قد جاءكم رزق"، فأقاموا يوما "ثم ورد عليهم فصيل، فقالوا: دعنا فلنأخذه فلنأكل منه يوما أو يومين، فقال: إنكم إذن تنفرون أهله، وإن بعده إبلا، فتركوه فندموا وجعلوا يلومون عروة من الجوع الذي جهدهم، ووردت إبل بعده بخمس فيها ظعينة ورجل مع السيف والرمح، والإبل مائة متال، فخرج إليه عروة، فرماه في ظهره بسهم أخرج من صدره فخر ميتا، واستاق عروة الإبل والظعينة حتى أتى قومه"2. أرأيت إلى هذه القيادة الموفقة كيف تتخير المكان والزمان، وكيف تحكم الخطة ولا تتعجل تنفيذها حتى تحين الفرصة المناسبة؟ ومن مظاهر هذه القيادة الموفقة الحذر، فقد كان عروة إذا نزل بصعاليكه   1 الأغاني 3/ 79، 80. وانظر أيضا شرح ابن السكيت على ديوانه/ 112. وشرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 9. 2 شرح ابن السكيت على ديوانه/ 103، 104. وشرح التبريزي على حماسة أبي تمام 2/ 8. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 في موطن من مواطن الخوف أخذ للأمر عدته فبعث أحد صعاليكه فوق مرقبة عالية يرقب لهم الطريق، بينما يشتغل الباقون في تهيئة طعام الجماعة أو في غير ذلك من الأعمال1. وقد رأينا في تفسيرنا الجغرافي لظاهرة الصعلكة أن حركات عروة وصعاليكه قد تركزت في شمالي الجزيرة العربية حول منطقة يثرب، وأنها كانت تمتد إلى منطقة نجد أحيانا، ومن هنا نشأت طائفة من الصلات الاقتصادية بينه وبين بني النضير الذين كانوا ينزلون في تلك المنطقة فكانوا "يقرضونه" إن احتاج ويبايعهم إذا غنم"2. هكذا سلك عروة سبيله في الحياة، يسلب الأغنياء أموالهم ليوزعها على الفقراء، وفقا لفلسفة معينة عبر عنها في شعره أصدق تعبير، حتى أصبح شعره نبراسا يهتدي به قومه، أو يأتمون به -على حد تعبير الحطيئة في حديثه مع عمر بن الخطاب3. وأساس فلسفة عروة أن "الغزو والإغارة للسلب والنهب" السبيل الوحيد للغنى لمن هو في مثل حالته: ومن يك مثلي ذا عيال ومقترا ... من المال يطرح نفسه كل مطرح4 وما صاحب الحاجات من كل وجهة ... من الناس إلا من أجد وشمرا5 وليس وراء ذلك سوى إحدى نتائج ثلاث: نجاح الغزوة أو إخفاقها أو الموت في سبيلها، أما إن كانت الأولى فقد حقق أهدافه وجاء الغنى معها، وأما إن كانت الثانية فقد أبلغ نفسه عذرها، "ومبلغ نفس عذرها مثل منجح"، وأما إن كانت الثالثة فالموت خير من حياة الفقر والجوع والذل والهوان:   1 انظر أبياته التي يرسم فيها هذه الصورة في ديوانه/ 111، 112. 2 الأغاني 3/ 76. 3 المصدر السابق/ 74. 4 ديوانه/ 99. وحماسة أبي تمام 2/ 7. 5 ديوانه/ 191. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 ذريني أطوف في البلاد لعلني ... أخليك أو أغنيك عن سوء محضر فإن فاز سهم للمنية لم أكن ... جزوعا وهل عن ذاك من متأخر وإن فاز سهمي كفكم عن مقاعد ... لكم خلف أدبار البيوت ومنظر1 أقيموا بني لبني صدور ركابكم ... فإن منايا القوم خير من الهزل2 فقلت له ألا احي وأنت حر ... ستشبع في حياتك أو تموت3 فسر في بلاد الله والتمس الغنى ... تعش ذا يسار أو تموت فتعذرا4 وهو يتمنى أن يصادف في أثناء انطلاقه هو وصعاليكه في البلاد غازين مغيرين بعض أولئك الأغنياء أصحاب الإبل الكثيرة الذين يحرصون على مالهم بالبخل والعقوق، عقوق أفراد مجتمعهم الفقراء، حتى يستردوا منهم بعض حقوقهم عليهم: لعل انطلاقي في البلاد ورحلتي ... وشدي حيازيم المطية بالرحل سيدفعني يوما إلى رب هجمة ... يدافع عنها بالعقوق وبالبخل5 ويعلل عروة لمغامراته بكثرة أضيافه وقلة ماله، فماذا يفعل سوى أن يغامر في سبل الغنى حتى يهيئ لنفسه شيئا يقدمه لهم، فيحقق حسن ظنهم فيه، ويرضي نفسه الطموح إلى حسن الأحدوثة وطيب الذكر؟ يريح على الليل أضياف ماجد ... كريم، ومالي سارحا مال مقتر6 ويتساءل: أيهلك أفراد من المجتمع لفقرهم وجوعهم في حين يعيش إخوان لهم مترفين متخمين، وهو قاعد لا يفعل شيئا، وهو الذي باع روحه للموت في مخاطراته ومغامراته؟ أيهلك معتم وزيد ولم أقم ... على ندب يوما ولى نفس مخطر7   1 ديوانه/ 66، 67. وجمهرة أشعار العرب / 114. والأصمعيات / 29. 2 ديوانه/ 106. 3 ديوانه/ 166. 4 ديوانه/ 191. 5 ديوانه/ 108، 109. وحماسة أبي تمام / 92. 6 ديوانه/ 85. والأصمعيات / 30. 7 ديوانه/ 83. والأصمعيات / 30. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 والغاية التي يريد أن يصل إليها -بطبيعة الحال- الغنى، ولكنه لا يريد الغنى من حيث هو غاية يقف عندها، وإنما يريده ليكون وسيلته للارتفاع بمنزلته الاجتماعية بين أفراد مجتمعه، من حيث إنه يهيئ له الفرصة التي يشارك فيها السادة الأغنياء في البذل والكرم واكتساب المحامد والمفاخر: دعيني أطوف في البلاد لعلني ... أفيد غنى فيه لذي الحق محمل أليس عظيما أن تلم ملمة ... وليس علينا في الحقوق معول فإن نحن لم نملك دفاعا بحادث ... تلم به الأيام فالموت أجمل1 والفقير في رأيه شر الناس، وأحقرهم عندهم، وأهونهم عليهم مهما يكن له من فضل، يجافيه أهله، وتزدريه امرأته، حتى الصغير يستطيع أن يذله، أما الغني فمهما يفعل يقبل منه، ومهما يخطئ يغفر له، فللغني رب يغفر الذنوب جميعا: ذريني للغنى أسعى، فإني ... رأيت الناس شرهم الفقير وأدنأهم، وأهونهم عليهم ... وإن أمسى له حسب وخير يباعده القريب، وتزدريه ... حليلته، ويفهره الصغير ويُلقى ذو الغنى، وله جلال ... يكاد فؤاد لاقيه يطير قليل ذنبه، والذنب جم ... ولكن للغنى رب غفور2 هكذا يسجل أبو الصعاليك فلسفته في هذه المشكلة الاجتماعية الخطرة، مشكلة الفقر والغنى، في هذا الأسلوب الممتاز الذي يستمد امتيازه من عنصرين أساسيين هما السخرية والبساطة: السخرية من ذلك المجتمع العجيب الذي يحتقر الفقير لا لشيء إلا لأنه فقير، ويقدر الغني لا لشيء إلا لأنه غني، والذي لا يهتم بغير المظاهر المادية، أما جوهر النفس الكامن خلف هذه المظاهر فأمر وراء اهتمامه، ثم البساطة التي نلمسها في عرض الشاعر لمعانيه ذلك العرض   1 ديوانه/ 206. 2 ديوانه/ 198، 199. وابن قتيبة: عيون الأخبار 1/ 241، 242. وابن عبد ربه: العقد الفريد 3/ 29. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 السهل الذي لا يقبل معارضة، أو يثير جدلا، والذي ينفذ إلى النفس من أقرب السبل، ذلك العرض الذي يصح أن نطلق عليه "عرضا شعبيا"، حتى لنسمع أن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب يطلب إلى معلم أولاده ألا يرويهم هذه القصيدة، ويقول له: "إن هذا يدعوهم إلى الاغتراب عن أوطانهم"1. وأسوأ طوائف الصعاليك عند عروة هم أولئك الصعاليك الذين يقضون حياتهم في خمول وهوان وتخاذل، وقعود عن طلب الغنى، وخدمة لنساء الحي المترفات: لحا الله صعلوكا إذا جن ليله ... مصافي المشاش آلفاكل مجزر يعد الغنى من دهره كل ليلة ... أصاب قراها من صديق ميسر ينام عشاء ثم يصبح طاويا ... يحت الحصى عن جنبه المتعفر قليل التماس الزاد إلا لنفسه ... إذا هو أمسى كالعريش المجور يعين نساء الحي ما يستعنه ... فيمسي طليحا كالبعير المحسر2 أما أولئك الصعاليك العاملون الذين يقضون حياتهم في العمل والكفاح والمغامرة فإن عروة معجب بهم إعجابا شديدا؛ لأنهم الذين آمنوا بمذهبه في الحياة، وسلكوا سبيله فيها، فهو لهذا يكيل لهم مدحه ويضفي عليهم ثناءه: ولكن صعلوكا صحيفة وجهه ... كضوء شهاب القابس المتنور مطلا على أعدائه يزجرونه ... بساحتهم زجر المنيح المشهر فإن يعدوا لا يأمنون اقترابه ... تشوف أهل الغائب المتنظر فذلك إن يلق المنية يلقها ... حميدا وإن يستغن يوما فأجدر3 هكذا كان أبو الصعاليك ينادي بمذهبه في أرجاء المجتمع الجاهلي. وليس   1 الأغاني 3/ 75. 2 ديوانه/ 73-77. 3 ديوانه/ 78-82. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 من شك في أن دعوة عروة هذه قد لقيت إعجابا من هذا المجتمع ظلت أصداؤه مدوية حتى بعد ظهور الإسلام في البلاط الأموي نفسه، حتى لنسمع معاوية يقول "لو كان لعروة بن الورد ولد لأحببت أن أتزوج إليهم"1، وحتى ليستأذن بعض الناس عليه ويقول لآذنه: استأذن لي على أمير المؤمنين وقل ابن مانع الضيم، فيقول معاوية: ويحك لا يكون هذا إلا ابن عروة بن الورد العبسي أو الحصين بن الحمام المري2، وحتى ليقول عبد الملك: من زعم أن حاتما أسمح الناس فقد ظلم عروة بن الورد3. وأخص ما يتميز به أسلوب عروة في شعره أنه "أسلوب شعبي"، فهو سهل اللفظ بالقياس إلى شعر سائر الصعاليك، واضح المعنى، قريب التعبير، لا تكلف فيه ولا تصنع. وقد يكون هذا طبيعيا بعد أن قررنا أن عروة كان يقوم في حركة الصعلكة بالداعية المذهبي أو الزعيم الشعبي الذي يحرص على استمالة الجماهير إليه. ولعل عروة أكثر الشعراء الصعاليك استخداما لتلك المقدمات النسائية التي اصطلحنا على تسميتها "مقدمات الفروسية في شعر الصعاليك". وهذا أيضا طبيعي فإن أخبار عروة مع نسائه السبايا تدل على احترام متغلغل في نفسه للمرأة، ورواة الأدب العربي يصفونه بأنه كان لا يمس النساء4.   1 الأغاني 3/ 73. 2 الأغاني 12/ 123 "بولاق". 3 الأغاني 3/ 74. 4 الأغاني 3/ 75. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 ذلك الدعاء الصادق الصادر من أعماق نفسه: جزى الله خيرا عن خليع مطرد ... رجالا حموه آل عمرو بن خالد وما له لا يدعو لهم وقد آووه، وعطفوا عليه، ونصروه بعزهم وشرفهم وبأبنائهم الأبطال الأمجاد: وقد حدبت عمرو علي بعزها ... وأبنائها من كل أروع ماجد وهو لهذا يُعلن على الملأ أن هؤلاء القوم الذين لجأ إليهم، إنما هم الأصحاب والأهل والثروة والنصر: أولئك إخواني وجل عشيرتي ... وثروتهم والنصر غير المحارد1 بل إن أبا الطمحان يعلن أنه قد نسي أهله في جوار من استجار بهم بعد خلعه، وأصبح كأنه واحد منهم حتى لقد عرفت كلابهم ثيابه فما تهر عليه: وقد عرفت كلابهم ثيابي ... كأني منهم ونسيت أهلي2 ولا ينسى الصعاليك الخلعاء خلع قبائلهم لهم حتى في آخر لحظات حياتهم، حين يمر بهم ماضيهم الحافل بالمغامرة والكفاح، فإذا قصة الخلع هي الحد الفاصل بين حياتين، والسر الأول في تلك الحياة القاسية التي عاشوها، والتي يودعونها في هذه اللحظات. هذا قيس بن الحدادية يقاتل أعداءه الذين تكاثروا عليه حتى قُتل وهو يرتجز ذاكرا أول ما يذكر قصة خلعه وبغض أهله له. نا الذي تخلعه مواليه ... أوكلهم بعد الصفا قاليه وكلهم يقسم لا يباليه3 وإذا كان الصعاليك الخلعاء والشذاذ قد صوروا في شعرهم هذه العقد النفسية التي كان منشؤها انقطاع الصلة بينهم وبين قبائلهم، فإن الصعاليك الأغربة لم يتحدثوا في شعرهم عن ظاهرة اللون التي كانت عقدة العقد في حياتهم، التي كانت سببا في انعدام التوافق الاجتماعي بينهم وبين قبائلهم، وفيما عدا   1 الأغاني 13/ 5 "بولاق" - المحارد: من حاردت الناقة إذا انقطعت ألبانها أو قلت. 2 الجاحظ: الحيوان 1/ 380. 3 الأغاني 13/ 8 "بولاق". وابن حبيب: من نُسب إلى أمه من الشعراء/ 6. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 الشَّنْرَي ... 3- الشنفرى: إذا كان عروة يمثل الجانب الإنساني في حركة صعاليك العرب، فإن الشنفرى -ولا شك- يمثل الجانب الشيطاني فيها. واسم الشنفرى، ونسبه، ونشأته الأولى، غامضة كل الغموض، فكل ما يعرف عن الجانبين الأولين أنه الشنفرى، وأنه كان من الإواس بن الحجر بن الهنو بن الأزد1، وأن أباه كان في موضع من أهله ولكنه كان في قلة2، وأن أمه كانت سبية3. والشنفرى أحد أولئك الأغربة الذين رأينا أنهم كانوا يمدون حركة الصعلكة بجماعات كبيرة من الصعاليك، ويضعه صاحب لسان العرب نقلا عن ابن سيده عن ابن الأعرابي بين "أغربة العرب"4، وكذلك يفعل صاحب تاج العروس نقلا عن التهذيب والمحكم ولسان العرب5، ويضعه ابن الأعرابي في نوادره بين أغربة الجاهلية6، والشنفرى نفسه يصرح في بعض شعره بأنه "هجين"7. ولكن يبدو أن الشنفرى يأبى إلا أن يوقعنا في إشكال غامض، فإنه بعد بيت واحد من تصريحه هذا يعود فيصرح بأنه أمه "ابنة الأحرار"8، وهنا نقف لنتساءل: كيف يتفق التصريحان وبينهما هذا التناقض الظاهر؟ ونعود إلى أخبار الشنفرى في مصادرها المختلفة نسألها الإجابة عن هذا التساؤل، ولكنا لا نظفر مع الأسف بشيء، فإن رواة أخباره لم يقفوا عند هذا التناقض، ولم يقدموا لنا الوسائل التي تعيننا على هذه الإجابة؛ لأنهم لم يذكروا شيئا له قيمة عن أسرة الشنفرى، لا عن أبيه ولا عن أمه، حتى ليلاحظ الأستاذ   1 كذا في الإغاني 21/ 134، والذي في خزانة الأدب للبغدادي "2/ 16" الأواس بفتح الهمزة، والحجر بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم، والهنء بتثليث الهاء وسكون النون وبعدها همزة، وهو الذي في ديوانه المطبوع/ 27. 2 ابن الأنباري: شرح المفضليات/ 198. 3 المصدر السابق/ 195. 4 انظر مادة "غرب". 5 مادة "غريب". ولكن الغريب أن يذكره هذان المصدران بين الأغربة الإسلاميين وهو خطأ فاحش، فكل مصادر حياة الشنفرى صريحة في أنه جاهلي، والأغرب من هذا أن ينقل ناشرو "الأغاني" بدار الكتب المصرية نص التاج في أحد هوامشهم "8/ 240" دون أية إشارة إلى ما فيه من خطأ. 6 السيوطي: المزهر 2/ 269. 7 الأغاني ج21 ص134 س20. 8 المصدر السابق ص134 س22. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 lyall أن "أصل الشنفرى ونسبه مسألتان شديدتا الغموض"1. والواقع أن أخبار الشنفرى كلها قليلة ومضطربة حتى ليعارض رواتها بعضهم بعضا، ومن هنا ترددت كلمة "لا" النافية في أول كل خبر منها2. ومن الحق ما يذكره lyall من أن القصص التي تروى حول الشنفرى لا تتفق دائما مع قصائده، وإنما هي أقرب إلى أن تكون صورة من الأساطير الشعبية التي كثرت حول أبطال العصر الجاهلي من أن تكون أخبارا حقيقية3. ومع ذلك فلا بد من محاولة للإجابة عن هذا التساؤل. يرى fresnel أنه من المحتمل أن تكون أم الشنفرى مولودة من أب حر وأم أمة، وبهذا يكون الشنفرى من أولئك الذين يطلقون عليهم في الولايات الأمريكية اسم quarteron4. ولكن هذا الأمر لا يعدو أن يكون فرضا، وصاحبه يصرح بأنه شيء من الممكن أن يُفترض5، وهكذا تظل المشكلة قائمة، ويظل السؤال واردا. أما أنا فيبدو لي أن المسألة أيسر من هذا، وأنها لا تحتاج إلى تكلف مثل هذا الفرض الاحتمالي، وأن وصف الشنفرى لأمه بأنها "ابنة الأحرار" لا يعدو أن يكون تعبيرا عاطفيا يتلاءم مع ذلك الجو العاطفي الشديد الحساسية الذي قيلت فيه الأبيات6، فهو صرخة من نفس الشنفرى الحساسة في وجه ابنة سيده المتعجرفة، يعلن لها فيها أن العبودية وضع اجتماعي خاطئ لا يُعترف به؛ لأن الله لم يخلق الناس عبيدا، وأنه إذا كانت الأوضاع الظالمة قد جعلت   1 the mufaddaliyat, vol. 11 "translation and notes", p. 73 "n. 82", oxford, 1918. 2 الأغاني 21/ 137-142. 3 the mufaddaliyat, vol. 11 "translation and notes", p. 68. 4 fulgence fresnel; lettres sur l'histoire des arabes avant l'islamisme, "ire lettre"; p. 63. والكلمة معناها من أبوه أبيض وأمه من أبوين أحدهما أبيض والآخر أسود أي أن فيه الربع من دم زنجي. 5 ibid.; p. 93. 6 الأغاني 21/ 134، 142. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 من أُمه أَمة فإن هذا لا يغير من الوضع الإلهي الذي خلقها الله عليه، فهي ابنة أحرار قبل أن تكون أَمة، ولو أن هذه الفتاة المتعجرفة عرفت أصلها لعرفت أنها ابنة أحرار مثلها، ولهذا يعقب على قوله "وأمي ابنة الأحرار" بقوله "لو تعرفينها"، فكأنه يقول لها ذلك القول الذي قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص فيما بعد: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا؟ وكأن المسألة عنده مسألة نسبية، فإذا كانت هذه الفتاة ترى أُمه أَمة فإنه يراها ابنة أحرار. ومع ذلك فما زال في المشكلة جانب يحتاج إلى تفسير، وهو قول الشنفرى بعد ذلك: #إذا ما أروم الود بيني وبينها يوم بياض الوجه مني يمينها1# والذي يبدو لي أن وصف الشنفرى لوجهه بالبياض إما أن يكون على طريقة العرب في التعبير عن اللديغ بالسليم، وإما أن يكون لونا من السخرية من اهتمام هؤلاء السادة بمسألة اللون. ومع ذلك فهذا لبيت لم يرد إلا في رواية واحدة من روايات الأغاني المتعددة عن هذه القصة، وهي رواية مجهولة الراوية، فيها بعض تفصيلات غير معقولة2. ومهما يكن من أمر فإن لفظة "الشنفرى" تحمل في طياتها دليلا على أصل هذا الشاعر، فمن معاني هذه اللفظة الرجل الغليظ الشفتين3، وغلظ الشفتين -كما هو معروف، وكما يقرر علماء الأجناس- من سمات الجنس الأسود. ويجعل fresnel هذه الظاهرة من أدلته على أنه "من المؤكد أن أم الشنفرى كانت أمة سوداء أو من دم مختلط"4، كما يجعلها lyall دليلا   1 الأغاني 21/ 142. 2 انظر المصدر نفسه الصفحة نفسها. 3 الزمخشري: أعجب العجب في شرح لامية العرب/ 11، والبغدادي: خزانة الأدب 2/ 16. 4 lettres sur l'histoire des arabes avant l'islamisme, "ire. lettre", p. 93. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 على أنه "من المرجح أن دما إفريقيا زنجيا أو حبشيا كان يجري في عروفه"1. أما عن بدء تصعلكه فإنه غامض كل الغموض، وتروى عنه ثلاث روايات: إحداها عن محمد بن هشام النمري بسنده وتذكر أن الشنفرى أسرته بنو شبابة بن فهم فلم يزل فيهم حتى أسرت بنو سلامان بن مفرج2 من الأزد رجلا من بني شبابة، ففدته بنو شبابة بالشنفرى، فكان الشنفرى في بني سلامان لا تحسبه إلا أحدهم حتى نازعته بنت الرجل الذي كان في حجره، وكان السلامي اتخذه ولدا، فقال لها الشنفرى: اغسلي رأسي يا أخية، فأنكرت أن يكون أخاها ولطمته، فذهب مغاضبا حتى أتى الذي اشتراه من فهم، فقال له: اصدقني ممن أنا؟ قال: أنت من الإواس بن الحجر، قال: أما إني لن أدعكم حتى أقتل منكم مائة بما استعبدتموني3. وأما الثانية فعن راوية مجهول يكذب فيها هذه الرواية ويقول إن الأزد قتلت الحارث بن السائب الفهمي، فأبوا أن يبوءوا بقتله، فباء بقتله رجل منهم يقال له حرام بن جابر، فلما ترعرع الشنفرى جعل يغير على الأزد مع فهم4. وأما الثالثة فعن راوية مجهول أيضا يُكذب فيها هاتين الروايتين، ويقول: بل كان من سبب أمر الشنفرى أن بني سلامان بن مفرج سبت الشنفرى وهو غلام، فجعله الذي سباه في بهمة يرعاها مع ابنة له، فلما خلا بها ذهب ليقبلها، فصكت وجهه، ثم سعت إلى أبيها فأخبرته، فخرج إليه ليقتله، فوجده ينشد أبياتا يأسف فيها على أن هذه الفتاة لا تعرف نسبه، فلما سمع الرجل قوله سأله: ممن هو؟ فقال: أنا الشنفرى أخو بني الحارث بن ربيعة، فقال له: لولا أني أخاف أن يقتلني بنو سلامان لأنكحتك ابنتي، فقال:   1 The Mofaddaliyat, Vol. II, p. 68 2 ضبطت في هذا الموضع بتشديد الراء، ولكن الذي في شعره "مفرج" بتخفيفها وكسرها "انظر بيته رقم 28 من تائيته في المفضليات/ 205 وفي الأغاني 21/ 140" وهو الصواب "انظر القاموس المحيط: مادة فرج". 3 الأغاني 21/ 134. 4 المصدر السابق/ 137 - وباء بقتله أي أقر واعترف به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 علي إن قتلوك أن أقتل منهم مائة رجل بك، فأنكحه ابنته، وخلى سبيله، فسار بها إلى قومه، فشدت بنو سلامان خلافه على الرجل فقتلوه، ثم أخذ يوفي بوعده للرجل فيغزو بني سلامان ويقتلهم1. ويروي ابن الأنباري عن نشأته الأولى ثلاث روايات: اثنتين عن مؤرج، إحداهما تلك التي يرويها صاحب الأغاني عن النمري، والأخرى يقول فيها: ويقال إن السبب في غزو الشنفري الأزد وقتلهم أن رجلا منهم وثب على أبيه فقتله والشنفرر صغير، وكان أبوه في موضع من أهله ولكنه كان في قلة، فلما رأت أم الشنفرى أن ليس يطلب بدمه أحد ارتحلت به وبأخ له أصغر منه حتى جاورت في فهم، فلم تزل فيهم حتى كبر الشنفرى، فجعلت تبدو منه عرامة، وجعل يكره جانبه، فوقع في نفس تابط شرا، فكان يكرمه ويدنيه، وكان يغير مع تأبط شرا حتى صار لا يقام لسبيله2. والرواية الثالثة عن راوية مجهول، يقول فيها إن الأزد قتلت رجلا من فهم في خفرة رجل يقال له الحارث بن السائب الفهمي، فرهنوهم الشنفرى وأمه وأخاه، وأسلموهم ولم يفدوهم، فنشأ فيهم الشنفري، فكان شديد البأس والنفس وكان أشد فهم على الزد قتلا وسلبا3. ومهما يكن من أمر هذه الروايات المتناقضة المضطربة فإن المسألة في أبسط صورها ترجع إلى أن الشنفرى لسبب من السباب فقد توافقه الاجتماعي مع قبيلته الأزد، ثم انتقل إلى قبيلة فهم، تلك القبيلة المتمردة المشهورة بلصوصها4، وهناك اتصل به تأبط شرا، ووجد فيه تلميذا ممتازا، فلقنه دروس الصعلكة الأولى حتى صار لا يقام لسبيله، ورأى الشنفرى أن فرصة الانتقام من قبيلته الأزد قد سنحت له فصب عليها كل غزواته.   1 المصدر نفسه/ 142. 2 ابن الأنباري: شرح المفضليات/ 196، وأيضا/ 198. 3 المصدر السابق/ 197، 198. 4 المصدر السابق/ 197، 198. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 ولعل أقرب هذه الروايات إلى الحقيقة، وأبعدها عن أوهام الرواة، الرواية الثانية التي يرويها ابن الأنباري عن مؤرج، والتي تتحدث عن قتل الأزد أباه. والشنفري نفسه في بعض شعره يصرح بأن قومه قد أضاعوا أباه1، وفي أخباره أنه "قدم مني وبها حرم بن جابر فقيل له: هذا قاتل أبيك، فشد عليه فقتله"2، وهو يصرح بهذا في تائيته المفضلية3. وأيا ما كانت الأسباب لهذا الحقد الذي ملأ نفس الشنفرى على بني سلامان فإنه قد وهب حياته للانتقام منهم، "فكان يُغير على الأزد على رجليه فيمن معه من فهم، وكان يُغير عليهم وحده أكثر ذلك"4. وبلغت الرغبة في الانتقام في نفس الشنفرى حدا جعله يحرص على التفنن فيه، فكان يصنع النبل ويجعل أفواقها من القرون والعظام، فإذا غزاهم عرفوا نبله بأفواقها في قتلاهم5، وكان إذا رمى رجلا منهم قال له تحديا: أأطرفك؟ ثم يرمي عينه6. ويقتل الشنفرى منهم -فيما تزعم الروايات- تسعة وتسعين، ثم يتربص به أعداؤه، ثم يقتلونه بعد أن يتفننوا في تعذيبه تفننا قاسيا، ثم يمر رجل منهم بجمجمته فيضربها فتعقره فيموت، وتتم به المائة الذين كانت حلفة الشنفرى عليهم7.   1 أضعتم أبي إذ مال شق وساده ... على جنف قد مال من لم يوسد 2 الأغاني 21/ 137 3 قتلنا حراما مهديا بملبد ... ببطن منى وسط الحجيج المصوت "المصدر السابق: الصفحة نفسها، وانظر المفضليات/ 205". 4 الأغاني 21/ 135. 5 المصدر السابق: 142 6 المصدر نفسه/ 136. ابن الأنباري: شرح المفضليات/ 196. 7 انظر المصدرين السابقين: لأغاني/ 135-136، 137-138، 142-143، وابن الأنباري/ 196-199. وانظر أيضا ابن حبيب: المغتالين "مصورة" لوحة رقم 93-94. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 ويدور الجزء الأكبر من شعر الشنفرى حول هذا الصراع بينه وبين بني سلامان، والجزء الباقي منه حول أحاديث تصعلكه وفقره وتشرده وغاراته على غير بني سلامان. ويساير هذا الشعر حياة الشنفرى منذ طفولته، فهم يروون له بيتين يخاطب بهما أمه بعد مقتل أبيه وموت أخيه1، تظهر فيهما قوة نفسه وبراعم تمرده الأولى. فإذا ما لطمته الفتاة السلامية سجل هذه الحادثة البعيدة الأثر في حياته، وسجل أسفه لأن هذه الفتاة المغرورة لا تعرف شيئا عن نسب أبيه وأمه، ثم يتحدث إليها عن كرم نسبه2. ثم إذا ما بدأ الصراع المرير بينه وبين بني سلامان حرص على أن يسجل كل شيء في شعره: تهديده لهم، وتربصه بهم، وأحاديث غاراته عليهم، ويصف أسلحته التي يستخدمها، ويتحدث عن رفاق غاراته، وعن أعدائه وضحاياه، حتى إذا ما أمسك به أعداؤه وقطعوا يده رثاها بأرجوزة3، هي مزيج من الحزن والفخر حتى لا يشمت أعداؤه به، فإذا ما أخذوا يسخرون منه ويسألونه أين يدفنونه رد عليهم بمقطوعة رائعة4، تظهر فيها قوة نفسه، فهو لا يحرص على أن يدفن، وإنما كل ما يُوصى به أن يلقوا بجسده إلى الضبع، رفيقة تشرده. وإلى جانب هذا التسجيل لأحاديث الصراع بينه وبين بني سلامان سجل   1 ديوانه المطبوع/ 37. والأغاني 21/ 137. وابن الأنباري/ 196. مع اختلاف في الروايات. 2 ديوانه المطبوع/ 40، 41, وديوانه المصور: لوحة رقم 2. والأغاني 21/ 134، 142. 3 ابن حبيب: كتاب المغتالين "مصورة" لوحة رقم 93، وديوانه المصور لوحة رقم 4، 5 والأغاني 21/ 138. وديوانه في الطرائف الأدبية/ 40. 4 ابن حبيب: كتاب المغتالين "مصورة" لوحة رقم 93، 94 وابن الأنباري: شرح المفضليات/ 197، وديوانه المصور لوحة رقم 6، 7، والأغاني 21/ 136، وديوانه في الطرائف الأدبية/ 36، والشعر والشعراء/ 18، 19، والعقد الفريد 1/ 118-119. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 في شعره جوانب أخرى من حياته: فقره، وهزاله، ونعليه الممزقتين، وثيابه البالية، وحمله قربة الماء، وتشرده في الصحراء بين الوديان المخيفة حيث الجن والآساد، وغاراته على غير بني سلامان. ويوشك ما وصل إلينا من شعر الشنفرى أن يدور كله داخل دائرة التصعلك، ونقول يوشك لأن تائيته المفضلية تبدأ بمقدمة طويلة من النسيب التقليدي1، يرسم فيها صورة رائعة ممتازة لصاحبته الحيية الوفية الجميلة. ومما يؤسف له أن مجموعة شعر الشنفرى التي بين أيدينا -برغم أنها مجموعة في ديوان- قليلة، فإذا أخرجنا منها "لامية العرب" التي رجحنا أنها ليست له، والتائية المفضلية، فإن ما يتبقى منها طائفة من المقطوعات والقصائد القصيرة. وأخص ما يميز أسلوب الشنفرى الفني تلك الخشونة اللفظية التي تمثل اللغة البدوية الجاهلية أصدق تمثيل، ثم تلك القوة التعبيرية التي تجعل أسلوبه أسلوبا محكما لا رخاوة فيه، هذا إلى جانب ما يمتاز به من صدق التصوير، والصراحة في النقل عن الحياة.   1 المفضليات/ 194-202، والأغاني 21/ 138-139، وديوانه المصور لوحة رقم 46، 47. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 الخاتمة : 1- الصعاليك : رأينا أن مادة "صعلك" تدور في دائرتين اصطلحنا على تسميتها بالدائرة اللغوية والدائرة الاجتماعية، وتبدأ الدائرتان من نقطة واحدة هي الفقر، فأما الدائرة اللغوية فتنتهي حيث بدأت عند الفقر، يبدأ الصعلوك فيها فقيرا، ثم يظل في نطاقها فقيرا؛ لأنه لا يستطيع أن يغير الوضع الاجتماعي الذي فرض عليه لضعف في نفسه، أو لضعف في جسده، ثم يموت فقيرا، وأما الدائرة الاجتماعية فتبعد عن نقطة البدء محاولة ألا تنتهي عندها، يبدأ الصعلوك فيها فقيرا، ثم يحاول أن يتغلب على هذا الفقر ولكن بطريقة خاصة هي تلك التي جعلنا شعارها "الغزو والإغارة للسلب والنهب"، تدفعه إلى ذلك قوة في نفسه وقوة في جسده، أي أن المادة في هذه الدائرة الاجتماعية قد اكتسبت صفات اجتماعية جديدة. ووقفنا بعد ذلك نلتمس السر في نشأة هذه الظاهرة، فنظرنا في المجتمع الجاهلي من ناحية بيئته الجغرافية، ورأينا أن الظاهرة الجغرافية التي تسيطر على هذا المجتمع هي ما اصطلحنا على تسميتها "بظاهرة التضاد الجغرافي"، ورأينا أن هذه الظاهرة كانت العامل الأول في نشأة حركة الصعاليك؛ لأنها كانت السبب في وجود الفقر وفي إحساس الفقراء به. ورأينا أن هذه الظاهرة تدخلت مرة أخرى في توجيه حركات الصعاليك التي كانت تخرج دائما من المناطق الجدبة إلى المناطق الخصبة، ورأينا أن كل مناطق الخصب في الجزيرة العربية قد تعرضت لغزوات الصعاليك، ثم رأينا أنه من الممكن أن نحدد مناطق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 حركات الصعاليك، فرأينا أن عروة وصعاليكه قد توزع نشاطهم بين منطقتين أساسيتين: منطقة نجد، ومنطقة يثرب وما يجاورها شمالي جزيرة العرب، وإن لم يمنع هذا من أن يغير أحيانا على غير مناطق اختصاصه، ورأينا أن منطقة جبال السراة فيما بين مكة والطائف وأول الطريق الصاعد إلى اليمن هي المنطقة التي شهدت أكبر عدد من صعاليك العرب، وأن أشهر الصعاليك الذين انتشروا في هذه المنطقة صعاليك فهم وهذيل ومن انضم إليهم من خلعاء القبائل وشذاذها، ورأينا أن منطقة اليمن عرفت أجزاؤها القريبة من الحجاز صعاليك من فهم ومن الأزد، وأما أجزاؤها البعيدة فقد تخصص في الإغارة عليها السليك، وإن يكن تأبط شرا يتعدى أحيانا على منطقة اختصاص السليك. ولفت نظرنا في صعاليك هاتين المنطقتين أن أكثرهم -إن لم يكونوا جميعا- من العدائين، وقد رددنا هذا إلى ثلاثة عوامل، طبيعة المنطقة الجبلية، وبعد الأهداف، وقلة الخيل. ثم وقفنا عند هذه الظاهرة، ظاهرة شدة العدو، وقلنا إنها ليست بالظاهرة المستحيلة، وإنما هي صورة من صور التكيف العضوي بين الإنسان وبيئته. ثم مضينا إلى المجتمع الجاهلي نلتمس فيه تفسيرا لظاهرة التصعلك، فرأينا أنه مجتمع قبلي، آمنت كل قبيلة فيه بوحدتها الاجتماعية وبكرم جنسها، ورأينا أن إيمان القبيلة بوحدتها أوجد طائفة الخلعاء والشذاذ في هذا المجتمع، وأن إيمانها بجنسها أوجد طائف الهجناء والأغربة، وأن المتمردين من هاتين الطائفتين من شتى القبائل قد اجتمعوا في عصابات من صعاليك العرب، كافرين بالعصبية القبلية، مؤمنين بعصبية مذهبية، معتمدين على قوتهم في سبيل العيش، شأنهم في ذلك شأن المجتمع الذي يعيشون فيه، غاية ما في الأمر أن عملهم فردى يجري بدون رضا القبيلة، وعمل القبائل جماعي معترف به. ثم مضينا إلى الناحية الاقتصادية في هذا المجتمع فرأينا أن الجزيرة العربية كانت منذ أقدم العصور ممرا تجاريا نشطا لطرق القوافل، وأنه على طول هذه الطرق قامت مجموعة من الأسواق. ورأينا أن مراكز نشاط الصعاليك كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 عادة على طول هذه الطرق، وبالقرب من هذه الأسواق. ورأينا أن الصعاليك قد استغلوا هذه الأسواق استغلالا آخر فكانت لهم فرصة ينتقون فيها ضحاياهم. وقد عللنا كثرة الصعاليك في منطقة السراة حول مكة بوقوع هذه المنطقة على الطريق التجاري، وبوجود ثلاث أسواق مشهورة فيها ورأينا أن هذه الأسواق قد شهدت السطور الأولى من قصة طائفتين من طوائف الصعاليك هما طائفة الأغربة وطائفة الخلعاء، ففي هذه الأسواق -أو في بعضها على الأقل- كانت تجري تجارة الرقيق التي كانت سببا في نشأة طبقة الأغربة، وفيها -أو في الأسواق الأساسية منها- كان الإعلان الرسمي الذي تذيعه القبائل عن خلعها بعض أفرادها الخارجين عليها. ورأينا أن المدن العربية قد عرفت لونا من النشاط التجاري الذي ترتب عليه تضم الثروة وتركزها في أيدي نفر قليل من أهلها، الأمر الذي أحدث لونا من الاختلال الاقتصادي، نشأت عنه كثرة عدد الصعاليك الذين كانوا في حالة سيئة حملت أكثرهم على الهرب إلى الصحراء واللحاق بعصابات الصعاليك المنتشرة بها. فإذا مضينا إلى داخل البادية العربية وجدنا ثمة صراعا بين طبقة أصحاب الإبل وطبقة الصعاليك، وقد رددنا هذا إلى التفاعل بين ظاهرتين متناقضتين: ظاهرة البعد الاقتصادي، وظاهرة القرب النفسي، ورأينا أن مادة هذا الصراع التي دار حولها كانت عادة الإبل؛ لأنها الثروة الأساسية في المجتمع البدوي، وإن لم يمنع هذا من أن تمتد أيدي الصعاليك إلى أية غنيمة تعرض لهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 2- شعر الصعاليك : رأينا أن شعر الصعاليك لم يصل إلينا منه مجموعا سوى ديوانين هما ديوان عروة وديوان الشنفرى، ورأينا أن هذا الشعر قد توزع بين مصادر الثقافة العربية المختلفة، وأن من يريد أن يجمع "ديوان الصعاليك" عليه أن ينقب بين كل هذه المصادر وقد لاحظنا على المادة التي جمعناها والتي تكون ديوان الصعاليك ثلاثة أشياء: قلتها، وكثرة الاضطراب في رواية نصوصها، ثم الشك الذي يحيط ببعض نصوصها. ورأينا أن مجموعة شعر الصعاليك التي دار حولها الشك نوعان: فمجموعة كان الشك فيها "داخليا"، والخطب في هذه المجموعة هين، ومجموعة كان الشك فيها "خارجيا"، وأشهر شعر هذه المجموعة لاميتان تنسبان لتأبط شرا والشنفرى ويتهم خلف الأحمر بصنعهما، وقد وقفنا عند هاتين اللاميتين طويلا، وانتهينا إلى ترجيح نسبتهما إلى خلف. ثم مضينا إلى مجموعة شعر الصعاليك فدرسنا موضوعاتها، ورددنا هذه الموضوعات إلى مجموعتين أساسيتين؛ مجموعة الشعر داخل دائرة الصعلكة، ومجموعة الشعر خارج دائرة الصعلكة. ورأينا أن الشعراء الصعاليك قد تعرضوا في المجموعة الأولى لكل ما كان يدور في حياتهم الفردية أو حياتهم الجماعية، فتحدثوا عن مغامراتهم، وعن تربصهم فوق المراقب في انتظار ضحاياهم، وعن توعدهم أعداءهم وتهديدهم لهم، وعن أسلحتهم سواء منها أسلحة الهجوم أو أسلحة الدفاع، وتحدثوا عن رفاقهم الذين رافقوهم في هذه المغامرات، وتحدثوا عن فرارهم وهربهم، وعن سرعة عدوهم، وعن غزواتهم على الخيل، وعللوا لمغامراتهم، وفسروا الدوافع التي دفعتهم إليها، وذكروا العقد النفسية التي كانت سببا لها، كما تحدثوا عن آرائهم الاجتماعية والاقتصادية، وعن تشردهم في أرجاء الصحراء المقفرة، واتصالهم بحيوان الصحراء ووحشها وأشباحها. أما المجموعة الأخرى، مجموعة الشعر خارج دائرة الصعلكة، فإننا تلمسنا أولا آثار القبلية فيها، ولاحظنا أن هذه المجموعة من الشعر القبلي تقابلنا في شعر الصعاليك قليلة. كما أن عدد شعرائها قليل أيضا. ثم مضينا بعد ذلك إلى المخضرمين من الشعراء الصعاليك نتلمس الآثار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 الإسلامية في شعرهم بعد الإسلام ومن الطبيعي أن موضوعات هذه المجموعة الإسلامية قد خلت من تلك الموضوعات التي عرفناها في شعرهم داخل دائرة الصعلكة، ومع ذلك فقد رأينا رواسب ضئيلة من الصعلكة تتسرب من حين إلى حين في أثناء هذا الشعر. ثم مضينا ندرس الظواهر الفنية في شعر الصعاليك، فلاحظنا أول ما لاحظنا أنه شعر مقطوعات، وقد ملنا في تعليلنا لهذا إلى طبيعة حياة الصعاليك نفسها، تلك الحياة القلقة التي لا تكاد تفرغ للفن من حيث هو فن يفرغ صاحبه لتطويله وتجويده. ثم لاحظنا ظاهرة أخرى وهي ظاهرة الوحدة الموضوعية، ورأينا أن أكثر مقطوعات شعر الصعاليك وقصائده تقبل العناوين، بل إن مطولاته -برغم تعدد أغراضها- نستطيع أن نردها إلى أصل موضوعي واحد، فليس التعدد هنا تعددا في الموضوع، وإنما هو تفرع في أغراض الموضوع الواحد، ورأينا مع ذلك أن هناك طائفة قليلة جدا من قصائد شعر الصعاليك لا تخضع لهذه الظاهرة، وقد رددنا هذا إلى ما سميناه "ظاهرة تقليد الشعراء الصعاليك للشعر القبلي في صورته الشكلية"، وقلنا إن هذه الظاهرة ليست من الخطر في شيء على الفكرة التي نقررها. ثم لاحظنا أن شعر الصعاليك قد تخلص من المقدمات الطللية التي عرفها الشعر القبلي، ما عدا تلك المجموعة التقليدية، ورأينا أن الشعراء الصعاليك استعاضوا عنها بمذهب آخر أطلقنا عليه "مقدمات الفروسية في شعر الصعاليك". ثم لاحظنا بعد ذلك أن شعر الصعاليك قد تخلص أيضا من التصريع في مطالع نماذجه الفنية، ورأينا أن هذه الظاهرة توشك أن تكون مطردة في كل شعر الصعاليك. ثم لاحظنا بعد ذلك أن مجموعة شعر الصعاليك التي اصطلحنا على تسميتها "الشعر داخل دائرة الصعلكة" قد تحلل أصحابها من الشخصية القبلية، وحلت محلها ظاهرة أخرى أطلقنا عليها "ظاهرة الوضوح الفني لشخصة الشاعر الصعلوك"، وأن هذه الظاهرة كانت ظاهرة شاذة في المجتمع الأدبي الجاهلي فأطلقنا على الشعراء الصعاليك "أصحاب المذهب الشاذ في الشعر الجاهلي". ثم درسنا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 ظاهرة القصصية في شعر الصعاليك، ورأينا أن الشعراء الصعاليك قد استغلوا في شعرهم كل ما يدور في حياتهم الحافلة بالحوادث المثيرة استغلالا قصصيا رائعا، وانتهينا إلى أن شعر امرئ القيس ليس نقطة البدء في تاريخ القصة الشعرية، وإنما تسبق هذا مرحلة أولى هي مرحلة الشعراء الصعاليك الذين نميل إلى أن امرأ القيس قد تأثر بهم في فنه، ومن هنا أطلقنا على الشعراء الصعاليك "رواد القصة الشعرية في الأدب العربي".ثم وقفنا طويلا عند الواقعية في شعر الصعاليك، وبينا مظاهرها المتعددة. ثم لاحظنا أن شعر الصعاليك يمتاز بالسرعة الفنية، وأن ميزته الكبرى "خفوت الصنعة الفنية"، ورأينا أن التشبيه أقوى الألوان الفنية التي اعتمد عليها الشعراء الصعاليك، ووقفنا طويلا عند هذه الظاهرة، فدرسنا المنابع المختلفة التي تكون "صندوق الأصباغ عند الشعراء الصعاليك"، وكيف استغلوها، ورأينا إلى جانب التشبيه ألوانا فنية أخرى من ألوان الصنعة الفنية المتمهلة، فدرسنا النماذج الفنية التي رأيناها فيها، ثم وقفنا بعد هذا عند الخصائص اللغوية في شعر الصعاليك، ورأينا أولا أن لغتهم هي اللغة الأدبية التي عرفها العصر الجاهلي، غير أننا لاحظنا أنها أقرب إلى فطرة اللغة العربية وأصدق تمثيلا لها، ولاحظنا كثرة الغريب في شعرهم. ثم وقفنا أخيرا عند الظواهر العروضية في شعرهم، ورأينا أن أوزان شعرهم وزحافاته هي الأوزان والزحافات التي عرفها سائر الشعر الجاهلي، غير أننا لاحظنا انتشار الرجز في شعرهم الذي قالوه قبيل مصارعهم. ثم وقفنا بعد ذلك عند شخصيتين متميزتين من الشعراء الصعاليك تميزا اجتماعيا وفنيا: عروة بن الورد الذي يمثل شخصية الصعلوك صاحب المذهب الإنساني، أو شخصية الزعيم الذي يدعو الجماهير إلى الإيمان بمذهبه، والشنفرى الذي يمثل شخصية الصعلوك المتمرد الذي رأى أن يكون تمرده الوسيلة والغاية معا. وبعد، فهذه هي ظاهرة الصعلكة في المجتمع الجاهلي كما رأيناها في شخصيات صعاليكه، وهذه هي دراستنا الفنية لما بين أيدينا من شعرهم. والله ولي التوفيق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 الفهرس : 7-9 مقدمة الطبعة الثانية. 11-17 مقدمة الطبعة الأولى. الباب الأول: الصعاليك. 21-61 الفصل الأول: التعريف بالصعلكة. 21 1- في اللغة. 24 2- في الاستعمال الأدبي. 28 3- في المجتمع الجاهلي. 63-88 الفصل الثاني: التفسير الجغرافي لظاهرة الصعلكة. 63 1- أهمية العامل الجغرافي. 63 2- جزيرة العرب. 72 3- التضاد الجغرافي وأثره في نشأة حركة الصعاليك. 77 4- التضاد الجغرافي وأثره في توجيه حركات الصعاليك. 89-121 الفصل الثالث: التفسير الاجتماعي لظاهرة الصعلكة. 89 1- القبيلة. 91 2- إيمان القبيلة بوحدتها. 103 3- إيمان القبيلة بجنسها. 116 4- الصعاليك والمجتمع القبلي. 123-150 الفصل الرابع: التفسير الاقتصادي لظاهرة الصعلكة. 123 1- العرب والتجارة. 125 2- الطرق التجارية. 128 3- الأسواق. 134 4- الصراع الاقتصادي في المدن التجارية. 138 5- الصراع الاقتصادي في البادية. الباب الثاني: شعر الصعاليك. 153-181 الفصل الأول: ديوان الصعاليك. 153 1- مصادره. 169 2- مادته. 182-258 الفصل الثاني: موضوعات شعر الصعاليك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 182 1- الشعر داخل دائرة الصعلكة. 182 أحاديث المغامرات. 187 شعر المراقب. 191 التوعد والتهديد. 194 وصف الأسلحة. 205 الحديث عن الرفاق. 211 أحاديث الفرار. 215 سرعة العدو. 227 الغزوات على الخيل. 229 الآراء الاجتماعية والاقتصادية. 240 أحاديث التشرد. 248 2- الشعر خارج دائرة الصعلكة. 248 آثار القبلية في شعرهم. 252 المجموعة الإسلامية في شعرهم. 259-319 الفصل الثالث: الظواهر الفنية في شعر الصعاليك. 259 1- شعر مقطوعات. 264 2- الوحدة الموضوعية. 268 3- التخلص من المقدمات الطللية. 274 4- عدم الحرص على التصريع. 276 5- التحلل من الشخصية القبلية. 278 6- القصصية. 282 7- الواقعية. 291 8- السرعة الفنية. 307 9- آثار من الصنعة المتأنية. 312 10- الخصائص اللغوية. 316 11- ظواهر عروضية. 320-338 الفصل الرابع: شخصيتان متميزتان. 320 1- تشابه وتميز. 322 2- عروة بن الورد. 330 3- الشنفرى. 339-344 الخاتمة. 345-350 المصادر والمراجع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346