الكتاب: تاريخ دمشق لابن القلانسي المؤلف: حمزة بن أسد بن علي بن محمد، أبو يعلى التميمي، المعروف بابن القلانسي (المتوفى: 555هـ) المحقق: د سهيل زكار الناشر: دار حسان للطباعة والنشر، لصاحبها عبد الهادي حرصوني - دمشق الطبعة: الأولى 1403 هـ - 1983 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   __________ (تنبيه): النص الإلكتروني مأخوذ أصلا عن الطبعة القديمة، التي انتقدها المحقق د سهيل بأنها كثيرة التصحيفات، فيرجى التنبه لذلك ومراجعة النسخة المصورة عند النقل أو الاقتباس من الكتاب ---------- تاريخ دمشق لابن القلانسي ابن القلانسي الكتاب: تاريخ دمشق لابن القلانسي المؤلف: حمزة بن أسد بن علي بن محمد، أبو يعلى التميمي، المعروف بابن القلانسي (المتوفى: 555هـ) المحقق: د سهيل زكار الناشر: دار حسان للطباعة والنشر، لصاحبها عبد الهادي حرصوني - دمشق الطبعة: الأولى 1403 هـ - 1983 م عدد الأجزاء: 1   [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   __________ (تنبيه): النص الإلكتروني مأخوذ أصلا عن الطبعة القديمة، التي انتقدها المحقق د سهيل بأنها كثيرة التصحيفات، فيرجى التنبه لذلك ومراجعة النسخة المصورة عند النقل أو الاقتباس من الكتاب ـ[تاريخ دمشق]ـ المؤلف: حمزة بن أسد بن علي بن محمد، أبو يعلى التميمي، المعروف بابن القلانسي (المتوفى: 555هـ) المحقق: د سهيل زكار الناشر: دار حسان للطباعة والنشر، لصاحبها عبد الهادي حرصوني - دمشق الطبعة: الأولى 1403 هـ - 1983 م عدد الأجزاء: 1 [ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]   (تنبيه) : النص الإلكتروني مأخوذ أصلا عن الطبعة القديمة، التي انتقدها المحقق د سهيل بأنها كثيرة التصحيفات، فيرجى التنبه لذلك ومراجعة النسخة المصورة عند النقل أو الاقتباس من الكتاب تاريخ دمشق (360- 555) هـ تصنيف الرئيس الأجل مجد الرؤساء أبو يعلى حمزة بنُ أَسَدِ بن عَليّ بن محمد التميمي المعروف بابن القلانسي 470-555 هـ /1077-1160 م تحقيق الدكتور سهيل زكار الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 1 تاريخ دمشق الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 3 حقوق الطبع محفوظة الطبعة الأولى 1983 م-1403 هـ دار حسان للطباعة والنشر (لصاحبها عبد الهادي حرصوني) -دمشق- ص. ب 3218 الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 4 الإهداء إلى ابنتي ربى التي فيها من دمشق العذوبة والصلابة الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 5 بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [ [مقدمة المحقق] ] [[ مدخل ]] لقد كان للفتح الإسلامي للشام، أعظم الآثار على هذه البلاد، من ذلك تثبيت طابع العروبة فيها، وتبديل البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعمرانية، فعلى صعيد السياسة الداخلية والخارجية تحول دور القبائل العربية من الهامش إلى الصميم، وعلى صعيد المدن، نجد قبل الفتح أن مدينة القدس كانت أهم مدن جنوبي بلاد الشام، تتلوها دمشق، وأن أنطاكية كانت أهم مدن الشمال وأبرزها دوراً، تتلوها قنسرين، لكن بعد الفتح، وبسبب انتشار الإسلام، وانسلاخ البلاد عن الإمبراطورية البيزنطية، وقيام الحروب الدائمة معها، ثم قيام السلطان الأموي في الشام، كل هذا أدى إلى تقهقر القدس حيث تقدمتها دمشق، وتخلفت في ذات الوقت مدينة بصرى، واضمحل دورها كثغر تجاري لبلاد الشام على بوابات شبه جزيرة العرب، وتأخرت أنطاكية في الشمال ووصلت قنسرين إلى حالة الاحتضار، وتقدمت حلب وتبعتها معرة النعمان. ووضح هذا الحال في العصر الأموي، وتوطدت أركانه، وبعد قيام الخلافة العباسية، وانشغالها المطلق بمشاكل خراسان وبلاد ما وراء النهر، وإهمالها للحدود مع بيزنطة، وقيام نظام الثغور والعواصم صارت حلب مركز الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 7 شمال الشام سياسياً واقتصادياً وعقائدياً وثقافياً، وغدت دمشق هي المسؤولة عن جنوب الشام. وتنافست كل من حلب ودمشق، ووضح للعيان أن أحداث الشام باتت تدور على محورين أساسيين واحد في الشمال [حلب] وآخر في الجنوب، [دمشق] ، ويمكن تعقب جذور هذه القضية إلى العصر الأموي، فبعد وفاة يزيد بن معاوية حدث صراع شديد على الخلافة والسلطة وانقسم الشام إلى معسكرين: واحد تزعمته قبائل كلب في الجنوب، وآخر تزعمته قبائل كلاب في الشمال، وكانت كلب قبائل يمانية الأصل، وكلاب عدنانية، وفي معركة مرج راهط انتصرت كلب على كلاب، وأعيد تأسيس الحكم الأموي، بزعامة الفرع المرواني، لكن الشام انقسمت بشكل فعلي إلى دارين: دار في الجنوب لكلب ومن لف لفها ودار في الشمال لكلاب ومن قاربها بالنسب، وفصل بين هاتين الدارين خط عرضاني انطلق شرقا وغربا من بلدة الرستن على العاصي. وعندما دب الضعف في قلب الخلافة العباسية كانت الأجزاء الشمالية من بلاد الشام بزعامة حلب، من أقدم البلدان التي أعلنت انفصالها، وقامت فيها دولة مستقلة هي الدولة الحمدانية بزعامة سيف الدولة الحمداني. ومن حلب حاول سيف الدولة مدّ سلطانه إلى الأجزاء الجنوبية من الشام، فدخل دمشق، لكنه لم يتمكن من الاحتفاظ بها، فقبل استقلال حلب، كانت مصر الإسلامية قد استقلت عن جسم الدولة العباسية، وقامت فيها الدولة الطولونية، ومارست الدولة الطولونية السياسة الخارجية التقليدية لمصر المستقلة بالحاق الشام، وقد نجحت -مع الدول التي تلتها في حكم مصر- في الاحتفاظ بالجزء الجنوبي من الشام، وأخفقت في البقاء في الشمال. وفي حلب أقام سيف الدولة بلاطا حاكى فيه بلاط بغداد، وحوى هذا البلاط عدداً كبيراً من العلماء في كل فن مع الشعراء والأدباء، وشهدت بلاد الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 8 الشام بشكل عام نشاطا ثقافيا كبيراً ومتميزاً، حيث عبر عن دور الشخصية الشامية العربي، وعبرت كل من حلب ودمشق عن شخصيتها بالاتجاه نحو إنتاج تواريخ محلية، وبالفعل جاء إلى الوجود عدد من المؤرخين منهم من عاش في المعرة أو مدينة حلب فأرخ لمدينة حلب والجزء الشمالي من البلاد مع مناطق الجزيرة، ومنهم من عاش في دمشق أو اهتم بها، فكتب في تاريخها إنما مع التعلق بالديار المصرية والاهتمام بها [[ ابن عساكر، وابن العديم ]] وإذا كنا لسنا في موضع عرض لمراحل حركة التدوين التاريخي في الشام يكفي أن نذكر أن هذه الحركة وصلت الذروة على يدي ابن عساكر حين كتب تاريخ دمشق ثم ابن العديم حين كتب "بغية الطلب في تاريخ حلب" إنما يلاحظ هنا بأن هذين الكتابين العملاقين قد صنفا حسب نمط كتب التراجم، ومما جاء في بدايتي كل منها من عرض تاريخي حسب الوقائع والحوليات، شمل أخبار فتوح الشام ليس إلاّ، وتميز ابن العديم عن ابن عساكر بأنه صنف كتابا مفرداً أوقفه على العرض التاريخي الإِخباري لمدينة حلب، وهو كتابه "زبدة الحلب من تاريخ حلب" ولم يفعل ابن عساكر هذا، لطبيعة منهجه وثقافته، فهو إمام بالحديث في الدرجة الأولى، ولذلك جاء كتابه الذي صنفه بدمشق مهتماً بطبقات الحدثين والعلماء، وموليا قليل الاهتمام لمن سواهم، وخاصة رجال السلطة. [[ ثابت بن سنان ]] إن هذه الثغرة بالنسبة لدمشق قد جرى تداركها من قبل ثلاثة أجيال من المؤرخين: اثنان من العراق، وثالثهما وهو المهم من دمشق الشام، وأول هؤلاء المؤرخين هو ثابت بن سنان، الذي كان واحداً من أفراد آل الصابئ، الأسرة التي اشتهرت بالطب فنبغ منها عدد من الأطباء خدموا الخلفاء العباسيين ورجال دولتهم، ويذكر بعض من ترجم لثابت بأنه كان مختصاً بخدمة الخليفة الراضي [322-329 هـ /934-940 م] ، وأنه كان بارعا بالطب، تولى تدبير المارستان في بغداد، وخدم عدداً من الخلفاء بعد الراضي، ومن المرجح الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 9 أن ثابتا قد توفي سنة 365 هـ /975 م، وكان ثابت بن سنان كمعظم بقية آله متميزاً إلى جانب كونه طبيبا باهتمامه بالتاريخ وتدوينه، وقد كتب عدداً من التواريخ أشهرها واحد ذيل به -مع شيء من التداخل- على تاريخ الطبري، وله أيضا كتاب "مفرد في أخبار الشام ومصر في مجلد واحد". [[ هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابئ ]] وبعد وفاة ثابت جاء هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابئ، وهو قريبه حيث أن جده إبراهيم هو ابن أخت ثابت، لذلك ذكرت بعض المصادر تجاوزاً بأن ثابت هو خال هلال بن المحسن، وكان هلال في بداية حياته على عقيدة أهل الصابئة ثم دخل الإسلام، وقد ولي ديوان الإنشاء في بغداد، وعاش فترة تاريخية هامة جداً، عاصر أحداثها وعرف أخبارها عن كثب وبشكل وثائقي، فقام بتدوينها في عدد من الكتب مفردة مثل كتابه في تاريخ الوزراء، أو جاءت كذيل لكتب ثابت بن سنان، ففي مرآة الزمان لسبط ابن الجوزي نقرأ: "وكان هلال من كبار العلماء الأدباء، وله التاريخ الذي ذيله على تاريخ ثابت بن سنان، وبدأ به من سنة إحدى وستين وثلاثمائة إلى سنة سبع وأربعين وأربعمائة"، وأكد هذا القفطي في تاريخ الحكماء حيث قال: "ثم كتاب هلال ابن المُحَسِّن بن إبراهيم الصابئ، فإنه داخل كتاب خاله ثابت وتمم عليه إلى سنة سبع وأربعين وأربعمائة، ولم يتعرض أحد في مدته إلى ما تعرض له من أحكام الأمور، والاطلاع على أسرار الدول، وذلك أنه أخذ ذلك عن جده لأنه كان كاتب الإنشاء ويعلم الوقائع، وتولى هو الإنشاء أيضاً، فاستعان بعلم الأخبار الواردة على ما جمعه، ثم يتلوه كتاب ولده غرس النعمة محمد ابن هلال، وهو كتاب حسن إلى بعد سنة سبعين وأربعمائة". في الحقيقة إن ثابت بن سنان أنهى كتابه بحوادث سنة 365 هـ، وأن هلال ابن المحَسِّن ابتدأ كتابه الذي ذيل به على تاريخ ثابت بحوادث سنة 360 وأنهاه بأخبار سنة 447 هـ، فقد كتب ابنه غرس النعمة محمد بن هلال في مقدمة الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 10 كتابه في التاريخ الذي دعاه باسم "عيون التواريخ" والذي أرخ به للفترة الممتدة ما بين 448 إلى 479 هـ، وجعله بمثابة ذيل لتاريخ أبيه، ذكر الأسباب التي حدت به إلى تأليفه بقوله: "وبعد، فكان أبي وصىّ إليّ لما أحس بقدوم الوفاة، ويئس من أيام الحياة، ولمعت له لوامع المنية، وقرعت سمعه قوارع البلية، رغبة في زيادة الذكر ونمائه وانتشاره وبقائه، بصلة كتاب التاريخ الذي ألفه إلى آخر سنة سبع وأربعين وأربعمائة تأليفاً يعجز عنه من يروم مثله، ويفتضح فيه من يتعاطى فضله، إذ هو السحر الحلال، والعذب الزلال، والصادر عن أوحد دهره، وفريد عصره، وشرع فيه وقد أتت عليه سنة [ولد هلال سنة 359 هـ] ، جرب فيها الأمور ومارسها، وخبرها ولابسها، وأنا عار من جميع صفاته، وخال من سائر سماته. وابن اللبون إذا ما لز في قرن ... لم يستطع صولة البزل القناعيس لكن قوله مستمع، ومرسومه متبع، وأمره مطاع، ورأيه غير مضاع وفي سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وفي يوم الأربعاء سادس عشر رمضان توفي والدي، الرئيس أبو الحسن، هلال بن الحسن بن إبراهيم بن هلال، ومولده الأحد، النصف من شوال سنة تسع وخمسين وثلاثمائة، فانتقض السؤدد بمصابه، وانثلم الفضل بذهابه". لسوء الحظ أن معظم مواد التراث التاريخي لأسرة آل الصابئ هي بحكم المفقود، ولقد أكثر سبط ابن الجوزي النقل من تواريخ كل من ثابت وهلال، وقام بإحدى نسخ كتابه مرآة الزمان بنقل جميع محتوياته كتاب غرس النعمة، وقد استخرجت هذا الكتاب من مخطوطتين في باريس واستانبول وحققته وسأدفعه للنشر قريباً إن شاء الله تعالى ويسر. هذا ووصلنا كتاب مخطوط صغير جاء بمثابة مختصر لتاريخ ثابت بن سنان، ضمنه مخْتَصِرُه أخبار القرامطة، ويتألف هذا الخطوط من إحدى الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 11 وثلاثين ورقة من قطع 19×13.5 سم في كل صفحة (وجه) ما بين 20-23 سطراً، في كل سطر ما بين 7-8 كلمات، وهذه النسخة هي بحوزة المستشرق البريطاني برنارد لويس، وكان قد حصل عليها من القاهرة أثناء إعداده لأطروحة الدكتوراه، وقد تفضل فأعارني نسخة عنها، قمت -بعد استئذانه- بنشرها ضمن محتويات كتابي أخبار القرامطة. ونسخة الأستاذ لويس هذه قد كتبت من قبل ثلاثة نساخ على الأقل، وقد تم الفراغ من كتابتها "في سلخ شوال سنة ألف وسبع وخمسين" [27 تشرين الثاني سنة 1647 م] وقد نسخت كما يبدو عن نسخة من تاريخ ثابت تم نسخها في "سلخ جمادي الأولى سنة سبع وسبعين وخمسمائة" [11- تشرين الأول سنة 1181] ونسخت هذه النسخة -كما صرح- عن مسودة المؤلف. إن خط هذه المخطوطة هو نسخي مقروء، وحالة المخطوطة حسنة، إنما يبدو أن المستوى الثقافي لنساخها ومعرفتهم بقواعد اللغة العربية كان ضعيفاً، لهذا تبعثرت الأخطاء النحوية والإملائية في كل مكان. ويمكن تقسيم المعلومات التي تتضمنها إلى قسمين: قسم وردت معظم رواياته في تاريخ الطبري، وقسم وقعت أحداث رواياته بعد وفاة الطبري، فقام ثابت بتدوين أخبار هذه الأحداث، وجل الأخبار في هذا القسم من عصر ثابت، وعندما نقرأ هذا القسم نلاحظ أمراً مدهشاً، حيث أن الكتاب يروي أخبار القرامطة إبتداء من "سنة مائتين وثمان وسبعين من الهجرة" حتى "سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة" بشكل كامل التسلسل سنة تلو أخرى، ثم يقفز فيبدأ بأخبار "سنة ستين وثلاثمائة". ولا ندري بشكل مؤكد سبب هذا، لكن لدى قراءة المواد الأخيرة ومقارنتها بالمواد الأولى، نجد أن المواد الأولى تولي قرامطة البحرين والعراق الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 12 الاهتمام الأكبر، في حين أن المواد الأخيرة موقوفة على نشاط القرامطة في الشام وصراعاتهم مع الخلافة الفاطمية في الشام ومصر. إن هذا يدفعنا إلى الافتراض بأن الذي جمع مواد مخطوطة الأستاذ لويس، جمعها من كتابين لعلهما: تاريخ ثابت بن سنان الذي ذيل به على تاريخ الطبري، وكتابه الآخر الذي أوقفه على تاريخ الشام ومصر، ويبدو أن الكتاب الأول كان مبتوراً، فهو بالأصل "مسودة المؤلف" وأن الذي تولى عملية الاختصار لم يتنبه إلى الخرم الكبير، ولا إلى طبيعة المواد المروية والاختلاف الذي لحقها، أو أنه تنبه لكنه لم يخبرنا. ومهما يكن الحال فإن المواد المتأخرة من مخطوطة الأستاذ لويس تتوافق، لا بل تتطابق تماماً مع محتويات تاريخ ابن القلانسي عن دمشق، وهو بيت القصيد في مقدمتنا هذه. [[ابن القلانسي]] لنحاول أولا التعرف إلى شخصية ابن القلانسي ومن ثم نعود للربط بينه وبين تواريخ آل الصابئ. ترجم لابن القلانسي عدد من المؤرخين يتصدرهم ابن عساكر ثم ياقوت وبعده الذهبي، ولما ذكره ابن عساكر مكانة خاصة للزمان والمكان، ومما قاله عنه ابن عساكر: "حمزة بن أسد بن علي بن محمد، أبو يعلى التميمي، المعروف بابن القلانسي، العميد كانت له عناية بالحديث، وكان أديباً له خط حسن ونثر ونظم ... وصنف تاريخاً للحوادث بعد سنة أربعين وأربعمائة إلى حين وفاته، وتولى رئاسة ديوان دمشق مرتين". وقال عنه ياقوت: "حمزة بن أسد بن علي بن محمد، أبو يعلى، المعروف بابن القلانسي التميمي الأديب الشاعر، المؤرخ، كان من أعيان دمشق ومن أفاضلها المبرزين، ولي رئاسة ديوانها مرتين، وبها توفي سنة خمس وخمسين، وله تاريخ للحوادث، ابتدأ به من سنة إحدى وأربعين وأربعمائة إلى حين وفاته، وكانت له عناية بالحديث، وله كتب عليها سماعه". الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 13 وقد أورد كل من ابن عساكر وياقوت نماذج من شعر من ابن القلانسي، لكنهما وإن ذكرا تاريخ وفاته لم يحددا تاريخ مولده أو سنّه حين الوفاة، وقد تولى الذهبي ذلك فبين أنه جاوز الثمانين أثناء وفاته وكان دون التسعين، وعن الذهبي نقل كل من أبي المحاسن في النجوم الزاهرة واليافعي في مرآة الجنان. وجرت العادة لدى كثير من الأوائل الإشارة إلى أنفسهم في مصنفاتهم، حيث يمكن في أيامنا استخراج المعلومات من هذه الإشارات، وفيما يختص بابن القلانسي لم يشر إلى نفسه قط في مصنفه أو تحدث عن دور من أدواره سيما وأنه كان من كبار رجالات الدولة في دمشق، نعم هناك إشارات غير مباشرة إلى بعض مواقفه السياسية وتذوقه للأدب، فهو قد ضمن كتابه عدة قصائد من نظمه، كما أثبت بعض نصوص الوثائق الديوانية الواردة إلى دمشق لإعجابه بصياغتها. ولئن انعدمت إشاراته لنفسه فهناك بعض الإشارات لأفراد من أسرته، من ذلك أنه ذكر في حوادث سنة 539: "وفي يوم السبت الثالث عشر من رجب من السنة، توفي الأخ الأمين أبو عبد الله محمد بن أسد بن علي بن محمد التميمي عن أربع وثمانين سنة، بعلة الذرب، ودفن بتربة اقترحها خارج باب الصغير من دمشق، وكان على الطريقة المرضية من حسن الأمانة والتصون والديانة، ولزوم داره، والتنزه عن كل ما يوتغ الدين، ويكره بين خيار المسلمين، غير مكاثر للناس، ولا معاشر لهم، ولا متخلط بهم". وعلى أهمية هذه الإشارة كم كنا نتمنى لو أنه ذكر الفارق بالسن بينه وبين أخيه. ومن ثنايا مواد ابن القلانسي نرى بأن أسرته كانت من كبار أسر دمشق، وأعظمها مكانة، فهو قد تحدث في وقائع سنة 548 هـ عن الاضطرابات في دمشق، وبين أن هذه الاضطرابات انتهت حينما "ردّ -سلطان دمشق- أمر الرئاسة [رئاسة دمشق] والنظر في البلد ... إلى الرئيس رضي الدين الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 14 أبي غالب عبد المنعم بن محمد بن أسد بن علي التميمي، وطاف في البلد مع أقاربه، وسكن أهله، وسكنت الدهماء، ولم يغلق في البلد حانوت ولا اضطرب أحد، واستبشر الناس قاطبة من الخاص والعام والعسكرية وعامة الرعية". واحتفظت أسرة آل القلانسي بمكانتها العالية في دمشق لعدة قرون فقد تحدث كل من ابن كثير، وابن طولون وبدران عن "الصاحب عز الدين أبو يعلى حمزة بن مؤيد الدين أبي المعالي أسعد بن عز الدين بن غالب بن المظفر ابن الوزير مؤيد الدين أبي المعالي أسعد بن أبي يعلى حمزة بن أسد بن علي ابن حمزة التميمي الدمشقي، ابن القلانسي، أحد رؤساء دمشق الكبار، ولد سنة تسع وأربعين وستمائة، وسمع الحديث من جماعة ورواه ... وله رئاسة باذخة، وأصالة كثيرة، وأملاك هائلة كافية لما يحتاج إليه من أمور الدنيا، ولم يزل مع صناعة الوظائف إلى أن ألزم بوكالة بيت السلطان، ثم بالوزارة". وابن القلانسي هذا هو حفيد لمؤرخنا، وهو الذي بنى دار الحديث القلانسية في صالحية دمشق، ولعله بناها على تربة جده المؤرخ، ذلك أنه دفن في سفح جبل قاسيون. وعلى العموم نجد أن ما جاء في كتب التراجم وفي ثنايا تاريخ ابن القلانسي عبارة عن مواد مقتضبة، فهي وأن تحدثت عن ثقافته العالية واهتمامه بالحديث فإنها لم تذكر اسم واحد من أساتذته ولا من تأثر بهم ثقافياً، ولا عن سلوكه ونشاطاته وصفاته الخلقية والخُلقية، وغير ذلك من الأمور التي بودنا لو عرفناها. ومهما يكن الحال فإن كتابه في التاريخ وعمله في ديوان "الإنشاء" بمثابة رئيس له تدل على علو ثقافته وتمكنه من ناصية اللغة، ومن المفيد هنا أن نشير إلى أنه وإن شابه أهل عصر في اهتمامه بالصنعة والمترادفات، إلا أنه لم يسرف في ذلك كما أسرف العماد الأصفهاني وسواه ولا شك أن رئاسته للديوان جعلته وسط أخبار الوقائع والأحداث مع شيء من المشاركة، ومكنته من الاطلاع الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 15 على الوثائق الرسمية على مختلف أنواعها سيما وأنه تسلم ديوان الحساب [الخراج] لفترة من الزمن، جامعا بينه وبين ديوان الإنشاء [الرسائل] . ومرّ بنا قول ابن عساكر ثم ياقوت أنه بدأ مصنفه في التاريخ بحوادث ما بعد سنة أربعين أو إحدى وأربعين حسب تحديد ياقوت، وهذا التحديد فيه شيء من الوهم، لعل مرده إلى النساخ، فابن القلانسي بدأ كتابه بحوادث سنة /448 هـ/ وصرح بأنه صنع "مذيلاً"، وفي العادة قد "يبنى المذيل" على ذيل، والذيل يأتي بمثابة ملحق بكتاب أساسي. ونعود الآن إلى ما سلف ذكره عن ثابت بن سنان وهلال بن المحسن، فثابت كتب كتاباً بالتاريخ أوقفه على مصر والشام ووقف به مع أحداث سنة /365 هـ/ وهي سنة وفاته، وجاء من بعده هلال بن المحَسِّن فكتب ذيلاً على تاريخ ثابت تداخلت بعض سنيه، حيث بدأه بحوادث سنة /360/ ووقف به حتى نهاية سنة /447/. ولا يصرح ابن القلانسي باعتماده على كتابي ثابت بن سنان وهلال بن المُحَسِّن أو على واحد منهما على الأقل، كل ما هنالك أنه في سياق حديثه عن ولاية "حيدرة بن مفلح" لدمشق، وهو أحد الولاة الفاطميين قال: "واستمرت عليه الأيام في الولاية إلى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، التي بني هذا المذيل عليها، وعادت سياقة الحوادث منها، وإيراد ما فيها، وتجدد بعدها". والبحث التاريخي هو الذي قاد إلى الافتراض بان ابن القلانسي بنى "مذيله" على كتابي ثابت بن سنان وهلال بن المحسن، أو على واحد منهما فمن شبه المؤكد أن مصنف ابن القلانسي بشطريه "الأساس" و"المذيل" يبدأ بحوادث سنة /360/ وبهذه السنة بدأ هلال كتابه، ومن المسلم به أن ما كتبه هلال عن أخبار السنوات /360-365 هـ/ وهي السنوات التي الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 16 تداخل بها كتابه مع كتاب ثابت هناك تطابق بالمواد، مع اختلاف بالتفاصيل، وهذا ما نلاحظه حينما نقارن مواد السنوات المتداخلة بين تاريخ ثابت بن سنان وتاريخ الطبري، لهذا ليس من المستبعد أبداً أن يكون ابن القلانسي اعتمد على تاريخ هلال بن المحسن دون سواه. وتبقى الأمور في حدود الفرضية، فتاريخ هلال بن المحسن هو بحكم المفقود، ومصنف ابن القلانسي وصلتنا منه نسخة خطية واحدة محفوظة في مكتبة البودليان في أكسفورد برقم [125 Hunt] وهذه النسخة قد بتر من أولها مقدار أربع عشرة ورقة، ولا شك أن هذه الأوراق قد حوت خطبة الكتاب مع بعض المواد الإخبارية، ولئن تمكنت من تدارك المواد الإخبارية المفقودة من مختصر كتاب ثابت بن سنان، تبقى المسألة الأساسية معلقة. من هذا نخلص إلى القول أن مخطوطة البودليان تحوي قسمين من المعلومات الإخبارية، القسم الأول منها حتى سنة 448 من تصنيف هلال بن الحسن لوحده أو مع ثابت بن سنان، والقسم الثاني حتى نهاية الكتاب من تصنيف ابن القلانسي، والقضية التي تواجهنا الآن هي: هل نقل ابن القلانسي مواد آل الصابئ نقلاً حرفياً، أم عدل فيها اختصاراً وزيادة ونقصاناً؟. إن من يقرأ مخطوطة البودليان يلحظ بعض الفوارق باللغة والعرض بين شطري الكتاب، إنما رغم ذلك يخيل أن ابن القلانسي تدخل بمواد الشطر الأول وأعاد صياغتها، وهنا لربما حذف بعض المواد. وأضاف مواداً من عنده، مما تجمع لديه من مصادر ووثائق محلية. لقد دعا ابن القلانسي ما صنفه باسم "المذيل" ولما كانت محتويات مخطوطة البودليان تحوي الأصل والمذيل، فقد بات من المفترض أن نطلق على الكتاب اسم "تاريخ دمشق" ثم لذهابنا إلى الافتراض بأن جميع محتويات الكتاب من صياغة ابن القلانسي وروايته [بالوجادة أو غير ذلك من الطرق] فقد بات من المسوغ نسبة الكتاب بأجمعه إلى ابن القلانسي. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 17 يؤرخ مصنف ابن القلانسي لقرنين من الزمن هما من أهم القرون، وبالنسبة لكثير من الأحداث هو المصدر المتفرد، في هذين القرنين جرت أحداث الصراع القرمطي الفاطمي على الشام، وأعقب ذلك الحكم الفاطمي للشام، وكان حكما لم يعرف الاستقرار لأسباب داخلية فاطمية، ولمقاومة أهل الشام لهذا الحكم، وابن القلانسي يروي لنا سيرة المقاومة الشامية، وهي سيرة لشعب دمشق وشعب الشام أجمع، سيرة لمنظمات هذا الشعب وفئاته الاجتماعية وقبائله، سيرة لعمران دمشق وخططها، وهنا يقتضي أن ننوه أن هذه مزية تفرد بها ابن القلانسي إلى أبعد الحدود. صحيح أن الكتاب أوقفه صاحبه بالأصل على دمشق لكنه يولي مع دمشق اهتماماته بقية أجزاء الشام، ثم بقية أجزاء الوطن العربي والعالم الإسلامي، فمواده عن كل من الخلافتين الفاطمية والعباسية لها مكانة خاصة، بل أكثر من هذا نجده يتقصى أخبار المغرب الأقصى ويقدم لنا رواية ذات مكانة خاصة حول المهدي بن تومرت وتأسيس دولة الموحدين. وعلى مكانة مواد ابن القلانسي حول العصر الفاطمي، فإن الذي يفوقها أهمية هو ما رواه حول دخول الشام تحت السلطان السلجوقي، ثم أحداث الحروب الصليبية زمن الحملتين الأولى والثانية، وهي أحداث عاصرها وكان شاهد عيان لها، ولأهمية هذه الروايات تمت ترجمتها إلى كل من الإنكليزية والفرنسية. وابن القلانسي مؤرخ ثقة يمكن الاعتماد على رواياته، وقد أوضح منهجه في كتابه بقوله: "قد انتهيت في شرح ما شرحته من هذا التاريخ، ورتبته وتحفظت من الخطأ والخطل والزلل فيما علقته من أفواه الثقات، ونقلته وأكدت الحال فيه بالاستقصاء والبحث، إلى أن صححته إلى هذه السنة المباركة، وهي سنة أربعين وخمسمائة، وكنت قد منيت منذ سنة خمس وثلاثين وخمسمائة وإلى هذه الغاية بما شغل الخاطر عن الاستقصاء عما يجب إثباته في هذا الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 18 الكتاب، من الحوادث المتجددة في الأعمال، والبحث عن الصحيح منها في جميع الأحوال، فتركت بين كل سنتين من السنين بياضاً في الأوراق، ليثبت فيه ما يعرف صحته من الأخبار، وتعلم حقيقته من الحوادث والآثار، وأهملت فيما ذكرتها من أحوال سلاطين الزمان فيما تقدم، وفي هذا الأوان، باستيفاء ذكر نعوتهم المقررة، وألقابهم المحررة، تجنباً لتكريرها بأسرها، والإطالة بذكرها، ولم تجر بذلك عادة قديمة، ولا سنة سالفة في تاريخ يصنف، ولا كتاب يؤلف، وإنما كان الرسم جارياً في القديم باطراح الألقاب والإِنكار لها، بين يدي ذوي العلوم والآداب، فلما ظهرت الدولة البويهية الديملية، ولقب أول مسعود نبغ فيها بعماد الدولة بن بويه، ثم أخوه وتاليه في الولادة والسعادة بركن الدولة أبي علي، ثم أخوهما بمعز الدولة أبي الحسين، وكل منهم قد بلغ من علو المرتبة والمملكة، ونفاذ الأمر في العراق وخراسان والشام إلى أوائل المغرب ما هو مشهور، وذكره في الآفاق منشور، ولما علا قدر الملك عضد الدولة فناخسره بن ركن الدولة أبي علي بن بويه بعدهم، وظهر سلطانه، وعلا شانه وملك العراق بأسره وما ولاه من البلاد والمعاقل، وخطب له على المنابر، زيد في نعوته في أيام المطيع لله أمير المؤمنين رحمه الله: تاج الملة، ولم يزد أحد من أخوته: مؤيد الدولة صاحب أصفهان، وفخر الدولة صاحب الري وما ولاهما، وانضاف إليهما على اللقب. ولم يزل الأمر على ذلك مستمراً إلى أن ظهر أمر السلطان ركن الدنيا والدين طغرلبك محمد بن ميكال بن سلجق، وقويت شوكة الترك، وانخفضت الدولة البويهية واضمحلت وانقرضت، ولقب السلطان طغرلبك لما ظهر أمره في العراق، واجتاح شأفة أبي الحارث أرسلان الفساسيري في أيام الإمام الخليفة القائم بأمر الله أمير المؤمنين رحمه الله بـ: السلطان المعظم شاهنشاه الأعظم، ركن الدنيا والدين، غياث المسلمين، بهاء دين الله، وسلطان بلاد الله، ومغيث عباد الله، يمين خليفة الله، طغرلبك. الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 19 ثم زاد الأمر في ذلك، إلى أن أضيف إلى ألقاب ولاة الأطراف: الدين والإسلام، والأنام والملة، وغير ذلك، بحيث اشترك في هذا الفن الخاص والعام، لا سيما في هذا الأوان". إن هذا النص الفريد في كتاب ابن القلانسي فيه أكثر من دليل، ليس على منهج المؤلف ودقته وتحريه ونوعية مصادره فحسب، بل على عمق في فهم التاريخ الإسلامي ومشاكله، ونظرة ثاقبة واعية لأحداثه، وقد تأثر بهذه النظرة عدد من المؤرخين والسياسيين المسلمين، فهذا ما نشهد صداه في كتاب الكامل لابن الأثير، وعدد آخر من المصنفات الإسلامية العربية والفارسية سواء. ومع أن ابن القلانسي يشير بأنه كان يجمع مواد كتابه على شكل مذكرات يومية، فإن ما يؤسف له هو طابع الاختصار لديه، فقد عقدت مقارنة بينه وبين وليم الصوري وهو من معاصريه، وكلاهما كتب عن حوادث الحروب الصليبية، واحد في القدس باللاتينية وآخر في دمشق بالعربية، ومع أن ابن القلانسي انفرد بذكر أخبار بعض الحوادث إلا أنه إذا اجتمع مع وليم على قص خبر حادثة، فالتفاصيل لدى وليم أكبر منها عند ابن القلانسي. وهذا لا يقلل من قيمة ابن القلانسي، خاصة إذا تذكرنا أنه المصدر العربي الوحيد الذي وصلنا، وقام برواية الأخبار من وجهة نظر عربية صريحة ومنصفة، وفيها اعتدال كبير، وهذه صفات افتقر إليها وليم الصوري وغيره من المؤرخين غير العرب مثل آنا كومينا، مؤرخة الحملة الصليبية الأولى بالإغريقية، والمؤرخ السرياني المجهول الذي أرخ للحملتين الأولى والثانية وميخائيل السرياني. ولهذا لاقى كتاب ابن القلانسي عناية خاصة، وكان أن أقدم المستشرق هـ. أمدروز على تحقيقه ونشره سنة 1908 لحساب مؤسسة برل في ليدن هولنده، وقد طبع نصه في بيروت في مطبعة الآباء اليسوعيين، وقامت منذ الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 20 قرابة العقدين من السنين مكتبة المثنى في بغداد بإعادة طبعه بطريقة تصوير الأوفست، ونفذت نسخ الكتاب من الأسواق منذ سنين عديدة. لقد بذل المستشرق أمدروز جهده في تحقيق نص الكتاب فنال بعض التوفيق، وكان حظه من الاخفاق أكبر، علما بأنه ألحق بالمتن عدداً من الحواشي المهمة استقى غالبيتها من تاريخ ميا فارقين للفارقي ومرآة الزمان لسبط ابن الجوزي. ومرد الإخفاق إلى أنه لا يوجد في العالم إلا نسخة خطية واحدة من الكتاب، وهذه النسخة على وضوح خطها النسخي، ورغم نظافتها وخلوها من التطبيع وخروم الأوراق والأسطر، والاضطراب، فإن متنها قد انتشرت فيه التصحيفات بشكل رهيب، لا يستطيع المرء التنبه إليها إلا بكل صعوبة يضاف إلى هذا أن الناسخ -الذي لا نملك ترجمة لحياته- كان عاجزاً عن قراءة الأصل الذي اعتمده، لذلك لم يكتف بأعمال التصحيف بل تجاوز جملاً برمتها، ولهذا فمتن الكتاب فيه من الثغرات ما لا يمكن احصاؤه، وعندما أقدم أمدروز على نشر الكتاب أخفق في التنبه إلى تصحيفات النص وثغراته كما أخفق في قراءة الكثير من الكلمات بشكل صحيح، ولهذا جاءت طبعته مشوشة النص، وقامت الحاجة إلى إعادة تحقيق الكتاب ونشره. ومنذ أكثر من عشرين عاما كنا نتحدث عن وجود حاجة ماسة إلى إعادة تحقيق جميع الكتب التي سبق نشرها في أوروبا، وأن هناك حاجات مسيسة للاهتمام بتاريخ بلاد الشام في العصور الإسلامية، فالطالب عندما يدرس العصر الأموي يعرف ما كان جري بالكوفة ولا يدري ما كان يجري في دمشق دار الخلافة، ومقر نشاطاتها، ولكم يتمنى المرء لو تم إنشاء مركز للدراسات الشامية يلحق بجامعة دمشق أو بغيرها من المؤسسات الثقافية، ويعمل على جمع مصادر تاريخ بلاد الشام، وإحياء نصوص هذه المصادر أو التعريف بها، وحبذا لو الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 21 أقدمت مجلة الدراسات التاريخية التي تصدر في دمشق عن لجنة "كتابة التاريخ العربي" على فتح ملف دائم للحديث عن تاريخ الشام مع المصادر. وكنت قد عرفت تاريخ ابن القلانسي منذ زمن بعيد، وتوثقت صلاتي به في العشرين سنة الماضية منذ عملي في إعداد أطروحة الدكتوراه وأثناء بحثي في التاريخ الفاطمي وأخبار القرامطة والعصر السلجوقي والحروب الصليبية، وأخيراً اتخذت قراراً بان أعمل في أسرع وقت على إعادة تحقيق الكتاب ونشره، وفي إحدى الأمسيات كنت أحدث بعض الأصدقاء عن هذه النية، وأنني سأراسل مكتبة البودليان للحصول على شريط مصور للمخطوط، وهنا أخبرني الصديق أحمد ابش، أن لديه نسخة من هذا الشريط، وتفضل مشكوراً بإعارتي إياها، حيث أخرجت عنها صورة مطبوعة، ولا بد من الإشارة هنا إلى السيد ابش هو شاب دمشقي يعمل جاهداً في سبيل جمع مصادر تاريخ دمشق، وإني أنتظر له مستقبلاً جيداً في خدمة تاريخ هذه المدينة الخالدة. وأثناء عملي في تحقيق الكتاب والإشراف على طباعته لاقيت التشجيع والعون من عدد من الأصدقاء أخص منهم الأخ عبد الهادي حرصوني، كما أن بعض طلابي قدموا لي مشكورين بعض المساعدات في إعداد فهارس الكتاب، ذلك أنني ألحقت الكتاب بفهارس فنية للأعلام مع فهارس للمحتويات وثلاث خرائط اثنتان لدمشق المدينة ودمشق والمناطق القريبة منها، وثالثة لمسرح عمليات الحروب الصليبية، وهنا أعود لأتوجه بالشكر إلى أصحاب مطابع دار الملاح والعاملين فيها لما بذلوه من جهود في سبيل إخراج الكتاب بشكل صحيح لائق، وللصديق الزميل الأستاذ فواز بكدش لتفضله بتصميم غلاف الكتاب. ولا بد لي أن أشير في نهاية هذه المقدمة بأنه على الرغم من اعترافي بجميع المساعدات التي قدمت لي، فإن مسؤولية الكتاب أتحملها لوحدي وأنني بذلت الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 22 أثناء التحقيق كل طاقاتي، وعدت إلى سلسلة عريضة من المصادر التاريخية والجغرافية وسواها مع عمليات السبر والبحث عن بعض المواقع على الطبيعة، وتابعت ذلك والكتاب قيد الطباعة، وأسوق هنا المثل التالي، فلقد مر بي في [ص 39] ذكر نبع اسمه الفوار، وبحثت عن مواقع هذا النبع في المصادر فلم أهتد إلى ذكر له، وسألت فأخبرت أنه اسم لواحد من ينابيع بلدة الحمة المحتلة، وهذا ما أثبته في الحاشية، وبعد هذا تبين لي أن هذا وهم، والصحيح أنه نبع قائم على طريق دمشق خان أرنبه، وأنه يبعد عن خان أرنبه مسافه /15/ كم وعلى مسافة /4/ كم من، معسكر للطلائع. وهذا المثل فيه عبرة كبيرة، إن الباحث ينشد الكمال، لكن من المحال الوصول إلى هذا الهدف، وإن للبحث العلمي بداية من ليس له نهاية، لهذا أتوجه إلى جميع القراء بالدعوة إلى إرشادي إلى ما أخفقت في قراءته أو تحديده أو شرحه، فالكتاب الآن هو ملكهم ومحتوياته فيها تاريخهم ممثلاً بأعظم مدن التاريخ وأروعها دوراً، دمشق دار العروبة والإسلام. والحمد لله والصلاة والسلام على الإنسان الكامل سيدنا ونبينا وهادينا محمد رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليما. دمشق 20 شوال 1403 هـ 30 تموز 1983 م سهيل زكار الجزء: المقدمة ¦ الصفحة: 23 سنة ستين وثلاثمائة ذكر أخذ القرامطة دمشق من المعز لدين الله صاحب مصر وهذا في سنة ستين وثلاثمائة وفي سنة ستين وثلاثمائة في ذي القعدة وصل القرامطة إلى دمشق، ونصبوا على أسوارها السلالم، وتعلقوا بها وفتحوها قصداً، وأوقعوا بأهلها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، وشنعوا بأهلها وقتلوا واليها جعفر بن فلاح، وسبب ذلك أنهم لما رأوا أن جعفراً استولى على الشام أهمهم أمره وأزعجهم وقلقوا، لأنهم كانوا قرروا مع ابن طغج أن يحمل إليهم في كل عام ثلاثمائة ألف دينار، فلما ملكها جعفر علموا أن المال يفوتهم، فعزموا على المسير إلى الشام، وصاحبهم وقتئذ الحسن بن أحمد بن بهرام القرمطي فأرسل إلى عز الدولة بختيار يستمد منه المعونة بالسلاح والمال، فأجابه الى ذلك واستقر الحال أنهم إذا ساروا الى الكوفة سائرين الى الشام حملوا الذي استقر، فلما وصلوا الكوفة أوصل اليهم ذلك وساروا الى دمشق، وبلغ خبر وصولهم الى جعفر، فاحتقرهم واستهان بهم "ولم يدر المخبأ له ولم يصل اليه قول القائل: "إذا كان عدوك نملة فلا تنام له"، وقد تقتل النملة الثعبان والأسد" (1) ولم يحتط (2) ويحترز منهم ولم يعمل لهم حساباً، فكبسوه بظاهر دمشق (3) وقتلوه من حيث لا يشعر بهم وغنموا ماله   * بداية المستدرك من مختصر تاريخ ثابت بن سنان. (1) يبدو أن هذه الجملة مقحمة في الأصل. (2) في الأصل - يحتاط -. (3) في مرآة الزمان - مخطوطة أحمد الثالث - 11/88- و: وفيها [360 هـ] وتوفي جعفر بن فلاح أحد قواد المصريين، وأول أمير ولي لهم دمشق، وكان فيمن خرج مع جواهر من المغرب، وشهد معه فتوح مصر، ثم بعثه جوهر إلى الشام، فتغلب على الرملة سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة، وأقام بدمشق. ولخمس خلون من صفر من هذه السنة، أمر المؤذنين بجامع دمشق أن يؤذنوا = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 وأنعامه من ناطق وصامت (1) .   بحي على خير العمل، وكذا بالمساجد، وكان ينزل بمكان يقال له الدكة بين نهري يزيد وتورا، وقيل هي فوق يزيد قريبا من دير مران، فجاء أبو محمد الحسن بن أحمد القرمطي الى دمشق ويلقب بالاعصم، وكان جعفر مريضا، فخرج فقاتله فقتله القرمطي في ذي القعدة وقيل في شوال. (1) اصطدم الفاطميون أثناء فتحهم لدمشق بجماعات الأحداث فيها، الذين شكلوا نوعاً من أنواع المليشيات الشعبية البلدية، وكان محمد بن عصودا من بين زعماء أحداث دمشق الذين تصدوا لجعفر بن فلاح، وعندما أخفق بالمقاومة غادر دمشق إِلى الأحساء حيث استنجد بقرامطتها، ومن حسن الحظ أن المقريزي حفظ لنا في كتاب المقفى تراجم لجعفر بن فلاح والحسن الاعصم زعيم القرامطة، وترجمة الأعصم نشرتها في كتابي أخبار القرامطة، أما ما جاء عن علاقة جعفر ابق، فلاح بالقرامطة فهاكم هو: (من مخطوطة مجلد برتو باشا في استانبول: 301-302) . .... وأما محمد بن، عصودا فإنه لما انهزم، سار الى الأحساء، هو وظالم بن مرهوب العقيلي، وحثا القرامطة على المسير الى الشام، فوافق ذلك منهم الغرض، لأن الاخشيدية كانت تحمل في كل سنة الى القرامطة مالاً، فلما أخذ جوهر مصر، انقطع المال عن القرامطة فأخذوا في الجهاز للمسير الى الشام. وكثرت الأخبار بمسير القرامطة الى الشام، وأنهم نزلوا على الكوفة، وكتبوا الى الخليفة ببغداد، فأنفذ اليهم خزانة سلاح، وكتب لهم بأربعمائة ألف درهم على أبى تغلب عبد الله بن ناصر الدولة بن حمدان، من مال الرحبة، وأنهم ساروا من الكوفة الى الرحبة وأخذوا من ابن حمدان المبلغ، فكتب جعفر الى غلامه فتوح وهو على أنطاكية يأمره بالرحيل فوافاه الكتاب مستهل شهر رمضان، فشرع في شد أحماله، ونظر الناس إليه فجفلوا ورموا خيمهم، وأراقوا طعامهم، وأخذوا في السير مجدين الى دمشق، فلما وافوا جعفر أراد أن يقاتل بهم القرامطة، فلم يقفوا، وطلب كل قوم موضعهم، ولم يبالوا بالموكلين على الطرق. وعندما نزل القرامطة على الرحبة أكرمهم أبو تغلب، وبعث الى الحسن بن أحصد بن أبي سعيد الجنابي، المعروف بالأعصم، كبيرهم يقول له: هذا شيء أردت أن أسير فيه بنفسي لكني مقيم في هذا الموضع الى أن يرد إلى خبرك، فإن احتجت الى سيري سرت إليك، ونادى في عسكره من أراد السير من الجند = الجزء: 1 ¦ الصفحة: 2 وبعد ملكهم لدمشق أمنوا من بقي من أهلها، وعزموا السير الى الرملة واستولوا على جميع ما بينهما، فلما سمع من بها من الغاربة خبرهم ساروا منها الى يافا، فتحصنوا بها، وملك القرامطة الرملة بعد قتال شديد وخسائر جمة، وبعد استتباب الأمر لهم قصدوا المسير الى مصر وتركوا على يافا من يحصرها. وعند دخولهم مصر اجتمع عليهم خلق كثير من العرب وغيرهم من الجند والإِخشيدية، والكافورية، فنزلوا بفناء مدينة الشمس على مقربة من مصر قريباً من قرية البلسم أو البيلسان وتعرف "بعين" شمس، واجتمع جند جوهر   الاخشيدية وغيرهم الى الشام مع الحسن بن أحمد فلا اعتراض لنا عليه، وقد أذنا له في المسير والمعسكران واحد، فخرج الى القرامطة كثير من الاخشيدية الذين كانوا بمصر وفلسطين، ممن فر من جوهر وجعفر بن فلاح، وكان جعفر لما أخذ طبرية بعث الى أبي تغلب ابن حمدان بداع يقال له أبو طالب التنوخي، يقول له: إنا سائرون اليك فتقيم لنا الدعوة، فلما قدم الداعي على أبي تغلب وهو بالموصل، وأدى الرسالة، قال له: هذا ما لا يتم لأننا في دهليز بغداد، والعساكر منا قريبة، ولكن إِذا قربت عساكركم من هذه الديار، أمكن ما ذكرته، فانصرف بغير شيء. ثم ان الحسن بن أحمد القرمطي، سار عن الرحبة الى أن قرب من دمشق، فجمع جعفر خواصه واستشارهم، فاتفقوا على أن يكون لقاء القرامطة في طرف البرية قبل أن يتمكنوا من العمارة، فخرج اليهم ولقيهم، فقاتلهم قتالا شديداً، فانهزم عنه عدة من أصحابه، فولى في عدة ممن معه، وركب القرامطة أقفيتهم، وقد تكاثرت العربان من كل ناحية، وصعد الغبار، فلم يعرف كبير من صغير، ووجد جعفر قتيلا لا يعرف لها قاتل، وكانت هذه الوقعة في يوم الخميس لست خلون من ذي القعدة سنة ستين وثلاثمائة. فامتلأت أيدي القرامطة بما احتووا عليه من المال والسلاح وغيره، وخرج محمد بن عصودا إلى جثة جعفر بن فلاح، وهى مطروحة في الطريق، فأخذ رأسه وصلبه على حائط داره، أراد بذلك أخذ ثأر أخيه اسحق بن عصودا، وملك القرامطة دمشق، وورد الخبر بذلك على جوهر القائد، فاستعد لحرب القرامطة ... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 3 الصقلبي قائد العز لدين الله، وخرجوا اليهم، فاقتتلوا غير مرة فلم يظفروا بهم في جميع تلك الأيام، وما حصل منهم من الفظائع من قطع الطريق والنهب والسلب وسطوهم على القرى وهتكهم الأعراض يعجز القلم عن وصفه لعنهم الله. ثم انهم تقدموا وزحفوا وحصروا عسكر جوهر وضايقوهم وحصروهم حصاراً شديداً، ثم ان جند جوهر خرجوا يوماً من مصر وحملوا على القرامطة من الميمنة فانهزم من بها من العرب وغيرهم، واقصدوا خيام القرامطة فنهبوها وكبسوهم فيها فاضطروا الى الهزيمة، وولوا الأدبار راحلين إلى الشام، فنزلوا الرملة ثم حصروا يافا حصاراً شديداً وضيقوا على من بها، فسير القاهد جوهر نجدة من عسكره لأصحابه المحصورين بها، ومعهم ميرة في خمسة عشر مركبا، فأرسل القرامطة مراكبهم اليها فأخذوا مراكب جوهر ولم ينج منها غير مركبين، فغنمهما مراكب الروم. وللحسن بن بهرام زعيم القرامطة شعر فمنه في المغاربة أصحاب المعز لدين الله العلوي الفاطمي الافريقي يقول: زعمت رجال الغرب أني هبتها ... فدمي إذاً ما بينهم مطلول يا مصر إن لم أسق أرضك من دمي ... يروي ثراك فلا سقاني النيل وفي صباح الغد أخذ جند جوهر يرمون القرامطة بقوارير النفط، وأعملوا فيهم السلاح حتى اضطروهم الى الجلاء عن الحصار، ورحلوا الى الشام فتبعوهم، وواصلهم المعز وجوهر بالنجدات حتى أجلوهم عن بعض القرى والمدن (1) .   (1) جاء في ترجمة جوهر الصقلبي، في كتاب المقفي للمقريزي - مجلد برتو باشا: 311، مزيداً من التفاصيل هاكم هي: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 4 وفي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة تقوى القرامطة، وعزموا أن يعودوا لمحاربة المعز الفاطمي العلوي صاحب مصر وافريقية، فتجمعت جموعهم وساروا من الإحساء، وفي مقدمتهم زعيمهم الحسن بن أحمد قاصدين ديار مصر فنزلوا بها وحصروها، فلما سمع المعز لدين الله قصد القرامطة قبل وصولهم الى مصر، كتب اليهم كتابا (1) ، يذكر فيه فضل نفسه وأهل بيته، وأن دعوة القرامطة كانت له وآبائه من قبله، وتوعدهم وهددهم وسير الكتاب اليهم، فكتبوا اليه "جوابك: وصل الذي قل تحصيله، وكثر تفصيله، ونحن حاضرون اليك على إثره والسلام". وساروا حتى وصلوا عين شمس فخيموا بها، وأنشب القتال، وحصروا مصر حصراً شديداً، وأفسدوا ونهبوا القرى وقطعوا السبيل، وكثرت جموعهم، والتف حولهم من العرب وقطاع الطريق جمع كبير، وكان ممن حضر معهم وانضم اليهم الأمير حسان بن الجراح الطائي أمير العرب ببادية   = ورد الخبر بقدوم الحسن بن أحمد الأعصم القرمطي الى دمشق، وقتل جعفر، بن فلاح، واستيلاء القرامطة على دمشق، وقصدهم مصر، فتأهب جوهر لقتالهم، وحفر جوهر خندقاً، وعمل عليه بابين من حديد، وبنى المقنطرة على الخليج ظاهر القاهرة، وحفر خندق السري بن الحكم، وفرق السلاح على العساكر، فوجد رقاعا في الجامع العتيق فيها التحذير منه فجمع الناس ووبخهم فاعتذروا له فقبل عذرهم، ونزل القرامطة عين شمس في المحرم سنة احدى وستين، فاستعد جوهر وضبط الداخل والخارج. وفي مستهل ربيع الأول التحم القتال بين القرامطة وبينه على باب القاهرة، فقتل من الفريقين جماعة وأسر كثير، ثم استراحوا في ثانيه، والتقوا في ثالثه، فاقتتلوا قتالاً كثيراً قتل فيه ما شاءا الله من الخلق، وانهزم القرمطي يوم الأحد ثالث ربيع الأول، ونهب سواده، ومر على طريق القلزم - السويس حاليا - ونودي في مدينة مصر: من جاء بالقرمطي أو برأسه فله ثلاثمائة ألف درهم وخمسون خلعة وخمسون سرج محلى على دوابها،، وثلاث جوائز ... (1) أنظره في نص المقريزي في اتعاظ الحنفا بين نصوص كتابي أخبار القرامطة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 5 الشام، ومعه جمع عظيم، فلما رأى ذلك المعز استعظم الأمر، وتحير وارتبك في أمره، فجمع حاشيته ووزراءه (*) ] . (1)   (*) نهاية المستدرك من مختصر تاريخ ثابت، حيث تتطابق المعلومات بعد ذلك. (1) نهاية سقط من أول الكتاب مقداره أربع عشرة ورقة. قال معد الكتاب للشاملة: ما سبق استدركه المحقق (د / سهيل زكار) من مختصر تاريخ ابن ثابت وقد جاء - بدلا منه - في نسخة المستشرق هـ. أمدروز (حققه ونشره سنة 1908 لحساب مؤسسة برل في ليدن هولنده، وقد طبع نصه في بيروت في مطبعة الآباء اليسوعيين) ، ما يلي: [وقال الشيخ أبو المظفر يوسف سبط ابن الجوزي في تاريخه مرآة الزمان في ترجمة السنة الحادية والستين بعد الثلاثمائة أن من ها هنا نبتدي بشي مما ذكره أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابي وأنه قال: إن في جمادى الآخرة ورد الخبر بأن أبا علي الحسن بن أبي منصور أحمد القرمطي سار إلى مصر ونزل بعين شمس وجرت بينه وبين جوهر القائد وقعة وكان الاستظهار فيها لجوهر وانهزم القرمطي. قال ابن الصابي: لما دخل جوهر مصر سنة 358 ووطأ الأمور للمعز وأقام له الخطبة سير القائد جعفر بن فلاح إلى الشام فاسر الحسن بن عبيد الله بن طغج وبعث به إلى مصر ولما نهب الرملة قصده النابلسي الزاهد واستكف جعفر عن النهب فكف. ثم استخلف ابنه على الرملة وسار إلى طبرية وبلغه أن ابن أبي يعلي الشريف وهو أبو القاسم إسماعيل قد أقام الدعوة بدمشق للمطيع فسار إلى دمشق فعصوا عليه وقاتلوه فظهر عليهم وهرب ابن أبي يعلي إلى البربر وجئ به إليه فأحسن إليه وبعث به إلى مصر مع جماعة من الأحداث الذين قاموا معه. وعرف القرامطة استيلاء المغاربة على الشام وأخذهم ابن طغج فانزعجوا من ذلك لما يفوتهم من المال الذي كان قرره ابن طغج لهم وهو في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار فبعثوا أبا طريف عدي بن محمد بن المعمر صاحبهم إلى عز الدولة بختيار والوزير يومئذ أبو الفرج محمد بن العباس ابن فسانجس يطلبون المساعدة على المغاربة بالمال والرجال فاستقر أن عز الدولة يعطيهم ألف ألف درهم وألف جوشن وألف سيف وألف رمح وألف قوس وألف جعبة وقال: إذا وصل أبو علي لجنابي إلى الكوفة حمل إليه جميع ذلك. ولما وصل الجنابي إلى الكوفة وكان في عدد كثير من أصحابه ومن الأعراب فبعثوا إليه بالمال والسلاح وسار يريد الشام. وبلغ جعفر بن فلاح خبرهم فاستهان بأمرهم ثم لم يشعر بهم حتى كبسوه بدمشق بمكان يقال له الدكة فقتلوه واحتووا على سواده وأمواله وكراعه وملك أبو علي دمشق وأمن أهلها وأحسن السيرة فيها وغلب على الشام واجتمعت إليه العرب وسار إلى الرملة وبها سعاد بن حبان فخرج إلى يافا وتحصن بحصنها. ودخل أبو علي الرملة وقتل من وجد من المغاربة ثم رحل طالباً مصر وخلف بالرملة أبا محمد عبد الله بن عبيد الله الحسني ومعه دغفل بن الجراح الطائي وجماعة من الاخشيدية والكافورية وجاء فنزل عين شمس على باب مصر واقتتلوا أياماً وظهر القرمطي على المغاربة وقتل منهم زها خمسمائة رجل وغنم أموالهم وأسلحتهم ودوابهم. فلما كان يوم الأحد لثلاث خلون من ربيع الأول وقف الهجري على الخندق والمغاربة من ورائه ونشبت الحرب واقتتلوا إلى العصر فخرجت المغاربة من الخنادق وحملوا على الهجري فاندق عسكره لا يلوى على أحد وجعل يردهم وهم منهزمون فما وقفوا إلى الرملة وظن جوهر أن هزيمة القرمطي مكيدة فلم يتعرض لما كان في عسكره إلى ثلاثة أيام حتى تحقق الخبر فاستولى على الجميع. ونادى جوهر في الاخشيدية فاجتمعوا فعمل لهم طعاماً وحلف لهم على المصافاة ثم قبضهم وقيدهم وحبسهم وكانوا ألفاً وثلاثمائة مقاتل. وقال القرمطي في هذه الوقعة: زعمت رجال العرب إني هبتها ... فدمي إذاً ما بينهم مطلول يا مصر إن لم أسق أرضك من دمٍ ... يروي ثراك فلا سقاني النيل وقال: زعموا أنني قصير لعمري ... ما تكال الرجال بالقفزان إنما المرء باللسان وبالقل ... ب وهذا قلبي وهذا لساني ثم عاد الهجري إلى بلده وتفرقت الأعراب في البرية] الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وتحصنوا بالسور وعظم الأمر على المعز وتحيرّ في أمره ولم ينفعه كتابه إليه ولا ترهيبه عليه ولم تقدم على الظهور بعسكره اليه (1) ، وكان حسان بن جراح الطائي (2) بعسكره مع القرمطي، وكان قوته وشدته به،   (1) إِثر احتلال جوهر الصقلبي لمصر وجه القائد جعفر بن فلاح نحو الشام فاصطدم ببقايا القوى الاخشيدية في فلسطين فقهرها، ومن ثم أخذ الطريق نحو دمشق فاصطدم في منطقة حوران بقبائل عقيل مستعينا عليهما ببني مرة وفزارة ثم وصل دمشق فاصطدم الفاطميون بأهل المدينة يتقدمهم أحداث المدينة. والأحداث هي منظمة شبه عسكرية شعبية بلدية، وكان من بين زعماء أحداث دمشق مقدم اسمه محمد بن عصودا، تصدى فيمن تصدى لجعفر بن فلاح إنما عندما أخفق هرب من دمشق يريد الأحساء وقد رافقه ظالم بن موهوب (أو مرهوب) العقيلي، وهناك في عاصمة دولة القرامطة أطلع الحسن الأعصم زعيم القرامطة على حوادث الشام الجديدة، وكان للقرامطة أتاوة سنوية كبيرة يأخذونها من الاخشيدية حكام الشام قطعت بالاحتلال الفاطمي، لهذا ولأسباب كثيرة ساق الأعصم جيوشه إلى الشام بعدما نال تشجيح ومساعدة بغداد، فأوقع بقوات ابن فلاح وقتل ابن فلاح نفسه ثم توجه نحو مصر وحاصر القاهرة دون نجاح، حيث انسحب القرمطي عائداً إلى الشام، وعند ارتفاع خطر القرامطة، راسل جوهر الصقلبي الخليفة المعز لدين الله الفاطمي ودعاه الى القدوم الى مصر فلبى الدعوة، سنة 362 هـ/973 م، وفي سنة 363 هـ وصل القرامطة مجدداً الى مصر وحاصروا المعز، وطال الحصار على المعز، وكتب الى القرمطي رسالة مطولة بالغة الأهمية، ولقد سبق لي معالجة هذا الموضوع في كتابي أخبار القرامطة، دمشق 1981، كلما أنني نشرت في ملاحق كتابي مدخل الى تاريخ الحروب الصليبية، ط. دمشق 1975، ص: 313- 348 ترجمه كل من جعفر بن فلاح وجوهر الصقلبي من مخطوطة كتاب المقفي للمقريزي. (2) حسان بن علي بن جراح أمير قبائل في فلسطين، انظر كتابي أخبار القرامطة: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 6 وقال الشيخ أبو المظفر يوسف سبط ابن الجوزي في تاريخه مرآة الزمان في ترجمة السنة الحادية والستين بعد الثلاثمائة أن من ها هنا نبتدي بشي مما ذكره أبو الحسين هلال بن المحسن بن إبراهيم الصابي وأنه قال: إن في جمادى الآخرة ورد الخبر بأن أبا علي الحسن بن أبي منصور أحمد القرمطي سار إلى مصر ونزل بعين شمس وجرت بينه وبين جوهر القائد وقعة وكان الاستظهار فيها لجوهر وانهزم القرمطي. قال ابن الصابي: لما دخل جوهر مصر سنة 358 ووطأ الأمور للمعز وأقام له الخطبة سير القائد جعفر بن فلاح إلى الشام فاسر الحسن بن عبيد الله بن طغج وبعث به إلى مصر ولما نهب الرملة قصده النابلسي الزاهد واستكف جعفر عن النهب فكف. ثم استخلف ابنه على الرملة وسار إلى طبرية وبلغه أن ابن أبي يعلي الشريف وهو أبو القاسم إسماعيل قد أقام الدعوة بدمشق للمطيع فسار إلى دمشق فعصوا عليه وقاتلوه فظهر عليهم وهرب ابن أبي يعلي إلى البربر وجئ به إليه فأحسن إليه وبعث به إلى مصر مع جماعة من الأحداث الذين قاموا معه. وعرف القرامطة استيلاء المغاربة على الشام وأخذهم ابن طغج فانزعجوا من ذلك لما يفوتهم من المال الذي كان قرره ابن طغج لهم وهو في كل سنة ثلاثمائة ألف دينار فبعثوا أبا طريف عدي بن محمد بن المعمر صاحبهم إلى عز الدولة بختيار والوزير يومئذ أبو الفرج محمد بن العباس ابن فسانجس يطلبون المساعدة على المغاربة بالمال والرجال فاستقر أن عز الدولة يعطيهم ألف ألف درهم وألف جوشن وألف سيف وألف رمح وألف قوس وألف جعبة وقال: إذا وصل أبو علي لجنابي إلى الكوفة حمل إليه جميع ذلك. ولما وصل الجنابي إلى الكوفة وكان في عدد كثير من أصحابه ومن الأعراب فبعثوا إليه بالمال والسلاح وسار يريد الشام. وبلغ جعفر بن فلاح خبرهم فاستهان بأمرهم ثم لم يشعر بهم حتى كبسوه بدمشق بمكان يقال له الدكة فقتلوه واحتووا على سواده وأمواله وكراعه وملك أبو علي دمشق وأمن أهلها وأحسن السيرة فيها وغلب على الشام واجتمعت إليه العرب وسار إلى الرملة وبها سعاد بن حبان فخرج إلى يافا وتحصن بحصنها. ودخل أبو علي الرملة وقتل من وجد من المغاربة ثم رحل طالباً مصر وخلف بالرملة أبا محمد عبد الله بن عبيد الله الحسني ومعه دغفل بن الجراح الطائي وجماعة من الاخشيدية والكافورية وجاء فنزل عين شمس على باب مصر واقتتلوا أياماً وظهر القرمطي على المغاربة وقتل منهم زها خمسمائة رجل وغنم أموالهم وأسلحتهم ودوابهم. فلما كان يوم الأحد لثلاث خلون من ربيع الأول وقف الهجري على الخندق والمغاربة من ورائه ونشبت الحرب واقتتلوا إلى العصر فخرجت المغاربة من الخنادق وحملوا على الهجري فاندق عسكره لا يلوى على أحد وجعل يردهم وهم منهزمون فما وقفوا إلى الرملة وظن جوهر أن هزيمة القرمطي مكيدة فلم يتعرض لما كان في عسكره إلى ثلاثة أيام حتى تحقق الخبر فاستولى على الجميع. ونادى جوهر في الاخشيدية فاجتمعوا فعمل لهم طعاماً وحلف لهم على المصافاة ثم قبضهم وقيدهم وحبسهم وكانوا ألفاً وثلاثمائة مقاتل. وقال القرمطي في هذه الوقعة: زعمت رجال العرب إني هبتها ... فدمي إذاً ما بينهم مطلول يا مصر إن لم أسق أرضك من دمٍ ... يروي ثراك فلا سقاني النيل وقال: زعموا أنني قصير لعمري ... ما تكال الرجال بالقفزان إنما المرء باللسان وبالقل ... ب وهذا قلبي وهذا لساني ثم عاد الهجري إلى بلده وتفرقت الأعراب في البرية ذكر الحرب بين المعز لدين الله صاحب مصر والقرامطة في سنة ثلاث وستين وثلاثمائة وهذا أول ما وجد من تاريخ ابن القلانسي وتحصنوا بالسور وعظم الأمر على المعز وتحير في أمره ولم ينفعه كتابه إليه ولا ترهيبه عليه ولم يقدم على الظهور بعسكره إليه. وكان حسان بن جراح الطائي بعسكره مع القرمطي وكان قوته وشدته به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 1 ونظر المعز في أمره فإذا ليس له به طاقة فأعمل فكرته ورويته في أمره وشاور أهل الراي من خاصته وجنده في أمره فقالوا. ليس فيه حيلة غير فل عسكره وليس يقدر على فله إلا بابن جراح. فبذلوا له مائة ألف دينار على أن يفل لهم عسكره فأجابهم إلى ذلك. ثم نظروا في كثرة المال فاستعظموه فضربوا دنانير من صفر وطلوها بالذهب وجعلوها في أكياس وجعلوا في راس كل كيس منها يسيراً من دنانير الذهب الخلاص وحملوها إلى ثقة ابن جراح وقد كانوا توثقوا منه وعاهدوه على الوفاء وترك الغدر إذا وصل المال إليه. فلما عرف وصول المال إليه عمل في فل عسكر القرمطي وتقدم إلى أكثر أصحابه أن يتبعوه إذا تواقف العسكران ونشبت الحرب. فلما اشتد القتال ولي ابن جراح منهزماً وتبعه أصحابه فكان في جمع كثيف فلما نظر إليه القرمطي قد انهزم في عسكره بعد الاستظهار والقوة تحير في أمره ولزمه الثبات والمحاربة بعسكره وأجهد نفسه في القتال حتى يتخلص ولم يكن له بهم طاقة وكانوا قد أرهقوه بالحملات من كل جانب وقد قويت نفوس المغاربة بانفلال ابن جراح فخاف القرمطي على نفسه فانهزم فاتبعوا أثره وطلبوا معسكره فظفروا بمن فيه وأسروا منه تقدير ألف وخمسماية رجل وانتهبوا سواده وما فيه وضربوا أعناق من أسروه وذلك في شهر رمضان سنة 363 ثم جردوا في طلب القرمطي القائد أبا محمود بن إبراهيم بن جعفر في عشرة ألف رجل فاتبعه وتثاقل في سيره خوفاً من رجوعه عليه وتم القرمطي على حاله في انهزامه حتى نزل على اذرعات وأنفذ أبا المنجا في طائفة من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 7 الجند إلى دمشق وكان ابنه قبل ذلك والياً عليها ورحل القرمطي في البرية طالباً بلده الاحساء ونيته العود ورحل أبو محمود مقدم عسكر المغاربة عند معرفته ذاك ونزل بأذرعات في منزلة القرمطي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 8 ذكر ولاية ظالم بن موهوب العقيلي لدمشق في سنة 363 من قبل المعز لدين الله وصل القائد ظالم بن موهوب العقيلي إلى دمشق والياً عليها في يوم السبت لعشر خلون من شهر رمضان سنة 363 عقيب نوبة القرمطي فدخلها وتمكن أمره في ولايتها وتأثلت حاله في إيالتها وتوفرت عدته وعدته واشتدت شوكته لا سيما عند قبضه على أبي المنجا وولده صاحبي القرمطي مع جماعة وافرة من أصحابهما وحبسهم وأخذ أموالهم واستغراق أحوالهم. واتفق أن أبا محمود مقدم العسكر المصري المقدم ذكره وصل إلى دمشق في يوم الثلاثاء لثلاث بقين من شهر رمضان من السنة ونزل بالشماسية فخرج ظالم متلقياً له ومستبشراً به ومبتهجاً بنزوله ومستأنساً بحلوله لما كان مستشعره من الخوف من عود القرمطي إلى دمشق ونزوله عليها ثم أن ظالماً أنزل أبا محمود المقدم الدكة المعروفة وحمل إليه أبا المنجا صاحب القرمطي المعتقل والمعروف بالنابلسي الذي كان هرب من الرملة متقرباً إليه وإلى المغاربة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 9 بذلك فجعل كل واحد منهما في قفص من خشب وحملهما إلى مصر فلما وصلا إلى المعز لدين الله أمر بحبس أبي المنجا وولده وقال للنابلسي: أنت الذي قلت لو أن معي عشرة أسهم لرميت تسعةً في المغاربة وواحداً في الروم. فاعترف بذلك فأمر بسلخه فسلخ وحشي جلده تبناً وصلب ولما نزل القائد أبو محمود المقدم على دمشق في عسكره اضطرب الناس وقلقوا وامتدت أيدي المغاربة في العيث والفساد في نواحي البلد وأخذ من يصادف في الطرقات والمسالك وكان صاحب الشرطة بعد القبض على أبي المنجا قد أخذ إنساناً وقتله فظهر الغوغاء وحملة السلاح وقتلوا أصحاب المسالح وكثر من يطلب الفتن من العوام وطمعت المغاربة في نهب القرى وأخذ القوافل ظاهر البلد ولم يتمكن القائد أبو محمود المقدم من ضبط أصحابه لأنه لم يكن معه مال ينفقه فيهم ولم يقبلوا أمره ولا امتثلوا زجره. وكان ظالم يأخذ مال السلطان الذي يستخرج من البلد وقد عرف ظالم أن الرعية تكره المغاربة في الفساد وقطع الطريق على الصدار والوراد وامتنع السفار من المجي والذهاب وعدلوا في ذلك عن نهج الصواب ونزح أهل القرى منها إلى البلد وخلت من أهلها واستوحش ظاهر البلد وباطنه. فلما كان يوم الخميس النصف من شوال من السنة جاء قوم من العسكرية ينهب القصارين من ناحية الميدان فكثر الصائح في البلد وخرج الناس بالسلاح وثارت الأحداث وخرج أصحاب ظالم ووقع القتال وظالم يظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 10 أنه يريد الصلاح والدفع عن البلد ولم يكاشف في الأمر ووجد الناس حجةً للمقال والشكوى لما يجري عليهم فلما كان في بعض الأيام خرج قوم من المغاربة يطلبون الطرق فظفروا برفقة قافلة في طريق الحرجلة قد أقبلت من حوران فأخذوها وقتلوا منها ثلاثة نفر فجاء أهل القتلى وحملوهم وطرحوهم في الجامع فكثر الناس عليهم وبالغوا في المقال والانكار لأجلهم وغلقت الأسواق ومشى الناس بعضهم إلى بعض ونفرت قلوبهم واستوحشوا وخافوا. فلما كان يوم الاثنين السابع عشر من ذي القعدة من السنة سمع صبي يصيح على بعد: النفير النفير إلى قينية إلى اللؤلؤة. فقال قائل: كان بالامس آخر النهار قوم من المغاربة ومن البادية في جنينة في القنوات فقتلت المغاربة من البادية ابن عم لورد بن زياد وقد وقع بينهم حرب وقد ثارت الفتنة بباب الجابية فخرج رجل من العسكرية يقال له نفاق ابن عم لأبي محمود فظهر القوم من غد في طلب الرجل وكان مسكنه في ناحية قينية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 11 فأقبلوا يريدون بيته وانتشرت خيلهم ورجالتهم في أرض قينية إلى لؤلؤة والقنوات إلى باب الجابية وباب الحديد فظفروا بالقصارين عند باب الحديد فأخذوا ما كان معهم من الثياب فصاح الناس النفير ولبسوا السلاح وخرج أصحاب ظالم مع الرعية وزحفت المغاربة حتى بلغوا قريباً من سور البلد وليس في مقابلتهم من يذودهم ويدافعهم فنفر إليهم أهل البلد من كل ناحية ونشب القتال ونكا النشاب في المغاربة أعظم نكاية وقصدوا الباب الصغير وامتد الناس خلف المغاربة وصعدوا على طاحون الأشعريين يرمونهم بالحجارة وطرحوا النار فيها فاحترقت وهي أول نار طرحت في البلد وزحفت الرعية وأصحاب ظالم إلى المغاربة وضايقوهم مضايقةً ألجؤهم إلى الصعود فوق مسجد إبراهيم وكان ذلك منهم جهلاً واغتراراً وكان في الطريق الأعلى نحو البيمارستان العتيق شرذمة قليلة فحملوا على الأحداث وأصحاب ظالم فانهزموا من المرج إلى خلف المرمى وتبعتهم المغاربة فلما علم ظالم هزيمتهم خرج من دار الامارة حتى وقف عند الجسر المعقود على بردا وأمر بغلق باب الحديد ورتب قوماً من أصحابه على جسر باناس ليلاً ينهزم الناس فلما شاهد انهزام الناس والمغاربة في أثرهم ضرب بيده على فخذه ثم استدعى رمحه وعبر الجسر ومعه فرقة من أصحابه وحمل على أوائل المغاربة فردهم عن أحداث البلد وصاح الناس في الميدان النفير فانهزم ظالم وأصحابه وجأت المغاربة نحو الفراديس ودخلوا الدروب وملكوا السطوح وطرحوا النار في الفراديس وكان هناك من البنيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 12 الرفيع الغاية في الحسن والبهاء ما لم ير مثله وهو أحسن مكان كان بظاهر دمشق وامتدت النار مشرقةً حتى بلغت مسجد القاضي فأتت على دور لبني حذيفة وأخذت النار كله فاتلفت ما كان بين الفاخورة وحمام قاسم وكنيسة مريوحنا وحين انهزم الناس وتكامل العسكر في المرج والميدان وارتفع صياح المغاربة وانهزم من على السطح من الرماة والنظارة وامتدوا إلى القنوات ودخلوا باب الحديد وانتشروا فلما عرفوا انهزام ظالم قصدت خيلهم ناحية الشماسية في طلبه فلما حصلوا بها أقبلت الأحداث تجول فيها مع المغاربة فطرحوا النار في لؤلؤة الكبرى والصغرى والقنوات وقينية وأقبل الليل وبات الناس على أسوء حال وأشد خوف عظيم وأعظم وجل. وتمكنت النار في تلك الليلة فاحرقت درب الفحامين ودرب القصارين ثم أخذت مغربةً إلى مسجد معوية واحرقت درب الستاقي وما حوله إلى حمام العصمي ثم أخذت في زقاق المشاطين والقنوات وقويت النار في اللؤلؤة الكبرى والصغرى وبلغت إلى ناحية المشرق وأتت على الرصيف جميعه وكانوا في وقت يمكنهم من باب الحديد قد طرحوا النار في دار عمرو بن مالك ودار ابن طغج ابن جف فقويت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 13 النار في أخشاب وبطاين سقوف منقوشة وظهر لها في الليل ألسنة عالية وشرر عظيم وكذلك النار التي ألقيت في الفراديس كان لها شرر مرتفع والقوا النار أيضاً في باب الحديد والمظلمة بازاء دار الحمامي إلى الطريق الآخذ إلى حجر الذهب ووصلوا إلى رحبة السماكين مقابل دار ابن مقاتل ووجدوا بين أيديهم من الرعية من منعهم من دخول الزقاق ودخل قوم من الرعية المظلمة وأدركوا واطفؤها وقويت النار في دار ابن مالك فاحترقت وما يليها من الطاحون إلى حد حمام ضحاك ثم أخذت النار نحو القبلة فأتت على ما كان من الدور حول دار ابن طغج وما يليها إلى قصر عاتكة وسوق الجعفري والحوانيت والتقت على قصر حجاج وأشرق الصبح وقد خلا المكان واجتمع قوم في تلك الليلة من حجر الذهب والفسقار والنواحي المعروفة بباب الحديد وعملوا على المحاربة عن الدروب والأزقة وأبواب الدور فما لاح الصباح بضيائه إلا وقد بنوا حائط باب الحديد وسدوا الباب وأتى الله بالفرج. وقد كانت المغاربة في تلك الليلة في لهو ولعب وزفن وفرح وسرور بأخ البلد من عدوهم ينظرون إلى النار تعمل في جنباته وقد أتت عليه فلما أصبحوا انحدر العسكر من الدكة يريد البلد وكان الناس قد غدوا إلى الميدان وصعدوا السطح ينظرون نزول العسكر وقد حارت عقول كثير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 14 من الناس من الخوف فلما نظرت الدبادبة ممن كان على السطح انحدر العسكر وقد علت الأصوات بالنفير فلما سمع الناس النفير بادروا الخروج بالسلاح التام وعدد الحرب وآلاتها وخرج قوم بمثل حربة وعصاً وفاس وكساء ومقلاع وحمر عليها حجارة واشتد الناس في القتال ونزل القائد أبو محمود في عسكره فضرب في الميدان خيمةً وأصبح الناس في شدة عظيمة وبلية هائلة وظهروا من البلد وقد تبعهم الخلق الكثير من الأخيار والمستورين يطلبون من الله تعالى الفرج فلما قربوا من عسكر المغاربة صاح نفر منهم فنفرت من الصياح خيل هناك فقيل لهم: أشراف البلد يريدون الوصول إلى القائد. فأذن لهم فلما حضروا لديه وسلموا عليه أحسن الرد عليهم وبش بهم وقال: ما حالكم وما الذي جاء بكم. فشكوا إليه أحوالهم والاضرار بهم والمضايقة لهم وخضعوا وذلوا له ولطفوا به فقال. ما نزلت في هذا المكان لقتالكم وانما نزلت لأرد هؤلاء الكلاب المفسدين عنكم يعني أصحابه وما أوثر قتال رعية. فشكروه ودعوا له وأثنوا عليه وانصرفوا عنه مستبشرين بما سمعوه منه وجاءوا إلى خيمته واختلطوا بأصحابه وقد خف الخوف والوجل عنهم. ودخلت المغاربة البلد لقضاء حوايجهم وعاد القائد أبو محمود في عسكره إلى الدكة منزله. وولي الشرطة لرجلين يقال لأحدهما حمزة المغربي والآخر يقال له ابن كشمرد من الأخشيدية فدخل في جمع كثير من الخيل والرجالة فطافا في البلد بالملاهي والزفن وجلسا في مجلس الشرطة وطاف في الليل جماعة من الرجال بالعدد والسلاح ممن يريد الفساد وإثارة الفتن ووجد الطائف الدروب قد ضيقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 15 فشكا ذلك إلى القائد أبي محمود فشق هذا الأمر عليه وضاق له صدره. فلما كان في بعض الليالي اجتاز الطائف في ناحية المحاملين على جسر المصلى يريد باب الصغير في جمع وافر ووصل إلى سوق الغنم فوجد درب سوق الغنم مسدوداً فعظم ذلك عليه وغضب لأجله وعاد إلى ورائه منكفئاً حتى دخل من ناحية البطاطين فشكا إلى أبي محمود فقال: إن القوم على ما هم عليه من العصيان والخلاف. وكثرت الأقوال في مجلسه ولم يكن صاحب رأي سديد ولا تدبير حميد ولا حسن سياسة واستدعى مشايخ البلد إليه فدخلوا عليه فتواعدهم وأغلظ القول لهم وقال: إن لم يفتح هذا الباب والا وأنتم مقيمون على الخلاف والعصيان. فقالوا: أيها القائد لم يسد هذا الباب لعصيان ولا خلاف وانما كان سده بحيث لا يدخل منه من لا يعلمه القائد ولا يوثره من أهل الفساد ومن يوثره إثارة الفتنة والعناد. فقال: قد أمهلتكم ثلاثة أيام وإن لم يفتح هذا الباب لأركبن إليه ولأحرقنه ولأقتلن كل من أصادفه فيه. فقالوا: نحن نطيع أمرك ولا نخالفه إذا استصوبت ذلك. وخرجوا من عنده متحيرين في أمرهم ولا يعلمون كيف يسوسون جهلة الناس وأمور السلطان. فصاروا إلى باب الصغير واجتمع إليهم أهل الشرة وغيرهم وفيهم المعروف بالمارود راس شطار الأحداث وأحاطوا بهم وسألوهم عن حالهم فأعادوا عليهم ما سمعوه من القائد أبي محمود بسبب سد الباب فقال بعضهم: يفتح ولا يجري مثل ما جرى أولاً فنخرب البلد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 16 وقال قوم من أصحاب السلاح بالضد فقالت المشايخ: نحن نفتح هذا الباب وإن جرى أمر مكروه عند دخول المغاربة وغيرهم أو ثارت منه فتنة كنتم أنتم أصل ذلك وسببه. ثم انهم فتحوه من وقتهم فلما شاهد المشايخ ذاك حاروا بين الفريقين وقال بعضهم لبعض: ما قال أبو محمود وما قال أهل الشرة وقد فتح الباب بأمركم ولسنا نأمن أمراً يكون من المغاربة فتكونوا أنتم السبب فيه. ففكروا في الخلاص من لائمة الفريقين واعملوا الراي فيما بينهم وقالوا: الصواب أن نأمرهم بسده. وكان ذلك منهم رأياً سديداً وتدبيراً. وجرى بين رجل من أكابر المغاربة ورجل من أهل الشرة منازعة بسبب صبي أراد المغربي أن يغلب عليه فرفع البلدي سيفه وضرب به المغربي فقتله في سوق البقل فغلظ الأمر واضطرب البلد وغلقت حوانيت الأسواق وثار العسكر بسبب المقتول فعند ذلك وجدت المشايخ الحجة في سد الباب لهذا الحادث وانتهى الخبر إلى القائد أبي محمود ففرق السلاح في أصحابه وثار أهل البلد وتأهبوا للمحاربة وأصبح العسكر منحدراً يريد باب الصغير وكان عندهم العلم بتفريق السلاح والاستعداد للحرب فتيقظ الناس فاحترزوا إلى حين ارتفع النهار وفتح الناس حوانيتهم وكان المعروف بابن المارود راس الأحداث قد عرف هو وأصحابه ان قصد العسكر باب الصغير لأجلهم وصاح الناس النفير وارتفعت الأصوات وتقدمت الرجالة وانتشروا في سوق الدواب وعبروا الجسر وطرحوا النار في الطاحون قبلي الجسر وانتشروا في الطريق والمقابر يشاهدون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 17 النار في دور عند مسجد الخضر وامتدت الأحداث والرعية في المقابر ووقع النفير في الأسواق وكانوا في غفلة فصاح فيهم صايح: أما يستيقظ من هو غافل أما ينتبه من هو راقد. فغلقت حوانيت الأسواق وأضحى الناس من استشعار البلاء على ساق ونزل القايد أبو محمود في محراب المصلى كانت رجالته منتشرةً في المقابر فاجتمعت مشايخ البلد إلى القائد أبي محمود من باب الجابية والمحاربة على باب الصغير وكان فيهم الشريف أبو القاسم أحمد بن أبي هشام العقيقي العلوي فقال له: الله الله أيها القائد في الحرم والأطفال وأتقياء الرجال. ولم يزل يخضع له ويلطف به إلى أن أمسك بعد سؤال متردد وعاد منكفئاً بعسكره إلى مخيمه بالدكة في يوم الأربعاء لست مضين من ذي الحجة سنة 363 وكف عن القتال. ودخل صاحب النظر إلى البلد وانتشر الفساد في سائر الضياع والجهات وطرحت النار في الأماكن والحارات وثارت الفتنة واشتدت النار وعظم الخوف وفني العدد الكثير من الفريقين ولم تزل الحرب متصلةً مدة صفر وربيع الأول وبعض ربيع الآخر وتقررت المصالحة والموادعة إلى أن ولي جيش بن الصمصامة البلد من قبل خاله القائد أبي محمود المقدم ذكره في سنة 363. وصرف القائد ظالم بن موهوب العقيلي عن ولايتهبلد من قبل خاله القائد أبي محمود المقدم ذكره في سنة 363. وصرف القائد ظالم بن موهوب العقيلي عن ولايته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 18 شرح الأمر في ذلك لما استقر الصلح والموادعة بين أهل دمشق والقائد أبي محمود مقدم العسكر المصري المعزي على ما تقدم شرحه وخمدت نار الفتنة بعض الخمود وركدت ريحها بعض الركود وسكنت نفوس أهل البلد واطمأنت القلوب بين الفريقين اعتمد القائد أبو محمود على ابن أخته جيش بن الصمصامة في ولاية دمشق وحمايتها ولم ما تشعث منها بالفتنة المتصلة لما رجاه عنده من الكفاية والصرامة وقدره فيه من النهضة والشهامة فدخلها والياً ونزل بقصر الثقفيين في الدار المعروفة بالروذباري وأقام بها أياماً. فلما كان يوم من الأيام عبرت طائفة من عسكر المغاربة بالفراديس فعاثت فيه فثار الناس عليها وقتلوا من لحقوه منهم وصاروا إلى قصر الثقفيين فهرب منهم جيش بن الصمصامة الوالي في أصحابه فانتهبوا ما كان لهم فيه وأصبح القائد جيش منحدراً من العسكر في جمع كثير وقصد جهة من البلد وكبس موضعاً كان قد سلم ووجد فيه أربعةً من أهله فأخذ رؤوسهم وطرح النار فيه فاحترق وقال القائد أبو محمود: إن أهل الشرة في موضع يقال له سقيفة جناح قريب من باب كيسان قبلي البلد. فقصدهم من ناحية الخامس الصغير والمقابر فوقع النفير فقاتلتهم الأحداث والرعية أشد قتال وقد غلظ الأمر عليهم في أخذ رؤوس من يظفرون به ونشبت الفتنة والشر بينهم منذ أول جمادى الأولى ونشبت الحرب بينهم بياض ذلك اليوم إلى أن أقبل الليل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 19 فاضطرب البلد واشتد خوف أهله ووجلهم وخربت المنازل وضعفت النفوس وانقطعت المواد واستدت بالخوف المسالك والطرقات وبطل البيع والشراء وقطع الماء عن البلد وعدم الناس القني والحمامات ومات ضعفاء الناس على الطرقات وهلك الخلق الكثير من الجوع والبرد في أكثر الجهات وانتهت الحال في ذلك إلى أن تجددت ولاية القائد ريان الخادم عقيب هذه الفتنة في بقية سنة 363 شرح الحال في ذلك قد كانت الأخبار تنتهي إلى المعز لدين الله بما يجري على أهل دمشق من الحروب واحراق المنازل والنهب والقتل والسلب واخافة المسالك وقطع الطرقات وان القائد أبا محمود المقدم على الجيش المصري لا يتمكن من كف أهل الفساد والمنع لمن يقصد الشر من أهل العيث والعناد ولذلك فقد خربت الأعمال واختلت الجهات وترادفت الأنباء بذلك إليه وتواترت الأخبار بجلية الحال عليه فأنكر استمرار مثل ذلك وأكبره واستبشعه وكتب إلى القائد ريان الخادم والي طرابلس يأمره بالمسير إلى دمشق لمشاهدة حالها وكشف أمور أهلها والمطالعة بحقيقة الأمر فيها وأن يصرف القائد أبا محمود عنها فامتثل القائد ريان الأمر في ذلك وسار من طرابلس ووصل إلى دمشق فشاهدها وكشف أحوال أهلها وأمور الرعية بها وتقدم إلى القائد أبي محمود بالانكفاء عنها فرحل عن دمشق إلى الرملة في عدة خفيفة من عسكره وبقي الأكثر مع القائد ريان وكان ذلك بقضاء الله وتقديره ونفاذ حكمه. وتمادت الأيام في ذلك إلى أن تجددت ولاية أبي منصور الفتكين التركي المعزي البويهي الواصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 20 ولاية الفتكين المعزي لدمشق في بقية سنة 363 وما بعدها وشرح السبب في ذلك قد مضى ذكر ما جرى عليها أمر القائد ريان المعزي الخادم في تولية أمر دمشق وما شاهده من أمر الفتن الحادثة فيها واتصال الحروب بها وما اعتمده من النظر في تسديد أحوالها وتدارك اصلاح اختلالها بعد ذلك وتسكين نفوس من بها. ووافق هذه الحال ما تناصرت به الأخبار من بغداد من اشتداد الفتن والوقائع بين الديلم والأتراك وما كان من عصيان الحاجب سبكتكين المعزي مقدم الأتراك على عز الدولة بختيار بن مولاه معز الدولة أبي الحسين بن بويه الديلمي وما حدث من موت الحاجب سبكتكين المذكور ورد الأمر في التقدم على الأتراك إلى الحاجب أبي منصور الفتكين المعزي والرئاسة عليهم لسكونهم إلى سداده وجميل فعله في الأعمال واقتصادهم واعتمادهم عليه في اخماد ثائرة الفتنة وسكنت نفوس الأجناد ببغداد وفي ذي القعدة من سنة 363 وردت الأخبار بخلع المطيع لله واستخلاف ولده الطائع لله عند اشتداد الفتنة بين الديلم والأتراك وأقام على هذه الحال برهةً خفيفةً ثم ثارت الفتنة واتصلت الحوادث الجزء: 1 ¦ الصفحة: 21 وزاد الأمر في ذلك إلى حد أوجب للحاجب الفتكين الانفصال عن بغداد في فرقة وافرة من الأتراك تناهز ثلاثمائة فارس من طراخين الغلمان ووصل أولاً إلى ناحية حمص للأسباب التي أوجبت ذلك ودعت فأقام بها أياماً قلائل وسار منها إلى دمشق والأحداث بها على الحال المقدم شرحهما في تملكها والغلبة عليها والتحكم فيها فنزل بظاهرها وخرج إليه شيوخها وأشرافها وخدموه وأظهروا السرور به وسألوه الاقامة عندهم والنظر في أحوالهم وكف الأحداث الذين بينهم ودفع الأذية المتوجهة عليهم منهم فأجابهم إلى ذلك بعد أن توثق منهم وتوثقوا منه بالأيمان الموكدة والمواثيق المشددة على الطاعة والمساعدة ودخل البلد وأحسن السيرة وقمع أهل الفساد وأذل عصب ذوي العيث والعناد وقامت له هيبة في الصدور وصلح به ما كان فاسداً من الأمور. وكانت العرب قد استولت على سواد البلد وما يتصل به فقصدهم وأوقع بهم وقتل كثيراً منهم وظهر لهم من شجاعته وشهامته وقوة نفس من في جهته وجملته ما دعاهم إلى الاذعان بطاعته والنزول على حكمه والعمل باشارته وأمر بتقرير امضاء الاقطاعات القديمة وارتجاع ما سوى ذلك وأحسن التدبير والسياسة في ترتيب العمال في الأعمال وأنعم النظر في أبواب المال ووجوه الاستغلال فاستقام له الأمر وثبتت قدمه في الولاية وسكن أهل دمشق إلى نظره. وكاتب المعز مكاتبةً على سبيل المداجاة والمغالطة والمدامجة والتمويه والانقياد له والطاعة لأوامره فأجابه بالاحماد له والارتضاء بمذهبه والاستدعاء له إلى حضرته ليشاهده ويصطفيه لنفسه ويعيد إلى ولايته بعد ذلك مكرماً مولىً مشرفاً فلم يثق إلى ذلك ولا سكنت نفسه إليه وامتنع من الاجابة إلى ما بعثه عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 22 ووافق إن المعز لدين الله اعتل العلة التي قضى فيها محتوم نحبه وصار إلى رحمة ربه في سنة 365 وكان مولده بالمهدية وعمره خمس وأربعون سنة ومولده سنة 319 ومدة أيامه في الخلافة ثلاث وعشرون سنة وستة أشهر وأمه أم ولد ونقش خاتمه بنصر العزيز العليم ينتصر الامام أبو تميم وكان عالماً فاضلاً شجاعاً جارياً على منهاج أبيه في حسن السيرة وانصاف الرعية ثم عدل عن ذلك وتظاهر بعلم الباطن ورد من كان باقياً من الدعاة في أيام أبيه وأذن لهم في الاعلان مذهبهم ولم يزل عن ذلك غير مفرط فيه إلى أن خرج من الغرب. وقام في منصبه من بعده ولده نزار أبو منصور العزيز بالله مولوده بالمهدية يوم الخميس الرابع عشر من المحرم سنة 344 ولما عرف حال الحاجب الفتكين جهز إليه عسكراً كثيراً مع القائد جوهر المعري ويجري الأمر بينهم على ما هو مشروح في موضعه. واتفق خروج ابن الشمشقيق متملك الروم في هذه السنة إلى الثغور فاستولى على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 23 أكثرها ودعت أبا بكر ابن الزيات الضرورة إلى مصالحته والدخول في طاعته والمسير في عدة وافرة من أهل طرصوس والثغور في خدمته وفعلت عدة من بطون العرب مثل ذلك فلما نزل ابن الشمشقيق على حمص وافتتحها وانتقل عنها إلى بعلبك وملكها وأراد قصد دمشق وكتب ابن الزيات إلى الفتكين وأهل دمشق يعرفهم قوة متملك الروم وانهم لا يقدرون على مقاومته ولا يتمكنون من محاربته ويشير عليهم بالدخول في طاعته والنزول على حكم اشارته وأصغى الفتكين وأهل البلد إلى ذلك وعلموا ان فيه المصلحة وقرروا ما يستكفونه به ليصبحوا في كنف السلامة ويأمنوا شر العساكر الواصلة إليهم. وكتب إليه بقبول الاشارة ورد الأمر إليه فيما يدبره والعمل فيه بما يراه ويستصوبه. فدخل ابن الزيات إلى متملك الروم وقال له: قد وردت كتب الفتكين وأهل دمشق بالانقياد المملك إلى ما يرومه منهم ويرسم حمله إليه من الخراج عن بلدهم وسألوا أمانه وحسن الرأفة بهم والمحاماة عنهم. فقال له: قد قبلت طاعتهم وأمرت بايمانهم على نفوسهم وأموالهم ورضيت منهم بالخراج. وأنفذ إليهم صليباً بالأمان فأنفذه ابن الزيات إليهم مع المعروف بالدمشقي صاحبه وكان من وجوه الطرسوسين فتلقوه بالمسرة والاكرام والشكر الزائد عن حسن السفارة وجميل الوساطة. وأشار ابن الزيات على الفتكين بالخروج لتلقي الملك فخرج في ثلاثمائة غلام في أحسن زي وعدة وأفضل ترتيب وهيئة واستصحب أشراف البلد وشيوخه ولقيه فأقبل عليه وأكرمه والدمستقيين فيما خاطبهم به من الجميل وعاملهم به من وكيد العناية ومرضي الرعاية وتوسط ابن الزيات ما بينه وبينهم على تقرير مائة ألف درهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 24 وسار ابن الشمشقيق إلى دمشق لمشاهدتها فلما وصل إليها ونزل بظاهرها استحسن ما رآه من سوادها وتقدم إلى أصحابه بكف الأذية عن أهلها وترك الاعتراض لشيء من عملها ودخل الفتكين والشيوخ إلى البلد لتقسيط القطيعة وجمعها وتحصيل الملاطفات التي يخدم مثله بمثلها وحملوا إليه ما جاز حمله وحصل المال المقرر له في بدرة. وخرج الفتكين إليه لمعاودة خدمته فوجده راكباً والطرسوسيون يتطاردون بالرماح بين يديه فلما شاهد ابن الشمشقيق موكبه تقدم إلى ابن الزيات بتلقيه وقد كانت الحال تأكدت بين الفتكين وابن الزياد فتلقاه ووصاه بالتذلل له والزيات في التعظم له والتقرب إليه وأعلمه ان ذلك ينفق عليه ففعل الفتكين ما أشار به وترجل له هو وأصحابه وابن الزيات عند قربهم منه وقبلوا الأرض مراراً فسر الملك بذلك وأمرهم بالركوب فركبوا وأسند إلى الفتكين وسأله عن حاله فأجابه جواباً استرجعه حجةً فيه. وكان الملك فارساً يحب الفرسان فلعب الفتكين وابن الزيات بين يديه لعباً استحسنه منه وشاهد من فروسية الفتكين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 25 ما أعجبه فتقدم إليه بالزيادة في اللعب والتفرد به ففعل والتفت الملك إلى ابن الزيات فأثنى على الفتكين وقال: هذا غلام نجيب وقد أعجبني ما شاهدته منه في حسن أفعاله وجميع أحواله. فأعلم ابن الزيات الفتكين فترجل وقبل الأرض وشكره ودعا له فأمره بالركوب فركب وقال لابن الزيات: عرفه إن ملكي قد وهب له الخراج وترك طلبه منه. فأعاد الفتكين الترجل والشكر والدعاء وعاد الملك إلى بلاطه والفتكين معه في أثناء مسيره يلعب ويرى بالزوبين والملك شديد التوفر عليه حتى إذا نزل أحضره وخلع عليه وحمله على شهري واستهداه الملك الفرس الذي كان تحته والسلاح الذي عليه الرمح فعاد وأضاف إليه عشرين فرساً بتجافيفها وعدة رماح وشيئاً كثيراً من أصناف الثياب والطيب والتحف التي يتحف بها مثله فشكره الملك على هذا الفعل وقبل الفرس والته ورد ما سوى ذلك وكافاه على الهدية بأثواب ديباج كثيرة وصياغات وشهاري وبغلات وسار على طريق الساحل فنزل على صيدا. وخرج إليه أبو الفتح بن الشيخ وكان رجلاً جليل القدر ومعه شيوخ البلد ولقوه وقرروا معه أمرهم على مال أعطوه اياه وهدية حملوها إليه وانصرف عنهم على سلم وموادعة وانتقل إلى ثغر بيروت فامتنع أهله عليه فقاتلهم وافتتح الثغر عنوةً ونهبه وسبى السبي الكثير منه وتوجه إلى جبيل فاعتصم أهلها عليه وجرى أمرها مجرى بيروت ونزل على طرابلس فأقام عليها تقدير أربعين يوماً يقاتل أهلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 26 ويقاتلونه فبينما هو على ذلك إذ دس إليه خال بسيل وقسطنطين سماً فاعتل منه ورحل إلى أنطاكية فطالب أهلها بتسليمهما فلم يجيبوا إلى ذلك وقطع ما كان في بساتينها من شجر التين وهو يجري هناك مجرى النخل في البصرة وحفزه المرض الذي لحقه واستخلف البرجي البطريق على منازلتها وتوجه إلى القسطنطينية وتوفي بعد أن افتتح البرجى أنطاكية في سنة 365 وورد الخبر بوفاة أبي تميم معد المعز لدين الله صاحب مصر في يوم الجمعة السابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة 365 وكان مولده بالممهدية على أربع ساعات وأربعة أخماس ساعة من يوم الاثنين الحادي عشر من شهر رمضان سنة 319 وعمره خمس وأربعون سنة وتقلد الأمر بعد أبيه في يوم الجمعة التاسع عشر من شوال سنة 341 ومدة أيامه بمصر ثلاث سنين وانتصب مكانه ولده نزار أبو المنصور العزيز بالله وقد تقدم ذكر ذاك الا ان هذه الرواية أجلى من تلك الحكاية. وقيل إن المعز كان مغرىً بعلم النجوم والنظر فيما يقتضيه أحوال مولده وأحكام طالعه فحكم له بقطع فيه واستشار منجمه فيما يزيله عنه فأشار عليه أن يعمل له سرداباً تحت الأرض ويتوارى فيه إلى حين زوال الوقت وتقضيه فعمل على ذلك وأحضر قواده وكتابه وقال لهم: إن بيني وبين الله تعالى عهداً في وعد وعدنيه وقد قرب أوانه وجعلت ولدي نزاراً ولي العهد بعدي ولقبته العزيز بالله واستخلفته عليكم وعلى تدبير أموركم مدة غيبتي فالزموا الطاعة له والمناصحة واسلكوا الطريق الواضحة. فقالوا له: الأمر أمرك ونحن عبيدك وخدمك. ووصى إلى العزيز بما أراد وجعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 27 جوهراً مدبره والمشار إليه في الأمور وتنفيذها بين يديه ونزل إلى السرداب الذي اتخذه وأقام فيه سنة فكانت المغاربة إذا رأوا غماماً سايراً ترجلوا إلى الأرض وأومؤا إليه بالسلام بقدر ذاك. ثم خرج بعد ذلك وجلس للناس فدخلوا إليه على طبقاتهم وخدموه بأدعيتهم وما أقام على هذه الحال إلا مديدةً واعتل علته التي قضى فيها نحبه. وقام العزيز بالله في منصبه وقد كان الفتكين والقرامطة يكاتبونه بأنهم قاصدون الشام إلى أن وافوا إلى دمشق في سنة 365 وكان الذي وافى منهم اسحق وكسرى وجعفر فنزلوا على ظاهر دمشق نحو الشماسية ووافى معهم كثير من العجم وأكرمهم الفتكين وحمل إليهم الميرة وخرج نحوهم وأقاموا على دمشق أياماً ورحلوا متوجهين إلى الرملة. وكان أبو محمود إبراهيم بن جعفر لما عرف خبرهم تحصن بيافا فلما نزلوا الرملة شرعوا في القتال ولما أمن الفتكين من ناحية مصر والرملة عمل على أخذ ثغور الساحل وسار فيمن اجتمع إليه ونزل صيدا فكان بها ابن الشيخ والياً ومع رؤوس من المغاربة ومعهم ظالم بن موهوب العقيلي الذي تقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 28 ذكره في دمشق فقاتلوه وكانوا في كثرة وطمعوا في الفتكين وامتدوا خلفه ونزل على نهر وطفت الرعية من صيدا وخرج منهم خلق كثير وقال الفتكين لساقة العسكر: اطلبوا طريق بانياس وتبعوهم. فحملت عليهم الأتراك ورمتهم المغاربة بالحرب فلقوهم بالصدور واقلبوا باللتوت عليهم وداسوهم بالخيل عليها التجافيف فانهزموا وأخذهم السيف وكان ظالم بن موهوب معهم فانهزم إلى صور وأحصي القتلى فكانوا أربعة ألف وطمع في أخذ عكا وتوجه نحوها. وقد كان العزيز بالله كاتب الفتكين بمثل ما كاتبه به المعز لدين الله من الاستمالة ووعده بالاصطناع وأخذت عليه البيعة وظهرت منه الطاعة فأجابه فيه جواباً فيه بعض الغلظة وقال: هذا بلد أخذته بالسيف وما أدين فيه لأحد بطاعة ولا أقبل منه أمراً. وغاظ العزيز هذا الجواب منه وأحفظه واستشار أبا الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس وزيره فيما يدبر أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 29 الفتكين به فأشار باخراج القايد جوهر إليه مع العساكر فأمر بالشروع في ذلك وترتيب الأمر فيه. وعرف الفتكين ذلك وما وقع العزم عليه فجمع وجوه أهل دمشق وأشرافها وشيوخها وقال لهم: قد علمتم انني لم أتوسطكم وأتولى تدبيركم إلا عن رأيكم ومرادكم وقد طلبني من هذا السلطان ما لا طاقة لي به وأنا منصرف عنكم وداخل إلى بلاد الروم وعامل على طلب موضع أكون فيه واستمد ما أحتاج إليه منه لئلا يلحقكم بقصد من يقصدكم ما يثقل به الوطأة عليكم وتصل به المضرة إليكم. وكان أهل دمشق يأبون المغاربة لمخالفتهم لهم في الاعتقاد ولأنهم أمويون ولقبح سيرة الناظرين الذين كانوا عليهم فقالوا: أما أخبرناك لرئاستنا وسياستنا على أن نمكنك من تركنا ومفارقتنا أو نالوك جهداً من نفوسنا ومساعدتنا! ونفوسنا دونك وبين يديك في المدافعة عنك. وجددوا له التوثقة على الطاعة والمناصحة. وفصل جوهر في العسكر الكثيف من مصر بعد أن استصحب أماناً من العزيز بالله لا لفتكين وخاتماً ودستاً من ثيابه وكتاباً إليه بالعفو عنه وعما فرط منه فلما حصل بالرملة كاتب الفتكين بالرفق والملاطفة وأن يبلغ له ما يريده وأعلمه ما قرره له مع العزيز بالله وأخذه أمانه الموكد والتشريف الفاخر وأشار عليه في أثناء ذلك بترك اثارة الفتنة وأن يطلب صلاح الحال من جهته وأقرب طرقه. فلما وصل الكتاب إليه ووقف عليه أجابه عنه بالجميل من الجواب والمرضي من الخطاب والشكر على ما بذله له من نفسه وغالطه في المقال واحتج عليه بأهل دمشق فيما يصرف رأيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 30 وتدبيره عليه. وكان كاتب الفتكين المعروف بابن الخمار وهو يرى غير رأي المغاربة ويزري عنده على اعتقادهم ويقرر في نفسه وجوب قتالهم ووقف جوهر على كتابه فعلم انه مصر على الحرب فسار إليه حتى إذا قرب منه ووصل إلى دمشق نزل في العسكر بالشماسية وبرز إليه الفتكين في أصحابه ومن حشده من العرب وغيرهم ونشبت الحرب بين الفريقين واتصلت مدة شهرين وقتل فيها عدد كثير من الطائفتين وظهر من شجاعة الفتكين والغلمان الذين معه ما عظموا به في النفوس وتحصلت لهم الهيبة القوية في القلوب. وأشار عليه أهل دمشق بمكاتبة أبي محمد الحسن بن أحمد القرمطي واستدعائه للاجتماع معه على دفع المغاربة ففعل وسار الحسن متوجهاً إليه في عسكره وعرف جوهر خبره فعلم انه متى حصل بين عدوين ربما تم عليه مكروه منهما فرجع إلى طبرية. ووصل الحسن بن أحمد إلى الفتكين واجتمعا وتحالفا وتعاقدا وسارا في أثر جوهر فاندفع منهما إلى الرملة وأقام بها وأنفذ رحله وأثقاله إلى عسقلان وكتب إلى العزيز يعرفه بصورة الحال ويستأذنه في قصد عسقلان ان دعته إلى ذلك ضرورة ووافى الفتكين والحسن بن أحمد القرمطي ونزلا على الرملة ونازلا جوهراً وقاتلاه واجتمع إليهما من رجال الشام وعربها تقدير خمسين ألف فارس وراجل ونزلوا بنهر الطواحين على ثلاثة فراسخ من البلد ولا ماء لأهله إلا منه فقطعاه عنهم واحتاج جوهر وعسكره والرعية إلى الماء المجتمع من المطر في الصهاريج وغناء ... قليل ومادته إلى نفاد ورأى جوهر أنه لا قدرة له على المقام ومقاومته القوم فرحل إلى عسقلان في أول الليل ووصل إليها في آخره وتبعه الفتكين والقرمطي إليها ونزلا عليها وحاصراه فيها وضاقت الميرة به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 31 وغلت الأسعار عنده وكان الوقت شتاء لم يمكن حمل الأقوات إليه في البحر واشتدت الحال حتى أكلت المغاربة وأهل البلد الدواب الميتة وابتاعوا الخبز إذا وجدوه حساب كل خمسة أرطال بالشامي بدينار معزي. وكان جوهر شجاعاً مبارزاً وربما خرج وتقدم وإذا وجد فرصةً من الفتكين دعاه إلى الطاعة وبذل له البذول المرغبة فيسترجعه الفتكين ويسترجله ويهم أن يقيل منه ويجيبه ثم يثنيه عنه الحسن بن أحمد وابن الخمار الكاتب ويمنعانه ويخوفانه ويحذرانه وزاد الضيق والشدة على المغاربة وتصور جوهر العطب إن لم يعمل الحيلة في الخلاص فراسل الفتكين سراً وسأله القرب منه والاجتماع معه ففعل ذلك الفتكين ووقفا على فرسيهما فقال له جوهر: قد علمت ما يجمعني وإياك من حرمة الاسلام وحرمة الدين وهذه فتنة قد طالت وأزيقت فيها الدماء ونحن المأخوذون بها عند الله تعالى وقد دعوتك إلى الصلح والموادعة والدخول في السلم والطاعة وبذلت لك كل اقتراح وإرادة وإحسان وولاية فأبيت إلا القبول ممن يشب نار الفتنة ويستر عنك وجه النصيحة فراقب الله تعالى وراجع نفسك وغلب رأيك على هوى غيرك. فقال له الفتكين: أنا والله واثق به وبصحة الرأي والمشورة منك لكنني غير متمكن مما تدعوني إليه ولا يرضى القرمطي بدخوله فيه معي. فقال له: إذا كان الرأي والأمر على ذلك فإني أصدقك على أمري تعويلاً على الأمانة وما أجده من الفتوة عندك فقد ضاق الأمر وامتنع الصبر وأريد أن تمن علي بنفسي وبها ولاء المسلمين الذين معي وعندي وتذم لي لأمضي وأعود إلى صاحبي شاكراً وتكون قد جمعت بين حقن الدماء واصطناع المعروف وعقدت علي وعلى صاحبي منةً تحسن الأحدوثة عنك فيها وربما أملت المقابلة لك عنها. فقال له الفتكين: افعل وأمن على أن أعلق سيفي ورمح الحسن بن أحمد على باب عسقلان وتخرج أنت وأصحابك من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 32 تحتها. فرضي جوهر بذلك وتعاهدا وتصافحا عليه وأخذ ختم الفتكين رهناً على الوفاء به وافترقا وعاد الفتكين إلى عسكره وجوهر إلى البلد وأنفذ جوهر إلى الفتكين ألطافاً كثيرة ومالاً فقبل ذلك منه وكافاه عليه. وأنفذ الفتكين إلى القرمطي يعرفه ما جرى بينه وبين جوهر فركب الحسن إليه وقال له: لقد أخطأت فيما فعلته وبذلته وجوهر هذا ذو رأي وحزم ودهاء ومكر وقد استقلك بما عقده معك وسيرجع إلى صاحبه ويحمله على قصدنا ثم لا يكون لنا به طاقة فيأخذنا ومن الصواب أن ترجع عن ذلك حتى يهلك هو وأصحابه جوعاً وتأخذهم بالسيف. فقال له الفتكين: قد عاهدته وحلفت له وما استجيز الغدر به. وعلقا السيف والرمح وخرج جوهر وأصحابه تحتهما ووصل إلى مصر ودخل على العزيز بالله وشرح له الحال واستفحال أمره ومن معه فقال له: ما الرأي. قال: إن كنت تريدهم فأخرج بنفسك إليهم وإلا فإنهم واردون على أثري. فأمر العزيز باخراج الأموال ووضع العطاء في الرجال وبرز بروزاً كلياً واستصحب الخزائن والذخائر وتوابيت آبائه على القوم في ذلك وسار جوهر على مقدمته. ووردت الأخبار على الفتكين والحسن القرمطي بما جرى فعادا إلى الرملة وجمعا العرب واتفقا واحتشدا وتأهبا واستعدا وورد العزيز في العساكر ونزل في الموضع المعروف بقصر ابن السرح بظاهر الرملة والفتكين والقرمطي على قرب منه في الموضع المعروف ببركة الخيزران وبات العسكران على اعداد للحرب وباكراها وقد اصطف كل منهما ميمنةً وقلباً وميسرةً وحال الفتكين بين الصفين يكر ويحمل ويطعن ويضرب فقال العزيز لجوهر: أرني الفتكين. فأشار إليه وقيل إنه كان في ذلك اليوم على فرس أدهم بتجافيف من مرايا وعليه كذا غند أصفر وهو يطعن تارةً بالرمح ويضرب أخرى بالسيف والناس يتحامونه ويتقونه فأعجب العزيز ما رأى منه ومن هيئته وفروسيته وعلى رأسه المظلة ووقف وأنفذ إليه ركابياً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 33 يختص بخدمته يقال له نميرة وقال له: قل: يا الفتكين أنا العزيز وقد أزعجتني عن سرير ملكي وأخرجتني لمباشرة الحرب بنفسي وأنا مسامحك بجميع ذلك وصافح لك عنه فأترك ما أنت عليه ولذ بالعفو مني فلك عهد الله وميثاقه اني أومنك وأصطفيك وأنوه باسمك وأجعلك اسفهسلار عسكري وأهب لك الشام بأسره وأتركه في يدك. فمضي نميرة الركابي إليه وأعاد الرسالة عليه فخرج بحيث يراه الناس وترجل وقبل الأرض مراراً ومرغ خديه عليها معفراً وقال له: قل لأمير المؤمنين لو تقدم هذا القول منك لسارعت إليه وأطعت أمرك فأما الآن فليس إلا ما ترى، وعاد نميرة وقال ذلك للعزيز فقال له: ارجع إليه وقل له يقرب مني ويكون بحيث أراه ويراني فإن استحققت أن يضرب في وجهي بالسيف فليفعل. فمضى نميرة وقال له ذلك فقال: ما كنت الذي أشاهد طلعة أمير المؤمنين وأنابذه بالحرب وقد خرج الأمر عن يدي. ثم حمل على الميسرة فكسرها وهزمها وقتل كثيراً ممن كان فيها وشاهد العزيز ما جرى وكان في القلب فراسل الميمنة بالحملة وحمل هو والمظلة على رأسه فانهزم الفتكين والقرمطي ووضع السيف في عسكريهما فقتل منه نحو عشرين ألف رجل ومضى الحسن القرمطي هارباً على وجهه. وعاد العزيز إلى معسكره ونزل في مضاربه وجلس الأسرى بحضرته والعرب تجيئه بمن يقع في أيديها من أصحاب الفتكين والخلع تخرج إليهم مقابلة عن ذلك وقد بذل لمن يجئه بالفتكين مائة ألف دينار وكان الفتكين يميل إلى المفرج بن دغفل بن الجراح ويتمرده لأنه كان وضئ الوجه صبيحه وشاع ذلك عنه فيه واتفق ان انهزم فطلب ساحل البحر ومعه ثلاثة من غلمانه رفقائه وبه جراح وقد كده العطش فلقيته سرية من الخيل فيها المفرج فلما رآه التمس ماء فأعطاه إياه وقال له: احملني إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 34 هناك. ففعل حتى إذا وصل إلى قرية تعرف بلبنا أنزله فيها وأحضره ماء وفاكهةً ووكل به جماعةً من أصحابه وبادر إلى العزيز فتوثق منه في المال الذي بذله في الفتكين ثم عرفه حصوله في يده وأخذ جوهراً ومضى فسلمه إليه وورد المبشرون إلى العزيز بحصوله فتقدم بضرب نوبة من مضاربه وفرشها واعداد ما يحتاج إلى اعداده من الآلات للاستعمال فيها واحضار كل من حصل في الأسر منسوباً إليه فأحضر وأومنوا وكسوا ورتبوا في أشغالهم المنسوبة إليهم في خدمته ووصل الفتكين وقد خرج العسكر لاستقباله وهو غير شاك في انه مقتول فأمر العزيز أن يعدل به إلى النوبة المضروبة وكانت قريباً من مضاربه وبين يديه مختار الصقلبي صاحب القصر في جماعة من الخدم والصقالبة يمنعون الناس منه ويحولون بينه وبينهم فلما رأى القواد والصقالبة والمغاربة باب سرادق العزيز ترجلوا عن دوابهم وقبلوا الأرض ففعل الفتكين مثل ذلك ودخل المضارب المعدة له فشاهد أصحابه وحاشيته على ما كانوا عليه من الحال والعمل في خدمته وحمل إلى دست قد نصب له ليجلس عليه فرمى نفسه إلى الأرض ورمى ما على رأسه وعفر خديه على التراب وبكى بكاءً شديداً سمع منه نشيجه وقال: ما استحققت الابقاء علي فضلاً عن العفو الكريم والاحسان الجسيم ولكن مولانا أبي إلا ما يقتضيه أعرافه الشريفة وأخلافه المنيفة. وامتنع من الجلوس في الدست وقعد بين يديه وأتاه بعد ساعة أمين الدولة الحسن بن عمار وهو أجل كتابه وجوهر ومعهما عدة من الخدم على أيديهم الثياب فسلما عليه وأعلماه رضي العزيز عنه وتجاوزه عن الهفوة الواقعة منه وألبسه جوهر دستاً من ملابس العزيز كان في جملة الثياب وقال له: أمير المؤمنين يقسم عليك بحقه إلا طرحت سؤ الاستشعار وعدت إلى حال السكون والانبساط. فجدد الدعاء وتقييل الأرض وشكر جوهراً على ما ظهر منه في أمره وعاد الحسن وجوهر إلى العزيز فأخبراه ما كان منه. وواصله العزيز بعد ذلك بالمراعاة والملاطفة في الفواكه والمطاعم وتقدم من غد إلى البازيارية وأصحاب الجوارح بالمصير إلى باب مضربه وراسله بالركوب إلى الصيد تأنيساً له وقاد إليه عدة من دواب بمراكبها فركب وهو يشاهد القتلى من أصحابه وعاد من متصيده عشاء فاستقبله الفراشون بالشمع والنفاطون بالمشاعل ونزل في مضاربه فلما كان في الليل ركب العزيز إليه ودخل عليه فبادر إلى استقباله وتقبيل الأرض وتعفير خديه بالتراب فأخذ العزيز بيده وأمره بالجلوس فامتنع ثلاث مرات ثم جلس فسأله عن خبره وخاطبه بما سكن نفسه وقال له: ما نقمت عليك إلا انني دعوتك إلى مشاهدتي تقديراً أن تستحيي مني فأبيت وقد عفوت الآن عن ذلك وعدت إلى أفضل ما تحب أن تطيب نفسك به وسأصطنع لك اصطناعاً يسير ذكره وافعل معك فعلاً أزيد على أملك وأمنيتك فيه. فبكى الفتكين بين يديه وقال: قد تفضلت يا أمير المؤمنين علي تفضلاً ما استحققته ولا قدرته وأرجو أن يوفقني الله بخدمتك ومقابلة نعمتك. وأنس الفتكين بعد ذلك وخاطب فيمن بقي من أصحابه حتى أوجب لهم الأرزاق الواسعة والتقريرات المتتابعة ونزلوا على مقاديرهم ورتبهم في مواضعه واستحجبه العزيز وجعله من أخص خاصته وأقرب صاحب من خدمة حضرته. وكان العزيز قد أنفذ النجب بالرسل والكتب تابعةً للحسن بن أحمد القرمطي فلحقوه بطبرية وأعادوا عليه الرسائل بالصفح عما جرى منه والدعاء إلى وطء البساط ليصطنعه ويصطفيه والتماس ما يريده ليبلغه له ويرجع إلى بلاده فأقام على أمره وترددت المراسلات إليه ومنه والوسيط جوهر إلى أن تقرر الأمر على ثلاثين ألف دينار له ولأصحابه تحمل إليه في كل سنة ويكونوا على الطاعة والموادعة وحمل إليه مال سنة وأضيف إليه ثياب كثيرة وخيل بمراكب وتوجه إليه جوهر وقاضي الرملة فاستحلفاه للعزيز على الوفاء والمصلحة وأخذا له المواثيق المسدودة المؤكدة وأعطياه المال والخلع والحملان وانصرف إلى الاحساء وعاد العزيز إلى مصر والفتكين حاجبه ولم يزل المال المقرر للقرمطي يحمل إليه في كل سنة على يد أبي المنجا صاحبه إلى أن مات. ووصل العزيز إلى مصر والقاهرة فدخلها ونزل في قصره وأنزل الفتكين في دار حسنة بعد أن فرشت بالفروش الكثير وركب وجوه سائر الدولة إليه حتى لم يتأخر أحد منهم عنه ووافاه فيمن وافاه أبو الفرج يعقوب بن يوسف ابن كلس الوزير بعد أن لاطفه وهاداه وزاد أمر الفتكين بين يدي العزيز وتكبر على ابن كلس الوزير وامتنع من قصده والركوب إليه وأمره العزيز فلم يفعل وتدرجت الوحشة بينهما حتى قويت واستحكمت وأعمل الحيلة الوزير في الراحة منه ودس إليه سماً فقتله به ولما مضى لسبيله حزن العزيز حزناً شديداً عليه واتهم ابن كلس واعتقله نيفاً وأربعين يوماً صح له منه خمسمائة ألف دينار وواقفت الأمور باعتزاله النظر فيها فأعاده العزيز وجدد اصطناعه واستخدامه انه مقتول فأمر العزيز أن يعدل به إلى النوبة المضروبة وكانت قريباً من مضاربه وبين يديه مختار الصقلبي صاحب القصر في جماعة من الخدم والصقالبة يمنعون الناس منه ويحولون بينه وبينهم فلما رأى القواد والصقالبة والمغاربة باب سرادق العزيز ترجلوا عن دوابهم وقبلوا الأرض ففعل الفتكين مثل ذلك ودخل المضارب المعدة له فشاهد أصحابه وحاشيته على ما كانوا عليه من الحال والعمل في خدمته وحمل إلى دست قد نصب له ليجلس عليه فرمى نفسه إلى الأرض ورمى ما على رأسه وعفر خديه على التراب وبكى بكاءً شديداً سمع منه نشيجه وقال: ما استحققت الابقاء علي فضلاً عن العفو الكريم والاحسان الجسيم ولكن مولانا أبي إلا ما يقتضيه أعرافه الشريفة وأخلافه المنيفة. وامتنع من الجلوس في الدست وقعد بين يديه وأتاه بعد ساعة أمين الدولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 35 الحسن بن عمار وهو أجل كتابه وجوهر ومعهما عدة من الخدم على أيديهم الثياب فسلما عليه وأعلماه رضي العزيز عنه وتجاوزه عن الهفوة الواقعة منه وألبسه جوهر دستاً من ملابس العزيز كان في جملة الثياب وقال له: أمير المؤمنين يقسم عليك بحقه إلا طرحت سؤ الاستشعار وعدت إلى حال السكون والانبساط. فجدد الدعاء وتقييل الأرض وشكر جوهراً على ما ظهر منه في أمره وعاد الحسن وجوهر إلى العزيز فأخبراه ما كان منه. وواصله العزيز بعد ذلك بالمراعاة والملاطفة في الفواكه والمطاعم وتقدم من غد إلى البازيارية وأصحاب الجوارح بالمصير إلى باب مضربه وراسله بالركوب إلى الصيد تأنيساً له وقاد إليه عدة من دواب بمراكبها فركب وهو يشاهد القتلى من أصحابه وعاد من متصيده عشاء فاستقبله الفراشون بالشمع والنفاطون بالمشاعل ونزل في مضاربه فلما كان في الليل ركب العزيز إليه ودخل عليه فبادر إلى استقباله وتقبيل الأرض وتعفير خديه بالتراب فأخذ العزيز بيده وأمره بالجلوس فامتنع ثلاث مرات ثم جلس فسأله عن خبره وخاطبه بما سكن نفسه وقال له: ما نقمت عليك إلا انني دعوتك إلى مشاهدتي تقديراً أن تستحيي مني فأبيت وقد عفوت الآن عن ذلك وعدت إلى أفضل ما تحب أن تطيب نفسك به وسأصطنع لك اصطناعاً يسير ذكره وافعل معك فعلاً أزيد على أملك وأمنيتك فيه. فبكى الفتكين بين يديه وقال: قد تفضلت يا أمير المؤمنين علي تفضلاً ما استحققته ولا قدرته وأرجو أن يوفقني الله بخدمتك ومقابلة نعمتك. وأنس الفتكين بعد ذلك وخاطب فيمن بقي من أصحابه حتى أوجب لهم الأرزاق الواسعة والتقريرات المتتابعة ونزلوا على مقاديرهم ورتبهم في مواضعه واستحجبه العزيز وجعله من أخص خاصته وأقرب صاحب من خدمة حضرته. وكان العزيز قد أنفذ النجب بالرسل والكتب تابعةً للحسن بن أحمد القرمطي فلحقوه بطبرية وأعادوا عليه الرسائل بالصفح عما جرى منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 36 والدعاء إلى وطء البساط ليصطنعه ويصطفيه والتماس ما يريده ليبلغه له ويرجع إلى بلاده فأقام على أمره وترددت المراسلات إليه ومنه والوسيط جوهر إلى أن تقرر الأمر على ثلاثين ألف دينار له ولأصحابه تحمل إليه في كل سنة ويكونوا على الطاعة والموادعة وحمل إليه مال سنة وأضيف إليه ثياب كثيرة وخيل بمراكب وتوجه إليه جوهر وقاضي الرملة فاستحلفاه للعزيز على الوفاء والمصلحة وأخذا له المواثيق المسدودة المؤكدة وأعطياه المال والخلع والحملان وانصرف إلى الاحساء وعاد العزيز إلى مصر والفتكين حاجبه ولم يزل المال المقرر للقرمطي يحمل إليه في كل سنة على يد أبي المنجا صاحبه إلى أن مات. ووصل العزيز إلى مصر والقاهرة فدخلها ونزل في قصره وأنزل الفتكين في دار حسنة بعد أن فرشت بالفروش الكثير وركب وجوه سائر الدولة إليه حتى لم يتأخر أحد منهم عنه ووافاه فيمن وافاه أبو الفرج يعقوب بن يوسف ابن كلس الوزير بعد أن لاطفه وهاداه وزاد أمر الفتكين بين يدي العزيز وتكبر على ابن كلس الوزير وامتنع من قصده والركوب إليه وأمره العزيز فلم يفعل وتدرجت الوحشة بينهما حتى قويت واستحكمت وأعمل الحيلة الوزير في الراحة منه ودس إليه سماً فقتله به ولما مضى لسبيله حزن العزيز حزناً شديداً عليه واتهم ابن كلس واعتقله نيفاً وأربعين يوماً صح له منه خمسمائة ألف دينار وواقفت الأمور باعتزاله النظر فيها فأعاده العزيز وجدد اصطناعه واستخدامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 37 ولاية قسام التراب لدمشق بعد الحاجب الفتكين المقدم ذكره والسبب في غلبته على الأمر في سنة 368 وما آل أمره إليه السبب في غلبة قسام على ولاية دمشق إن الفتكين المعزي المذكور كان قد استخدمه وقدمه واعتمد عليه وسكن في كثير من أمره إليه فصار له بذلك صيت يخشى به ويرجا له. واتفق خلو البلد من أكابر الولاة بعد الفتكين وفراغه من شجعان الرجال وكان فيه المعروف بحميدان قد وليه وأمر فيه ونهي وأخذ وأعطى ففسد الأمر بين قسام وبين حميدان فصار حميدان من تحت حكم قسام لقهره له بكثرة من معه من الأحداث واستيلائه على البلد فطرده قسام عن الولاية ونهب أصحابه ما كان في داره وخرج هارباً فتمكن قسام من البلد واستقامت حاله فيه واجتمعت إليه الرجال وكثر ما في يده وقويت شوكته وتضاعفت عدته وعدته وولي القائد أبو محمود البلد بعد حميدان في نفر يسير وهو ضميمة لقسام. واتفقت النوبة الحادثة ببغداد بين الديلم والعرب من بني حمدان وهروب أبي تغلب الغضنفر بن حمدان في البرية والجبال إلى أن خرج إلى حوران فقصد دمشق ونزل عليها فمنع قسام من دخول أحد من رجاله إليها ووصل كتاب العزيز بالمنع له من البلد فسأل أبو تغلب عامل الخراج بدمشق أن يمكن أصحابه من ابتياع ما يحتاجون إليه من الأسواق فكلم العامل قساماً في ذلك فأذن له فيه ودخل أصحابه البلد وقد كان طمع أن يوليه العزيز وكان قسام قد خاف من ذلك وسعى قوم بينهما وكان أبو تغلب نازلاً بالمزة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 38 فأقام بها شهوراً فشق قسام مقامه وظن أنه يلي البلد. فلما كان في بعض الأيام وقف رجل من العجم من أصحاب ابن تغلب في باب الجابية وكان نشواناً فجرد سيفه وقال: إلى كم يكون هذا العيار. فعظم ذلك على قسام وتخوف أن يكون لأبي تغلب سلطنة فيملكه ومن معه ففسد الأمر بينهما بهذا السبب وتقدم قسام إلى أصحابه بأخذ كل من يدخل من أصحاب أبي تغلب فكمنوا في خراب قينية فأخذوا منهم نحو سبعين رجلاً وقتلوا منهم جماعة وعاد من أفلت منهم إلى أبي تغلب عراة قد أخذت ثيابهم ودوابهم فلم يتمكن أبو تغلب من شيء يفعله. وكتب إلى مصر بذلك فلما وقف أبي تغلب واهلاكه ونزل الرملة وأوصل إلى ابن جراح سجلاً بولاية الرملة وقال: إن هذا أبا تغلب يريد أن يسير إليها ليأخذها بسيفه وأنا معين لك عليه وكان أبو تغلب قد رحل عن دمشق نحو الفوار ونزل عليه وسار الفضل ونزل طبرية وراسل أبا تغلب في الاجتماع معه وكان الفضل يهودياً أولاً وكان أبوه طبيباً فكبرت نفس أبي تغلب أن يجلس معه على سرير من جهة اليهودية فأعلم ذلك فقال: كل منا على سرير. فاجتمعا في طبرية وجلس كل منهما على سريره وجرت بينهما محاورات على ان الرملة ولاية لأبي تغلب ويقلع ابن جراح منها وأنا معين لك عليه وقرر ذلك في نفسه وسار الفضل إلى دمشق يجبي الخراج ويفضه في الجند وزاد في العطاء وزاد في جنده وعسكره وسار عن دمشق وأخذ طريق الساحل. وشرع أبو تغلب في أمره وتوجه نحو الرملة وقد اجتمع إليه بنو عقيل مع شبل بن معروف العقيلي فهرب ابن جراح منها وجعل يحشد العرب ويحشد ثقةً بمعونة الفضل له وكذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 39 أبو تغلب مثله أيضاً فلما توجه الفضل على الساحل ونزل على عسقلان وقصد ابن جراح أبا تغلب بعسكره وسارت بنو عقيل مع شبل ابن معروف واصطلوا القتال للطاس كذا وأبو تغلب واقف في مصافه وعاد الفضل واجتمع مع ابن الجراح بعسكره وكان معه مغاربة كثيرة فقالوا لأبي تغلب: قد اجتمع عسكر الفضل مع عسكر ابن جراح. فقال: على هذا جرت الموافقة بيني وبينه. فلما نظر المغاربة الذين كانوا مع أبي تغلب إلى مغاربة الفضل قد أقبلوا مع عسكر ابن جراح حملوا يريدون الدخول معهم فقالوا لابن تغلب: احمل في أثر هؤلاء من قبل أن يدهمك الأمر. فبقي متحيراً وعلم إن الحيلة قد تمت عليه فلما حمل المغاربة الذين كانوا معه وساروا مع أصحابهم وأقبل العسكران على عسكر أبي تغلب فانهزم جميع من كان معه ثم انهزم هو فلم يدر في أي طريق يأخذ وكانت عدته في الغابة جميعها وذكر أنه لم يتقدم إليه رجل إلا ضربه. ولم يزل على ذلك حتى تبعه رجل من أصحاب ابن جراح يقال له منيع فصاح إليه: يا إنسان اسمع مني أنا ألحق بك. وظن أن كلامه حق فقال له: هذه الخيل التي أمامك خيلنا فلو وقفت علي لنجوت بك. وكان يتكلم معه وهو يقرب منه وبيده رمح فطول الرمح وهو يكلمه وهو يظن الا يقدر عليه فلم يمكنه في أبي تغلب شيء فطعن عرقوب فرسه فوقف به الفرس فأخذه وسار به إلى ابن جراح فأركب جملاً وأشهر بالرملة وقتله وأحرقه وذلك في صفر سنة 369 وخلت الديار لابن جراح وأتت بنو طيء على الناس وشملهم البلاء منهم. وكان العزيز قد خاف من الملك عضد الدولة فناخسره بن بويه خوفاً شديداً لأنه كان عازماً على انفاد العساكر إلى مصر فعاقه عن ذلك الخلف الجاري بينه وبين أخيه واشتغاله به في سنة 369رملة وقتله وأحرقه وذلك في صفر سنة 369 وخلت الديار لابن جراح وأتت بنو طيء على الناس وشملهم البلاء منهم. وكان العزيز قد خاف من الملك عضد الدولة فناخسره بن بويه خوفاً شديداً لأنه كان عازماً على انفاد العساكر إلى مصر فعاقه عن ذلك الخلف الجاري بينه وبين أخيه واشتغاله به في سنة 369 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 40 سنة تسع وستين وثلاثمائة فيها خرج العسكر المصري مع القايد سليمان بن جعفر بن فلاح في أربعة ألف من المغاربة ووصل إلى دمشق فصادف قساماً قد غلب عليها فنزل في بستان الوزير بزقاق الرمان وعسكر حوله في دور هناك. فثقل أمره على قسام وطال مقامه في غير شيء وقلت نفقته ورام أن يظهر صرامة فيتمكن من البلد فقال لقسام: لا يحملن أحد سلاحاً. فأبوا ذلك فبعث إلى الغوطة من يتلوها ويمنع من خفارة تؤخذ منها وحمل السلاح فيها فأعلم قسام ذلك فقال: لا يحفل بهذا الأمر بل كونوا على ما كنتم عليه. وثار قسام ومن معه إلى الجامع وصاروا إلى البستان الذي فيه سليمان فأخرجوهم وخرج سليمان وأصحابه إلى الدكة ونزل على نهر يزيد وقسام جالس في الجامع ولم يشهد الحرب مع أصحابه وقد أحضر المشايخ وكتب بما جرى إلى مصر وعمل محضراً على نفسه انه متى جاء للملك عضد الدولة عسكر أغلق الأبواب وقاتله ليكون لك معونةً على ما يريده فلما وقف عليه العزيز وافق غرضه وأنفذ رسله وكتابه إلى سليمان بن فلاح يأمره بالرحيل عن دمشق فرحل عنها وكان مقامه بها شهوراً من سنة 369 ورجع القائد أبو محمود إلى دمشق. ولما تم للفضل ما دبره على أبي تغلب ووافق الأغراض عزموا على أعمال الحيلة على ابن جراح لأن أمره كبر وشره ظهر وتوجه إلى قسام ليعمل أيضاً عليه وأظهر انه يريد المسير إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 41 حمص وحلب ليأخذهما وجمع بني عقيل ونزل بظاهر دمشق وعلم ابن جراح بمكاتبته لبني عقيل فأخذ حذره وأمر أصحابه بالرحيل وركب أصحاب الفضل وأخذوا من العرب تقدير خمسمائة فارس وسار ابن جراح عن دمشق. وانضمت بنو عقيل إلى الفضل مع شبل وظالم في صفر سنة 370 وبطل كل ما أراد الفضل عمله من الحيلة على ابن جراح وقسام ورحل عن دمشق في طلب ابن جراح وجد في طلبه فبعد عنه وكتب ابن جراح إلى مصر يتلطف أمره فورد الأمر على الفضل بالكف عنه وعاد الفضل إلى مصر وعاد ابن جراح إلى فلسطين فأخربها وأهلك من فيها. وكان الرجل يدخل إلى الرملة يطلب فيها شيئاً يأكله فلا يجده ومات الناس بالجوع وخربت الأعمال وأما دمشق فكان قد اشتد بها غلاء السعر. وكان بكجور قد ولي حمص من قبل سعد الدولة أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان فواصل إليها الغلة مع العرب بحيث اتصلت مع الأيام وعمرت الطرقات وجعل فيها من يخفر سالكيها. وكانت العرب قد طمعت في عمل دمشق وأفسدت الغوطة وكان بها القائد أبو محمود واليها في ضعف وهو ضميمة لقسام فملك في دمشق في سنة 370 وكان بكجور قد ضمن أعمال المغاربة قارا وبيرود ومعلولا والتينة وصيدنايا والمعرة وتلفيتا وغيرها من ضياع جبل سنير فحماها من العرب والحرامية وحسنت حال دمشق بذلك. وكاتب بكجور العزيز في ترغيبه في الأجناد حملة السلاح فاجتمع إليه حين فعل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 42 ذاك الخلق الكثير من سائر البلاد وكانوا حوله إذا ركب من داره فقهر بهم المغاربة واستظهر عليهم في سنة 370 وفيها وردت الأخبار بوفاة الملك عضد الدولة فناخسره بن بويه في يوم الاثنين ثامن شوال منها وكتم أمره وكانت مدته بالعراق خمس سنين ونصفاً وانتهى ذلك إلى الوزير بن كلس فدخل على العزيز فأعلمه فسر بذلك وخلع عليه وأمنوا بعد وفاته وعملوا على الخروج إلى الشام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 43 سنة احدى وسبعين وثلاث مائة فيها وقع الاهتمام بتجهيز العساكر المصرية إلى ابن جراح وقد اشتهر أمره بارتكاب العيث والفساد واخراب البلاد فلما سار العسكر من مصر مع القائد بلتكين التركي وكان فيها اعجام ومغاربة ومن كل الطوايف فنزل الرملة وأجفل ابن جراح وكان قد قوي أمره وصار معه جند يرمون بالنشاب وخلق عظيم وسار معه بشارة والي طبرية واجتمع إليه من العرب من قيس وغيرها جمع كثير ونشبت الحرب بين الفريقين وكان بلتكين المقدم قد خرج على ابن جراح من ورائه بعد اشتداد الحرب فانهزموا وأخذهم بالسيف وأسر ابن جراح وأفلت ونهب عسكره وقصد أرض حمص في البرية وقصد أنطاكية واستجار بصاحبها فأجاره وأمنه. وصادف خروج بارديس من قسطنطينية في عسكر عظيم يريد أرض الاسلام فخاف ابن جراح وكاتب بكجور خوفاً على نفسه. وكان القائد بلتكين المقدم قد نزل على دمشق في ذي الحجة سنة 370 وكان على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 44 العسكر منشا بن الفرار اليهودي فتلطف أمر قسام فلم يتمكن من ذلك وكان بدمشق مع قسام القائد جيش بن الصمصامة شبه وال وقد كان ولي البلد بعد مهلك خاله القائد أبي محمود في سنة 70 ولما نزل القائد بلتكين مقدم العسكر المصري على المزة وجده رجلاً أحمق فلم يحفل به ودخل على منشا الكاتب فقال: اني قضيت حق هذا القائد ولم يجئ إلي ولم يقض حقي وأنا الوالي. فهزأ به منشا وقال له: نعم أنت الوالي. وظن انما نزول العسكر على دمشق ليصلح البلد وقالوا: تخرج أنت ومن معك إلى ظاهر البلد. فخرج هو ومن معه فعسكر نحو مسجد إبراهيم عليه السلام وكان عسكر بشارة نازلاً في ذلك المكان وكانت المراسلة بينهم وبين قسام أن يسلم البلد ويكون هو آمناً على نفسه ومن معه فعلم قسام انهم إن بقوا في البلد أهلكوه ومن معه فقال: لا أسلم البلد. وضبط أصحابه فلما كان يوم الثلاثا التاسع عشر من المحرم سنة 373 وقع بين قوم من أصحاب قسام وقوم من أصحاب القائد بشارة الخادم عند باب الحديد فظهر عليهم أصحاب بشارة وأقبل في غد أصحاب جيش بن الصمصامة فخرج أصحابه إليهم فطردوهم ثم نشبت الحرب وأحرق ربض باب شرقي واطلقت النار في عدة مواضع وملكوا الشاغور ودخلت الأتراك على خيلهم في البطاطين وأحرقوا سقيفة وعدة مواضع ومساجد وعمها الخراب بعد ما كانت عليه من حسن العمارة واشتد بالناس الخوف والمضرة. فاجتمع الناس وكلموا قساماً بأن يخرجوا إلى القائد بلتكين فيصلحوا الأمر معه فلازمهم وذل بعد تحيره وتبلده وقال: افعلوا ما شيئتم. وكان اجتماع الناس لطفاً من الله تعالى فخرجوا إليه وخاطبوه فصرف أصحابه عن القتال وعن الأبواب وانصرف أصحاب قسام إليه فوجدوه خائفاً فأخذ كل لنفسه ورجع المشايخ إلى قسام فقالوا له: قد أجاب القائد إلى ما تحب وأمنك على نفسك وأصحابك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 45 فخاطبوه بذلك وهو ساكت حائر وقد بان ذلك في وجهه فلما رأوه كذلك خافوا أن يعود عن تسليم البلد على أمان لي ولأصحابي فعاد المشايخ إلى بلتكين القائد وأعلموه الخطاب والجواب فأجابهم إلى ما طلب وقال لهم: نريد أن ننزل على هذا البلد في هذا اليوم. فقالوا: افعل ما تحب وتوثر. فولي البلد حاجباً يقال له خطلخ في خيل ورجل فدخل المدينة من يومه. وكان مبدأ الحرب في هذه النوبة يوم الخميس لعشر بقين من المحرم سنة 373 والدخول إلى البلد يوم الخميس لثلاث بقين منه ولم يعرض لقسام ولا لأحد من أصحابه وتفرق أصحابه عنه وأقام يومين واستتر وقيل هرب فصاروا إلى داره وأخذوا ما فيها وحولها من دور أصحابه وطلب فلم يوجد ونودي عليه وبذل لمن يظهره خمسون ألف درهم ولمن يدل على مكانه عشرون ألفاً فقال لهم قائل: هو في كنيسة اليهود بين البطاطين فجاءوا إلى الديان وقالوا: نريد أن نخرب هذه الكنيسة أو نحرقها بالنار فإن قساماً فيها. فاصعدهم ودار بهم فيها فلم يروا أثراً ولا عرفوا له خبراً فلما أخذت امرأته وولده قالت لمن سمع منها: ما تنتظروا يا مشوم. وكان عند رجل في الحائر ولم يفطن به أحد فخرج في الليل إلى العسكر فوقف على خيمة منشا الكاتب وقال: رجل يريد أن يدخل إلى الرئيس. فقالوا: ومن هو. قال: قسام. فدخل عليه على غير أمان فبعث إلى القائد بلتكين فأعلمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 46 فأخذه إليه وأدخله عليه وحملوه إلى خيمة وقالوا له: مد رجلك. فقال: ما أفعل أنا جئتكم بأمان. فأخرج الحاجب الدبوس فضربه به فمد رجله فقيد وحمل إلى مصر فعفي عنه لما جاءهم في الأمان. وكان قسام هذا أصله من قرية بجبل سنير يقال لها تلفيتا من قوم يقال لهم الحارثون بطن من العرب نشأ بدمشق وكان يعمل في التراب ثم انه صحب رجلاً يقال له ابن الجسطار من مقدمي الأحداث وحملة السلاح وطالبي الشر فصار من حزبه وتزايد أمره إلى ما انتهى إليهن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 47 قسام هذا أصله من قرية بجبل سنير يقال لها تلفيتا من قوم يقال لهم الحارثون بطن من العرب نشأ بدمشق وكان يعمل في التراب ثم انه صحب رجلاً يقال له ابن الجسطار من مقدمي الأحداث وحملة السلاح وطالبي الشر فصار من حزبه وتزايد أمره إلى ما انتهى إليه ولاية بكجور لدمشق والسبب في ذلك في سنة 372 كان من ابتداء أمر بكجور ما ذكر انه كان غلاماً مملوكاً لفرغويه أحد غلمان سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب وكان فرغويه قد غلب على أمر حلب بعد وفاة سيف الدولة ومنع ولده سعد الدولة أبا المعالي منها ودفعه عنها فسار أبو المعالي إلى حماة ورفنية وكان ينزل مهماً في عسكره. وكانت الروم قد خربت حمصاً وأعمالها ونزل رقتاش التركي غلام سيف الدولة من حصن برزويه فلقي مولاه أبا المعالي وسار معه ونزل على حمص وشرع في عمارتها ولم شعثها لأن الروم لما ملكتها أفسدت أعمالها في النوبة الأولى عند خروجهم في سنة 358 على غفلة من أهلها وغرة ممن بها واجتهد رقتاش في عمارتها وتحصينها وأبو المعالي يقوي أمره بها ويشد شوكته فيها. وكان فرغويه قد استناب بكجور في حلب فلما قوي أمره قبض على مولاه وحبسه في قلعة حلب وملك البلد وأقام تقدير ست سنين. وكوتب أبو المعالي من حلب وأطمع في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 48 تملك البلد في رجال فرغويه وأن يكونوا عوناً له على أمره فجمع بني كلاب ومن أمكنه ونهض صوب حلب ونزل على معرة النعمان فملكها وأخذ منها غلاماً كان غلب عليها يقال له زهير فقتله وسار عنها فنزل حلب سنة 366 فأقام عليها تقدير أربعة أشهر ثم تسهل له فتحها بحيلة عملها وتحصن بكجور في القلعة فراسله أبو المعالي فطلب منه الأمان فأمنه فقال بكجور: أريد يتوسط بيني وبينك وجوه البلد من بني كلاب. فأجابه إلى ذلك فتوسطوا الأمر بينهما وأخذوا له العهد والميثاق والأمان على نفسه وولده وماله وانه لا يغدر به ويوليه حمصاً على انه ينحدر من القلعة ويسلمها ولا يأخذ منها شيئاً إلا ما لا بد منه فأجابه إلى ذلك فولاه حمصاً لما نزل من القلعة وسلمها ووفى له بكل ما عاهده عليه. وسار بكجور إلى حمص في السنة المذكورة وصرف همه إلى عمارتها وكان أمره كل يوم فيها إلى الزيادة بعد الدخول غليها في الضعف. واتفق له إن أعمال دمشق من حوران والبثنية قد اختلت وخربت على ما تقدم ذكره من قلة القوت بها وغلاء السعر فيها وجلا منها خلق كثير إلى حمص فعمر البلد وكثر الناس عنده. وكان في بكجور خور وكان مجتهداً في العمارة وأمن السبل والطرق فلما انقطعت الغلات عن دمشق ومات بها كثير من الناس جوعاً من أهل حوران والبثنية ورغب الناس جالبون منها في حمل الغلة إلى دمشق مكنهم من ذلك وحمى لهم الطرق في ترددهم بادين وعائدين فحسن حال حمص وكثر السفر إليها ومنها. وكانت العرب قد طمعت في أعمال دمشق وكان واليها القائد أبو محمود بن جعفر في ضعف وقسام غالب عليه واتفق وفاة أبي محمود إبراهيم بن جعفر المذكور بدمشق في صفر سنة 370 وكان بكجور قد ضمن أعمال المغاربة على ما تقدم ذكره وحماها من العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 49 وحسنت حال دمشق بحمل الغلات إليها في تلك الشدة. وكان بكجور يكاتب العزيز بالله بمصر وورد الجواب عليه بأن تصير إلى بابنا لنوليك دمشق وكان العزيز قد رغب في الجند الذين يعملون السلاح مثل الناشب والرامح وجمع الجمع الكثير وأخرجهم إلى حرب الفتكين وجرى من أمره ما ذكر في موضعه. فلما كان في سنة 372 وقعت الوحشة بين سعد الدولة أبي المعالي بن سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب وبين بكجور وراسله بأن يخرج من بلده فكتب بكجور إلى العزيز يسأله انجاز الوعد بولاية دمشق ودعت الحاجة إلى عود القائد بكجور مقدم العسكر المصري بحكم اعتزام المغاربة على الوثوب بالوزير ابن كلس وقتله وقادت الضرورة العزيز إلى أن ولي بكجور دمشق وكتب إلى بلتكين ومنشا كاتب الجيش بأن يسلم البلد إلى بكجور ويرحل عنه. وقد كان كتب أيضاً كتاباً إلى العزيز إن إن أنفذ إلي عسكراً لآخذ لك حلب وأطمعه في ذلك فأنفذ إليه بعض عسكر دمشق فسار بهم ونزل على حلب وحصرها مدة يسيرة. فظهر دمستق الروم بارديس ونزل على أنطاكية وعزم على كبس بكجور على حلب فكتب إليه ابن جراح يحذره فرحل عن حلب وتبعه عسكر الروم في أثره وتم بكجور ونزل على حمص وحمل ما كان له إلى بعلبك ونزل في جوسية في جمع عظيم ونزل ملك الروم ميماس حمص ولم يعرض للبلد ودخل المدينة وشاهد الكنيسة ورحل عنها متوجهاً إلى البقيعة يريد طرابلس. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 50 وأنفذ إلى أهل حمص رسولاً يقول لهم: نريد مالاً يحمل إلينا. فقالوا: هذا بلد خراب ليس فيه مال. فرجع ونزل عليها وقال لأهلها: من خرج من البلد فهو آمن. فخرج قوم وأقام قوم فدخل عسكره فنهب وسبى وأحرق الجامع ومواضع من البلد وتحصن قوم بالمغاير فأوقد عليهم فأهلكهم الدخان ولم يعرض للعرب ولا لمن هرب إليها وكان دخول الروم إلى حمص يوم الثلاثاء التاسع عشر من جمادى الأول سنة 373 وهي النوبة الثانية للروم وقيل إن أبا المعالي بن سيف الدولة خاف من أخذ بكجور حلب بالمغاربة فأنفذ إلى ملك الروم يسأله اخراب حمص. ورجع أكثر من كان مع بكجور من عسكر دمشق أصحاب القائد بلتكين وبقي بكجور وأصحابه منتظراً أن يرحل بلتكين عن دمشق ويسير إليها. وكان السبب في تأخر ولاية دمشق إن الوزير ابن كلس كتب إلى بلتكين أن لا يسلم دمشق إلى بكجور وعرف العزيز ذاك وكتب يذكر بأمره وانجاز وعده فسأل العزيز عن تأخر الأمر في ذلك فقال له الوزير: الصواب أن لا يلي بكجور دمشق ويعصى فيها. قال: نحن استدعيناه لذلك ووعدناه به. فقال: قد كان ذاك والحزم أن لا يولي. فقال له: لا بد من ذلك. فكتب الوزير إلى منشا بن الفرار كاتب الجيش: واقف بكجور على ما يأخذ من المال له ولرجاله وسلم ولاية دمشق إليه. فسلم بلتكين البلد إليه وعاد متوجهاً إلى مصر في يوم الأحد مستهل رجب سنة 372 وكانت ولاية بلتكين دمشق خمسة شهور ودخل بكجور البلد والياً في يوم السبت سابع رجب من السنة وقد عرف إن الذي أخر الولاية الوزير بن كلس فحقد بكجور عليه. وكان لابن كلس نائب في عمله وضياعه يقال له ابن أبي العود يهودي وكان يكتب إليه بأخبار البلد فقال بكجور: هذا عين علي. وتقدم بقتله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 51 فقتل فلما بلغ ذلك الوزير عظم عليه واغتم له وأعلم الوزير العزيز وقال: هذا مبدأ عصيان بكجور وقد تمكن من البلد وجاء معه ابن جراح وهو عدو. فلما كان في سنة 77 عزم الوزير على العمل على قتل بكجور فأنفذ إلى غلام نصراني عطار يعرف بابن أخي الكويس من أهل دمشق إن احتل على قتل بكجور ولم يكن النصراني من أهل ذاك فقال: لا يتم هذا الأمر إلا برجل من الجند من أصحابه يعين على هذا الأمر. فكتب رقعةً بما يريد إلى بعض أصحاب بكجور، فلما وصلت الرقعة إليه ونظر ما فيها فظن إن بكجور دسها إليه ليبلوه بها فأوصل الرقعة إلى بكجور فوقف عليها وقال: أريد من جاءك بها. فقال: إنما أوصلتها إليك لأبرأ من أمرها ولا أكتمها عنك. فلم يقبل قوله ولج في طلبه وقال له: إن الذي أوصل الرقعة أجيراً لابن أخي الكويس العطار. فوجه قبض عليه وعلى الأجير ووضع العقوبة على العطار وقال: أريد الصبي. وقبض على قوم كانوا يعاشرون العطار فكحلهم ونفاهم وكان فيهم ثلاثة من أهل العلم والفضل يقال لأحدهم ابن الخطاب والآخر الخلادي والثالث المستولي وأخرج ابن الكويس بعد ما صفي ومعه رجلان من المتهمين فصلبوا أقبح صلب وماتوا في غد ذلك اليوم في رمضان سنة 77 وبلغ الخبر الوزير ابن كلس فعظم عليه وازداد حنقاً وأعلم العزيز ذاك واتفق أن يخرج إليه عسكر ومعه جراح وشرع بكجور في أذية الناس من أصحاب الوزير في ضياعه وجار في البلد جوراً عظيماً ولم يخل من القتل والصلب والفتك. فجرد إليه في سنة 78 القائد منير الخادم في عسكر كثيف وأصدرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 52 الكتب إلى ولاة الأعمال بالمسير معه ولما عرف بكجور ذلك أنفذ إلى العرب وجمع وحشد واستقبل العسكر فالتقيا وصدقوا القتال وكثر في بني كلاب الطعن والجراح وبشارة ومنير المقدمان قائمان في أصحابهما عليهما الحديد فحملوا جميعاً على الكلبين فهزموهم والجؤهم إلى حيطان داريا فرجعوا ومن معهم من أصحاب بكجور خاسرين مفلولين. فخاف بكجور على نفسه أن يؤخذ فراسلهم بأنه يسلم البلد ويرحل عنه وقد كان كوتب القائد نزال والي طرابلس بالمسير والنزول على دمشق وكان عسكره ستة ألف فسار فلما عرف بكجور انفصاله قلق وخاف وذل وراسل منشا بن الفرار الكاتب باني عازم على المسير من هذا البلد وأريد أن أكون على عهد وأمان ولا أتبع بمضرة فأجيب إلى ما التمس وجمع ماله وسلاحه وخاف من الرجعة والحيلة أن يقع عليه من البلد وأخفى أمره وستر مسيره فلما كان في يوم الثلاثاء نصف رجب سنة 388 سار خائفاً وجلاً نحو الشرق وأخذ مع الجبل وسار معه ابن الجراح إلى حصن حوارين فأخذ ما كان له وأخفى أمره. فلما عرف خبره نهض في أثره القايد منير من غد ونزل على البلد ففرح الناس به وتوجه بكجور إلى الرقة وتخلف بدمشق من أصحابه تقدير ثلاث مائة رجل فصاحوا عزيز يا منصور فأمنوا. ولما نزل منير القائد على دمشق أصبح القائد نزال نازلاً معه في يوم الخميس فلامه الناس على ما اعتمده من التثاقل ونفذت المطالعات إلى مصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 53 بشرح الحال فأنكر الوزير ابن كلس فعل منشا وإهماله بكجور حتى نجا وأشخصه إلى مصر مع المستأمنة من أصحاب بكجور وقال له: خليت بكجور خوفاً على نفسك أما كان معه عسكر فيه كفاية. فقال: لم يكن غير ما فعلته لأن نزالاً تأخر عنا وتثاقل وكان بكجور في قوة وكثرة من العرب وغيرهم وهم أصحاب دروع وجواشن وخيل سبق. فلم يقبل عذره وعزله من تدبير العسكر. وكان ابن كلس يخاف من بكجور أن تكون له عودة إلى ولاية دمشق فيتمكن من دمشق فأنفذ رسولاً إليه يقول له: ما أردنا رحيلك عن البلد وإنما انفاذنا العسكر لابعاد ابن الجراح لفساده وعناده وما كان من ضياع وغلات فلك افعل فيها ما أحببت فما لنا فيه حجة. فحمل بكجور ما كان له بدمشق وأقام بالرقة منقطعاً ليس له سلطان يستند إليه وكان بالرقة يراسل كردياً يقال له باد قد غلب على ميافارقين ويراسل أبا العالي بن سيف الدولة بحلب أن يرده إلى العمل الذي كان في يده من حمص. فلما كان في سنة 379 خرج عسكر صاحب بغداد إلى باد الكردي المقدم ذكره لغلبته على الموصل وديار ربيعة فكسر وانهزم عسكره وأصحابه وعرف بكجور ذلك فخاف من عسكر بغداد فراسل سعد الدولة أبا المعالي يسئله تولية حمص فأجابه إلى ذلك. وكان ابن كلس يسأل عن أخباره بالرقة خوفاً منه فلما عرف الوزير ذلك قال: يجاورنا بكجور في حمص فطمع في الديار. فأرسل إلى غلام له يقال له ناصح الطباخ بأن يسير إلى حمص فيأخذ من بها من أصحاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 54 بكجور فسرى في البرية فلم يشعر به حتى أتاهم فكان أبو المعالي صاحب حلب قد علم بالسرية فأنفذ إليهم من حذرهم واتفق لهم أنهم حملوا وخرجوا من حمص هاربين فلما حصلوا بأحمالهم بظاهر البلد أدركتهم السرية فأخذتهم ورجعت إلى دمشق. وفسد أمر بكجور مع المغاربة ومع أبي المعالي فراسل صاحب بغداد فلم ير له عنده ما يحب وكان الوزير ابن كلس مضرب بينهما ويطمع كل واحد منهما في صاحبه. وكان الوزير ابن كلس يهودياً من أهل بغداد خبيثاً ذا مكر وحيلة ودهاء وذكاء وفطنة وكان في قديم أمره خرج إلى الشام فنزل بالرملة فجلس وكيلاً للتجار فلما اجتمعت الأموال التي للتجار كسرها وهرب إلى مصر في أيام كافور الاخشيدي صاحب مصر فتاجره وحمل إليه متاعاً كثيراً ويحال بماله على ضياع مصر وكان إذا دخل ضيعةً عرف غلتها وارتفاعها وظاهر أمرها وباطنها وكان ماهراً في اشغاله لا يسئل عن شيء من أمورها إلا أخبر به عن صحة فكبرت حاله وخبر كافور بخبره وما فيه من الفطنة والسياسة فقال: لو كان هذا مسلماً لصلح أن يكون وزيراً. فبلغه ما قال كافور فطمع في الوزارة فدخل جامع مصر في يوم الجمعة وقال: أنا أسلم على يد كافور. فبلغ الوزير ابن حنزابة وزير كافور ما هو عليه وما طمع فيه فقصده وخاف منه فهرب إلى المغرب وقصد يهوداً كانوا هناك مع أبي تميم المعز لدين الله أصحاب أمره فصارت له عندهم حرمة فلم يزل معهم إلى أن أخذ المعز مصر فسار معه إليها فلما توفي المعز وأصحابه اليهود وولي العزيز بالله استوزره في سنة 365 وكان هذا الوزير أبو الفرج يعقوب بن يوسف بن كلس كبير الهمة قوي النفس والمنة عظيم الهيبة فاستولى على أمر العزيز وقام به استصحه فعول عليه وفوض أمره إليه وكانت أموره مستقيمة بتدبيره فلما اعتل علة لوفاة ركب إليه العزيز عائداً فشاهده على حال اليأس فغمه أمره وقال له: وددت بأنك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 55 تباع فابتاعك بملكي أو تفتدى وأفديك بولدي فهل من حاجة توصي بها يا يعقوب؟ فبكى وقبل يده وتركها على عينه وقال: أما ما يخصني يا أمير المؤمنين فلا أنصح لك فيما يتعلق بدولتك. قال: قل يا يعقوب فقولك مسموع ورأيك مقبول. قال: سالم يا أمير المؤمنين الروم ما سالموك واقنع من الحمدانية بالدعوة والسكة ولا تبق على المفرج بن دغفل بن الجراح متى عرضت لك فيه فرصة. وتوفي في ذي الحجة سنة 380 فأمر العزيز أن يدفن في داره بالقاهرة في قبة كان بناها لنفسه وحضر جنازته وصلى عليه والحده بيده في قبره وانصرف عنه حزيناً بفقده وأغلق الدواوين وعطل العمال أياماً واستوزر أبا عبد الله الموصلي بعده مديدة ثم صرفه وقلد عيسى بن نسطورس وكان نصرانياً من أقباط مصر وفيه جلادة وكفاية فضبط الأمور وجمع الأموال ووفر كثيراً من الخراج ومال إلى النصارى فقلدهم الأعمال والدواوين واطرح الكتاب المتصرفين من المسلمين واستناب في الشام رجلاً يهودياً يعرف بمنشا بن ابرهيم بن الفرار فسلك مسلكه في التوفر على اليهود وعيسى مع النصارى مثله واستولى أهل هاتين الملتين على الدولة. فكتب رجل من أجلاد المسلمين رقعةً وسلمها إلى امرأة وبذل لها بذلاً على اعتراض العزيز ورفع الظلامة إليه وتسليمها إلى يده وكان مضمون الرقعة: يا أمير المؤمنين يا الذي عز النصارى بعيسى بن نسطورس واليهود بمنشا بن الفرار وأذل المسلمين بك ألا نظرت في أمري وكان العزيز على بغلة سريعة في المشي وإذا ركبها تدفقت كالموج ولم تلحق فوقفت له المرأة في ضيق فلما قاربها رمتها إليه فسارع الركابي إلى أخذ الرقعة على العادة وغاصت المرأة في الناس ووقف العزيز عليها وأمر بطلب المرأة فلم توجد وعاد إلى قصره منعم الفكر في أمره فاستدعى قاضي قضاته أبا عبد الله محمد بن النعمان وكان متقدماً عنده في خواصه وأهل أنسه فأعطاه الرقعة وقال له: قف عليها. فلما قرأها قال له: ما عندك في هذا الأمر. قال: مولانا أعرف بوجه الرأي والتدبير. فقال: صدقت كاتبتها تهيباً على ما كنا على غلط فيه وغفلة عنه. وتقدم في الحال بالقبض على عيسى بن نسطورس وسائر الكتاب النصارى وإنشاء الكتب إلى الشام بالقبض على منشا بن الفرار والمتصرفين من اليهود وأن ترد الأعمال في الدواوين إلى الكتاب المسلمين ويعول في الأشراف عليهم على القضاة في البلاد. ثم أن عيسى طرح نفسه على ست الملك بنت العزيز وكان يحبها حباً شديداً ولا يرد لها قولاً واستشفع بها في الصفح عنه وتجديد الاصطناع له وحمل إلى الخزانة ثلاثمائة ألف دينار وكتب إلى العزيز رقعةً يذكر فيها بخدمته وحرمته ورضي عنه وأعاده إلى ما كان عليه وشرط عليه استخدام المسلمين في دواوينه وأعمالهلدهم الأعمال والدواوين واطرح الكتاب المتصرفين من المسلمين واستناب في الشام رجلاً يهودياً يعرف بمنشا بن ابرهيم بن الفرار فسلك مسلكه في التوفر على اليهود وعيسى مع النصارى مثله واستولى أهل هاتين الملتين على الدولة. فكتب رجل من أجلاد المسلمين رقعةً وسلمها إلى امرأة وبذل لها بذلاً على اعتراض العزيز ورفع الظلامة إليه وتسليمها إلى يده وكان مضمون الرقعة: يا أمير المؤمنين يا الذي عز النصارى بعيسى بن نسطورس واليهود بمنشا بن الفرار وأذل المسلمين بك ألا نظرت في أمري وكان العزيز على بغلة سريعة في المشي وإذا ركبها تدفقت كالموج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 56 ولم تلحق فوقفت له المرأة في ضيق فلما قاربها رمتها إليه فسارع الركابي إلى أخذ الرقعة على العادة وغاصت المرأة في الناس ووقف العزيز عليها وأمر بطلب المرأة فلم توجد وعاد إلى قصره منعم الفكر في أمره فاستدعى قاضي قضاته أبا عبد الله محمد بن النعمان وكان متقدماً عنده في خواصه وأهل أنسه فأعطاه الرقعة وقال له: قف عليها. فلما قرأها قال له: ما عندك في هذا الأمر. قال: مولانا أعرف بوجه الرأي والتدبير. فقال: صدقت كاتبتها تهيباً على ما كنا على غلط فيه وغفلة عنه. وتقدم في الحال بالقبض على عيسى بن نسطورس وسائر الكتاب النصارى وإنشاء الكتب إلى الشام بالقبض على منشا بن الفرار والمتصرفين من اليهود وأن ترد الأعمال في الدواوين إلى الكتاب المسلمين ويعول في الأشراف عليهم على القضاة في البلاد. ثم أن عيسى طرح نفسه على ست الملك بنت العزيز وكان يحبها حباً شديداً ولا يرد لها قولاً واستشفع بها في الصفح عنه وتجديد الاصطناع له وحمل إلى الخزانة ثلاثمائة ألف دينار وكتب إلى العزيز رقعةً يذكر فيها بخدمته وحرمته ورضي عنه وأعاده إلى ما كان عليه وشرط عليه استخدام المسلمين في دواوينه وأعماله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 57 سنة إحدى وثمانين وثلاثمائة كان بكجور قد خاف من عيسى بن نسطورس الوزير المقدم ذكره أن يعمل عليه لأسباب تقدمت بينه وبينه أوجبت ذاك فكتب إلى العزيز يذكر له جلالة حلب وكثرة ارتفاعها وأنها دهليز العراق وإذا حصلت له كان ما بعدها في يده وإن العسكر الذي بها قد كاتبه وبذل الطاعة له والمساعدة ويستدعي منه الانجاز والمعونة فأجابه بكل ما أراد وكتب إلى نزال والي طرابلس بالمسير إليه متى استدعاه من غير استئذان ولا معاودة استيمار وكان نزال هذا من وجوه قواده وصنائع عيسى الوزير وخواصه فكتب إليه عيسى سراً بأن يتقاعد ببكجور وتظهر له المساعدة والمسارعة ويستعمل معه التعليل والمدافعة فإذا تورط مع مولاه وقاربه تأخر عنه وأسلمه فلم يشك بكجور في مسير نزال إليه وسار عن الرقة وكتب إلى نزال بأن يسير من طرابلس ليكون وصولهما إلى ظاهر حلب في وقت واحد فأجابه نزال ووعده. ونزل بكجور على بالس وفيها غلمان سعد الدولة أبي المعالي صاحب حلب وعدة من الديلم فقاتلهم وقاتلوه ورحل بكجور وتباطأ نزال في مسيره وواصل مكاتبة بكجور في منزل بعد منزل وقرب الأمر عليه في وصوله إليه وأقام بكجور على بالس خمسة أيام فلما لم يجد فيها مغمزاً فارقها وطلب حلب. وكان أبو المعالي كاتب بسيل عظيم الروم وأعلمه عصيان بكجور عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 58 وسأله مكاتبة البرجي صاحب بأنطاكية بالمسير إليه متى دعته حاجة إلى إنجاده ومعرفته فكاتب عظيم الروم بذاك وأكد القول عليه فلما وافى بكجور كاتب سعد الدولة البرجي فرحل ونزل مرج داق وهو على فرسخين من حلب ووصل بكجور إلى النقرة ونزل في ناحية تعرف بالناعورة وامتد عسكره إلى تل أعرن ومنها إلى حلب أربعة فراسخ وبرز سعد الدولة في غلمانه وأصحابه فكانوا ستة آلاف رجل من الروم والأرمن والديلم والأتراك ولم يكن معه من عسكر العرب إلا عمرو بن كلاب وعدتهم خمسمائة رجل إلا أنهم أولوا باس وقوة ومن سواهم من بطون العرب بني كلاب مع بكجور بعد أن حصل حرمه وأولاده في القلعة بحلب. ولما برز وسار عسكره وكان لؤلؤ الجراحي الكبير يحجبه أعجبه ما رأى من عدته وعدته فنزل إلى الأرض وصلى وعفر ودعا الله بنصره وإدالته من بكجور وغدره وفعل أصحابه مثل فعله واجتمعوا إليه وقالوا له: نفوسنا بين يديك والله لنبذلنها في طاعتك والمدافعة عنك. فشكرهم وقال لهم: أنتم الأولاد والعدة وهذه الدولة لكم وأنا فيها واحد منكم. واستدعى كاتبه المعروف بالمصيصي وأمره أن يكتب إلى بكجور يستعطفه ويذكره الله ويخوفه ويبل له أن يقطعه من باب حمص إلى الرقة ويدعوه إلى الكف والموادعة ورعاية حق الرق والعبودية ويعلمه أنه متوقف عن حربه ولقائه إلى أن يعود إليه من جوابه ما يعول عليه. وسار فنزل بالموضع المعروف بالنيرب على ميل من حلب وعسكر الروم بازائه ووافى رسول سعد الدولة إلى بكجور فأوصل إليه الكتاب فلما وقف عليه قال له: قل له الجواب ما تراه عياناً لا ما أرسل إليك كتاباً. فعاد الرسول وأعاد على سعد الدولة قوله وأعمله أنه ساير على أثره. فتقدم سعد الدولة إلى الموضع المعروف بدير الزبيب وقدم على مقدمته شجعان غلمانه وأنجادهم من عمرو بن كلاب الذين قدمنا ذكرهم وقد جعل بكجور على مقدمته بارخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 59 ورشيقاً غلاميه في مائة غلام ووقع التطارد وكان الفارس من أصحاب سعد الدولة إذا عاد إليه وطعن وجرح خلع عليه وأحسن إليه وكان بكجور بضد ذلك بخلاً وإذا عاد إليه رجل على هذه الحال أمر بأن يكتب اسمه لينظر مستأنفاً في أمره. وقد كان سعد الدولة كاتب العرب الذين مع بكجور وأمنهم وأرغبهم ووعدهم الاقطاعات الكثيرة والعطايا الفاضلة الفائضة وألا يؤاخذوهم بالانحياز إلى بكجور والحصول معه فلما حصلت أماناته وتوقيعاته في أيديهم عطفوا على سواد بكجور فنهبوه وانصرفوا عنه واستأمنوا إلى سعد الدولة ونزلوا عليه وراى بكجور ما تم عليه من تقاعد نزال وغدر العرب وتأخر غلمان سعد الدولة الذين كانوا كاتبوه ووعدوه الانحياز إليه إذا عاينوه فاستدعى أبا الحسن كاتبه المعروف بابن المغربي وقال له: غررتني وأوهمتني أن العزيز يجئني ويعاونني وأن العرب تخلص لي وتناصحني وأن العرب توافيني ويستأمنوا إلي وما كان لشيء من ذلك حقيقة فما الرأي الآن فإن بازائنا عسكراً عظيماً لا طاقة لنا به. قال: صدقت أيها الأمير فيما قلته وواله ما أردت غشك ولا فارقت نصحك والصواب مع هذه الأسباب العارضة أن ترجع إلى الرقة وتكاتب العزيز بما عاملك به نزال وتعاود استنجاده فإنه ينجدك ويستظهر في أمرك. وكان في عسكر بكجور قائد من قواده يجري مجراه في التقدم يعرف بابن الخفاني فقال له وقد سمع ما جرى بينه وبين ابن المغربي فقال: ما عندك فيما قاله وأشار به؟ فقال له: هذا كاتبك يقول إذا جلس في دسته الأقلام تنكس الأعلام فإذا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 60 حقت الحقائق أشار علينا بالهرب وإذا هربنا فأي وجه يبقى لنا عند الملوك وزوجة من يهرب اليوم طالق ليس إلا السيف فأما لنا وأما علينا. وسمع ابن المغربي ما قاله ابن الخفاني فخاف بكجور وقد كان واقف بدوياً من شيوخ بني كلاب يعرف بسلامة بن بريك على أن يحمله إلى الرقة متى كانت هزيمة وبذل له ألف دينار على ذلك فما استشعر من بكجور ملابسه تشعره سامه تسييره قبل الوقت الذي أعده له فأوصله إلى الرقة. وعمل بكجور على ما فيه من قوة النفس وفضل الشجاعة على أن يعمد إلى الموضع الذي فيه سعد الدولة من مصافه ويهجم عليه بنفسه ومن يقتحمه معه من صناديد غلمانه ويوقع به واعتقد أنه إذا فعل ذلك وكبس الموضع وانهزم الناس وملك فاختار من غلمانه من ارتضاه ووثق به بحسن البلاء منه وقال لهم: قد تورطنا من هذه الحرب ما عرفتموه وحلنا على شرف الهزيمة وذهاب النفوس وقد عزمت على كذا وكذا فإن ساعدتموني رجوت أن يكون الفتح على أيديكم والأثر لكم. فقالوا: نحن طوعك وما نرغب بنفوسنا عن نفسك. وبادر واحد ممن سمع الكلام منه إلى لؤلؤ الجراحي فاستأمن إليه واعلمه بالصورة فأسرع لؤلؤ إلى سعد الدولة وأخذ الراية من يده ووقف في موضعه وقال: تهب لي يا مولاي هذا المكان اليوم وتنتقل إلى مكاني عنه فإن بكجور أيس من نفسه وقد حدثها بأن يقصدك ويقع عليك ويوقع بك ويجعل ذلك طريقاً إلى فل عسكرك وقد عرفت ذلك من جهة لا أشك فيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 61 وسيفعل ولئن أفديك بنفسي وأكون وقايةً لك ولدولتك أولى من التعريض بك. فانتقل سعد الدولة والعماية في ظهره والراية في يده وجال بكجور في أربعمائة فارس من الغلمان عليهم الكذاغندات والخوذ وبأيديهم السيوف واللتوت وعلى خيلهم التجافيف وحمل في عقب جولته حملةً أفرجت له بها العساكر ولم يزل يضرب بالسيف حتى وافى إلى لؤلؤ فضربه على الخوذة في رأسه ووقع لؤلؤ إلى الأرض وحمل العساكر على بكجور وبادر سعد الدولة إلى مكانه مظهراً نفسه لغلمانه فلما رأوه قويت نفوسهم وثبتت أقدامهم واشتدوا في القتال حتى استفرغ بكجور جهده ووسعه ولم يبق له قدرة ولا حيلة انهزم في سبعة نفر من غلمانه صوب حلب واستولى القتل والأسر على أصحابه وتم الهزيمة. وقد رمى عن نفسه جوشنه وعن فرسه تجافيفه وقد فعل من كان معه مثل فعله وكان الفرس الذي تحته من الخيول التي أعدها لمثل ما حصل فيه وثمنه عليه ألف دينار وأوفى إلى رحاً تعرف بالقيريمي على فرسخ من حلب مقابلي قنسرين ولها ساقية تحمل إليها سعتها قدر ذراعين في سمك ذراع فحمل الفرس على أن يعبرها خوضاً ووثباً فلم يكن فيه واجهده ووقف به وناداه غلمانه أن الخيل قد أدركتنا ولحقهم عشرة فوارس من العرب فأرجلوهم عن دوابهم وسلبوهم ثيابهم ولم يعرفوا بكجور وعادوا عنهم وبقي بكجور وغلمانه عراة فلجؤا إلى الرحا واستجاروا بصاحبها فأدخلهم إليها. وجاءت سرية أخرى من العرب تطلب النهب فظنوا أن مع الغلمان الذين في الرحا ما يغنمونه منهم فطالبوا صاحبها بتسليمهم فأعلمهم أنهم عراة فقالوا: إن شاهدناهم على ما ذكرت تركناهم وإلا أحرقنا الرحا. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 62 ففتح الباب وأخرجهم إليهم فلما رأوا حالهم خلوا عنهم. ومضى بكجور وغلمان معه من غلمانه إلى براح فيه زرع حنطة فطرح نفسه وفيه ومر قوم من العرب فظنوا أن معهم ما يفوزون به فعدلوا إليهم وكان فيهم رجل من قطن يعرفه بكجور فقال له: أتعرفني؟ قال: لا. قال: اذمم لي حتى أعرفك نفسي. فأذم له. قال له: أنا بكجور فاصطنعني واحملني إلى الرقة فإنني أوقر بعيرك ذهباً وأعطيك كل ما تقترحه. قال: افعل. فأردفه وحمله إلى بيته وكساه قميصاً وفرواً وعمامةً. وكان سعد الدولة قد بث الخيل في طلب بكجور ونادى من أحضر بكجور فله مطلبه فلما حصل بكجور في بيت البدوي ساطنه به وطمع فيما كان سعد الدولة بذله فيه واستشار ابن عم له في أمره فقال له: هو رجل بخيل فربما غدر ولم يف بوعده والصواب أن تقصد سعد الدولة وتأخذ منه عاجلاً ما يعطيك. فركب البدوي إلى عسكر سعد الدولة وصاح نصيحة فأحضر إلى حضرته فقال له: ما نصيحتك؟ قال: ما جزاء من يسلم بكجوراً؟ قال: حكمه. قال: فهو عندي وأريد عنه مائتي فدان زراعة ومائة ألف درهم ومائة راحلة تحمل حنطة وخمسين قطعة ثياباً. قال سعد الدولة: وكل ذلك لك. قال: وثق لي منه. وعرف لؤلؤ الجراحي خبر البدوي فتحامل وهو مثخن بالضربة التي أصابته ومشى متوكياً على غلمانه حتى حضر بين يدي سعد الدولة فقال: يا مولاي ما يقول هذا؟ قال: يقول أن بكجور عنده وقد طلب ما أجبناه إليه وهو ماض لاحضاره. فقبض لؤلؤ على يد البدوي وقال له: ابن أهلك؟ قال: في المرج على فرسخ. فاستدعى جماعةً من الغلمان وقدم عليهم إقبالاً الشفيعي وأمرهم أن يرتقوا رؤوس الجبال حتى يوافوا الحلة ويقبضوا على بكجور ويحمله وهو قابض على يده والبدوي يستغيث بسعد الدولة ثم تقدم إلى سعد الدولة وقال: يا مولانا لا تنكر علي فعلي فإنه كان مني عن استظهار في خدمتك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 63 ولو عاد هذا البدوي إلى أهله وأحس بكجور بما فيه لأعطاه الرغائب على تخليصه ولا تأمن أن يقبل ذاك منه والذي طلبه هذا البدوي مبذول له وما ضرنا الاحتياط في التمسك به إلى أن يوافينا فنعطيه حينئذ ونفي له بما وعدناه. فقال: أحسنت يا أبا محمد لله درك. ولم يمض ساعات حتى عادت النجب مبشرةً بحصول بكجور ووافى بعدها إقبال الشفيعي وهو معه فوقف به من وراء السرادق واستأذنه في إدخاله إليه وأنفذ سعد الدولة إلى لؤلؤ وقال له: ما رأيك في بكجور؟ قال: ضرب عنقه لوقته لو جاءت سناء الزينة الناس يعني أخت سعد الدولة واستوهبته منك فوهبته لها لكان لنا شغل محدد. فأمر سعد الدولة فرجاً العدلي فكان سيافه فضرب عنقه وعنق ابن الخفاني وكان قد حصل في الأسر وحملها إلى الموضع المعروف بحصن الناعورة فصلبهما بأرجلهما. وسار سعد الدولة إلى الرقة فنزل عليها وفيها سلامة الرشيقي وأبو الحسن المغربي وأولاد بكجور وحرمه وأمواله وأرسل سلامة بتسليم البلد فأجابه فإني عبدك وعبد عبدك إلا أن لبكجور علي عهوداً فمواثيق لا مخلص لي عند الله منها إلا بأجد أمرين أما أن تذم لأولاده على نفوسهم وأموالهم وتقتصر فيما تأخذه على الآت الحرب والعدد وتحلف لي ولهم على ذلك وأما أن أبلي عذراً عند الله عز وجل فيما عقدته لبكجور فأجابه سعد الدولة إلى ما اشترطه وحلف له يميناً عملها أبو الحسن ابن المغربي. وكان سعد الدولة قد أباح دمه فهرب إلى الكوفة وأقام بمشهد أمير المؤمنين علي عليه السلام. ولما توثق سلامة سلم حصن الرافقة وخرج القوم ومعهم من المال والرحل الشيء الكثير وسعد الدولة يشاهدهم من وراء سرادقه وبين يديه ابن أبي حصين القاضي فقال له: ما ظننت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 64 أن حال بكجور انتهت إلى ما أراه من هذه الأموال والأثقال. فقال له: أي شيء أعتقد الأمير في ذاك؟ قال له: وهل بقي في هذا الأمر موضع اعتقاد؟ قال له ابن أبي حصين: أن بكجور وأولاده مماليك وكل ما ملكوه فهو لك ولا حرج عليك فيما تأخذه منه ولا حنث في الأيمان التي حلفت بها ومهما كان فيها من وزر واثم فعلي دونك. فلما سمع هذا القول منه غدر بهم وتقدم بردهم والقبض عليهم وجميع ما معهم. وكتب أولاد بكجور إلى العزيز بما تم عليهم وعلى والدهم وسألوه مكاتبة سعد الدولة بالكف عنهم والابقاء عليهم فكتب إليه كتاباً يتوعده فيه ويأمره بإزالة الاعتراض عن المذكورين وتسييرهم إلى مصر موفورين ويقول له في اخره: أنك متى خالفتنا في ذلك واحتججت فيه كنا الخصوم لك وجهزنا العساكر إليك. وأنفذه مع فايق الصقلبي أحد خواصه وسيره على نجيب فوصل فايق إليه وقد عاد من الرقة وهو بظاهر حلب وأوصل إليه الكتاب فلما وقف عليه جمع وجوه قواده وغلمانه وقراه عليهم ثم قال لهم: ما الرأي عندكم فيه؟ قالوا نحن عبيدك وغلمانك ومهما أمرتنا به وندبتنا له كانت عندنا الطاعة والمناصحة فيه. وتقدم عند ذاك بإحضار الرسول فلما مثل بين يديه أمر بإعطائه الكتاب ولطمه حتى يأكله فقال له: أنا رسول وما عرف من الملوك معاملة الرسل بمثل ذلك وهذا الفعل ما لا يجوز. فقال له: لا بد أن تأكله. فلما مضغه قال له: عد إلى صاحبك وقل له: لست ممن تخفي أخبارك عنه وتمويهاتك عليه وما بك حاجة إلى تجهيز العساكر إلي فإنني ساير إليك ليكون اللقاء قريباً منك وخبري يأتيك من الرملة. وقدم سعد الدولة قطعة من عساكره أمامه إلى حمص. وعاد فايق إلى العزيز فعرفه ما سمعه وشاهده فأزعجه ذلك وبلغ منه وأقام سعد الدولة بظاهر حلب أياماً على أن يرتب أموره ويتلو من تقدمه من عسكره. فاتفق أن عرض له قولنج أشفى منه وكان له طبيبان عارفان أحدهما يعرف بالتفليسي والآخر يوانيس فأشارا عليه بدخول البلد وملازمة الحمام فامتنع عليهما وقال لهما: أنا بازآء وجه أريد قصده وإذا عدت وقع الارحاف بي وكان في العود طيرة علي. ثم زاد ما يجده فدخل فعالجاه فابل واستقل وكتب إلى أصحابه يذكر عافيته فأوصل الناس إليه حتى شاهدوا حاله وهنوه بالسلامة. وكان المستولي على أمره والمقدم عنده في رايه لؤلؤ الكبير الذي تقدم ذكره فلما كان في اليوم الثالث من أكله الفروج زين له البلد ليركب فيه من غد ويعود إلى العسكر فاتفق أن حضرت عند فراشه ليلة اليوم الذي عمل على الركوب فيه جارية تسمى انفراد وكان يتحظاها ويقدمها على سواها من سرياته وهن أربعمائة جارية فتتبعتها نفسه وواقعها فلما فرغ سقط عنها وقد جف نصفه وبادرت الجارية إلى أخته فأعلمتها صورته فدخلت إليه وهو يجود نفسه واستدعت طبيبيه فحضرا وشاهداه وتعرفا المسبب فيما لحقه فعرفاه وأشارا بشجر الند والعنبر حوله إلى أن ينيف قليلاً وتثوب قوته فلما كان ذلك عاد إليه وقال له التفليسي: أعطني أيها الأمير يدك لأخذ بجسك. فأعطاه اليسرى فقال. يا مولانا اليمين. فقال: يا تفليسي ما تركت لي اليمين يميناً. ومضت عليه ثلاث ليال قضى بعد أن قلد عهده أبا الفضائل ولده ووصى إلى لؤلؤ الكبير به وبأبي الهيجاء ولده الآخر وست الناس أخته وحمل تابوته إلى الرقة ودفن في المشهد ظاهرها. ونصب لؤلؤ ولده أبا الفضائل في الأمر وأخذ له البيعة على الجند بعد أبيه في شهر رمضان سنة 381. وتراجعت العساكر عند ذلك إلى حلب واستأمن منها إلى العزيز بالله رقي الصقلبي في ثلاثمائة غلام وبشارة الاخشيدي في أربعمائة غلام وقوم آخرون فقبلهم وأحسن إليهم وولي بشارة طبرية ورقي عكا ورباحا قيسارية. وقد كان أبو الحسن بن المغربي بعد حصوله في المشهد في الكوفة كاتب العزيز وصار بعد المكاتبة إلى حضرته فلما حدث لسعد الدولة حادث الوفاة عظم أمر حلب عنده وكبر في نفسه أحوالها وهون عليه حصولهاكره أمامه إلى حمص. وعاد فايق إلى العزيز فعرفه ما سمعه وشاهده فأزعجه ذلك وبلغ منه وأقام سعد الدولة بظاهر حلب أياماً على أن يرتب أموره ويتلو من تقدمه من عسكره. فاتفق أن عرض له قولنج أشفى منه وكان له طبيبان عارفان أحدهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 65 يعرف بالتفليسي والآخر يوانيس فأشارا عليه بدخول البلد وملازمة الحمام فامتنع عليهما وقال لهما: أنا بازآء وجه أريد قصده وإذا عدت وقع الارحاف بي وكان في العود طيرة علي. ثم زاد ما يجده فدخل فعالجاه فابل واستقل وكتب إلى أصحابه يذكر عافيته فأوصل الناس إليه حتى شاهدوا حاله وهنوه بالسلامة. وكان المستولي على أمره والمقدم عنده في رايه لؤلؤ الكبير الذي تقدم ذكره فلما كان في اليوم الثالث من أكله الفروج زين له البلد ليركب فيه من غد ويعود إلى العسكر فاتفق أن حضرت عند فراشه ليلة اليوم الذي عمل على الركوب فيه جارية تسمى انفراد وكان يتحظاها ويقدمها على سواها من سرياته وهن أربعمائة جارية فتتبعتها نفسه وواقعها فلما فرغ سقط عنها وقد جف نصفه وبادرت الجارية إلى أخته فأعلمتها صورته فدخلت إليه وهو يجود نفسه واستدعت طبيبيه فحضرا وشاهداه وتعرفا المسبب فيما لحقه فعرفاه وأشارا بشجر الند والعنبر حوله إلى أن ينيف قليلاً وتثوب قوته فلما كان ذلك عاد إليه وقال له التفليسي: أعطني أيها الأمير يدك لأخذ بجسك. فأعطاه اليسرى فقال. يا مولانا اليمين. فقال: يا تفليسي ما تركت لي اليمين يميناً. ومضت عليه ثلاث ليال قضى بعد أن قلد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 66 عهده أبا الفضائل ولده ووصى إلى لؤلؤ الكبير به وبأبي الهيجاء ولده الآخر وست الناس أخته وحمل تابوته إلى الرقة ودفن في المشهد ظاهرها. ونصب لؤلؤ ولده أبا الفضائل في الأمر وأخذ له البيعة على الجند بعد أبيه في شهر رمضان سنة 381. وتراجعت العساكر عند ذلك إلى حلب واستأمن منها إلى العزيز بالله رقي الصقلبي في ثلاثمائة غلام وبشارة الاخشيدي في أربعمائة غلام وقوم آخرون فقبلهم وأحسن إليهم وولي بشارة طبرية ورقي عكا ورباحا قيسارية. وقد كان أبو الحسن بن المغربي بعد حصوله في المشهد في الكوفة كاتب العزيز وصار بعد المكاتبة إلى حضرته فلما حدث لسعد الدولة حادث الوفاة عظم أمر حلب عنده وكبر في نفسه أحوالها وهون عليه حصولها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 67 ولاية القائد منير الخادم ومنجوتكين دمشق والسبب في ذلك وما آلت إليه أحوالها في سنة 378 وما بعدها قد تقدم من شرح السبب في ولاية القائد منير دمشق ما فيه كفاية عن إعادة القول فيه ومن دخوله في يوم الخميس السابع عشر من رجب سنة 378. ولما توفى الوزير أبو الفرج يعقوب بن كلس كان قد بقي له من أصحابه على ماله ومال السلطان رجل يعرف بابن أبي العود الصغير وكان شديد المعاندة للقائد منير الوالي يرفع عليه إلى مصر بأنه عاص يكاتب سلطان بغداد وصاحب حلب فلما كثرت سعايته إلى العزيز اصطنع بعض غلمانه الأتراك رجلاً يقال له منجوتكين فقدمه وأعطاه مالاً وابنةً وسلاحاً ورجالاً وولاه الشام فلما صح عند منير الخادم ذاك من ابن أبي العود أنفذ إليه من قتله وكاشف بالعصيان والخلاف للضرورة القائدة له إلى ذلك وكان لابن أبي العود عند العزيز رتبة متمكنة ومنزلة متمهدة فلما خرج العسكر مع منجوتكين من مصر ووصل إلى الرملة ووصل إليه بشارة والي طبرية في عسكره ووصل إلى دمشق وكان منير قد جمع رجالةً من أحداث البلد من حمال السلاح وطلاب الشر والفساد واستعد للحرب وتأهب للقاء. وبلغ منجوتكين وهو بالرملة أن أهل دمشق يريدون القتال مع منير الوالي فمع النفاطين بالرملة على أن يسيروا معه إلى دمشق لحرقها. فلما وصل نزال إلى دمشق من طرابلس أخذ في الجبال عرضاً فخرج من مرج عذراء وأرسل إلى منير أني لم أصل إلا لإصلاح أمرك فعلم منير أنه يريد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 68 الحيلة عليه والمكر به ليصل العسكر من الرملة ويحيط به وقد كان نفذ كتاب ابن أبي هشام من دمشق إلى منشا بن الفرار كاتب الجيش يقول جدوا في السير لأخذ البلد وكان مراده بذاك المداراة من خوف الشر فلما وصل الكتاب إلى منشا أنفذه إلى العزيز منجوتكين وواقف عليه فوجد فيه خلاف ما ذكر عن أهل دمشق فنها عن إحراقها. وسار منجوتكين من الرملة وقرب من طبرية وجمع منير عسكره وخرج يريد نزالاً فالتقوا بمرج عذراء فانهزم منير واتت المغاربة على الرجالة الذين كانوا معه وذلك في يوم الاثنين التاسع عشر من شهر رمضان سنة 81 فلما انهزم منير أخذ في الجبال حتى أخرج إلى أرض جوسية يريد قصد حلب فخرج عليه عرب من الاحلاف فأخذوه ووصلوا به إلى دمشق فوجدوا منجوتكين قد نزل عليها فسلموه إليه لطلب الجائزة فشهره على جمل وقرن به قرداً ومعه من أصحابه نحو من مائة رجل على الجمال وعليهم الطراطير لأنهم انقطعوا فأخذهم والي بعلبك يقال له جلنار فأرسلهم إلى منجوتكين. وأقام منجوتكين بدمشق بقية سنة 81 فقوي بها وصار عسكره ثلاثة عشر ألفاً فعم الناس البلاء في جميع الأحوال وصارت أفعالهم وسيرتهم إباحة الأموال والأنفس وسوء الأعمال. ثم إنهم طمعوا في ملكة حلب بحكم موت أبي المعالي بن سيف الدولة صاحبها وقد كان العزيز لما انتدب منجوتكين أكرمه وعظمه وأمر القواد وطبقات الناس بالترجل له وتوفيقه من الحق ما يوفى عظماً من الأمراء والاسفهسلارية واستكتب له أحمد بن محمد القشوري وولي الشام وضم إليه أبا الحسن علي بن الحسين بن المغربي ليقوم بالأمر والتدبير. ولما وصل إلى حلب وكان نزوله عليها في ثلاثين ألفاً من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 69 أصناف الرجال وتحصن أبو الفضايل ابن سعد الدولة ولؤلؤ بالبلد واغلقا أبوابه واستظهرا بكل ما أمكنها الاستظهار به. وقد كان لؤلؤ عند معرفته بتجهيز العساكر المصرية إلى حلب كاتب بسيل عظيم الروم ومت إليه بما كان بينه وبين سعد الدولة من المساعدة والمعاقدة وبذل له عن ولده السمع والطاعة والجري على تلك العادة وحمل إليه هدايا وألطافاً كثيرة وسأله المعونة والنصرة وأنفذ بالكتاب والهدايا ملكوياً السيرافي ووصل إليه وهو بازاء ملك البلغر وعلى قتاله فقبل ما ورد فيه وكتب إلى البرجي صاحب أنطاكية من قبله أن يجمع عساكر الروم ويقصد حلب ويدفع المغاربة عنها فسار البرجي إليه في خمسة ألف رجل ونزل بالموضع المعروف بجسر الحديد بين أنطاكية وحلب. فعرف منجوتكين وابن المغربي ذلك فجمعا القواد والمعرفين خبر الروم واستشارهم فيما يكون العمل به والاعتماد عليه فأشار ذو الراي والحصافة منهم بالانصراف عن حلب وقصد الروم والابتداء بهم ومناجزتهم ليلاً يحصلوا بين عدوين. ووقع العمل على ذلك وساروا مع عدة أخرى كثيرة انضافت إليهم من أهل الشام وبني كلاب ونزلوا تحت حصن اغزاز وقاربوا الروم وبينهم النهر المعروف بالمقلوب وهو نهر يجري مجرى الفرات في قرب من عرضه فلما بصر المسلمون بالروم رموهم بالنشاب وناوشوهم القتال وحصل الناس والروم على أرض واحدة ومنجوتكين يردهم ولا يرتدون وأنزل الله النصر وولت الروم وأعطوا ظهورهم وركبهم المسلمون ونكوا فيهم النكاية الوافية قتلاً وأسراً وفلاً وقهراً وأفلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 70 البرجي في نفر قليل وملك عسكرهم وسوادهم وغنمت منهم الغنائم الوافرة من أموالهم وكراعهم وسوادهم وقد كان معهم الفراجل من رجالة حلب جردهم لؤلؤ مع عدة وافرة من الغلمان فقتل منهم تقدير ثلاثمائة غلام وعاد فلهم إلى حلب وجمع من رؤوس قتلى الروم نحو عشرة ألف رأس أنفذت إلى مصر وشهرت بها وتبع منجوتكين الروم أنطاكية وأحرق ضياعها ونهب رستاقاتها وانكفأ راجعاً إلى حلب. وكان وقت استغلال الغلات فأنفذ لؤلؤ من أحرق ما قرب من البلد منها المضرة العسكر المصري وقطع مادة الميرة عنهم والتضييق في الأقوات عليهم ورأى لؤلؤ أن قد بطل عليه ما كان يرجوه من معونة الروم وقد أظله من عسكر مصر ما لا طاقة له به فكاتب أبا الحسن بن المغربي والقشوري وأرغبهما بالمال وبذل لهما منه ما وسع لهما فيه وسألهما المشورة على منجوتكين بالانصراف إلى دمشق والمعاودة إلى حلب في العام المقبل وتصير السبب في هذا الرأي ما عليه الأمر من عدم الميرة وتعذر الأقوات والعلوفات فطاوعاه ووعداه وخطابا منجوتكين في ذلك. فصادف قولهما منه تشوقاً إلى دمشق إلى خفض العيش فيها وضجراً من طول السفر ومباشرة الحرب فكتب وكتبت الجماعة إلى العزيز بالله ينهون إليه الحال في تعذر الأقوات وأنه لا قدرة للعسكر على المقام مع هذه الصورة ويستأذونه في الانكفاء إلى دمشق فقبل أن يصل الكتاب ويعود الجواب رحل منجوتكين عائداً. وعرف العزيز ما كان منه فغاظه ذلك ووجد أعداء ابن المغربي طريقاً إلى الطعن عليه والوقيعة فيه فصفه وقلد صالح بن علي الروذباري موضعه وأنفذه وأقسم العزيز أنه يمد العسكر بالميرة من غلات مصر فحمل مائة ألف تليس والتليس قفيزان بالمبدل في البحر إلى طرابلس ومنها على الظهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 71 إلى أفامية. وعاد منجوتكين في العسكر في السنة 2 إلى حلب ونزل عليها وصالح بن علي المقدم معهم وكان يوقع الغلمان بجراياتهم وقضيم دوابهم إلى أفامية ويمضون خمسة وعشرين فرسخاً ويعودون بها وأقاموا ثلاثة عشر شهراً وبنوا الحمامات والأسواق والخانات وأبو الفضائل ولؤلؤ قد تحصنا بالبلد وقد اشتد الأمر بها وفقدت الأقوات عندهما وكان لؤلؤ يبتاع القفيز من الحنطة ثلاثة دنانير ويبيعه على الناس بدينار واحد رفقاً لهم ويفتح الباب ويخرج من الناس من أراد من الفقراء من الجوع وطول المقام. وقد كان أشير على منجوتكين بتتبع من يخرج وقتله ليمتنع الناس من الخروج ويزيد ضيق الأمر عليهم فلم يفعل. وعند ذلك أعاد لؤلؤ ملكويا الذي كان أرسله أولاً إلى بسيل ملك الروم إليه مجدداً له السؤال بالانجاد على ما دهمه من عسكر مصر والاسعاد وأعلمه أنه لم يبق فيه رمق إن لم يبادر بمعونته ونصرته وأنه متى أخذت حلب وملكت فأنطاكية لاحقة بها. وكان يسيل متوسطاً بلد البلغر فقصد ملكويا إليه وأوصل إليه الكتاب وأعاد عليه ما يحمله من الرسائل إليه وقال له: متى قصدت أيها الملك هذا الخطب بنفسك لم يقف أحد من عساكر المغاربة بين يديك واستخلصت حلب وخفظت أنطاكية وسائر أعمالها وإن تأخرت ملك جميع ذلك. فلما سمع ملك الروم ما قاله الرسول المذكور سار من وقته طالباً حلب وبينه وبينها مسيرة ثلاثمائة فرسخ فقطعها في ستة عشر يوماً في ثلاثة ألف فارس وراجل من الروم الروسية والبلغر والخزر وكان الزمان ربيعاً وقد سرح العسكر المصري كراعه في المروج لترتبع فيها فهجمت الروم على العسكر على غفلة وغرة. فأرسل لؤلؤ إلى منجوتكين يقول له: إن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 72 عصمة الاسلام الجامعة بيني وبينك وبين عساكرك تبعثني على إنذاركم وهذا عسكر الروم قد أظلكم في الجمع الكثير فخذوا لأنفسكم وتيقظوا لأمركم ولا تهملوا حذركم. ووردت جواسيس منجوتكين وعيونه من الجهات والطلائع عليه بمثل ذلك فاخرق الخزائن والأسواق ورحل في الحال منهزماً. وأشار العرب عليه بأن ينزل أرض قنسرين ويملك الماء ويستدعي كراعه من مروج أفامية ويثبت للقاء العدو ويحرضه على بذل الجهد واستفراغ الوسع في الجهاد فلم يفعل وامتدت به الهزيمة إلى دمشق. ووافى ملك الروم فنزل على باب حلب وشاهد من موضع منزل المغاربة ما هاله وعظم في عينه وخرج إليه أبو الفضائل ولؤلؤ وخدماه ورحل في اليوم الثالث إلى الشام ونزل على شيزر وفيه منصور بن كراديس أحد قواد المغاربة فقاتله في الحصن يوماً واحداً ولم يستطع الثبات له لخلو الحصن من العدد وآلات الحرب وأقوات المقام على الحصار فراسله بسيل وبذل له الأمان على نفسه ومن معه في الحصن وأن يعطيه مالاً وثياباً على تسليمه فسكن إلى ذلك وسلمه ووفى له بسيل بجميع ما بذله من المال والأمان والعطاء فرتب في الحصن نوابه وثقاته وسار قاصداً إلى طرابلس الشام وافتتح في طريقه حمصاً وسبى منها ومن رفنية وأعمالها ما يزيد على ثغر طرابلس وهو بري بحري متين القوة والحصانة شديد الامتناع على منازله وأقام عليه نيفاً وأربعين يوماً يحاول افتتاحه أو وجود فرصة في تملكه فلم يتم له فيه أمر ولا مراد فرحل عنه قافلاً إلى بلاد الروم. وانتهت الأخبار بذلك إلى العزيز بالله فعظم ذلك عليه وأمر بالاستنفار إلى الجهاد والنداء في الغزاة وساير الأجناد فنفر الناس وخرج مستصحباً لجميع عساكره وما يحتاج إليه من عدده وأمواله وذخائره ومعه توابيت أبائه وأجداده على العادة في مثل هذه الحال وقيل أن كراعه كان يزيد على عشرين ألف راس خيلاً وبغالاً وجمالاً وحميراً وسار مسافة عشرة فراسخ في مدة سنة حتى نزل بلبيس وأقام بظاهرها. وعارضته علل مختلفة من نقرس وقولنج وحصى في المثانة واشتد به الأمر وكان الأطباء إذا عالجوا مرضاً من هذه الأمراض بدوائها زاد في قوة الأخرى واستحكامها وكان محتاجاً إلى الحمام لأجل القولنج ولم يكن في منزله إلا حمام لرجل من أهلها فاشتد به فيه وبات للضرورة فيه وأصبح والقو تضعف والألم يشتد ويتضايق إلى أن قضى نحبه في الحمام في اليوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة 386 وعمره اثنتان وأربعون سنة ونقش خاتمه بنصر العليم الغفور ينتصر الامام أبو المنصور ومولده في القيروان سنة 341 ومدة أيامه إحدى وعشرون سنة وستة أشهر وأربعة وعشرون يوماً وكان حسن السيرة مشتغلاً بلذاته محباً للصيد متغافلاً عن النظر في كثير مما كان أسلافه ينظرون فيه من اظهار علم الباطن وحمل الناس عليه وتوفي رحمه الله وهو مستمر على ذلكائل ولؤلؤ وخدماه ورحل في اليوم الثالث إلى الشام ونزل على شيزر وفيه منصور بن كراديس أحد قواد المغاربة فقاتله في الحصن يوماً واحداً ولم يستطع الثبات له لخلو الحصن من العدد وآلات الحرب وأقوات المقام على الحصار فراسله بسيل وبذل له الأمان على نفسه ومن معه في الحصن وأن يعطيه مالاً وثياباً على تسليمه فسكن إلى ذلك وسلمه ووفى له بسيل بجميع ما بذله من المال والأمان والعطاء فرتب في الحصن نوابه وثقاته وسار قاصداً إلى طرابلس الشام وافتتح في طريقه حمصاً وسبى منها ومن رفنية وأعمالها ما يزيد على ثغر طرابلس وهو بري بحري متين القوة والحصانة شديد الامتناع على منازله وأقام عليه نيفاً وأربعين يوماً يحاول افتتاحه أو وجود فرصة في تملكه فلم يتم له فيه أمر ولا مراد فرحل عنه قافلاً إلى بلاد الروم. وانتهت الأخبار بذلك إلى العزيز بالله فعظم ذلك عليه وأمر بالاستنفار إلى الجهاد والنداء في الغزاة وساير الأجناد فنفر الناس وخرج مستصحباً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 73 لجميع عساكره وما يحتاج إليه من عدده وأمواله وذخائره ومعه توابيت أبائه وأجداده على العادة في مثل هذه الحال وقيل أن كراعه كان يزيد على عشرين ألف راس خيلاً وبغالاً وجمالاً وحميراً وسار مسافة عشرة فراسخ في مدة سنة حتى نزل بلبيس وأقام بظاهرها. وعارضته علل مختلفة من نقرس وقولنج وحصى في المثانة واشتد به الأمر وكان الأطباء إذا عالجوا مرضاً من هذه الأمراض بدوائها زاد في قوة الأخرى واستحكامها وكان محتاجاً إلى الحمام لأجل القولنج ولم يكن في منزله إلا حمام لرجل من أهلها فاشتد به فيه وبات للضرورة فيه وأصبح والقو تضعف والألم يشتد ويتضايق إلى أن قضى نحبه في الحمام في اليوم الاثنين الثامن والعشرين من شهر رمضان سنة 386 وعمره اثنتان وأربعون سنة ونقش خاتمه بنصر العليم الغفور ينتصر الامام أبو المنصور ومولده في القيروان سنة 341 ومدة أيامه إحدى وعشرون سنة وستة أشهر وأربعة وعشرون يوماً وكان حسن السيرة مشتغلاً بلذاته محباً للصيد متغافلاً عن النظر في كثير مما كان أسلافه ينظرون فيه من اظهار علم الباطن وحمل الناس عليه وتوفي رحمه الله وهو مستمر على ذلك ثم ولي الأمر بعده ولده أبو علي المنصور الحاكم بالله وكان معه فعهد إليه في الأمر ورد تدبير أمره إلى برجوان الخادم مربيه وحاضنه وكان عهد إليه أمر الحرم والقصور لثقة العزيز به وسكونه إليه ووصى إليه بما اعتمد فيه عليه. وحدثت ست الملك ابنة العزيز نفسها بالوثوب على الأمر واجلاس ابن عمها عبد الله وكانت مشتهاةً عليه فأحسن برجوان بذلك فقبض عليها وحملها مع ألف فارس إلى قصرها بالقاهرة. ودعا الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 74 إلى بيعة الحاكم وأحلفهم على الطاعة أطلق الأرزاق وذلك في شهر رمضان سنة 386 وانكفأ الحاكم من المخيم إلى قصره بالقاهرة وعمره عشر سنين وستة أشهر. وتقدم أبو محمد الحسن بن عمار وكان شيخ كتامة وسيدها ولقب بأمير الدولة وهو أول من لقب في دولة مصر واستولى على الأمر وبسط يده في الاطلاق والعطاء والصلات بالأموال والثياب والخباء تفرقة الكراع وكان في القصر عشرة ألف جارية وخادم فبيع منهم من اختار البيع وأعتق من سأل العتق ووهب من الجوار لمن أحب وأثر وانبسطت كتامة وتسلطوا على العامة ومدوا أيديهم إلى حرمهم وأولادهم وغلب الحسن بن عمار على الملك وكتامة على الأمور وهم الحسن بقتل الحاكم وحمله على ذلك شيوخ أصحابه وقالوا: لا حاجة لنا إلى امام نقيمه ونتعبد له. فحمله صغر سنه والاستهانة بأمره على اقلال الفكر فيه وإن قال لمن أشار عليه بقتله: وما قدر هذه الوزغة حتى يكون منها ما نخاف. وبرجوان في اثنا ذلك يحرس الحاكم ويلازمه ويمنعه من الركوب ولا يفسح له في مفارقة الدور والقصور. وقد كان شكر العضدي اتفق مع برجوان وعاضده في الرأي والفعل وصارا على كلمة سواء في كل ما ساء وسر ونفع وضر وتظاهرا على حفظ الحاكم في وصاة والده العزيز به إلى أن تمت السلامة لهما فيه. وأما منجوتكين وما كان منه بعد نوبة الروم فإنه أقام بدمشق على حاله في ولايتها. وزاد أمر الحسن بن عمار وكتامة وقلت مبالاتهم بالسلطان فكتب برجوان إلى منجوتكين يعرفه استيلاء المذكورين على الأمور وغلبتهم على الأموال وتعديهم إلى الحرم والفروج وقبيح الأعمال ورفعهم المراقبة للخالق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 75 والحشمة من المخلوقين وأبطالهم رسوم السياسة وإضاعة حقوق الخدمة وإنهم قد حصروا الحاكم في قصره وحالوا بينه وبين تدبير أمره ويدعوه إلى مقابلة نعمة مولاه العزيز عنده بحفظ ولده والوصول إلى مصر وقمع هذه الطائفة الباغية وقال: إن الديلم والأتراك والعبيد الذين على الباب يساعدونه على ما يحاول فيهم ويكونون معه أعواناً عليهم فامتثل منجوتكين ما في الكتاب عند وقوفه عليه وسارع إليه وركب إلى المسجد الجامع في السواد وجمع القواد والأجناد ومشايخ البلد وأشرافه وفيهم موسى العلوي وله التقدم والميزة وأذكرهم بحقوق العزيز وما كان منه من الاحسان إلى الخاص والعام وحسن السيرة في الرعية واعتقاد الخير للكافة وخرج من ذلك إلى ذكر ما له عليه من حقوق الاصطناع والتقدم والاصطفاء والتعديد للتمويه باسمه وما يلزمه في خدمته حياً وميتاً ومناصحته معدوماً ومفقوداً وموجوداً وقال: وإذ قبضه الله إليه ونقله إلى ما اختاره له وارتضاه وحكم به وأفضاه فإن حقوقه قد انتقلت إلى نجله وسليله الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين وهو اليوم والي النعمة وكالقائم مقام العزيز بالله رحمه الله في استحقاق الطاعة والمناصحة والخدمة وقد تغلب على الملك الحسن بن عمار وكتامة وصار اخواننا المشارقة بينهم كالذمة بين المسلمين وما يسعنا الصبر على هذه الصورة وتسليم الدولة إلى هذه العصابة المتسلطة. وخرق ثيابه السود وبكى البكاء الشديد فاقتدى الناس به في تخريق الثياب والبكاء ثم قالوا: ما فينا إلا سامع لك مطيع لأمرك ومؤثر ما تؤثر وباذل سجته في طاعة الحاكم وخدمته وخدمتك ومهما رسمت لنا من خدمة وبذل نفس ومكنة كنا إليه مسارعين ولأمرك فيه طائعين إلى أن تبلغ مناك وتدرك مبتغاك في نصرة مولانا. فشكرهم على هذا المقال وقوى عزائمهم وآراءهم على المتابعة له والعمل بما يوافقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 76 وعاد إلى داره ووضع العطاء في الرجال وبرز إلى ظاهر دمشق. وقد اشتملت جريدة الاثبات على ستة ألف من الأجناد السائرين معه خيلاً ورجلاً وكتب إلى الحسن بن عمار على أجنحة الطيور ومع أصحاب البريد بشرح ذلك الحال. فلما وقف على الخبر عظم عليه وقلق وجمع وجوه كتامة وأعاذ عليهم ما ورد من خبر منجوتكين وما هو مجمع عليه في بابهم وقال: ما الرأي عندكم؟ قالوا: نحن أهل طاعتك والمسارعون إلى العمل بإشارتك. وأظهر أن منجوتكين قد عصى على الحاكم وجرى مجرى الأفتكين المعزي البويهي وندب الناس لقتاله وتقدم إلى الخزان في خزائن أموال العزيز باطلاق الأموال وإلى العراض بتجريد الرجال والانفاق فيهم. وأحضر البرجوان وشكر العضدي وقال لهما: أنا رجل شيخ وقد كثر الكلام علي والقول في وما لي عرض إلا حفظ الأمر للحاكم ومقابلة اصطناع العزيز واحسانه إلي وأريد مساعدتكما ومعاضدتكما وإن تحلفا لي على صفاء النية وخلوص العقيدة والطوية. فدعتهما الضرورة إلى الانقياد له والاجابة إلى ما سأله منهما واستأنف معهما المفاوضة والمشاورة والاطلاع لهما على مجاري الأمور ووجوه التدبير في الجمهور واستمالة المشارقة. وندب أبا تميم سليمن بن جعفر بن فلاح وقدمه وجعله اسفهسلار الجيش وأمره بالمسير إلى الشام وأطلق له كل ما التمس من المال والعدد والرجال والسلاح والكراع وأسرف في ذلك إلى حد لم يقف عنده وجرد معه ستة عشر ألف رجل من الخيل والرجال وبرز إلى عين شمس. وكان عيسى بن نسطورس الوزير على حاله في الوزارة فبلغ ابن عمار عنه ما أنكره فقبض عليه ونكبه وقتله وسار سليمان بن فلاح من مصر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 77 ورحل منجوتكين إلى الرملة فملكها وأخذ أموالها فتقوى بها وكان معه المفرج بن دغفل بن الجراح وسنان بن عليان ونزل سليمان عسقلان وسار منجوتكين حتى نزل بظاهرها وتقاتل الجيشان. فلما كان بعد ثلاثة أيام من تقاربهما وتقاتلهما ضرب كل واحد منهما مصاف عسكره وعمل على مناجزة صاحبه واستأمنت العرب من أصحاب ابن جراح وابن عليان إلى سليمان فاستظهر وقتل من أصحاب منجوتكين أربعة قواد في وقت واحد وانهزم منجوتكين وقتل من الديلم عدة كثيرة لأنهم لجأوا عند الهزيمة إلى شجر الجميز واختفوا به فكان المغاربة ينزلونهم منها ويقتلونهم تحتها وأحصيت القتلى فكانوا من أصحاب منجوتكين ألفي رجل. وسار سليمان إلى الرملة وقد امتلأت أيدي أصحابه من الغنائم والأموال والكراع وبذل لمن يحضر منجوتكين عشرة ألف دينار ومائة ثوب فانبثت العرب في طلبه وأدركه علي بن جراح فأسره وحمله إلى سليمان فأخذه منه وأعطاه ما بذل له وحمله مع رؤوس القتلى من أصحابه إلى مصر فشهرت الرؤوس وأبقي على منجوتكين الحسن بن عمار واصطنعه واستمال المشارقة به ونزل سليمان طبرية. وكان أهل دمشق قد أثاروا الفتنة ونهبوا دار منجوتكين وخزائنه وما فيها من مال السلطان وعدده فأنفذ أخاه علياً غليها في خمسة ألف رجل فلما وصلها ناوش أهلها وناوشوه واعتصموا بالبلد ومنعوا الدخول إليه وكتب إلى سليمان أخيه يعلمه مخالفتهم وعصيانه ويستأذنه في منازلتهم وقتالهم فأذن له في ذلك وأعلمه مسيره إليه وكتب إلى موسى العلوي والأشراف والشيوخ بالانكار عليهم بتسلط العامة فيما ارتكبوا من النهب والافساد وتقاعدهم عن الأخذ على أيديهم والردع لهم والتوعد بالمسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 78 إليهم والمقابلة لهم بما يقتضيه الرأي فلما وقفوا على ما ذكره خافوا وخرجوا إلى أخيه علي ولقوه وأعلموه إنهم على الطاعة والانكار لما أجرى إليه الجهالة فركب علي وحارب أهل دمشق وزحف إلى باب الحديد والنفاطون معه فانهزموا منه وملك البلد وطرح النار في الموضع المعروف بحجر الذهب وهو أجل موضع في البلد وقتل خلقاً كثيراً من رجاله وعاد بعد ذلك إلى معسكره. ووافى من غد أخاه سليمان في عسكره فأنكر عليه احراق ما أحرق وبلوغه في الافساد ما بلغ وتلقاه الأشراف والشيوخ والناس وشكوا إليه ما لحقهم وتلف من دورهم وأملاكهم وأموالهم فأمنهم وكف المغاربة عنهم وأظهر اعتقاده الجميل فيهم وكتب المناشير بالصفح عن الجناة وايمان الكبير والصغير منهم ورفع الكلف والمؤن عنهم وإفاضة العدل والانصاف فيهم وكوتبت في المسجد الجامع على رؤوس الأشهاد فسكنت إلى ذلك النفوس واطمأنت به القلوب ورجعوا إلى ما كانوا عليه. واختلط المغاربة بهم وركب القائد سليمان إلى الجامع في يوم الجمعة بالطيلسان على البغل السندي وخرق في البلد بالسكينة والوقار وبين يديه القراء وقوم يفرقون قراطيس دراهم الصدقات على أهل المسكنة والحاجة. وكان لهذا القائد سليمان نفس واسعة وصدر رحب وقدم في الخير متقدمة ورغبة في الفعل الجميل مشهورة ومقاصد في الصلاح مشكورة بعد الحسن بن عمار ولما صلى عاد إلى القصر الذي بني بظاهر البلد ونزل فيه وقد استمال قلوب الرعية والعامة بما فعله وأظهره من حسن النظر في الظلامات المرفوعة إليه واطلاق جماعة كانت في الحبوس من أرباب الجرائم المتقدمة والجنايات السالفة واستقام له الأمر واستقرت على الصلاح الحال وصلحت أحوال البلد وأهله بما نشر فيه من العدل وحكم به من الانصاف وأحسنه من النظر في أمور السواحل بصرف من صرفه من ولاتها الجابرين واستبدل بهم من شيوخ كتامة وقوادها ورد إلى علي أخيه ولاية طرابلس الشام وصرف عنها جيش بن الصمصامة فمضى جيش المذكور إلى مصر من غير أن يقصد القائد سليمان ويجتمع معه. وكان جيش هذا من شيوخ كتامة أيضاً إلا أن سليمان كان سيء الرأي فيه لعداوة بينه وبينه فلما حصل جيش بمصر قصد برجوان سراً وطرح نفسه عليه وأعلمه بغض أهل الشام للمغاربة واستيحاشهم منهم فأولاه برجوان الجميل قولاً ووعداً وبذل له المعونة على أمره وتأمل برجوان ما يلي به في الأحوال من الحسن بن عمار وكتامة وما خافه على نفسه منهم وإن مصر والقاهرة قد خلتا الا من العدد الأقل منهم وأمكنته الفرصة فيما يريده منهم فراسل الأتراك والمشارقة وقال لهم: قد عرفتم صورتكم وصورة الحاكم مع هؤلاء القوم وإنهم قد غلبوا على المال وغلبوكم ومتى لم ننتهز الفرصة في قلة عددهم وضعف شوكتهم سبقوكم إلى ما لا يمكنكم تلافيه بعد التفريط فيه واستدراك الغاية منه. وأوثقهم على الطاعة والمساعدة فبذلوها له ووثقوا له في كل ما يريده. وأحس الحسن بن عمار بما يريد برجوان وشرع فيه وفي الفتك به وسبقه إلى ما يحاوله فيه ورتب له جماعةً في دهليزه وواقفهم على الايقاع به وبشكر إذا دخلا داره وكان لبرجوان عيون كثيرة على الحسن بن عمار فصاروا إليه وأعلموه ما قد عمل عليه واجتمع برجوان وشكر وتفاوضا الرأي بينهما في التحرز مما بلغهما وقررا أن يركبا ويركب على أثرهما من الغلمان جماعة فإن أحسوا وأحسنا على باب الحسن ما يريبنا رجعنا وفي ظهورنا من يمنع منا فرتبا هذا الأمر وركبا إلى دار الحسن وكانت في القاهرة مما يلي الجبل فلما قربا من الباب بانت لهما شواهد ما أخبرا به فحذرا وعادا مسرعين وجرد الغلمان الذين كانوا معهما سيوفهم ودخلا إلى قصر الحاكم يبكيان لديه ويستصرخان به وثارت الفتنة واجتمع الأتراك والديلم والمشارقة وعبيد الشرا بالسلاح على باب القصر وبرجوان يبكي ويقول لهم: يا عبيد مولانا احفظوا العزيز في ولده وارعوا فيه ما تقدم من حقه. وهم يبكون لبكايه وركب الحسن بن عمار في كتامة ومن انضاف إليهم من القبايل وغيرهم وخرج إلى الصحراء وتبعوه وتبعه وجوه البلد فصار في عدد كثير وفتح برجوان خزائن السلاح وفرقه على الغلمان والرجال وأحدقوا ومن معهم بالقصر من المشارقة والعامة بقصر الحاكم وعلى أعلاه الخدم والجواري يصرخون وبرز منجوتكين ونارحكين وينال الطويل وخمسمائة فارس من الغلمان ووقعت الحرب بينهم وبين الحسن إلى وقت الظهر وحمل الغلمان عليه فانهزم وزحفت العامة إلى داره فانتهبوها وفتحوا خزائنه وتفرقوا ما فيها والتجأ الحسن إلى بعض العامة فاستتر عنده وتفرق جميع من كان معه وفتح برجوان باب القصر وأجلس الحاكم وأوصل إليه الناس وأخذ له بيعةً مجددةً على الجند فما اختلف عليه أحد وكتب الأمانات لوجوه كتامة وقواد الدولة وراسلهم بما تطيب به نفوسهم من إقامة عذرهم فيما كان منهم فحضرت الجماعة وأعطت أيمانها على السمع والطاعة. فاستقام الأمر لبرجوان وكتب الكتب إلى أشراف دمشق ووجوه أهلها ويأمرهم بتطييب نفوسهم ويبعثهم على القيام على القائد أبي تميم سليمان بن جعفر بن فلاح والايقاع به وكتب إلى مشارقة الأجناد بالاجتماع معهم على المذكور والاعانة لهم عليهلى القصر الذي بني بظاهر البلد ونزل فيه وقد استمال قلوب الرعية والعامة بما فعله وأظهره من حسن النظر في الظلامات المرفوعة إليه واطلاق جماعة كانت في الحبوس من أرباب الجرائم المتقدمة والجنايات السالفة واستقام له الأمر واستقرت على الصلاح الحال وصلحت أحوال البلد وأهله بما نشر فيه من العدل وحكم به من الانصاف وأحسنه من النظر في أمور السواحل بصرف من صرفه من ولاتها الجابرين واستبدل بهم من شيوخ كتامة وقوادها ورد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 79 إلى علي أخيه ولاية طرابلس الشام وصرف عنها جيش بن الصمصامة فمضى جيش المذكور إلى مصر من غير أن يقصد القائد سليمان ويجتمع معه. وكان جيش هذا من شيوخ كتامة أيضاً إلا أن سليمان كان سيء الرأي فيه لعداوة بينه وبينه فلما حصل جيش بمصر قصد برجوان سراً وطرح نفسه عليه وأعلمه بغض أهل الشام للمغاربة واستيحاشهم منهم فأولاه برجوان الجميل قولاً ووعداً وبذل له المعونة على أمره وتأمل برجوان ما يلي به في الأحوال من الحسن بن عمار وكتامة وما خافه على نفسه منهم وإن مصر والقاهرة قد خلتا الا من العدد الأقل منهم وأمكنته الفرصة فيما يريده منهم فراسل الأتراك والمشارقة وقال لهم: قد عرفتم صورتكم وصورة الحاكم مع هؤلاء القوم وإنهم قد غلبوا على المال وغلبوكم ومتى لم ننتهز الفرصة في قلة عددهم وضعف شوكتهم سبقوكم إلى ما لا يمكنكم تلافيه بعد التفريط فيه واستدراك الغاية منه. وأوثقهم على الطاعة والمساعدة فبذلوها له ووثقوا له في كل ما يريده. وأحس الحسن بن عمار بما يريد برجوان وشرع فيه وفي الفتك به وسبقه إلى ما يحاوله فيه ورتب له جماعةً في دهليزه وواقفهم على الايقاع به وبشكر إذا دخلا داره وكان لبرجوان عيون كثيرة على الحسن بن عمار فصاروا إليه وأعلموه ما قد عمل عليه واجتمع برجوان وشكر وتفاوضا الرأي بينهما في التحرز مما بلغهما وقررا أن يركبا ويركب على أثرهما من الغلمان جماعة فإن أحسوا وأحسنا على باب الحسن ما يريبنا رجعنا وفي ظهورنا من يمنع منا فرتبا هذا الأمر وركبا إلى دار الحسن وكانت في القاهرة مما يلي الجبل فلما قربا من الباب بانت لهما شواهد ما أخبرا به فحذرا وعادا مسرعين وجرد الغلمان الذين كانوا معهما سيوفهم ودخلا إلى قصر الحاكم يبكيان لديه ويستصرخان به وثارت الفتنة واجتمع الأتراك والديلم والمشارقة وعبيد الشرا بالسلاح على باب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 80 القصر وبرجوان يبكي ويقول لهم: يا عبيد مولانا احفظوا العزيز في ولده وارعوا فيه ما تقدم من حقه. وهم يبكون لبكايه وركب الحسن بن عمار في كتامة ومن انضاف إليهم من القبايل وغيرهم وخرج إلى الصحراء وتبعوه وتبعه وجوه البلد فصار في عدد كثير وفتح برجوان خزائن السلاح وفرقه على الغلمان والرجال وأحدقوا ومن معهم بالقصر من المشارقة والعامة بقصر الحاكم وعلى أعلاه الخدم والجواري يصرخون وبرز منجوتكين ونارحكين وينال الطويل وخمسمائة فارس من الغلمان ووقعت الحرب بينهم وبين الحسن إلى وقت الظهر وحمل الغلمان عليه فانهزم وزحفت العامة إلى داره فانتهبوها وفتحوا خزائنه وتفرقوا ما فيها والتجأ الحسن إلى بعض العامة فاستتر عنده وتفرق جميع من كان معه وفتح برجوان باب القصر وأجلس الحاكم وأوصل إليه الناس وأخذ له بيعةً مجددةً على الجند فما اختلف عليه أحد وكتب الأمانات لوجوه كتامة وقواد الدولة وراسلهم بما تطيب به نفوسهم من إقامة عذرهم فيما كان منهم فحضرت الجماعة وأعطت أيمانها على السمع والطاعة. فاستقام الأمر لبرجوان وكتب الكتب إلى أشراف دمشق ووجوه أهلها ويأمرهم بتطييب نفوسهم ويبعثهم على القيام على القائد أبي تميم سليمان بن جعفر بن فلاح والايقاع به وكتب إلى مشارقة الأجناد بالاجتماع معهم على المذكور والاعانة لهم عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 81 شرح أسباب ولاية القائد سليمان بن فلاح لدمشق المقدم ذكره لدمشق وما آلت إليه حاله وحال أخيه في ذلك في سنة 387 قد تقدم من شرح ولاية القائد المذكور لدمشق والسبب لذلك وما آلت الحال إليه ما في معرفته الغناء والكفاية. ولما وردت المكاتبات من مصر عقيب انجلاء فتنة القائد أبي محمد الحسن بن عمار شيخ كتامة بتجديد البيعة للحاكم بأمر الله بما يطيب قلوب أهل البلد ويبعثهم على الوثوب على سليمان وكان هذا القائد المذكور مشهوراً بالكفاية والغناء وتوقد اليقظة في أحواله والمضاء لكنه كان مستهتراً بشرب الراح واستماع الغناء والتوفر على اللذة ولما وردت المطلقات المصرية بما اشتملت عليه في حقه وهو منهمك في لهوه لم يشعر إلا بزحف العامة والمشارقة إلى قصره وهجومهم عليه فخرج هارباً على ظهر فرسه فنهبت خزائنه وأمواله وعدده وأوقعوا من كان في البلد معه من كتامة وقتلوا منهم عدةً وافرةً وعادت الفتنة ثائرةً واقتسم الرؤساء الأحداث حال البلد، وكان يكتب لبرجوان فهد بن إبراهيم النصراني فلما صار الأمر إليه استوزره وكان أبناء القبط بريف مصر واستكتب أبا الفتح أحمد بن أفلح على ديوان الرسايل. ولم يزل برجوان يتلطف للحسن بن عمار إلى أن أخرجه من استتاره وأعاده إلى داره وأجراه على رسمه في راتبه واقطاعاته بعد أن شرط عليه اغلاق بابه والا يداخل نفسه فيما كان يداخلها فيه ولا يشرع في فساد على الحاكم ولا على برجوان وأخذ العهد عليه بذلك واستحلفه بأوكد الأيمان وبالغ في التوثق منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 82 وكان أهل صور في هذه السنة التي هي سنة 87 قد عصوا وأمروا عليهم رجلاً ملاحاً من البحرية يعرف بالعلاقة وقتلوا أصحاب السلطان واتفق إن المفرج بن دغفل قد نزل على الرملة ونهب ما كان في السواد وأطلق يد العيث في البلاد وانضاف إلى هاتين الحادثتين خروج الدوقس عظيم الروم في عسكر كثير إلى الشام ونزوله على حصن أفامية فاصطنع برجوان القائد جيش بن الصمصامة وقدمه وجهز معه ألف رجل وسيره إلى دمشق وأعمالها وبسط يده في الأموال ورد إليه تدبير الأعمال فسار جيش ونزل على الرملة والوالي عليها وحيد الهلالي ومعه خمسة ألف رجل ووافاه ولاة البلد وخدموه وصادف القائد أبا تميم سليمان بن فلاح في الرملة فقبض عليه قبضاً جميلاً وندب أبا عبد الله الحسين بن ناصر الدولة وياقوت الخادم ومن معه من عبيد الشرا لقصد صور ومنازلتها وفتحها وكان قد ولي جماعةً من الخدم السواحل وأنفذوا إليها وأنفذ في البحر تقدير عشرين مركباً من الحربية المشحونة بالرجال إلى ثغر صور وكتب إلى علي بن حيدرة والي طرابلس بالمسير إليه في اصطوله وإلى ابن شيخ والي صيدا بمثل ذلك وإلى جماعة من الجهات بحيث اجتمع الخلق الكثير على باب صور ووقعت الحرب بينها وبين أهلها واستجار العلاقة بملك الروم وكاتب يستنصره ويستنجده وأنفذ إليه عدة مراكب في البحر مشحونةً بالرجال المقاتلة والتقت هذه المراكب مراكب المسلمين فاقتتلوا في البحر قتالاً شديداً فظفر المسلمون بالروم وملكوا مركباً من مراكبهم وقتلوا من فيه وكانت عدتهم مائة وخمسين رجلاً وانهزمت بقية المراكب فضعفت نفوس أهل صور ولم يكن لهم طاقة بمن اجتمع عليهم من العساكر براً وبحراً ونادى المغاربة من أراد الأمان من أهل الستر والسلامة فليلزم منزله فلزموا ذلك وفتح البلد وأسر العلاقة وجماعة من أصحابه ووقع النهب وأخذ من الأموال والرجال الشيء الكثير وكان هذا الفتح أول فتح على يد برجوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 83 الحاكمي وحمل العلاقة وأصحابه إلى مصر فسلخ حياً وصلب بظاهر المنظر بعد أن حشي جلده تبناً وقتل أصحابه. وولي أبو عبد الله الحسين بن ناصر الدولة ابن حمدان صور وأقام بها وسار جيش بن الصمصامة على مقدمته بدر بن ربيعة لقصد المفرج بن دغفل بن الجراح وطلبه فهرب بين يديه حتى لحق بجبلي طيء وتبعه حتى كاد يأخذه ثم رماه ابن جراح بنفسه وعجائز نسائه وعاذ منه بالصفح وطلب الأمان فأمنه وشرط عليه ما التزمه وعفا عنه جيش وكف عنه واستحلفه على ما قرره معه وعاد إلى الرملة ورتب فيها والياً من قبله وانكفأ إلى دمشق طالباً لعسكر الروم النازل على أفامية. فلما وصل إلى دمشق استقبله أشرافها ورؤساء أحداثها مذعنين له بالطاعة فأقبل على رؤساء الأحداث وأظهر لهم الجميل ونادى في البلد برفع الكلف واعتماد العدل والانصاف واباحة دم كل مغربي يتعرض لفساد فاجتمع إليه الرعية يشكرونه ويدعون له وسألوه دخول البلد والنزول فيه بينهم فأعلمهم إنه قاصد الجهاد في الروم وأقام ثلاثة أيام وخلع على رؤساء الأحداث وحملهم ووصلهم ونزل حمص. ووصل إليه أبو الحسن عبد الواحد بن حيدرة في جند طرابلس والمتطوعة من عامتها وتوجه إلى الدوقس عظيم الروم النازل على حصن أفامية فصارت أهله قد اشتد بهم الحصار وبلغ منهم عدم الأقوات وانتهى أمرهم إلى أكل الجيف والكلاب وابتاع واحد واحداً بخمسة عشرين درهماً. فنزل بإزاء الروم وبينه وبينهم النهر المعروف بالمقلوب والتقى الفريقان وتنازعا الحرب والمسلمون في عشرة ألف رجل ومعهم ألف فارس من بني كلاب فحمل الروم على القلب وفيه بدر العطار والديلم والسواد فكسروه ووضعوا السيف في من كان فيه وانهزمت الميسرة وفيها ميسور الصقلبي والي طرابلس ولحقتها الميمنة وفيها جيش بن محمد بن الصمصامة المقدم ووحيد الهلالي وركب الروم المسلمين وقتلوا منهم ألفي رجل واستولوا على سوادهم وسلاحهم وكراعهم ومال بنو كلاب على أكثر من ذلك فانتهبوه وثبت بشارة الأخشيدي في خمسمائة غلام وشاهد أهل أفامية من المسلمين ما نزل بالناس فأيقنوا بالهلاك والعطب وابتهلوا إلى الله الكريم اللطيف بعباده وسألوا الرحمة والنصر. وكان ملك الروم قد وقف على رايته بين يديه ولدان له وعشرة نفر من غلمانه ليشاهد ظفر عسكره وأخذه ما يأخذه من الغنائم فقصده كردي يعرف بأبي الحجر أحمد بن الضحاك السليل على فرس جواد وعليه كذا غند وخوذة وبيده اليمنى خشت وباليسرى العنان وخشت آخر فظنه الدوقس مستأمناً له ومستجيراً به فلم يحفل به ولا تحرز منه فلما دنا منه حمل عليه والدوقس متحصن بلأمته فرفع يده ليتقي ما يرميه به فرماه بالزوبين الذي في يمناه رميةً أصابت خللاً في الدرع فوصل إلى جسده وتمكن منه في أضلاعه فسقط إلى الأرض ميتاً وصاح الناس إن عدو الله قد قتل فانهزمت الروم وتراجع المسلمون وعادت العرب ونزل من كان في الحصن فأعانوهم واستولى المسلمون على الروم فقتلوهم وأسروهم وكانت الوقعة في مرج أفيح يطيف به جبل يعرف بالمضيق لا يسلكه إلا رجل في أثر رجل ومن جانبه بحيرة أفامية ونهر المقلوب فلم يكن للروم مهرب في الهزيمة وتصرم النهار وقد احتز من رؤوس القتلى عشرة ألف راس وبات المسلمون مبيت المنصورين الغانمين المسرورين بما منحهم الله إياهم من الكفاية ووهب لهم من الظفر. ووافى العرب من غد بما نهبوه من دواب المسلمين عند الهزيمة ومنهم من رد ومنهم من باع بالثمن البخس لأن جيش بن الصمصامة المقدم نادى في معسكره بألا يبتاع أحمد من العرب الا ما عرفه وكان مأخوذاً منه فلم يجد الا ما أخذه أصحابه. وحصل ولدا الدوقس في أسر بعض المسلمين فابتاعهما جيش بن الصمصامة المقدم منه بستة ألف دينار وأخذهما إليه وأقام على حصن أفامية أسبوعاً وحمل إلى مصر عشرة ألف راس وألفي رجل من الأسرى إلى باب أنطاكية ونهب الرساتيق وأحرق القرى وانصرف منكفياً إلى دمشق. وقد عظمت هيبته فاستقبله أشرافها ورؤساؤها وأحداثها مهنئين وداعين له فتلقاهم بالشماسية وزادهم من الكرامة وخلع عليهم وعلى وجوه الأحداث وحملهم على الخيل والبغال ووهب لهم الجواري والغلمان وعسكر بظاهر البلد وخاطبوه في الدخول والجواز في الأسواق وقد كانوا زينوها اظهاراً للسرور به والتقرب إليه فلم يفعل وقال: معي عسكر وإن دخلت دخلوا معي ولم أمن أن يمدوا أيديهم إلى ما يثقل به الوطأة منهم. والتمس أن يخلوا له قريةً على باب دمشق تعرف ببيت لهيا ليكون نزوله بها فأجابوه إلى ذلكلجهاد في الروم وأقام ثلاثة أيام وخلع على رؤساء الأحداث وحملهم ووصلهم ونزل حمص. ووصل إليه أبو الحسن عبد الواحد بن حيدرة في جند طرابلس والمتطوعة من عامتها وتوجه إلى الدوقس عظيم الروم النازل على حصن أفامية فصارت أهله قد اشتد بهم الحصار وبلغ منهم عدم الأقوات وانتهى أمرهم إلى أكل الجيف والكلاب وابتاع واحد واحداً بخمسة عشرين درهماً. فنزل بإزاء الروم وبينه وبينهم النهر المعروف بالمقلوب والتقى الفريقان وتنازعا الحرب والمسلمون في عشرة ألف رجل ومعهم ألف فارس من بني كلاب فحمل الروم على القلب وفيه بدر العطار والديلم والسواد فكسروه ووضعوا السيف في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 84 من كان فيه وانهزمت الميسرة وفيها ميسور الصقلبي والي طرابلس ولحقتها الميمنة وفيها جيش بن محمد بن الصمصامة المقدم ووحيد الهلالي وركب الروم المسلمين وقتلوا منهم ألفي رجل واستولوا على سوادهم وسلاحهم وكراعهم ومال بنو كلاب على أكثر من ذلك فانتهبوه وثبت بشارة الأخشيدي في خمسمائة غلام وشاهد أهل أفامية من المسلمين ما نزل بالناس فأيقنوا بالهلاك والعطب وابتهلوا إلى الله الكريم اللطيف بعباده وسألوا الرحمة والنصر. وكان ملك الروم قد وقف على رايته بين يديه ولدان له وعشرة نفر من غلمانه ليشاهد ظفر عسكره وأخذه ما يأخذه من الغنائم فقصده كردي يعرف بأبي الحجر أحمد بن الضحاك السليل على فرس جواد وعليه كذا غند وخوذة وبيده اليمنى خشت وباليسرى العنان وخشت آخر فظنه الدوقس مستأمناً له ومستجيراً به فلم يحفل به ولا تحرز منه فلما دنا منه حمل عليه والدوقس متحصن بلأمته فرفع يده ليتقي ما يرميه به فرماه بالزوبين الذي في يمناه رميةً أصابت خللاً في الدرع فوصل إلى جسده وتمكن منه في أضلاعه فسقط إلى الأرض ميتاً وصاح الناس إن عدو الله قد قتل فانهزمت الروم وتراجع المسلمون وعادت العرب ونزل من كان في الحصن فأعانوهم واستولى المسلمون على الروم فقتلوهم وأسروهم وكانت الوقعة في مرج أفيح يطيف به جبل يعرف بالمضيق لا يسلكه إلا رجل في أثر رجل ومن جانبه بحيرة أفامية ونهر المقلوب فلم يكن للروم مهرب في الهزيمة وتصرم النهار وقد احتز من رؤوس القتلى عشرة ألف راس وبات المسلمون مبيت المنصورين الغانمين المسرورين بما منحهم الله إياهم من الكفاية ووهب لهم من الظفر. ووافى العرب من غد بما نهبوه من دواب المسلمين عند الهزيمة ومنهم من رد ومنهم من باع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 85 بالثمن البخس لأن جيش بن الصمصامة المقدم نادى في معسكره بألا يبتاع أحمد من العرب الا ما عرفه وكان مأخوذاً منه فلم يجد الا ما أخذه أصحابه. وحصل ولدا الدوقس في أسر بعض المسلمين فابتاعهما جيش بن الصمصامة المقدم منه بستة ألف دينار وأخذهما إليه وأقام على حصن أفامية أسبوعاً وحمل إلى مصر عشرة ألف راس وألفي رجل من الأسرى إلى باب أنطاكية ونهب الرساتيق وأحرق القرى وانصرف منكفياً إلى دمشق. وقد عظمت هيبته فاستقبله أشرافها ورؤساؤها وأحداثها مهنئين وداعين له فتلقاهم بالشماسية وزادهم من الكرامة وخلع عليهم وعلى وجوه الأحداث وحملهم على الخيل والبغال ووهب لهم الجواري والغلمان وعسكر بظاهر البلد وخاطبوه في الدخول والجواز في الأسواق وقد كانوا زينوها اظهاراً للسرور به والتقرب إليه فلم يفعل وقال: معي عسكر وإن دخلت دخلوا معي ولم أمن أن يمدوا أيديهم إلى ما يثقل به الوطأة منهم. والتمس أن يخلوا له قريةً على باب دمشق تعرف ببيت لهيا ليكون نزوله بها فأجابوه إلى ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 86 ولاية بشارة الإخشيدي القائد لدمشق في سنة 388 والسبب الداعي إلى ذلك وما آلت إليه الحال لما تقرر الحال بمصر مع برجوان الحاكمي على تجهيز جيش بن الصمصامة إلى الشام لتلافي ما حدث فيه وتدبير الأعمال وتسديد الأحوال والرفع لشر الروم الواصلين إلى أعماله اقتضت الحال والسياسة رد ولاية دمشق بعد اخراج القائد أبي تميم سليمان بن جعفر بن قلاح منها على ما تقدم الذكر له إلى القائد بشارة الأخشيدي فسار ووصل إليها ودخلها ونزل في قصر الولاة بها وشرع في البناء فيه على عادة الولاة في ذلك في يوم الاثنين النصف من شوال سنة 388. وتوجه القائد بشارة الوالي المذكور مع جيش ابن الصمصامة إلى الجهاد في الروم فلما أظفر الله بهم ونصر عليهم وانكفأ المسلمون منصورين ظافرين مسرورين وعاد بشارة الوالي في الجملة صادف الأمر قد ورد من مصر بصرف القائد بشارة عن ولاية دمشق واقرارها على القائد جيش بن محمد ابن الصمصامة شرح السبب في ذلك وما انتهت إليه حاله وكان ماله قد تقدم شرح السبب في اخراج القائد جيش في العسكر من مصر إلى الشام ما كفى وأغنى وما كان منه في التدبير في افتتاح ثغر صور وكسر عسكر الروم والعود إلى دمشق وصرف بشارة عن ولايتها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 87 واتفق ذاك وقد قوض الصيف خيامه وطوى بعد النشر اعلامه والشتاء قد أقبل بصره وهريره وقرة زمهريره فالتمس من أهل دمشق على ما تقدم ذكره اخلاء بيت لهيا فأجيب إلى ما طلب فنزل فيها وشرع في التوفر على استعمال العدل ورفع الكلف واحسان السيرة والمنع من الظلم وأشخص رؤساء الأحداث وقدمهم واستحجب جماعةً منهم وجعل يعمل لهم السمط في كل يوم يحضرهم للأكل عنده ويبالغ في تأنيسهم واستمالتهم بكل حال. فلما مضت على ذلك برهة من الزمان أحضر قواده ووجوه أصحابه وتقدم إليهم بالكون على أهبة واستعداد لما يريد استخدامهم وتوقع لما يوصل إليهم من رقاعه المختومة بخاتمه والعمل به. وقسم البلد وكتب إلى كل قائد يذكر الموضع الذي يدخل فيه ويضع السيف في مفسديه ثم رتب في حمام داره مائتي راجل من المغاربة بالسيوف وتقدم إلى المعروف بالناهري العلوي وكان من خواصه وثقاته بأن يراعي حضور رؤساء الأحداث الطعام فإذا أكلوا وقاموا إلى المجلس الذي جرت عادتهم بغسل أيديهم فيه أغلق عليهم بابه وأمر من رتب في الحمام بوضع السيف في أصحابهم. وكان كل رجل منهم يدخل ومعه جماعة من الأحداث معهم السلاح وحضر القوم على رسمهم فبادر جيش بالرقاع إلى قواده وجلس معهم للأكل فلما فرغوا نهض فدخل في حجرته ونهضوا إلى المجلس وأغلق الفراشون بابه وكانت عدتهم اثني عشر رجلاً يقدمهم المعروف بالدهيقين وخرج من بالحمام فوضعوا السيف في أصحابهم فقتلوهم بأسرهم وكانوا تقدير مائتي رجل، وركب القواد ودخلوا البلد وقتلوا فيه قتلاً ذريعاً وثلموا السور من كل جانب وفتحوا أبوابه ورموها وأنزل المغاربة دور الدمشقيين وجرد إلى الغوطة والمرج قائداً يعرف بنصرون وأمره بوضع السيف في من بها من الأحداث فيقال إنه قتل ألف رجل منهم لأنهم كانوا كثيرين. ودخل دمشق فطافها فاستغاث الناس وسألوا العفو الجزء: 1 ¦ الصفحة: 88 والابقاء فكف عنهم ورتب أصحاب المصالح في المحال والمواضع وعاد إلى القصر في وقته فاستدعى الأشراف استدعاء حسن معه ظنهم فيه فلما حضروا أخرج رؤساء الأحداث فضرب رقابهم بين أيديهم وأمر بصلب كل واحد منهم في محلته حتى إذا فرغ من ذلك قبض عليهم وحملهم إلى مصر وأخذ أموالهم ونعمهم ووظف على أهل البلد خمسمائة ألف دينار. وجاءه أمر الله تعالى الذي لا يدفع نازله ولا يرد واصله فهلك وكان سبب هلاكه ناسور خرج في سفله ولم يزل يستغيث من الألم ويتمنى الموت ويطلب أن يقتل نفسه فلا يتمكن ولا يمكن ويسئل في قتله فلا يقتل إلى أن هلك على هذه الحال وكانت مدة هذه الولاية والفتنة تسعة شهور وقيل إن عدة من قتل من الأحداث ثلاثة ألف رجل وانتهى الخبر إلى مصر بهلاكه فقلد ولده محمد بن جيش مكانه. وقد استقامت الأمور بمصر والشام واستمال برجوان المشارقة واستدعاهم من البلاد فاجتمع عنده منهم تقدير ثلاثة ألف رجل وكان يواصل النظر في قصر الحاكم نهاره أجمع إلى أن ينتصف الليل ويجاوز الانتصاف ويوفي السياسة حقها وبين يديه ابن أبي العلاء فهد بن إبراهيم من يمشي الأمور ويحسن تنفيذها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 89 وراسل برجوان بسيل ملك الروم على لسان ابن أبي العلاء ودعاه إلى المهادنة والموادعة وحمل إليه هدايا سلك فيها سبيل التألف والملاطفة فقابل بسيل ذلك منه بأحسن قبول وتقررت الموادعة عشر سنين وأنفذ بسيل في مقابلة الهدية ما جرت به عادة مثله. وصلحت الحال مع العرب وأحسن إلى بني قرة وألزمهم شرائط الطاعة وسير عسكراً إلى برقة وطرابلس الغرب فأخذها وعول في ولايتها على يانس الصقلبي. وكان لفرط إشفاقه على الحاكم يمنعه من الركوب في غير وقت ركوبه والعطاء لغير مستحقه وفعل وذاك يفعله من باب السياسة والحفظ لنفسه وهيبته وماله وهو يسر ذلك في نفسه إنه من الإساءة إليه والتضييق عليه. وكان مع الحاكم خادم يعرف بزيدان الصقلبي وقد خص به وأنس إليه في شكوى ما يشكوه من برجوان إليه واطلاعه على ما يسره في نفسه له وزاد زيدان في الحمل عليه والاغراء به وقال له فيما قال: إن برجوان يريد أن يجري نفسه مجرى كافور الأخشيدي ويجريك مجرى ولد الأخشيدي في الحجر عليك والأخذ على يدك والصواب أن تقتله وتدبر أمرك منفرداً به. فقال له الحاكم: إذا كان هذا رأيك والصواب عندك فأريد منك المساعدة عليه. فبذلها له فلما كان في بعض أيام شهور سنة 389 أشار زيدان على الحاكم بأن ينفذ إلى برجوان في وقت الظهر بعد انصرافه إلى داره وتفرق الناس عنه للركوب إلى الصيد وأن يقف له في البستان الذي داخل القصر فإذا حضر أمر بقتله فأرسل إليه بالركوب وقال: أريد أن ترتب الخدم في جانبي البستان فإني أقف على بابه وأنت بين يدي فإذا حضر برجوان دخلت البستان وتبعني وكنت في أثره فإذا نظرت إليك فأضره بالسكين في ظهره وواقف الخدم أن يضعوا عليه. فبينما هما في الحديث إذ دخل برجوان فقال للحاكم: يا أمير المؤمنين الحر شديد والبزاة في مثله لا تصيد. فقال: صدقت ولكنا ندخل البستان ونطوف فيه ساعةً ونخرج. وأنفذ برجوان إلى شكر وكان قد ركب بأن يسير مع الموكب إلى المقس والمقس ظاهرة القاهرة ويقف عند القنطرة فإن مولانا يخرج من البستان ويتبعك ففعل ودخل الحاكم البستان وبرجوان خلفه وزيدان بعده وكان برجوان خادماً أبيض اللون تام الخلقة فبدره زيدان فضربه بين أكتافه بسكين اطلعها من صدره فقال: يا مولانا غدرت. فصاح الحاكم: يا عبيد خذوا رأسه. وتكاثر الخدم عليه فقتلوه وخرج الخدم الكبار مسرعين على ظهور الخيل إلى الجانب وبغال الموكب والجوارح فردوا جميعها فقال لهم شكر: ما السبب في ذلك! فلم يجيبوه فجاء الناس من هذا الحادث ما لم يكن في الحساب وعاد شكر بالموكب وشهر الجند سيوفهم وهم لا يعلمون ما الخبر غير إنهم خائفون على الحاكم من حيلة تتم عليه من الحسن بن عمار ورجع أكثرهم إلى دورهم فلبسوا سلاحهم ووافوا إلى باب القصر وتميز المغاربة والمشارقة وأحدق شكر ومن معه من الأتراك والمشارقة القصر وعلا على شرف القصر الخدم في أيديهم السيوف والتراس وعظم الأمر واجتمع القواد وشيوخ الدولة وأبو لعلاء الوزير على باب القصر الزمرد. فلما رأى الحاكم زيادة الاختلاط ظهر من منظرة على الباب وسلم على الناس فترجلوا عن دوابهم إلى الأرض وقتلوها بين يديه وضربت البوقات والطبول وفتح باب القصر واستدعى أصحاب الرسايل وسلمت إليهم رقعة قد كتبها الحاكم بيده إلى شكر وأكابر القواد يقول فيها: إنني أنكرت على برجوان أموراً أوجبت قتله فقتلته فألزموا الطاعة وحافظوا على ما فيها في رقابكم من البيعة المأخوذة. فلما قرئت عليهم قبلوا الأرض وقالوا: الأمر لمولانا. واستدعى الحسين بن جوهر وكان من شيوخ الدولة فأمره بصرف الناس فصرفهم وعاد الحاكم إلى قصره وكل من القواد إلى داره والنفوس خائفة من فتنة تحدث بين المشارقة والمغاربة وشاع قتل برجوان وركب مسعود الحاكمي إلى داره فقبض على جميع ما فيها من أمواله. وجلس الحاكم وقت العشاء الأخير واستدعى الحسين بن جوهر وأبا العلاء بن فهد بن إبراهيم الوزير وتقدم إليه بإحضار سائر كتاب الدواوين والأعمال ففعل وحضروا وأوصلهم إليه وقال لهم: إن هذا فهداً كان أمس كاتب برجوان عبدي وهو اليوم وزيري فاسمعوا له وأطيعوا ووفوه شروطه في التقدم عليكم وتوفروا على مراعاة الأعمال وحراسة الأموال. وقبل فهد الأرض وقبلوها وقالوا: السمع والطاعة لمولانا. وقال لفهد: أنا حامد لك وراض عنك وهؤلاء الكتاب خدمي فأعرف حقوقهم وأجمل معاملتهم وأحفظ حرمتهم وزد في واجب من يستحق الزيادة بكفايته وأمانته. وتقدم بأن يكتب إلى سائر ولاة البلاد والأعمال بالسبب الواجب لقتل برجوان. فكتب بما نسخته بعد التصدير وما جرت العادة بمثله في الخطاب: أما بعد فإن برجوان أرضى أمير المؤمنين حيناً فاستعمله ثم أسخطه فقتله وأعلمك أمير المؤمنين ذاك لتعلمه وتجري على سننك الحميد في خدمته ومدهبك الرشيد في طاعته ومناصحته وتسديد ما قبلك من الأمور وطالعه بما يتجدد لديك من أحوال الجمهور إن شاء الله. ونفذت الكتب بذاك واستقامت الأحوال على سنن الصواب وزال ما خيف من الاختلال والاضرابال له الحاكم: إذا كان هذا رأيك والصواب عندك فأريد منك المساعدة عليه. فبذلها له فلما كان في بعض أيام شهور سنة 389 أشار زيدان على الحاكم بأن ينفذ إلى برجوان في وقت الظهر بعد انصرافه إلى داره وتفرق الناس عنه للركوب إلى الصيد وأن يقف له في البستان الذي داخل القصر فإذا حضر أمر بقتله فأرسل إليه بالركوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 90 وقال: أريد أن ترتب الخدم في جانبي البستان فإني أقف على بابه وأنت بين يدي فإذا حضر برجوان دخلت البستان وتبعني وكنت في أثره فإذا نظرت إليك فأضره بالسكين في ظهره وواقف الخدم أن يضعوا عليه. فبينما هما في الحديث إذ دخل برجوان فقال للحاكم: يا أمير المؤمنين الحر شديد والبزاة في مثله لا تصيد. فقال: صدقت ولكنا ندخل البستان ونطوف فيه ساعةً ونخرج. وأنفذ برجوان إلى شكر وكان قد ركب بأن يسير مع الموكب إلى المقس والمقس ظاهرة القاهرة ويقف عند القنطرة فإن مولانا يخرج من البستان ويتبعك ففعل ودخل الحاكم البستان وبرجوان خلفه وزيدان بعده وكان برجوان خادماً أبيض اللون تام الخلقة فبدره زيدان فضربه بين أكتافه بسكين اطلعها من صدره فقال: يا مولانا غدرت. فصاح الحاكم: يا عبيد خذوا رأسه. وتكاثر الخدم عليه فقتلوه وخرج الخدم الكبار مسرعين على ظهور الخيل إلى الجانب وبغال الموكب والجوارح فردوا جميعها فقال لهم شكر: ما السبب في ذلك! فلم يجيبوه فجاء الناس من هذا الحادث ما لم يكن في الحساب وعاد شكر بالموكب وشهر الجند سيوفهم وهم لا يعلمون ما الخبر غير إنهم خائفون على الحاكم من حيلة تتم عليه من الحسن بن عمار ورجع أكثرهم إلى دورهم فلبسوا سلاحهم ووافوا إلى باب القصر وتميز المغاربة والمشارقة وأحدق شكر ومن معه من الأتراك والمشارقة القصر وعلا على شرف القصر الخدم في أيديهم السيوف والتراس وعظم الأمر واجتمع القواد وشيوخ الدولة وأبو لعلاء الوزير على باب القصر الزمرد. فلما رأى الحاكم زيادة الاختلاط ظهر من منظرة على الباب وسلم على الناس فترجلوا عن دوابهم إلى الأرض وقتلوها بين يديه وضربت البوقات والطبول وفتح باب القصر واستدعى أصحاب الرسايل وسلمت إليهم رقعة قد كتبها الحاكم بيده إلى شكر وأكابر القواد يقول فيها: إنني أنكرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 91 على برجوان أموراً أوجبت قتله فقتلته فألزموا الطاعة وحافظوا على ما فيها في رقابكم من البيعة المأخوذة. فلما قرئت عليهم قبلوا الأرض وقالوا: الأمر لمولانا. واستدعى الحسين بن جوهر وكان من شيوخ الدولة فأمره بصرف الناس فصرفهم وعاد الحاكم إلى قصره وكل من القواد إلى داره والنفوس خائفة من فتنة تحدث بين المشارقة والمغاربة وشاع قتل برجوان وركب مسعود الحاكمي إلى داره فقبض على جميع ما فيها من أمواله. وجلس الحاكم وقت العشاء الأخير واستدعى الحسين بن جوهر وأبا العلاء بن فهد بن إبراهيم الوزير وتقدم إليه بإحضار سائر كتاب الدواوين والأعمال ففعل وحضروا وأوصلهم إليه وقال لهم: إن هذا فهداً كان أمس كاتب برجوان عبدي وهو اليوم وزيري فاسمعوا له وأطيعوا ووفوه شروطه في التقدم عليكم وتوفروا على مراعاة الأعمال وحراسة الأموال. وقبل فهد الأرض وقبلوها وقالوا: السمع والطاعة لمولانا. وقال لفهد: أنا حامد لك وراض عنك وهؤلاء الكتاب خدمي فأعرف حقوقهم وأجمل معاملتهم وأحفظ حرمتهم وزد في واجب من يستحق الزيادة بكفايته وأمانته. وتقدم بأن يكتب إلى سائر ولاة البلاد والأعمال بالسبب الواجب لقتل برجوان. فكتب بما نسخته بعد التصدير وما جرت العادة بمثله في الخطاب: أما بعد فإن برجوان أرضى أمير المؤمنين حيناً فاستعمله ثم أسخطه فقتله وأعلمك أمير المؤمنين ذاك لتعلمه وتجري على سننك الحميد في خدمته ومدهبك الرشيد في طاعته ومناصحته وتسديد ما قبلك من الأمور وطالعه بما يتجدد لديك من أحوال الجمهور إن شاء الله. ونفذت الكتب بذاك واستقامت الأحوال على سنن الصواب وزال ما خيف من الاختلال والاضطراب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 92 ولاية القايد تميم بن إسماعيل المغربي الملقب بفحل لدمشق سنة 390 لما هلك جيش بن محمد بن الصمصامة على ما تقدم الشرح فيه عقيب إغراقه في الظلم وإيغاله في سفك الدماء والجور وكان هلاكه في يوم الأحد لتسع خلون من شهر ربيع الآخر سنة 390 وكانت مدة ولايته التي هلك فيها على ما صح في هذه الرواية دون ما تقدم ذكره ستة عشر شهراً وستة عشر يوماً وانتهى الخبر إلى مصر بذاك وقع الارتياد لمن يختار لولايتها بعد المذكور فوقع الاختيار على القائد تميم بن إسمعيل المغربي الملقب بفحل فوصل إليها وأقام بها وأمر ونهى وبقي شهوراً من سنة 390 وعرضت له علة هلك بها ومضى لحال سبيله فلما انتهى خبر وفاته إلى مصر وقع الاعتماد في ولايته على القائد علي بن جعفر بن فلاح وقد كان وليها دفعةً أولةً شرح ذلك وصل القائد علي ابن جعفر بن فلاح إلى دمشق والياً عليها دفعةً ثانية فنزل عليها في يوم السبت لليلتين بقيتا من شوال سنة 390 وأقام مدةً يتولى أمرها ويدبر أحوالها على عادة الولاة إلا إنه لم يبسط يده في مال ولا تعرض لشيء من استغلال ثم اقتضت الآراء بمصر أن يصرف عنها ويبدل بغيره في ولايتها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 93 ولاية القائد ختكين الداعي المعروف بالضيف في سنة 392 وصل القائد ختكين الداعي المعروف بالضيف إلى دمشق والياً عليها من قبل الحاكم بأمر الله في شهر رمضان من السنة فدبر أمورها ونظر في أحوال أجنادها. واقتضى رأيه أن ينقص واجبات الأجناد ويدافع بأعطياتهم ويغالطهم ويظهر أمراً من التوفير فلم يتمكن من بلوغ مرام ولا نيل أمل واتفق أن يكون القائد علي بن فلاح المقدم ذكره مقيماً في عسكره في الشماسية بظاهر دمشق فلما طلبت الأجناد أرزاقها منه قال لهم: ليس إلي من أمر أرزاقكم شيء. فكان على تدبير المال وإطلاق الأرزاق رجل من الكتاب نصراني يقال له ابن عبدون فشغب الجند في العسكر فثاروا يريدون ابن عبدون فلحقوا ختكين الوالي في الطريق فنهاهم من ابن عبدون وشتمهم وكان رجلاً جاهلاً أحمق فرجع إليه قوم من الجند فسألوه فلم يجب إلى ما يوافق أغراضهم ويسكن شغبهم فثارت الفرسان والرجالة إلى دور الكتاب فانتهبوا ما كان فيها ونهبوا ما كان في الكنائس واجتمع بعد ذلك جماعة من المشارقة والمغاربة فتحالفوا على أن يكونوا يداً واحداً في طلب الأرزاق والمنع ممن عساه يطالبهم بما فعلوه وحلف لهم القائد علي بن فلاح على كونه منهم وشده معهم وانتهى الأمر في ذلك إلى الحاكم فقال: هذا قد عصى وخرج عن مشكور السياسة. وأمر بصرفه عن الولاية والاستبدال به وكتب إليه بذلك فرحل عنها بنفر يسير من أصحابه في شوال من السنة المذكورة وبقي العسكر في دمشق. فاقتضى الرأي الحاكمي رد ولاية دمشق إلى رجل أسود بربري يقال له القائد طزملت بن بكار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 94 ولاية القائد طزملة بن بكار البربري لدمشق في بقية سنة 396 وصل القائد طزملت المذكور إلى دمشق والياً عليها من قبل الحاكم بأمر الله في يوم الأحد لست بقين من ذي القعدة من السنة وكان هذا طزملت عبداً لابن وفري والي القيروان فولاه طرابلس الغرب فجاز على أهلها وظلمهم وأخذ أموالهم فحصل له منهم مال عظيم فلما انتهى خبر ظلمه إلى مولاه طلبه والتمس إشخاصه إلى القيروان لكشف الأمر فخافه وانهزم إشفاقاً على نفسه وماله ووصل إلى مصر وحمل بعض ما كان معه إلى الحاكم فتمكنت حاله عنده وتأثلت منزلته منه وولاه دمشق فأقام والياً عليها إلى المحرم سنة 394 فصرف عنها بخادم من خدم الحضرة يقال له القائد مفلح اللحياني وسنشرح حاله في غير هذا المكان. كان في سنة 393 قد اجتمع في مصر أبو ظاهر محمود بن محمد النحوي وكان من أهل بغداد وطرا إلى مصر وإليه ديوان الحجاز والمعروف بابن العداس المصري وإليه ديوان الخراج على الرفع على أبي العلاء فهد بن إبراهيم الوزير والسعاية به إلى الحاكم وعملا عملاً بما اقتطعه وارتفق به واشتمل ذلك على حملة كبيرة من المال ولقيا الحاكم بالعمل ووقفاه عليه وبذلا له القيام بالأمر وتوفير ستة ألف دينار في كل سنة فكان فهد يأخذها لنفسه فقال لهما: أنا أقبض عليه وأقلدكما النظر فيما كان ينظر فيه. فقالا: لا يتم أمر ولا يمشي لنا عمل وفهد حي مأمول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 95 الخروج من محبسه والعود إلى أمره سيما وكل من بمصر والشام من الولاة والعمال صنائع برجوان وقد جرى اصطناعه إياهم على يده. فامتنع عليهما من قبله وكره قتله وقال لهما: ما له إلي ذنب فاقتله به! وراجعاه القول وألحا عليه فيه فقال: إذا فعلت ما أردتماه فما التوثقة فيما بذلتماه؟ قالا: ان نكتب خطنا لك بأننا نكفيك أمورك ونقوم بتمشيتها على مرادك ونقيم لك وجه المال الذي ضمنا استخراجه لك وتوفيره من الأعمال. قال: فأيكما يخرج إلى الشام؟ قالا: عبدك ابن النحوي ويقيم ابن العداس بحضرتك. فقرر ذلك معهما وأخذ به خطهما. وكان من عادة الحاكم أن يطوف ليلاً بمصر والقاهرة وقد منع التجار وأرباب الدكاكين أن يغلقوا دكاكينهم أو ينصرفوا عنها إلى منازلهم حتى صار الليل نهاراً في معاملاتهم ومن إشعال السرج والشمع وإضاءة المحال والأسواق تقرباً إليه ويطلق لهم المعونة الكثيرة على ذلك ويقف على دكاكينهم ويجتاز بينهم ولا يقدر أحد أن يقوم له أو يقبل الأرض بين يديه فلما عاد في تلك الليلة سحراً من طوفه أمر مسعوداً السيفي بأن يمضي إلى فهد بن إبراهيم الوزير يستدعيه فإذا دخل بحجره ضرب عنقه وأحضر رأسه وأن يقبض على أبي غالب أخيه وكان شريراً مبغضاً وإليه ديوان النفقات فمضى ووجد فهداً في الحمام فانتظره حتى خرج ثم استركبه وأشعره إنه يراد بخير وانزعج أولاده وأهله وساءت ظنونهم فيه ووصل مسعود إلى باب الرهومة وهو باب من أبواب القصر فعدل به إلى محجبة العطب فلما رأى فهد ذلك أحس بالهلاك فصاح واستغاث وبكى ولاذ بالعفو وبكى الناس لما شاهدوه من حاله وعرفوه من الأمر الذي يراد به وأدخله مسعود إلى الحجرة فأقسم عليه فهد أن يراجع الحاكم في بابه وبذل له ألف دينار وتوفير مثلها فقال له مسعود: لا سبيل إلى المراجعة بعد ما أمرت به. وضرب عنقه وأخذ رأسه وحمله إلى حضرة الحاكم فلما شاهده أمره أن يخرج رأس كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 96 من يقتله من وجوه الدولة إلى قائد القواد فلما رآه أسقط مغشياً عليه وعاد مسعود ليقبض على أبي غالب أخيه فوجده قد هرب فأعلم الحاكم ذلك فأمر بطلبه حتى ظفر به بعد شهر وغير حليته وحلق لحيته فألحقه بأخيه. وأحضر أولاد فهد فخلع عليهم وكتب لهم سجلاً بصيانتهم وحماية دورهم وإزالة الاعتراض عنهم وعن أسبابهم. ونظر ابن العداس في الأعمال وشرع في تهذيب الأمور وتوفير الأموال وتوجه ابن النحوي إلى الشام على القاعدة المقررة مع الحاكم وكان قد عد ما يحتاج إليه من آلة السفر والتجمل واستكثر من ذلك وتناهى فيه وهابه الناس وتجنبوه ووصل أولاً إلى الرملة فقبض على العمال والمتصرفين فيها وعسفهم وألزمهم بمائتي ألف دينار ووضع السوط والعصا في المطالبة وبث أصحابه ونوابه إلى دمشق وطبرية والسواحل بعد أن واقفهم على أخذ العمال والمتصرفين في الأعمال ومصادرتهم وخبط الشام وعسف من فيه بطلب المال، وكان في جملة العمال رجل نصراني يتعلق بخدمة ست الملك أخت الحاكم وله منها رعاية مؤكدة فكتب إليها يستصرخ بها ويشكو ما نزل بالناس من البلاء إليها وما شمل الشام وأهله من ابن النحوي وما بسط فيه من الظلم والعسف والجور مما لم يجر بمثله عادة في قديم الأزمان ولا حديثها فلما وصل الكتاب إليها ووقفت عليه دخلت على الحاكم وكان يشاورها في الأمور ويعمل برأيها ولا يخالف مشورةً لها فعرضت عليه ما تضمنه الكتاب من الشكوى وقالت: يا أمير المؤمنين قد ظهر كذب ابن النحوي وابن العداس وأعمالهما الحيلة على فهد وقتله مساعدةً للحسين بن جوهر وقد أفسد البلاد عليك وأوحش الناس منك فإن كنت يا أمير المؤمنين تريد أخذ أموال عبيدك فكل يبذلها لك طوعاً ويحملها إلى خزانتك تبرعاً بعد أن يكونوا تحت ظل الصيانة وفي كنف الحياطة هذا ولم تجر عادات أبائك اطلاق المصادرات. فأنكر الحاكم إنه لم يسمح لأحد منهما في ذلك وكتب إلى وحيد والي الرملة سراً وكان الحاكم يكتم السر شديداً: الجزء: 1 ¦ الصفحة: 97 بسم الله الرحمن الرحيم يا وحيد سلمك الله ساعة وقوفك على هذا الكتاب اقبض على محمود بن محمد لا حمد الله أمره وسيره مع من يوصله من ثقاتك إلى الباب العزيز إن شاء الله. فلما وقفت أخته على التوقيع قالت: يا أمير المؤمنين ومن هذا الكلب حتى ترفع من شانه بحمله إلى حضرتك وبطن الأرض أولى به. فأخذ الكتاب وزاد فيه: بل تضرب عنقه وتنفذ رأسه. وختم الكتاب ثلاثة ختوم وأحضر سعيد بن غياث صاحب البريد ودفعه إليه فبادر به من وقته ومسافة ما بين القاهرة والرملة مائة فرسخ وكانت النوبة توافيها في الساعة الثالثة من اليوم الثالث ووصل الكتاب إلى وحيد وكان عادته إلى ابن النحوي دائماً وربما أوصله أو حجبه فلما وقف على الكتاب قال لدري غلامه الناظر في المعونة وكان أرمنياً فظاً غليظاً: اركب إلى محمود وكان مخيماً بظاهر الرملة واستأذن عليه فإذا أوصلك فأبلغه سلامي واسئله الركوب إلي لاقفه على ما ورد من حضرة السلطان فإن قال لك لم تجر بذلك عاده فقل: كذا أمرت فيما وردت. فمضى دري إليه وبين يديه جماعة كثيرة من الرجال حتى وافى عسكر محمود واستأذن عليه ودخل إليه وقال له ما قاله وحيد الوالي فقال له: لم تجر بذلك العادة فيما تسومنيه وفي غد نجتمع. فأجابه بما قال له وحيد فلما سمعه ضعفت نفسه وسآء ظنه ولم يمكنه مخالفته فركب في موكبه وتوجه إلى دار وحيد وصار إلى وحيد من أعلمه ركوبه فتقدم إلى بعض حجابه وصاحب الخبر برملة بأن يتلقياه فإذا لقياه أنزلاه عن دابته وضربا عنقه وأخذا رأسه ففعلا ما أمرهما وحين وصل سوق البز صادفاه وانزلاه بعد تمنعه فأوقعا به وقطعا رأسه وحملاه إلى وحيد فأحضر القاضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 98 والشهود وكتب محضراً بأن الرأس رأس محمود وصيره وأنفذه مع المحضر إلى صاحب البريد فأسرع به إلى مصر وقبض على أصحابه وأسبابه وأماله وكراعه. وسر الناس بهلاكه وتباشروا بما كفوه من شره ووصل الرأس إلى الحاكم فأحضر ست الملك فأراها إياه فدعت له وشكرته على ما كان منه وأمر مسعود بأن يأخذ ابن العداس من بني يدي قائد القواد الحسين بن جوهر فتضرب عنقه بحضرته ويأخذ رأسه ويضيفه إلى الرأس ففعل فلما اجتمع الرأسان بين يديه أمره أن يخرجهما إلى قائد القواد فأخرجهما إليه فلما شاهدهما جزع جزعاً شديداً ثم استدعاه الحاكم وسكن منه وأمره أن يستنيب أبا الفتح أحمد بن محمد بن أفلح على النظر في الأمور فأقام في النظر سنة ونصفاً ثم قتل وأقيم مقامه يحيى بن الحسين بن سلامة النصراني. وكثر الكلام على قائد القواد والوقائع فيه فشكر الحاكم عليه وتغير له وهم بالايقاع به وصرفه عن الوزارة وعول فيما كان إليه على علي بن صالح بن علي الروذباري ولقبه بثقة الثقات ورد إليه السيف والقلم فنظر في الأمور ودبر الأعمال وحفظ وجوه المال والاستغلال تقدير سنتين ثم تغير له وتأول عليه وقتله وقلد مكانه المعروف بمنصور بن عبدون. وكان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 99 رجلاً نصرانياً خبيثاً جلداً وبينه وبين أبي القاسم الحسين ابن علي بن المغربي ووالده أبي الحسين علي عداوة قديمة ومساعاة ووقائع متصلة لأن أبا القاسم صرف به عن ديوان السواد فواصل أبو القاسم الوقيعة فيه والكلام عليه وعلى الكتاب النصارى إلى أن قبض على جماعتهم فلما حصلوا في القبض أمر الحاكم بأن يضرب كل واحد منهم خمسمائة سوط فإن مات رمي به للكلاب وإن عاش أعيد ضربه إلى أن يموت فبذل منهم جماعة مالاً عظيماً على أن يستبقوا فلم يقبل منهم واستمرت الشحناء بينهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 100 ولاية القائد أبي صالح مفلح اللحياني المقدم ذكره وشرح الحال في ذلك لدمشق سنة 394 وصل القائد أبو صالح مفلح الخادم المعروف باللحياني إلى دمشق والياً عليها في المحرم سنة 394 فتولى أمرها وأمر ونهى في أهلها وكان القائد طزملت المصروف عنها قد برز إلى داريا فلم يلبث إلا قليلاً واعتل فيها علة قضى نحبه فيها في يوم الاثنين الثاني من صفر من السنة وأقام القائد أبو صالح والياً عليها وسائساً لأمور أهلها والأحوال مستقيمة على نهج الصواب والسداد وقضية المراد إلى أن صرف بالقائد حامد بن ملهم وسيأتي شرح ذلك في موضعه. وقيل أن منصور بن عبدون الناظر في الدواوين بمصر لم يزل بنو المغربي المقدم ذكرهم مستمرين على الوقيعة فيه والتضريب بالسعاية عليه وإفساد رأي الحاكم فيه وهو يعتمد فيهم مثل ذلك ويغريه بهم ويحمله على قتلهم حتى تقدم إلى جعفر الصقلبي وكان قد قام مقام مسعود السيفي في القتل أن يحضر علياً ومحمداً ابني المغربي ويدخلهما الحجرة ويضرب أعناقهما ففعل ذلك ثم أمره أن يحضر أبا القاسم الحسين بن علي المغربي وأخويه ويقتلهم فأما الإخوان فإنهما أخذا بعد ثلاثة أيام وقتلا وإما أخوهما أبو القاسم الحسين بن علي فاستتر واعمل الحيلة في النجاة وهرب مع بعض العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 101 وحصل بجلة حسان بن المفرج بن دغفل بن الجراح فاستجار فأجاره وأنشده عند دخوله عليه وإيمانه ممن يطلبه منه ما يستنهض عزيمته فيه من الاجارة له والذب عنه والمراماة دونه: أمّا وقد خيمت وسط الغاب ... فليقسونّ على الزمان عتابي يترنّم الفولاذ دون مخيّمي ... وتزعزع الخرصان دون قبابي وإذا بنيت على الثنيّة خيمةً ... شدّت إلى كسر القنا أطنابي وتقوم دوني فتية من طيئ ... لم تلتبس أثوابهم بالعاب يتناثرون على الصّريخ كأنّهم ... يدعون نحو غنائمٍ ونهاب من كل أهرت يرتمي حملاقه ... بالجمر يوم تسايفٍ وضراب يهديهم حسّان يحمل بزّه ... جرداء تعليه جناح عقاب يجري الحياء على أسرة وجهه ... جري الفرند بصارم قضّاب كرمٌ يشقّ على التلاد وعزمةٌ ... يغتال بادرها الهزبر الضّابي ولقد نظرت إليك يابن مفرج ... في منظر ملء الزمان عجاب والموت ملتفّ الذوائب بالقنا ... والحرب سافرةٌ بغير نقاب فرأيت وجهك مثل سيفك ضاحكاً ... والذعر يلبس أوجهاً بتراب ورأيت بيتك للضيوف ممهّداً ... فسح الظّلال مرفّع الأبواب يا طيئ الخيرات بين خلالكم ... أمن الشريد وهمّة الطلاّب سمكت خيامكم بأسنمة الرّبا ... مرفوعةً للطّارق المنتاب وتدلّ ضيفكم عليكم أنورٌ ... شبّت بأجذالٍ قهرن صعاب متبرجاتٌ باليفاع وبعضهم ... بالجزع يكفر ضؤه بحجاب كلأتكم ممن يعادي هيبةٌ ... اغتكم عن رقبةٍ وجناب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 102 فيسير جيشكم بغير طليعةٍ ... ويبيت حيّكم بغير كلاب تتهيّبون وليس فيكم هائبٌ ... وتوثّبون على الرّدي الوثّاب ولكم إذا اختصم الوشيج لباقةٌ ... بالطعن فوق لباقة الكتاب فالرمح ما لم ترسلوه أخطلٌ ... والسيف ما لم تعملوه ناب يا معن قد أقررتم عين العلي ... بي مذ وصلت بحبلكم أسبابي جاورتكم فملأتم عيني الكرى ... وجوانحي بغرائب الأطراب من بعد ذعرٍ كان أحفز أضلعي ... حتى لضاق به عليّ أهابي ووجدت جار أبي الندى متحكّماً ... حكم العزيز على الذليل الكابي فليهنه منن على متنزّهٍ ... لسوى مواهب ذي المعارج آب قد كان من حكم الصنائع شامساً ... فاقتاده بصنيعةٍ من عاب فلأنظمنّ له عقود محامدي ... تبقى جواهرها على الأحقاب لا جاد غيركم الربيع ولا سرت ... غزر اللقاح لغيركم بحلاب أنا ذاكر الرجل المندد ذكره ... كالطود حلّي جيده بشهاب ولقد رجوت ولليالي دولةٌ ... إني أجازيكم بخير ثواب فلما سمع حسان بن الجراح هذه الأبيات هش لها وجد القول له بما سكن جاشه وأزال استيحاشه. وهذا أبو القاسم الحسين بن علي المغربي كان ذا علم وافر وأدب ظاهر وبلاغة وذكاء وصناعة مشهورة في الكتابة ومضاء فأقام عنده ما أقام محترماً مكرماً وجرى له ما يذكر في موضعه ثم رحل إلى ناحية العراق وتقدم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 103 هناك في الأيام القادرية ووزر للأمير قرواش أمير بني عقيل ووزر لابن مروان صاحب ديار بكر وكان مستقلاً بصناعتي الكتابة والانشائية والحسابية وحين مرض وأشفي وصى بحمل تابوته إلى الكوفة ودفنه في المشهد بها وفعل به ذلك. ثم تغير الحاكم لمنصور بن عبدون فنكبه وقتله وقلد مكانه زرعة بن نسطورس الوزير ولقبه بالشافي وذلك في سنة 397 ووردت الأخبار بالوقعة الكائنة بين الفضل صاحب الحاكم وبين أبي ركوة الخارج عليه وظفر الفضل به وأخذه وحمله إلى القاهرة وشهره بها وقتله فيها. وقيل أن أبا ركوة لقب عليه بركوة كانت معه في أسفاره على مذهب الصوفية واسمه الوليد أموي من أولاد هشام بن عبد الملك بن مروان ولنبوته في ذلك شرح يطول إلا أن أبا ركوة هذا لما انهزم في الوقعة قصد صاحب النوبة وتردد من الحاكم إليه بسبب مراسلات إلى أن أنفذه إليه مع أصحابه وأنفذ معه صاحباً له بهدايا إلى الحاكم وتسلم أبا ركوة أخو الفضل وحمله إلى أخيه الفضل فسار وكان الفضل يقبل يد أبي ركوة ويعظمه تأنيساً لئلا يقتل نفسه قبل إيصاله وأنزله في مضاربه وأخدمه نفسه وأصحابه وكتب الحاكم بخبر حصوله ووصوله. وكان الفضل يدخل عليه في غداة كل يوم إلى خركاة قد ضربت له في خيمه ويصبحه ويقبل يده ويقول له: كيف مولاي؟ فيقول: بخير يا فضل أحسن الله جزاك. ويحضره شراباً فيشرب بين يديه ثم يناوله إياه ويفعل مثل ذلك في طعامه إلى أن وصل إلى الجيزة. فلما حصل بها راسله الحاكم بأن يعبر هو والعسكر الذي معه وينزل على رأس الجسر ويصل هو إلى القاهرة ففعل ذاك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 104 وكان لا يمشي خطوات إلا وقد تلقته الخدم بالتشريف والحملان وهو ينزل عن فرسه ويقبل الأرض ويعود إلى ركوبه ولم يزل على هذه الحال إلى أن وصل إلى القصر ودخل إلى القصر على الحاكم فخدمه ودعا له وشرح حاله إلى أن ظفر بالعدو وخرج بعد ذلك إلى داره. وتقدم وجوه القواد وشيوخ الدولة بالمصير إلى أبي ركوة ومشاهدته ويقال أن الحاكم قد مضى من غد ذلك اليوم وقد رسم أن يشهر ويطاف به في مصر. واتفق دخول القائد ختكين الداعي وكان قدياً صاحب دواة الملك عضد الدولة فسلم عليه وقال له: ألك حاجة إلى أمير المؤمنين؟ فقال له: من أنت؟ قال: فلان. قال: عرفت حالك وسدادك وأريد أن توصل لي رقعة إلى أمير المؤمنين. فقال: اكتبها وهاتها. فاستدعى أبو ركوة دواةً من أصحاب الفضل ودرجاً وكتب فيه: يا أمير المؤمنين أن الذنوب عظيمة والدماء حرام ما لم يحلها سخطك وقد أحسنت وأسأت وما ظلمت إلا نفسي وسوء عملي أوبقني وأنا أقول فررت ولم يغن الفرار ومن يكن ... مع الله لا يحجزه في الأرض هارب ووالله ما كان الفرار لحاجةٍ ... سوى جزع الموت الذي أنا شارب وقد قادني جرمي إليك برمّتي ... كما أخرّ ميتاً في رحا الموت سالب واجمع كلّ الناس أنك قاتلي ... ويا ربّ ظنّ ربّه فيه كاذب وما هو إلا الانتقام تريده ... فأخذك من واجباً لك واجب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 105 فمضى ختكين إلى الحسين بن جوهر فعرفه ما جرى وأعطاه الرقعة فوقف عليها الحاكم. ثم ركب جملاً وعليه طرطور وخلفه قرد معلم يصفعه بالدرة وكان الحاكم قد جلس في منظرة على باب من أبواب القصر يعرف بباب الذهب فلما وقف به استغاث وصاح بطلب العفو فتقدم إلى مسعود السيفي بأن يخرجه إلى ظاهر القاهرة ويضرب عنقه على تل بازاء مسجد زيدان فلما حمل هناك وأنزل وجد ميتاً فقطع رأسه وحمله إلى الحاكم حتى شاهده وأمر بصلب جثته. وكان الفضل قد قطع رؤوس من قتل في الوقعة فقيل أنها كانت ثلاثين ألف رأس فلما شهرت عبيت في السلال وسيرت مع خدم شهروها في الشام حتى انتهوا بها إلى الرحبة ثم رميت في الفرات. وقدم الحاكم الفضل واقطعه وبالغ في اكرامه إلى أن عاده في علة عرضت له دفعتين فاستعظم الناس فعله معه فلما عوفي عمل عليه وقتله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 106 ولاية القائد حامد بن ملهم المذكور أولاً في سنة 399 وصل القائد حامد بن ملهم إلى دمشق والياً عليها لست بقين من رجب من السنة وقد كان القائد علي بن جعفر بن فلاح مستولياً على الجند نافذ الأمر في البلد فورد كتاب عزله في يوم الجمعة النصف من شهر رمضان من السنة وكانت مدة مقامه في الولاية إلى انصرافه ومسيره سنة واحدة وأربعة أشهر ونصف شهر. ثم تولى الأمر بعده القائد أبو عبد الله ابن نزال فدخل إلى دمشق وقرئ سجله على منبر المسجد الجامع وأقام المدة اليسيرة ثم وافاه كتاب العزل في يوم الأحد رابع عشر شهر رمضان سنة 400 فعزل وولى غلام القائد منير فأقام المدة اليسيرة ثم أتاه كتاب العزل فعزل وولى القائد مظفر في يوم الاثنين أول شهر ربيع الأول سنة 401 فأقام في الولاية ستة أشهر وتسعة أيام ثم عزل وولى مكانه القائد بدر العطار فأقام في الولاية شهرين وعشرة أيام وعزل وولى القائد لؤلؤ ولقب منتجب الدولة وتولى الأمر في يوم الأحد لسبع خلون من جمادى الآخرة سنة 401 ونزل في بيت لهيا وانتقل منها إلى الدكة ثم إلى مرج الأشعريين فأقام فيه أياماً ودخل القصر في الليل فلما أصبح دخل البلد وقرئ سجل ولايته على منبر الجامع ووافى كتاب عزله فعزل وانصرف. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 107 وقيل في أخبار الحاكم بأمر الله أنه أمر في سنة 398 بهدم بيعة القمامة في بيت المقدس وهي بيعة عند النصارى جليلة في نفوسهم يعظمونها والسبب في ذلك ما اتصل به من هدم الكنائس والبيع بمصر والشام والزم أهل الذمة الغيار ما قيل أن العادة جارية جاريةً بخروج النصارى بمصر في كل سنة في العماريات إلى بيت المقدس بحضور فصحهم في بيعة قمامة فخرجوا في سنة 398 على رسمهم في ذلك متظاهرين بالتجمل الكبير على مثل حال الحاج في خروجهم فسأل الحاكم ختكين العضدي الداعي وهو بين يديه عن أمر النصارى في قصدهم هذه البيعة وما يعتقدونه فيها واستوصفه صفتها وما يدعونه لها وكان ختكين يعرف أمرها بكثرة تردده إلى الشام وتكرره في الرسائل عن الحاكم إلى ولاتها فقال: هذه بيعة تقرب من المسجد الأقصى تعظمها النصارى أفضل تعظيم وتحج إليها ند فصحهم من كل البلاد وربما صار إليها ملوك الروم وكبراء البطارقة متنكرين ويحملون إليها الأموال الجنة والثياب والستور والفروش ويصوغون لها القناديل والصلبان والأواني من الذهب والفضة وقد اجتمع فيها من ذاك على قديم الزمان وحديثه الشيء العظيم قدر ما لمختلفة أصنافه فإذا حضروا يوم الفصح فيها وأظهروا مطرانهم ونصبوا صلبانهم وأقاموا صلواتهم ونواميسهم فهذا الذي يدخل في عقولهم ويوقع الشبهة في قلوبهم ويعلقون القناديل في بيت المذبح ويحتالون في إيصال النار إليها بدهن البلسان والته ومن طبيعته حدوث النار فيه مع دهن الزنبق وله ضياء ساطع وإزهار لامع يحتالون بحيلة يعملونها بين كل قنديل وما يليه حديداً ممدوداً كهيئة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 108 الخيط متصلاً من واحد إلى الآخر ويطلونه بدهن البلسان طلياً يخفونه من الأبصار حتى يسري الخيط إلى جميع القناديل فإذا صلوا وحان وقت النزول فتح باب المذبح وعندهم أن مهد عيسى عليه السلام فيه وأنه عرج به إلى السماء منه ودخلوا وأشعلوا الشموع الكثيرة واجتمع في البيت من أنفاس الخلق الكثير ما يحمي منه الموضع ويتوصل بعض القوام إلى أن يقرب النار من الخيط فيعلق به وينتقل بين القناديل من واحد إلى واحد ويشعل الكل ويقدره من يشاهد ذلك أن النار قد نزلت من السماء فاشتعلت تلك القناديل. فلما سمع الحاكم هذا الشرح استدعى بشر بن سور كاتب الانشاء وأمره بأن يكتب كتاباً إلى والي الرملة وإلى أحمد ابن يعقوب الداعي بقصد بيت المقدس واستصحاب الأشراف والقضاة والشهود ووجوه البلد وينزلا على بيت المقدس وقصد بيعة قمامة وفتحها ونهبها وأخذ كل ما فيها ونقضها وتعفية أثرها فإذا نجز الأمر في ذلك يعملانه محضراً وفيه الخطوط وينفذانه إلى حضرته. ووصل الكتاب إليهما فتوجها للعمل بما مثل إليهما وقد كانت النصارى بمصر عرفوا ما تقدم في هذا الباب فبادروا إلى بطرك البيعة وأعلموه الحال وأنذروه وحذروه فاستظهر بإخراج ما كان فيها من الفضة الذهب والجواهر والثياب ووصل بعد ذلك أصحاب الحاكم فأحاطوا بها وأمروا بنهبها وأخذوا من الباقي الموجود ما عظم قدره وهدمت أبنيتها وقلعت حجراً حجراً وكتب بذلك المحضر وكتبت الخطوط فيه كما رسم وأنفذ إلى الحاكم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 109 وشاع هذا الخبر بمصر فسر المسلمون به ودعوا للحاكم دعاء كبيراً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 110 على ما فعله ورفع أصحاب الأخبار إليه ما الناس من هذه الحال عليه ففرح بذلك وتقدم بهدم ما يكون في الأعمال من البيع والكنائس. ثم حدث من الأمور والانكار لمثل هذه الأعمال والاشفاق على الجوامع والمساجد والمشاهد في سائر الجهات والأعمال من هدمها والقصد بمثل العمل لها فوقف الأمر في هذا العزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 111 به ودعوا للحاكم دعاء كبيراً على ما فعله ورفع أصحاب الأخبار إليه ما الناس من هذه الحال عليه ففرح بذلك وتقدم بهدم ما يكون في الأعمال من البيع والكنائس. ثم حدث من الأمور والانكار لمثل هذه الأعمال والاشفاق على الجوامع والمساجد والمشاهد في سائر الجهات والأعمال من هدمها والقصد بمثل العمل لها فوقف الأمر في هذا العزم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 ولاية الأمير وجيه الدولة أبي المطاع من حمدان لدمشق بالأمر الحاكمي وصل الأمير وجيه الدولة أبو المطاع بن حمدان المعروف بذي القرنين إلى دمشق والياً عليها في يوم الجمعة عيد النحر من سنة 401 فصلى بالناس القائد لؤلؤ الوالي العيد ولى بهم الجمعة الأمير وجيه الدولة وانصرف القائد لؤلؤ عن الولاية فكانت مدة إقامته فيها ستة أشهر وثلاثة أيام وقرئ سجل الولاية على المنبر وأقام المدة التي أقامها ووصل القائد بدر العطار إلى دمشق والياً على الغوطتين والشرطة وجبل سير وعزل عنها وجيه الدولة بن حمدان في يوم الجعة لسبع خلون من جمادى الأولى من السنة فأقام فيه مديدةً ووصل القائد أبو عبد الله بن نزال عقيب وصوله إلى دمشق والياً عليها ونزل في المزة ودخل القصر في يوم الأحد لإحدى عشرة ليلةً خلت من جمادى الأولى من السنة فدامت ولايته إلى أن ورد كتاب عزله عنها وسار منها في يوم الثلاثاء سلخ ذي الحجة سنة 406 فكانت مدة ولايته ثلاث سنين وثمانية أشهر وعشرين يوماً. ووصل الأمير شهم الدولة شاتكين إلى دمشق والياً عليها في يوم الجمعة لعشر خلون من صفر سنة 407 وأقام ما أقام في الولاية ووصل القائد يوسف بن ياروخ وهو ابن زوجة الأمير شاتكين الوالي إلى دمشق والياً عليها وقرئ سجله بالولاية في ذي القعدة من السنة وسار شهم الدولة شاتكين الوالي إلى مصر لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة 408 ووصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 112 الأمير سديد الدولة أبو منصور والي دمشق والياً عليها في يوم الأحد لخمس بقين من ذي القعدة سنة 408 فنزل المزة ودخل القصر في غد ذلك اليوم فما شعر إلا وكتاب العزل قد وافاه يوم الأحد لخمس خلون من ربيع الآخر من سنة 409 فبرز من يومه إلى المزة وسار من غده ووصل كتاب ولي عهد المسلمين عبد الرحمن بن الياس أخي الحاكم إلى القائد بدر العطار في يوم السبت لليلة خلت من جمادى الأولى سنة 410 يأمره بضبط البلد ووصل بعد ذلك أبو القاسم عبد الرحمن وقيل عبد الرحيم ولي عهد المسلمين ابن الياس بن أحمد بن العزيز بالله إلى دمشق في يوم الثلاثاء لخمس بقين من جمادى الأولى سنة 410 فنزل في المزة فأحسن تلقيه وبولغ في اكرامه والاعظام له والسرور بمقدمه وكان ذلك له يوماً مشهوداً موصوفاً ودخل القصر في يوم الاثنين مستهل رجب فأقام فيه إلى يوم الأحد لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة 411 فلم يشعر إلا وقوم قد جردوا إليه من مصر فهجموا عليه وقتلوا جماعةً من أصحابه وساروا به في يوم الجمعة لثلاث بقين من شهر ربيع الأول وعاد بعد ذلك إلى دمشق في رجب سنة 412 ونزل في القصر. وأكثر الناس في التعجب من اختلاف الآراء في تدبير هذه الولايات وتنقل الأغراض والأهواء فيها ولم يشعروا وهم يتعجبون من هذه الأحوال واستمرار الاختلال إلا وقد وصل من مصر المعروف بابن داود المغربي على نجيب مسرع ومعه جماعة من الخدم في يوم الأحد في يوم عرفة بسجل إلى ولي عهد المسلمين المذكور ودخلوا عليه القصر وجرى بينه وبينهم كلام طويل إلا أنهم أخرجوه من القصر وضرب وجهه وأصبح الناس في يوم العيد لم يصلوا صلاة العيد في المصلى ولا في الجامع ولا خطب خطيب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 113 وساروا بولي العهد في اليوم المذكور إلى مصر فزاد عجب الناس وحاروا فيما هم فيه وتشاكوا ما ينزل بهم من الأحوال المضطربة والأعمال المختلفة. فوصل الأمير وجيه الدولة أبو المطاع بن حمدان إلى دمشق والياً عليها دفعةً ثانيةً بعد أولى وكان أديباً فاضلاً شاعراً سامياً مدبراً في يوم السبت لست خلون من جمادى الآخرة سنة 412 فأقام في الولاية مدة. ووصل الأمير شهاب الدولة شحتكين إلى دمشق والياً عليها في يوم الثلاثاء لسبع خلون من رجب من ذي القعدة سنة 414 فكانت ولايته سنتين وأربعة أشهر ويومين. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 114 ووصل الأمير وجيه الدولة أبو المطاع بن حمدان إلى دمشق والياً عليها دفعةً ثالثةً في يوم الأربعاء لسبع خلون من شهر ربيع الأول سنة 415 فأقام في الولاية ما أقام مع اختلاف الأحوال إلى أن تقررت الولاية لأمير الجيوش التزبري في سنة 419 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 115 ولاية أمير الجيوش التزبري الجيلي لدمشق في سنة 419 وشرح حاله وابتداء أمره والسبب في توليته وذكر شيء من أخباره إلى انتهاء مدته بحكم نميزه عن الولاة المذكورين بالشجاعة والشهامة وحسن السياسة واجمال السير والنصفة في العسكرية والرعية وحماية الأعمال بهيبته المشهورة وبفطنته المشكورة وتشتيت شمل أولي الفساد من الأعراب واستقامة الأمور بابالته على قضية الايثار والمراد. هو الأمير المظفر أمير الجيوش عدة الامام سيف الخلافة عضد الدولة شرف المعالي أبو منصور أنوشتكين مولده ما وراء النهر في بلد الترك في البلد المعروف بختل وسبي منه وحمل إلى كاشغر وهرب إلى بخارا وملك بها وحمل إلى بغداد ثم إلى دمشق وكان شتيم الوجه بين التركية وكان وصوله سنة 400 فاشتراه القائد تزبر بن اونيم الديلمي وكان ندبه لحماية أملاكه وصونها من الأذى فكفاه ذلك بشهامته وصرامته فاشتهر بذاك أمره وشاع ذكره وسئل مولاه أن يهديه للامام الحاكم بأمر الله وقيل بل وصله الأمر بحمله فحمل في جملة غلمان في سنة 403 فاستطرف من بينهم وجعل في الحجرة فقهر من بها من الغلمان وطال عليهم باليقظة والذكاء وجعل يلقب كل غلام بما يليق به فشكره إلى المتولي فضربه وتزايد أمره فأخرج منها في سنة 405 ولزم الخدمة وجعل يتقرب إلى الخاص والعام بكل ما يجد السبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 116 إليه من التودد والاكرام لما يريد الله تعالى من اسعاد جده واظهار سعده فارتضى الحاكم مذهبه في الخدمة وزاد في واجبه وقوده وسيره مع سديد الدولة ذي الكفايتين الضيف في العسكر إلى الشام في سنة 406 ودخل إلى البلد دمشق ولقي مولاه القائد دزبر فترجل له وقبل يده وصار يتودد إلى الكبير والصغير ونزل في دار حيوس بحضرة زقاق عطاف ثم عاد إلى مصر وجرد إلى الريف في السيارة ثم عاد إلى مصر ولزم الخدمة بالحضرة ولزم بعلبك والياً عليها وحسنت حاله فيها وانتشر ذكره بها وصادق ولاة الأطراف وكاتب عزيز الدولة فاتكاً والي حلب وهاداه ولقب منتجب الدولة وورد الأمر عليه بالمسير إلى الحضرة فلما بلغ العريش وصله النجاب بالسجل بولاية قيسارية والأمر بالعود إليها فشق ذلك عليه وقال: انقل من ولاية بعلبك إلى ولاية قيسارية. وكان من حسن سياسته فيها وجميل عشرته لأهليها وحمايته لها ما ذاع به ذكره وحسن به صيته وكثر شكره. وورد الخبر بقتل فاتك والي حلب سنة 412 قتله غلام له هندي قد رباه واصطفاه وتوثق به واجتباه كذا وهو نائم عقيب سكره بسيفه وعمل فيه شاعره المعروف بمفضل بن سعد قصيدةً رثاه بها وذكر فيها من بعض أبياتها لحمامه المقضيّ ربّى عبده ... ولنحره المفري حدّ حسامه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 117 وكتب إلى مجنتب الدولة بالمسير إلى الحضرة فوصلها وولي فلسطين ووصل إليها في يوم الثلاثاء من المحرم سنة 414 وبلغ حسان بن مفرج بن الجراح خبره فقلق له وتخوفه ثم علا ذكره وظهر أمره وكثرت عدته وعدته وقويت شوكته وجرت له وقائع مع العرب يستظهر فيها عليهم ويثخن فيهم فكبر بذلك شأنه ثم حسد وسعي فيه إلى الحضرة وكوتب الوزير حسن بن صالح في بابه بأمر قرره حسان بن مفرج بن الجراح ونسب إليه كل قبيح ومحال فاستؤذن في القبض عليه فأذن في ذلك فقبض عليه بعسقلان بحيلة دبرت له في سنة 417 وسأل فيه سعد السعداء فأجيب سؤاله لجلالة مكانه وأطلق من الاعتقال ووصل إلى الحضرة وحسنت حالته وظهرت هيبته وظهرت هيئة اقطاعه وغلمانه ودوابه وهو مع ذلك ينفذ رسله إلى الشام وسائر الأعمال وتأتيه بالأخبار ويطالع بها فكثر تعجب الوزير من يقظته ومضاء همته وعزيمته. وكانت العرب بعده قد استولت على الأعمال وأفسدت الشام وملك حسان املاك الملاك واتفق الخلف الجاري بين أرباب الدولة عقيب وفاة الحاكم وترافع القواد والولاة إلى أن تقررت الحال على صرف الوزير وتقليد الوزارة لنجيب الدولة علي بن أحمد الجرجرائي فنظر في الأعمال وهذب ما كان مستوياً عليها من الاضاعة والاهمال. واقتضت الآراء وصواب التدبير تجريد العساكر المصرية إلى الشام ووقع الاختيار في ذلك على الأمير منتجب الدولة فاستدعاه الوزير علي بن أحمد الجرجرائي وقال له: ما تحتاج إليه لخروجك إلى الشام ودمشق. فقال: فرسي البرذعية وخيمة استظل بها. فعجب الوزير من مقاله واستعاد فرسه المذكورة من سعيد السعداء وردها إليه وأطلق له خمسة آلاف دينار وأصحبه صدقة بن يوسف الفلاحي ناظراً في الأموال ونفقة الرجال وجردت العساكر معه ولقب بالأمير مظفر منتجب الدولة وخلع عليه وخرج إلى مخيمه وحملة من جرد معه سبعة ألف فارس وراجل سوى العرب وسار في ذي القعدة .... وودعه الامام الظاهر لاعزاز دين الله وعيد بالرملة عيد النحر وسار إلى بيت المقدس وجمع العساكر وقصد صالح بن مرداس وحسان بن مفرج وجموع العرب عند معرفته بتجميعهم ووقع اللقاء في القحوانة والتقى الفريقان فهزمت جموع العرب وأخذتهم السيوف وتحكمت فيهم. وكان صالح ابن مرداس على فرسه المشهور فوقف به من كد الهزيمة ولم ينهض به فلحقه رجل من العرب يعرف بطريف من فزارة فضربه بالسيف في رأسه وكان مكشوفاً فصاح ووقع ولم يعرفه وتم في طلب فرسه فمر به رجل من البادية فعرفه فقطع رأسه وعاد يرقص به فلقيه الأمير عز الدولة رافع فأخذه منه وجاء به إلى الأمير المظفر فلما رآه نزل عن فرسه وسجد لله شكراً على ما أولاه من الظفر وركب وأخذه بيده وجعله على ركبته وأطلق للزبيدي الذي جاء به ألف دينار ولعز الدولة رافع خمسة آلاف دينار وأطلق لطريف الذي ضربه بالسيف فرسه وجوشنه وألف دينار وأخذ الغلمان الأتراك الذين لصالح لنفسه وأحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 118 إليهم وتقدم بجمع الرؤوس وأنفذ جثة صالح إلى صيدا لتصلب على بابها وأوصل رأسه إلى الحضرة وخلع على الواصلين به وأعيدوا ومعهم الخلع وزيادة الألقاب للأمير المنتجب وقرئ سجله عليه وصار يكاتب ويخاطب بالأمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 119 المظفر سيف الامام وعدة الخلاف مصطفى الملك منتجب الدولة. وقال فيه الأمير أبو القينان محمد ابن سلطان بن محمد بن حيوش من قصيدة امتدحه بها: فكم ليلةٍ نام عني الرقيب ... ونبّهني القمر المرتقب جمعت بها بين ماء الغمام ... وماء الرضاب وماء العنب لجود المظفّر سيف الامام ... وعدته المصطفى المنتجب ولما توجه عقيب ذلك إلى حلب ونزل عليها ظفر بشبل الدولة نصر بن صالح وكان قد انهزم ولحقه رجل فرماه بخشت في كتفه فأنفذه ووقع عن فرسه وسر به أحد الأتراك فقطع رأسه وسلمه إلى رافع وأنفذ من يسلم جثته إلى حماة فصلبت على الحصن وأمر أمير الجيوش بعد ذاك بانفاذ ثياب وطيب وتكفين الجثة في تابوت ودفنها في المسجد وبقيت فيه إلى سنة 439 ونقلها مقلد بن كامل لما ملك حماة إلى قلعة حلب. وأنفذ الراس والتركي والبدوي مع الشريف الزيدي إلى الحضرة في نصف شعبان سنة 429 وعاد أمير الجيوش إلى دمشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 120 ونزل في القصر وأقام فيها ما أقام وسار منها إلى حلب ونزل على السعدي وفتحت له أبواب البلد ودخله وأحسن إلى أهله ورد ما كان صالح اغتصبه من الأملاك إلى أربابها وأمر بقتال القلعة فقوتلت وهو قائم وراسله مقلد بن كامل المقيم بها وسلمها إليه وأقطعه عدة مواضع وسكن في دار عزيز الدولة وتزوج بنت الأمير منصور بن زغيب ووصله السجل من الحضرة باقطاعه حلب وعاد إلى دمشق وشرع في عمارة الدار بالقصر. ثم بلغه عن الوزير علي بن أحمد الجرجرائي وعن الظاهر ما أوجب الاستيحاش منه والنفور عنه فعزم على العود إلى حلب فظهر له من أجناده ما أنكره فهموا بالقيام عليه فسار من القصر بعد أن أمر الغلمان بنهب ما في القصر ووصل إلى حلب ودخلها في يوم الاثنين لأربع خلون من شهر ربيع الآخر ونزل في دار سعد الدولة واجتمع بزوجته وابنته الواصلين من مصر ولازم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 121 الشراب وصح عليه جسمه. وبلغه وصول سجل من مصر إلى دمشق عن الحضرة قرئ على المنبر يقال فيه: أما بعد فإنه قد علم الحاضر والبادي والموالف والمعادي حال أنوشتكين الدزبري الخائن وأنه كان مملوكاً لدزبر بن أونيم الحاكمي وأهداه إلى أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله فنقله إلى المراتب إلى أن انتهى أمره إلى ما انتهى إليه فلما تغيرت نيته سلبه الله تعالى نعمته لقوله تعالى إن الله لا يغير ما يقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فشق هذا الأمر عليه وضاق صدره لاسقاط نعوته وقلق لذلك وليس من العود إلى دمشق وقد كان عازماً على العود. ثم وصله السجل عن الحضرة صحبة بعض العرب نسخته: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله ووليه الامام معد أبي تميم المستنصر بالله أمير المؤمنين إلى أنوشتكين مولى دزبر بن أونيم الديلمي. أما بعد فإن الله بقضيته العادلة ومشيئته البالغة لم يك مغيراً ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم وإذا أراد الله بقوم سوءاً فلا مرد له وما لهم من دون من وال مع ما أنك أجرمت على نفسك في يومك وأمسك واستوجبت بذلك مقام الحلول من نحسك فلا تعجب بعذاب الله عندما أسرفت ووبيل عقابه عندما خالفت فإن الله تعالى يقول مخاطباً لذوي العقول فمهل الكافرين أمهلهم رويداً وتالله لقد جددت بمسيرك إلى حلب لبعد أملك وانقطاع أجلك وإنما بقي لك الأيام قلائل ويكثر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 122 لك الندم وتحل بك النقم إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها وإن مثلك مثل شاة عطشانة ولهانة ضائعة جائعة نزلت في مرج أفيح غزير ماؤه كثير عشبه ومرعاه فشربت ماء وأكلت عشباً فرويت بعد ظمائها وشبعت بعد جوعها واستحسنت بعد قبحها فلما تكامل حسنها ذبحت ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون وأن أمير المؤمنين يضرب لك مثلاً عن جده المصطفى - صلى الله عليه وسلم - لما أنزل عليه " والضحى والليل إذا سبحا ما ودّعك ربَك وما قالَ " إلى قوله عز وجل: " ألم يجدك يتيماً فآوَى ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأَغنى " فبدلت النعمة كفراً ووضعت موضع الخير شراً وقد انتهى إلى حضرة أمير المؤمنين افتخارك بجميع الأموال واكتنازك لها لأمر لا يدهمك أو ليوم ينفعك أفما قرأت القرآن العظيم أما تدبرت قول الملك الرحيم في قصة قارون لما بغى واعتدى وازداد في الطغيان حيث يقول جل وعلا: " فخسفنا به وبداره الأرض " فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين أما رأيت الأمم الماضية الذين عادوا الدولة ونصبوا لها العداوة الشديدة انظر إلى ديارهم كيف قل فيها الساكنون وكثر عليها الباكون قال الله تعالى: " فتلك بيوتهم حاويةً بما ظلموا " إن في ذلك لآية لقوم يعلمون فاشتغل عن اصلاح العين وعن خطرك في حساب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 123 الفرقدين وافتكر في رب المشرقين ورب المغربين حيث يقول جل جلاله: " أَلم نجعل لهُ عينين ولساناً وشفتين وهديناه النجدين " وقد عرف أمير المؤمنين بكتاب الله الأعلى الذي نزل على خاتم الأنبياء حيث يقول: " وسيعلم الذين ظلموا أيَّ منقلب ينقلبون " فلما سمع ما اشتمل عليه هذا السجل من الانكار والوعظ بالآيات والتخويف عظم الأمر عليه وضاق صدره لتغير النية فيه ورأى من الصواب إعادة الجواب بالتلطف والتنصل مما ظن به والاعتذار والترفق في المقال والاعتراف بما شمله قديماً وحديثاً من الاحسان والافضال فكتب بعد البسملة: كتب عبد الدولة العلوية والامامية الفاطمية والخلافة المهدية عن سلامة تحت ظلها ونعمة منوطة بكفلها وهو متبرئ إليها من ذنوبه الموبقة واسائته المرهقة لا بد بعفو أمير المؤمنين متنصل أن يكون في جملة المجرمين المذنبين عن غير اساءة اقترفها ولا جناية احتقبها عائد بكرمها صابر لحكمها لقوله تعالى " وبشّر الصابرين " وهو تحت خوف ورجاء وتضرع ودعاء قد ذلت نفسه بعد عزها وخافت بعد أمنها ورسخت بعد رفعتها ومن يضلل الله فما له من هاد وأي قرب لمن أبعدته وأي رفعة لمن حططته والعبد يفخرها شمخ ويحدرها طال وبذخ فزلت نصبته وطالت أرومته وسمت فروعه وكان كقوله تعالى " وَضَرَبَ الله مثلاً كلمةً طيّبة كشجرة طيّبةٍ أَصلها ثابتٌ وفرعها في السماء تُؤتي أُكُلها كل حينٍ باذن ربّها ". فلما أنكرت الدولة حاله وقبحت أفعاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 124 وأزرت عليه خذله الأنصار وقل بعد الاكثار فصار كقول الملك الجبار مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار غير أن العبد يتوسل بوكيد خدمته وقديم نصيحته ومجاهدته لأعداء الدولة مذكراً قول الله تعالى " والذين قتلوا في سبيل الله فَلَنْ يُصلّ أَعمالهم سيهديهم ويصلح بالَهم " وهو مع ذلك معترف بذنوب ما جناها واساء ما أتاها ذاكراً ما نزل الله في كتابه المبين على سيد المرسلين " وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً عسى الله أن يتوب عليهم إِنَّ الله غفورٌ رحيمٌ " عفا الله عن أمير المؤمنين أهل بيت العفو والكرامة لجميع الأمم وفيهم نزلت الآيات والحكم قال الله تعالى " وليعفوا وليصفحوا أَلا تحبُّون أَنْ يغفِر الله لكم " وليس مسير العبد إلى حلب ينجيه من سطوات مواليه لقوله تعالى " قل [متاع الدنيا قليل والآخرة خير لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا. أينما تكونوا يدرككم الموت و] لو كنتم في بروج مشيَّدةٍ " والذين كتب عليهم القتل [يدركهم] إلى مضاجعهم لكنه بعد توصله واعترافه بجرائره وذنوبه وتنصله يرجو قبول توبته وتمهيد عذره في إنابته ولله الأمر من قبل ومن بعد ولأمير المؤمنين في كل قول وحد فقد وعد الله المسرفين على أنفسهم فقال تعالى " قُل يا عبادي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 125 الذين أسرفوا على أنفسكم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم " وأما ما رقي إلى الحضرة المطهرة عن العبد في كثرة الأموال وجمعها فذلك طباع ولد آدم في حب اللجين والعسجد وما عليه في الدنيا يعتمد نعوذ بالله أن يكون ذاك لمضادة أو مقاومة أو مكاثرة أو مقابلة لكنها معدة للجهاد في أعداء أمير المؤمنين ومبذولة في نصرة أوليائه المخلصين إذ يقول تعالى وله المثل الأعلى " وأَعدُّوا لهم ما استطعتم من قوَّة ومن رباط الخيل تُرهبون بهِ عدوّ الله وعدوَّكم " ولقد قرئ على العبد القرآن العظيم فوجده منوطاً بطاعة امام الزمان وهو ولي العفو والغفران عن أهل الاساءة والعدوان مكرراً لقول الملك الديان " والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحبُّ المحسنين ". وأنفذ هو الجواب صحبة الرسول الواصل بعد إكرامه وطلع عقيب ذلك إلى قلعة حلب في يوم الأربعاء لعشر خلون من جمادى الأولى وبات ليلة الجمعة واقشعر جسمه وقت صلاة الظهر واشتدت به الحمى فأحضر طبيباً من حلب وشرح له حاله فوصف له مسهلاً فلما حضر لم تطب نفسه لشربه ولحقه فالج في يده اليمنى ورجله اليمنى وزاد قلقه وقضى نحبه في الثلاث الأخير من ليلة الأحد لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى سنة 436. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 126 وله أخبار محمود في حسن السيرة والعدل والنصفة والذكاء والمعرفة وذكر المال الذي خلفه بقلعة حلب بعد وفاته ستمائة ألف دينار سوى الآلات والعروض وقيمة الغلات مائة ألف دينار وأخذ له من دمشق وفلسطين مائتا ألف دينار وكان له مع التجار خمسون ألف دينار ونهب له من القصر بدمشق مائتا ألف دينار. وخلف من الأولاد هبة الله من بنت وهب بن حسان ماتت أمه وعمره أربعون يوماً وأبوه وله شهران وسنة وأربع بنات إحداهن من بنت الأمير حسام الدولة البجناكي وابنة من بنت عزيز الدولة رافع بن أبي الليل وابنتان من جاريتان وهبهما في القصر فأما هبة الله فإنه حمل إلى الحضرة وأكرم بها وكفله رضي الدولة غلامه وعاش ست سنين وسقط عن فرسه فمات والبنت من بنت حسام الدولة تزوجها الأمير صارم الدولة ذو الفضيلتين والبنت من بنت رافع نقلت إلى حلة أخوالها من بني كلاب. ثم رأت الحضرة في سنة 448 نقل أمير الجيوش من تربته بحلب إلى تربته ببيت المقدس فأمرت بنقله في تابوت على طريق الساحل وكان يحط بخيمة وما يمر ببلد إلا كان وصوله يوماً مشهوداً وأخرجت الحضرة ثياباً حسنةً وطيباً كثيراً وأمرت الشريف أثير الدولة ابن الكوفي أن يتولى تكفينه ودفنه وأن يأمر من بالرملة من غلمانه بالتحفي والمشي خلف جنازته وأن ينادي بألقابه فنودي بها ودفن في التربة التي له في بيت المقدس مع أولاده فسبحان من لا يزول ملكه ولا يخيب من عمل بطاعته المجازي عن إحسان السيرة بالاحسان وعن السيئات في العقبى والماآل ذو الجلال والكمال الغفور الرحيم بنت عزيز الدولة رافع بن أبي الليل وابنتان من جاريتان وهبهما في القصر فأما هبة الله فإنه حمل إلى الحضرة وأكرم بها وكفله رضي الدولة غلامه وعاش ست سنين وسقط عن فرسه فمات والبنت من بنت حسام الدولة تزوجها الأمير صارم الدولة ذو الفضيلتين والبنت من بنت رافع نقلت إلى حلة أخوالها من بني كلاب. ثم رأت الحضرة في سنة 448 نقل أمير الجيوش من تربته بحلب إلى تربته ببيت المقدس فأمرت بنقله في تابوت على طريق الساحل وكان يحط بخيمة وما يمر ببلد إلا كان وصوله يوماً مشهوداً وأخرجت الحضرة ثياباً حسنةً وطيباً كثيراً وأمرت الشريف أثير الدولة ابن الكوفي أن يتولى تكفينه ودفنه وأن يأمر من بالرملة من غلمانه بالتحفي والمشي خلف جنازته وأن ينادي بألقابه فنودي بها ودفن في التربة التي له في بيت المقدس مع أولاده فسبحان من لا يزول ملكه ولا يخيب من عمل بطاعته المجازي عن إحسان السيرة بالاحسان وعن السيئات في العقبى والماآل ذو الجلال والكمال الغفور الرحيم ولما زاد أمر الحاكم بأمر الله في عسف الناس وما ارتكبه من سفك الدماء وإفاظة النفوس وأخذ الأموال والفتك بالكبار والعمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 127 والفتك بالمقدمين من الوزراء والقواد وأكابر الأجناد وعدل عن حسن السياسة والسداد وزاد خوف خدمه وخواصه منه واستوحشوا من فعله وشكا المقدمون والوجوه إلى أخته ست الملك بنت العزيز بالله هذه الأحوال فأنكرت ما أنكروه وأكبرت ما أكبروه واعترفت بصحة ما شكوه وحقيقة ما كرهوه ووعدتهم احسان التدبير في كف شره واجمال النظر في أموره وأمره ولم تجد فيه حيلة يحسم بها داؤه إلا العمل على إهلاكه وكف أذاه بعدمه وأعملت الرأي في ذلك وأسرته في انفس إلى أن وجدت الفرصة متسهلة فابتدرتها والعرة باديةً فاهتبلتها ورتبت له من اغتاله في بعض مقاصده وأخفى مظانه فأتى عليه وأخفى أمره إلى أن ظهر في عيد النحر من سنة 411. وقال المغالون في المذهب أنه غائب في سره ولا بد أن يؤوب ومستتر في غيبه ولا بد أن يرجع إلى منصبه ويثوب وكان مولده بالقاهرة ليلة الخميس الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 375 وولي الأمر وعمره عشر سنين وستة أشهر وستة أيام وفقد في العشر الأول من شوال سنة 411 وعمره ست وثلاثون سنة ومدة أيامه خمس وعشرون سنة وشهران وأيام ونقش خاتمه بنصر الاله العلي ينتصر الامام أبو علي وكان غليظ الطبع قاسي القلب سفاكاً للدماء قبيح السيرة مذموم السياسة شديد التعجرف والاقدام على القتل غير محافظ على حرمة خادم ناصح ولا صاحب مناصح. وقام في الأمر بعده ولده أبو الحسن علي الظاهر لاعزاز الله وأخذت له البيعة بعد أبيه في يوم عيد النحر من سنة 411 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 128 واستقامت الأمور بعد ميلها وأمنت النفوس بعد وجلها وحسنت السيرة بعد قبحها وارتضيت السياسة بعد النفور عنها ورد تدبير الأعمال والنظر فيها وتسديد الأحوال ولم ما تشعث منها إلى الوزير صفي أمير المؤمنين وخالصته أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي وكتب له السجل بالتقليد من إنشاء ولي الدولة أبي علي بن خيران متولي الانشاء وقرئ بالحضرة على القواد والمقدمين في ذي الحجة سنة 418 ونسخته بعد البسملة: أما بعد فالحمد لله مطلق الالسن بذكره ومجزل النعم بشكره ومصرف الأمور على حكم إرادته وأمره الذي استحمد بالطول والنعماء وتمجد بالحكمة والسناء وملك ملكوت الأرض والسماء واستغنى عن الظهراء والوزراء وأكرم عباده بأن جعل تذكرته لهم في صحف مكرمة مرفوعة مظهرة بأيدي سفرة كرام برزةً فسبحان من نظر لخلقه فأحسن وأنعم وعلم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم يحمده أمير المؤمنين حمد مخلص في الحمد والشكر متخصص بشرف الأمانة ونفاذ النهى والأمر ويرغب الله تعالى في الصلاة على نبيه محمد الذي نزل عليه الفرقان ليكون للعالمين نذيراً وعز به الايمان وجعل له من لديه سلطاناً نصيراً وانتخب أبانا علياً أمير المؤمنين أخاً وزيراً وصيره على أمر الدين والدنيا منجداً له وظهيراً صلى الله عليهما وسلم على العترة الزاكية من سلالتهما سلاماً دائماً كثيراً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 129 وإن أحق من عول عليه في الوزارة وأسند إليه أمر السفارة ونصب لحفظ الأموال وتمييزها وسياسة الأعمال وتدبيرها وإيالة طوالف الرجال كبيرها وصغيرها من كان حفيظاً لما يستحفظ من الأمور قووماً بمصالح الجمهور عليماً بمجاري السياسة والتدبير ولذاك قال يوسف الصديق عليه السلام اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليهم ولو استغنى أحد من رعاة العباد عن وزير وظهير يكاتبه على أمره ويظاهره لكان كليم الله موسى صلى الله عليه وهو القوي الأمين عنه مستغنياً ولم يكن له من الله جل جلاله طالباً مستدعياً وقد قال رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدةً من لساني يفقهوا قولي واجعل لي وزيراً من أهلي هرون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيراً ونذكرك كثيراً ولما كنت بالأمانة والكفاية علماً وعند أهل المعرفة والدراية مقدماً وكان الكتاب على اختلاف طبقاتهم وتفاوت درجاتهم يسلمون إليك في الكتابة ويقتدون بك في الاصابة ويشهدون لك بالتقدم في العناء ويهتدون بحلمك اهتداء السفر بالنجم في الليلة الظلماء ولا يتناكرون الانحطاط عن درجتك في الفضل لتفاوتها في الارتفاع ولا يرد ذلك راد من الناس أجمعين الا خصمه وقوع الاجماع هذا مع المعروف من استقلالك بالسياسة واستكمالك لأدوات الرئاسة وتدبيرك أمور المملكة وما ألف برشد وساطتك من سمو اليمن والبركة رأي أمير المؤمنين وبالله توفيقه أن يستكفيك أمر وزارته وينزلك أعلى منازل الاصطفاء بخاص أثرته ويرفعك على جميع الأكفاء بتام تكرمته وينوه باسمك تنويهاً لم يكن لأحد قبلك من الظهراء في دولته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 130 فسماك بالوزير لموازرتك له على حمل الأعباء ووكد هذا الاسم بالأجل لأنك أجل الوزراء وعزز ذلك بصفي أمير المؤمنين وخالصته إذ كنت أعز الخلصاء والأصفياء وشرفك بالتكنية تسميقاً بك في العلياء ودعا لك بأن يمتعه الله بك ويؤيدك ويعضدك دعاءً يجيبه فيك رب السماء فأنت الوزير الأجل صفي أمير المؤمنين وخالصته المحبو بالمن الجسيم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم وأمر أمير المؤمنين بأن تدعى بهذه الأسماء وتخاطب وتكتب بها عن نفسك وتكاتب ورسم ذكر ذلك فيما يجري من المحاورات واثباته في ضروب المكاتبات ليثبت ثبوت الاستقرار ويبقى وسمه على مر الليالي والنهار فأحمد الله تبارك وتعالى على تمييز أمير المؤمنين لك بتشريفه واختصاصه واجلاله إياك أعلى محال خواصه وأجر على سننك الحميد في خدمته ومذهبك الرشيد في مناصحته إذ كان قد فوض إليك أمر وزارته وجعلك الوسيط بينه وبين أوليائه وأنصار دعوته وولاة أعمال مملكته وكتاب دواوينه وسائر عبيده ورعيته شرقاً وغرباً وقرباً وبعداً وأمضى توقيع من تنصبه للتوقيع عن أمير المؤمنين في الإخراج والإنفاق والايجاب والاطلاق وناط بك أزمة الحل والعقد والابرام والنقض والقبض والبسط والاثبات والحط والتصريف والصرف تفويضاً إلى أمانتك التي لا يقدح فيها معاب وسكوناً إلى ثقتك التي لا يلم بها ارتياب وعلماً بأنك تورد وتصدر عن علم وحزم تفوق فيهما كل مقاوم ولا تأخذك في المناصحة لأمير المؤمنين والاحتياط له لومة لائم وجميع ما يوصي به غيرك ليكون له تذكرةً وعليه حجة فهو مستغنىً عنه معك لأنك تغني بفرط معرفتك عن التعريف ولا تحتاج مع وقوفك على الصواب وعلمك به إلى توقيف غير إن أمير المؤمنين يؤكد عليك الأمر بحسن النظر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 131 لرجال دولته دانيهم وقاصيهم بارك الله فيهم وأن يتوفر على ما يعود بصلاح أحوالهم وانفساح أمالهم وانشراح صدورهم وانتظام أمورهم إذ كانوا كتائب الاسلام ومعاقل الأنام وأنصار أمير المؤمنين المحفوفين بالاحسان والانعام حتى تحسن أحوالهم بجميل نظرك ويزول سوء الأثر فيهم بحسن أثرك وكذلك الرعايا بالحضرة وأعمال الدولة فأمرهم من المعني به والمسؤول عنه وأمير المؤمنين يأمرك بأن تستشف خيرة الولاية فيهم فمن ألفيته من الرعية مظلوماً أوعزت بنصفته ومن صادفته من الولاة ظلوماً تقدمت بصرفه وحسم مضرته ومعرته. فأما الناظرون في الأموال من ولاة الدواوين والعمال فقد أقام أمير المؤمنين عليهم منك المنقي الزكاء طباً بالأدواء لا يصانع ولا تطيبه المطامع ولا ينفق عليه المنافق ولا يعتصم منه الخؤون السارق كما إنه لا يخاف لديه الثقة الناصح ولا يخشى عاديته الأمين في خدمته المجتهد الكادح والذي يدعو المتصرف إلى أن يحمل نفسه على الخطة النكراء في الاحتجار والارتشاء أحد أمرين أما حاجة تضطره إلى ذلك أو جهالة تورده المهالك فإن كان محتاجاً سد رزق الخدمة فاقته ورجا الراجون برءه من مرض الاسفاف وإفاقته وإن كان جاهلاً فالجاهل لا يبالي على ما أقدم عليه ولا يفكر في عاقبة ما يصير أمره إليه ومن جمع هذين القسمين كانت نفسه أبداً تسف ولا تعف ويده تكف ولا تكف ووطأته تثقل ولا تخف فلا ترب من تنزه وعف ولا أثرى من رضي لنفسه بدنيء المكسب وأسف. وما يستزيدك أمير المؤمنين على ما عندك من حسن التأني والاجتهاد في اصلاح الفاسد واستصلاح المعاند واستفاءة الشارد بالمعصية إلى طاعنه وإعطاء رجال الدولة ما توجب لها حقوق الخدمة من فضل نعمته، وأمير المؤمنين يقول بعد ذلك قولاً يؤثر عنده في المشرق والمغرب ويصل إلى الأبعد والأقرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 132 إن أكثر من وقع عليه اسم الوزارة قبلك إنما تهيأ له ذلك بالحظ والاتفاق ولم يوقع اسمها عليك ويعذق بك أمرها إلا باستيجاب واستحقاق لأنها احتاجت إليك حاجة الرمح إلى عامله والعبء إلى حامله والمكفور إلى كافله. وكم أفرجت عن الطريق إليها لسواك واجتهدت أن يعدوك مقامها إكباراً له فما عداك والله يكتب بجميل رأي أمير المؤمنين حسدتك وعداك ويتولاك بالمعونة على ما قلدك وولاك ويمتعه ببقائك كما أمتعه بكفايتك وغنائك ويخير له في استيزارك كما خار له من قبل في اصطناعك وإيثارك بمنه وكرمه والسلام عليك ورحمة الله وكتب يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة 418هـ بكفايتك وغنائك ويخير له في استيزارك كما خار له من قبل في اصطناعك وإيثارك بمنه وكرمه والسلام عليك ورحمة الله وكتب يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة 418 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 133 ولاية القائد ناصر الدولة أبي محمد الحسن بن الحسين بن حمدان لدمشق في سنة 433 بعد أمير الجيوش أنوشتكين الدزبري وصل الأمير المظفر ناصر الدولة وسيفها ذو المجدين أبو محمد الحسن بن الحسين بن حمدان إلى دمشق والياً عليها في جمادى الآخرة سنة 433 في يوم الأربعاء السادس عشر منه وقرئ سجله بالولاية بألقابه والدعاء له فيه سلمه الله وحفظه ووصل معه الشريف فخر الدولة نقيب الطالبيين أبو يعلي حمزة بن الحسين بن العباس بن الحسن بن الحسين بن أبي المجن بن علي بن محمد بن علي بن إسمعيل بن جعفر الصادق عليه السلام فأقام في الولاية أمراً ناهياً إلى أن وصل من مصر من قبض عليه بدمشق وسيره معه إلى مصر في يوم الجمعة مستهل رجب سنة 0440 وفي سنة 36 وردت الأخبار من ناحية العراق بظهور راية السلطان ركن الدنيا والدين طغرلبك محمد بن ميكائيل بن سلجق وقوة شوكة الأتراك وابتداء دولتهم واستيلائهم على الأعمال وضعف أركان الدولة البويهية واضطراب أحوال مقدميها وأمرائها. وفي سنة 427 وردت الأخبار من ناحية مصر بوفاة الامام الظاهر لاعزاز دين الله أبي الحسن علي بن الحاكم بأمر الله بالاستسقاء في ليلة الأحد النصف من شعبان سنة 427 وعمره اثنتان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 134 وثلاثون سنة ومولده بالقاهرة في شهر رمضان سنة 395 ومدة أيامه خمس عشرة سنة وثمانية أشهر وخمسة أيام ونقش خاتمه بنصر ذي الجود والمتن ينتصر الامام أبو الحسن وكان جميل السيرة حسن السياسة منصفاً للرعية إلا انه متشاغل باللذة محب للدعة والراحة معتمد في إصلاح الأعمال وتدبير العمال وحفظ الأموال وسياسة الأجناد وعمارة البلاد على الوزير أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي لسكونه إلى كفايته وثقته بغنائه ونهضته. ثم تولى الأمر بعده ولده أبو تميم معد المستنصر بالله أمير المؤمنين وعمره سبع سنين وشهران وأخذت البيعة له بعد أبيه في شعبان سنة 427. وفي أيامه ثارت الفتن من بني حمدان وأكابر القواد ووجوه العسكرية والأجناد وغليت الأسعار وقلت الأقوات واضطربت الأحوال واختلت الأعمال وحصر في قصره وطمح في خلعه لضعف أمره ولم يزل الأمر على هذه الحال إلى أن استدعى أمير الجيوش بدر الجمالي من عكاء إلى مصر في سنة 465 فاستولى على الوزارة والتدبير بمصر وقتل من قتل من المقدمين والأجناد وطالبي الفساد وتمهدت الأمور وسكنت الدهماء والزم المستنصر بالله القصر ولم يبق له نهي ولا أمر إلا الركوب في العيدين ولم يزل كذلك إلى أن توفي أمير الجيوش وانتصب مكانه ولده الأفضل أبو القاسم شاهنشاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 135 ولاية القائد طارق الصقلبي المستنصري لدمشق في سنة 440 وصل الأمير بهاء الدولة وصارمها طارق المستنصري إلى دمشق والياً عليها في يوم الجمعة مستهل رجب سنة 440 وقرئ سجل ولايته والدعاء له سلمه الله وحفظه وعند دخوله وقع القبض على الأمير ناصر الدولة بن حمدان الوالي المقدم ذكره وسير إلى مصر وتسلم الأمير طارق الولاية يأمر فيها. ووردت الأخبار من ناحية مصر في سنة 436 بوفاة الوزير أبي القاسم علي بن أحمد الجرجرائي وزير المستنصر بالله في داره آخر نهار الأربعاء السادس من شهر رمضان بعلة الاستسقاء وصلى عليه المستنصر بالله في القصر ودفن في دار الوزارة وقلد مكانه الوزير أبو نصر صدقة بن يوسف الفلاحي وخلع عليه في يوم الثلاثاء الحادي عشر من شهر رمضان من السنة وقبض على أبي علي ابن الأنباري صاحب الوزير أبي القسم علي بن أحمد وحمله إلى خزانة البنود وسعى في قتله فيها ودفنه وما مضى إلا القليل وقبض على الوزير أبي نصر صدقة بن يوسف الفلاحي وحمل إلى خزانة البنود في يوم الاثنين الخامس من المحرم سنة 440 وقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 136 سحرة يوم الاثنين في المكان الذي قتل فيه ابن الأنباري وقيل إنه دفن معه في قبره ونظر في الوزارة أبو البركات ابن أخي الوزير علي بن أحمد الجرجرائي وقبض عليه بعد ذلك في ليلة يوم الاثنين النصف من شوال سنة 441 وفترت الأمور إلى أن استقرت الوزارة لقاضي القضاة أبي محمد الحسن بن عبد الرحمن اليازوري. ووردت الأخبار من مصر بأن المستنصر بالله خلع على وزيره قاضي القضاة أبي محمد اليازوري في الرابع من ذي القعدة سنة 443 خلعاً فاخرةً كانت غلالة قصباً وطاقاً وقميصاً دبيقياً وطيلساناً وعمامةً قصباً وحمله على فرس رائع بمركب من ذهب وزنه ألف مثقال وقاد بين يديه خمسة وعشرين فرساً وبغلاً بمراكب ذهب وفضة وحمل معه خمسون سفطاً ثياباً أصنافاً وزاد في نعوته وألقابه وخلع على أولاده خلعاً تليق بهم وكتب له سجل التقليد بانشاء ولي الدولة أبي علي بن خيران وبالغ في احسان وصفه وتقريضه واطرائه واحماد رأيه وما اقتضاه الرأي من اصطفائه للوزارة واجتبائه وقرئ بحضرة المستنصر بالله بين قواده وخدمه ووجوه أجناده وقيل إن هذا الاكرام مقابلة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 137 على ما كان منه في التدبير على العرب المفسدين من بني قرة في فلهم والنكاية فيهم وحسم أسباب شرهم وتشتيت شملهم ونسخة هذا السجل المذكور بعد البسملة: .......... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 138 ولاية رفق المستنصري لدمشق في سنة 441 وصل الأمير عدة الدولة أمير الأمراء رفق المستنصري إلى دمشق والياً عليها في يوم الخميس الثاني عشر من المحرم سنة 441 في عدة وافرة من الرجال وثروة وافرة من العدد والمال وقرئ سجله بالولاية وأقام بها مدة يأمر فيها وينهي ويحل ويعقد ويصدر في الأمور ويورد ثم وصله الأمر من مصر بمسيره إلى حلب لأمر اقتضته الآراء المستنصرية من صرفه عنها وتوليتها للأمير المؤيد فسار منها وتوجه إلى حلب في يوم الخميس السادس من صفر من السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 139 ولاية الأمير المؤيد عدة الامام في سنة 441 بعد الأمين رفق وصل الأمير المؤيد عدة الامام مصطفى الملك معين الدولة ذو الرئاستين حيدرة بن الأمير عضب الدولة بن حسين بن مفلح إلى دمشق والياً عليها في مستهل رجب سنة 441 فحمل معه سديد الدولة ذو الكفايتين أبو محمد الحسين بن حسن الماشكي ناظراً في الشام جميعة حربه وخراجه وقرئ منشور الولاية والدعاء له سلمه الله وحفظه فتسلم الولاية في سنة 442 يأمر فيها وينهي على عادة الولاة واستقامت له أمور الولاية على ما يؤثره ويهواه وأحسن السيرة في العسكرية والرعية فحمدت طريقته وارتضيت إيالته واستمرت عليه الأيام في الولاية إلى سنة 448 التي بني هذا المذيل عليها وعادت سياقة الحوادث منها وإيراد ما فيها وتجدد بعدها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 140 سنة ثمان وأربعين وأربعمائة فيها وردت الأخبار من ناحية العراق بانعقاد أمر الوصلة بين الامام القائم بأمر الله وبين بنت الملك داود أخي السلطان ركن الدنيا والدين طغرلبك وكان العقد أولاً لولده ذخيرة الدين فلما قضى الله عليه بالوفاة نقل العقد إلى الخليفة القائم بأمر الله في يوم الأربعاء لسبع بقين من المحرم من السنة ووصلت البنت المذكورة من مدينة الري إلى بغداد في الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول من السنة. وفي هذه السنة ولد الامام المقتدي بالله عبد الله بن ذخيرة الدين ابن القائم بأمر الله في ليلة الأربعاء الثاني من جمادى الأولى من السنة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 141 وفيها وردت الأخبار من مصر بقلة الأقوات وغلاء الأسعار واشتداد الأمر في ذلك إلى أوان زيادة النيل فظهر من القوت ووجوده ما طابت به النفوس وصلحت معه الأحوال سنة تسع وأربعين وأربعمائة في هذه السنة وردت الأخبار بتسلم الأمير مكين الدولة قلعة حلب من معز الدولة وحصل فيها في الخميس لثلاث بقين من ذي القعدة منها وأقام بها مدة أربع سنين يخطب فيها للمستنصر بالله صاحب مصر. وفيها توفي القاضي أبو الحسين عبد الوهاب بن أحمد ابن هرون سنة خمسين وأربعمائة فيها وصل الأمير ناصر الدولة وسيفها ذو المجدين أبو محمد الحسين بن الحسن ابن حمدان إلى دمشق والياً عليها دفعةً ثانيةً بعد أولى في يوم الاثنين النصف من رجب منها وأقام يسوس أحوالها ويستخرج أموالها إلى أن ورد عليه الأمر من الحضرة بمصر بالمسير في العسكر إلى حلب فتوجه إليها في العسكر في السادس عشر من شهر ربيع الأول سنة 452 واتفقت الوقعة المشهورة المعروفة بوقعة الفنيدق بظاهر حلب في يوم الاثنين مستهل شعبان من السنة بين ناصر الدولة المذكور وعسكره وبين جميع العرب الكلابيين ومن انضم إليهم فكسرت العرب عسكر ناصر الدولة واستولوا عليهم ونكوا فيهم وأفلت ناصر الدولة منهزماً مجروحاً مفلولاً وعاد إلى مصر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 142 ولم تزل الأخبار متواترة من ناحية العراق بظهور المظفر أبي الحرث أرسلان الفساسيري وقوة شوكته وكثرة عدته وغلبة أمره على الامام القائم بأمر الله أمير المؤمنين وقهر نوابه وامتهان خاصته وأصحابه وخوفهم من شره حتى أمضى أمره إلى أن يأخذ الجاني من حرم الخلافة ويفعل ما يشاء ولا يمانع له ولا يدافع عنه. وقد شرح الخطيب أبو بكر أحمد ابن علي بن ثابت البغدادي رحمه الله في أخبار أهل بغداد ما قال فيه: ولم يزل أمر القائم بأمر الله أمير المؤمنين مستقيماً إلى أن قبض عيه أرسلان الفساسيري في سنة 450 وهو واحد من الغلمان الأتراك عظم أمره واستفحل شأنه لعدم نظرائه من الغلمان الأتراك والمقدمين والاسفهسلارية إلا إنه استولى على العباد والأعمال ومد يده في جباية الأموال وشاع بالهيبة أمره وانتشر بالقهر ذكره وتهيبته العرب والعجم ودعي له على كثير من منابر الأعمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 143 العراقية وبالأهواز ونواحيها ولم يكن القائم بأمر الله يقطع أمراً دونه ولا يمضي رأياً إلا بعد إذنه ورأيه ثم صح عنده سوء عقيدته وخبث نيته وانتهى ذلك إليه، من ثقات من الأتراك لا يشك في قولهم ولا يرتاب. وانتهى إليه إنه بواسط قد عزم على نهب دار الخلافة والقبض على الخليفة فكاتب السلطان طغرلبك محمد بن ميكال كذا وهو بنواحي الري يعرفه صورة حال الفساسيري ويبعثه على العود إلى العراق ويدارك أمر هذا الخارجي قبل تزايد طمعه وإعضال خطبه. وعاد الفساسيري من واسط وقصد دار الخلافة في بغداد وهي بالجانب الغربي في الموضع المعروف بدار إسحق فهجمها ونهبها وأحرقها ونقض أبنيتها واستولى على كل ما فيها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 144 ووصل السلطان طغرلبك إلى بغداد في شهر رمضان سنة 447 وتوجه الفساسيري إلى الرحبة حين عرف وصول طغرلبك على الفرات وكاتب المستنصر بأمر الله صاحب مصر يذكر له كونه في طاعته وإخلاصه في موالاته وعزمه على إقامة الدعوة له في العراق وإنه قادر على ذلك وغير عاجز عنه فأنجده وساعده بالأموال وكتب له بولاية الرحبة. وأقام السلطان طغرلبك ببغداد سنةً كاملةً وسار منها إلى ناحية الموصل وأوقع بأهل سنجار وعاد منها إلى بغداد فأقام برهةً ثم عاد إلى الموصل وخرج منها متوجهاً إلى نصيبين ومعه أخوه إبراهيم ينال وذلك في سنة 450. وحدث بين السلطان طغرلبك وأخيه إبراهيم خلف أوجب انفصاله عنه بجيش عظيم وقصد تاحية الري وقد كان الفساسيري كاتب إبراهيم ينال أخا السلطان طغرلبك يبعثه على العصيان لأخيه ويطمعه في الملك والتفرد به ويعده المعاضدة عليه والموازرة والمرافدة والشد منه وسار طغرلبك في أثر أخيه مجداً وترك عساكره من ورائه فتفرقت غير إن وزيره عميد الملك الكندري وربيبه أنوشروان وزوجته خاتون وصلوا بغداد في من بقي معهم من العسكر في شوال سنة 450. واتصلت الأخبار بلقاء طغرلبك وأخيه إبراهيم بناحية همذان وورد الخبر بذاك على خاتون وولدها والوزير وإن إبراهيم استظهر عليه وحصره في همذان فعند ذلك عزموا على المسير إلى همذان لانجاد السلطان فحين شاع الخبر بذاك اضطرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 145 أمر بغداد اضطراباً شديداً وخاف من بها وكثرت الأراجيف باقتراب أرسلان الفساسيري. وتوقف الكندري الوزير عن المسير فأنكرت خاتون ذلك عليه وهمت بالايقاع به وتوقف ابنها لتوقفهما عن المسير والانجاد للسلطان طغرلبك فنهضا للجانب الغربي من بغداد وقطعا الجسور من ورائهما وأنتهب دورهما واستولى من كان مع الخاتون من الغز على ما فيها من الأموال والأمتعة والأثاث والسلاح وتوجهت خاتون في العسكر إلى ناحية همذان وتوجه الوزير الكندري على طريق الأهواز. فلما كان يوم الجمعة السادس من ذي القعدة ورد الخبر بأن أرسلان الفساسيري بالأنبار وسعى الناس إلى صلاة الجمعة بجامع المنصور فلم يحضر الامام وأذن المؤذن في المنارة ونزل منها وأعلم الناس إنه رأى العسكر عسكر الفساسيري بإزاء شارع دار الرقيق فبادروا إلى أبواب الجامع وشاهدت قوماً من أصحاب الفساسيري يسكنون الناس بحيث صلوا في هذا المكان اليوم في جامع المنصور الظهر أربعاً من غير خطبة وفي يوم السبت تاليه وصل نفر من عسكر الفساسيري وفي غدوة يوم الأحد دخل الفساسيري بغداد ومعه الرايات السود فضرب مضاربه على شاطئ دجلة واجتمع أهل الكرخ والعوام من أهل الجانب الغربي على مظافرة الفساسيري وكان قد جمع العيار وأهل الفساد وأطمعهم في نهب دار الخلافة والناس إذ ذاك في ضر وجهد قد توالى عليهم الجدب وغلا السعر وعز الأقوات وأقام الفساسيري بمكانه والقتال في كل يوم متصل بين الفريقين في السفن بدجلة. فلما كان يوم الجمعة الثاني دعي المستنصر بالله صاحب مصر على المنبر بجامع المنصور وزيد في الآذان حي على خير العمل. وشرع في بناء الجسر بعقد باب الطاق وكف الناس عن المحاربة أياماً وحضر يوم الجمعة الثاني من الخطبة فدعي لصاحب مصر في جامع الرصافة. وخندق الخليقة القائم بأمر الله حول داره ورم ما تشعث منها ومن أسوار المدينة فلما كان يوم الأحد لليلتين بقيتا من ذي القعدة حشد الفساسيري أهل الجانب الغربي والكرخ ونهض بهم إلى محاربة الخليفة ونشبت الحرب بين الفريقين يومين وقتل منهما الخلق الكثير. وأهل هلال ذي الحجة فزحف الفساسيري إلى ناحية دار القائم الخليفة فأضرم النار في الأسواق بنهر معلى وما يليه وعبر الناس لانتهاب دار الخليفة فنهب منها ما لا يحصى كثرةً وعظماً. ونفذ الخليفة إلى مونس بن بدر الصقلي وكان قد ظاهر الفساسيري فاذم للخليفة في نفسه ولقيه قريش أمير بني عقيل فقبل الأرض دفعات وخرج الخليفة من الدار راكباً وبين يديه راية سوداء وعليه قباء أسود وسيف ومنطقة وعلى رأسه عمامة تحتها قلنسوة الأتراك عراضه وبين يديه ....... وضرب له قريش خيمةً في الجانب الغربي فدخلها وأحدق به خدمه وماشى الوزير رئيس الرؤساء أبا القسم بن مسلمة الفساسيري ويده قابضة على يده وكمه وقبض على قاضي القضاة الدامغاني وجماعة معه وحملوا إلى الحريم الطاهري وقيد الوزير والقاضي. فلما كان يوم الجمعة الرابع عشر من ذي الحجة لم يخطب بجامع الخليفة وخطب في سائر الجوامع للمستنصر صاحب مصر وفي هذا اليوم انقطعت الدعوة لبني العباس في بغدادن ذي القعدة ورد الخبر بأن أرسلان الفساسيري بالأنبار وسعى الناس إلى صلاة الجمعة بجامع المنصور فلم يحضر الامام وأذن المؤذن في المنارة ونزل منها وأعلم الناس إنه رأى العسكر عسكر الفساسيري بإزاء شارع دار الرقيق فبادروا إلى أبواب الجامع وشاهدت قوماً من أصحاب الفساسيري يسكنون الناس بحيث صلوا في هذا المكان اليوم في جامع المنصور الظهر أربعاً من غير خطبة وفي يوم السبت تاليه وصل نفر من عسكر الفساسيري وفي غدوة يوم الأحد دخل الفساسيري بغداد ومعه الرايات السود فضرب مضاربه على شاطئ دجلة واجتمع أهل الكرخ والعوام من أهل الجانب الغربي على مظافرة الفساسيري وكان قد جمع العيار وأهل الفساد وأطمعهم في نهب دار الخلافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 146 والناس إذ ذاك في ضر وجهد قد توالى عليهم الجدب وغلا السعر وعز الأقوات وأقام الفساسيري بمكانه والقتال في كل يوم متصل بين الفريقين في السفن بدجلة. فلما كان يوم الجمعة الثاني دعي المستنصر بالله صاحب مصر على المنبر بجامع المنصور وزيد في الآذان حي على خير العمل. وشرع في بناء الجسر بعقد باب الطاق وكف الناس عن المحاربة أياماً وحضر يوم الجمعة الثاني من الخطبة فدعي لصاحب مصر في جامع الرصافة. وخندق الخليقة القائم بأمر الله حول داره ورم ما تشعث منها ومن أسوار المدينة فلما كان يوم الأحد لليلتين بقيتا من ذي القعدة حشد الفساسيري أهل الجانب الغربي والكرخ ونهض بهم إلى محاربة الخليفة ونشبت الحرب بين الفريقين يومين وقتل منهما الخلق الكثير. وأهل هلال ذي الحجة فزحف الفساسيري إلى ناحية دار القائم الخليفة فأضرم النار في الأسواق بنهر معلى وما يليه وعبر الناس لانتهاب دار الخليفة فنهب منها ما لا يحصى كثرةً وعظماً. ونفذ الخليفة إلى مونس بن بدر الصقلي وكان قد ظاهر الفساسيري فاذم للخليفة في نفسه ولقيه قريش أمير بني عقيل فقبل الأرض دفعات وخرج الخليفة من الدار راكباً وبين يديه راية سوداء وعليه قباء أسود وسيف ومنطقة وعلى رأسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 147 عمامة تحتها قلنسوة الأتراك عراضه وبين يديه ....... وضرب له قريش خيمةً في الجانب الغربي فدخلها وأحدق به خدمه وماشى الوزير رئيس الرؤساء أبا القسم بن مسلمة الفساسيري ويده قابضة على يده وكمه وقبض على قاضي القضاة الدامغاني وجماعة معه وحملوا إلى الحريم الطاهري وقيد الوزير والقاضي. فلما كان يوم الجمعة الرابع عشر من ذي الحجة لم يخطب بجامع الخليفة وخطب في سائر الجوامع للمستنصر صاحب مصر وفي هذا اليوم انقطعت الدعوة لبني العباس في بغداد ولما كان اليوم التاسع من ذي الحجة وهو يوم عرفة أخرج الخليفة القائم بأمر الله من الموضع الذي كان فيه وحمل إلى الأنبار ومنها إلى الحديثة في الفرات فجلس هناك وكان صاحب الحديثة الأمين مهارش هو المتولي لخدمة الخليفة فيها بنفسه وكان حسن الطريقة. ولما كان يوم الاثنين من ذي الحجة شهر الوزير رئيس الرؤساء وزير الخليفة على جمل وطيف به في محال الجانب الغربي ثم صلب بباب الطاق وخراسان وجعل على فكيه كلابان من حديد على جدع فمات رحمه الله بعد صلاة العصر وأطلق القاضي الدامغاني بمال قرر عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 148 قال أبو بكر الخطيب رحمه الله: ثم خرجت يوم النصف من صفر سنة 451 من بغداد ولم يزل الخليفة في محبسه بالحديثة إلى أن عاد السلطان طغرلبك من ناحية الري إلى بغداد بعد أن ظفر بأخيه إبراهيم ينال وكسره وقتله ثم كاتب الأمير قريشاً باطلاق الخليفة إلى داره إلى ناحية العراق وجعل السفير بينه وبين طغرلبك في ذلك أبا منصور عبد الملك بن محمد بن يوسف وشرط أن يضمن الخليفة للفساسيري صرف طغرلبك عن وجهته. وكاتب طغرلبك مهارشاً في أمر الخليفة وإخراجه من محبسه فأخرجه وعبر به الفرات وقصد به تكريت في نفر من بني عمه وقد بلغه أن طغرلبك بشهرزور فلما قطع الطريق عرف أن طغرلبك قد حصل ببغداد فعاد راجعاً حتى وصل النهروان فأقام الخليفة هناك ووجه طغرلبك مضارب في الحال وفروشاً برسم الخليفة ثم خرج لتلقيه بنفسه وحصل الخليفة في داره ونهض طغرلبك في عسكر نحو الفساسيري وهو بسقي الفرات فحاربه إلى أن أظفره الله به وقتله وحمل رأسه إلى بغداد وطيف به فيها وعلق بإزاء دار الخلافة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 149 سنة إحدى وخمسين وأربعمائة في هذه السنة كان هلاك أرسلان الفساسيري وعود الخليفة القائم بأمر الله أمير المؤمنين إلى داره على ما تقدم شرحه من أمره. وفيها أيضاً كان ظفر السلطان طغرلبك أخيه إبراهيم ينال على باب همذان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة فيها وصل الأمير المقدم تمام الدولة قوام الملك ذو الرئاستين سبكتكين المستنصري إلى دمشق وبقي فيها غير وال عليها إلى أن وصل القائد موفق الدولة جوهر الصقلبي من مصر في يوم الأربعاء الثاني من ذي الحجة سنة 452 ومعه الخلع وسجل الولاية لدمشق بألقابه والدعاء له سلمه الله ووفقه والناظر في الأعمال وحفظ الأموال سديد الدولة أبو عبد الله محمد بن حسن الماشكي على ما كان عليه سبكتكين والياً على دمشق إلى أن توفى بها في ليلة الاثنين الثالث والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 453 فكانت ولايته ثلاثة شهور وسبعة عشر يوماً وفي هذه السنة نزل الأمير محمود بن شبل الدولة بن صالح بن مرداس على حلب محاصراً لها ومضيقاً عليها وطامعاً في تملكها ومعه منيع بن سيف الدولة فأقام عليها مدة فلم يتسهل له فيها أرب ولا تيسر طلب فرحل عنها ثم حشد بعد مدة وجمع وعاد منازلاً لها ومضايقاً لأهلها ومراسلاً لهم وتكررت المراسلات منهم إلى أن تسهل أمرها وتيسر خطبها فتسلمها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 150 في يوم الاثنين من جمادى الآخرة وضايق القلعة إلى أن عرف وصول الأمير ناصر الدولة بن حمدان في العساكر المصرية لانجادها فخرج منها في رجب سنة 2 ونهب حلب بعسكر ناصر الدولة واتفقت وقعة الفنيدق المشهورة وانفلال ناصر الدولة وعوده إلى مصر منهزماً مخذولاً فعاد محمود بجمعه إلى حلب وحصل بها وقتل عمه معز الدولة واستقام أمره فيها. وفي هذه السنة قصد الأمير عطية فيمن جمعه وحشده مدينة الرحبة ولم يزل نازلاً عليها ومضايقاً لأهلها ومراسلاً لهم إلى أن تسهل الأمر فيها وسلمت إليه وحصل بها في صفر من السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 151 سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة في هذه السنة وصل الأمير حسام الدولة ابن البجناكي إلى دمشق والياً عليها في يوم الجمعة الثاني والعشرين من جمادى الأولى منها ونزل في المزة وأقام مدة وورد الكتاب بعزله فانصرف عن الولاية وتوجه نحو حلب في شهر رمضان من السنة ثم وصل بعد ذلك عدة الدين والدولة ابن ناصر الدولة بن حمدان إلى دمشق والياً عليها في يوم الجمعة الثامن عشر من رمضان من السنة وحصل بها وقرئ سجل ولايته وأمر فيها ونهى. وفي هذه السنة استقر الصلح والموادعة بين معز الدولة صاحب حلب وابن أخيه محمود بن شبل الدولة. وفيها ندب أبو محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الشاعر للمسير من حلب إلى القسطنطينية رسولاً في المحرم منها. وفيها توفى الأمير معز الدولة بحلب في يوم الجمعة لسبع بقين من ذي القعدة ودفن في المسجد بالقلعة وملكها أخوه عطية. وفي هذه السنة وصل الأمير المؤيد معتز الدولة حيدرة بن عضب الدولة إلى دمشق والياً عليها دفعةً ثانيةً بعد أولى في يوم الاثنين الثامن عشر من ذي القعدة منها ونزل في أرض المزة وفي هذا اليوم سار عدة الدولة بن حمدان عن الولاية منصرفاً إلى مصر وأقام المؤيد بها في الولاية ما أقام وانصرف عنها معزولاً في شهر ربيع الآخر سنة 455 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 152 سنة أربع وخمسين وأربعمائة في المحرم منها قلد الأمير مكين الدولة طبرية وثغر عكاء من قبل امام المستنصر بالله وأمر على جماعة بني سليم وبني فزارة. وفيها توفي القاضي الشريف مستخص الدولة أبو الحسين ابرهيم بن العباس بن الحسن الحسيني بدمشق يوم السبت التاسع والعشرين من شعبان رحمه الله. وفيها وردت الأخبار من ناحية العراق بوفاة السلطان طغرلبك وقيام ولده كذا البارسلان في المملكة بعده في مدينة الري الجزء: 1 ¦ الصفحة: 153 سنة خمس وخمسين وأربعمائة وفيها ولاية أمير الجيوش بدر لدمشق وصل الأمير تاج الأمراء المظفر مقدم الجيوش شرف الملك عدة الامام ثقة الدولة بدر إلى دمشق والياً عليها في يوم الأربعاء الثالث والعشرين من شهر ربيع الآخر من السنة ونزل بأرض المزة ومعه الشريف القاضي ثقة الدولة ذو الجلالين أبو الحسن يحيى بن زيد الحسيني الزيدي ناظراً في الأعمال ونفقات الأموال وأقام بها مدة مدبراً لها وآمراً وناهياً فيها ثم حدث من أمره بها والخلف الجاري بينه وبين عسكريتها ورعيتها ووقعت بينهما محاربات عرف معها عجزه عن المقام بينهم والثبات معهم وخاف على نفسه منهم فسار عنها كالهارب منها في ليلة الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من رجب سنة 56. وفي هذه السنة نزل الأمير محمود بن شبل الدولة بن صالح على حلب وحصر عمه عطية فيها في النصف من شعبان وقتل منيع بن كامل بحجر المنجنيق ولم يتمكن من عرضه فيها ولا تسهل له أرب منها فرحل عنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 154 سنة ست وخمسين وأربعمائة وفيها ولاية الأمير حيدرة بن منزو لما انصرف أمير الجيوش بدر عن ولاية دمشق هارباً ندب لولايتها الأمير حصن الدولة حيدرة بن منزو بن النعمان والياً عليها ووصل إليها في شهر رمضان من السنة وأقام بها وأمر ونهى على عادة أمثاله من الولاة لها. ثم اقتضى الرأي المستنصري صرفه عنها لشهاب الدولة دري المستنصري ووصل إليها وتولى الولاية فيها. وفي هذه السنة عاد محمود بن شبل الدولة بن صالح إلى حلب مضايقاً لها ولعطية عمه فاستصرخ بالأمير ابن خان التركي فأنجده عليه فلما أحس بوصوله رحل عنها منهزماً ثم خاف عطية من الأمير ابن خان فأمر أحداث حلب بنهب عسكره فنهبوه. ورحل ابن خان منهزماً وأنفذ إلى الأمير محمود يعتذر إليه من المساعدة عليه وتوجه معه إلى طرابلس وعاد معه إلى حلب لحصرها في هذه السنة. وفيها وصل الأمير شهاب الدولة دري المستنصري إلى دمشق والياً في العشر الأخير من ذي القعدة من السنة ثم تجدد الرأي في صرفه فانصرف وتوجه إلى الرملة لأن سجل ولايته لها ورد عليه وأقام بها آمراً وناهياً إلى أن قتل بها في شهر ربيع الآخر سنة 460 وأقامت دمشق خالية من الولاة إلى أن وصل إليها أمير الجيوش بدر والياً عليها دفعةً ثانيةً في سنة 458 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 155 سنة سبع وخمسين وأربع مائة في هذه السنة نزل الأمير محمود بن شبل الدولة بن صالح على حلب ثالث دفعة ومعه الأمير ابن خان التركي وأقام عليها إلى انتصاف شهر رمضان ولم يزل مضايقاً لها إلى أن تسهل أمرها وملكها فلما حصل بها فارقه ابن خان بعسكره نحو العراق ولم يدخلها اشفاقاً من أحداث حلب لما فعلوه في تلك النوبة من القيام عليه والنهب لأصحابه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 156 سنة ثمان وخمسين وأربعمائة وفيها ولاية أمير الجيوش بدر الثانية وصل أمير الجيوش سيف الاسلام بدر إلى دمشق والياً عليها ثانيةً وعلى الشام بأسره في يوم الأحد السادس من شعبان منها ونزل في مرج باب الحديد أياماً وبلغه قتل ولده بعسقلان فدخل القصر وأقام فيه إلى أن تحرك الفتنة الثائرة بينه وبين عسكرية دمشق وأهلها واستيحاش كل منهم من صاحبه فخرج من القصر ونشبت الحرب بينهم في يوم الجمعة التاسع والعشرين من جمادى الأولى سنة 460 وقد كان القصر أخرب بعضه في تلك النوبة الحادثة الأولى ونهب ما كان فيه فلما عاد بعد ذلك في هذه النوبة ومعه العساكر الجمة من العرب وسائر الطوائف ونزل على مسجد القدم في رمضان سنة 60 واتفق رحيله عنها فخرج من في البلد من العسكرية والأحداث إلى القصر فأحرقوا ما كان سالماً منه ونقضوا أخشابه بحيث شمله الخراب من كل جهاته. وفي هذه السنة فادى الأمير محمود بن شبل الدولة بن صالح نساء بني حماد والنمريين من أسر الروم ولم يزل مبالغاً في ذلك ومجتهداً فيه إلى أن حصلوا في حلب سنة تسع وخمسين وأربعمائة فيها وردت الأخبار من ناحية مصر باجتماع العبيد في الصعيد وكبسهم عسكر الأمير ناصر الدولة أبي علي الحسن بن حمدان وانفلال العرب المجتمعة معه واستظهار العبيد على جانب من عسكره نهبوه واستولوا عليه ثم عادوا عليهم واستعادوا ما أخذ لهم وزيادة عليه وقتل جماعةً منهم. وفيها سأل الأمير ناصر الدولة المستنصر بالله في حميد ابن محمود بن جراح وحازم بن علي بن جراح فأطلقهما من خزانة البنود وخلى سبيلهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 157 سنة ستين وأربعمائة وفيها ولاية الأمير بارزطغان لدمشق وصل الأمير قطب الدولة بارزطغان إلى دمشق والياً عليها في شعبان منها ووصل معه الشريف السيد أبو طاهر حيدرة بن مستخص الدولة أبي الحسين ونزل قطب الدولة في دار العقيقي وأقام مدة ثم خرج منها ومعه الشريف المذكور في شهر ربيع الأول سنة 461. وورد الخبر بأن أمير الجيوش بدر ظفر بالشريف السيد المذكور وكان بينهما إحن بعثته على الاجتهاد في طلبه والارصاد له إلى أن اقتنصه فلما حصل في يده قتله سلخاً فعظم ذلك على كافة الناس وأكثروا هذا الفعل واستبشعوه في حق مثله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 158 وفي يوم الثلاثاء العاشر من جمادى الأولى من السنة جاءت زلزلة عظيمة بفلسطين هدمت أكثر دور الرملة وسورها وتضعضع جامعها ومات أكثر أهلها تحت الردم. وحكي أن معلماً كان في مكتبه به تقدير مائتي صبي وقع المكتب عليهم فما سأل أحد عنهم لهلاك أهليهم وأن الماء طلع من أفواه الآبار لعظم الزلزلة وهلك في بانياس تحت الردم نحو من مائة نفس وكذلك في بيت المقدس. وسمع في أيار من هذه السنة رعدة هائلة ما سمع بأعظم منها ولا بأهول من صوتها فغشي على جماعة من الرجال والنسوان والصبيان وطلع في أثرها سحاب هائل ووقع منه برد شديد الوقع أهلك كثيراً من الشجر وجاء معه سيل عظيم في بلد الشام قلع ما مر به من الشجر والصخر. حكي أن ارتفاعه بوادي بني عليم نحو من ثلاثين ذراعاً وأنه سحب صخرةً عظيمة لا يقلها خمسون رجلاً ذهب بها فلم يعرف مستقرها. وفيها ورد الخبر بقيام ناصر الدولة أبي علي الحسن بن حمدان في جماعة من قواد الأتراك وأمراء مصر على المستنصر بالله بمصر وأخذهم شيئاً كثيراً من المال اقتسموه وكان أمير الجيوش بدر في مبدأ أمره مقيماً بالشام مظهراً الطاعة المستنصر بالله والموالاة له والميل إليه إلا أنه لا يتمكن من نصرته ولا يجد سبيلاً إلى موازرته ومعاضدته وزحف المذكورون إلى دار وزيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 159 المعروف بابن كدينة فطالبوه بالمال فقال لهم: وأي مال بقي بعد نهبكم الأموال واقتسامكم الأعمال؟ فألحوا عليه وقالوا: لا بد من انفاذك إلى المستنصر بالله وبعثك له على إخراج المال وتعريفه في ذلك صورة الحال. فكتب إليه رقعةً بشرح القصة وخرج الجواب عنها بخطه يقول فيه أصبحت لا أرجو ولا أتّقي ... إلاّ إلهي وله الفضل جدّي نبيّي وإمامي وأبي ... وقولي التوحيد والعدل المال مال الله والعبيد عبيد الله والاعطاء خير من المنع وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون. وفي هذه السنة خرج متملك الروم من القسطنطينية إلى الثغور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 160 سنة إحدى وستين وأربعمائة وفيها كانت ولاية معلى بن حيدرة بن منزو لدمشق الأمير حصن الدولة معلى بن حيدرة بن منزو الكتامي ولى دمشق قهراً وغلبةً وقسراً من غير تقليد في يوم الخميس الثامن من شوال سنة 461 بجيل نمقها ومحالات اختلقها ولفقها وذكر أن التقليد بعد ذلك وافاه فبالغ في المصادرات حينئذ وارتكب من الظلم ومصادرة المستورين الأخيار ما هو مشهور من العيث والجور ما هو شائع بين الأنام مذكور ولم يلق أهل البلد من التعجرف والظلم والعسف بعد جيش بن الصمصامة في ولايته ما لقوه من ظلمه وسوء فعله وقاسوه من اعتدائه ولؤم أصله ولم تزل هذه أفعاله إلى أن خربت أعمالها وخلا عنها أهلها وهان عليهم مفارقة أملاكهم وسأوهم عن أوطانهم بما عانوه من ظلمه ولابسوه من تعديه وعشمه وخلت الأماكن من قاطنيها والغوطة من فلاحيها وما برح لقاء الله على هذه القضية المنكرة والطريقة المكروهة إلى أن أجاب الله وله الحمد والشكر دعاء المظلومين ولقاه عاقبة الظالمين وحقق الأمل فيه بالراحة منه وأوقع بينه وبين العسكرية بدمشق الشحناء والبغضاء فخاف على نفسه الهلاك والبوار فاستشعر الوبال والدمار فلم يكن له إلا الهرب منهم والنجاة من فتكهم لأنهم عزموا على الايقاع به والنكاية فيه وقصد ناحية بانياس فحصل فيها في يوم الجمعة الثاني والعشرين من ذي الحجة سنة 467 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 161 فأقام بها وعمر ما عمره من الحمام وغيره فيها ثم خرج منها في أوائل سنة 472 خوفاً من العسكر المصري أن يدركه فيها فيأخذه منها وحصل بثغر صور عند ابن أبي عقيل القاضي المستولي عليها ثم صار من صور إلى طرابلس وأقام بها عند زوج أخته جلال الملك ابن عمار مدة وأطلع إلى مصر فهلك في الاعتقال قتلاً بالنعال في سنة 481 وذلك جزاء الظالمين وما الله بغافل عما يعملون وفي هذه السنة وقع الخلف بدمشق بين العسكرية وبين أهلها وطرحت النار في جانب منها فاحترقت واتصلت النار منه بالمسجد الجامع من غربيه فاحترق في ليلة يوم الاثنين انتصاف شعبان من السنة فقلق الناس لهذا الحادث والملم المؤلم الكارث وأسف القاضي والداني لاحتراق مثل هذا الجامع الجامع للمحاسن والغرائب المعدود من إحدى العجائب حسناً وبهاءً ورونقاً وسناءً وكيف أصابت مثل العيون الصوائب وعدت عليه عادية النوائب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 162 وفيها وردت الأخبار من مصر بغلاء الأسعار فيها وقلة الأقوات في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 163 أعمالها واشتداد الحال في ذلك واضطرارهم إلى أكل الميتة وأكل الناس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 164 بعضهم بعضاً من شدة الجوع وقتل من يظفر به وأخذ ماله واستغراق حاله ومن سلم هلك واحتاج الأمير والوزير والكبير إلى المسئلة. وفيها نزل الروم على حصن اسفونا وملكوه سنة اثنتين وستين وأربعمائة فيها نزل أمير الجيوش سيف الاسلام بدر المستنصري في العسكر المصري على ثغر صور محاصراً لعين الدولة بن أبي عقيل القاضي الغالب عليه فلما أقام على المضايقة له والاضرار به كاتب القاضي ابن أبي عقيل الأمير قرلو مقدم الأتراك المقيمين بالشام مستصرخاً له ومستنجداً به فأجابه إلى طلبه وأسعفه بأربه وسار بعسكره منجداً له ومساعداً ووصل إلى ثغر صيدا ونزل عليه في ستة ألف فارس فحصره وضيق عليه وعلى من فيه وكان في جملة ولاية أمير الجيوش المذكور فحين عرف أمير الجيوش صورة الحال ووصول الأتراك لانجاد من بصور واسعاده قادته الضرورة إلى الرحيل عن صور بعد أن استفسد كثيراً من أهلها والعسكرية بها بحيث قويت بهم شوكته وزادت بهم عده وتلوم عنها قليلاً ثم عاود النزول عليها والمضايقة لها وأقام عليها في البر والبحر مدة سنة احتاج أهلها مع ذلك إلى أكل الخبز الرطل بنصف دينار ولم يتم له أمر فيها لاختلاف الأتراك في الشام فرحل عنها. وفي هذه السنة مرض الأمير محمود بن صالح في حلب مرضاً شديداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 165 وخطب للامام القائم لأمر الله على منبر حلب وقطع الدعوة المستنصرية في تاسع عشر شوال. وفيها فتح ملك الروم ثغر منبج وأحرقه وعاد يقدم بعمارته ورحل عنه إلى ناحية منازجرد فعاث في أطرافها إلى أطراف خراسان وبقيت منبج في ملكة هذا الملك واسمه على ما ذكر اليزدوخانس سبع سنين ودام في الملك على ما حكى ثلاثين سنة ثلاث وستين وأربعمائة فيها جمع اتسز بن أوق مقدم الأتراك الغز بالشام واحتشد وقصد أرض فلسطين فافتتح الرملة وبيت المقدس وضايق دمشق وواصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 166 الغارات عليها وعلى أعمالها وقطع الميرة عنها ورعى زرعها عدة سنين في كل ربيع لمضايقتها والطمع في ملكتها ولم يزل متردداً إلى أن اضطرب أمرها وخربت المنازل بها وزاد غلاء الأسعار فيها وعدم تواصل الأقوات إليها وجلا أكثر أهلها عنها واستحكم الخلف بين العسكرية والمصامدة والأحداث من أهلها وكون الوالي معلى بن منزو لعنه الله قد هرب عنها ولم يبق فيها من المقدمين على الأجناد غير الأمير زين الدولة زمام المصامدة بها. وفي هذه السنة نزل السلطان العادل البارسلان بن داود أخي السلطان طغرلبك بن سلجوق رحمه الله على حلب محاصراً لها وبها محمود بن صالح في يوم الثلاثاء سابع عشر جمادى الآخرة وضايقها إلى أن ملكها بالأمان فخرج محمود إليه فأمنه وأنعم عليه وولاه البلد. ورحل عنه ثالث وعشرين رجب قاصداً إلى بلاد الروم طالباً ملكهم وقد توجه إلى منازجرد فلحقه وأوقع به وهزمه وكان عسكره على ما حكي تقدير ستمائة ألف من الروم وما انضاف إليهم من سائر الطوائف وعسكر الاسلام على ما ذكر تقدير أربع مائة ألف من الأتراك وجميع الطوائف وقتل من عسكر الروم الخلق الكثير بحيث امتلأ واد هناك عند التقاء الصفين وحصل الملك في أيدي المسلمين أسيراً وامتلأت الأيدي من سوادهم وأموالهم وآلاتهم وكراعهم ولم تزل المراسلات مترددةً بين السلطان البارسلان وبين ملك الروم المأسور إلى أن تقرر اطلاقه والمن عليه بعد أخذ العهود عليه والمواثيق بترك التعرض لشيء من أعمال الاسلام واطلاق الأسارى وأطلق وسير إلى بلده وأهل مملكته فيقال أنهم اغتالوه وسلموه وأقاموا غيره في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 167 مكانه لأشياء أنكروها عليه ونسبوها إليه سنة أربع وستين وأربعمائة في المحرم منها قتل الأمير جعبر صاحب قلعة دوسر فيها بمكيدة نصبت له وحيلة تمت عليه وغفلة استمرت به. وفيها ملكت الرقة واستولى عليها. وفيها نهض محمود بن صالح من حلب فيمن حشد من العرب وقصد ناحية عزاز في يوم السبت الثاني والعشرين من رجب للقاء الروم فاندفعت الروم بين أيدي العرب والعرب في عدة قليلة تناهز ألف فارس وقصدوا أنطاكية واجتمعوا بها وعادت العرب إلى حلب. وفيها ورد الخبر من بغداد في شهر ربيع الأول منها بأن الامام الحافظ أبا بكر أحمد بن علي بن ثابت البغدادي الخطيب رحمه الله توفي يوم الاثنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 168 السابع من ذي الحجة منها وحمل إلى الجانب الغربي من بغداد وصلي عليه ودفن بالقرب من قبة أحمد بن حنبل رحمه الله سنة خمس وستين وأربعمائة فيها هرب الأمير أبو الجيوش علي بن المقلد بن منقذ من حلب خوفاً من صاحبها الأمير محمود بن صالح حين عرف عزمه على القبض عليه وقصد المعرة ثم قصد كفرطاب. وفيها ورد نعي الأمير عطية عم الأمير محمود بن صالح من القسطنطينية في ذي الحجة. وفيها ورد سأر الأمير محمود بن صالح من حلب فيمن جمعه وحشده من عسكره إلى الرحبة. وفي هذه السنة ورد الأخبار باستشهاد السلطان العادل البارسلان ابن داود أخي السلطان طغرلبك ملك الترك على نهر جيحون عند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 169 حصن هناك بيد من اغتاله من الباطنية المتزيين بطريقة الزهاد المتصوفة على القضية المشهورة والسجية المذكورة سنة ست وستين وأربعمائة فيها فتح الأمير محمود بن صالح قلعة السن في يوم الخميس تاسع شهر ربيع الآخر. وفيها وردت الأخبار من بغداد بزيادة مد دجلة حتى غرق بها عدة أماكن وهدم عدة مساكن. وفيها وردت الأخبار من ناحية العراق بانتصاب السلطان العادل ملك شاه أبي الفتح محمد بن السلطان البارسلان في المملكة بعد أبيه وجلوسه على سرير الملك بعد أخذ البيعة له على أمراء الأجناد وكافة ولاة الأعمال والبلاد فاستقامت له الأمور وانتظمت به الأحوال على المراد والمأثور واستمر التدبير على نهج الصلاح وسنن النجاح وسلك في العدل والانصاف مسلك أبيه العادل عن طريقة الجور والاعتساف ورتب النواب في الأعمال والثقات في حفظ الأموال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 170 وفيها توفي أبو علي الحسين بن سعيد بن محمد بن سعيد العطار بدمشق في يوم الجمعة من صفر وكان من أعيان شهودها وحدث عن جماعة سنة سبع وستين وأربعمائة فيها وردت الأخبار من ناحية العراق بوفاة القائم بأمر الله أبي جعفر عبد الله بن الامام القادر بالله في يوم الخميس الثالث عشر من شعبان وأمه أم ولد تسمى قطر الندى رومية وأدركت خلافته وماتت في رجب سنة 452 وكان مولده في الساعة الثالثة من نهار يوم الخميس وقيل الجمعة الثامن عشر من ذي القعدة سنة 391 وتولى الأمر بعد أبيه وعمره إحدى وثلاثون سنة في يوم الاثنين الحادي عشر من ذي الحجة سنة 422 ومات وعمره ست وسبعون سنة وكانت أيامه أربعاً وأربعين سنة وتسعة أشهر وأياماً وكان جميلاً مليح الوجه أبيض اللون مشرباً خمرة حسن الجسم أبيض الرأس واللحية ورعاً متديناً زاهداً عالماً وكان رحمه الله قد يلي من أرسلان الفساسيري بما يلي إلى أن أهلكه الله وأراحه بالعزائم السلطانية حسب ما تقدم به شرح الحال. وروي عنه أنه لما اعتقل في الحديثة كتب رقعةً وأنفذها إلى مكة حرسها الله تعالى مستعدياً إلى الله تعالى على الفساسيري وعلقت على الكعبة ولم تحط عنها إلى أن ورد الخبر بخروجه من الاعتقال من الحديثة وعوده إلى داره وهلاك عدوه الفساسيري وعنونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 171 إلى الله العظيم من المسكين عبده. ونسخة الاستغاثة: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنك العالم بالسرائر والمطلع على مكنون الضمائر اللهم إنك غني بعلمك واطلاعك على خلقك عن اعلامي هذا عبد من عبيدك قد كفر نعمتك وما شكرها وألغى العواقب وما ذكرها اطغاه حكمك وتجبر باناتك حتى تعدى علينا بغياً وأساء إلينا عتواً وعدواً اللهم قل الناصر واعتز الظالم فأنت المطلع العالم والمنصف الحاكم بك نعتز عليه وإليك نهرب من يديه فقد تعزز علينا بالمخلوقين ونحن نعتز بك يا رب العالمين اللهم أنا حاكمناه إليك وتوكلنا في انصافنا منه عليك ورفعنا ظلامتنا هذه إلى حرمك ووثقنا في كشفها بكرمك فاحكم بيننا بالحق وأنت خير الحاكمين وأظهر اللهم قدرتك فيه وأرنا ما نرتجيه فقد أخذته العزة بالاثم اللهم فاسلبه عزه وملكنا بقدرتك ناصيته يا أرحم الراحمين وصل يا رب على محمد وسلم وكرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 172 وتولى بعده الأمر ولد ولده الامام أبو القاسم عبد الله بن ذخيرة الدين بن القائم بأمر الله أمير المؤمنين وكان ذخيرة الدين ولي العهد فتوفي في حياة أبيه القائم بأمر الله فعتد الأمر لابنه أبي القاسم عبد الله ولقبه المقتدي بالله وأخذت له البيعة في شعبان سنة 477 وعمره تسع عشرة سنة وثلاثة أشهر وأيام. وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية حلب بوفاة صاحبها الأمير محمود بن شبل الدولة بن صالح بحلب في جمادى الأولى وقام في منصبه ولده الأمي نصر بن محمود وهنأه بعد التعزية الأمير أبو الفتيان ابن حيوس بالقصيدة الألفية المشهورة التي يقول فيها وقد جاد محمودٌ بألفٍ تصرّمت ... وإني سأرجو أن سيخلفها نصر فأطلق له ألف دينار وقال له: لو كنت قلت سيضعفها نصر لفعلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 173 سنة ثمان وستين وأربعمائة وفيها ولاية الأمير زين الدولة لدمشق لما هرب معلي بن حيدرة بن منزو لعنه الله من ولاية دمشق على القضية ذكرتها اجتمعت المصامدة إلى الأمير زين الدولة انتصار بن يحيى زمامهم والمقدم واتفق رأيهم على تقديمه في ولاية دمشق وتقوية نفسه على الاستيلاء عليها وفدع من ينازعه فيها ووقع ذلك من أكثر الناس أجمل موقع وأحسن موضع وارتضوا به ومالوا إليه لسداد طريقته وحميد سيرته وكونه أحسن فعلاً ممن تقدمه وأجمل قصداً ممن كان قبله فاستقر الأمر على هذه القضية والسجية المرضية في يوم الأحد مستهل المحرم من السنة. وفي هذه السنة اشتد غلاء الأسعار في دمشق وعدمت الأقوات ونفدت الغلات منها واضطر الناس إلى أكل الميتان وأكل بعضهم بعضاً ووقع الخلف بين المصامدة وأحداث البلد وعرف الملك اتسز بن أوق مقدم الأتراك وما آلت إليه الحال وكان متوقعاً لمثل ذلك فنزل عليها وبالغ في المضايقة لها إلى أن اقتضت الصورة وقادت الضرورة إلى تسليمها إليه بالأمان وتوثق منه بوكيد الايمان. فلما دخلها في ذي القعدة سنة 468 وحصل بها نزل بأهلها منه قوارع البلاء بعد ما عانوه من ابن منزو لعنه الله واشتداد البلاء من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 174 انزال دورهم واخراجهم منها واغتصاب أملاكهم والقبض لها واستعمال سوء السيرة وخبث النية والسريرة وتواصلت الدعوات عليه من سائر الناس وعلى أصحابه وأتباعه في جميع الأوقات وأعقاب الصلوات والرغبة إلى الله تعالى ذكره باهلاكه وتعفية أثاره. وفي هذه السنة وردت الأخبار من حلب بأن الأمير نصر بن محمود بن صالح صاحبها قتل بها في يوم الأحد عيد الفطر قتله قوم من أتراك الحاضر وذاك أنه قبض على مقدمهم المعروف بالأمير أحمد شاه وخرج إليهم لينهبهم فرماه أحدهم بسهم فقتله وقام في منصبه من بعده أخوه سابق بن محمود بن صالح. وفي هذه السنة خطب للامام المقتدي بالله أبي القسم عبد الله بن الذخيرة بن القائم بأمر الله على منبر دمشق وقطعت الخطبة المستنصرية ونظر الملك اتسز بن أوق في أمور دمشق وأحوالها بما يعود بصلاح أعمالها ووفور استغلالها وأطلق لفلاحي المرج والغوطة الغلات للزراعات وألزمهم الاشتغال بالعمارات والفلاحات فصلحت الأحوال وتواصلت من سائر الجهات الغلات ورخصت الأسعار وتضاعف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 175 الجذل بذلك والاستيثار وطابت نفوس الرعية وأيقنوا بزوال البؤس والبلية. وبرز اتسز في عسكره إلى نواحي الساحل عازماً على قصد مصر وطامعاً في تملكها سنة تسع وستين وأربعمائة فيها جمع الملك اتسز واحتشد وبرز من دمشق ونهض في جمع عظيم إلى ناحية الساحل ثم منها إلى ناحية مصر طامعاً في ملكتها ومجتهداً في الاستيلاء عليها والدعاء عليه من أهل دمشق متواصل واللعن له متتابع متصل فلما قرب من مصر وأظلت خيله عليها برز إليه أمير الجيوش بدر في من حشده من العساكر ومن انضاف إليها من الطائف والعرب وكان قد وصل إليها واستولى على الوزارة وعرف ما عزم عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 176 اتسز فاستعد للقائه وتأهب لدفع قصده واعتدائه وجد في الايقاع به وحصلت العرب وأكثر العساكر من ورائه وصدقوا الحملة عليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 178 فكسروه وهزموه ووضعوا السيوف في عسكره قتلاً وأسراً ونهباً وأفلت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 179 هزيماً بنفسه في نفر يسير من أصحابه ووصل إلى الرملة وقد قتل أخوه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 180 وقطعت يد أخيه الآخر ووصل بعد الفل إلى دمشق فسرت نفوس الناس بمصابه وتحكم السيوف في أتباعه وأصحابه فأملوا مع هذه الحادثة سرعة هلاكه وذهابه. وفي هذه السنة توفي أبو الحسن أحمد بن عبد الواحد بن محمد بن عثمان بن الوليد بن الحكم بن سليمان بن أبي الحديد السلمي رحمه الله سنة سبعين وأربعمائة فيها وردت الأخبار بوصول السلطان تاج الدولة أبي سعيد تتش بن السلطان العادل البارسلان أخي السلطان ملك شاه أبي الفتح إلى الشام واجتماع العرب من بني كلاب إليه ووصول شرف الدولة مسلم بن قريش إليه من عند أخيه السلطان العادل ملك شاه لمعونته على افتتاح الشام بأمره له في ذلك. وفيها توفي أبو نصر الحسين بن محمد بن أحمد بن طلاب الخطيب رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 181 وفي هذه السنة نزل عسكر مصر على دمشق مع نصر الدولة الجيوشي وأقام عليها مدةً يسيرةً ولم يتم له فيها مراد فرحل عنها عائداً إلى مصر. وفيها نزل تاج الدولة السلطان على حلب ومعه وثاب وشبيب ابنا محمود بن صالح ومبارك بن شبل ورحل عنها في ذي القعدة ثم نزل عليها ثانيةً ولم يتم له فيها مراد فرحل عنها سنة إحدى وسبعين وأربعمائة في هذه السنة خرج من مصر عسكر كبير مع نصر الدولة الجيوشي ونزل على دمشق محاصراً لها ومضايقاً عليها واستولى على أعمالها وأعمال فلسطين وأقام عليها مدة مضايقاً لها وطامعاً في تملكها وأضر على منازلتها إضراراً اضطر اتسز صاحبها إلى مراسلة تاج الدولة يستنجده ويستصرخ به ويعده بتسليم الدمشق إليه ويكون في الخدمة بين يديه فتوجه نحوه في عسكره فلما عرف نصر الدولة الخبر وصح عنده قربه منه رحل عنها مجفلاً وقصد ناحية الساحل وكان ثغراً صور وطرابلس في أيدي قضاتهما قد تغلبا عليهما ولا طاعة عندهما لأمير الجيوش بل يصانعان الأتراك بالهدايا والملاطفات ووصل السلطان تاج الدولة إلى عذراء في عسكره لأنجاد دمشق وخرج اتسز إليه وخدمه وبذل له الطاعة والمناصحة وسلم البلد إليه فدخلها وأقام بها مديدةً ثم حدثته نفسه بالغدر باتسز ولاحت له منه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 182 أمارات استوحش بها منه متسهله كذا فقبض عليه في شهر ربيع الأول منها وقتل أخاه أولاً ثم أمر بخنقه فخنق بوتر في المكان المعتقل فيه وملك تاج الدولة دمشق واستقام له الأمر فيها وأحسن السيرة في أهلها وفعل بالضد من فعل اتسز فيها وملك أعمال فلسطين. وفي هذه السنة قتل أحمد شاه مقدم الأتراك في الشام. وفيها برز تاج الدولة من دمشق وقصد حلب في عسكره ونزل عليها وأقام عليها أياماً ورحل عنها في شهر ربيع الأول وعبر الفرات مشرقاً ثم عاد إلى الشام بعد أن وصل إلى ديار بكر في ذي الحجة وملك حصن بزاعة والبيرة وأحرق ربض عزاز ورحل عنها عائداً إلى دمشق سنة اثنتين وسبعين وأربعمائة فيها تسلم شرف الدولة مسلم بن قريش حلب. وفيها رخصت الأسعار في الشام بأسره. وفيها هلكت فرقة من الأتراك ببلاد الروم كانوا غزاة فلم يفلت منهم أحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 183 سنة أربع وسبعين وأربعمائة فيها ملك الأمير أبو الحسن علي بن المقلد بن منقذ حصن شيزر في يوم السبت السابع والعشرين من رجب من الأسقف الذي كان فيه بمال بذله له وأرغبه فيه إلى أن حصل في يده وشرع في عمارته وتحصينه والممانعة عنه إلى أن تمكنت حاله فيه وقويت نفسه في حمايته والمراعاة دونه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 184 سنة خمس وسبعين وأربعمائة فيها توجه السلطان تاج الدولة إلى ناحية الشام من دمشق ومعه في خدمته الأمير وثاب بن محمود بن صالح ومنصور بن كامل وقصد ناحية الروم وأقام هناك مدةً واتصل به خبر شرف الدولة مسلم بن قريش وما هو عليه من الجمع والاحتشاد والتأهب والاستعداد واجتماع العرب إليه من بني نمير وعقيل والأكراد والمولدة وبني شيبان للنزول على دمشق والمضايقة لها والطمع في تملكها فعاد تاج الدولة منكفئاً إلى دمشق لما عرف هذا العزم ووصل إليها في أوائل المحرم سنة 476. وورد الخبر بوصول الجزء: 1 ¦ الصفحة: 185 شرف الدولة في حشده إلى بالس أيضاً في المحرم ووصله جماعة من بني كلاب ونهض بالعسكر مسرعاً في السير إلى أن نزل على دمشق ووصل إليه جماعة من عرب قيس واليمن وقاتل أهل دمشق في بعض الأيام وخرج إليه عسكر تاج الدولة من دمشق وحمل على عسكره حملةً صادقةً فانكشف وتضعضع عسكره وعاد كل فريق إلى مكانه وعاد عليهم بحملة اخرى وانهزمت العرب وثبت شرف الدولة مكانه وأشرف على الأسر وتراجع أصحابه. وكان شرف الدولة قد اعتمد على معونة عسكر المصريين على دمشق ومعاضدته بالعسكر المصري على أخذها فوقع التقاتل عليه بالانجاد والتقاعد عنه بالاسعاد إشفاقاً من ميل الناس إليه وعظم شأنه بتواصلهم ووفودهم عليه فلما وقع يأسه مما أمله ورجاه وخاف ما تمناه وورد عليه من أعماله ما شغل خاطره في تدبيره وأعماله وتواترت الأخبار بما أزعجه وأقلقه رأى أن رحيله عن دمشق إلى بلاده وعوده إلى ولايته لتسديد أحوالها وإصلاح اختلالها أصوب من مقامه على دمشق وأوفق من شأنه فأوهم إنه سائر مقتبلاً لأمر مهم عليه وارب مطلوب نهد إليه فرحل عن دمشق ونزل مرج الصفر وعرف من بدمشق ذلك فقلقوا لذلك واضطربوا ثم رحل مشرقاً في البرية وجلاً وجد في سيره مجفلاً وأوصل السير ليلاً ونهاراً فهلك من المواشي والدواب للعرب ما لا يحصيه عدد ولا يحصر كثرةً من العطش وتلف وانقطع من الناس خلق كثير وخرجت به الطريق إلى وادي بني حصين قريباً من سلمية فأنفذ وزيره أبا العز بن صدقة إلى خلف ابن ملاعب المقيم بحمص ليجعله بين الشام وبين السلطان تاج الدولة لما يعلمه من نكايته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 186 في الأتراك وفتكه بمن يظفر به من أبطالهم الفتاك. فأقام أبو العز الوزير بحمص إلى حين عوده فخلع عليه شرف الدولة وأكرمه وقرر معه حفظ الشام وطيب بنفسه. وسار بعد ذلك السلطان تاج الدولة إلى ناحية طرابلس وافتتح انطرطوس وبعض الحصون وعاد إلى دمشق. وورد الخبر بنزول السلطان العادل ملك شاه أبي الفتح بن البارسلان على حلب في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان من السنة وضايقها إلى أن ملكها مع القلعة. وفي يوم الخميس الثاني من المحرم توجه شرف الدولة إلى بلد انطاكية للقاء الفردوس ملك الروم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 187 وفيها وصل الأمير شمس الدولة سالم بن مالك بالخلع السلطانية إلى شرف الدولة إلى حلب وقرر الصلح بين شرف الدولة وابن ملاعب بحمص. وفيها وصل أبو العز بن صدقة وزير شرف الدولة في عسكر كثيف لإنجاد حلب على تاج الدولة فلما وصل إليها رحل تاج الدولة في الحال عنها سنة ست وسبعين وأربعمائة فيها عمل على مدينة حران وأخذت من ملكة شرف الدولة مسلم بن قريش في سابع صفر وعاد إليها حين عرف خبرها فنزل عليها في عسكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 188 وضايقها وواظبها إلى أن افتتحها وملكها ورتب أمرها واحتط عليها واعتمد على الثقات في حفظها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 189 وفي هذه السنة تنكر شرف الدولة على وزيره أبي العز بن صدقة لأسباب أنكرها منه وأحوال بلغته عنه فقبض عليه واعتقله وأقام أياماً وقرر أمره وأطلقه وطيب نفسه سنة سبع وسبعين وأربعمائة في هذه السنة شرع سليمان بن قتلمش في العمل على مدينة انطاكية والتدبير لأمرها والاجتهاد في أخذها والتملك لها ولم يزل على هذه القضية إلى أن تم له ما أراده فيها وملكها سرقةً في يوم الأحد العاشر من شعبان ورتب أمرها بمن اعتمد عليه في حفظها من ثقات ولاته. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 190 وفي شهر ربيع الأول من السنة كانت وقعة بين عسكر شرف الدولة وعسكر الأتراك بأرض آمد من ديار بكر واستظهر الأتراك على عسكر شرف الدولة فهزموه. وفي رجب منها توجه شرف الدولة مسلم بن قريش إلى دركاه السلطان العادل ملك شاه بن البارسلان ودخل عليه ووطئ بساطه فأكرمه واحترمه وخلع عليه وقرر أمره على ما يهوى من اصلاح أحواله والاقرار على أعماله وإزالة ما كان يخشاه وعاد مسروراً بما لقي ومحبوراً بنيل مبتغاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 191 سنة ثمان وسبعين وأربعمائة في هذه السنة كان مصاف الحرب بين الملك سليمان بن قتلمش وبين الأمير شرف الدولة مسلم بن قريش في اليوم الرابع والعشرين من صفر على نهر سفين في موقع يقال له قرزاحل فكسر عسكر شرف الدولة وقتل ورحل سليمان بعد ذلك في جمعه ونزل على حلب محاصراً لها ومضايقاً عليها في مستهل شهر ربيع الأول وأقام منازلاً لها مدة ولم يتهيأ له ما أراده فيها فرحل عنها في الخامس من شهر ربيع الآخر منكفئاً إلى بلاده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 192 وفيها شرع في عمارة قلعة الشريف بحلب وترميم ما كان هدم منها واعادتها إلى ما كانت عليه في حال عمارتها. وفيها وردت الأخبار من ناحية المغرب بأن الافرنج استولوا على بلاد الأندلس وتملكوها وفتكوا بأهلها وإن صاحب طليطلة استصرخ بالملثمين واستنجد بهم على الافرنج فأجابوه إلى الإنجاد ونهضوا للإغاثة والاسعاد وطلب الجهاد ووصلوا إليه في خلق عظيم وجيش كثيف وصافوا الافرنج وهم في الاعداد الدثرة والعدد الغاية في الكثرة فكسروا عسكر الافرنج كسرةً عظيمةً أجلت عن قتل الأكثر منهم ولم يفلت إلا من سبق جواده وأخر في أجله بحيث أحصي القتلى فكانوا عشرين الفاً فجمعت رؤوسهم وبني بها أربع منابر للتأذين في غاية الارتفاع وأذن المسلمون فيها وعاد عسكر الملثمين إلى بلادهم سالمين ظافرين مسرورين مأجورين وامتنعوا من استخلاص ما كان ملكه الافرنج من بلاد الأندلس وبقي في أيديهم على حاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 193 سنة تسع وسبعين وأربعمائة فيها تقدم السلطان العادل ملك شاه أبو الفتح بن السلطان البارسلان رحمه الله بابطال أخذ المكوس من سائر التجار عن جميع البضائع في العراق وخراسان وحظر تناول شيء منها في بلد من البلاد الجارية في مملكته فكثر الدعاء له من كافة الناس في سائر الأعمال وتضاعف الثناء عليه من الخاص والعام. وفيها وردت الأخبار من ناحية المغرب بوصول الانبرت ابن ملك الافرنج في عسكره إلى مدينة المهدية ونزوله عليها ومضايقته لها إلى أن ملكها بالسيف قهراً وقتل رجالها وسبى كافة من كان بها من أهلها. وفيها جمع الملك سليمان بن قتلمش وحشد وقصد بلد حلب ونزل عليها محاصراً لها ومضايقاً عليها وطامعاً في تملكها فوردت عليه أخبار السلطان تاج الدولة تتش بن البارسلان باحتشاده وتأهبه لقصدها واستعداده فرحل عنها والتقى عسكره وعسكر تاج الدولة في موضع يعرف بعين سلم في يوم الأربعاء الثامن عشر من صفر فكسر عسكر تاج الدولة عسكر سليمان فقتل في الهزيمة وملك تاج الدولة عسكره وسواده ونزل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 194 على حلب وضيق عليها إلى أن تسلمها في شهر ربيع الأول سلمها إليه المعروف بابن اليرعوني الحلبي. وفيها وصل السلطان العادل ملك شاه أبو الفتح إلى الشام وانهزم تاج الدولة من حلب وملكها السلطان العادل ودخلها في شهر رمضان وخرج منها وقصد انطاكية وملكها وخيم على ساحل البحر أياماً وعاد إلى حلب وعيد بها عيد الفطر ورحل عنها وقصد الرها ونزل عليها وضايقها وملكها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 195 سنة ثمانين وأربعمائة في هذه السنة تقررت ولاية حلب للأمير قسيم الدولة اق سنقر من قبل السلطان ملك شاه أبي الفتح ووصل إليها وأحسن السيرة فيها وبسط العدل في أهليها وحمى السابلة للمترددين فيها وأقام الهيبة وانصف الرعية وتتبع المفسدين فأبادهم وقصد أهل الشر فأبعدهم وحصل له بذلك من الصيت وحسن الذكر وتضاعف الثناء والشكر ما إخباره مذكور واجاره فيه منشور فعمرت السابلة للمترددين من السفار وزاد ارتفاع بالبلد بالواردين بالبضائع من جميع الجهات والأقطار سنة إحدى وثمانين وأربعمائة في هذه السنة توجه السلطان العادل ملك شاه أبو الفتح إلى سمرقند طمعاً في ملكتها بعد فراغ قلبه من الشام وبلاد الروم والجزيرة والرها وديار بكر وديار بني عقيل. وفيها خرج الأمير قسيم الدولة اق سنقر من حلب لتوديع تابوت زوجته خاتون داية السلطان ملك شاه وقيل انها كانت جالسةً معه في داره بحلب وفي يده سكين فأومى بها إليها على سبيل المداعبة والمزاح فوقعت في مقتلها للقضاء المكتوب عليها غير متعمد فماتت وحزن عليها حزناً شديداً وتأسف لفقدها على هذه الحال وحملها إلى الشرق لتدفن في مقابر لها هناك في مستهل جمادى الآخرة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 196 وفي يوم الثلاثاء مستهل رجب نزل قسيم الدولة على شيزر وحصرها ونهب ربضها وضايقها إلى أن تقرر أمرها والموادعة بينه وبين صاحبها ورحل عنها عائداً إلى حلب سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة في هذه السنة وردت الأخبار من ناحية الشرق بافتتاح السلطان ملك شاه مدينة سمرقند وأسر ملكها وكانت أخته مع السلطان ملك شاه وله منها ثلاثة أولاد فجعل الولاية بها لأحدهم وهو الملك أحمد وأمر بالخطبة له على المنابر وذكر إن الملك أحمد المذكور توفي في سنة 484 والابنة منهم زوجها للامام الخليفة المقتدي بأمر الله. وفيها خرج عسكر مصر منها مع مقدميه وقصد الساحل وفتح ثغري صور وصيدا وكان في صور أولاد القاضي عين الدولة ابن أبي عقيل بعد موته ولم يكن قوة لهم تدفع ولا هيبة تمنع فسلموها وكذلك صيدا وقرروا أمرهما ثم رحل العسكر عنهما ونزل على ثغري جبيل وعكا فافتتحهما. وفيها عمرت منارة الجامع بحلب. وفيها نهض قسيم الدولة صاحب حلب في أثر الحرامية قطاع الطريق ومخيفي السبيل فأوقع بهم واستأصل شأفتهم قتلاً وأسراً فأمنت السابلة واطمأنت السافرة وكتب إلى سائر الأطراف والأعمال بتتبع المفسدين وحماية المسافرين وبالغ في ذلك مبالغةً حسن ذكره بها وعظمت هيبته بسببها وشاع له الصيت باعتمادها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 197 واحترز كل من كان في ضيعة أو معقل من أن يتم على أحد من المجتازين به أمر يؤخذ به ويهلك بسببه سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة في هذه السنة نزل السلطان تاج الدولة على حمص في عسكره ومعه الأمير قسيم الدولة صاحب حلب في عسكره والأمير بوزان صاحب انطاكية وفيها خلف ابن ملاعب فضايقوها وصابروها إلى أن ملكوها بالأمان وخرج ابن ملاعب منها وسلمها ووفوا له بما قرروه معه واطلقوا سراحه فتوجه إلى مصر فأقام بها مدة وعاد إلى الشام واعمل الحيلة والتدبير على حصن أفامية إلى أن ملكه وحصل بيده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 198 سنة أربع وثمانين وأربعمائة في ليلة الثلاثاء التاسع من شعبان من السنة حدث في الشام زلزلة عظيمة هائلة لم يسمع بمثلها ووافق هذا اليوم كونه من تشرين الأول وخرج الناس من دورهم خوفاً من عودها. وحكي أن دوراً كثيرة خربت بأنطاكية واضطربت كنيسة السيدة فيها وهلك خلق كثير بالردم وانهدم بها تقدير سبعين برجاً من سورها وبقيت على حالها إلى أن أمر السلطان ملك شاه بعمارتها ولم ما تشعث منها. وفيها نزل الأمير قسيم الدولة صاحب حلب على حصن أفامية فملكه وأبعد خلف بن ملاعب عنها ورتب نائبه في حفظها في ثالث رجب وعاد إلى حلب. وفيها وردت الأخبار من المشرق بوفاة الملك أحمد ابن أخت السلطان ملك شاه المرتب في مملكة جده في سمرقند وخطب له على المنابر حسب ما تقدم ذكره فعاجله القضاء الذي لا يدافع والمحتوم الذي لا يمانع سنة خمس وثمانين وأربعمائة في هذه السنة اقترن المريخ وزحل في برج السرطان وقت الظهر من يوم الاثنين النصف من شهر ربيع الأول وهو السادس والعشرون من نيسان وذكر أهل المعرفة من أهل صناعة النجوم أن هذا القران لم يحدث مثله في هذا البرج منذ مبعث النبي - صلى الله عليه وسلم - وإلى هذه الغاية. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 199 وفيها توجه السلطان العادل ملك شاه من أصفهان إلى بغداد معولاً على قصد مصر لتملكها فلما وصل إلى همذان وثب رجل ديلمي من الباطنية على وزيره خواجه بزرك نظام الملك أبي علي الحسن بن إسحق الطوسي فقتله رحمه الله وهرب من ساعته فطلب فلم يوجد ولا ظهر له خبر ولا بان له أثر فأسف الناس وتألموا لمصابه وتضاعف حزنهم لفقد مثله لما كان عليه من حسن الطريقة وآثار العدل والنصفة والاحسان إلى أهل الدين والفقه والقرآن والعلم وحب الخير وحميد السياسة وكان قد آثر الاثارات الحسنة في البلاد من المدارس والرباطات بالعراق وبلاد العجم بحيث كان رزقه يجري على اثني عشر ألف إنسان من فقيه إلى غيره. وحزن السلطان ملك شاه عليه وأسف لفقده وأسرع السير إلى أن وصل إلى بغداد في أيام قلائل من شوال من السنة وقام مديدةً وخرج إلى المتصيد وعاد منه وقد وجد فتوراً في جسمه واشتد به المرض الحاد فتوفي رحمه الله في ليلة الأربعاء السادس من شوال من السنة وكان بين وفاته ومقتل خواجه بزرك ثلاثة وثلاثون يوماً وأقام مقامه في المملكة ولده السلطان بركيارق وانتصب في منصبه وأخذت له البيعة ودعي على المنابر باسمه واستقام أمره وانتظمت الحال على مراده. وكان السلطان تاج الدولة تتش قد توجه من دمشق إلى بغداد للقاء أخيه السلطان ملك شاه والخدمة له والتقرب إليه وورد الخبر عليه بوفاته فانكفأ راجعاً ونزل على الرحبة وضايقها وأرسل المقيم بها يلتمس تسليمها إليه فلم يتم له فيها أمر ولا مراد فرحل عنها إلى دمشق وجمع وحشد وعاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 200 في العسكر إلى الرحبة. وقد كان كاتب قسيم الدولة صاحب حلب ومؤيد الدولة ياغي سيان صاحب أنطاكية يستدعي منهما المساعدة ويبعثهما على الموازرة والمرافدة فسارا نحوه واجتمعا معه فقوي أمره بها واستظهر بعسكرهما ونزل على الرحبة وضايقها إلى أن ملكها بالأمان وأحسن إلى أهلها وأجمل السيرة فيها. وكان قد نذر على نفسه أنه متى ملكها بالأمان والقهر شهر فيها السيف فعند ذاك شهر سيفه عند دخوله إليها واغمده عند استقرار أمرها ووفى بنذره ورحل عنها بعد أن قرر أمرها ورتب المستحفظين من قبله فيها قاصداً ناحية نصيبين. وقد كان بعد وفاة السلطان ملك شاه قد رجع ابرهيم بن قريش إلى بلاده وتسلم الموصل وأعمالها وجمع العرب والأكراد ونزل في بلاد بني عقيل الموصل وما والاها وغلب ولد أخيه شرف الدولة محمداً وأبعده عن الولاية. ولما وصل تاج الدولة إلى نصيبين وصل إليه الأمير بوزان صاحب الرها وخرج إليه والي نصيبين يبذل الطاعة له والمناصحة في الخدمة فامتنع أهل البلد من الجند الذين بها من أصحاب ابراهيم بن قريش فقاتلها وهدم بعض سورا وملكها بالسيف وقتل فيها تقدير ألفي رجل وقتل كل من التجأ إلى جامعها ومساجدها وأخذت الحرم وهتكت البنات وعوقبوا بأنواع العقوبات إلى أن أظهرن كل مذخور وأبرزن كل مستور وفعل في أمرهم ما لا يستحله مسلم ولا يستحسنه كافر وأطلق بعد ذلك من كان في الأسر من الرجال والنسوان إلا من بقي في أيدي الأتراك وذلك في صفر سنة 486 وحكى بعض من حضر هذه الكائنة القبيحة أنه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 201 شاهد امرأة تحت الأتراك يطلب منها الفاحشة وهي تصيح وتستغيث وتتمنع أشد التمنع فجئته وحاولت تخليصها منه فلم يفعل فجرحته فتخلى عنها وإذا بها امرأة من وجوه الأشراف وأخرجتها إلى المخيم إلى أن سكنت الفتنة وأعدتها سالمةً إلى دارها دون كل بنت هتكت وأحرزت ثوابها وحسن الذكر بين أشراف نصيبين سنة ست وثمانين وأربعمائة في هذه السنة عاد السلطان تاج الدولة عن نصيبين بعد ما جرى فيها طالباً لابرهيم ابن قريش فلما عرف خبره جمع وحشد واستصرخ واستنجد وحصل في خلق عظيم ونزل بهم في المنزل المعروف بشرقي الهرماس ونزل السلطان تاج الدولة على دارا. فلما كان يوم الاثنين الثاني من شهر ربيع الأول من السنة التقى الجيشان على نهر الهرماس واختلط الفريقان واشتد القتال وانكشفت الوقعة عن قتل جماعة من الأتراك والعرب وعاد كل فريق منهما إلى مكانه فلما استقر بالعرب المنزل عاد عسكر تاج الدولة إليهم وهم غارون وحمل عليهم وهم غافلون فانهزمت العرب وأخذهم السيف فقتل منهم العدد الكثير والأكثر من الرجالة المقيمين في المخيم وقتل الأمير ابرهيم بن قريش وجماعة من الأمراء والمقدمين من بني عقيل وغيرهم وقيل أن تقدير القتلى من الفريقين عشرة ألف رجل واستولى النهب والسلب والسبي على من وجد في المخيم وامتلأت الأيدي من الغنائم والسواد والمواشي والكراع بحيث بيع الجمل بدينار واحد والمائة شاة بدينار واحد ولم يشاهد أبشع من هذه الوقعة ولا أشنع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 202 منها في هذا الزمان وقتل بعض نسوان العرب أنفسهن اشفاقاً من الهتيكة والسبي. ولما عادوا بالأسرى والسبي وحصلوا بشاطي الفرات ألقى جماعة من الأسرى أنفسهم في الفرات فهلكوا وقصد السلطان تاج الدولة ديار بكر ونزل على آمد وضايقها وملكها من ملكة ابن جهير المقيم بها مع الجزيرة وولاه نصيبين عوضاً عن الجزيرة وملك آمد من ابن مروان وتسلم ميافارقين وأعمالها وقرر أمرها وأنفذ ولاته إلى الموصل وسنجار وملك الأعمال وانهزم بنو عقيل من منازلهم وبلادهم وتوجهوا نحو السلطان بركيارق بن ملك شاه وكان علي بن شرف الدولة مسلم بن قريش ووالدته خاتون بنت السلطان محمد ابن داود كذا عمة السلطان ملك شاه يشكون ما نزل به من السلطان تاج الدولة ولما تهيأ لتاج الدولة ما تهيأ وما أمله من ملكة البلاد وطاعة العباد قويت شوكته وكثرت عدته وعدته وحدث نفسه بالسلطنة وتوجه إلى ناحية خراسان وليس يمر ببلد ولا معقل من المعاقل غلا خرج إليه أهله وبذلوا له الطاعة والمناصحة في الخدمة وأمره يستفحل وشأنه يعظم. وفصل عنه قسيم الدولة صاحب حلب وعماد الدولة بوزان صاحب الرها مغاضبين وقصدا ناحية السلطان بركيارق بن ملك شاه مخالفين له وعاصيين عليه واقتضت الحال عود تاج الدولة إلى ديار بكر ونزل على مدينة سروج فملكها وولى فيها وفي الجزيرة من ارتضاه من ثقات الجزء: 1 ¦ الصفحة: 203 خواصه. واتصل به خبر وصول الأمير قسيم الدولة اق سنقر صاحب حلب ومويد الدولة صاحب الرها الذين كانا فارقاه إلى السلطان بركيارق ودخولهما عليه وإكرامه لهما وحسن موقع وصولهما منه وسروره بمقدمهما عليه وأنهما شرعا في وقوع في ناحية تاج الدولة والتحذير من الاهمال لأمره والتحريض على معاجلته قبل اعضال خطبه وتمكنه من الغلبة على السلطنة والاستيلاء على أعمال المملكة وأشارا عليه بالمسير في هذا الوقت وطلبا منه من يسير معهما لايصالهما إلى بلديهما حلب والرها فسار معهما لايصالهما إلى الموصل ورد بني عقيل إليهم وقدم علياً من شرف الدولة مسلم بن قريش عليهم ولقبه سعد الدولة. فوصل قسيم الدولة إلى حلب في شوال سنة 486 ومعه جماعة من بني عقيل وبعض عسكر السلطان بركيارق بحيث وصل إلى حلب وانتهى الخبر بذاك إلى تاج الدولة فنهض في العسكر من ناحية الرحبة إلى الفرات وقصد بلد أنطاكية وأقام بها وورد عليه الخبر بانكفاء السلطان من الرحبة إلى بغداد وأن عزمه أن يشتو بها وأقام تاج الدولة بأنطاكية مدة فقلت الأقوات وارتفعت الأسعار وخوطب في العود إلى الشام فلم يفعل وعاد إلى دمشق آخر ذي الحجة من السنة وفي جملته الأمير وثاب بن محمود بن صالح وبنو كامل وجماعة من العرب لم يجسروا على الاقامة بالشام خوفاً من قسيم الدولة صاحب حلب. وفي هذه السنة خرج من مصر عسكر كثير إلى ثغر صور لما عصى واليها الأمير منير الدولة الجيوشي وقد كان أهل صور أنكروا عصيانه وكرهوا خلفه لسلطانه أمير الجيوش بدر وعرف ذلك من نياتهم فحين اشتد القتال عليها نادوا بشعار المستنصر بالله وأمير الجيوش فهجم العسكر المصري على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 204 البلد ولم يدافع عنه مدافع ولا مانع دونه ولا ممانع ونهب وأسر منه الخلق الكثير وأخذ في الجملة منير الدولة الوالي وخواصه وأجناده وحملوا إلى مصر في يوم الرابع عشر من جمادى .... سنة 486 وقطع على أهل البلد ستون ألف دينار أجحفت بأحوالهم واستغرقت جل أموالها ولما وصل الوالي منير الدولة ومن معه من أجناده وأصحابه تقدم أمير الجيوش بضرب أعناقهم ففعل ذلك ولم يعف عن واحد منهم وفي هذه السنة وردت الأخبار من العراق بإبطال مسير الحاج لاسباب دعت إلى ذاك والخوف عليهم في مسيرهم وسار الحاج من دمشق والشام في هذه السنة صحبة الأمير الخاني أحد مقدمي أتراك السلطان تاج الدولة بعد العقد له بولايته وتأكيد خطابه بحمايتهم ووصيته. فلما وصلوا وقصدوا مناسكهم وفروض حجهم تلوموا عن الانكفاء أياماً خوفاً من أمير الحرم ابن أبي شيبة إذ لم يصل إليه من جهتهم ما يرضيه فلما رحلوا من مكة تبعهم في رجاله ونهبهم قريباً من مكة فعادوا إلى مكة وشكوا إليه وتضوروا لديه مما نزل بهم مع بعد دارهم فرد عليهم البعض من جمالهم وقتل في الوقعة أخو الأمير الخاني المقدم فلما أيسوا من رد المأخوذ لهم ساروا من مكة عائدين على أقبح صفة فحين بعدوا عنها ظهر عليهم قوم من العرب من عدة جهات فأحاطوا بهم فصانعوهم على ما دفعوه إليهم هذا بعد أن قتل من الحجاج جماعة وافرة وهلك قوم بالضعف والانقطاع وجرى عليهم من العرب المكروه وعاد السالم منهم على أقبح حال وأكسف بال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 205 وفيها توفي الامام أبو الفرج عبد الواحد بن محمد بن الحنبلي رحمه الله في يوم الأحد الثامن والعشرين من ذي الحجة بدمشق وكان وافر العلم متين الدين حسن الوعظ محمود السمت سنة سبع وثمانين وأربعمائة في هذه السنة ورد الخبر من العراق بوفاة الخليفة الامام المقتدي بأمر الله أبي القاسم عبد الله بن الذخيرة بن القائم بأمر الله أمير المؤمنين فجأةً في ليلة السبت انتصاف المحرم وعمره ثمان وثلاثون سنة وتسعة أشهر وأيام مولده ليلة الأربعاء الثاني ويقال الثامن من جمادى الأولى سنة 448 وكانت مدة خلافته تسع عشرة سنة وخمسة أشهر وكان حسن السيرة جميل السريرة وولي الأمر بعده ولي عهده ولده أبو العباس أحمد المستظهر بالله أمير المؤمنين بن المقتدي بالله أمير المؤمنين وبويع له بالخلافة بعد أبيه في يوم الثلاثاء الثامن عشر من المحرم من السنة واستقام له الأمر وانتظمت بتدبيره الأحوال على قضية السداد وكنه المراد وعند ذلك قبض على إخوته واعتقلهم عنده وكان السلطان بركيارق عند وفاة المقتدي بالله رحمه الله مقيماً ببغداد وبقي فيها مقيماً إلى آخر السنة. وفي شهر ربيع الآخر منها برز السلطان تاج الدولة من دمشق في العسكر وتوجه إلى الشام وقطع العاصي في شهر ربيع الآخر وتقدم إلى العسكرية برعي الزراعات ونهب المواشي والعوامل ولما اتصل الخبر بذاك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 206 إلى قسيم الدولة صاحب حلب شرع في الجمع والاحتشاد والتأهب لدفعه والاستعداد وأجمع على لقائه وانتهى الخبر إلى تاج الدولة بذاك ووصول بوزان صاحب الرها إليه في عسكره لاسعاده عليه وانجاده ولذلك وصول كربوقا صاحب الموصل ويوسف صاحب الرحبة في ألفين وخمسمائة فارس وحصول الجميع في حلب لمعونته ومؤازرته فرحل من منزله بكفر حمار إلى الحانوتة ثم منها إلى الناعورة وغارت الخيل على المواشي بها وأحرقوا بعض زرعها ورحل منها إلى ناحية الوادي ورحل قسيم الدولة في جمعه من العسكر وتقديره نحو من عشرين ألفاً وزيادة على ذلك لكنهم في أحسن زي وهيئة واتم آلة وعدة وقطع سواقي نهر سفيان قاصداً عسكر تاج الدولة وكان برزوه من حلب في يوم الجمعة الثامن من جمادى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 207 الأول من السنة والتقى الفريقان غداة يوم السبت تاليه عقيب اقتران المريخ وزحل في برج الأسد المقدم ذكره بخمسة أيام وكان عسكراً كربوقا وبوزان لم يتمكنوا من قطع بعض السواقي فأقاموا على حالهم ولم يثق بمن كان معه من العرب فنقلهم في وقت المصاف من الميمنة إلى الميسرة ثم جعلهم في القلب فلم يغنوا شيئاً فنصر الله تعالى تاج الدولة وعسكره عليهم فانهزمت العرب وعسكر كربوقا وبوزان عند الحملة وعسكر يوسف وتحكمت السيوف فيهم وأسر قسيم الدولة اق سنقر صاحب حلب وأكثر أصحابه وحين أحضروا بين يدي السلطان تاج الدولة فأمر بضرب عنق قسيم ومن اتفق من أصحابه فقتلوا وتوجه أكثر الفل إلى حلب واجتمعوا بأهل البلد والأحداث وتقرر بينهم الاعتصام بحلب والاستنجاد بالسلطان بركيارق. فوصل تاج الدولة في الحال إلى حلب وقد اختلفت الآراء فيها بينهم وحاروا فيما يعملون عليه فوثب جماعة منهم لم يوبه لهم وكسروا باب البلد ونادوا بشعار تاج الدولة فدخل الأمير وثاب بن محمود بن صالح البلد في مقدميه وبادر إلى المقيم بقلعة الشريف التي قبلي حلب بالظهور إلى تاج الدولة ومن باب منها دخل تاج الدولة ونزل إليه رسول الأمير نوح صاحب قلعة حلب وزوجته وتوثقا منه وأخذا الأمان له من تاج الدولة وعادا إليه وأعلماه بما كان من تقرير الحال وأخذ الأمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 208 فسلمها إليه وحصل بها في يوم الاثنين الحادي عشر من جمادى الأولى وسلمت جميع الحصون إليه من الشام. وكان بوزان صاحب الرها في جملة من أسر في الوقعة فتقدم تاج الدولة بقتله فضربت عنقه صبراً وكذلك الأمير كربوقا صاحب الموصل كان قد أسر في الوقعة فاعتقل بحلب إلى أن تقرر أمر حلب ورتبت النواب والمستحفظون فيها وقرر أمره. ورحل السلطان تاج الدولة عن حلب في العسكر إلى ناحية الفرات وقطعه وقصد حران فاستعادها وكذلك سروج والرها وقصد ديار بكر وعدل عن طريق السلطان بركيارق لأنه كان نازلاً بأرض الموصل طالباً لخاتون زوج السلطان ملك شاه والدة أخيه محمود وكانت مستوليةً على أصفهان وجميع الأموال لمكاتبات ومراسلات ترددت بينهما في معنى الوصلة بينها وبينه واستقر الملك له ولها وكانت قد منعت السلطان بركيارق التصرف في تلك الأعمال والتقود فيها. وفي هذا الوقت حدثت زلازل في يوم وليلة دفعات لم يسمع بمثلها في كل زلزلة منها تقيم وتطول بخلاف ما جرت بمثله العادة. ورحل تاج الدولة عقيب ذلك ولم يتمكن من الاتمام على سمته وعرفت خاتون الخبر فخرجت من أصفهان في عسكرها للقاء تاج الدولة فعرض لها في طريقها مرض حاد فتوفيت وتفرق عسكرها إلى جهة السلطان بركيارق وإلى غيره وحين عرف بكريارق ذاك سار في الحال إلى أصفهان فدخلها وملكها وقد كان أهلها أشرفوا على الهلاك لفرط الغلاء بها وعدم الأقوات فيها. ووصل من عسكر خاتون إلى تاج الدولة خلق كثير وكذلك من عسكر بركيارق فتضاعفت عدته وقويت شكوته ودعي له على منابر بغداد ووصل إلى همذان وكاتب ولده فخر الملوك رضوان بدمشق يأمره بالمسير إليه في من بقي من الأجناد في الشام فسار إلى حلب ومن حلب إلى العراق ومعه الأمير نجم الدين ايل غازي بن أرتق والأمير وثاب بن محمود بن صالح وجماعة من أمراء العرب وأتراك حلب القسيمية وتوجه صوب بغداد على الرحبة في أول سنة 487 من الاتمام على سمته وعرفت خاتون الخبر فخرجت من أصفهان في عسكرها للقاء تاج الدولة فعرض لها في طريقها مرض حاد فتوفيت وتفرق عسكرها إلى جهة السلطان بركيارق وإلى غيره وحين عرف بكريارق ذاك سار في الحال إلى أصفهان فدخلها وملكها وقد كان أهلها أشرفوا على الهلاك لفرط الغلاء بها وعدم الأقوات فيها. ووصل من عسكر خاتون إلى تاج الدولة خلق كثير وكذلك من عسكر بركيارق فتضاعفت عدته وقويت شكوته ودعي له على منابر بغداد ووصل إلى همذان وكاتب ولده فخر الملوك رضوان بدمشق يأمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 209 بالمسير إليه في من بقي من الأجناد في الشام فسار إلى حلب ومن حلب إلى العراق ومعه الأمير نجم الدين ايل غازي بن أرتق والأمير وثاب بن محمود بن صالح وجماعة من أمراء العرب وأتراك حلب القسيمية وتوجه صوب بغداد على الرحبة في أول سنة 487 وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية مصر بمرض أمير الجيوش بدر المستولي على أمرها وأنه أسكت في مرضه هذا ودام به إلى أن اشتد في جمادى الأولى منها وتوفي في العشر الأول منه وقد كان الأمر تمهد لولده الأفضل واستقامت حاله مع المقدمين وسائر الأجناد والعساكرية قبل وفاته وأطاعوا أمره وعملوا برأيه وقيل أن وفاة أمير الجيوش كانت في جمادى الأولى. وفي هذه السنة أيضاً وردت الأخبار من ناحية مصر بمرض الامام المستنصر بالله أمير المؤمنين في العشر الثاني من ذي الحجة وأن المرض اشتد به وتوفي إلى رحمة الله في ليلة عيد الغدير الثامن عشر من ذي الحجة سنة 487 وعمره سبع وستون سنة وستة أشهر ومولده سنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 210 420 ونقش خاتمه بنصر السميع العليم ينتصر الامام أبو تميم ومدة أيام دولته ستون سنة وأربعة أشهر وكان حسن السيرة جميل السريرة محباً للعدل والانصاف ومني في أكثر عمره من الأجناد بالعناد والاختلاف وولي الأمر بعده ولده أبو القاسم أحمد بن المستنصر بالله ولقب بالمستعلي بالله أمير المؤمنين وأخذ له البيعة على الأمراء والمقدمين من الأجناد والعسكرية وأعيان الرعية الأفضل أبو القسم شاهنشاه بن أمير الجيوش ونصبه في منصب أبيه المستنصر بالله واستقامت به الأحوال وانتظمت على غاية الايثار والآمال. وخرج أخواه من مصر خفيةً عبد الله ونزار ابنا المستنصر بالله فقصد نزار منهما الاسكندرية وحصل مع نصر الدولة واليها وكان من أكابر الغلمان الجيوشية الذين عول عليهم أمير الجيوش على إقامته في الأمر من بعده دون ولده فاستحكم الخلف بينه وبين الأفضل وجرت بينهما حروب ووقايع أسفرت عن ظفر الأفضل به واستقام له الأمر من بعده وصلحت أحوال مصر وأعمالها واستقامت بعد اضطرابها واختلالها. وأما ما يتعلق بمعرفة أحوال السلطان تاج الدولة فإنه تم في رحيله إلى مدينة الري فنزل عليها وضايقها وملكها واستولى على البلاد والأعمال والمعاقل من الشام وإلى الري وكان قد أنهض عسكراً مع بني عقيل ونمير إلى أعمال بني عقيل فاستولوا عليها ما خلا الموصل وساءت سيرة الأتراك في الأعمال وشملها منهم ما عاد عليها بالفساد وسوء الحال وانفدوا مواشي أهلها وأموالهم واستغرقوا بالنهب وارتكاب الظلم أحوالهم وأجلوهم عن منازلهم في زمن الشتاء وشدة البرد وسقوط الثلج والجليد. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 211 وبرز السلطان بركيارق من أصفهان في العسكر وقصد جهة عمه السلطان تاج الدولة وخاف تاج الدولة من أهل الري أن يخامروا عليه إن أقام فرحل عنها ونزل في منزل على أربعة فراسخ منها ووصل السلطان بركيارق في عساكره وخيم بازائه وحالت بينهما طوالع الفريقين وتأهب كل منهما للقاء صاحبه ورتبت المصافات للحرب والتقى الفريقان في اليوم السابع عشر من صفر سنة 488 فانفل عسكر السلطان تاج الدولة وتفرق ونهب سواده وأثقاله وأسر أكثره وقتل منه الخلق الكثير واستشهد تاج الدولة رحمه الله في الجملة وقتله بعض أصحاب قسيم الدولة اق سنقر صاحب حلب بعد اصطناعه إياه وتقريبه له وحمل رأسه وطيف به في العسكر ثم حمل إلى بغداد وطيف به فيها سنة ثمان وثمانين وأربعمائة فيها ورد الخبر إلى الملك فخر الملوك رضوان بن تاج الدولة باستشهاد أبيه تاج الدولة وانفلال عسكره وهو نازل في عانة على الفرات في عسكره يريد الاتمام إلى بغداد ثم المصير إلى أبيه تاج الدولة حين استدعاه إلى الوصول إليه فاضطرب لذاك وقلق وخاف من وصول من يطلبه فحط مضاربه في الحال وقوضت خيام العسكر في الوقت ورحل مجداً في سيره في نفر من سرعان خيله وغلمانه وترك باقي عسكره من ورائه ولم يزل مغذاً في قصده إلى أن دخل حلب وفتح الوزير أبو القاسم النائب في القلعة أبوابها وأصعده إليها وأخذوا الأهبة لمن يقصدها. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 212 ووصل إليه من الفل أخوه شمس الملوك دقاق ابن السلطان تاج الدولة من ناحية دياربكر وجماعة من خواص عسكره المفلول وأقام بحلب مدة يسيرة وراسله الأمير ساوتكين الخادم المستناب في القلعة والبلد وقرر له ملكة دمشق سراً فخرج في الحال من حلب من غير أن يعلم به أحد وجد في سيره ليله ونهاره فلما عرف الملك فخر الملوك خبره أنهض عدة من الخيل في أثره ففاتهم ولم يعرفوا له خبراً ولا وجدوا له أثراً ووصل إلى دمشق وحصل بها وأجلسه ساوتكين في منصب أبيه السلطان تاج الدولة وأخذ له العهد على الأجناد والعسكرية واستقام له الأمر واستمرت على السداد الأحوال. وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية الحجاز بأن الأمير اصفهبذ وصل إلى مكة في أربعمائة فارس من التركمانية فقاتل أهلها فقهرهم وملكها وقتل خلقاً كثيراً من حرابتها من أصحاب ابن أبي شيبة وانهزم ابن أبي شيبة وجمع الأشراف من مكة وحصل بها وأقام بها مديدةً يسيرةً ورحل عنها وفي هذه السنة وردت الأخبار بخلاص الأمير ظهير الدين طغتكين أتابك من اعتقاله عقيب الكسرة التاجية وتوجه عائداً إلى دمشق وخرج صاحبه السلار حصن الدولة بختيار شحنة دمشق نحوه لتلقيه والعود في خدمته. وقد كان هذا الأمير المذكور في حداثة سنه ونضارة غصنه قد حظي عند السلطان الشهيد تاج الدولة ورشحه بحجره وقدمه على أبناء جنسه من خواصه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 213 وبطانته وسكن إلى شهامته وصرامته وسداد طريقته ورد إليه بعد ذلك ما أنس منه الرشد وحسن التدبير في الصدر والورد والاسفهلارية على عسكريته واستنابه في تدبير أمر دمشق وحفظها أيام غيبته فأحسن السيرة فيها وأنصف الرعية من أهلها وبسط المعدلة في كافة من بها فكثر الدعاء له والثناء عليه فعلت منزلته وامتثلت أوامره وأمثلته ولم يلبث أن شاع ذكره بنجابته وأشفقت النفوس من هيبته فولاه ميافارقين من ديار بكر وهي أول ولايته وسلم إليه ولده الملك شمس الملوك دقاق واعتمد عليه في تربيته وكفالته فساس أمرها بالهيبة والتدبير وأصلح فاسدها في أقرب أوان ومدة ونكا في جماعة من مقدميها ووجوه أهلها حين عرف منهم خيانةً ومخامرةً نكايةً قامت بها الهيبة واستقامت معها أمور الرعية. وتنقلت به الأحوال إلى أن توجه مع السلطان تاج الدولة إلى ناحية الري وشهد الوقعة التي استشهد فيها تاج الدولة وحصل في قبضة الاعتقال مع من أسر من المقدمين وأقام مدة إلى أن أذن الله في الخلاص ووصل إلى دمشق في سنة 488 فتلقاه الملك شمس الدولة دقاق وعسكره وأرباب دولته وبولغ في اكرامه واحترامه ورد إليه النظر في الاسفهسلارية واعتمد عليه في تدبير المملكة وسياسة البيضة. واقتضت الحال فيها بينه وبين الملك وأمراء الدولة العمل على الأمير ساوتكين والايقاع به وتمم عليه الأمر وقتل وعقدت الوصلة بينه وبين ظهير الدين أتابك وبين الخاتون صفوة الملك والدة الملك شمس الملوك دقاق ودخل بها واستقامت له الحال بدمشق وأحسن السيرة فيها وأجمل في تدبير أهليها وبالغ في الذب عنها والمراماة دونها وسكنت نفس الملك شمس الملوك إليه واعتمد في التدبير عليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 214 وقد كان الملك فخر الملوك رضوان بن تاج الدولة صاحب حلب مائلاً إلى دمشق ومحباً لها ومؤثراً للعود إليها ولا يختار عليها سواها لمعرفته بمحاسنها وترعرعه فيها فجمع وحشد واستنجد بالأمير سكمان بن ارتق وبرز طالباً لدمشق والنزول عليها وانتهاز الفرصة فيها. وقد كان الملك شمس الملوك دقاق والعسكر مع الأمير ياغي سيان والأمير نجم الدين ايل غازي قد غابوا عن دمشق في هذا الوقت فوصل الملك فخر الملوك رضوان صاحب حلب في عسكره ونزل بظاهر البلد في سنة 489 وزحف في العسكر لقتالها. وكان في البلد وزير الملك شمس الملوك زين الدولة محمد بن الوزير أبي القاسم ونفر قليل من العسكرية وانضاف إليهم جماعة من الأجناد وأهل البلد وأغلقت الأبواب وارتكبت الأسوار وصاحوا ورشقوهم بالسهام وكانوا قد بلغوا في الزحف إلى سوق الغنم وقربوا من السور والباب الصغير وطلب جماعة من العسكرية وأحداث البلد الخروج إليهم والدفع لهم عن البلد فمنعهم السلار بختيار شحنة البلد والرئيس أمين الدولة أبو محمد بن الصوفي رئيس البلد من الخروج وقاتلوهم على الأسوار ومنعوهم من الوصول إليها. واتفق الأمر المقتضى أن حجر المنجنيق وقع في رأس حاجب الملك رضوان وهو قائم يحرض على الحرب فقتله فسكنت الحرب واشتغلوا بأمره وعادوا إلى مخيمهم لأجله ولم يتم لهم أمر ولا تسهل لهم عرض وبلغهم أن الملك شمس الملوك عائد في العسكر إلى دمشق فرحل في العسكر عائداً إلى حلب خائباً في الأمر الذي طلب. وطلب في رحيله ناحية مرج الصفر وطلب حوران فعاث العسكر في أطرافها وطلب التوجه إلى بيت المقدس. وعاد شمس الملوك دقاق لما انتهى إليه الخبر في العسكر ووصل إلى دمشق وتبع عسكر الملك رضوان على أثره فوصل وتقارب المدى بين الفريقين وفصل الملك رضوان منكفئاً إلى حلب فوصل إليها في آخر ذي الحجة من السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 215 سنة تسع وثمانين وأربعمائة فيها وصل خلف بن ملاعب الذي كان السلطان ملك شاه أبو الفتح أخذه من حمص عند أخذها منه واعتقله بأصفهان وأطلق عند وفاة السلطان المذكور وتوجه إلى مصر. وفيها ورد الخبر بوفاة أبي مسلم وادع بن سليمان قاضي معرة النعمان والمستولي عليها في آخر صفر منها وكان له همة مشهورة وطريقة في اليقظة مشكورة. وفيها انكفأ الأمير ياغي سيان منفصلاً عن الملك شمس الملوك دقاق إلى بلده انطاكية في المحرم منها سنة تسعين وأربعمائة في مستهل شهر ربيع الأول منها اجتمع ستة كواكب في برج الحوت وهي الشمس والقمر والمشتري والزهرة والمريخ وعطارد وذكر أهل صناعة النجوم إنهم لم يعرفوا اجتماع هذه الكواكب في برج في قديم الزمان وحديثه ولا سمعوا ذاك. وفي شعبان منها ورد الخبر بأن الأمير جناح الدولة حسين أتابك الملك فخر الملوك رضوان بحلب استوحش من الملك استيحاشاً خاف معه على نفسه وكان زوج والدته ففصل عن حلب منكراً لما تم في أمره وكان أمر التدبير إليه والمعتمد في الحل والعقد فيها عليه ووصل إلى حمص في عسكره وخواصه وكان قراجة نائبه فيها فسلمها إليه وحصل بها وشرع في تحصينها والأحكام لجهات قلعتها ونقل أهله إليها وأمن على نفسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 216 باستقراره بها. ووصل عقيب انفصاله الأمير ياغي سيان من انطاكية إلى حلب وشرع في التدبير والتقرير بها والأمر والنهي في عسكريتها وأهليها وبرز الملك رضوان وياغي سيان من حلب في العسكر إلى ناحية شيزر عازماً على الاحتشاد والتأهب والاستعداد لمعاودة النزول على دمشق فأقاموا على شيزر تقدير شهر ووقع الخلف بين مقدمي العسكر فتفرقوا وعاد كل منهم إلى مكانه وعاد الملك إلى حلب. وفي هذه السنة ورد على فخر الملوك رضوان كتاب المستعلي بالله صاحب مصر مع رسوله يلتمس منه الدخول في طاعته وإقامة الدعوة لدولته وكذلك كتاب الأفضل يتضمن مثل هذه الحال فأجابهما إلى ما التمساه وأمر بأن يدعى للمستعلي على المنبر وللأفضل بعده ولنفسه بعده وأقامت الخطبة على هذه القضية تقدير أربع جمع وكان الملك رضوان قد بنى الأمر في ذلك على الاجتماع مع العسكر المصري والنزول على دمشق لأخذها من أخيه الملك دقاق فوصل الأمير سكمان بن ارتق وياغي سيان صاحب انطاكية إلى حلب وانكرا على الملك الدخول في هذا الأمر واستبدعاه من فعله وأشارا عليه بابطاله واطراح العمل به فقبل ما أشير إليه وأعاد الخطب إلى ما كانت عليه وفي أول شهر ربيع الأول من السنة وردت الأخبار بخروج العسكر المصري من مصر ونزوله على ثغر صور عند ظهور عصيان واليه المعروف بالكتيلة وخروجه عن الطاعة والايثار للخلف والعدول عن المخالصة في الخدمة والعود للمبايعة ولم يزل العسكر منازلها ومضايقاً عليها إلى أن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 217 افتتحها بالسيف قهراً وقتل فيها الخلق الكثير ونهب منها المال الجزيل وأخذ الوالي أسيراً من غير أمان ولا عهد وحمل إلى مصر فقتل بها وفي هذه السنة كان مبدأ تواصل الأخبار بظهور عساكر الافرنج من بحر القسطنطينية في عالم لا يحصى عدده كثرةً وتتابعت الأنباء بذلك فقلق الناس لسماعها وانزعجوا لاشتهارها. وصحت الأخبار بذاك عند الملك داود بن سليمان بن قتلمش وكان أقرب إليهم داراً فشرع في الجمع والاحتشاد وإقامة مفروض الجهاد واستدعى من أمكنه من التركمان للاسعاد عليهم والانجاد فوافاه منهم مع عسكر أخيه العدد الكثير وقويت بذاك نفسه واشتدت شوكته فزحف إلى معابرهم ومسالكهم وسبلهم فأوقع بكل من ظفر به منهم بحيث قتل خلقاً كثيراً وعادوا إليه واستظهروا عليه وكسروا عسكره فقتلوا منهم وأسروا ونهبوا وسبوا وانهزم التركمان بعد أخذ أكثر دوابهم واشترى ملك الروم من السبي خلقاً كثيراً وحملهم إلى القسطنطينية وتواصلت الأخبار بهذه النوبة المستبشعة في حق الاسلام فعظم القلق وزاد الخوف والفرق وكانت هذه الوقعة لعشر بقين من رجب. وفي النصف من شعبان توجه الأمير ياغي سيان صاحب أنطاكية والأمير سكمان بن أرتق والأمير كربوقا في العسكر إلى أنطاكية وقد وردت الأخبار بقرب الافرنج منها ونزولهم البلانة وخف ياغي سيان إلى أنطاكية وسير ولده إلى دمشق إلى الملك دقاق وإلى جناح الدولة بحمص وإلى سائر البلاد والأطراف بالاستصراخ والاستنجاد والبعث على الخفوف إلى الجهاد وقصد تحصين أنطاكية وإخراج النصارى منها. وفي اليوم الثاني من شوال نزلت عساكر الافرنج على بغراس وأعادوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 218 على أعمال أنطاكية فعند ذلك عصى من كان في الحصون المعاقل المجاروة لأنطاكية وقتلوا من كان فيها وهرب من هرب منها وفعل أهل ارتاح مثل ذلك واستدعوا المدد من الافرنج. وفي شعبان ظهر الكوكب ذو الذؤابة من الغرب وأقام طلوعه تقدير عشرين يوماً ثم غاب فلم يظهر وكان قد نهض من عسكر الافرنج فريق وافر يناهز ثلاثين ألفاً فعاثوا في الأطراف ووصلوا إلى البارة وفتكوا فيها تقدير خمسين رجلاً وكان عسكر دمشق وصل إلى ناحية شيزر لانجاد ياغي سيان فلما نزلت هذه الفرقة المذكورة على البارة ونهضوا نحوهم وتطاردوا وقتل منهم جماعة وعاد الافرنج إلى الروج وتوجهوا إلى أنطاكية. وغلا سعر الزيت والملح وغير ذلك وعدم في أنطاكية وتواصل ذلك إليها سرقةً فرخص فيها وجعل الافرنج بينهم وبين أنطاكية خندقاً لكثرة الغارات عليهم من عسكر أنطاكية وقد كان الافرنج عند ظهورهم عاهدوا ملك الروم ووعدوه بأن يسلموا إليه أول بلد يفتحونه ففتحوا نيقية وهي أول مكان فتحوه فلم يفوا له بذلك ولا سلموها إليه على الشرط وافتتحوا في طريقهم بعد الثغور والدروب. وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية حلب بفساد حال رئيسها المعروف بالمجن لما كان عليه من التمكن والغلبة على الأمر وارتكاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 219 الظلم بحيث قبض عليه ونهبت داره وقتل مع من قتل من أولاده واستؤصلت شأفته وذلك مجازاة الساعي في قتل النفوس وسفك الدماء وما هي من الظالمين ببعيد وذلك في ذي القعدة. وفي هذه السنة استوزر الملك رضوان أبا الفضل بن الموصول ولقب مشيد الدين بحلب سنة إحدى وتسعين وأربعمائة في آخر جمادى الأولى منها ورد الخبر بأن قوماً من أهل أنطاكية من حملة الأمير ياغي سيان من الزرادين عملوا على أنطاكية وواطوا الافرنج على تسليمها إليهم لاساءة تقدمت منه في حقهم ومصادرتهم ووجدوا الفرصة في برج من أبراج البلد مما يلي الجبل باعوه للافرنج واطلعوهم إلى البلد منه في الليل وصاحوا عند الفجر فانهزم ياغي سيان وخرج في خلق عظيم فلم يسلم منهم شخص ولما حصل بالقرب من ارمناز ضيعة بالقرب من معرة مصرين سقط عن فرسه على الأرض فحمله بعض أصحابه وأركبه فلم يثبت على ظهر الفرس وعاود سقط فمات رحمه الله. وأما أنطاكية فقتل منها وأسر وسبي من الرجال والنسوان والأطفال ما لا يدركه حصر وهرب إلى القلعة تقدير ثلاثة آلاف تحصنوا بها وسلم من كتب الله سلامته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 220 وفي شعبان منها وردت الأخبار بخروج الأفضل أمير الجيوش من مصر في عسكر كثير إلى ناحية الشام ونزل على بيت المقدس وفيه الأميران سكمان وايل غازي ابنا أرتق وجماعة من أقاربهما ورجالهما وخلق كثير من الأتراك فراسلهما يلتمس منهما تسليم بيت المقدس إليه من غير حرب ولا سفك دم فلم يجيباه إلى ذلك فقاتل البلد ونصب عليه المناجيق فهدمت ثلمة من سوره وملكه وتسلم محراب داود من سكمان ولما حصل فيه أحسن إليهما وأنعم عليهما وأطلقهما ومن معهما ووصلوا إلى دمشق في العشر الأول من شوال وعاد الأفضل في عسكره إلى مصر. وفيها توجه الافرنج إلى معرة النعمان بأسرهم ونزلوا عليها في التاسع والعشرين من ذي الحجة وقاتلوها ونصبوا عليها البرج والسلالم. وبعد افتتاح الافرنج بلد أنطاكية بتدبير الزراد وهو رجل أرمني اسمه نيروز في ليلة الجمعة مستهل رجب وتواصلت الأخبار بصحة ذلك تجمعت عساكر الشام في العدد الذي لا يدركه حصر ولا حزر وقصدوا عمل أنطاكية للايقاع بعساكر الافرنج فحصروهم حتى عدم القوت عندهم حتى أكلوا الميتة ثم زحفوا وهم في غاية من الضعف إلى عساكر الاسلام وهم في الغاية من القوة والكثرة فكسروا المسلمين وفرقوا جموعهم وانهزم أصحاب الجرد السبق ووقع السيف في الرجال المتطوعين والمجاهدين والمغالبين في الرغبة في الجهاد وحماية المسلمين في ذلك يوم الثلاثاء السادس من رجب في السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 221 سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة في المحرم منها زحف الافرنج إلى سور معرة النعمان من الناحية الشرقية والشمالية وأسندوا البرج إلى سورها وهو أعلى منه فكشفوا المسلمين عن السور ولم يزل الحرب عليه إلى وقت المغرب من اليوم الرابع عشر من محرم وصعدوا السور وانكشف أهل البلد عنه وانهزموا بعد أن ترددت إليهم رسل الافرنج في التماس التقرير والتسليم واعطاء الأمان على نفوسهم وأموالهم ودخول الشحنة إليهم فمنع من ذلك الخلف بين أهلها وما قضاه الله تعالى وحكم به وملكوا البلد بعد صلاة المغرب وقتل فيه خلق كثير من الفريقين وانهزم الناس إلى دور المعرة للاحتماء بها فأمنهم الافرنج وغدروا بهم ورفعوا الصلبان فوق البلد وقطعوا على أهل البلد القطائع ولم يفوا بشيء مما قرروه ونهبوا ما وجدوه وطالبوا الناس بما لا طاقة لهم به ورحلوا يوم الخميس السابع عشر من صفر إلى كفرطاب. ثم قصدوا بعد ذلك ناحية بيت المقدس آخر رجب من السنة وأجفل الناس منهم من أماكنهم ونزلوا أولاً على الرملة فملكوها عند إدراك الغلة وانتقلوا إلى بيت المقدس فقاتلوا أهله وضيقوا عليهم ونصبوا عليه البرج وأسندوا إلى السور. وانتهى إليهم خروج الأفضل من مصر في العساكر الدثرة لجهادهم والايقاع بهم وانجاد البلد عليهم وحمايته منهم فشدوا في قتاله ولازموا حربه إلى آخر نهار ذلك اليوم وانصرفوا عنه وواعدهم الزحف إليهم من الغد ونزل الناس عن السور وقت المغرب فعاود الافرنج الزحف إليه وطلعوا البرج وركبوا سور البلد فانهزم الناس عنه وهجموا على البلد فملكوه وانهزم بعض أهله إلى المحراب وقتل خلق كثير وجمع اليهود في الكنيسة وأحرقوها عليهم وتسلموا المحراب بالأمان في الثاني والعشرين من شعبان من السنة وهدموا المشاهد وقبر الخليل علية السلام. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 222 ووصل الأفضل في العساكر المصرية وقد فات الأمر فانضاف إليه عساكر الساحل ونزل بظاهر عسقلان في رابع عشر سهر رمضان منتظراً لوصول الاسطول في البحر والعرب فنهض عسكر الافرنج إليه وهجموا عليه في خلق عظيم فانهزم العسكر المصري إلى ناحية عسقلان ودخل الأفضل إليها وتمكنت سيوف الافرنج من المسلمين فأتى القتل على الراجل والمطوعة وأهل البلد وكانوا زهاء عشرة آلاف نفس ونهب العسكر وتوجه الأفضل في خواصه إلى مصر وضايقوا عسقلان إلى أن قرروا عليها بعده الافرنج عشرين ألف دينار تحمل إليهم وشرعوا في جبايتها من أهل البلد فاتفق حدوث الخلف بين المقدمين فرحلوا ولم يقبضوا من المال شيئاً وحكي أن الذين قتلوا في هذه الوقعة من أهل عسقلان من شهودها وتنائها وتجارها وأحداثها سوى أجنادها ألفان وسبعمائة نفس سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة في صفر منها ورد الخبر بوصول السلطان بركيارق إلى بغداد بعد أن جرى بينه وبين أخيه السلطان محمد تبر خلف وحرب واستظهر فيها عليه وغلبه على مدينة أصفهان وحصل بها. وتوجه الملك شمس الملوك دقاق بن تاج الدولة من دمشق في عسكره إلى ديار بكر لتسلمها من المستولي عليها ووصل إلى الرحبة في البرية ووصل إلى ديار بكر وتسلم ميافارقين ورتب فيها من يحفظها ويذب عنها. وفي رجب منها خرج بيمند ملك الافرنج صاحب أنطاكية إلى حصن أفامية ونزل عليه وأقام أياماً وأتلف زرعه ووصل الخبر بوصول الدنشمند الجزء: 1 ¦ الصفحة: 223 إلى ملطية في عسكره من الأتراك في خلق عظيم ومن عسكر قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش فعاد بيمند عند معرفة ذاك إلى أنطاكية وجمع وحشد وقصد عسكر المسلمين فنصر الله تعالى المسلمين عليه وقتلوا من حزبه خلقاً كثيراً وحصل في قبضة الأسر مع نفر من أصحابه ونفذت الرسل إلى نوابه بأنطاكية يلتمسون تسليمها في العشر الثاني من شهر صفر سنة 493. وفيها وردت الأخبار بأن الآبار غارت في عدة جهات من أعمال الشمال والمنابع في أكثر المعاقل وقلت وتقلصت الأسعار فيها. سنة أربع وتسعين وأربعمائة فيها جمع الأمير سكمان بن أرتق خلقاً كثيراً من التركمان وزحف بهم إلى افرنج الرها وسروج في شهر ربيع الأول وتسلم سروج واجتمع إليه خلق كثير وحشد الافرنج أيضاً والتقى الفريقان وقد كان المسلمون مشرفين على النصر عليهم والقهر لهم فاتفق هروب جماعة من التركمان فضعفت نفسه وانهزم ووصل الافرنج إلى سروج فتسلموها وقتلوا أهلها وسبوهم إلا من أفلت منهم هزيماً. وفي هذه السنة توفي القاضي الفقيه الامام أبو إسحق ابرهيم بن محمد بن عقيل بن زيد الشهرزوري الواعظ رحمه الله يوم الاثنين السابع من المحرم منها. وفي هذه السنة وصل كندفري صاحب بيت المقدس إلى ثغر عكا وأغار عليه فأصابه سهم فقتله وكان قد عمر يافا وسلمها إلى طنكري فلما قتل كندفري سار أخوه بغدوين القمص صاحب الرها إلى بيت المقدس في خمسمائة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 224 فارس وراجل فجمع شمس الملوك دقاق عند معرفة خبر عبوره ونهض إليه معه الأمير جناح الدولة صاحب حمص فلقوه بالقرب من ثغر بيروت فسارع نحوه جناح الدولة في عسكره فظفر به وقتل بعض أصحابه. وفيها افتتح الافرنج حيفا على ساحل البحر بالسيف وارسوف بالأمان وأخرجوا أهلها منها. وفي آخر رجب منها فتحوا قيسارية بالسيف وقتلوا أهلها ونهبوا ما فيها وأعانهم الجنويون عليها وفيها ورد الخبر بقرب السلطان بركيارق من بغداد في عسكره طالباً للقاء أخيه محمد فأسر وقتل وأخذ وزيره وجماعة من مقدميه وأمر بقتلهم وتوجه من وقته إلى ناحية أصفهان فنزل عليها عند وصوله إليها وتقرر أمرها بحيث ملكها وحصل فيها وهي دار السلطنة واستقام له الأمر بها. وفيها تقدم الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين ببغداد بالقبض على عميد الدولة محمد بن محمد بن جهير وزيره وعلى نوابه وأسبابه ومصادرتهم وقتلهم لأشياء نقمها عليه ومنكرات عزيت إليه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 225 وفي شعبان منها أرسل القاضي ابن صليحة المتغلب على ثغر جبلة إلى الأمير ظهير الدين أتابك يلتمس منه انفاذ من يراه من ثقاته ليسلم إليه ثغر جبلة ويصل إلى دمشق بماله وحاله ويسيره إلى بغداد تحت الحوطة والأمان والحماية وجميل الرعاية فأجابه إلى ما اقترحه ووعده بتحقيق أمله وندب لولاية الثغر المذكور ولده الأمير تاج الملوك بوري وكان الملك شمس الملوك دقاق غائباً عن دمشق في ديار بكر فعاد منها ودخل إلى دمشق في أول شوال من السنة وتقررت الحال على ما التمس ابن صليحة وتوجه تاج الملوك في أصحابه إلى جبلة فتسلها وانفصل ابن صليحة عنها ووصل إلى دمشق بأصحابه وأسبابه وكراعه ودوابه وكل ما تحويه يده من مال وأثاث وحال فأكرم مثواه وأحسن لقياه وأقام ما أقام بدمشق وسير إلى بغداد مع فرقة وافرة من الأجناد بجميع ما يملكه وحصل بها واتفق له من وشى بماله وعظم سعة حاله إلى السلطان ببغداد فنهب واشتمل على ما كان يملك. وأما تاج الملوك فإنه لما ملك ثغر جبلة وتمكن هو وأصحابه فيها أساءوا إلى أهله وقبحوا السيرة فيهم وجروا على غير العادة المرضية من العدل والانصاف فشكوا حالهم فيما نزل بهم إلى القاضي فخر الملك أبي علي عمار بن محمد بن عمار المتغلب على ثغر طرابلس لقربها منهم فوعدهم المعونة على مرادهم واسعادهم بالانفاذ لهم وانهض إليهم عدةً وافرةً من عسكره فدخلت الثغر واجتمعت مع أهله على الأتراك فقهروهم وأخرجوهم منه وملكوه وقبضوا تاج الملوك وحملوه إلى طرابلس فأكرمه فخر الملك وأحسن إليه وسيره إلى دمشق وكتب إلى والده أتابك يعرفه صورة الحال ويعتذر إليه مما جرى. وفيها قبض الملك شمس الملوك دقاق على أمين الدولة أبي محمد بن الصوفي رئيس دمشق وصالحه على جملة من المال يحملها إلى خزانته وأطلقه من الاعتقال وأقره على رئاسته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 226 وفي هذه السنة خرج من مصر عسكر كثيف مع الأمير سعد الدولة المعروف بالقوامسي ووصل إلى عسقلان لجهاد الافرنج في أول شهر رمضان وأقام بحيث هو إلى ذي الحجة منها ورحل عن عسقلان ونهض إليه من الافرنج ألف فارس وعشرة آلاف راجل والتقى الفريقان فكسرت ميمنة المسلمين وميسرتهم وتبعوهم وبقي سعد الدولة المقدم في نفر يسير من عسكره في القلب فحمل الافرنج عليه وطلب الثبات فعاجله القضاء وكبا به جواده وسقط عنه إلى الأرض فاستشهد مكانه رحمه الله ومضى شهيداً مأجوراً. وعاد المسلمون على الافرنج وتذامروا عليهم وبذلوا النفوس في الكرة إليهم فهزموهم إلى يافا وقتلوا منهم وأسروا وغنموا وكانت العقبى الحسنة لهم ولم يفقد إلا نفر يسير منهم. وفيها انكفا الأمير كربوقا صاحب الموصل والجزيرة عن السلطان بركيارق لمشاهدة أحوال ولايته واستعادة المخالفين إلى طاعته فلما وصل إلى مراغة عرض له مرض الموت واشتد به وتوفي هناك وسار إلى ربه. وفي هذه السنة وصل السلطان بركيارق بن ملك شاه إلى بغداد منهزماً من أخيه السلطان محمد في أخرها سنة خمس وتسعين وأربعمائة وفي هذه السنة وردت الأخبار بما أهل خراسان والعراق والشام عليه من الخلاف المستمر والشحناء والحروب والفساد وخوف بعضهم من بعض لاشتغال الولاة عنهم وعن النظر في أحوالهم بالخلف والمحاربة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 227 وفيها وصل قمص الرها مقدم الافرنج في عسكره المخذول إلى ثغر بيروت فنزل عليه طامعاً في افتتاحه وحاربه وضايقه وطال مقامه عليه ولم يتهيأ فيه مراد فرحل عنه. ووردت مكاتبات فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس يلتمس فيها المعونة على دفع ابن صنجيل النازل في عسكره من الافرنج على طرابلس ويستصرخ بالعسكر الدمشقي ويستغيث بهم فأجيب إلى ما التمس ونهض العسكر نحوه وقد استدعى الأمير جناح الدولة صاحب حمص فوصل أيضاً في عسكره فاجتمعوا في عدد دثر وقصدوا ناحية انطرطوس ونهد الافرنج إليهم في جميع وحشدهم وتقارب الجيشان والتقيا هناك فانفل عسكر المسلمين من عسكر المشركين وقتل منهم الخلق الكثير وقفل من سلم إلى دمشق وحمص بعد فقه من فقد منهم ووصلوا في الثاني والعشرين من جمادى الآخرة وفيها وردت الأخبار من ناحية مصر بوفاة المستعلي بالله أمير المؤمنين ابن المستنصر بالله صاحب مصر في صفر منها وعمره سبع وعشرون سنة ومولده سنة 468 وكانت مدة أيامه سبع سنين وشهرين ونقش خاتمه الامام المستعلي بالله أمير المؤمنين وكان حسن الطريقة جميل السيرة في كافة الأجناد والعسكرية وسائر الرعية لازماً قصره كعادة أبيه المستنصر بالله منكفئاً بالأفضل سيف الاسلام ابن أمير الجيوش فيما يريده بأصالة رأيه وصواب تقديره وامضائه وقام في الأمر بعده ولده أبو علي المنصور بن المستعلي بالله أبي القاسم أحمد وأخذ له البيعة على الأجناد والأمراء وكافة الرعايا والخدم والأولياء الأفضل السيد أبو القاسم شاهنشاه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 228 ابن أمير الجيوش وأجلسه في منصب أبيه عقيب وفاته ولقب بالآمر بأحكام الله واستقام له الأمر بحسن تدبير الأفضل وانتظمت به الأحوال على غاية المباغي والآمال وفي هذه السنة خرجت العساكر المصرية من مصر لانجاد ولاة الساحل في الثغور الباقية في أيديهم منها على منازليهم من أحزاب الافرنج ووصلت إلى عسقلان في رجب ولما عرف بغدوين قمص بيت المقدس وصولهم نهض نحوهم في جمعه من الافرنج في تقدير سبعمائة فارس وراجل اختارهم فهجم بهم على العسكر المصري فنصره الله على حزبه المفلول وقتلوا أكثر خيله ورجالته وانهزم إلى الرملة في ثلاثة نفر وتبعوه وأحاطوا به فتنكر وخرج على غفلة منهم وقصد يافا وأفلت منهم فكان قد اختفى في أجمة قصب حين تبع وأحرقت تلك الأجمة ولحقت النار بعض جسده ونجا منها وحصل بيافا فأوقع السيف في أصحابه وقتل وأسر من ظفر به في الرملة من رجاله وأبطاله وحملوا إلى مصر في آخر رجب من السنة. وفي هذا الوقت وصلت مراكب الافرنج في البحر تقدير أربعين مركباً ووردت الأخبار بأن البحر هاج بها واختلفت أرياحه عليها فعطب أكثرها ولم يسلم منها إلا القليل وكانت مشحنةً بالرجال والمال سنة ست وتسعين وأربعمائة فيها برز الملك شمس الملوك دقاق وظهير الدين أتابك من دمشق في العسكر وقصد الرحبة ونزل عليها وضايق من بها وقطع أسباب الميرة عنها وأضر بالمضايقة إلى أن اضطر المقيم بها إلى طلب الأمان له ولأهل البلد فأومنوا وسلمت إليه بعد القتال الشديد والحرب المتصلة في جمادى الآخرة منها ورتب أمرها وندب من رآه من الثقات لحفظها وقرر أحوال من بها ورحل عنها في يوم الجمعة الثاني والعشرين منها منكفئاً إلى دمشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 229 وفيها ورد الخبر من حمص بأن صاحبها الأمير جناح الدولة حسين أتابك نزل من القلعة إلى الجامع لصلاة الجمعة وحوله خواص أصحابه بالسلاح التام فلما حصل بموضع مصلاه على رسمه وثب عليه ثلاثة نفر عجم من الباطنية ومعهم شيخ يدعون له ويسمعونه في زي الزهاد فوعدهم فضربوه بسكاكينهم وقتلوه وقتلوا معه جماعة من أصحابه وكان في الجامع عشرة نفر من متصوفة العجم وغيرهم فاتهموا وقتلوا صبراً مظلومين في الوقت عن آخرهم. وانزعج أهل حمص لهذا الحديث وأجفلوا في الحال وهربت أكثر سكانها من الأتراك إلى دمشق واضطربت الأحوال بها وراسلوا الملك شمس الملوك بدمشق يلتمسون انفاذ من يتسلم حمص ويعتمد عليه في حمايتها والذب عنها قبل انتهاء الخبر إلى الافرنج وامتداد أطماعهم فيها فسار الملك شمس الملوك وظهير الدين أتابك في العسكر من دمشق ووصل إلى حمص وتسلمها وحصل في قلعتها ووافق ذلك وصول الافرنج إليها ونزولهم على الرستن لمضايقتها ومنازلتها فحين عرفوا ذلك احجموا عن القرب إليها والدنو منها ورحلوا عنها وقد كان المعروف بالحكيم المنجم الباطني صاحب الملك فخر الملوك رضوان صاحب حلب أول من أظهر مذهب الباطنية في حلب والشام وهو الذي ندب الثلاثة النفر لقتل جناح الدولة بحمص وورد الخبر بهلاكه بعد الحادثة بأربعة عشر يوماً. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 230 ولما رتب شمس الملوك أمر حمص وقرر أحوالها وانكفأ عائداً إلى دمشق في أول شهر رمضان خرجت العساكر المصرية من مصر إلى البر والاصطول في البحر مع شرف ولد الأفضل شاهنشاه وكتب في استدعاء المعونة على الجهاد وبنصرة العباد والبلاد بانفاذ العسكر الدمشقي فأجيب إلى ذلك وعاقت عن مسيره أسباب حدثت وصوادف صدفت ووصل أصطول البحر ونزل على يافا آخر شوال وأقام أياماً وتفرق الاصطول والعساكر إلى الساحل وكانت الأسعار بها قد ارتفعت والأقوات قد قلت فصلحت بما وصل مع الاصطول من الغلة ورخص الأسعار إلا أن غارات الافرنج متصلة عليها وفي ذي القعدة من السنة تواترت الأخبار بخروج قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش من بلاد الروم طالباً أنطاكية ووصوله إلى قريب من مرعش وجرى بينه وبين الأمير الدانشمند صاحب ملطية خلف ومنازعة أوجبت عوده عليه وإيقاعه به وفل عسكره والفتك برجاله ولما انكفأ بعد ذلك قيل أنه وصل إلى الشام وأرسل رسوله إلى حلب يلتمس الاذن للسفار بالوصول إلى عسكره بالمير والازواد وما يحتاج إليه سائر العسكرية والاجناد فسر الناس بذلك وتباشروا به سنة سبع وتسعين وأربعمائة في رجب منها وردت الأخبار بوصول الافرنج في البحر من بلادهم إلى ظاهر اللاذقية مشحونة بالتجار والأجناد والحجاج وغير ذلك وأن صنجيل المنازل لطرابلس استنجد بهم على طرابلس في مضايقتها والمعونة على ملكتها وأنهم وصلوا إليه فاجتمعوا معه على منازلتها ومضايقتها فقاتلوها أياماً ورحلوا عنها. ونزلوا على ثغر جبيل فقاتلوه وضايقوه وملكوه بالأمان فلما حصل في ملكتهم غدروا بأهله ولم يفوا بما بذلوه من الأمان وصادروهم واستنفدوا أحوالهم وأموالهم بالعقوبات وأنواع العذاب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 231 وورد الخبر باجتماع الأميرين سكمان بن أرتق وجكرمش صاحب الموصل في عسكرهما وتعاهدا وتعاقدا على المجاهدة في أعداء الله الافرنج وبذل الطاعة والاستطاعة في حربهم ونزلا في أوائل شعبان من السنة برأس العين. ونهض بيمند وطنكري في عكسريهما من ناحية أنطاكية إلى الرها لانجاد صاحبها على الأميرين المذكورين فلما قربا من عسكر المسلمين النازلين على الرها تأهب كل من الفريقين للقاء صاحبه فالتقوا في تاسع شعبان فنصر الله المسلمين عليهم وعزموهم وقتلوا منهم مقتلة كثيرة وكانت عدتهم تزيد على عشرة آلاف فارس وراجل سوى السواد والاتباع وانهزم بيمند وطنكري في نفر يسير وكان نصراً حسناً للمسلمين لم يتهيأ مثله وبه ضعفت نفوس الافرنج وقلت عدتهم وفلت شوكتهم وشكتهم وقويت نفوس المسلمين وأرهنت وأرهفت عزائمهم في نصرة الدين ومجاهدة الملحدين وتباشر الناس بالنصر عليهم وأيقنوا بالنكاية فيهم والادالة منهم وفي هذا الشهر ورد الخبر بنزول بغدوين ملك الافرنج صاحب بيت المقدس في عسكره على ثغر عكا ومعه الجنويون والمراكب في البحر والبر وهم الذين كانوا ملكوا ثغر جميل في نيف وتسعين مركباً فحصروه من جهاته وضايقوه من جوانبه ولازموه بالقتال إلى أن عجز واليه ورجاله عن حربهم وضعف أهله عن المقاتلة لهم وملكوه بالسيف قهراً. وكان الوالي به الأمير زهر الدولة بنا الجيوشي قد خرج منه لعجزه عن حمايته وضعفه عن المراماة دونه وأنفذ يلتمس منهم الأمان له ولأهل الثغر ليأسه من وصول نجدة أو معونة فلما ملك الثغر تم على حاله منهزماً إلى دمشق فدخلها وأكرمه ظهير الدين أتابك وأحسن تلقيه وكان وصوله إلى دمشق في يوم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 232 الخميس لثلاث بقين من شعبان وتقدم شمس الملوك دقاق وظهير الدين أتابك في حقه بما طيب نفسه وأكد أنسه وأقام بدمشق إلى أن تسهلت له السبيل في العود إلى مصر فتوجه إليها عائداً ووصل إليها سالماً وأوضح عذره فيما تم عليه من الغلبة فقبل عذره بعد الانكار عليه والغيظ من فعله وفي هذه السنة عرض للملك شمس الملوك دقاق بن السلطان تاج الدولة صاحب دمشق مرض تطاول به ووقع معه تخليط الغذاء أوجب انتقاله إلى علة الدق فلم يزل به وهو كل يوم في ضعف ونقص فلما أشفى ووقع اليأس من برءه وانقطع الرجاء من عافيته تقدمت إليه والدته الخاتون صفوة الملك بأن يوصي بما في نفسه ولم يترك أمر الدولة وولده سدىً فعند ذلك نص على الأمير ظهير الدين أتابك في الولاية بدمشق من بعده والحضانة لولده الصغير تتش بن دقاق بن تاج الدولة إلى حين يكبر واحسان تربيته وألقى إليه ما كان في نفسه وتوفي إلى رحمة الله في اليوم الثاني عشر من شهر رمضان من السنة وقد كان ظهير الدين أتابك قبل هذه الحال في عقابيل مرض أشفى منه وتداركه من الله تعالى العافية وابل من مرضه وشرع في احسان السيرة في العسكرية والرعية وأحسن إلى الأمراء والمقدمين من الدولة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 233 وأطلق يده من الخزانة في الخلع والتشريفات والصلات والهبات وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وأقام الهيبة على المفسدين المسيئين وبالغ في الاحسان إلى المطيعين والمحسنين وتألف القلوب بالعطاء واستمال الجانح بالتردد والحباء واستقامت له الأمور واجمع على طاعته الجمهور. وقد كان الملك شمس الملوك قد حمل على الرئيس أبي محمد بن الصوفي رئيس دمشق إلى أن قبض عليه في سنة 496 وبقي معتقلاً إلى أن قررت عليه مصالحة نهض فيها وقام بها وبعد ذلك عرض له مرض قضى فيه محتوم نحبه وصار منه إلى ربه وقام بعده في منصبه ولده أبو المجالي سيف وأخوه أبو الذواد المفرج وكتب لهما المنشور في الاشتراك في الرئاسة وأحضرهما ظهير الدين أتابك عقيب وفاة شمس الملوك وطيب نفسيهما ووكد الوصية عليهما في استعمال النهضة في سياسة الرعايا وإنهاء أحوالهما فيما يستمر عليها من صلاح وفساد ليقابل المحسن إليها بالاحسان والجاني عليها بالتأديب والهوان فامتثلا أوامره وعملا بأحكامه. فكان الملك شمس الملوك رحمه الله قبل وفاته قد سير أخاه الملك ارتاش ابن السلطان تاج الدولة إلى حصن بعلبك ليكون به معتقلاً عند واليه فخر الدولة خادم أبيه كمشتكين التاجي فرأى ظهير الدين أتابك في حكم ما يلزمه لأولاد تاج الدولة ان أرسل الخادم المذكور في اطلاقه واحضاره إلى دمشق فوصل إليها وتلقاه وأكرمه وبجله وخدمه وأقامه في منصب أخيه شمس الملوك وتقدم إلى الأمراء والمقدمين والأجناد بالطاعة لأمره والمناصحة في خدمته وأجلسه في دست المملكة في يوم السبت لخمس بقين من ذي الحجة سنة 497 فاستقامت بذلك الأمور وسكنت إليه نفوس الجمهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 234 واتفق للأمر المقضي الذي لا يدافع والمحتوم الذي لا يمانع من سعى في افساد هذا التدبير ونقض هذا التقرير فأوحش الملك محيي الدين ارتاش من ظهير الدين أتابك ومن الخاتون صفوة الملك والدة شمس الملوك وأوقعت أمه في نفسه الخوف منهما وأوهمته انهما ربما عملا عليه فقتلاه والأمر بالضد مما نقله الواشي إليه وألقاه فخاف منهما وحسن له الخروج من دمشق ومملكتها والعود إلى بعلبك لتجتمع إليه الرجال والعسكرية فخرج منها سراً في صفر سنة 498 وخرج ايتكين الحلبي صاحب بصرى إليها هارباً لتقرير كان بينهما في هذا الفساد فعاثا في ناحية حوران وراسلا بغدوين ملك الافرنج بالاستنجاد به وتوجها نحوه وأقاما عنده مدةً بين الافرنج يحرضانه على المسير إلى دمشق ويبعثانه على الافساد في أعمالها فلم يحصلا منه على حاصل ولا ظفرا بطائل فحين يئسا من المعونة وخاب أملهما في الاجابة توجها إلى ناحية الرحبة في البرية. واستقام الأمر بعدهما لظهير الدين أتابك وتفرد بالأمر واستبد بالرأي وحسنت أحوال دمشق وأعمالها بإيالته وعمرت بجميل سياسته. وقضى الله تعالى بوفاة تتش ولد الملك شمس الملوك دقاق المقدم ذكره في هذه الأيام. واتفق إن الأسعار رخصت والغلات ظهرت وانبسطت الرعية في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 235 عمارة الأملاك في باطن دمشق وظاهرها لاحسان سيرته واجمال معاملته وبث العدل فيهم وكف أسباب الظلم عنهم وفي هذه السنة ورد الخبر من ناحية طرابلس بظهور فخر الملك ابن عمار صاحبها في عسكره وأهل البلد وقصدهم الحصن الذي بناه صنجيل عليهم وإنهم هجموا عليه على غرة ممن فيه فقتل من به ونهب ما فيه وأحرق وأخرب وأخذ منه السلاح والمال والديباج والفضة الشيء الكثير وعاد إلى طرابلس سالماً غانماً في التاسع عشر من ذي الحجة. وقيل إن بيمند صاحب انطاكية ركب في البحر ومضى إلى الافرنج يستصرخها ويستنجد بهم على المسلمين في الشام وأقام مدة وعاد عنهم منكفئاً إلى انطاكية سنة ثمان وتسعين وأربعمائة فيها عرض لظهير الدين أتابك مرض اشتد به ولازمه وخاف منه على نفسه وأشفق على أهله وولده وأصحابه ورعيته إن تم عليه أمر وتواصلت مكاتبات فخر الملك بن عمار ورسله من طرابلس بالاستصراخ والاستنجاد على الافرنج النازلين عليها والبعث على تعجيل إعانته بمن يصل إليه من العساكر لكشف غمته وتفريج كربته وقد كان الأمير سكمان بن ارتق والأمير جكرمش صاحب الموصل قد اتفقا على الجهاد في المشركين ونصرة المسلمين فنتج لظهير الدين فكرة وراية فيما نزل به من المرض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 236 المخوف أن يرسل الأمير سكمان بن ارتق يستدعي وصوله إلى دمشق في عسكره ليوصي إليه ويعتمد في حماية دمشق عليه. ونفذت إليه أيضاً مكاتبة ابن عمار بتحريضه على المسارعة إلى ذلك والقصد لنصرته وبذل له مالاً جزيلاً على معونته ونصرته فحين واقف على مضمون المكاتبات أجاب إلى المقترح عليه وسارع إليه وثنى عنانه إلى دمشق مغذاً في سيره مواصلاً لجدة نجده وتشميره وقطع الفرات إلى ما حض عليه والمغارات. فلما وصل إلى القريتين واتصل خبره إلى أتابك لامه أصحابه وخواصه على ما فرط في تدبيره وعنفوا رأيه فيما استدعاه وخوفوه عاقبة ما أتاه وقالوا له: إذا وصلت الأمير سكمان بن ارتق دمشق وأخرجتها من يدك كيف يكون حالك وأحوالنا أو ليس قد عرفت نوبة اتسز لما استدعى السلطان تاج الدولة بن البارسلان وسلم إليه دمشق كيف بادر باهلاكه ولم يمهله ولا أهله. فعند ذلك أفاق لغلطته وتنبه لغفلته وندم ندامة الكسعي وزاده هذا الأمر مرض الفؤاد مع مرض الجسم. وبينما هو وأصحابه من التفكر فيما يعتمد من أمره وتدبير به حاله عند وصوله والخبر ورد من القريتين بأن الأمير سكمان ساعة وصوله في عسكره إلى القريتين ونزوله لحقه مرض شديد وقضى منه محتوم نحبه وصار إلى رحمة ربه وحمله أصحابه في الحال ورحلوا عائدين به فسر أتابك بهذه الحال سروراً زائداً كان معه بدء سعادته وعود برئه إلى جسمه وعافيته فسبحان مدبر الخلق بحكمته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 237 ومسبب الأسباب بقدرته وقصدوا ناحية الجزيرة وذلك في أول صفر من السنة وفي هذه السنة وردت الأخبار بهلاك صنجيل مقدم الافرنج النازلين على ثغر طرابلس في رابع جمادى الأولى بعد أن كان الأمر استقر بينه وبين فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس من المهادنة على أن يكون ظاهر طرابلس لصنجيل بحيث لا يقطع الميرة عنها ولا يمنع المسافرين منها. وفي أول السنة ورد الخبر بوصول السلطان محمد تبر ابن ملك شاه إلى الموصل ونزوله عليها وخروج الأمير جكرمش صاحبها إليه باذلاً له الطاعة وشروط الخدمة ورحل عنها. وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية العراق بوفاة السلطان بركيارق ابن السلطان ملك شاه رحمه الله بنهاوند بعد أن تقررت الحال بينه وبين أخيه بحيث تكون مملكة خراسان بأسرها للسلطان أبي الحرث سنجر وأصفهان وأعمالها وبغداد وما والاها برسم السلطان بركيارق والسلطنة له وأرمينية وأذربيجان وديار بكر والموصل والجزيرة والشام وما يليها للسلطان محمد تبر. وتوجهت عساكر السلطان بركيارق بعد وفاته إلى بغداد ومقدمها الأمير اياز ومعه الأمير صدقة بن مزيد بن دبيس وتوجه السلطان محمد إلى بغداد أيضاً. فلما عرف الأمير اياز خبره خاف منه على نفسه فهرب منه ومعه ولد السلطان بركيارق ودخل السلطان محمد بغداد ووصل إليه الأمير سيف الدولة صدقة بن مزيد الأسدي واستقر أمره معه. وعرف اياز إن حاله لا تستقر إلا بالعود إلى طاعة السلطان محمد والدخول في جملته والكون في خدمته فراسله والتمس الأمان منه والتوثقة باستحلافه على الوفاء بما عاهده عليه فأجابه إلى ما رامه منه ووصل إليه في العسكر مع ولد السلطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 238 بركيارق وكان طفلاً صغيراً فانضاف في جملته مع عسكره. فلما كان بعد أيام غدر باياز ونكث عهده وأخلف وعده وقبض عليه وهو آمن مطمئن بما توثق به من إيمانه وقتله وجعل سبب هذا الفعل أموراً أسرها في نفسه وأوردها واحتج بأمور أضمرها وعددها ليعذر في فعله وما هو بمعذور في فعله ولا بمشكور وفي أول شعبان توجه ظهير الدين أتابك إلى بعلبك في العسكر ونزل عليها متنكراً على كمشتكين الخادم التاجي واليها لأسباب انتهت إليه عنه فأنكرها منه. فلما نزل عليه وضايقه وعرف ما في نفسه أنفذ إليه ببذل الطاعة والخدمة والانكار لما افترى به عليه والتنصل مما نسب إليه والحلف على البراءة مما اختلق من المحال عليه فصفح له عن ذلك ورضي عنه وقرر أمره وأوعز بكف الأذية عن ناحيته. ورحل عنها متوجهاً إلى ناحية حمص وقصد رفنية ونزل عليها ووفد عليه خلق كثير من جبل بهرا فهجموا رفنية على حين غفلة من أهلها وعرة من مستحفظها وقتلوا من بها وبأعمالها والحصن المحدث عليها من الافرنج وأحرق ما أمكن احراقه في الحصن وغيره وهدم الحصن وملكت أبراج رفنية وقتل من كان فيها وعاد العسكر إلى حمص وفي رجب خرج الملك فخر الملوك رضوان صاحب حلب وجمع خلقاً كثيراً وعزم على قصد طرابلس لمعونة فخر الملك ابن عمار على الافرنج النازلين عليه وكان الأرمن الذين في حصن ارتاح قد سلموا إليه الحصن لما شملهم من جور الافرنج وتزايد ظلمهم فلما عرف طنكرى ذلك خرج من انطاكية لقصد ارتاح واستعادتها وجمع من في أعماله من الافرنج ونزل عليها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 239 وتوجه نحو فخر الملك في عسكره لابعاده عنها وقد جمع وحشد من أمكنه من عمل حلب والأحداث الحلبيين لقصد الجهاد. فلما تقاربا نشبت الحرب بين الفريقين فثبت راجل المسلمين وانهزمت الخيل ووقع القتل في الرجالة ولم يسلم منهم الا من كتب الله سلامته ووصل الفل إلى حلب وأحصي المفقود من الخيل والرجل فكان تقدير ثلاثة ألف نفس. وحين عرف ذلك من كان في ارتاح من المسلمين هربوا بأسرهم منها وقصد الافرنج بلد حلب فأجفل أهله منه ونهب من نهب وسبي من سبي وذلك في الثالث من شعبان واضطربت أحوال من بالشام بعد الأمن والسكون وفي هذه السنة خرج من مصر عسكر كثيف يزيد على عشرة آلاف فارس وراجل مع الأمير شرف المعالي ولد الأفضل وكوتب ظهير الدين أتابك بالاستدعاء للمعونة والاعتضاد إلى جهاد الكفرة الأضداد فلم يتمكن من الاجابة إلى المراد لأسباب عاقته عن المعونة والاسعاد وتوجه في العسكر إلى بصرى فنزل عليها عازماً. على مضايقتها وفيها الملك ارتاش بن تاج الدولة وايتكين الحلبي لأنهما كانا عند الافرنج على ما شرح من أمرهما أولاً. ثم استدرك الرأي واستصوب المسير إلى العسكر المصري للاعتضاد على الجهاد فسار إليه ووصل إلى ظاهر عسقلان ونزل قريباً منه وعرف الافرنج الخبر فتجمعوا وقصدوا عسقلان والتقى الفريقان في رابع عشر ذي الحجة من السنة فيما بين يافا وعسقلان فاستظهر الافرنج على المسلمين وقتلوا والي عسقلان وأسروا بعض المقدمين وانهزم عسكر مصر إلى عسقلان وعسكر دمشق إلى بصرى وقيل إن الذين قتلوا من المسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 240 بإزاء الذين قتلوا من المشركين كانوا متقاربين ولما عاد ظهير الدين والعسكر إلى بصرى وجد الملك ارتاش وايتكين الحلبي لما يئسا من نصرة الافرنج لهما قد قصدا ناحية الرحبة وأقاما بها مدةً وتفرقا وراسل المقيمان ببصرى نوشتكين وفلوا كذا من ظهير الدين يطلبان منه الأمان والمهلة لهما بالتسليم مدة اقتراحهما فأجاب إلى ما التمساه منه ورحل عنهما ولما بلغ الأجل منتهاه والوعد مداه سلما بصرى إليه وخرجا منها ووفى لهما بما وعدهما من الأمان والاقطاع وزاد على ذلك وأقاما عليه مدة أيامه سنة تسع وتسعين وأربعمائة فيها خرج الافرنج إلى سواد طبرية وشرعوا في عمارة حصن علعال فيما بين السواد والبثنية وكان من الحصون الموصوفة بالمنعة والحصانة فلما عرف ظهير الدين أتابك هذا العزم منهم لشفق من اتمام الأمر فيه فيصعب تدارك الأمر وتلافيه فنهض في العسكر وقصدهم وهو على غفلة مما دهمهم فأوقع بهم وقتلهم بأسرهم وملك الحصن بما فيه من آلاتهم وكراعهم وأثاثهم وعاد إلى دمشق برؤوسهم وأسرائهم وغنائمهم وهي على غاية الكثرة في يوم الأحد النصف من شهر ربيع الآخر. وفي هذا الشهر ظهر في السماء من الغرب كوكب له ذوابة كقوس قزح أخذه من المغرب إلى وسط السماء وقد كان رؤي قريباً من الشمس نهاراً قبل ظهوره في الليل وأقام عدة ليال وغاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 241 وفي السادس والعشرين من جمادى الأولى ورد الخبر بقتل خلف بن ملاعب صاحب أفامية قتله قوم من الباطنية نفذهم إليه المعروف بأبي طاهر الصائغ العجمي من حلب وهو الذي قام للباطنية مقام الحكيم المنجم الباطني بعد هلاكه بموافقة رجل من دعاتهم يعرف بأبي الفتح السرميني كان مقيماً بأفامية وقد قرر ذلك مع أهلها فنقبوا نقباً في السور حتى تمكنوا من الوصول إليه فلما قربوا منه وأحس بهم لقيهم فوثب إليه بعضهم فطعنه في جوفه فرمى بنفسه في القلة يريد بعض دور أهله ده كذا فطعنه آخر طعنةً ثانيةً فعاش ساعة ومات وصاح الصائح على القلة ونادوا بشعار الملك رضوان فجاء أولاده وصاحبه من السور وملكوا عليهم الموضع وقتلوا من قتلوا وسلم ولده مصبح بن خلف بن ملاعب وتوجه إلى شيزر وأقام هناك مدة فاطلق منها. ووصل طنكري إلى أفامية عقيب هذه الكائنة طامعاً فيها ومعه أخ كان لأبي الفتح الداعي السرميني كانوا مأسوراً في يده فقرر له شيئاً دفعه إليه فرحل عنه وفي هذه السنة وصل قلج أرسلان بن سليمان بن قتلمش في عسكر كثير وقصد الرها ونزل قريباً منها فأنفذ أصحاب جكرمش المقيمون بحران يستدعونه لتسليمها إليه فوصل إليهم وتسلمها منهم واستبشر الناس بوصوله إلى الجهاد وأقام أياماً ومرض مرضاً أوجب له العود إلى ملطية وأقام أصحابه بحران. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 242 وورد الخبر بأن مصبح بن ملاعب الذي أفلت من نوبة أفامية التجأ إلى طنكري صاحب انطاكية وحرضه على العود إلى أفامية وأطمعه في أخذها لقلة القوت بها فنهض إليها ونزل عليها وضايقها إلى أن تسلمها بالأمان في الثالث عشر من المحرم سنة 500 فلما حصل أبو الفتح السرميني الباطني في يده قتله بالعقوبة وحمل أبا طاهر الصائغ معه وأصحابه أسرى ولم يف لهم بما بذل من الأمان وكان القوت قد نفذ من أفامية ولم تزل الأسرى في يده إلى أن فدوا نفوسهم بمال بذلوه لهم فأطلقهم ووصلوا إلى حلب وفي هذه السنة نهض ظهير الدين أتابك في العسكر إلى بصرى لمشاهدتها عند تسليمها من أيدي المقيمين بها عند انقضاء الأجل المضروب لها وكان قد خلع على كافة الأمراء والمقدمين وأماثل العسكر الخلع المكملة من الثياب والخيول والمراكب بحيث تضاعف الثناء عليه والاعتراف بأياديه وشاع الخبر بذاك وتضاعفت رغبة الأجناد في خدمته والميل إلى طاعته والحصول في جملته فلما حصل على بصرى اقطع نوشكتين وفلوا اقطاعاً يكفيهما ورجالهما أجابهما إلى ذلك ووفى لهما بما قرره معهما حسب ما تقدم به الشرح سنة خمسمائة فيها تزايد فساد الافرنج في أعمال السواد وحوران وجبل عوف وانتهت الأخبار بذلك وشكوا أهلها إلى ظهير الدين أتابك فجمع العسكر ومن انضاف إليه من التركمان ونهض بهم وخيم في السواد. وكان الأمير عز الملك الوالي بصور قد نهض منها في عسكره إلى حصن تبين من عمل الافرنج فهجم ربضة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 243 وقتل من كان فيه ونهب وغنم واتصل الخبر ببغدوين ملك الافرنج فنهض إليه من طبرية ونهض أتابك إلى حصن بالقرب من طبرية فيه جماعة من فرسان الافرنجية فقاتله وملكه وقتل من كان فيه وانكفأ إلى المدان وعاد الافرنج إليه. فلما قربوا منه اندفع العسكر إلى ناحية زرا وتلاقت طلائع الفريقين وعزموا على المصاف والالتقاء وقد قويت نفوس المسلمين فلما كان من غد ذلك اليوم ركب العسكر وقد تأهب للقاء على تلك النية وزحفوا إلى موضع مخيمهم فصادفوهم وقد رحلوا عائدين إلى طبرية ثم منها إلى عكا فعاد ظهير الدين عند ذلك في العسكر إلى دمشق وكانت الأخبار متناصرةً في هذه السنة باهتمام السلطان غياث الدنيا والدين محمد ابن ملك شاه بمحاصرة قلعة الباطنية المعروفة بشاه ذر المجاورة لأصفهان والجد في افتتاحها وحسم أسباب الفساد المتوجه على البلاد من المقيمين بها وتوجه عنها في عساكره الدثرة المتناهية في القوة والكثرة ولم يزل منازلها ومضايقها إلى أن منحه الله تعالى افتتاحها والاظهار على من فيها وملكها بالسيف قهراً وقتل من كان فيها من الباطنية قسراً وهدمها وأزاح العالم من الشر المتصل منها والبلاء المبثوث من أهلها. وأنشأ كتاب الفتح يوصف الحال فيها إلى سائر أعمال الملكة ليقرأ على المنابر ويستنزل في معرفة كل باد وحاضر أمير الكتاب أبو نصر بن عمر الأصفهاني كاتب السلطان وبلاغته في الكتابة معروفة مذكورة وقضاء حقه في إنشائه موصوفة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 244 مشهورة وذكرت مضمونه في هذا الموضع ليعلم من يقف عليه شرح حال هذه القلعة وما من الله به على أهل تلك البلاد من الراحة من شر أهلها وأذية المقيمين بها ونسختها بعد العنوان والطغراء: بسم الله الرحمن الرحيم وهو الوزير الأجل مجد الدين شرف الاسلام ظهير الدولة زعيم الملة بهاء الأمة فخر الوزراء أبو المعالي هبة الله بن محمد بن المطلب رضى أمير المؤمنين. أما بعد أطال الله بقاء الوزير وألقابه وأدام تأييده وتمهيده وأحسن من عوائده مزيده فإن الله تعالى يقول وقوله الحق: " يا أَيُّها الذين آمنوا مَنْ يرتدُّ منكم عن دينهِ فسَوْفَ يأْتي اللهُ بِقوْمٍ يُحبُهمْ ويُحبُّونهُ أَذِلَّةٍ على المؤمنينَ أعزَّةٍ على الكافرينَ يُجاهدُونَ في سبيل اللهِ وَلا يَخافونَ لومة لائمٍ ذلكَ فضلُ اللهِ يُؤتيهِ مَنْ يشاءُ واللهُ واسعٌ عليمٌ ". ولقد أتانا الله وله الحمد من هذا الفضل ما صرنا به أطول الملوك في الاسلام باعاً وأعزهم في الذب عن حريمه أشياعاً وأتباعاً وأشدهم عند الحفيظة له بأساً وأطهرهم من درن الشبهة فيه لباساً وأقصدهم في اقتفار الحق المبين أنحاءً وأثقلهم على أعداء الله وأعداء الدين المنير وطاءةً وانحاءً فلا تتجه عزائمنا لمهم في ذلك الا حققنا الفيصل وطبقنا المفصل وفرينا الفري واقتدحنا من الزناد الوري وأعدنا الحق جدعاً وأنف الباطل مجدعاً نعمةً من الله تعالى اختصنا بها من دون سائر الأنام وأجلنا من التفرد بمزاياها في الذروة والسنام فالحمد لله على ذلك حمداً يوازي قدر نعمه ويمتري المزيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 245 من مواد كرمه ثم الحمد لله على ما يسرنا له من اعزاز الدين ورفع عماده وقمع أضداده واستئصال شأفة الباطنية المناهضين لعنادة الذين استركوا العقول الفاسدة فاستغووها بأباطيلهم واستهووها بأضاليلهم واتخذوا دين الله هزوءًا ولعباً بما لفقوه من زخارف أقاويلهم سيما ما سنى الله من فتح الفتوح وهيأ أسبابه من النصر الممنوح بأخذ قلعة شاه ذر التي شمخ بها الجبل وبذخ وكان الباطل باض فيها وفرخ وكانت قذىً في عيون الممالك وسيما إلى التورط بالمسلمين في المهاوي والمهالك ومرصداً عليهم بالشرارة والنكارة حيثما ينحونه من المسالك. وفيها ابن عطاش الذي طار عقله في مدرج الضلال وطاش وكان يرى الناس نهج الهدى مضلةً ويتخذ السفر المشحون بالأكاذيب مجلةً ويستبيح دماء المسلمين هدراً ويستحل أموالهم غرراً فكم من دماء سفكت وحرم انتهكت وأموال استهلكت وترات تجرعتها النفوس فما أستدركت ولو لم يكن منهم إلا ما كان عند حدثان أمرهم بأصفهان من اقتناص الناس غيلةً واستدراجهم خديعةً وقتلهم إياهم بأنواع العقوبات قتلةً شنيعةً ثم فتكهم عوداً على بدء بأعيان الحشم وخيار العلماء واراقتهم ما لا يعد ولا يحصى من محرمات الدماء إلى غير ذلك من هنات يمتعض الاسلام لها أي امتعاض وما الله عن المسلم أن يتميز لها براض لكان حقاً علينا أن نناضل عن حمي الدين ونركب الصعب والذلول في مجاهدتها ولو إلى الصين. وهذه القلعة كانت من أمهات القلاع التي انقطع إليها رؤوس الباطنية كل الانقطاع فكان تبث الحبائل منها في سائر الجهات والأقطار وترجع إليها نتائج الفساد رجوع الطير إلى الأوكار وهي في العزة والمنعة مثل مناط الشمس التي تنال منها حاسة البصر دون حاسة اللمس ترد الطرف كليلاً وتعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 246 العدد الدثر في محاصرتها كليلاً. وكأنها وهي أعلى شاهق نزلت على الجبل من حالق فهي بهذه الصفة مقابلة لبلدة أصفهان التي هي مقر الملك ودار الثواء وأولى البلاد بتطهيرها من اهتياج الفتن واختلاف الأهواء ونحن نقيم بها طول هذه المدة المديدة وندبر أمرها إلى ما يصونه الرأي من الحيلة والمكيدة وأمامنا من المستخدمين وأصحاب الدواوين نفر تصغي إليهم أفئدتهم فيما كانوا عليه من مخالفة الدين يتوصلون بمكرهم إلى نقض ما يبرم وتأخير ما تقدم ويوهمون إنها من النصائح التي تقبل وتلزم حتى تطاول دون ذلك الأمد وبان من القوم المعتقد واتضح لنا من صائب التدبير ما يعتمد وكنا في خلال هذه الأحوال لم نخل هذه القلعة من طائفة تهزهم حمية الدين من الجند ينتهون من التضييق عليها إلى كل غاية من الجد فيتوفرون على محاصرتهم ومصابرتهم ويتشمترون لمزاولتهم ومصاولتهم ويقعدون لهم بكل مرصد ويسدون كل متنزل ومصعد حتى انقطعت عنهم المواد وخانتهم المير والأزواد واضطروا إلى أن نزل بعضهم على حكم الأمان بعد الاستئمار والاستئذان فأمرنا بتخلية سربهم وايمان سربهم وسلم الشطر من القلعة لخلوه من الفئة النازلة واعتصم ابن عطاش بقلة اخرى تسمى دالان مع نخب أصحابه من المقاتلة وهذه القلة هي أمنع المواضع من القلعة وأحصنها وأوعرها مسلكاً وأحزنها فقد نقل إليها ما كان بقي لهم من الميرة وسائر ما يستظهر به من السلاح والذخيرة على أن يلبثوا بها أياماً معدودةً فينزلوا ويبذل لهم الأمان مثل ما بذل للأولين فيتحولوا كل ذلك بوساطة من قدمنا ذكرهم من المستخدمين في الدواوين وفي باطن الأمر خلاف ما يتوهم من الاعلان وذلك إنهم قدروا أن ما سلم من القلعة يترك على عمارته ومكانته وما امتنع به من القلة لا يقدر عليه لمنعته وحصانته فهم يتوصلون بتمكنهم من ذلك الحيل إلى سرقة ما سلموه آنفاً ببعض الحيل هذا وقد كفوا مؤن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 247 من نزل من الأكلة وعندهم الكفاف لمن بقي من العملة. ففطنا لما عمدوا وعليه اعتمدوا وأمرنا في الحال بالقلعة المسلمة فنسفت نسفاً وخسفت بها خسفاً وصير سفلها علواً كما كان علوها خلواً ثم انتقمنا من المستخدمين الغادرين بالملك والدين حتى ساقهم الحين المتاح إلى حين فلم يفلت منهم صاحب ولا مصحوب إن الشقاء على الأشقين مصبوب. ووافق ذلك حلول الموعد لنزول باقي القوم من دالان فأبوا إلا المطل والليان. فلما مضت أيام على ذلك أظهروا التمرد والعصيان فصاروا كما قال الله تعالى " وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فتنتهُ فَلَنْ تَملكَ لهُ مِنَ اللهِ شيئاً أُولائكَ الذينَ لَمْ يُردِ اللهُ أَنْ يُطهَرَ قلوبهم لَهمْ في الدُّنيا جِزْيٌ ولهم في الآخرةِ عذَابٌ عظيمٌ " فعند ذلك استخرنا بالله تعالى تجريد العزائم لهذا الجهاد الذي هو عندنا من أنفس العزائم ولا نخاف فيه لومة لائم وأهبنا بمن حضرنا من العساكر المنصورة إلى الأحداق بالقلعة المذكورة يوم الثلاثاء ثاني ذي الحجة فنزلوا لفنائها محتشدين ولصدق اللقاء متشمرين متجردين وجرت مناوشة عشية هذا اليوم أثخنت عدةً من أولئك القوم وبات المسلمون ليلتهم تلك على أضم والملحدون لحماً على وضم. فلما تنفس الصبح وعردت الديوك الصدح وطوى الليل رداءه ورفع الفجر لواءه نصرا لله الحق وادال الدين وساء صباح المنذرين وعدت جيوش النصر يداً واحدةً وكلمةً على التظافر والتظاهر مساعدة تسطوا بالفئة المتحصنة بالقلعة سطوة الليث الهصور وكأنهم طاروا بأجنحو الصقور على صم الصخور فلم يلبثوا قبل ذرور الشمس بقرنها وأخذها الناصح من لونها إن أخذوا القلعة عنوةً وقهراً وأجروا من دماء الباطنية الملحدة نهراً فلم يئل منهم وائل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 248 ولا أخطأهم من السيوف البواتر وائل وأمرنا في الحال بهدمها والتعفية على ردمها فلم يبق بها نافخ ضرمه ولا أثر من نسمه ولا مدر على أكمه وأسر ابن عطاش رأس الجالوت وولي الطاغوت الذي كان ممن قال الله تعالى فيه: " وَجعَلْناهمْ أَئمَّةً يَدْعونَ إلى النَّارِ " فجعلناه وولده المقرون به مثلةً للنظار وعبرةً لأولي الأبصار فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين هذا الفتح المبين والعزة التي تتلى لأنها من الدهر الحين والنعمة التي تمت وعمت وأحنت بالنقمة على أعداء الله ورسوله وطمت وما ذاك إلا من بركات عقائدنا الناصعة في موالاة الدولة العباسية ظاهر الله مجدها وما يلتزمه في فرضها من فضل المناصحة والمشايعة فيها نحن نسطو بالأعادي ونكفي من اعتراض النوائب كل العوادي ونسوس الدهماء من الحواضر والبوادي. وهذه البشرى التي يهنأ بها الاسلام وترفع بها من الاشادة بذكرها في الخافقين الأعلام أمرنا بنشرها في الأقصى والأدنى لا سيما الدارة العزيزة ظاهر الله مجدها فإنها أولى من يبشر بمثلها ويهنأ وأنهينا بالأمير عز الدولة إلى إيصال هذه البشارة إلى الديوان العزيز النبوي أعلى الله جده فندب من قبله من يقوم بهذه الخدمة ويعلمه ما نحن نصدره من الاعتراف بقدر هذه النعمة وهذا الأمير كان من المندوبين أولاً وأخراً لمحاصرة هذه القلعة فأبلى فيها بلاءً حسناً جميلاً وأغنى غنائم نجد له فيه عديلاً ولذلك ما اختصصناه بهذه المزية واثرناه بابلاغ هذه البشرى الهنية والمعول تام على الاهتمام الوزيري في القائها إلى المقار المعظمة النبوية ليعلم من صدق نهضتها بالخدمات وعندنا المسعاة في إعزاز الدين من أوجب المهمات ما يزلفنا من شريف المراضي ويفرض لنا من المحامد والمآثر التامة على الأبد أكرم الأحاظي وأن يتقدم في حق المبشر ما هو على الدولة ثبتها الله متعين حتى يعود ولما يستحسن من موقع هذه البشارة عليه أثر بين والوزير أولى من اغتنم هذه المكرمة فاعتنقها وتمكن من عصمة الرأي السديد فاعتقلها واستحمد إلينا بما يتكلفه من جميل مساعيه ويتكفله بالاهتزاز والاهتمام فيه من سائر ما يلاحظه من الأمور ويراعيه إن شاء الله تعالى وكتب بالأمر العالي شفاهاً في ذي القعدة سنة 500بوادي. وهذه البشرى التي يهنأ بها الاسلام وترفع بها من الاشادة بذكرها في الخافقين الأعلام أمرنا بنشرها في الأقصى والأدنى لا سيما الدارة العزيزة ظاهر الله مجدها فإنها أولى من يبشر بمثلها ويهنأ وأنهينا بالأمير عز الدولة إلى إيصال هذه البشارة إلى الديوان العزيز النبوي أعلى الله جده فندب من قبله من يقوم بهذه الخدمة ويعلمه ما نحن نصدره من الاعتراف بقدر هذه النعمة وهذا الأمير كان من المندوبين أولاً وأخراً لمحاصرة هذه القلعة فأبلى فيها بلاءً حسناً جميلاً وأغنى غنائم نجد له فيه عديلاً ولذلك ما اختصصناه بهذه المزية واثرناه بابلاغ هذه البشرى الهنية والمعول تام على الاهتمام الوزيري في القائها إلى المقار المعظمة النبوية ليعلم من صدق نهضتها بالخدمات وعندنا المسعاة في إعزاز الدين من أوجب المهمات ما يزلفنا من شريف المراضي ويفرض لنا من المحامد والمآثر التامة على الأبد أكرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 249 الأحاظي وأن يتقدم في حق المبشر ما هو على الدولة ثبتها الله متعين حتى يعود ولما يستحسن من موقع هذه البشارة عليه أثر بين والوزير أولى من اغتنم هذه المكرمة فاعتنقها وتمكن من عصمة الرأي السديد فاعتقلها واستحمد إلينا بما يتكلفه من جميل مساعيه ويتكفله بالاهتزاز والاهتمام فيه من سائر ما يلاحظه من الأمور ويراعيه إن شاء الله تعالى وكتب بالأمر العالي شفاهاً في ذي القعدة سنة 500 وفي هذه السنة تتابعت المكاتبات إلى السلطان غياث الدنيا والدين محمد ابن ملك شاه من ظهير الدين أتابك وفخر الملك بن عمار صاحب طرابلس بعظيم ما ارتكبه الافرنج من الفساد في البلاد وتملك المعاقل والحصون بالشام والساحل والفتك في المسلمين ومضايقة ثغر طرابلس والاستغاثة إليه والاستصراخ والحض على تدارك الناس بالمعونة. فندب السلطان لما عرف هذه الحال الأمير جاولي سقاوه وأميراً من مقدمي عسكره كبيراً في عسكر كثيف من الأتراك وكتب إلى بغداد وإلى الأمير سيف الدولة صدقة بن مزيد والي جكرمش صاحب الموصل بتقويته بالمال والرجال على الجهاد والمبالغة في اسعاده وانجاده واقطعه الرحبة وما على الفرات فثقل أمره على المكانين فدافعه ابن مزيد وسار نحو الموصل يلتمس من جكرمش ما وقع به عليه فتوقف عنه فنزل على قلعة السن ونهبها واجتمع إليه خلق كثير وخرج جكرمش إلى لقائه فظفر به جاولي سقاوه واستباح عسكره وانهزم ولده إلى الموصل فضبطها وتوجه وراءه وقتل جكرمش أباه وأنفذ رأسه إلى الموصل. فلما عرف ولده ذاك كاتب قلج أرسلان بن قتلمش يستنجده من ملطية ويبذل له تسليم البلاد والأعمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 250 التي في يده إليه وكان جكرمش قد جمع مالاً عظيماً من الجزيرة والموصل وكان جميل الصورة في الرعية عادلاً في ولايته مشهوراً بالانصاف في أعمال ايالته. فلما عرف قلج أرسلان بن سليمان ما كتب به إليه ولد جكرمش من الموصل فسار إليه ودخل قلج أرسلان إلى نصيبين لأنه كان في بعض عسكره وباقيه في بلاد الروم لانجاد ملك القسطنطينية على الافرنج. ولما تقارب عسكر قلج من عسكر جاولي سقاوه والتقت طلائع الفريقين ظفر قوم من أصحاب قلج بقوم من أصحاب جاولي فقتلوا بعضاً وأسروا بعضاً. فرحل جاولي يطلب عسكر قلج وقد عرف أنه قد أنفذ يستدعي بقية عسكره من بلاد الروم وأنه في قل وطلب ناحية الخابور وتوجه منها إلى الرحبة ونزل عليها وضايقها وراسل محمداً واليها من قبل الملك شمس الملوك دقاق صاحب دمشق وعنده الملك ارتاش بن تاج الدولة الهارب من دمشق بعد وفاة الملك دقاق أخيه مقيماً بالتسليم إليه فلم يحفل بمراسلته وآيسه من طلبته فأقام عليها مضايقاً لها مدة ووصل إليه الأمير نجم الدين ايل غازي بن أرتق في جماعة وافرة من عسكره التركمان واستنجد عليها بالملك فخر الملوك رضوان فوصل إليه في عسكره بعد أن هادن طنكري صاحب أنطاكية. فلما فصل عن حلب وعرف جوسلين صاحب تل باشر بعده عن حلب واصل الغارات على أعمالها من جميع جهاتها. ولم يزل جاولي مقيماً على الرحبة منذ أول رجب وإلى الثاني والعشرين من شهر رمضان وزاد الفرات زيادته المعروفة فركب أصحاب جاولي الزواريق وصعدوا طالبين سور البلد بمواطأة من بعض أهل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 251 البلد فلم يتهيأ لهم أمر مع من واطأهم بل هجموا السور وملكوا البلد ونهبوه وصادروا جماعة من أهله واستخرجوا ذخائرهم بالعقوبة ثم أمر جاولي برفع النهب وأمن الناس وردهم إلى منازلهم وتسلم القلعة بعد خمسة أيام في الثامن والعشرين من شهر رمضان. وأقر اقطاع محمد واليها عليه واستحلفه وقبض عليه بعد أيام لأمر بلغه عنه فأنكره منه واعتقله في القلعة وحصل الملك أرتاش في جملة سقاوه ولم يتمكن من التصرف في نفسه. وكان محمد هذا الوالي قد أرسل قلج أرسلان بن سليمان أولاً بالاستصراخ به وطلب المعونة على دفع جاولي عن البلد فتوجه نحو الرحبة في عسكره وبلغه خبر فتحها فعاد ونزل على الشمسانية ولم يكن في نيته لقاء جاولي. ورحل جاولي ونزل ماكسين وعزم على التوجه إلى ناحية الموصل ومعه فخر الملوك رضوان فاتفق أنهم قصدوا عسكر قلج فالتقى الفريقان في يوم الخميس التاسع من شوال وكان الزمان صيفاً واشتدت وقدة الحر وحميت الرمضاء فهلك أكثر خيل الفريقين وحمل عسكر قلج أرسلان على عسكر جاولي وقصد جاولي قلج أرسلان في الجملة وضربه بالسيف عدة ضربات فلم تؤثر فيه وانهزم عسكر قلج أرسلان وفصل عنه صاحب آمد وقت الحرب مع صاحب ميافارقين وانهزم الباقون ووقع السيف في أصحاب قلج أرسلان وسقط قلج مع الهزيمة في الخابور فهلك في الماء ولم يظهر وبعد أيام وجد هالكاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 252 وعاد جاولي إلى الموصل وعاد عنه الملك فخر الملوك رضوان إلى حلب خوفاً منه وأخذ جاولي نجم الدين ايل غازي بن ارتق وطالبه بالمال الذي أنفقه في التركمان فصالحه على جملة يدفعها إليه وأخذ رهانه عليها إلى أن يؤديها وأقام له بها فيما بعد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 253 وقد كان قلج أرسلان أنفذ بعض مقدمي أصحابه إلى بلاد الروم في خلق كثير من التركمان لانجاد ملك القسطنطينية على بيمند ومن معه من الافرنج الواصلين إلى الشام فانصرفوا إلى ملك الروم وما حشده من عساكر الروم فلما اجتمع للفريقين ما اجتمع رتبوا المصاف والتقوا فاستظهر الروم على الافرنج وكسروهم كسرةً شنيعةً أتت على أكثرهم بالقتل والأسر وتفرق السالم الباقي منهم عائدين إلى بلادهم وفصل أصحاب قلج أرسلان الأتراك إلى أماكنهم بعد أن أكرمهم وخلع عليهم وأحسن إليهم ولما عاد جاولي سقاوه إلى الرحبة ونزل على الموصل راسل أهلها والجند بها فلم يمكنهم المدافعة له عنها ولا المراماة دونها فسلموها إليه بعد أخذ الأمان منه على من حوته وكان ولد قلج قد دخلها فقبض عليه وسيره إلى السلطان محمد ولم يزل مقيماً عنده إلى أن هرب من المعسكر في أوائل سنة 503 وعاد إلى مملكة أبيه ببلاد الروم ويقال انه لما وصل إليها عمل على ابن عمه وقتله واستقام له أمر المملكة بعده وفي هذه السنة وصل إلى دمشق الأمير الأصفهبد التركماني من ناحية عمله فأكرمه ظهير الدين وأحسن تلقيه وأقطعه وادي موسى ومآب والشراة والجبال والبلقاء وتوجه إليها في عسكره وكان الافرنج قد نهضوا إلى هذه الأعمال وقتلوا فيها وسبوا ونهبوا ما قدروا عليه منها فلما وصل إليها وجد أهلها على غاية من الخوف وسوء الحال عما جرى عليهم من الافرنج فأقام بها. ونهض الافرنج إليه لما عرفوا خبره من ناحية البرية ونزلوا بإزاء المكان الذي هو نازل به وأهملوه إلى أن وجدوا الفرصة فيه فكبسوه على غرة فانهزم في أكثر عسكره وهلك باقيه واستولوا على سواده ووصل إلى عين الكتيبة من ناحية حوران والعسكر الدمشقي نازل عليها فتلقاه ظهير الدين متوجعاً له بما جرى عليه ومسلياً عما ذهب منه وعوضه وطلق له ما صلحت به حاله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 254 سنة إحدى وخمسمائة فيها جمع ملك الافرنج بغدوين حزبه المفلول وعسكره المخذول وقصد ثغر صور ونزل بإزائه وشرع في عمارة حصن بظاهرها على تل المعشوقة وأقام شهراً وصانعه واليه على سبعة آلاف دينار فقبضها منه ورحل عنه. وفيها وردت الأخبار بوصول عسكر السلطان غياث الدنيا والدين محمد إلى بغداد في آخر شهر ربيع الآخر منها وأعلن الأمير سيف الدولة صدقة بن مزيد العصيان عليه خوفاً لما بلغه من افساد شحنة بغداد وعمدها حاله معه ولم يزل السلطان مقيماً ببغداد إلى العشرين من رجب فاجتمع إليه تقدير ثلاثين ألف فارس واجتمع مع صدقة تقدير عشرين ألفاً في الحلة وبينهما أنهار وسواحل في الحلة فأثر السلطان مراسلته في تقرير أمره والصفح وإيقاع مهادنة وموادعة تستقيم معهما الأحوال ويصلح بها الأعمال فأبى ذلك كافة الأمراء والمقدمين وامتنعوا من الأهمال لأمره ونهضوا إليه. فلما عرف الحال قطع الأنهار ووصل في جمعه حتى صار بإزائهم وحمل بعض الفريقين على بعض ونشبت الحرب بينهم وكان منزل صدقة بن مزيد كثير الوحل عسر المجال فترجل الأتراك عن خيلهم وحثوا عليهم وأطلقوا السهام وشهروا الصفاح وشرعوا الرماح وفعل مثل ذلك أصحاب صدقة والتقى الجيشان ونظر صدقة إلى أصحابه والسهام قد شكت خيولهم وقد أشرفوا على الهلاك وظن الأتراك إنهم قد انهزموا فركبوا أكتافهم رشقاً بالسهام وضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح فقتلوا منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 255 خلقاً كثيراً وقتل الأمير صدقة بن مزيد في الجملة ووجوه رجاله ولم يفلت منهم إلا اليسير ممن حماه الأجل واستطار قلبه الخوف والوجل. وكان السلطان قد اعتمد في تدبير الجيش وترتيب الحرب على الأمير مودود المستشهد بيد الباطنية في جامع دمشق ووصل السلطان غد يوم الوقعة ونزل الحلة. ولم يكن للعرب بعد صدقة مثله في البيت والتقدم واحسان السيرة فيهم والانصاف لهم والانعام عليهم وكرم النفس وجزيل العطاء وحسن الوفاء والصفح عن الجرائر والتجاوز عن الجرائم والكبائر والتعفف عن أموال الرعية واحسان النية للعسكرية غير إنه كان مع هذه الخلال الجميلة والمآثر الحميدة مطرحاً لفرائض الشريعة متغافلاً عن ارتكاب المحارم الشنيعة مستحسناً لسب الصحابة رضي الله عنهم فكان ما نزل به عليه عاقبة هذه الأفعال الذميمة وما ربك بغافل عما تعملون وتوجه السلطان بعد تقرير أمر الحلة عائداً إلى أصفهان في أوائل شهر من السنة وقد قرر مع الأمير مودود والعسكر قصد الموصل ومنازلتها والتضييق عليها والتملك لها فرحل مودود والعسكر ونزل على الموصل وكان جاولي صاحبها قد أخرج أكثر أهلها منها وأساء أصحابه السيرة فيها وارتكبوا كل محرم منها ومضى إلى الرحبة واستناب فيها من وثق به من أصحابه في حفظها وأقام العسكر السلطاني عليها مدةً وعمد سبعة نفر من أهلها على المواطأة عليها وفتحوا باباً من أبوابها وسلموها إلى مودود ودخلها وقتل مقتلةً كبيرةً من أصحاب جاولي وأمن من كان في القلعة وحملهم وما كان معهم إلى السلطان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 256 وفي شعبان من هذه السنة اشتد الأمر بفخر الملك بن عمار بطرابلس من حصار الافرنج وتطاول أيامه وتمادي الترقب لوصول الانجاد وتمادي تأخر الاسعاد فأنفذ إلى دمشق يستدعي وصول الأمير ارتق بن عبد الرزاق أحد أمراء دمشق إليه ليتحدث معه بما في نفسه فأجابه إلى ذلك واستأذن ظهير الدين في ذلك فأذن له وتوجه نحوه وقد كان فخر الملك خرج من طرابلس في البر في تقدير خمسمائة فارس وراجل ومعه هدايا وتحف أعدها للسلطان عند مضيه إليه إلى بغداد فلما وصل ارتق إليه واجتمع معه تقررت الحال بينهما على وصوله إلى دمشق في صحبته فوصل إليها وأنزل في مرج باب الحديد بظاهرها وبالغ ظهير الدين في اكرامه وتناهى في احترامه وحمل إليه أمراء العسكرية ومقدموه من الخيل والبغال والجمال وغير ذلك ما أمكنهم حمله واتحافه به. وكان فخر الملك المذكور قد استناب عنه في حفظها أبا المناقب ابن عمه ووجوه أصحابه وغلمانه وأطلق لهم واجب ستة أشهر واستحلفهم وتوثق منهم. فأظهر عمه الخلاف له والعصيان عليه ونادى بشعار الأفضل بن أمير الجيوش بمصر فلما عرف فخر الملك ما بدا منه كتب إلى أصحابه يأمرهم بالقبض عليه وحمل إلى حصن الخوابي ففعل ذلك وتوجه فخر الملك إلى بغداد ومعه تاج الملوك بوري بن ظهير الدين أتابك. وقد كان أتابك عرف إن جماعةً ممن يحسده في باب السلطان ويقع فيه بالسعاية ويقصده بالأذية وإفساد الحال عند السلطان فأصحب ولده المذكور من الهدايا والتحف من الخيول والثياب وغير ذلك مما يحسن انفاذ مثله واستوزر له أبا النجم هبة الله بن محمد بن بديع الذي كان مستوفياً للسلطان الشهيد تاج الدولة وجعله مدبراً لأمره وسفيراً بينه وبين من أنفذ إليه وتوجه في الثامن من شهر رمضان سنة 501 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 257 فلما وصلا إلى بغداد لقي فخر الملك من السلطان من الاكرام والاحترام ما زاد على أمله وتقدم إلى جماعة من أكابر الأمراء بالمسير معه لمعونته وانجاده على طرد محاصري بلده والايقاع بهم والابعاد لهم وقرر مع العسكر المجرد معه الالمام بالموصل وانتزاعها من يدي جاولي سقاوه ثم المصير بعد ذلك إلى طرابلس فجرى ما تقدم به الشرح من ذلك وطال مقام فخر الملك طولاً ضجر معه وعاد إلى دمشق في نصف المحرم سنة 502 فأما تاج الملوك بن ظهير الدين فجرى أمره فيما نفذ لأجله على غاية مراده ونهاية محابه وصادف من السلطان في حق أبيه وحقه ما سره وعاد منكفئاً إلى دمشق بعد ما شرف به من الخلع السنية الأمامية السلطانية ووصل إلى دمشق آخر ذي الحجة من السنة. وأقام فخر الملك بن عمار في دمشق بعد وصوله إليها أياماً وتوجه منها مع خيل من عسكر دمشق جردت معه إلى خيله فدخلها وأطاعه أهلها. وأنفذ أهل طرابلس إلى الأفضل بمصر يلتمسون منه انفاذ وال يصل إليهم في البحر ومعه الغلة والميرة في المراكب لتسلم إليه البلد فوصل إليهم شرف الدولة بن أبي الطيب والياً من قبل الأفضل ومعه الغلة فلما وصل إليها وحصل فيها قبض على جماعة أهل فخر الملك بن عمار وأصحابه وذخائره وألاته وأثاثه وحمل الجميع إلى مصر في البحر وفي هذه السنة أسرى ظهير الدين أتابك في عسكره إلى طبرية وفرق عسكره فرقتين نفذ إحداهما إلى أرض فلسطين والأخرى غاربها على طبرية فخرج إليه صاحبها في رجاله المعروف بجرفاس وهو من مقدمي الافرنج المشهورين بالفروسية والشجاعة والبسالة وشدة المراس يجري مجرى الملك بغدوين في التقدم على الافرنج فالتقاه وأحاطت خيل الأتراك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 258 به وبأصحابه فقتل أكثرهم وأسر هو وجماعة معه وحملوا إلى دمشق فأنفذ بعضهم هدية إلى السلطان وقتل جرفاس ومن كان معه في الأسر من أصحابه بعد أن بذلوا في إطلاقهم جملةً من المال فلم يقبلها. وفيها تقدم السلطان غياث الدنيا والدين محمد عند وصوله إلى بغداد برفع المكوس وإبطال رسمها عن التجار والمسافرين في جميع بلاده وحظر تناول اليسير منها فلما عاد إلى أصفهان منها طمع في التجار وأخذ منهم المكس على سبيل الخلاف لما أمر فلما عاد إلى بغداد وانتهى الأمر إليه أنكر ما جرى في مخالفة أمره ووكد الأمر في إبطال ذلك وحذر من المخالفة له في سائر البلاد وفيها وردت الأخبار من بغداد بوقوع النار في الجانب الشرقي منها فأحرقت ما يزيد على خمسمائة دار وافتقر أهلها. وفيها تناصرت أخبار الباطنية بقلعة آلموت والحصون المجاورة لها في إيغالهم في الفساد وإفاظة النفوس بالعدوان والإلحاد فأنهض السلطان وزيره أحمد بن نظام الملك خواجه بزرك ومعه جاولي سقاوه في عسكر كثيف فأظفره الله بهم ونصره عليهم وقتل منهم مقتلةً عظيمةً وخرب منازلهم وقلاعهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 259 وفي هذه السنة نهض بغدوين في عسكره المخذول من الافرنج نحو ثغر صيدا فنزل عليه في البحر والبر ونصب البرج الخشب عليه ووصل الاصطول المصري للدفع عنه والحماية له فظهروا على مراكب الجنوية وعسكر البر واتصل بهم نهوض العسكر الدمشقي لحماية صيدا والذب عنها فرحلوا عنها عائدين إلى أماكنهم سنة اثنتين وخمسمائة فيها أنفذ صاحب عرقة إلى ظهير الدين أتابك رسوله يلتمس منه المعونة على دفع الافرنج عنها وإنفاذ من يتسلمها فندب بعض ثقاته فتسلمها وأقام والياً بها منتظراً وصول العسكر إليها والوفاء بما وعد به من الخلع عليه والاحسان إليه فحدث في الوقت من الثلوج والأمطار ما عاق المسير إليها وقل القوت بها وانقطعت الميرة عنها فبادر الافرنج بالنزول عليها وتوجه ظهير الدين عند ذاك إليها فصادفهم قد أحاطوا بها ولم يتمكن من دفعهم عنها. وعاد إلى حصن الأكمة ونزل عليه وقاتله فلما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 260 عرف الافرنج ذلك نهضوا إليه في تقدير ثلاثمائة فارس لانجاد من بالأكمة فوصلوا إليهم ليلاً فقويت نفوسهم واقتضى رأي أتابك الرحيل عنها بحكم من صار فيها منهم فرحل كالمنهزم وطمع فيه وتتبع العسكر فغنم من الخيل والكراع غنيمة كبيرة وتفرق العسكر في الشجر والجبال ووصلوا إلى حمص على أقبح صفة وأشنع صورة من غير لقاء ولا محاربة وعاد الافرنج إلى عرقة وعدم القوت فيها فملكوها بالأمان وفيها استوزر ظهير الدين أبا نجم هبة الله بن محمد بن بديع الأصفهاني الذي كان مستوفياً للسلطان تاج الدولة وكان قد وزر بعده لولده الملك رضوان بحلب وبقي في الوزارة مدة في أوائل سنة 502 وأفسد قلب ظهير الدين أتابك عليه مع ما كان في قلبه في الأيام التاجية فأمر بالقبض عليه واعتقاله في القلعة وحمل كل ما كان في داره وقبض أملاكه وأقام أياماً في الاعتقال ثم أمر بخنقه فخنق ورمي في جب بالقلعة ثم أخرج ودفن في المقابر وفي شعبان من هذه السنة وصل ريمند بن صنجيل الذي كان نازلاً على طرابلس من بلاد الافرنج في جملة ستين مركباً في البحر مشحونةً بالافرنج والجنويين فنزل على طرابلس ووقع بينه وبين السرداني ابن أخت صنجيل مشاجرة ووصل طنكري صاحب انطاكية إليه لمعونته للسرداني ووصل الملك بغدوين صاحب بيت المقدس في عسكره فأصلح بينهم. وعاد السرداني إلى عرقة ووجد بعض الافرنج في زرعها فأراد ضربه فضربه الافرنجي فقتله ولما بلغ الخبر ريمند بن صنجيل وجه من تسلم عرقة من أصحابه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 261 ونزل الافرنج بجموعهم وحشدهم على طرابلس وشرعوا في قتالها ومضايقة أهلها منذ أول شعبان إلى الأحاديث عشر من ذي الحجة من السنة وأسندوا أبرجهم إلى السور فلما شاهد الجند والمقاتلة أهل البلد سقط في أيديهم وأيقنوا بالهلاك وذلت نفوسهم لاشتمال اليأس من تأخر وصول الاصطول المصري في البحر والميرة والنجدة وقد كانت غلة الاصطول أزيحت وسير الريح ترده لما يريد الله تعالى من نفاذ الأمر المقضي فشد الافرنج القتال عليها وهجموها من الأبراج فملكوها بالسيف في يوم الاثني لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة من السنة ونهبوا ما فيها وأسروا رجالها وسبوا نساءها وأطفالها وحصل في أيديهم من أمتعتها وذخائرها ودفاتر دار علمها وما كان منها في خزائن أربابها ما لا يحد عدده ولا يحصر فيذكر. وسلم الوالي بها وجماعة من جنده كانوا التمسوا الأمان قبل فتحها فلما ملكت أطلقوا ووصلوا إلى دمشق بعد أيام من فتحها وعوقب أهلها واستصفيت أموالها واستثيرت ذخائرهم من مكامنها ونزل بهم أشد البلاء ومؤلم العذاب وتقرر بين الافرنج والجنويين على أن يكون للجنويين الثلاث من البلد وما نهب منه والثلاثان لريمند بن صنجيل وأفردوا للملك بغدوين من الوسط ما رضي به. وكان طنكري لما لم ينل ما أراد من نصرة السرداني قد عاد ونزل بانياس وافتتحها وأمن أهلها في شوال من السنة ونزل على ثغر جبيل وفيه فخر الملك ابن عمار والقوت فيه نزر قليل فلهم يزل مضايقاً له ولأهله إلى يوم الجمعة الثاني والعشرين من ذي الحجة فراسلهم وبذل لهم الأمان فأجابوه إلى ذلك فتسلمه بالأمان وخرج منه فخر الملك ابن عمار سالماً وقد وعده بإحسان النظر والاقطاع. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 262 ووصل عقيب ذلك الاصطول المصري ولم يكن خرج للمصريين فيما تقدم مثله كثرة رجال ومراكب وعدد وغلال لحماية طرابلس وتقويتها بالغلة الكثيرة والرجال والمال لمدة سنة مع تقوية ما في المملكة المصرية من ثغور الساحل وأهله ووصل إلى صور في يوم الثامن من فتح طرابلس وقد فات الأمر فيها للقضاء النازل بأهلها. وأقام بالساحل مدة وفرقت الغلة في جهاتها وتمسك به أهل صور وصيدا وبيروت وشكوا أحوالهم وضعفها عن محاربة الافرنج ولم يمكن الاصطول المقام فأقلع عائداً عند استقامة الريح إلى مصر وفي شوال من هذه السنة وردت الأخبار بتملك الأمير سكمان القطبي مدينة ميافارقين بالأمان بعد الحصر لها والمضايقة لأهلها عدة شهور بعد أن عدم القوت بها واشتد الجوع بأهلها. وفيها وصل بيمند صاحب أنطاكية من بلاد الافرنج عائداً إلى مملكته في خلق كثير ونزل بالقرب من قسطنطينة وخرج ملكها إليه ومعه خلق كثير من التركمان المجاورين له فاقتتلوا أياماً وطلب الروم تفسخهم بكل نوع إلى أن تفرقوا وتبددوا في البلاد وأصلح بيمند أمره مع الملك ودخل عليه ووطىء بساطه ومن معه وكفى الله وله الحمد أمرهم وصرف عن الاسلام شرهم وفي هذه السنة توفي الأمير ابق بن عبد الرزاق أحد مقدمي أمراء دمشق بمرض طال به وكثر المه بسببه إلى أن قضى نحبه ليلة عيد النحر من سنة 502 وفيها ترددت رسل الملك بغدوين إلى ظهير الدين في التماس المهادنة والموادعة فاستقر الأمر بينهما على أن يكون السواد وجبل عوف أثلاثاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 263 للأتراك الثلاث وللافرنج والفلاحين الثلاثان فانعقد الأمر على هذه القضية وكتب الشرط على هذه المبنية. وكان فخر الملك بن عمار لما ملك الافرنج جبيل خرج منها وتوجه إلى شيزر فأكرمه صاحبها سلطان ابن علي بن المقلد بن منقذ الكتاني واحترمه وجماعته وعرض عليه المقام عنده فلم يفعل وتوجه إلى دمشق عائداً إلى ظهير الدين أتابك فأكرمه وأنزله في دار وأقطعه الزبداني وأعمالها في المحرم سنة 503 سنة ثلاث وخمسمائة لما فرغ الافرنج من طرابلس بعد افتتاحها وتدبير أعمالها وتقرير أحوالها نهضوا إلى وفنية وعرف ظهير الدين ذاك من قصدهم فنهض في العسكر نحوها لحمايتها وخيم بازائهم بحمص فلم يتمكن الافرنج من منازلتها ومضايقتها وترددت بينه وبينهم مراسلات ومخاطبات أفضت إلى أن أجاب كل واحد من الفريقين إلى تقرير الموادعة على الأعمال والمسالمة واستقر الأمر في ذلك على أن يكون للافرنج الثلاث من استغلال البقاع ويسلم إليهم حصن المنيطرة وحصن ابن عكار ويكفوا عن العيث والفساد في الأعمال والأطراف وأن يكون حصن مصياث وحصن الطوفان وحصن الأكراد داخلاً في شرط الموادعة ويحمل أهلها عنها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 264 مالاً معيناً في كل سنة إلى الافرنج فأقاموا على ذلك مدةً يسيرةً فلم يلبثوا على ما تقرر وعادوا إلى رسمهم في الفساد والعناد وفيها توفي الشريف القاضي المكين فخر الملك أبو الفضل اسمعيل بن ابرهيم بن العباس الحسيني ليلة الخميس الخامس والعشرين من صفر منها بدمشق رحمه الله وفي جمادى الأولى من هذه السنة وردت الأخبار من ناحية العراق بوصول السلطان ركن الدنيا والدين محمد بن ملك شاه إلى بغداد وانفاذ كتبه إلى سائر البلاد معلماً فيها بما هو عليه من قوة العزم على قصد الجهاد والأمر لظهير الدين أتابك بالمقام بحيث هو إلى حين ترد العساكر إلى الشام وينضاف إليها ويدبر أمرها لأنه كان تابع كتبه بالاستصراخ والاستنجاد على الكفرة الأضداد فعرضت عوائق عن ذاك عاقت وموانع عن المراد صدت وطالت مدة الانتظار وتزايد طمع الكفار بتأخر العساكر السلطانية فحملت ظهير الدين أتابك الحمية الاسلامية والعزيمة التركية على التأهب للمسير بنفسه إلى بغداد لخدمة الدار العزيزة النبوية المستظهرية والمواقف السلطانية الغياثية والمثول بها والشكوى لما نزل بالمسلمين في الأعمال إليها من تملك البلاد وقتل الرجال وسبي النساء والأطفال وحديثهم بينهم بالطمع في الامتداد إلى تملك الأعمال الجزرية والعراقية. وتأهب للمسير واستصحب معه فخر الملك بن عمار صاحب طرابلس وخواص أصحابه وما أمكنه من الخيول العربية السبق وطرف مصر من أجناس اللباس وما يصلح لتلك الجهات من التحف والهدايا من كل فن له قيمة وافرة وتوجه في البرية على طريق السماوة فاستناب في دمشق ولده تاج الملوك بوري ووصاه بما يجب عمله من استعمال اليقظة في الذب والحماية واحسان السيرة في الرعية والمغالطة للافرنج والثبات على الموادعة المستقرة معهم إلى حين العود. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 265 فلما سار وحصل في الوادي المعروف بوادي المياه من البرية وافى الخبر بما شاع من المرجفين ببغداد من الحديث بتقليد السلطان بلاد الشام لامراء عين عليهم ووقعت الاشارة في ذلك إليهم فأحدث هذا الخبر وحشةً أوجبت عوده من طريقه واعتمد على فخر الملك بن عمار ومن عول عليه من ثقاته في الاتمام إلى بغداد بما صحبه من التحف والهدايا والمناب عنه في انهاء ما دعاه إلى العود من طريقه. فوص فخر الملك إلى بغداد بما صحبه فصادف من الابتهاج بمقدمه والتأسف على عود أتابك ولم يصل ويشاهد ما زاد على الأمل وظهور بطلان تلك الأراجيف بالمحال الذي لا حقيقة له وتواصلت الأجوبة عن ذلك بما سر النفوس وشرح الصدور والاعتذار من إشاعة المحال وأكاذيب الأخبار. وقد كان ظهير الدين أتابك في عوده من وادي المياه قد اتصل به أن كمشتكين الخادم التاجي الوالي ببعلبك قد أرسل الافرنج بالتماس المصافاة منهم وبعثهم على شن الغارات على الأطراف وأنه قد سير أخاه بايتكين الخادم التاجي إلى السلطان للتوصل بالمحال إلى افساد الحال فحين سمع ظهير الدين هذا الخبر ونفوذه ندب جماعةً من العسكر وقرر معهم المصير إلى المسالك والطرقات التي لا بد من عبوره فيها لمسلكه وحمله إليه فلم يقف لبايتكين المذكور على خبر. وسار ظهير الدين في العسكر من طريقه وكتب إلى ولده تاج الملوك يأمره بالخروج في العسكر إلى بعلبك والنزول عليها فسارع إلى امتثال أمره وسار إليها ونزل عليها على غفلة من أهلها غرة ممن بها ثم أرسل الخادم المذكور يلتمس منه الدخول في الطاعة وتسليم الموضع إليه ويحذره من الاستمرار على المخالفة والعصيان ويخوفه الاقامة على ما يفضي إلى سفك الدماء وبالغ في الأعذار له والانذار فلم يجب إلى المراد والايثار وأصر على الخلف والانكار. ووافى عقيب ذلك ظهير الدين في العسكر ومن جمعه من الرجالة وزحف إلى بعلبك مقابلاً لها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 266 ونصب عليها المنجيق وشرع في عمل آلة الحرب والنقوب لقصد الأماكن المستضعفة منها لانتهاز الفرصة فيها وترامى إليه من أحداث أهلها وأجنادها جماعة أحسن إليهم وخلع عليهم وزحف إلى سورها وقاتل من عليه فقتل جماعةً منهم فحين شاهدوا الجد في القتال والصبر على النزال جنحوا إلى الدخول في الطاعة والتمس الخادم الاقالة وبذل تسليم البلد والحصن على شرط اشترطه واقطاع عينه وطلب بعض المقدمين للحديث معه والتوفق لنفسه فنفذ إليه الأمير بلتاش لمحله من الدولة فتقررت الحال على ما اقترحه وسلم البلد والحصن الذي هو غاية في المنعة والحصانة ومن العجائب والقلاع المشهورة وخرج إليه وجرى على عادته الجميلة في الصفح عمن أساء إليه وأظهر العصيان عليه وعوضه عن بعلبك حصن صرخد وهو مشهور بالحصانة والمنعة أيضاً وعاد إليه ما كان قبض عنه من ملك واقطاع وعاد إلى دمشق. وسلم ظهير الدين أتابك بعلبك إلى ولده تاج الملوك بوري فرتب فيها من ثقات أصحابه من اعتمد عليه في حفظها وقرر أحوالها وكانت مدة المقام في منازلتها خمسة وثلاثين يوماً وتسلمت في اليوم الثاني والعشرين من شهر رمضان سنة 503 وأمر ظهير الدين بإزالة حوادث الظلم عن أهل بعلبك وتسويغ بعض خراج أهلها وأعاد عليهم املاكاً كانت قد اغتصبت في قديم الزمان وكثر له الدعاء وتواصل عليه الثناء وعاد منكفياً إلى دمشق. وورد عليه الخبر بعود السلطان من بغداد إلى أصفهان في شوال من السنةه تاج الملوك بوري فرتب فيها من ثقات أصحابه من اعتمد عليه في حفظها وقرر أحوالها وكانت مدة المقام في منازلتها خمسة وثلاثين يوماً وتسلمت في اليوم الثاني والعشرين من شهر رمضان سنة 503 وأمر ظهير الدين بإزالة حوادث الظلم عن أهل بعلبك وتسويغ بعض خراج أهلها وأعاد عليهم املاكاً كانت قد اغتصبت في قديم الزمان وكثر له الدعاء وتواصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 267 عليه الثناء وعاد منكفياً إلى دمشق. وورد عليه الخبر بعود السلطان من بغداد إلى أصفهان في شوال من السنة وورد الخبر بوفاة الأمير ابرهيم ينال صاحب آمد وكان قبيح السيرة فيها مذكوراً بالظلم في أهلها وكان جماعة من أهلها قد خلوا عنها لأجله المستمر عليهم واساءته إليهم فسرت النفوس بفقده وأمل من بعده الصلاح وقام مقامه ولده فكان أصلح منه سريرةً وأحسن طريقةً وفي هذه السنة خرج طنكري من أنطاكية في حشده ولفيفه المخذول إلى الثغور الشامية فملك طرسوس وما والاها وأخرج صاحب ملك الروم منها وعاد إلى أنطاكية ثم خرج إلى شيزر وقرر عليها عشرة آلاف دينار مقاطعةً تحمل إليه بعد أن عاث في عملها ونزل على حصن الأكراد فتسلمه من أهله وتوجه إلى عرقة وكان الملك بغدوين وابن صنجيل قد نزلا على ثغر بيروت براً وبحراً فعاد طنكري إلى أنطاكية وسار جوسلين صاحب تل باشر إلى ثغر بيروت لمعاونة النازلين عليه من الافرنج ويستنجد بهم على عسكر الأمير مودود النازلين على الرها. وشرع الافرنج في عمل البرج ونصبه على سور بيروت فحين نجز وزحفوا به كسر بحجارة المناجيق وأفسد فشرعوا في عمل غيره وعمل ابن صنجيل برجاً آخر ووصل في الوقت من اصطول مصر في البحر تسعة عشر مركباً حربية فظهروا على مراكب الافرنج وملكوا بعضها ودخلوا بالميرة إلى بيروت فقويت بها نفوس من فيها من الرعية. وأنفذ الملك بغدوين إلى السويدية يستنجد بمن فيها من الجنوية في مراكبهم فوصل منها إلى بيروت أربعون مركباً مشحنةً بالمقاتلة فزحف الافرنج في البر والبحر إليها بأسرهم في يوم الجمعة الحادي والعشرين من شوال ونصبوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 268 على السور برجين اشتدوا في القتال فقتل مقدم الاصطول المصري وخلق كثير من المسلمين ولم ير الافرنج من ما تقدم وتأخر أشد من حرب هذا. وانخذل الناس في البلد وأيقنوا بالهلاك فهجم الافرنج على البلد آخر نهار هذا اليوم فملكوه بالسيف قهراً وغلبةً وهرب الوالي الذي كان فيه في جماعة من أصحابه وحمل إلى الافرنج فقتل ومن كان معه وغنموا ما كان استصحبه من المال ونهب البلد وسبي من كان فيه وأسر واستصفين أموالهم وذخائرهم. ووصل عقيب ذلك من مصر ثلاثمائة فارس نجدةً لبيروت فحين حصلوا بالاردن خرجت عليهم فرقة من الافرنج يسيرة العدد فانهزموا منهم إلى الجبال فهلك منهم جماعة. فلما تقرر أمر بيروت رحل الملك بغدوين في الافرنج ونزل على ثغر صيدا وراسل أهله يلتمس منهم تسليمه فاستمهلوه مدة عينوها فأجابهم إلى المهلة بعد أن قرر عليهم ستة آلاف دينار تحمل إليه مقاطعةً وكانت قبل ذلك ألفي دينار ورحل عنها إلى بيت المقدس للحج وفي هذه السنة وردت الأخبار بظهور الكرج على بلاد كنجة وما قاربها وأكثروا العيث والفساد في نواحيها وانتهى الخبر بذلك إلى السلطان غياث الدنيا والدين محمد بن ملك شاه فانهض اليوم عسكراً وافر العدد فأوقع بهم وشردهم وعن الفساد والعيث أبعدهم بالفتك فيهم وطردهم ودوخ بلادهم وأخرب أعمالهم فأمن أهل بلاد كنجة من شرهم وقامت الهيبة باهلاكهم وعاد العسكر السلطاني ظافراً غانماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 269 وفي هذه السنة وردت الأخبار بظهور قوم كافر نزل على من صادفوه في الأعمال ووصلوا إلى جيحون فأفسدوا تلك الأعمال وأعاثوا فيها واتصل الخبر بالسلطان المعظم أبي الحرث سنجر بن ملك شاه سلطان خراسان فانهض إليهم أميراً كبيراً من مقدمي عساكر خراسان في عدد دثر من الأتراك فظفر بهم وكسرهم وقتل منهم خلقاً كثيراً عائدين خاسرين مفلولين وفي ثامن من ذي القعدة من السنة ظهر في السماء كوكب من الشرق له ذؤابة ممتدة إلى القبلة وأقام إلى آخر ذي الحجة ثم غاب. وفيها كاتب السلطان غياث الدنيا والدين الأمير سكمان القطبي صاحب أرمينية وميافارقين وشرف الدين مودود صاحب الموصل يأمرهما بالمسير في العساكر إلى جهاد الافرنج وحماية بلاد الموصل فجمعا واحتشدا ونهضا ونزلا بجزيرة بني نمير إلى أن تكامل وصول ولاة الأطراف إليهما وخلق كثير من المتطوعة ووصل إليهما أيضاً الأمير نجم الدين ايل غازي بن ارتق في خلق كثير من التركمان واجتمع المسلمون في عدد لا يقوم بلقائه جميع الافرنج. واتفقت الآراء على افتتاح الجهاد بقصد الرها ومضايقتها إلى أن يسهل الله افتتاحها بحكم حصانتها ومنعتها. فرحلوا بأسرهم ونزلوا عليها في العشر الثاني من شوال وأحاطوا بها من جهاتها كالنطاق ومنعوا الداخل والخارج بالمسير إليها وكان القوت بها قليلاً فأشرف من بها على الهلاك وغلا بها السعر وطالت مدة الحصر لها والتضييق عليها. وحين عرف الافرنج صورة هذه الحال شرعوا في الجمع والاحتشاد والتأهب للذب عنها والاستعداد واتفقت الكلمة بينهم على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 270 هذه الحال واجتمع طنكري صاحب انطاكية وابن صنجيل صاحب طرابلس والملك بغدوين مقدمو ولاة الأعمال. من الافرنج وتعاهدوا وتعاقدوا على الثبات في الحرب والمصابرة واللباث، فلما استقرت الأحوال بينهم على البينة رحلوا بأسرهم إلى ناحية الرها. واتصلت الأخبار بظهير الدين أتابك وعرف صورة الحال فيما تقرر بينهم فسار من دمشق في العسكر وخيم على سلمية وعرف إن الافرنج قد قصدوا في طريقهم رفنية وفيها الأمير شمس الخواص واليها وإنهم لما نزلوا عليها ظهر إليهم في خيله وقتل منهم جماعة ووصل إلى المخيم بسلمية واجتمع إليه خلق كثير من الشام ووصل الخبر بحصول الافرنج على الفرات عازمين على قطعه قصد الرها فرحل أتابك في الحال وتوجه إلى ناحية الرقة وقلعة جعبر وقطع الفرات وتلوم هناك إلى أن عرف خبر الافرنج وإنهم قد أحجموا عن العبور لتفرق سرايا العساكر الاسلامية وطلائعهم في سائر الجهات والمسالك إلى الفرات ولما عرف المسلمون قرب الافرنج منهم اتفقت الآراء فيما بينهم على الافراج لهم ليتمكنوا من لقائهم في الفضاء من شرقي الفرات ورحلوا عن الرها في آخر ذي الحجة منها ونزلوا أرض حران على سبيل الخديعة والمكر وكانت حران قد حصلت للأمير مودود وسلمها إلى نجم الدين ايل غازي بن ارتق. وتوفق المسلمون عن لقاء الافرنج إلى أن يقربوا منهم ويصل إليهم عسكر دمشق وفطن الافرنج لهذا التدبير والاتفاق عليه فخافوا واستشعروا الهلاك والخذلان وأجفلوا ناكصين على الأعقاب إلى شاطئ الفرات وبلغ المسلمين خبرهم فنهضوا في أثرهم وأدركهم سرعات الخيل وقد قطع الفرات بعضهم من مقدميهم فغنم المسلمون سوادهم وأثقالهم وأتوا على العدد الدثر من أتباعهم قتلاً وأسراً وتغريقاً في الفرات وامتلأت الأيدي من الغنائم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 271 والأسلاب والسبي والدواب. ولم يتمكن المسلمون من قطع الفرات للحاق بهم بحكم اشتغالهم بأمر الرها والعود إليها وكانوا قد أخرجوا منها كل ضعيف الحال ورتبوا جماعةً من الأرمن لحفظها وحملوا إليها ما صحب العسكر الواصل من الأقوات تقويةً لها وخرج بغدوين الرويس صاحبها عنها وتوجه صحبة الافرنج المنهزمين. وأقام عسكر الاسلام على الفرات أياماً نازلاً بإزائهم ورحل طالباً للعود إلى منازلة الرها وعرف ظهير الدين أتابك خبر عودهم على تلك الصفة فعاد منكفياً إلى عمله لحمايته منهم بعد أن نفد شطراً وافراً من معسكره إلى النازلين على الرها لمعونتهم ووصل إلى دمشق وأقام من كان أنهضه من عسكره إلى الرها إلى أن خلت البلاد منها وأذن لهم في العود إلى أماكنهم بعد اكرامهم والاحسان إليهم وترددت بين أتابك ظهير الدين وبين الأمير شرف الدين مودود مراسلات أفضت إلى استحكام المودة بينهما واتفاق الكلمة وتأكيد أسباب الألفة فطال مقام عسكر الاسلام على الرها لامتناعها وحصانتها وقل تواصل الميرة إلى المخيم وعدم وجودها فدعتهم الحاجة إلى العود عنها فتفرقوا بعد أن رتبوا من يقيم على حران لحصر الرها. وحدث لنجم الدين ايل غازي ابن ارتق استيحاش من سكمان القطبي لأمر تجدد بينهما فأجفل من حران إلى ماردين فقبض سكمان على ابن أخيه بلك وحمله معه إلى بلده مقيداً. وبعد تفرق العساكر اسلامية عن الرها عاد إليها بغدوين الرويس صاحبها وحصل بها والغارات متواصلة على أطرافها. وقد كان الملك فخر الملوك رضوان صاحب حلب لما عرف هزيمة الافرنج خرج إلى أعمال حلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 272 واستعاد ما كان غلب الافرنج عليه منها وغار على عمل انطاكية وغنم منه غنيمةً وافرة ولما عرف خبر عودهم عاد إلى حلب. ووصل الافرنج عقيب ذلك فأفسدوا في عمل حلب وقتلوا وأسروا خلقاً كثيراً وعاد طنكري ونزل على الأثارب وملكها بعد طول حصرها والمضايقة لها وذلك في جمادى الآخرة من السنة وأمن أهلها وخرج منها من أراد الخروج وأقام من أثر المقام واستقرت الموادع بعد ذلك بين الملك فخر الملوك رضوان وبين طنكري على أن يحمل إليه الملك من مال حلب في كل سنة عشرين ألف دينار مقاطعةً وعشرة أرؤس خيلاً وفكاك الأسرى واستقرت على هذه القضية وفيها وصل الملك بغدوين صاحب بيت المقدس إلى ناحية بعلبك وعزم على العيث والافساد في ناحية البقاع وترددت المراسلة بينه وبين ظهير الدين أتابك في هذا المعنى إلى أن تقررت الموادعة بينهما على أن يكون الثلاث من استغلالات البقاع للافرنج والثلاثان للمسلمين والفلاحين وكتب بيهما المواصفة بهذا الشرح في صفر من السنة ورحل عائداً إلى عمله وقد فاز بما حصل في يده وأيدي عسكره من غنائم بعلبك والبقاع ووردت الأخبار فيها بوصول بعض ملوك الافرنج في البحر ومعه نيف وستون مركباً مشحونة بالرجال لقصد الحج والغزو في بلاد الاسلام فقصد بيت المقدس وتوجه إليه بغدوين واجتمع معه وتقرر بينهما قصد البلاد الاسلامية. فلما عادا من بيت المقدس نزلا على ثغر صيدا في ثالث شهر ربيع الآخر سنة 504 وضايقوه براً وبحراً. وكان الاسطول المصري مقيماً على ثغر صور ولم يتمكن من انجاد صيدا فعملوا البرج وزحفوا به إليها وهو ملبس بحطب الكرم والبسط وجلود البقر الطرية ليمنع من الحجارة والنفط وكانوا إذا أحكموه على هذه الصورة نقلوه على بكر تركب تحته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 273 في عدة أيام متفرقة فإذا كان يوم الحرب وقرب من السور زحفوا به وفيه الماء والخل لطفي النار وآلة الحرب فلما عاين من بصيدا هذا الأمر ضعفت نفوسهم وأشفقوا من مثل نوبة بيروت فأخرج إليها قاضيها وجماعة من شيوخها وطلبوا من بعدوين الأمان فأجابهم إلى ذلك وأمنهم العسكرية معهم على النفوس والأموال واطلاق من أرد الخروج منها إلى دمشق واستحلفوه على ذلك وتوثقوا منه وخرج الوالي والزمام وجميع الأجناد والعسكرية وخلق كثير من أهل البلد وتوجهوا إلى دمشق لعشر بقين من جمادى ... سنة 504 وكانت مدة الحصار سبعةً وأربعين يوماً. ورتب بغدوين الأحوال بها والحافظين لها وعاد إلى بيت المقدس ثم عاد بعد مدة يسيرة إلى صيدا فقرر على من أقام بها نيفاً وعشرين ألف دينار فأفقرهم واستغرق أحوالهم وصادر من علم أن له بقية منهم سنة أربع وخمسمائة في هذه السنة وردت الأخبار بأن جماعة من التجار المسافرين خرجت من تنيس ودمياط ومصر ببضائع وأموال جمة كانوا قد ضجروا وملوا طول المقام وتعذر مسير الاصطول في البحر وحملوا نفوسهم على الخطر وأقلعوا في البحر فصادفتهم مراكب الافرنج فأخذتهم وحصل في أيديهم من الامتعة والمال ما يزيد على مائة ألف دينار وأسروهم وعاقبوهم واشتروا أنفسهم بما بقي لهم من الذخائر في دمشق وغيرها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 274 وأما بغدوين فإنه لما عاد من صيدا قصد عسقلان وغار عليها وكان واليها المعروف بشمس الخلافة يراسل بغدوين فاستقرت الحال بينهما على مال يحمله إليه ويرحل عنه ويكف الأذية عن عسقلان وكان شمس الخلافة أرغب في التجارة من المحاربة ومال إلى الموادعة والمسالمة وإيمان السابلة وقرر على أهل صور سبعة آلاف دينار تحمل إليه في مدة سنة وثلاثة شهور وانتهى الخبر بذلك إلى الافضل صاحب مصر في شوال فأنكر هذه الحال وأسرها في نفسه ولم يبدها لأحد من خاصته وجهز عسكراً كثيفاً إلى عسقلان مع وال يكون مكان شمس الخلافة. فلما قرب من عسقلان وعرف شمس الخلافة ذاك أظهر الخلاف على الأفضل وجاهر بالعصيان عليه وأخرج من كان عنده من العسكرية لخوفه من تدبيرهم عليه من الأفضل لما يعلمه من الأمور التي أنكرها عليه ونقمها منه ومراسلته لبغدوين يلتمس منه المصافاة والمعونة بالرجال والغلال وإن دهمه أمر وحزبه خطب سلم إليه عسقلان فطلب منه العوض عنها. فلما عرف الأفضل ذلك أشفق من تمام هذا الأمر فكاتبه بما يطيب نفسه وغالطه وأقطعه عسقلان وأقر اقطاعه بمصر عليه وأزال الاعتراض لشيء من ماله في ديار مصر من خيل وتجارة وأثاث وخاف شمس الخلافة من أهل البلد فاستدعى جماعةً من الأرمن فأثبتهم في عسقلان ولم يزل على هذه الحال إلى آخر سنة 504 فأنكر أمره أهل البلد ووثب عليه قوم من كتامة وهو راكب فجرحوه وانهزم إلى داره فتعبوه وأجهزوا عليه ونهبوا داره وماله وتخطفوا بعض دور الشهود والعامة وانتهى الخبر إلى صاحب السيارة فبادر إلى البلد فأطاع أمره من به وأنفذوا رأسه إلى الأفضل إلى مصر وأنهوا جلية حاله فحسن موضع ذلك منه وموقعه وأحسن إلى الواردين بهذه البشرى ثم تقدم بمطالبة القوم القاتلين بما نهبوه من داره واستولوا عليه من ماله ومال أهل البلد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 275 واعتقالهم وقبض جماعة من أهل البلد وحملهم إلى مصر ولما وصلوا اعتقلوا فيها وفي هذه السنة هبت بمصر وأعمالها ريح سوداء وطلع سحاب أسود أخذ بالأنفاس وأظلمت منه الدنيا حتى لم يبصر أحد يده والريح تسقي الرمل في مقل الناس ووجوهم حتى يئسوا من الحياة وأيقنوا بالبوار بهول ما عاينوه والخوف مما نزل بهم ولما تجل ذلك السواد عاد إلى الصفرة والريح بحالها ثم انجلت الصفرة وظهرت الناس الكواكب وظن أهل تلك الأعمال بأن القيامة قد قامت وخرج الناس من منازلهم وأسواقهم إلى الصحراء وركدت الريح وأقلع السحاب وعاد الناس إلى منازلهم سالمين من الأذى وكانت مدة هذه الشدة منذ صلوة العصر إلى صلاة المغرب وفيها وصل السلطان غياث الدنيا والدين محمد بن ملك شاه من همذان إلى بغداد في جمادى الأولى منها ووردت الكتب والرسل إليه من الشام بانهاء الحال وما جرى من الافرنج بعد عودهم عن الفرات ونوبة صيدا والأثارب وأعمال حلب. ولما كان أول جمعة من شعبان حضر رجل من الأشراف الهاشميين من أهل حلب وجماعة من الصوفية والتجار والفقهاء إلى جامع السلطان ببغداد فاستغاثوا وأنزلوا الخطيب عن المنبر وكسروه وصاحوا وبكوا لما لحق الاسلام من الافرنج وقتل الرجال وسبي النساء والأطفال ومنعوا الناس من الصلاة والخدم والمقدمون يعدونهم عن السلطان بما يسكنهم من انفاذ العساكر والانتصار للاسلام من الافرنج والكفار وعادوا في الجمعة الثانية المصير إلى جامع الخليفة وفعلوا مثل ذلك من كثرة البكاء والضجيج والاستغاثة والنحيب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 276 ووصلت عقيب ذلك الخاتون السيدة أخت السلطان زوجة الخليفة إلى بغداد من أصفهان ومعها من التجمل والجواهر والأموال والآلات وأصناف المراكب والدواب والأثاث وأنواع الملابس الفاخرة والخدم والغلمان والجوار والحواشي ما لا يدركه حزر فيحصر ولا عد فيذكر واتفقت هذه الاستغاثة فتكدر ما كان صافياً من الحال والسرور بمقدمها. وأنكر الخليفة المستظهر بالله أمير المؤمنين ما جرى وعزم على طلب من كان الأصل والسبب ليوقع به المكروه فمنعه السلطان من ذلك وعذر الناس فيما فعلوه وأوعز إلى الأمراء والمقدمين بالعود إلى أعمالهم والتأهب للمسير إلى جهاد أعداء الله الكفار وفي جمادى الآخرة منها وصل رسول متملك الروم بهدايا وتحف ومراسلات مضمونها البعث على قصد الافرنج والايقاع بهم والاجتماع على طردهم من هذه الأعمال وترك التراخي في أمرهم واستعمال الجد والاجتهاد في الفتك بهم قبل اعضال خطبهم واستفحال شرهم ويقول أنه قد منعهم من العبور إلى بلاد المسلمين وحاربهم فإن طمعوا فيها بحيث تتواصل عساكرهم وامدادهم إلى البلاد الاسلامية احتاج إلى مداراتهم واطلاق عبورهم ومساعدتهم على مقاصدهم واغراضهم للضرورات القائدة إلى ذلك ويبالغ في الحث والتحريض على الاجتماع على حربهم وقلعهم من هذه الديار بالاتفاق عليهم وفي هذه السنة نقض الملك بغدوين صاحب بيت المقدس الهدنة المستقر بين أتابك وبينه وكتب إلى ابن صنجيل صاحب طرابلس يلتمس منه الوصول إليه في عسكره ليجتمع معه في طبرية وجمع وحشد ورحل إلى ناحية بيت المقدس لتقرير أمر كان في نفسه فحدث له في طريقه مرض أقام به أياماً ثم ابل منه وأفاق، وقصده في حشده ناحية البثنية من حوران، وقد اطرح كل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 277 من في الشام، ولم يبق في عينه منهم أمر يحفل به من جهتهم. فنهض ظهير الدين أتابك عند معرفته قصده في عسكره ونزل في المنزل المعروف برأس الماء ثم رحل عنه إلى اللجاة ونهض الافرنج في أثره إلى الضمين ففرق أتابك العسكر عليهم من عدة جهات وبث في المعابر والمسالك خيلاً يمنع من حمل المية إليهم وضايقهم مضايقةً ألجأتهم إلى الدخول في حكم المسالمة والموادعة وترددت المراسلات في ذلك إلى أن استقرت الحال بينهما على أن يكون لبغدوين النصف من ارتفاع جبل عرف والسواد والجبانية مضافاً إلى ما في يده ومن هذه الأعمال التي يليها في أيدي العرب من آل جراح وكوتب بينهما هذا الشرط ورحل كل منهما منكفئاً إلى عمله في آخر ذي الحجة منها. وقد كان الأمر تقزر مع السلطان غياث الدنيا والدين على انهاض العساكر عقيب تلك الاستغاثة المقدم شرحها ببغداد والتقدم إلى الأمراء بالتأهب للمسير إلى الجهاد فتأهبوا لذلك وكان أول من نهض منهم إلى أعمال الافرنج الأمير الاسفهسلار شرف الدين مودود صاحب الموصل في عسكره إلى سنجتان فافتتح تل مراده وعدة حصون هناك بالسيف والأمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 278 ووصل إليه الأمير أحمديل في عسكر كثيف الجمع وكذلك تلاه الأمير قطب الدين سكمان القطبي من بلاد أرمينية وديار بكر فاجتمعوا في أرض حران وكتب إليهم سلطان بن علي بن منقذ صاحب شيزر يعلمهم نزول طنكري صاحب أنطاكية أرض شيزر وشروعه في بناء تل ابن معشر في مقابلة شيزر وحمل الغلال إليه ويستصرخهم ويبعثهم على الوصول إلى جهته. فحين عرفوا ذاك رحلوا إلى الشام وقطعوا الفرات في النصف من المحرم سنة 505 ونزلوا على تل باشر في التاسع عشر من المحرم وأقاموا عليه منتظرين وصول الأمير برسق بن برسق صاحب همذان وكان قد أمر من السلطان بالتقدم عليهم فوصل إليهم في بعض عسكره وبه مرض من علة النقرس وسكمان القطبي أيضاً مريض والآراء بينما مختلفة وقاتل المطوعة والسوقة هذا الحصن ونقبوه فأنفذ جوسلين صاحب تل باشر إلى الأمير أحمديل الكردي يلاطفه بمال وهدية ويبذل له الكون معه والميل إليه وكان أكثر العسكر مع أحمديل وسأله الرحيل عن الحصن وينزل إليه فأجابه إلى ذلك على كراهية من باقي الأمراء واشتد مرض سكمان القطبي وعزم أحمديل على العود طمعاً منه في أن السلطان يقطعه بلاد سكمان وكان قد عقد بينهما وصلة وصهر فعادوا عن تل باشر إلى حلب ونزلوا عليها وعاثوا في أعمالها وفعلوا أقبح من فعل الافرنج في الفساد وتوقعوا خروج الملك فخر الملوك رضوان صاحب حلب إليهم أو خدمه ينفذها لهم فلم يلتفت إلى أحد منهم وأغلق أبواب حلب وأخذ رهاين أهلها إلى القلعة ورتب الجند وأحداث الباطنية والطائعين لحفظ الأسوار ومنع الحلبيين من الصعود إلى السور وأطلق الحرامية في أخذ من يظفرون به من أطراف العسكر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 279 وقد كان ظهير الدين أتابك عند اجتماع هؤلاء الأمراء وعبورهم الفرات قد كاتبوه بالوصول إليهم ورد التدبير فيما يعتمدون عليه إليه ووصل إليه كتاب السلطان بمثل هذه الحال فاقتضت الصورة وصائب الرأي أن ينهض في العسكر نحوهم للاعتضاد على الجهاد وتقوية النفوس على حماية هذه البلاد من أهل الشرك والالحاد وجمع من أمكنه من رجال حمص وحماة ورفنية وسائر المعاقل الشامية وسار إليهم ووصلهم على ظاهر حلب فتلقوه بالاكرام والمزيد في الاحترام وقويت بوصوله النفوس واشتدت الظهور وسروا بحصوله عندهم سروراً أظهر منهم وشاع عنهم فل ير منهم عزيمةً صادقة في جهاد ولا حماية بلاد وأما سكمان القطبي فإنا لمرض اشتد به وأشفي منه ففصل عنهم وعاد إلى بلده وورد الخبر بوفاته في طريقه قبل وصوله الفرات. وأما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 280 برسق بن برسق فإنه كان يحمل في المحفة ولا يتمكن من فعل ولا قول. أما أحمديل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 281 فإن عزمه قوي على العود بسبب بلاد سكمان وطمعه في اقتطاعها من السلطان فاستجرهم ظهير الدين أتابك إلى الشام فرحلوا في آخر صفر ونزلوا معرة النعمان فأقاموا على ذلك المنهاج الأول وامتار العسكر من عملها ما كفاهم وقصروا عن حملة من العلوفات والأقوات وظهر لظهير الدين من سوء نية المقدمين فيه ما أوحشه منهم ونفر قلبه من المقام بينهم وذكر له أن الملك فخر الملوك رضوان راسل بعض الأمراء في العمل عليه والايقاع به فاتفق مع الأمير شرف الدين مودود وتأكدت المصافاة والمعاهدة بينهما وحمل إلى بقية الأمراء ما كان صحبه من الهدايا لهم والتحف والحصن العربية السبق والاعلاق المصرية وقوبل ذلك منه بالاستكثار له والاستطراف والشكر والاعتراف ووفى له مودود بما بذله وثبت على المودة وجعل أتابك يحرضهم على قصد طرابلس ويعدهم حمل ما يحتاجون إليه من المير من دمشق وعملها وإن أدركهم الشتاء أنزلهم في بلاده فلم يفعلوا وتفرقوا أيدي سبا وعاد برسق بن برسق وأحمديل وتبعوا عسكر سكمان القطبي وتخلف منهم الأمير مودود مع أتابك فرحلا عن المعرة ونزلا على العاصي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 282 ولما عرف الافرنج رحيل العساكر وتفرقهم اجتمعوا ونزلوا أفامية بأسرهم بغدوين وطنكري وابن صنجيل بعد التباين والمنافرة والخلف وصاروا يداً واحدة وكلمةً متفقةً على الاسلام وأهله وساروا لقصدهم فخرج سلطان بن منقذ من شيزر بنفسه وجماعته واجتمع مع أتابك ومودود وحرضهما على الجهاد وهون عليهما أمر الافرنج فرحلوا وقطعوا العاصي ونزلوا في قبلي شيزر وصار سوق العسكر في سوق شيزر ونزل عسكر مودود حول شيزر وبالغ ابن منقذ وجماعته في الخدمة والمواصلة بالميرة واصعد أتابك ومودود وخواصهما إلى حصن شيزر وباشر خدمتها بنفسه وأسرته ونزل الافرنج شمالي تل ابن معشر ودبر أمر العسكر أحسن تدبير وثبت الخيل من جميع جهاتهم تطرق حولهم وتجول عليهم وتمنع من الوصول إليهم وضيقوا عليها وجلوهم عن الماء وذادوهم عن العاصي لكثرة الرماة على شطوطه وجوانبه من قبليه فما يدنوا منه من الافرنج شخص إلا وقد قتل وطمع الأتراك فيهم وسهل أمرهم عليهم وكانت خيل المسلمين مثل خيل الافرنج إلا أن راجلهم أكثر وزحف الأتراك إليهم فنزلوا للحرب عن تل كانوا عليه فهجمت الأتراك عليهم من غربيهم ونهبوا جانباً من عسكرهم وملكوا عدة من خيامهم وأثقالهم وجالوا حولهم فعادوا إلى مكانهم الذي كانوا به ورجعوا منه وذلك في شهر ربيع الأول. واشتد خوف الافرنج من الأتراك وأقاموا ثلاثة أيام لا يظهر أحد منهم ولا يصل إليهم شخص وعاد المسلمون لصلاة الجمعة في جامع شيزر فرحل الافرنج إلى أفامية ولم ينزلوا فيها بل تعدوها وتبعهم المسلمون عند معرفة رحيلهم وتخطفوا أطرافهم ومن ظفروا به سائراً على أثارهم وعادوا إلى شيزر ورحلوا إلى حماة واستبشر الناس بعود الافرنج على هذه الحال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 283 سنة خمس وخمسمائة واستحكمت المودة بين ظهير الدين أتابك وبين الأمير مودود. وفي هذه السنة جمع بغدوين الملك من أمكنه جمعه من الافرنج وقصد ثغر صور فبادر عز الملك واليه وأهل البلد بمراسلة ظهير الدين أتابك بدمشق يستصرخون به ويستنجدونه ويبذلون تسليم البلد إليه ويسئلونه المبادرة والتعجيل بانفاذ عدة وافرة من الأتراك تصل إليهم سرعةً لمعونتهم وتقويتهم وإن تأخرت المعونة عنهم قادتهم الضرورة إلى تسليمه إلى الافرنج ليأسهم من نصرة الأفضل صاحب مصر فبادر أتابك بانفاذ جماعة وافرة من الأتراك بالعدد الكاملة تزيد على المائتين فرساناً رماة أبطالاً فوصلت إليهم وأتت أهل صور رجالة كثيرة من صور وجبل عاملة رغبوا في ذلك مع رجالة من دمشق وصلوا إليهم وحصلوا عندهم وشرع أتابك في إنفاذه عدة أخرى. فحين عرف بغدوين ما تقرر بين أتابك وأهل صور بادر النزول عليها فيمن جمعه وحشده في اليوم الخامس وعشرين من جمادى الأولى سنة 505 وتقدم بقطع الشجر والنخل وبنى بيوت الاقامة عليها وزحف إليها فقاتلها عدة دفعات ويعود خاسراً لم ينل منها غرضاً وقيل أن أهل صور رشقوا في بضع أيام مقاتلتها في يوم واحد بعشرين ألف سهم وخرج ظهير الدين من دمشق حين عرف نزولهم على صور وخيم ببانياس وبث سراياه ورجالة الحرامية في أعمال الافرنج وأطلق لهم النهب والقتل والسلب والأخراب والحرق طلباً لازعاجهم وترحيلهم عنها فتدخل العدة الثانية إلى صور فلم يتمكن من الدخول. ونهض ظهير الدين إلى الحبيس الذي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 284 في السواد وهو حصن منيع لا يرام فشد القتال عليه وملكه بالسيف قهراً وقتل من كان فيه قسراً وشرع الافرنج في عمل برجي خشب للزحف بهما إلى سور صور وزحف ظهير الدين إليهم عدة دفعات ليشغله بحيث يخرج عسكر صور فيحرق البرجين وعرف الافرنج قصده في ذلك وخندقوا عليهم من جميع الجهات ورتبوا على الخندق الرجال بالسلاح لحفظه وحفظ الأبراج ولم يحفلوا بما يفعل وما يجري على أعمالهم من الغارات عليها والفتك بمن فيها. وهجم الشتاء فلم يضر بالافرنج لأنهم كانوا نزولاً في أرض رملة صلبة والأتراك بالضد من ذلك قد كابدوا من مقامهم شدةً عظيمة ومشقةً مؤلمة إلا إنهم لا يخلون من غارة وفائدة وقطع ميرة عن الافرنج ومادة وأخذ ما يحمل إليهم وقطع الأتراك الجسر الذي كان يعبر عليه إلى صيدا ليقطع المادة أيضاً عنها فعدلوا عند ذلك إلى استدعاء الميرة في البحر من جميع الجهات ففطن ظهير الدين لذلك ونهض في فريق من العسكر إلى ناحية صيدا وغار على ظاهرها فقتل جماعة من البحرية وأحرق تقدير عشرين مركباً على الشط وهو مع ذلك لا يهمل إصدار الكتب إلى أهل صور بتقوية قلوبهم وتحريضهم على استعمال المصابرة للافرنج والجد في قتالهم وتم عمل البرجين وكباشهما التي تكون فيهما في تقدير خمسة وسبعين يوماً وشرع في تقديمهما والزحف بهما في عاشر شعبان وقربا من سور البلد واشتد القتال عليهما وكان طول البرج الصغير منهما نيفاً وأربعين ذراعاً والكبير يزيد على الخمسين ذراعاً. ولما كان أول شهر رمضان خرج أهل صور من الأبراج بالنفط والحطب والقطران وآلة الحرق فلم يتمكنوا من الوصول إلى شيء منهما فألقوا النار قريباً من البرج الصغير بحيث لم يتمكن الافرنج من دفعها فهبت ريح وألقت النار على البرج الصغير فاحترق بعد المحاربة الشديدة عليه والمكافحة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 285 العظيمة عنه ونهب منه زرديات كثيرة وطوارق وغير ذلك واتصلت النار بالبرج الكبير. واتصل الخبر بالمسلمين بأن الافرنج قد هجروا حربة البلد للاشتغال بحريق البرج وانثنوا عن المقاتلة على الأبراج وشد الافرنج عليهم وكشفوهم عن البرج واطفأوا ما علق به من النار ورتبوا عدة وافرة من أبطالهم لحفظ البرج والمنجنيقات من جميع الجهات وواظبوا الزحف إليها إلى آخر شهر رمضان وقربوا البرج إلى بعض أبراج البلد وطموا الثلاثة الخنادق التي أمامه وعمد أهل البلد إلى تعليق حائط البرج الذي بإزاء برج الافرنج وأطلقوا النار فيه فاحترق التعليق وسقط وجه الحائط في وجه البرج فمنع من تقديمه إلى السور والزحف به وصار الموضع الذي قصدوه قصيراً وأبراج البلد تحكم عليه وبطل تقديمه من ذلك الوجه وكشف الافرنج الردم وجروه إلى برج آخر من أبراج البلد ودفعوه إليه وقربوه من سور البلد وصدموا بالكباش التي فيه السور فزعزعوه ووقع منه شيء من الحجارة وأشرف أهل البلد على الهلاك. فعمد رجل من مقدمي البحرية عارف بالصنعة من أهل طرابلس له فهم ومعرفة بأحوال الحرب إلى عمل كلاليب حديد لمسك الكبش إذا نطح به السور من رأسه ومن جانبه بحبال يجذبها الرجال حتى يكاد البرج الخشب يميل من شدة جذبهم بها فتارةً تكسره الافرنج خوفاً من البرج وتارةً يميل أو يفسد وتارةً ينكسر بصخرتين تلقيان عليه من البلد مشدودة احداهما إلى الاخرى فعملوا عدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 286 من الكباش وهي تكسر على هذه الصفة واحداً بعد واحد وكان طول كل واحد منها ستين ذراعاً معلقاً في البرج الخشب بحبال في رأس كل واحد من الكباش حديد يزيد وزنه على عشرين رطلاً. فلما طال تجديد الكباش وقربوا البرج من السور عمد هذا الرجل البحري المقدم ذكره إلى خشبة طويلة جافية قوية أقامها في برج البلد الذي بإزاء برج الافرنج وفي رأسها خشبة على شكل الصليب طولها أربعون ذراعاً تدور على بكر بلولب كيف ما أراد متوليها على مثال ما يكون في الصواري البحرية وفي طرف الخشبة التي تدور سهم حديد وفي طرفها الآخر حبال مدارة بها على ما يريد متوليها وكان يرفع فيها جرار الكدر والنجاسة ليشغلهم بطرح ذلك عليهم في البرج عن الكباش. وضاق الأمر بالناس وشغلهم ذلك عن أمورهم وأشغالهم وعمد البحري المذكور إلى سلال العنب والقفاف فيجعل فيها الزيت والقير والسراقة والقلفونية وقشر القصب ويطلق فيها النار فإذا علقت بذلك وقع ذلك في الآلة المذكورة حتى يوازي برج الافرنج فتقع النار في أعلى البرج فيبادروا باطفائها بالخل والماء فيبادر برفع اخرى ومع هذا يرمي أيضاً بالزيت المغلي في قدور صغار على البرج فيعظم الوقيد. فلما كثرت النار وحمل بعضها بعضاً وقويت قهرت الرجلين المتولين لرأس البرج وقتل أحدهما وانهزم الآخر ونزل منه فتمكنت النار من رأسه ونزلت إلى الطبقة الثانية من رأسه ثم إلى الوسطى وعملت في الخشب وقهرت من كان حوله في الطبقات وعجزوا عن اطفائها وهرب كل من فيه وحوله من الافرنج وخرج أهل صور إليه فنهبوا ما فيه وغنموا من السلاح والآلات والعدد ما لا يحده وصف فعند ذلك وقع يأس الافرنج منه وشرعوا في الرحيل عنه وأحرقوا البيوت التي كانوا قد عمروها في المنزل لسكناهم وأحرقوا كثيراً من المراكب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 287 التي كانت لهم على الساحل لأنهم كانوا أخذوا صواريها وأرجلها وآلاتها للأبراج وكانت عدتهم تقدير مائتي مركب كباراً وصغاراً منها تقدير ثلاثين مركباً حربية وحملوا في بعضها ما خف من أثقالهم ورحلوا في العاشر من شوال من السنة وكانت مدة إقامتهم على محاصرة صور أربعة أشهر ونصف شهر وقصدوا عكا وتفرقوا إلى أعمالهم. وخرج أهل صور وغنموا ما ظفروا به منهم وعادت الأتراك المندوبون لاسعادهم إلى دمشق وقد فقد منهم في الحرب نحو عشرين رجلاً وكان لهم فيها الجراية والواجب في كل شهر. ولم يتم على برج من أبراج الافرنج في القديم والحديث مثل ما تم على هذا البرج من إحراقه من رأسه إلى أسفله والذي أعان على هذا هو تساوي البرجين في الارتفاع ولو طال أحدهما على الآخر لهلك أقصرهما. وكان عدد المفقودين من أهل صور أربعمائة نفس ومن الافرنج في الحرب أيضاً على ما حكى الحاكي العارف تقدير ألفي نفس. ولم يف أهل صور بما كانوا بذلوه لظهير الدين أتابك من تسليم البلد إليه ولم يظهر لهم في ذلك قولاً وقال: إنما فعلت ما فعلت لله تعالى وللمسلمين لا لرغبة في مال ولا مملكة. فكثر الدعاء له والشكر بحسن فعله ووعدهم أنه متى دهمهم خطب مثل هذا سارع إليه وبالغ في المعونة عليه وعاد إلى دمشق بعد مكابدة المشقة في مقابلة الافرنج إلى أن فرج الله عن أهل صور. وشرع أهل صور في ترميم ما شعثه الافرنج من سورها وأعادوا الخنادق إلى حالها ورسمها بعد طمتها وحصنوا البلد وتفرق من كان فيه من الرجالة وفي الثاني من شعبان ورد الخبر بهلاك بدران بن صنجيل صاحب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 288 طرابلس بعلة لحقته وأقام ابنه في الأمر من بعده وهو طفل صغير كفله أصحابه ودبروا أمره مع طنكري صاحب أنطاكية وجعلوه من خيله وأقطعه انطرطوس وصافيثا ومرقية وحصن الأكراد وفي هذه السنة حدث بمصر الوباء المفرط بحيث هلك به خلق كثير يقال تقدير ستين ألف نفس. وفيها ورد الخبر من ناحية العراق بوصول السلطان غياث الدنيا والدين محمد بن البي كذا إلى بغداد في جمادى الأولى منها وأقام بها مدة ثقل فيها على أهلها وارتفع معها السعر إلى أن رحل عنها فصلحت الحال ورخص السعر. وفيها وردت الأخبار بوصول الأمير شرف الدين مودود صاحب الموصل في عسكره ونزوله على الرها ورعيه لزرعها في ذي القعدة منها وأقام عليها إلى المحرم سنة 506 ورحل عنها إلى سروج ورعى زرعها وهو في غفلة غير متحفظ من عدو يطرق ومسلم يرهق ولم يشعر إلا وجوسلين صاحب تل باشر في خيله من الافرنج ودواب العسكر منتشرة في المرعى هجم عليها من ناحية سروج على حين غفلة من مودود وأصحابه فقتلوا منهم جماعة فاستاقوا أكثر كراعهم وقتل بعض المقدمين واستيقظ من كان من المسلمين غافلاً وتأهبوا للقائه فعاد إلى حصن سروج الجزء: 1 ¦ الصفحة: 289 وفي هذه السنة انتقل تاج الملوك بوري بن أتابك إلى دار الملك شمس الملوك دقاق في قلعة دمشق في المحرم منها. وفيها ورد الخبر بوفاة قراجه الوالي بحمص بعلة طالت به وكان فيها هلاكه وقد كان مؤثراً للظلم مشاركاً للحرامية وقطاع الطريق وأقيم في مكانه ولده خيرخان بن قراجه تابعاً في الظلم لأفعاله ناسجاً في العدوان والجور على منواله سنة ست وخمسمائة فيها اشتد خوف أهل صور من عند الافرنج إلى منازلتهم فأجمعوا أمرهم مع عز الملك أنوشتكين الأفضلي الوالي بها على تسليمها إلى ظهير الدين أتابك بحكم ما سبق من نصرته لهم في تلك النوبة ومعاضدته إياهم في تلك الشدة وندبوا رسولاً وثقوا به وسكنوا إليه في الحديث مع ظهير الدين أتابك في هذا الباب ووصل إلى بانياس وواليها الأمير سيف الدولة مسعود فتحدث معه وسار الأمير مسعود مع الرسول إلى دمشق لتقرير الحال بمحضر منه فصادف ظهير الدين أتابك قد توجه إلى ناحية حماة لتقرير الحال فيما بينه وبين فخر الملوك رضوان صاحب حلب فأشفق الأمير مسعود أن يتأخر الأمر إلى حين عود ظهير الدين من حماة فيبادر بغدوين بالنزول على صور ويفوت الغرض المطلوب فيها فقرر مع ولده تاج الملوك بوري النائب عنه في دمشق المصير معه إلى بانياس وانتهاز الفرصة في تسليم صور إليه فأجاب إلى ذلك وتوجه معه إلى بانياس وتم مسعود إلى صور ومعه من يعتمد عليه من العسكر ولم ينتظر وصول أتابك ووصل إليها وحصل بها. وانتهت الحال في ذلك إلى أتابك فانهض فرقةً وافرة من الأتراك إلى صور تقويةً لها فوصلت إليها وحصلت بها واستقر أمر الأتراك فيها وحمل إليها من دمشق ما أنفق فيهم وطيب نفوس أهل البلد وأجروا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 290 على الرسم في إقامة الدعوة والسكة على ما كانت عليه لصاحب مصر ولم يغير لهم رسم وكتب ظهير الدين أتابك إلى الأفضل بمصر يعلمه: أن بغدوين قد جمع وحشد للنزول على صور وأن أهلها استنجدوا بي عليه والتمسوا مني دفعه عنهم فبادرت بانهاض من أثق بشهامته لحمايتها والمراماة دونها إليه وحصلوا فيها ومتى وصل إليها من مصر من يتولى أمرها ويذب عنها ويحميها بادرت بتسليمها إليه وخروج نوابي منها وأنا أرجو أن لا يهمل أمرها وانفاذ الاسطول بالغلة إليها والتقوية لها. وحين عرف بغدوين هذا الخبر رحل في الحال من بيت المقدس إلى عكا فوجد الأمر قد فات وحصل بها الأتراك فأقام بعكا ووصل إليه من العرب الزريقيين من بلد عسقلان رجل يعلمه أن القافلة الدمشقية قد رحلت من بصرى إلى ديار مصر وفيها المال العظيم وأنا دليلك إليها وتطلق لي من أسر من أهلي فنهض بغدوين من وقته عن عكا في طلب القافلة واتفق أن بعض بني هوبر تخطف بعضها وخلصت منهم ووصلت إلى حلة بني ربيعة فمسكوها أياماً وأطلقوها بعد ذلك وخرجت من نقب عازب وبينه وبين بيت المقدس مسافة يومين للفارس فلما حصلت بالوادي أشرفت الافرنج عليها فهرب من كان بها فالذي صعد منها الجبل سلم وأخذ ماله وأخذت العرب أكثر الناس فاشتمل الافرنج على ما فيها من الأمتعة والبضائع وتتبعت العرب من أفلت منهم فأخذوه وحصل لبغدوين منها ما يزيد على خمسين ألف دينار وثلاثمائة أسير وعاد إلى عكا ولم يبق بلد من البلاد إلا وقد أصيب بعض تجاره في هذه القافلة. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 291 وفيها توفي القاضي أبو عبد الله محمد بن موسى البلاساغوني التركي في يوم الجمعة الثالث عشر من جمادى الآخرة بدمشق رحمه الله وهو معزول عن قضائها ولازم منزله وفي هذه السنة وصل ابن الملك تكش ابن السلطان البارسلان أخي السلطان العادل ملك شاه إلى حمص هارباً من ابن عمه السلطان غياث الدنيا والدين محمد ولم يمكنه المقام بحمص ولا حماة فتوجه إلى حلب وكان ولد فخر الملوك رضوان صاحب حلب في الدركاه السلطانية فأشفق من المقام بحلب فتوجه إلى طنكري صاحب أنطاكية فاستجاره فأجاره وأكرمه وأحسن إليه واجتمع إليه جماعة من الأتراك الذين مع طنكري فأقام عنده. وخرج طنكري من أنطاكية في أول جمادى الآخرة إلى ناحية كربيل مقدم الأرمن وكان قد هلك طمعاً في تملك بلاده فعرض له مرض في طريقه أوجب عوده إلى أنطاكية فاشتد به المرض فهلك في يوم الأربعاء الثامن من جمادى الآخرة وقام في الأمر بعده ابن أخيه سرجال فتسلم أنطاكية وأعمالها واستقام له الأمر فيها بعد أن جرى بين الافرنج خلف بسببه إلى أن أصلح بينهم القسوس وطلب من الملك رضوان مقاطعة حلب المستقرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 292 فأجابه إلى ذلك ومبلغها عشرون ألف دينار والخيل وطلب مقاطعة شيزر فأجاب صاحبها إليها وهي عشرة آلاف دينار. وتواترت غارات بغدوين على عمل البثنية من أعمال دمشق وانقطعت الطريق وقلت الأقوات بها وغلا السعر فيها وتتابعت كتب ظهير الدين أتابك إلى الأمير شرف الدين مودود صاحب الموصل بشرح هذه الأحوال في هذه الأعمال وبعثه على الوصول إليه للاعتضاد على دفع المردة الاضداد والفوز بفضيلة الجهاد وكان مودود قد شنع عليه عند السلطان غياث الدنيا والدين بشناعات من الحال لفقها الحسدة الأعداء أوجبت استيحاشه منه وبعده عنه قيل في جملتها أنه عازم على الخلاف والعصيان وأن يده ويد أتابك قد صارت يداً واحدة وأراؤهما متوافقة وأهواؤهما متطابقة. فما عرف ذلك سير ولده وزوجته إلى باب السلطان بأصفهان للتنصل والاعتذار وإبطال ما رمي إليه من المحال والتبرئ مما افتري عليه وعزي إليه والاستعطاف له والاعلام بأنه جار على ما ألف منه على اخلاص الطاعة والعبودية والمناصحة في الخدمة والاهتمام بالجهاد. ثم جمع عسكره من الأتراك والأكراد ومن أمكنه وتوجه إلى الشام وقطع الفرات في ذي القعدة من السنة. فحين اتصل خبره ببغدوين الملك قلق لذلك وانزعج لخبره. وكان جوسلين صاحب تل باشر قد اختلف هو وخاله بغدوين الرويس صاحب الرها وصار مع بغدوين صاحب بيت المقدس واقطعه طبرية واتفقا على أن راسل جوسلين لظهير الدين أتابك يبذل المصافاة والمودة ويرغبه في الموادعة والمسالمة ويسلم إليه حصن ثمانين المجاور لحصن .... وجبل عاملة ويتعوض عن ذلك بحصن الحبيس الذي في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 293 السواد ونصف السواد ويضمن عن بغدوين الوفاء بذلك والثبات على المودة والمصافاة وترك التعرض لشيء من أعمال دمشق ولا يعرض هو لشيء من أعمال الافرنج. فلم يجب إلى ذلك ونهض من دمشق في العسكر للقاء الأمير مودود والاجتماع به على الجهاد فاجتمعا بمرج سلمية واتفق رأيهما عرى قصد بغدوين وصارا وقد استصحب أتابك جميع العسكر ومن كان بحمص وحماة ورفنية ونزلا يوم عيد النحر بقدس ورحلا منها إلى عين الجر بالبقاع ثم منها إلى وادي التيم ثم نزلا بانياس ونهضت فرقة من العسكر فقصدت ناحية ثمانين فلم يظفر منها بمراد وعادت ووصل إليها بغدوين وقد كان لما ينس من إجابة أتابك إلى الموادعة وأصل الغارات والفساد في الشام إلى أن وصل عسكر السلطان إلى عمله. وبالغ أتابك فيما حمله إلى الأمير مودود وإعظامه وإكرامه وما حمله إليه وإلى مقدمي عسكره وخواصه من أنواع الملبوس والمأكول والمركوب ثم نهضوا معلمين على النزول على القحوانة ووصل إلى بغدوين سرخالة صاحب أنطاكية وصاحب طرابلس وأجمعوا رأيهم على النزول غربي جسر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 294 الصنبرة ثم يقطعون إلى القحوانة للقاء المسلمين وقد احتاطوا على أثقالهم وراء الجسر والمسلمون لا يعملون بذلك وأنهم قد عارضوهم في المسير إلى هذا المنزل. فسبق الأتراك إلى نزولهم في القحوانة وقطع بعد عسكر الأتراك الجسر لطلب العلوفات والزرع فصادفوا الافرنج قد ضربوا خيامهم وقد تقدم بغدوين المسبق إلى هذا المنزل ونزل صاحب أنطاكية وصاحب طرابلس وراءه يتبعونه إليه ونشبت الحرب بين المتعلفة وبين الافرنج وصاح الصائح ونفر الناس وقطعوا الجسر وهم يظنون أنه جوسلين لأنه صاحب طبرية فوقف أتابك على الجسر وتسرع خلق كثير من العسكر إلى قطع الجسر وقطع الأمير تميراك بن أرسلانتاش في فريق وافر من العسكر ونشبت الحرب بين الفريقين من غيرتا هب للقاء ولا ضرب خيام ولا استقرار في منزل ولا مجال واختلط الفريقان فمنح الله الكريم له الحمد المسلمين النصر على المشكرين بعد ثلاث كرات فقتل فيها من الافرنج تقدير ألفي رجل من الأعيان ووجوه الأبطال والشجعان وملكوا ما كان نصب من خيامهم والكنيسة المشهورة وأفلت بغدوين بعد ما قبض وأخذ سلاحه وملكت دواب الرجالة وما كان لهم وغرق منهم خلق كثير في البحيرة واختلط الدم والماء وامتنع الناس من الشرب منها أياماً حتى صفت منه وراقت والتجأ من نجا من الافرنج إلى طبرية وأكثرهم جرحى وذلك في يوم السبت الحادي عشر من المحرم سنة 507. وبعد انفصال الأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 295 وصل باقي الافرنج أصحاب طنكري وابن صنجيل فلأمره على التسرع وفندوا رأيه ونصبوا ما كان سلم من خيامهم على طبرية وفي غد يوم الوقعة نهض فريق من عسكر الأتراك إلى ناحية طبرية وأشرفوا على الافرنج بناحية طبرية وعزموا على النزول إليهم والايقاع بهم فخافهم الافرنج وأيقنوا بالهلاك وأقام الأتراك على الجبل عامة نهارهم وانكفوا إلى معسكرهم وطلع الافرنج إلى الجبل وتحصنوا به لصعوبة مرتقاه وهو من غربي طبرية والماء ممتنع على من يكون فيه فعزم المسلمون على الصعود إليه مواقعتهم واستدعى أتابك العرب الطائيين والكلابيين والخفاجيين فوصلوا في خلق كثير بالمزادات والروايا والابل لحمل الماء وصعدت الطلائع إلى الجبل من شماله وعرفوا أن هذا الجبل لا يمكن الحرب فيه لصعوبته على الفارس والراجل. وعلم المسلمون أن الظفر قد لاحت دلائله واماراته والعدو قد ذل وانخزل وفل وانخذل وسرايا الاسلام قد بلغت في النهيض إلى أرض بيت المقدس ويافا وأخربت أعمالهم ودوختها واستاقت عواملها ومواشيه وغنمت ما وجدته فيها فانثنى الرأي عن الصعود ودامت الحال على هذه القضية إلى آخر صفر وعقيب هذه النوبة وصل من حلب من عسكر الملك فخر الملوك رضوان مائة فارس على سبيل المعونة خلاف ما كان قرره وبذله فأنكر ظهير الدين أتابك وشرف الدين مودود ذلك منه وأبطلا العمل بما كانا عزما عليه من الميل إليه وإقامة الخطبة له وذلك في أول شهر ربيع الأول سنة 507 وسيرا رسولاً إلى السلطان غياث الدنيا والدين إلى مدينة أصفهان بالبشارة بهذا الفتح ومعه جماعة من أسارى الافرنج ورؤسهم وخيولهم وطوارقهم ومضاربهم وأنواع سلاحهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 296 ثم إن العسكر رحل من المنزل إلى وادي المقتول ونزل الافرنج عند ذلك عن الجبل إلى منزلهم والتجأوا إلى جبل في المنزل وتواصلت إليهم ميرهم وازوادهم وأمدادهم من أعمالهم فعاد إليهم عسكر الأتراك من منزلهم جرائد في بضع عشرة كردوساً ولزموا ذلك أياماً يرومون أن يخرجوا إليهم فلم يظهروا للحرب ولازم بعضهم بعضاً الفارس والراجل في مكان واحد لا يظهر منهم شخص وجعل الأتراك يحملون عليهم فيصيبون منهم بالنشاب ما يقرب منهم ويمنعون الميرة والعلوفة عنهم وقد أحدقوا بهم كالنطاق وهالة بدر الآفاق فاشتد الأمر بهم فرحلوا عن منزلة في ثلاثة أيام تقدير فرسخ عائدين. فلما كان الليل قصدوا الجبل الذي كانوا أولاً عليه ملتجئين إليه ومحتمين به وواظب المسلمون قصدهم والتلهف على ما يفوت منهم ومن غنائمهم بالاستمرار على الاحجام عن ظهورهم على أن مقدمي العسكر يمنعونهم من التسرع إليهم والاقدام في منزلهم عليهم ويعدونهم بفرصة تنتهز فيهم. فطال أمد المقام وضاقت صدور أصحاب مودود لبعد ديارهم وتأخر عودهم وتعذر أوطارهم فتفرق أكثرهم وعادوا إلى بلادهم فاستأذن آخرون في العود فأذن لهم وعزم مودود على المقام بالشام والقرب من العدو ينتظر ما يصله من الأمر السلطاني والجواب عما أنهاه وطالع به فيعمل بحسبه. ولم يبق في بلاد الافرنج مسلم إلا وأنفذ يلتمس الأمان من أتابك وتقرير حاله ووصل إليه بعض ارتفاع نابلس ونهبت بيسان ولم يبق بين عكا والقدس ضيعة عامرة والافرنج على حالهم في التضييق عليهم والحصر لهم على الجبل. واقتضى الرأي عود أتابك ومودود فعادا إلى دمشق في الحادي والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 507 ونزل مودود في حجرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 297 الميدان الأخضر وبالغ أتابك في إكرامه واحترامه وإعظامه بما يجد إليه السبيل وتأكدت المودة بينهما والمصافاة وتولى خدمته بنفسه وخاصته وواصلا صلاة الجمعة جميعاً في مسجد الجامع بدمشق والتبرك بنظر المصحف الكريم الذي كان حمله عثمان بن عفان رضي الله عنه من المدينة إلى طبرية وحمله أتابك من طبرية إلى جامع دمشق سنة سبع وخمسمائة قد ذكرنا ما ذكرناه من الحوادث في سنة 506 وسياقة الأمر إلى أوائل سنة 507 رغبةً في صلة الحديث ورغبةً عن قطعه. ولما كان يوم الجمعة الأخيرة من شهر ربيع الآخر سنة 507 دخل الأمير مودود من مخيمه بمرج باب الحديد إلى الجامع على رسمه ومعه أتابك فلما قضيت الصلاة وتنفل بعضها مودود وعادا جميعاً وأتابك أمامه على سبيل الاكرام له وحولهما من الديلم والخراسانية والأحداث والسلاحية بأنواع السلاح من الصوارم المرهفة والصمصامات الماضية والنواحل المختلفة والخناجر المجردة ما شاكل الأجمة المشتبكة والغيضة الآشبة والناس حولهما لمشاهدة زيهما وكبر شأنهما فلما حصلا في صحن الجامع وثب رجل من بين الناس لا يؤبه له ولا يحفل به فقرب من الأمير مودود كأنه يدعو له ويتصدق منه فقبض ببند قبائه بسرعة وضربه بخنجره أسف سرته ضربتين إحداهما نفذت إلى خاصرته والأخرى إلى فخذه هذا والسيوف تأخذه من كل جهة وضرب بكل سلاح وقطع رأسه ليعرف شخصه فما عرف وأضرمت له نار فألقي فيها. وعدا أتابك خطوات وقت الكائنة وأحاط به أصحابه ومودود متماسك يمشي إلى أن قرب من الباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 298 الشمالي من الجامع ووقع فحمل إلى الدار الأتابكية وأتابك معه ماش واضطرب الناس اضطراباً شديداً وماجوا واختلفوا ثم سكنوا بمشاهدتهم له يمشي وظنوا به السلامة وأحضر الجرائحي فخاط البعض وتوفي رحمه الله بعد ساعات يسيرة في اليوم المذكور فقلق أتابك لوفاته على هذه القضية وتزايد حزنه وأسفه وانزعاجه وكذلك سائر الأجناد والرعية وتألموا لمصابه وزاد التأسف والتلهف عليه وكفن ودفن وقت صلاة العصر من اليوم في مشهد داخل باب الفراديس من دمشق وكل عين تشاهده باكية والمدامع على الوجنات جارية. وشرع أصحابه في التأهب للعود إلى أماكنهم من الموصل وغيرها من البلاد وتقدم أتابك بإطلاق ما يستدعونه لسفرهم واستصحبوا معهم أثقاله وجواهره وماله وقد كانت سيرته في ولايته حائرةً وطريقته في رعية الموصل غير حميدة وهرب خلق كثير من ولايته لجوره فلما بلغه تغير نية السلطان فيه عاد عن تلك الطريقة وحسنت أفعاله وظهر عدله وانصافه واستأنف ضد ما عرف منه وسمع عنه ولزم التدين والصدقات والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المكروه فشاعت بالجميل أخباره وبحسن الارتضاء آثاره ثم توفي سعيداً مقتولاً شهيداً ولم يزل مدفوناً في ذلك المشهد مخدوم القبر بالقومة والقراءة إلى آخر شهر رمضان من السنة ووصل من عند ولده وزوجته من حمل تابوته إليهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 299 وفي هذه السنة ورد الخبر من بغداد بوفاة الفقيه الامام أبي بكر محمد بن أحمد الشاشي رحمه الله ببغداد يوم السبت الخامس والعشرين من شوال منها وقد انتهت الرئاسة إليه على أصحاب الشافعي ودفن في تربة شيخه أبي إسحق الشيرازي رحمه الله قد تقدم من ذكر ما كان من نوبة صور وانتقال ولايتها إلى ظهير الدين أتابك واستنابته مسعوداً في حفظها وحمايتها وتدبير أمرها وانفاذ رسوله إلى الأفضل بشرح حالها ولم يزل الرسول المسير إلى مصر مقيماً بها إلى ذي الحجة من سنة 506 وظهر للأفضل صورة الحال فيها وجلية الأمر بها وأعاد الرسول بالجواب الجميل وإن: هذا أمر وقع منا أجمل موقع وأحسن موضع واستصواب رأي ظهير الدين فيما اعتمده وإحماد ما قصده. وتقدم بتجهيز الاسطول إليها بالغلة والميرة ومال النفقة في الأجناد والعسكرية وما يباع على الرعية من الغلات ووصل الاسطول بذلك إلى صور ومقدمه شرف الدولة بدر بن أبي الطيب الدمشقي الوالي كان بطرابلس عند تملك الافرنج لها في آخر صفر سنة 507 بكل ما يحتاج إليه فرخصت الأسعار بها وحسنت حالها واستقام أمرها وزال طمع الافرنج فيها. ووصل في جملته خلع فاخرة من طرف مصر رسم ظهير الدين وولده تاج الملوك بوري وخواصه ولمسعود الوالي المستناب بها وأقام الاسطول عليها إلى أن استقام الريح له فأقلع عنها في العشر الأخير من شهر ربيع الأول منها. وأرسل بغدوين الملك إلى الأمير مسعود واليها يلتمس منه المهادنة والموادعة والمسالمة لتحسم أسباب الأذية عن الجانبين فأجابه إلى ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 300 وانعقد الأمر بينهما على السداد واستقامت الأحوال على المراد وأمنت السابلة للمترددين والتجار والسفار الواردين من جميع الأقطار وتوفي رحمه الله في عاشر شوال سنة 507 وقد كان صاحب أنطاكية لما فصل عن الملك بغدوين بعسكره عائداً إلى أنطاكية فسح عنه ولد الملك تكش بن السلطان البارسلان وقصد صور وأنفذ إلى ظهير الدين أتابك في الوصول إلى دمشق فأجابه بالاعتذار الجميل والاحتجاج المقبول ودفعه أحسن دفع فلما أيسه توجه إلى مصر ولقي من الأفضل ما أحب من الإكرام والمزيد من الاحترام والانعام واطلاق ما يعود إليه بصالح الحال وتحقيق الآمال وفي جمادى الآخرة وردت الأخبار من ناحية حلب بمرض عرض للملك فخر الملوك رضوان صاحبها وأنه أقام به واشتد عليه وتوفي رحمه الله في الثامن والعشرين من الشهر فاضطرب أمر حلب لوفاته وتأسف أصحابه لفقده وقيل أنه خلف في خزانته من العين والعروض والآلات والأواني تقدير ستمائة ألف دينار وتقرر الأمر بعده لولده البارسلان وعمره ست عشرة سنة وفي كلامه حبسة وتمتمة وأمه بنت الأمير ياغي سيان صاحب أنطاكية وقبض على جماعة من خواص أبيه فقتل بعضاً وأخذ مال بعض ودبر الأمر معه خادم أبيه لؤلؤ فأساء كل واحد منهما التدبير وقبض على أخويه ملك شاه من أمه وأبيه ومبارك من أبيه وجارية وقتلهما. وقد كان أبوه الملك رضوان في مبدأ أمره فعل مثل فعله بقتل أخويه من تاج الدولة أبي طالب وبهرام شاه وكانا على غاية من حسن الصورة فلما توفي كان ما فعل بولديه مكافأة عما اعتمده في أخويه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 301 وكان أمر الباطنية قد قوي بحلب واشتدت شوكتهم بها وخاف ابن بديع رئيس الأحداث بحلب وأعيان البلد منهم لكثرتهم وشد بعضهم من بعض وحماية من يلجأ إليهم منهم لكثرتهم وكان الحكيم المنجم وأبو طاهر الصائغ أول من أظهر هذا المذهب الخبيث بالشام في أيام الملك رضوان واستمالا إليه بالخدع والمحالات ومال إليهم خلق كثير من الاسماعيلية بسرمين والجور وجبل السماق وبني عليم فشرع ابن بديع رئيس حلب في الحديث مع الملك البارسلان بن رضوان في أمرهم وقرر الأمر معه على الايقاع بهم والنكاية فيهم فقبض على أبي ظاهر الصائغ وعلى كل من دخل في هذا المذهب وهو زهاء مائتي نفس وقتل في الحال أبو طاهر الصائغ واسمعيل الداعي وأخو الحكيم المنجم والأعيان المشار إليهم منهم وحبس الباقون واستصفيت أموالهم وشفع في بعضهم فمنهم من أطلق ومنهم من رمي من أعلى القلعة ومنهم من قتل وهرب جماعة أفلتوا إلى الافرنج وتفرقوا في البلاد ودعت الملك البارسلان الحاجة إلى من يدبر أمره ويثقف أوده فوقع اختياره على ظهير الدين أتابك صاحب دمشق فراسله في ذلك وألقى مقاليده إليه واعتمد في صلاح أحواله عليه وسأله الوصول إلى حلب والنظر في مصالحها وأوجبت الصورة أن خرج الملك نفسه في خواصه وقصد أتابك في دمشق ليجتمع معه ويؤكد الأمر بينه وبينه فوصل إليه في النصف من شهر رمضان من السنة فلقيه أتابك بما يجب لمثله من تعظيم مقدمه واجلال محله وأدخله إلى قلعة دمشق وأجلسه في دست عمه شمس الملوك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 302 دقاق بن تاج الدولة وقام هو والخواص في خدمته وحمل إليه ما أمكن حمله من تحف وألطاف تصلح لمثله وكذلك لجميع من وصل في صحبته وأقام أياماً على هذه الحال وتوجه عائداً إلى حلب في أوال شوال من السنة ومعه ظهير الدين أتابك في أكثر عسكره ووصل إلى حلب وأقام أياماً. وأشار عليه قوم من أصحابه بالقبض على جماعة من أعيان عسكره وعلى وزيره أبي الفضل بن الموصول وكان حميد الطريقة مشهوراً بفعل الخير وتجنب الشر ففعل ذلك واستخلص ظهير الدين أتابك من جملتهم الأمير كمشتكين البعلبكي مقدم عسكره وخالف ما في نفس أتابك من صائب الرأي ومحمود التدبير فحين شاهد الأمر على غير السداد والصواب وبان له فساد التدبير واختلاف التقدير رأى أن الانكفاء إلى دمشق أصوب ما قصد وأحسن ما اعتمد وفي صحبته والدة الملك رضوان لرغبتها في ذلك وايثارها له. ولما حصل في دمشق اتصلت المراسلة بينه وبين بغدوين ملك الافرنج في ايقاع المهادنة والموادعة والمسالمة لتعمر الأعمال بعد الأخراب وتأمن السوابل من شر المفسدين والخراب فاستقرت هذه الحال بينهما واستحلف كل واحد منهما صاحبه على الثبات والوفاء واخلاص المودة والصفاء وأمنت المسالك والأعمال وصلحت الأحوال وتوفر الاستغلال وفي هذه السنة ورد الخبر من شيزر بأن جماعة من الباطنية من أهل أفامية وسمين ومعرة النعمان ومعرة نصرين في فصح النصارى وثبوا في حصن شيزر على غفلة من أهله في مائة راجل فملكوه وأخرجوا جماعةً وأغلقوا باب الحصن وصعدوا إلى القلعة فملكوها وأبراجها وكان بنو منقذ أصحابها قد خرجوا لمشاهدة عيد النصارى وكان هذا أمر قد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 303 رتب في المدة الطويلة وقد كانوا أحسنوا إلى هؤلاء المقدمين على الفساد كل الاحسان فبادر أهل شيزر قبل وصولهم إلى الباشورة ورفع الحرم بالحبال من الطاقات وصاروا معهم وأدركهم الأمراء بنو منقذ أصحاب الحصن وصعدوا إليهم وكبروا عليهم وقاتلوهم حتى الجأوهم إلى القلعة فخذلوا وذلوا وهجموا إليهم وتكاثروا عليهم وتحكمت سيوفهم فيهم فقتلوهم بأسرهم وقتل كل من كان على رأيهم في البلد من الباطنية ووقع التحرز من مثل هذه الحال سنة ثمان وخمسمائة في هذه السنة ورد الخبر من ناحية حلب بأن بابا المعروف بلؤلوء الخادم أتابك الملك تاج الدولة البارسلان ولد الملك رضوان صاحب حلب عمل عليه وواطأ جماعةً من أصحابه على الايقاع به والفتك به عند وجود الفرصة متسهلة فيه فحين لاحت لهم وثبوا عليه فقتلوه في داره بقلعة حلب واضطرب الأمر بعده وقد كان تدبيره لنفسه وعسكريته ورعيته ستيئاً فاسداً لا يرجى له صلاح ولا اصلاح فمضى لسبيله غير مأسوف عليه ولا محزون لفقده. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 304 وفيها توفي الشريف نسيب الدولة أبو القسم علي بن إبراهيم بن العباس بن الحسن الحسيني رحمه الله في ليلة الأحد الرابع والعشرين من شهر ربيع الآخر ودفن بعد صلاة الظهر في التربة الفخرية بدمشق. وفي هذه السنة حدثت بالشام زلزلة عظيمة ارتجت لها الأرض وأشفق الناس وسكنت فسكنت لها النفوس بعد الوجيب والقلق وقرت القلوب بعد الانزعاج والفرق وفي هذه السنة نزل الأمير نجم الدين ايل غازي بن ارتق على حمص وفيها خيرخان ابن قراجا وكان عادة نجم الدين إذا شرب الخمر وتمكن منه أقام منه عدة أيام مخموراً لا يفيق لتدبير ولا يستأمر في أمر ولا تقرير وقد عرف خيرخان منه هذه العادة المستبشعة والغفلة المستبدعة فحين عرف إنه على تلك القضية خرج من قلعة حمص في رجاله وكبسه في مخيمه وانتهز الفرصة فيه وقبض عليه وحمله إلى حمص وذلك في شعبان منها وضاق صدر ظهير الدين أتابك لما انتهى الخبر بذلك إليه وكاتب خيرخان بالانكار عليه والأكبار لما أجرى عليه وتغيرت نيته فيه وأقام أياماً في اعتقاله إلى أن أطلقه وخلى سبيله وفيها وردت الأخبار من ناحية الافرنج بهلاك ملكهم بغدوين بعلة هجمت عليه مع انتقاض جرح كان أصابه في الوقعة الكائنة بينه وبين المصريين فهلك بها وقام مقامه من بعده من أرتضي به. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 305 وفيها توفي الشيخ أبو الوحش سبيع بن مسلم الضرير المعروف بابن قيراط المقري المجود بالسبغة رحمه الله في يوم السبت الحادي عشر من شعبان منها ودفن بباب الصغير بين قبور الشهداء رضي الله عنهم وكان ملازماً لجامع دمشق يقرأ إلى أن توفي على حسن طريقه سنة تسع وخمسمائة في هذه السنة قويت شوكة الافرنج في رفنية وبالغوا في تحصينها وتشحنها بالرجال وشرعوا في الفساد والتناهي في العناد فصرف ظهير الدين همه إلى الكشف عن أحوالهم والبحث عن مقاصدهم في أعمالهم وترقب الفرصة فيهم ومعرفة الغرة منهم وتقدم إلى وجوه العسكر ومقدميه بالتأهب والاستعداد لقصد بعض الجهات لاحراز فضيلة الجهاد والنهوض لأمر من المهمات ثم أسرى إليهم مغذاً حتى أدركهم وهم في مجاثمهم غارون وفي أماكنهم لاهون قارون فلم يشعروا إلا والبلاء قد أحاط بهم من جميع جهاتهم فهجمت الأتراك عليهم البلد فملكوه وحصل كل من كان فيه في قبضة الأسر وربقة الذل والقهر فقتل من قتل وأسر من أسر وغنم المسلمون من سوادهم وكراعهم وأثاثهم ما امتلأت به الأيدي وسرت به النفوس وقويت بمثله القلوب وذلك في يوم الخميس لليلة خلت من جمادى الآخرة من السنة وانكفأ المسلمون إلى دمشق ظافرين مسرورين غانمين لم يفقد منهم بشر ولا عدم شخص ومعهم الأسرى ورؤوس القتلى فأطيف بهم في البلد بحيث تضاعف بمشاهدتهم السرور وانشرحت الصدور وقويت من الجند في الجهاد والغزو الظهور. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 306 ولما شاع ذكر ظهير الدين أتابك في الأعمال العراقية والدركاه السلطانية بما أعطاه الله من شدة البأس في محاربة الافرنج الأرجاس ومنحه من النصر عليهم والنكاية فيهم والذب عن أهل الشام ومراماته دونهم ومحاماته عنهم واحسان السيرة فيهم بحيث دعي له في محافل الرعايا والتجار وشكر بين الرفق من سفار الأقطار فحسده قوم من مقدمي الدركاه السلطانية الغياثية وراموا القدح فيه والطعن عليه طلباً لافساد حاله واعتماداً لعكس أماله وحطاً لرتبته بالحضرة السلطانية وتشعيث الآراء الجميلة الغياثية وظهر الأمر بذاك وانتشر وشاع من كل صوب واشتهر وكتب إليه بذلك من يؤثر صلاحه من الأصدقاء ويشفق عليه فأحدث ذاك له استيحاشاً دعاه إلى التأهب والاستعداد لتوجه ركابه إلى الباب الأمامي المستظهري والباب السلطاني الغياثي بمدينة السلام بغداد للمتولي بهما والخدمة لهما والتقرب بالسعي إليهما وإنهاء حاله إليهما وإزالة ما وقع في النفوس كأنه بالقدوم عليهما. وأشير عليه بترك ذلك وإهماله وحذر منه وبعث على إغفاله فلم يصح إلى هذا المقال ولا أعاد على أحد جواب سؤال بل تأهب للمسير وبالغ في الجد فيه والتشمير وأعد ما يصحبه من أنواع التحف المستحسنة من أواني البلور والمصاغ وأجناس الثياب المصرية والخيول السبق العربية مما يصلح أن يتقرب بمثله إلى تلك المناصب العلية وسار في خواصه وأهل ثقته من غلمانه في يوم الأحد لست بقين من ذي القعدة من السنة فلما قرب من بغداد وأنهي خبر وصوله تلقاه من خواص الدار العزيزة النبوية المستظهرية والدركاه السلطانية الغياثية ووجوه الدولة وأعيان الرعية من بالغ في إكرامه وتناهى في احترامه وقوبل من ذاك وما زاد في مسرة أوليائه وألفت في أعضاد حساده وأعدائه وأوضح حاله فيما قصد لأجله فما سمع إلا ما عاد ببسط عذره وإحماد فعله وإطراء أمره وتطييب نفسه وإبعاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 307 استيحاشه وتأكيد أنسه. وحين عزم على الانكفاء إلى دمشق وأذن له في ذلك شرف بالخلع السنية والكرامات الهنية وكتب له المنشور العالي السلطاني الغياثي بولاية الشام حرباً وخراجاً واطلاق يده في ارتفاعه على ايثاره واختياره بانشاء الطغرائي أبي إسمعيل الأصفهاني وهو إذ ذاك فريد زمانه في الكتابة والبلاغة ووحيد عصره في الآداب والبراعة وقد أثبت نسخته في هذا المكان ليعرف الواقف عليه فضل منشئه وعلو مرتبة من كتب له وأحسن وصفه فيه وهو: بسم الله الرحمن الرحيم: هذا منشور أمر بانشائه السلطان المعظم غياث الدنيا والدين أطال الله بقاءه وأعز أولياءه ونصر لواءه للأمير الاصفهسلار الأجل الكبير ظهير الدين أتابك أدام الله تأييده لما بان تمسكه من الطاعة بأحكم علائقها واعتصامه من الخدمة بأوكد وثائقها وانتهاجه من المشايعة أقوم مسالكها واعتماده أفضل طرائقها وأجلت التجارب منه عين الناصح الأريب والمهذب اللبيب المتدرج في مراقي الرتب السنية بالمساعي الرضية والمحرز أحاظي القرب الخطيرة بالآثار الشهيرة المشهورة موافقة في قود الجماهير العظام والذب عن حوزة الاسلام والتجرد لمظافرة الأولياء ومقارعة الأعداء والاستقلال بمضلعات الأعباء الجامع إلى خصائص هذه الأسباب والالمام بخدمة الأبواب والتحقق بزمر الحشم والأصحاب المستقل بنصحه المنخول بولائه المقبول ووسائله المشفوعة توالدها بالطوارف وشوافعه المنصورة سوالفها بالأوانف أن يزاد في الانافة بقدره والاشادة بذكره ويستخلص الجزء: 1 ¦ الصفحة: 308 تخلية صدره بتفخيم أمره وتجدد الصنيعة عنده بما يكون لواجب حقوقه قضاءً ولمصالح مساعيه كفاءً ولمحله المرموق لائقاً ولموضعه من الدولة مضاهياً مطابقاً فرأيناه أحق من أفيضت عليه ملابس الانعام وحبي من الكرامة بأوفر الأقسام ورفع من مراتب الاجتباء والاختصاص إلى الذروة والسنام ورشح لكفاية المهام وتدبير الأمور الجسام وأوطئ عقبة الكماة الأنجاد ورد إلى ايالته الأمصار والأجناد رسمنا أن نجدد له هذا المنشور بإمارة الشام ونقرر عليه جميع ما دلت عليه المناشير المنشأة المتضمنة لأسامي البلاد الموجبة له صارة رسمه معما يجري معها ويضاف إليها من النواحي والضياع والحصون والقلاع حسبن ما أورد ذكره مفصلاً في هذا المثال وجعلناها نعمةً مصونةً من الارتجاع وطعمةً محميةً من الانتزاع قلدناه في عامة تلك البقاع أعمال الحرب والمعاون والأحداث والأخرجة والأعشار وسائر وجوه الجبايات والعروض والاعطاء والنفقة في الأولياء والمظالم والأحكام وسائر المستظهر عليه بنظر الولاة الكفاة والنصحاء الثقاة رعايةً لحقوقه اللازمة ومحافظةً على أذمته المتقادمة وثقةً منه باستدامة النعمة وارتباطها بالتوفر على شرائط الخدمة واستدعاء مزيد الاحسان واستيفاء عوائد الاصطناع بدوام النصح وفضل الاستقلال والاضطلاع والله تعالى يجرينا على أحسن عوائده بإصابة شاكلة الصواب في اختيار الأولياء ويلهمنا المرشد في مرامي الأفكار ومواقع الآراء. ولا يخلينا في اصطفاء من يصطفيه واجتباء من يجتبيه من مساوقة التوفيق لما نرتاده ونرتنيه أمرناه بتقوى الله وطاعته واستشعار خيفته ومراقبته والالتجاء منها إلى الحصن الأمنع والظل الأمتع والاستظهار منها بالذخر الأتقى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 309 والحرز الأوقى والاحتراس من هواجس الهواء باعتلاق عروتها الوثقى وادراع شعارها الأتقى، قال الله تعالى: " يا أَيُّها الذينَ آمنوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجْعَلْ لَكمْ فُرقاناً وَيُكَفِّر عَنكُمْ سَيَآتِكُمْ وَيَغفِرْ لَكمْ وَأللهُ ذو الفضلِ العظيم ". وأمرناه أن يسير فيمن قبله من الأولياء والحشم أجمل سيرة ويحملهم بحسن السياسة على أفضل وثيرة ويسلكهم مسلكاً وسطاً بين اللين والخشونة والسهول والوعورة ويشعر قلوبهم من الهيبة ما يقبض المتبسط ويردع المتسلط ويرد غرب الجامح ويقيم صعر الجانح ويخص منهم ذوي الرأي والحنكة والثبات والمسكة بالمشاورة والمباحثة ويستخلص نخائل صدورهم عند طروق الحوادث بالمفاوضة والمنافثة ويستعين بثمار ألبابهم ونتائج أفكارهم على دفاع الملم وكفاية المهم ويتناول سفهاءهم وذوي العيث والفساد منهم بالتقويم والتهذيب والتعريك والتأديب ويردهم عن غلوائهم بالقول ما كفى وأحرز النصح ما أجدى وأغنى ومن زاده الأناة والحلم والاحتمال والكظم تمادياً في العدوان وتتابعاً في الطغيان عركه عرك الأديم وتجاوز به حد التقويم إلى التحطيم متيقناً إن إعطاء كل طبقة ممن تشمله رعايته وتكنفه إيالته حقها من قوانين السياسة إرهاقاً لبصيرة القارح المتمسك وكفاً لغرب الحرج المتهالك. قال الله تعالى: " وَإِمَّا تخافنَّ مِنْ قومٍ خِيانَةً فأنْبِذْ إِلَيهِم على سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحبُّ الخائنينَ " وأمرناه أن يوكل بأمر الثغور المتاخمة لأعماله والمصاقبة لبلاده عيناً كالئةً وأذناً واعيةً وهمةً للصغير والكبير في مصالحها مراعية فيشحنها بذوي البأس والنجدة المذكورين بالبسالة والشدة المعروفين بالصريمة والغناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 310 والصبر عند اللقاء والبصيرة بمكابدة الأعداء ويستظهر لهم باستنجادة الأسلحة والآلات والاستكثار من المير والأقوات ويناوب بينهم في مقارهم مناوبةً تجم المكدود وتريح المجهود وتدر عليهم الأرزاق عند الوجوب والاستحقاق ليقوم أودهم ويقل لددهم ويحسن طاعتهم وتلين مقادتهم ويكثف عددهم وعدتهم ويشتد على الأعداء شوكتهم ويغيظ الكفاء وربهم وشازبهم. قال الله تعالى: " وأَعدُّوا لهم ما استطعتم من قوَّةٍ ومِنْ رباطِ الخيلِ تُرْهبونَ بِه عَدُوَّ اللهِ وعدُوَّكمْ " وأمرنا أن يأخذ نفسه وأصحابه بالثبات والصبر عند قراع السيوف بالسيوف وذلوق الزحوف بالحروف ويرخصوا أنفسهم في ابتغاء مرضاه والذب عن حوزة الدين والمحاماة عن بيضة الاسلام والمسلمين ويحتاط مع ذلك لنفسه وأصحابه ولا يقدم بهم على غرر ولا يفسح لهم في ركوب خطر إلا بعد الأخذ بالحزم واستعمال الرفق في الحذر ويكون أقدامهم على بصيرة تامة لا تقتحم معها غرة ولا تضاع فرصة ولا يحجمون إذا أحمر الناس واشتد المراس عن تورد المعركة ولا يلقون بأنفسهم إذا حمي الوطيس والتقى الخميس بالخميس إلى التهلكة. قال الله جل وعلا: " وجاهِدوا في اللهِ حقَّ جِهادِهِ " وأمرناه أن يصل جناح ضمانه بالوفاء ويشد أركان عهده بالثبات ويصون ذمته عما يحفزها ويشفق عليها مما يحيلها ويغيرها ويذهب مع دواعي الصدق ويصير على تكاليف الحق ولا يروع لهم سرباً أمنه ولا ينقض شرطاً ضمنه ولا ينكث عهداً أبرمه ولا يخلف وعداً أقدمه ولا يتجافى عمن يلوذ بعقوته ولا يأبى قبول السلم ممن اتقى بصفحته. قال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 311 الله تعالى: " وأَوفوا بالعهدِ إِنَّ العهدِ كانَ مسؤولاً ". وقال جل من قائل: " وَإِنْ جَنحوا المسَّلْمِ فاجنحْ لها " وأمرناه أن يعم رعاياة القارة والمارة بالأمن العائد عليهم بسكون الجأش وسعة المعاش ويحوطهم في متوجهاتهم ومتصرفاتهم حياطةً تكنفهم من جميع جهاتهم ويحمي نفوسهم وذراريهم وأموالهم ومعائشهم حمايةً ترد كيد الظالم وتقبض يد الغارم وتخرج ذوي الريب من مظانهم وتحول بينهم وبين عدوانهم وتجري حكم الله فيهم وتقيم حده على من سفك فيهم دماء وانتهك محرماً أو أظهر شقاقاً وعناداً أو سعى في الأرض فساد. قال الله تعالى: " إِنَّما جَزَاءُ الَّذينَ يُحارِبونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعُونَ في الأَرضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلوا أَو يُصْلَبُوا أَو يُقطَّعَ أَيديهمْ وأَرجُلُهمْ مِنْ خِلاَفٍ أَو يُنفَوْا مِنَ الأَرضِ ذلكَ لهمْ جِزْيٌ في الدُّنيا ولهم في الآخرةِ عَذَابٌ عظيمٌ " وأمرنا أن ينظر في أموال الرعايا أتم نظر وأوفاه ويسئل عن ظلاماتهم أبلغ سؤال وأحفاه ويستن بالسنة العادلة فيهم ويمنع أقوياهم عن تهضم مستضعفيهم ويحمل من تحت يده على التعادل والتناصف ويصدهم عن التعاصب والتظالم ويقر الحقوق مقارها عند وضوح الحجة وارتفاع الشبهة ويختار لهم من العمال والولاة أسدهم طرائق وأقومهم مذاهب وأحمدهم خلائق ويأمر كلاً منهم أن لا يغير عليهم رسماً ولا ينوي لهم حقاً ولا يسومهم في معاملاتهم خسفاً ولا يحدث عليهم من يدع الجور رسماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 312 ولا يرتكب منهم ظلماً ولا يأخذ منهم براً باثيم ولا برءًا بسقيم ويقنع منهم في اخرجاتهم ومقاساتهم وقسوطهم ومقاطعاتهم بالجقوق المستمرة ويحملهم في العدل على الفوائد المستقرة ويستقرئ آثار الولاة قبله فما طاب منها وحسن اقتفاؤه اقتفره وما ذم منها واستنكره أماطه وغيره. ويعتقد إنه مسؤول عما اكتسب واجترح ومحاسب على ما أفسد وأصلح. قال الله تعالى: " وأَنْ ليسَ للإِنسانِ إِلاَّ ما سَعَى وأَنْ سَعيهُ سَوفَ يُرَى ثُمَّ يُجزاهُ الجزاءَ الأَوْفَى " فليتلقى هذه النعمة الكبيرة والعارفة الخطيرة بإعظام قدرها والقيام بواجب شكرها وليتحقق إنها قاطنة بفنائه ما أحسن جوارها بخالصة نصحه وولائه وباقية عليه على عقبه ما عملوا بأحكام هذا العهد وغنوا بتأكيد أسبابه وأعلنوا بشعار الدولة واستمروا على السنة المألوفة في إقامة الخطبة والسكة ويمسكوا بولاء الدولة العباسية التي هي سنة متبعة وما عداها ضلالة مبتدعة وجاهدوا في الله حق جهاده وأحسنوا السيرة في عباده وبلاده والله تعالى يمدنا وإياه في هذا الرأي الذي رأيناه ويزلف من رضاه يحمد فاتحته وعقباه إن شاء الله تعالى وكتب في المحرم سنة 510قرة ويستقرئ آثار الولاة قبله فما طاب منها وحسن اقتفاؤه اقتفره وما ذم منها واستنكره أماطه وغيره. ويعتقد إنه مسؤول عما اكتسب واجترح ومحاسب على ما أفسد وأصلح. قال الله تعالى: " وأَنْ ليسَ للإِنسانِ إِلاَّ ما سَعَى وأَنْ سَعيهُ سَوفَ يُرَى ثُمَّ يُجزاهُ الجزاءَ الأَوْفَى " فليتلقى هذه النعمة الكبيرة والعارفة الخطيرة بإعظام قدرها والقيام بواجب شكرها وليتحقق إنها قاطنة بفنائه ما أحسن جوارها بخالصة نصحه وولائه وباقية عليه على عقبه ما عملوا بأحكام هذا العهد وغنوا بتأكيد أسبابه وأعلنوا بشعار الدولة واستمروا على السنة المألوفة في إقامة الخطبة والسكة ويمسكوا بولاء الدولة العباسية التي هي سنة متبعة وما عداها ضلالة مبتدعة وجاهدوا في الله حق جهاده وأحسنوا السيرة في عباده وبلاده والله تعالى يمدنا وإياه في هذا الرأي الذي رأيناه ويزلف من رضاه يحمد فاتحته وعقباه إن شاء الله تعالى وكتب في المحرم سنة 510 وتوجه منكفئاً إلى دمشق على أجمل صفة وأحسن قضية في سلامة النفس والجملة وتزايد العز والحرمة ودخلها في يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ربيع الأول سنة 510 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 313 سنة عشر وخمسمائة في هذه السنة ورد الخبر بأن بدران بن صنجيل صاحب طرابلس قد جمع وحشد وبالغ واجتهد ونهض إلى ناحية البقاع لاخرابه بالعيث والفساد والاضرار والعناد وكان الاصفهسلار سيف الدين البرسقي صاحب الموصل قد وصل إلى دمشق في بعض عسكره لمعونة ظهير الدين أتابك على الافرنج والغزو فيهم وبالغ أتابك في الاكرام له والتعظيم لمحله. وصادف ورود هذا الخبر بنهضة الافرنج إلى البقاع فاجتمع رأيهما على القصد لهما جميعاً وأغذا السير ليلاً ونهاراً بحيث هجموا عليهم وهم غارون في مخيمهم قارون لا يشعرون فأرهقهم العسكر فلم يتمكنوا من ركوب خيلهم ولا أخذ سلاحهم فمنحهم الله النصر عليهم وأطلقوا السيف فيهم قتلاً وأسراً ونهباً فاتوا على الراجل وهم خلق كثير قد جمعوا من أعمالهم وأسروا وجوه فرسانهم ومقدميهم وأعيان شجعانهم وقتلوا الباقين منهم ولم يفلت منهم غير مقدمهم بدران بن صنجيل والمقدم كند اصطبل ونفر يسيرة معهما ممن نجا به جواده وحماه أجله واستولى الأتراك على العدد الجمة والخيول والكراع والسواد. وذكر الحاكي المشاهد العارف إن المفقود المقتول من الافرنج الخيالة والسرجندية الرجالة والنصارى الخيالة والرجالة في هذه الوقعة ما يزيد على ثلاثة آلاف نفس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 314 وعاد ظهير الدين أتابك وسيف الدين اق سنقر البرسقي في عسكريهما إلى دمشق مسرورين بالظفر السني والنصر الهني والغنائم الوافرة والنعم المتوافرة فلم يفقد من العسكرين بشر ولا أصابهم بؤس ولا ضرر ووصلا البلد بالأسرى ورؤوس القتلى وخرج الناس من البلد لمشاهدتهم واستبشروا بمعاينتهم وسروا بنظرهم سروراً واصلوا معه حمد الله مولى النصر ومانح القهر وشكروه تعالى على ما سناه من الاستظهار المبين بالاستعلاء المشرق الجبين. وأقام اق سنقر البرسقي أياماً بعد ذلك وتوجه عائداً إلى بلده بعد استحكام المودة بينه وبين ظهير الدين والمصافاة والموافقة على الاعتضاد في الجهاد متى حدث أمر أو حزب خطب. وقد كان في هذه السنة وردت الأخبار قبل عود ظهير الدين من العراق بالكائنة الحادثة من الباطنية في الدركاه السلطانية وقتلهم الأمير أحمديل فيها في المحرم منها مع وجاهته وتزايد حشمته ووفور عدته وأكثر الناس التعجب من هذا الاقدام المشهور والفعل المذكور ولله عاقبة الأمور وفيها وردت الأخبار من ناحية حلب بقتل لؤلؤ الخادم الذي كان غلب أمره فيها وعمل على قتل ولد مولاه الملك البارسلان بن رضوان في ذي الحجة منها بأمر دبره عليه أصحاب الملك المذكور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 315 سنة إحدى عشرة وخمسمائة في هذه السنة توفي السلار بختيار شحنة دمشق ونائب ظهير الدين في تولي أمر البلد وسياسة الرعية بعلل اختلفت عليه وطالت به إلى أن قضي نحبه رحمه الله في ليلة النصف من شعبان منها فأحزن ظهير الدين فقده وأهمه المصاب به وتأسف أكثر الناس عليه لأنه كان عفيفاً في أفعاله غير معترض لخمر غني الحال والنفس معيناً لمن يقصده في دفع مظلمة وانقا من شدة جميل المناب فيما يعود بصلاح الرعية والبعث على العمل بالعدل والسوية وأقيم ولده السلار عمر في منصبه فاقتفى آثاره في أشغاله وحذا مثاله في أعماله وفيها وردت الأخبار من ناحية العراق بوفاة السلطان غياث الدنيا والدين محمد بن ملك شاه بأصفهان رحمه الله بعلة حدثت به وطال مقامها عليه إلى أن توفي في الحادي عشر من ذي الحجة منها وقام مقامه في السلطنة ولده محمود واستقام له الأمر واستقرت على صلاح الحال وفيها وردت الأخبار من ناحية حلب بأن الاصفهسلار يارقتاش الخادم متولي اصفهسلارية حلب هادن الافرنج ووادعهم وسلم إليهم حصن القبة. وقيل إن الأمير اق سنقر البرسقي خرج من الرحبة في عسكره وقصد حلب ونزل عليها طامعاً في تملكها فلم يتسهل له ما أمل ورحل عنها عائداً إلى الموصل. وورد الخبر أيضاً بأن الاصفهسلار يارقتاش المقدم ذكره أخرج من قلعة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 316 حلب ورد أمر الاصفهسلارية والنظر في الأموال إلى الأمير أبي المعالي المحسن بن الملحمي العارض الدمشقي ودبر الأشغال بها والأعمال فيها. وفي النصف من المحرم منها هجمت الافرنج على ربض حماة في ليلة خسوف القمر وقتلوا من أهلها تقدير مائة وعشرين رجلاً وورد الخبر بهلاك دوقس انطاكية. وفي المحرم منها وصل الأمير نجم الدين ايل غازي بن ارتق في عسكره إلى حلب وتولى تدبير أمرها مدة صفر وفسد عليه ما أراده فخرج منها وبقي ولده حسام الدين تمرتاش. وفيها وردت الأخبار من القسطنطينية بموت متملك الروم الكرانكس وقام في الملك بعده ولده يوحنا واستقام له الأمر وعمل بسيرة أبيه. وفيها وردت الأخبار بمهلك بغدوين ملك الافرنج صاحب بيت المقدس بعلة طالت به وكانت سبب هلاكه في ذي الحجة منها وقام بعده في الأمر كندهو كندهري الملك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 317 سنة اثني عشرة وخمسمائة في هذه السنة شاعت الآثار والأخبار من ناحية الافرنج بطمعهم في المعاقل والبلاد وإجماعهم على قصدها بالعيث والافساد لغفلة الاسلام عن قصدهم بالغزو والجهاد وإنهم قد شرعوا في التأهب لهذه الحال والاستعداد وكاتب ظهير الدين أتابك أرباب الجهات والمناصب وبعثهم على التعاون على دفع شر الملاعين بالتوازر والتواظب. وورد الخبر بتوجه الأمير نجم الدين ايل غازي إلى دمشق في عسكره للاجتماع مع ظهير الدين أتابك على أعمال الرأي في التدبير والتشاور في العمل والتقرير هذا بعد أن راسل طوائف التركمان بالاستدعاء لأداء فريضة الجهاد والتحريض على الباعث لذاك والاحتشاد. ووصل الأمير المذكور إلى دمشق من حلب في بعض أصحابه وخواصه واجتمعا وتعاهدا وتعاقدا على بذل المكنة والاجتهاد في مجاهدة الكفرة الأضداد وطردهم عن الافساد في هذه المعاقل والبلاد ووقع الاتفاق بينهما على الأمير نجم الدين ايل غازي بن ارتق والي ماردين لانجاز أمره وجمع التركمان من الأعمال وحضهم على النكاية في اخراب الشرك والضلال واقتضت الآراء مصير الأمير ظهير الدين معه لتأكيد الحال وتسهيل الآمال وسارا في العشر الأول من شهر رمضان سنة 512. وعاد ظهير الدين عنه بعد أن قررا مع طوائف التركمان صلاح أحوالهم والتأهب للوصول إلى الشام بجموعهم الموفورة وعزائمهم المنصورة في صفر سنة 513 ليقع الاجتماع على نصرة الدين واصطلام المردة الملحدين. وأقام ظهير الدين بدمشق إلى حين قرب الأجل المضروب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 318 والوقت المرقوب وسار إلى ناحية حلب في أول شهر ربيع الأول سنة 513 ووردت الأخبار من ناحية العراق بوفاة الخليفة الامام المستظهر بالله أمير المؤمنين ابن الامام المقتدي بالله أمير المؤمنين بعلة عرضت له واستمرت به إلى أن قضى نحبه إلى رحمة ربه في ليلة الخميس الرابع عشر من شهر ربيع الآخر سنة 512 وكانت مدة خلافته ستاً وعشرين سنة وشهرين وأياماً وكان جميل السيرة محباً للعدل والانصاف ناهياً عن قصد الجور والاعتساف وولي الأمر من بعده ولده ولي العهد أبو منصور الفضل المسترشد بالله أمير المؤمنين بن أبي العباس أحمد المستظهر بالله أمير المؤمنين وجدد له أخذ البيعة واستقام له الأمر ونفذت المكاتبات إلى سائر الأعمال بالتعزية عن الامام الماضي والتهنئة بالامام الباقي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة ولما وصل ظهير الدين أتابك إلى حلب للاجتماع مع نجم الدين على الأمر المقرر بينهما بعد مضي الأجل المعين عليه بتدبيرهما وجد التركمان قد اجتمعوا إليه من كل فج وكل صوب في الأعداد الدثرة الوافرة والقوة الظاهرة كأنهم الأسود تطلب فريسها والشواهين إذا حامت على مكاسرها. ووردت الأخبار ببروز روجير صاحب انطاكية منها في من جمعه وحشده من طوائف الافرنج ورجالة الأرمن من سائر أعمالهم وأطرافهم بحيث يزيد عددهم على العشرين ألف فارس وراجل سوى الأتباع وهو العدد الكثير في أتم عدة وأكمل شكة وإنهم قد نزلوا في الموضع المعروف بشرمدا وقيل دانيث البقل بين انطاكية وحلب فحين عرف المسلمون ذلك طاروا إليهم بأجنحة الصقور إلى حماية الوكور فما كان بأسرع من وقوع العين على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 319 العين وتقارب الفريقين حتى حمل المسلمون عليهم وأحاطوا بهم من جميع الجهات وسائر الجنبات ضرباً بالسيوف ورشقاً بالسهام ومنح الله تعالى وله الحمد حزب الاسلام النصر على المردة الطغام ولم تمض ساعة من نهار يوم السبت السابع من شهر ربيع الأول من سنة 513 إلا والافرنج على الأرض سطحةً واحدةً فارسهم وراجلهم بخيلهم وسلاحهم بحيث لم يفلت منهم شخص يخبر خبرهم ووجد مقدمهم روجير صريعاً بين القتلى. ولقد حكي جماعةً من المشاهدين لهذه الوقعة إنهم طافوا في مكان هذه المعركة لينظروا آية الله تعالى الباهرة وإنهم شاهدوا بعض الخيول مصرعةً كالقنافذ من كثرة النشاب الواقع فيها. وكان هذا الفتح من أحسن الفتوح والنصر الممنوح لم يتفق مثله للاسلام في سالف الأعوام ولا الأنف من الأيام. وبقيت انطاكية شاغرةً خاليةً من حماتها ورجالها خاوية من كماتها وأبطالها فريسة الواثب نهزة الطالب فوقع التغافل عنها لغيبة ظهير الدين أتابك عن هذه الوقعة لتسرع التركمان إليها من غير تأهب لها للأمر النافذ والقدر النازل واشتغال الناس باحراز الغنائم التي امتلأت بها الأيدي وقويت بها النفوس وسرت بحسنها القلوب فتلك بيوتهم خاويةً والحمد لله رب العالمين وعاد ظهير الدين أتابك منكفياً إلى دمشق عقيب هذا الظفر ودخلها يوم السبت لليلة بقيت من جمادى الأولى سنة 513 فصادف الخاتون صفوة الملك والدة الملك شمس الملوك دقاق ابن السلطان تاج الدولة تتش بن السلطان البارسلان قد نهكها المرض وطال بها وقد أشفت على الموت وكانت لقدومه متوقعةً وإلى مشاهدته متطلعةً فأدركها وشاهدها وسمع مقالها وقبل وصيتها وأقامت القليل وتوفيت إلى رحمة الله ومغفرته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 320 ورضوانه بين صلاتي الظهر والعصر من يوم الأحد آخر جمادى الأولى سنة 513 ودفنت عند ولدها في القبة التي بنتها على التلعة المطلة على الميدان الأخضر فلقد كانت من النساء المصوتات المحبة للدين والصدقات والتنزه عن الظلم يطلب الخيرات مع قوة النفس وشدة الهيبة ومعرفة التدبير فيما توخته في حق ظهير الدين عند وفاة ولدها الملك شمس الملوك إلى أن استقام له الأمر واستقرت في المملكة والدولة الحال وتسهلت له المطالب برأيها وهيبتها وسياستها والآمال. فقلق ظهير الدين لفقدها وتضاعف عليها حزنه وأسفه وتسلم ما خلفته واستخرج ما ذخرته وأودعته وعمل بوصيتها وفي رجب من هذه السنة توفي الأمير حارق بن كمشتكين العراقي في رجب منها وكان من مقدمي الدولة ووجوه أمرائها. وفيها وردت الأخبار من العراق بأن السلطان محمود ابن ابن السلطان غياث الدنيا والدين محمد بن ملك شاه توجه إلى عمه السلطان سنجر بن ملك شاه إلى خراسان ودخل عليه ووطئ بساطه بعد ما جرى بينهما من الوقائع والحروب فأكرمه واحترمه وأحمده وقرر أحواله على ما فيه صلاح أمره واستقامة حاله ووصله بابنته وأقره على مملكته وشرفه بخلعه وتكرمته وعاد منكفياً إلى أصفهان بلدته طامراً بأمله وبغيته وفي هذه السنة حكى من ورد من بيت المقدس ظهور قبور الخليل وولديه إسحق ويعقوب الأنبياء عليهم الصلاة من الله والسلام وهم مجتمعون في مغارة بأرض بيت المقدس وكأنهم كالأحياء لم يبل لهم جسد ولا رم عظم وعليهم في المغارة قناديل معلقة من الذهب والفضة وأعيدت القبور إلى حالها التي كانت عليه. هذه صورة ما حكاه الحاكي والله أعلم بالصحيح من غيره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 321 سنة أربع عشرة وخمسمائة فيها ورد الخبر من ناحية حلب بأن الأمير نجم الدين ايل غازي بن ارتق رفع المكوس عن أهل حلب والمؤن والكلف وأبطل ما جدده الظلمة من الجور والرسوم المكروهة وقوبل ذلك منه بالشكر والثناء والاعتداد والدعاء. وحكي عن ماردين إنها وقع عليها برد عظيم لم تجر بمثله عادة ولا أبصر أكثر منها ما أهلك المواشي وأتلف أكثر النبات والشجر. وفيها هدم نجم الدين زردنا وفيها كسر الأمير بلك بن ارتق عفراس الرومي وقتل من الروم تقدير خمسة آلاف على قلعة سرمان من بلد اندكان وأسر مقدمهم عفراس وفيها ورد الخبر بأن السلطان محمود كسر عسكر أخيه مسعود بباب همذان تحت الزعفراني. وفيها وردت الأخبار بوصول الكندهو كندهري ملكي الافرنج في المراكب البحرية وملك أكثر المعاقل. وفيها وقعت المهادنة بين نجم الدين ايل غازي بن ارتق صاحب حلب وبين الافرنج وتقررت الموادعة والمسالمة وكف كل جهة من الفريقين الأذية عن الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 322 وفيها وردت الأخبار بأن السلطان محمود قصد حلة دبيس بن صدقة ابن مزيد في عسكره ونهبها وهزم عسكرها وانهزم دبيس إلى قلعة جعبر مستجيراً بصاحبها الأمير شهاب الدين مالك بن سالم بن مالك فأجاره وأكرمه واحترمه وقيل أنه انعقد بينهما صهر. وقيل إن في ذي الحجة من السنة هبت ريح شديدة هائلة منكرة بنواحي الخزر فخرب بها كنائس ومعاقل وقلعت كثيراً من شجر الزيتون. وقيل أن جوسلين غار على العرب والتركمان النازلين بصفين وغنم منهم ومن مواشيهم بشاطيء الفرات وفي عوده خرب حصن بزاعة سنة خمس عشرة وخمسمائة في هذه السنة وردت الأخبار بقتل الأفضل بن أمير الجيوش صاحب الأمر بمصر رحمه الله ثاني عيد الفطر بأمر رتب له وعمل فيه عليه إلى حين أمكنت الفرصة فيه فانتهزت الفرصة وصودف راكباً في موكبه مجتازاً في بعض أسواق القاهرة وقد كان على غاية من التحرز والتحفظ واستعمال الاحتراس والتيقظ لا سيما من الطائفة الباطنية والاحتياط منهم بأنواع السلاح ووافر الغلمان والخدم والعبيد والعدد المختلفة والسيوف الماضية وكان المرتب لقتله والمرصد له جماعة فوثب عليه رجل من بعض الشوارع بحيث شغل أصحاب الركاب ووثب الآخر من بين يديه فضربه ضربات سقط بها عن ظهر جواده إلى الأرض وقتلا في الحال وحمل إلى داره وبه رمق وتوفي رحمه الله من يومه وادعى إن الباطنية تولوا قتله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 323 وليس ذلك صحيحاً بل ذلك ادعاء باطل ومحال زائل وإنما السبب الذي اجتمعت عليه الروايات الصحيحة التي لا تشك في هذا الأمر فساد ما بينه وبين مولاه الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين لتضييقه عليه ومنعه مما تميل نفسه إليه ومنافرته إياه في بعض الأوقات. وقد كان هذا الخلف المستمر بينهما قد ظهر بمصر لكثير من أهلها وتحدثوا فيه وكان الآمر قد عزم على اغتياله إذا دخل عليه في قصره للسلام عليه أو في أيام أعياد وقويت نفسه على اتمام هذا الأمر فمنعه من ذلك الأمير أبو الميمون عبد المجيد وقال له: إن هذا الأمر إذا تم على هذه القضية كان فيه شناعة وسوء سمعة لأن هذا وأباه في خدمتنا منذ خمسين سنة لا يعرف الناس في سائر أقطار البلاد غير هذا فما يقال في مثل هذه الحال في مجازاتنا لمن هذه صفته هذه المجازاة الشنيعة والمكافأة الفظيعة وما العذر في ذاك إلى الناس وهم لا يعلمون ما في نفوسنا له وما ننقم عليه بسببه وما يعرفون منه في ظاهر الأمر إلا الموالاة الخالصة والطاعة الصادقة والذب عن الدولة والمحاماة عنها ولا بد أن تدعو الضرورة إلى إقامة غيره في مكانه والاعتماد عليه في منصبه فيتمكن كتمكنه أو بعضه فتحذر من الدخول إلى قصرنا خوفاً على نفسه مما جرى على غيره وإن دخل علينا كان خائفاً معداً وإن خرج عنا خرج وجلاً مستعداً. وفي هذا الفعل ما يؤكد الوحشة ويدل على فساد التدبير في اليوم وفيما بعد بل الصواب في التدبير أن تستميل أبا عبد الله محمد بن البطائحي الغالب على أمره المطلع على سره وجهره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 324 وتراسله وتعده وتمنيه وتطمعه في منصبه فإنه يجيب إلى ذلك ويعين عليه لأمرين أحدهما ديناً لأن مذهبه مذهبنا واعتقاده موالاتنا ومحبتنا والثاني للدنيا وحبها وكونه يصير في منصبه فيها ويدبر الأمر عليه بمن لا يعرف ولا يوبه له ولا يلتفت إليه ممن يغتاله إذا ركب فإذا ظفرنا بمن قتله قتلناه وأظهرنا الطلب بدمه والحزن عليه والأسف لفقده فيكون عذرنا عند كافة الرعية مبسوطاً ويزول عنا قبح القالة وسوء السمعة فاستقر الأمر على هذه القضية وشرع في اتمامه والحال فيه ظاهرة وقضى الله عليه قضاء المحتوم وسر الآمر بمقتله سروراً غير مستور عن كافة الخاصة بمصر والقاهرة. وقيل إن الموضع الذي قتل فيه بمصر عند كرسي الجسر في رأس السويقتين في يوم الأحد سلخ شهر رمضان سنة 515 وعمره إذ ذاك 57 سنة لأن مولده كان بعكاء سنة 458 وكان حسن الاعتقاد في مذهب السنة جميل السيرة موثراً للعدل في العسكرية والرعية صائب الرأي والتدبير عالي الهمة ماضي العزمة ثاقب المعرفة صافي الحس كريم النفس صادق الحدس عادلاً عن الجور حائداً عن مذاهب الظلم فبكته العيون وحزنت له القلوب ولم يأت الزمان بعده بمثله ولا حمد التدبير عند فقده وانتقل الأمر بعده إلى صاحبه الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين واشتمل على خزائنه وأمواله وذخائره وكراعه وأثاثه وهو الغاية في الكثرة والوفور وانتظمت للآمر الأمور على المأثور وأقام أبا عبد الله بن البطائحي ووفى له بوعده ولقبه بالمأمون وبسط يده في البرم والنقض والرفع والخفض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 325 ووردت الأخبار في هذه السنة بظهور الكرج من الدروب وقصدهم بلاد الملك طغرل فاستنجد بالأمير نجم الدين ايل غازي بن ارتق صاحب حلب وبالتركمان وبالأمير دبيس بن صدقة بن مزيد فأجابوا إلى ما دعاهم إليه وبعثهم عليه وتوجهوا نحوه في خلق عظيم فانهزم جمع الكرج خوفاً وعاد فرقاً وضايقهم المسلمون وضايقوهم في الدروب فعادوا على المسلمين فهزموهم وقتلوا منهم مقتلةً عظيمةً وقصدوا مدينة تفليس فافتتحوها بالسيف وقتلوا من كان فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 326 وفي هذه السنة هبت بمصر ربيح سوداء ثلاثة أيام فأهلكت شيئاً كثيراً من الناس والحيوان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 327 سنة ست عشرة وخمسمائة في هذه السنة وردت الأخبار من ناحية بغداد بأن الأمير دبيس بن صدقة بن مزيد جمع واحتشد وقصد بغداد في حشده وعاث في أطرافها وأفسد في أكنافها فخرج الامام الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين من دار الخلافة واجتمعت إليه الأجناد وظهر إليه وحمل عليه فهزمه وتم إلى الحلة فنهبها ونهبت مقابر قريش ببغداد وما بها من القناديل الفضة والستور والديباج وعاد إلى بغداد ودخلها في المحرم سنة 517 وورد الخبر فيها بأن السلطان محمود سخط على وزيره لأشياء نقمها عليه وأنكرها منه وأمر بالقبض عليه ثم تقدم بقتله فقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 328 وفي صفر منها توجه عائداً إلى مدينة أصفهان. وفي صفر ورد الخبر من ناحية حلب إن أبا الفضل بن الموصول وزير الملك رضوان توفي بحلب في الشهر وكان حسن الطريقة يميل إلى فعل الخير وعن قصد الشر. وفيها جاء سيل عظيم حتى دخل إلى ربض قلعة جعبر فغرق أكثر دورها ومساكنها وهدمها وأخرج منها فرساً حمله من الربض حتى رمى به من أعلى السور في الفرات وقيل إن عدة الدور الهالكة بهذا السيل الجارف ثمانمائة مكان، وقيل إن الأمير نجم الدين بن ارتق خرج من حلب في عسكره وقطع الفرات وصادف الافرنج فلم يلقوه فأتلف ما ظفر به في أعمالهم وعاد منكفئاً إلى الفنيدق بظاهر حلب وفي هذه السنة وصل الأسطول المصري إلى صور وهو مشحن بالرجالة البحرية وطائفة من العساكر. وفي نفس الوالي العمل على الأمير سيف الدولة مسعود الوالي بصور من قبل الأمير ظهير الدين أتابك. فلما خرج للسلام على والي الأسطول سألوه النزول فلما حصل في مركب المقدم اعتقله وتمت عليه المكيدة وحصل البلد في أيديهم ولما اقلع الأسطول ووصل إلى مصر وفيه الأمير مسعود أكرم وأنزل في دار وأطلع له ما يحتاج إليه. والسبب كان في هذا التدبير إن شكاوي أهل صور تتابعت إلى الآمر بأحكام الله والأفضل بما يعتمده مسعود مع الرعية من الأضرار لهم والمخالفة للعادة والموافقة لهم فاقتضت الآراء التدبير عليه وإزالة ما كان من الولاية إليه وكانت عاقبة خروجه منها وسوء التدبير فيها خروجها إلى الافرنج وحصولها في ملكتهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 329 وفي هذه السنة ورد الخبر بأن الأمير نور الدولة يلك بن ارتق نهض في عسكره في أيام من رجب وقصد الافرنج بالرها وأوقع بهم وكسرهم وأسر مقدمهم جوسلين وابن خالته كليان وجماعة من مقدميهم عند سروج. وورد الخبر بوفاة الأمير نجم الدين ايل غازي بن ارتق بعلة عرضت له وهو نازل في قرية تعرف بالفحول من عمل ميافارقين من ديار بكر في السادس من شهر رمضان من السنة وقام في منصبه بعد، ولده شمس الدولة سليمان وأخوه تمرتاش أبناء نجم الدين وملكا ماردين وأقاما مدة متفقين وجرى بينهما خلف استمر من كل منهما. وفيها توفي الحاجب فيروز شحنة دمشق في آخر ربيع الآخر منها سنة سبع عشرة وخمسمائة فيها وردت الأخبار من ناحية بغداد ببروز الامام المسترشد بالله أمير المؤمنين وفي جملته الأمير اق سنقر البرسقي عازماً على قصد الأمير دبيس بن صدقة بن مزيد لما هو عليه من الخلاف والمجاهرة بالعصيان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 330 والفساد في الأعمال وقصدوا الحلة وانتهبوها وارتفع السعر ببغداد حتى بلغ الخبز ستة أرطال بدينار. وورد الخبر من ناحية حلب باستقرار المهادنة بين الأمير بدر الدولة بن عبد الجبار بن أرتق صاحب حلب وبين الافرنج على تسليم قلعة الأثارب إلى الافرنج فتسلموها وحصلت في أيديهم واستمرت الموادعة على هذا واستقامت أحوال الأعمال من الجانبين وأمنت السابلة للمترددين فيها بين العملين في صفر من السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 331 وفيها ورد الخبر بنهيض بغدوين ملك الافرنج في عسكره إلى ناحية حلب إلى الأمير بلك بن أرتق في تاسع صفر منها وهو منازل الحصن كركر فنهض إليه والتقيا بالقرب من منظرة فكسره وأسره وحصل في يده أسيراً مع جماعة من وجوه عسكره فاعتقله في جب في قلعة خرتبرت مع جوسلين ومقدمي الافرنج. وفي آخر صفر نهض ظهير الدين أتابك في العسكر فهجم ربض حمص ونهبه وأحرقه وبعض دوره وكان طغان أرسلان بن حسام الدولة قد وصل إلى حمص لمعونة خيرخان صاحبها فعاد ظهير الدين عنها إلى دمشق وورد الخبر من ناحية حلب بنزول الأمير بلك بن أرتق عليها في ربيع الأول منها وأحرق زرعها وضايقها إلى أن تسلمها بالأمان في يوم الثلاثاء غرة جمادى الأولى من بدر الدولة ابن عمه عبد الجبار بن أرتق وقد كان ذلك تسلم مدينة حران في شهر ربيع الأول. وفيها وردت الأخبار بوصول فريق كثير من عسكر لواتة من ناحية الغرب إلى مصر وأفسدوا في أعمالها وظهر إليهم المأمون أبو عبد الله بن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 332 البطائحي المقام في مقام الأفضل الشهيد بن أمير الجيوش في عسكر مصر بأمر صاحبه الامام الآمر بأحكام الله بن المستعلي بالله ولقيهم فكسرهم وقتل وأسر منهم خلقاً كثيراً وقرر عليهم خرجاً معلوماً يقومون به في كل سنة وعادوا إلى أماكنهم وعاد المأمون إلى مصر غانماً منصوراً وبحسن الظفر مسروراً. وفيها ورد الخبر بأن أصطول مصر لقي أصطول البنادقة في البحر فتحاربا فظفر به اصطول البنادقة وأخذ منه عدة قطع. وفي العشر الأول من شهر ربيع الأول منها ملك الأمير بلك بن أرتق حصن البارة وأسر اسقفها وفي هذه السنة ورد الخبر من ناحية خرتبرت بأن الملك بغدوين الرويس وجوسلين مقدمي الافرنج وغيرهم من الأسرى الذين كانوا في أسر الأمير بلك المعتقلين في قلعة خرتبرت عملوا الحيلة فيما بينهم وملكوا القلعة وهربوا ...... الملك بغدوين ونجا ولم يظفروا به وهرب في ذلك اليوم أيضاً اسقف البارة من اعتقاله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 333 وفي الشهر المذكور توجه الأمير نور الدولة بلك في عسكره إلى خرتبرت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 334 وضايق قلعتها إلى أن استعادها من الافرنج الواثبين عليها ورتب فيها من يحفظها ويتيقظ فيها. وفي هذه السنة ورد الخبر بأن محمود بن قراجة والي حماة خرج في رجاله وقصد ناحية أفامية وهجم ربضها فأصابه سهم من الحصن في يده ولما قلع منه عملت عليه وتزايد أمرها فمات منه وكان عاهراً ظالماً متمرداً وقتل جماعة من أعيان حماة ظلماً وتعدياً بسعاية بعضهم على بعض ولما عرف ظهير الدين ذلك انهض إلى حماة من تسلمها وتولى أمرها من ثقاته وفيها ورد الخبر بالنوبة الكائنة بين السلطان مغيث الدنيا والدين محمود وبين أخيه طغرل ابني السلطان محمد وأن السلطان محمود صافه وكسره وخزمه وملك عسكره وأن طغرل استعان بالأمير دبيس بن صدقة بن مزيد واستنجد به عليه وأجيب إلى ذلك. وفي هذه السنة كانت النوبة الكائنة بين عسكري ظهير الدين أتابك الدمشقي وسيف الدين اق سنقر البرسقي حين تجمعوا ونزلوا على عزاز من عمل حلب ومضايقتها بالنقوب والحروب إلى أن سهل أمرها فتجمع الافرنج من كل صوب وقصدوا ترحيل العسكر عنها والتقى الجيشان وانفل جيش المسلمين وتفرقوا بعد قتل من قتل وأسر من أسر وعاد ظهير الدين أتابك إلى دمشق في جمادى الأولى من السنة. وفي شهر رمضان من السنة توجه الحاجب علي بن حامد إلى مصر رسولاً عن ظهير الدين أتابك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 335 سنة ثماني عشرة وخمسمائة في هذه السنة ورد الخبر من ناحية العراق بأن القاضي قاضي القضاة زين الاسلام أبا سعد محمد بن نصر بن منصور الهروي كان قافلاً من ناحية خراسان بجواب السلطان سنجر عما صدر على يده إليه وأنه لما نزل بهمذان في جامعها وثب عليه على حين غفلة منه قوم رتبوا له من الباطنية فضربوه بسكاكينهم فقتلوه وهربوا في الحال ولم يظهر لهم خبر ولا بان منهم أثر ولاتبعهم شخص للخوف منهم فمضى لسبيله شهيداً إلى رحمة الله وذلك للقضاء النازل الذي لا يدافع والقدر الحال الذي لا يمانع وذلك في رجب منها وفيها ملك الافرنج ثغر صور بالأمان وشرح الحال في ذلك كان قد مضى من ذكر الذي أوجب إخراج الأمير سيف الدولة مسعود واليها منها وحمله في الاسطول إلى مصر ما لا يحتاج إلى الاعادة له والاطالة بذكره. ولما حصل بها الوالي المندوب من مصر بعد مسعود طيب نفوس أهله وكاتب ظهير الدين بصورة الحال فأعاد الجواب بأن الأمر في ذلك لمن دبره والمرجوع إلى ما رتبه وقرره. واتفق أن الافرنج لما عرفوا هذا الأمر وانصراف مسعود عن ولاية صور تحرك طمعهم فيها وحدثوا نفوسهم بتملكها وشرعوا في الجمع والتأهب للنزول عليها والمضايقة لها. واتصل بالوالي صورة الأمر وأنه لا طاقة له بالافرنج ولا ثبات على محاصرتهم لقلة من بها من الجند والميرة فطالع الآمر بأحكام الله صاحب مصر بذلك فاقتضى الرأي أن ترد ولاية صور إلى ظهير الدين أتابك ليتولى حمايتها والذب عنها والمراماة دونها على ما جرى رسمه فيها وكتب منشور الولاية باسمه فندب لولايتها جماعةً لا غناء لهم ولا كفاية فيهم ولا شهامة ففسد أمرها بذاك وتوجه طمع الافرنج حوله لأجله وشرعوا في النزول والتأهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 336 للمضايقة لها ونزلوا بظاهرها في شهر ربيع الأول من السنة وضايقوها بالقتال والحصار إلى أن خفت الأقوات فيها وعدمت الميرة. وتوجه ظهير الدين في العسكر إلى بانياس للذب عن صور ونفذت المكاتبات إلى مصر باستدعاء المعونة لها وتمادت الأيام بذلك إلى أن ضعفت النفوس وأشرف أهلها على الهلاك وعرف أتابك جلية الأمر وتعذر تلافيها ووقع اليأس من المعونة لها فراسل الافرنج بالملاطفة والمداهنة والارهاب والارغاب إلى أن تقررت الحال على تسليمها إليهم بحيث يؤمن كل من بها ويخرج من أراد الخروج من العسكرية والرعية بما يقدرون عليه من أحوالهم ويقيم من أراد الاقامة ووقف أتابك في عسكره بازاء الافرنج وفتح باب البلد وأذن للناس في الخروج فحمل كل منهم ما خف عليه وأطاق حمله وترك ما ثقل عليه وهم يخرجون بين الصفين وليس أحد من الافرنج يعرف لأحد منهم بحيث خرج كافة العسكرية والرعية ولم يبق منهم إلا ضعيف لا يطيق الخروج فوصل بعضهم إلى دمشق وتفرقوا في البلاد وذلك في اليوم الثالث والعشرين من جمادى الأولى سنة 518 وفيها ورد الخبر باجتماع الافرنج من أعمالهم ونزولهم على حلب وشروعهم في قتال من بها والمضايقة وتمادى الأمر في ذلك إلى أن قلت الأقوات فيها وأشرف على الهلاك أهلها فلما ضاق بهم المر وعدم الصبر وراسلوا الأمير سيف الدين اق سنقر البرسقي صاحب الموصل بشكوى أحوالهم وشرح ما نزل بهم والسؤال له في أنجادهم على الافرنج وانقاذهم من أيدي الكافرين فضاق لذلك صدره وتوزع سره وتأهب في الحال للمصير إليهم وصرف الاهتمام إلى الذب عنهم. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 337 فلما وصل إليهم في ذي الحجة من السنة وعرف الافرنج خبره وحصوله قريباً منهم وما هو عليه من القوة وشدة الشوكة أجفلوا مولين ورحلوا منهزمين وتبعهم سرعان الخيول يتلقطون من يظفرون به في أعناقهم ولم يلو منهم منهزم على متلوم إلى أن حصلوا بأنطاكية. وكانوا قد ابتنوا في منزلهم مساكن وبيوتاً تقيهم الحر والبرد وأصروا على المقام ولطف الله تعالى وله الحمد بأهل حلب وخلصهم من البلاء وانتاشهم من اللأواء. وكسب اق سنقر البرسقي بهذا الفعل الجميل جزيل الأجر والثناء ودخل حلب وأحسن السيرة فيها وأجمل المعاملة لأهليها واجتهد في الحماية لها والمراماة دونها بحيث صلحت أحوالها وعمرت أعمالها وأمنت سابلتها وتواصلت الرفق إليها ببضائعها وتجارتها وفي شتوة هذه السن احتبس الغيث بأرض الشام في كانون وكانون وأكثر شباط وتلف الزرع وغلا السعر وعم القحط أكثر البلاد الشامية ثم تدارك الله عبيده بالرحمة وانزال الغيث بعد القنوط فأحيا به الأرض بعد موتها وانتاش الزراعات بعد فوتها وطابت النفوس وزال عنها الهم والبؤس. وارتفعت الأسعار في هذه السنة في حلب ودمشق وأعمالها إلى الرحبة والقلعة والموصل وبقي إلى سنة 19 وهلك كثير من ضعفاء الناس بالجوع سنة تسع عشرة وخمسمائة في هذه السنة وردت الأخبار من مصر بتقدم الآمر بأحكام الله بالقبض على المأمون أبي عبد الله وأخيه المؤتمن ابني البطائحي غلامي الأفضل اللذين كانا عاملا على قتله وأعانا على إتلافه واعتقالهما في شعبان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 338 والاستيلاء على أموالهما وذخائرهما للأسباب التي نقم بها عليهما والمنكرات التي اتصلت به عنهما وفيا اتصلت الأخبار من ناحية بغدوين ملك الافرنج صاحب بيت المقدس بالاحتشاد والتأهب والاستعداد لقصد ناحية حوران من عمل دمشق للعيث فيها والافساد وشرع في شن الغارات على الجهات القريبة من دمشق والمضايقة لها وقطع الطرقات على الواردين إليها. فعند المعرفة بذاك والتحقق له شرع ظهير الدين أتابك في الاستعداد للقائه والاجتماع على جهاده وكاتب أمراء التركمان ومقدميهم وأعيانهم باعلامهم صورة الحال ويستنجد بهم عليهم ويبذل لهم الاحسان والانعام وبرز في عسكره وقد ورد عليه خبر قربهم من طبرية قاصدين أعمال البلد من مرج الصفر وشرخوب وخيم به وكاتب ولاة الأطراف بامداده بالرجالة واتفق وصول التركمان في ألفي فارس أولى بأس شديد ورغبة في الجهاد ومسابقة إلى الكفاح والجلاد فاجتمع إليه خلق كثير. وكان الافرنج حين عرفوا نزول أتابك والعسكر بمرج الصفر رحلوا إليه وخيموا بازائه ووقعت العين على العين وتطاردت طلائع الفريقين. فلما كان يوم الاثنين السابع والعشرين من ذي الحجة من السنة اجتمع للقضاء المقضي والحكم النافذ من أحداث دمشق والشباب الأغرار ورجال الغوطة والمرج والأطراف وأحداث الباطنية المعروفين بالشهامة والبسالة من حمص وغيرها والعقبة وقصر حجاج والشاغور خلق كثير رجالة وخيالة بالسلاح التام والناهض مع المتطوعة المتدينين وشرعوا بالمصير للحاق المصاف قبل اللقاء وقد شاع الخبر بقوة عسكر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 339 الاسلام وكثرته واستظهاره على حزب الافرنج وشدة شوكته ولم يشك أحد في هلاك الافرنج في هذا اليوم وبوارهم وكونهم طعمةً للمسلمين متسهلة واتفق أن فرقةً وافرةً من عسكر التركمان غارت على أطراف الافرنج ونالت منهم واستظهرت عليهم وخاف الافرنج وعلموا أنه لا طاقة لهم بهذا الجمع وأيقنوا بالهلكة ورحلوا بأسرهم من منزلهم الذي كانوا فيه عائدين إلى أعمالهم على غاية من الخوف والوجل ونهاية من الذل والوهل. ونشب فرقة من التركمان في فريق منهم وهم راحلون فغنمت من أثقالهم ودوابهم غنيمةً وافرةً وظفرت بالكنيسة المشهورة التي لهم في مخيمهم. وطمع العسكر عند ذاك فيهم وحملوا عليهم وهم مولون لا يلوون على تابع ولا يقفون على مقصر لاحق وقد شملهم الرعب وضايقوهم مضايقةً ألجأتهم إلى رمي نفوسهم عليهم أما لهم وأما عليهم فتجمعوا وعادوا على العسكر الاسلامي وحملوا عليه حملتهم المعروفة فكسروهم وهزموهم وقتلوا من أعقابهم من شطبه الوجل وخانه الأجل. وتم العسكر في الهزيمة على حاله وعادوا على جميع الرجالة وهم العدد الكثير والجم الغفير وأطلقوا السيف فيهم حتى أتوا عليهم وتتبعوا المنهزمين بالقتل حتى وصلوا إلى عقبة سحوراً وقربوا من البلد من شرخوب مع بعد المدى والمسافة وصبر خيولهم ووصل ظهير الدين أتابك والعسكر إلى دمشق آخر نهار هذا اليوم وبنوا الأمر بينهم على مباكرتهم في غد للإيقاع بهم فصادفوهم قد رحلوا عائدين إلى عملهم خوفاً مما عز عليه من قصدهم وتتبعهم والله يحكم ما يشاء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 340 سنة عشرين وخمسمائة في هذه السنة ورد الخبر من ناحية الموصل باستشهاد الأمير الاصفهسلار سيف الدين اق سنقر البرسقي صاحبها بيد الباطنية رحمه الله في مسجد الجامع بها في ذي القعدة منها وكان الذي وثب عليه جماعة قد رتبت لمراصدته وطلب غرته حتى حان الحين ونفذ الأجل وقد كان على غاية من التيقظ لهم والتحفظ منهم بالاستكثار من السلاحية والحاقدارية والسلاح الشاك لكن القضاء النازل لا يدافع والقدر النافذ لا يمانع وعليه مع هذا من لباس الحديد ما لا تعمل فيه مواضي السيوف ومرهفات الخناجر وحوله من الغلمان الأتراك والديلم والخراسانية بأنواع السلاح عدد. فلما حصل بالجامع على عادته لقضاء فريضة الجمعة والنفل على رسمه وصادف هذه الجماعة الخبيثة في زي الصوفية يصلون في جنب المشهد لم يؤبه لهم ولا ارتيب بهم. فلما بدأ بالصلاة وثبوا عليه بسكاكينهم فضربوه عدة ضربات لم تؤثر في لبس الحديد الذي عليه وقد غفل أصحابه عنه وانتضى سيفاً كان معه وضرب أحدهم فقتله وصاح واحد منهم حين رأوا السكاكين لا تعمل فيه شيئاً: ويلكم اطلبوا رأسه وأعلاه. وقصدوا حلقه بضرباتهم فأثخنوه إلى حين أدركه أصحابه وحماته فقضي عليه وقتل شهيداً وقتلوا جميع من كان وثب عليه. وقد كان هذا الأمير رحمه الله سديد الطريقة جميل الأفعال حميد الأخلاق مؤثر العدل والانصاف كثير التدين محمود المقاصد محباً للخير وأهله مكرماً للفقهاء والصالحين فحزن الناس عليه وأسفوا لفقده على هذه الحال ولما عرف ظهير الدين أتابك هذا قلق له وضاق صدره لسماعه. وقام في الأمر بعده ولده الأمير مسعود وهو مشهور بالنجابة والزكاء معروف بالشهامة والعناء فاجتمع إليه خواص أبيه ووزيره وكتابه وسلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 341 منهاجه المحمود وقصد قصده المشكور فاستقام له الأمر وانتظمت على السداد والمراد أحواله وفي هذه السنة نهض ظهير الدين نحو تدمر ولم يزل حتى استعادها من أيدي العاملين عليها المواثبين على ابن أخيه الوالي كان بها في يوم الخميس لإثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الآخر منها واستقر الأمر على أن يجعل برسم الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بوري بن ظهير الدين أتابك وسلمت إليه وخرج إليها ومعه من رتب لحفظه وحفظها من الثقات وفي هذه السنة عاد ظهير الدين من حلب وقد بدا له من المرض ودخل دمشق في شعبان منها ووصل إليه أمين الدولة كمشتكين والي بصرى من مصر بجواب الرسالة التي كان نفذ لأجلها ومعه الأمير المنتضى ابن مسافر الغنوي رسول الآمر بأحكام الله صاحب مصر وعلى يده خلع سنية وتحف مصرية في الشهر المذكور وفي هذه السنة استفحل أمر بهرام داعي الباطنية وعظم خطبه في حلب والشام وهو على غاية من الاستتار والاختفاء وتغيير الزي واللباس بحيث يطوف البلاد والمعاقل ولا يعرف أحد شخصه إلى أن حصل في دمشق بتقرير قرره نجم الدين ايل غازي بن ارتق مع الأمير ظهير الدين أتابك وخطاب وكده بسببه فأكرم لاتقاء شره وشر جماعته وحملت له الرعاية وتأكدت به العناية بعد أن تقلبت به الأحوال وتنقل من مكان إلى مكان وتبعه من جهلة الناس وسفهاء العوام وسفساف الفلاحين الطغام من لا عقل له ولا ديانة فيه احتماءً به وطلباً للشر بحزبه. ووافقه الوزير أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني وإن لم يكن على مذهبه على أمره وساعده على بث حبال شره وإظهار خافي سره. فلما ظهر أمره وشاع وطاوعه وزير ظهير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 342 الدين المذكور ليكون عوناً له على فعله وتقوية يده في شغله التمس من ظهير الدين أتابك حصناً يأوي إليه ومعقلاً يحتمي به ويعتمد عليه فسلم له ثغر بانياس في ذي القعدة سنة 520 فلما حصل فيه اجتمع إليه أوباشه من الرعاع والسفهاء والفلاحين والعوام وغوغاء الطغام الذين استغواهم بمحاله وأباطيله واستمالهم بخدعه وأضاليله فعظمت المصيبة بهم وجلت المحنة بظهور أمرهم وسبيهم كذا وضاقت صدور الفقهاء والمتدينين والعلماء وأهل السنة والمقدمين والستر والسلامة من الأخيار المؤمنين وأحجم كل منهم من الكلام فيهم والشكوى لواحد منهم دفعاً لشرهم وارتقاباً لدائرة السوء عليهم لأنهم شرعوا في قتل من يعاندهم ومعاضدة من يوازرهم على الضلال ويرافدهم بحيث لا ينكر عليهم سلطان ولا وزير ولا يفل حد شرهم متقدم ولا أمير وفي هذه السنة ورد الخبر بوصول السلطان مغيث الدنيا والدين محمود ابن السلطان محمد بن ملك شاه إلى بغداد وجرى بينه وبين الخليفة الامام المسترشد بالله أمير المؤمنين مراسلات ومخاطبات أوجبت تشعيث الحال بينهما والمنافرة من كل منهما وتفاقم الأمر إلى أن أوجب زحف السلطان في عسكره إلى دار الخلافة ومحل الامامة ومحاربته في قصره والطلبة لغلبته وقهره ولم يزل الشحناء مستمرة والفتنة على غير الايثار مستقرة إلى أن زالت أسباب الخلف والنفار وعادت الحال إلى ما ألفيت من شوائب الأكدار بحسن سفارة الوزير جلال الدين بن صدقة وزير الخلافة وجميل وساطته وسديد نيابته وعاد السلطان مع ذلك إلى المألوف من طاعته والمعروف من مناصحته والتصرف على أوامر أمير المؤمنين وأمثلته وذلك في العشر الأخير من ذي الحجة سنة 520 وقيل في أول المحرم سنة 521 الجزء: 1 ¦ الصفحة: 343 وفي رجب من هذه السنة توفي الأمير طرخان بن محمود الشيباني أحد أمراء دمشق بعلة حادة هجمت عليه فاردته. وفيها قصدت الافرنج رفنية وضايقوها واستعادوها من ملكة المسلمين سنة إحدى وعشرين وخمسمائة فيها ورد الخبر من ناحية العراق بقتل المعين وزير السلطان سنجر ابن السلطان ملك شاه صاحب خراسان بتدبير الباطنية في شهر ربيع الآخر منها. ذكر إنه كان فتك بجماعة منهم ومحرضاً للسلطان على النكاية فيهم وتطهير الأرض منهم فرتبوا له قوماً من سفهائهم للأرصاد لفرصة تلوح فيه وغرة تظهر منهم فلم يتم لهم في ذلك نيل طلب ولا تسهل لهم إدراك أرب فافردوا منهم سفيهاً ولم يزل يتحيل إلى أن خدم في اسطبل دوابه سائساً لبغاله وأقام في خدمته إلى أن وجد الفرصة متسهلة عند حضوره لمشاهدة كراعه فوثب عليه وهو غافل مطمئن فقتله ومسك فقتل من بعده. وكان هذا الوزير موصوفاً بجميل الأفعال وحميد الفعال ومتانة الدين وحسن اليقين والانصاف في أعماله والتسدد في أقواله ومضى لحال سبيله شهيداً وانتقل إلى ربه مرضياً حميداً عند نفاد المدة وانقضاء العدة ولله عاقبة الأمر وبيده محتوم النفع والضر وقد تقدم من شرح حال الأمير سيف الدين اق سنقر البرسقي صاحب الموصل في استشهاده بيد الباطنية في جامعها رحمه الله وقيام ولده الأمير مسعود في الأمر من بعده ما فيه الكفاية. فلما استتب أمره وقويت شوكته واستقامت ولايته شمخ بأنفه ونفخت حداثة السن في سحره وحدثته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 344 نفسه بمنازلة البلاد الشامية والطمع في تملك المعاقل الاسلامية والاطراح لمجاهدة العصب الافرنجية بالضد من أولي الحزامة والسداد وذوي البأس والبسالة في احراز فضيلة الغزو والجهاد. ونمى الخبر عنه إلى ظهير الدين أتابك بحكايات تدل على حسده له بما أوتي من الهيبة وحسن الصيت وجميل الذكر وكبر الشأن والأمر وأنه عازم على التأهب والاحتشاد لقصد أعمال الشام والعيث فيها والافساد. فعزم ظهير الدين أتابك عند معرفته هذه الأحوال التي لا يصدر مثلها عن أريب ولا يبدو شبهها عن حازم في رأيه لبيب على الاستعداد لقصده في عسكره حين يدنو من الأعمال الشامية فيوقع بعسكره ويشفي غليله بالفتك بحزبه. فما كان بعد ذلك إلا الأيام القلائل حتى انفصمت عرى شبابه ونزل محتوم القضاء به بهجوم مرض حاد عليه بظاهر الرحبة أتى عليه واصاره إلى المحتوم الذي لا بد له عنه ولا مجير له منه فانفل حده وخذله أنصاره وجنده وأسلمته للقضاء حماته وتفرقت عنه خواصه وثقاته وهلك في الحال وزيره وشريكه في الوزر ومشيره بعلة شديدة أعجلته وفي إشراك المنية أوبقته وهرب جماعة من خواص غلمان أبيه الأتراك باعلامه التي كانت قد استعملها على مراده وإيثاره وتناهى في أحكامها على قضية اقتراحه واختياره ووصلوا بها إلى ظهير الدين أتابك متحفين له بها ومتقربين إليه باهدائها فأحسن إليهم وبالغ في الاكرام لهم والانعام عليهم واصطفاهم لنفسه وضمهم إلى ثقاته واهل أنسه وقابلهم على وفودهم عليه بالفعل الجميل والعطاء الجزيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 345 وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية العراق بمسير السلطان مغيث الدنيا والدين محمود وقد عبث به مرض خاف منه على نفسه محمولاً في محفة نحو همذان واجتاز عند ذلك بدار الخلافة وراسل الامام المسترشد بالله أمير المؤمنين يسأله المسامحة بما سبق منه في تلك النوبة الحادثة بينهما وأن يحلله ويدعو له ولا يدعو عليه فخرج إليه جواب الرسالة بأجمل جواب وألطف خطاب طابت بهما نفسه وزاد في استماعهما أمله في البر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 346 وأنسه ثم إنه أفاق من مرضه هذا وعاوده نشاطه بعد الكسل والفتور وعاد إلى الغرض المأثور. وكان قد أنكر على وزيره شمس الملوك خواجه بزرك أموراً دعته إلى الأمر بالقبض عليه وتسليمه إلى حاجبه فقتله وقيل إنه شرب الخمر في قحف رأسه وفي شعبان من هذه السنة قصد بغدوين ملك الافرنج صاحب بيت المقدس في عسكره وادي موسى فنهب أهله وسباهم وشرد بهم وعاد عنهم. وفي جمادى الآخرة منها ورد الخبر بأن الأمير ختلع ابه السلطاني ولي مدينة حلب وحصل في قلعتها بطلائع اختير له ولم يقم إلا القليل حتى فسد أمره واضطرب حاله ووقع بينه وبين أحداث الحلبيين فحصروه في القلعة إلى أن وصل إلى حلب عسكر الأمير عماد الدين أتابك فتسلمه من القلعة واعتقل واستؤذن في أمره فأذن في سمل عينيه فسملتا سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة في هذه السنة اشتد المرض بظهير الدين أتابك وطال به طولاً أنهك قوته وأنحل جسمه وأضعف منته وأشفى منه على نزول ما لا يدفع بحيلة ولا يمنع بقوة فأحضر ولده الأمير تاج الملوك وأمراء دولته وخواصه وأهل ثقته وأعيان عسكريته وأعلمهم بأنه قد أحس من نفسه بانقطاع الأجل وفراغ المهل وخيبة الرجاء من البقاء والأمل ولم يبق غير الوصية بما يعمل عليه ويدبر به الأمر بعدي وينتهي إليه وهذا ولدي تاج الملوك بوري هو أكبر ولدي والمترشح للانتصاب مكاني من بعدي والمأمول لسد ثلمة فقدي ولا أشك في سداد طريقته وإيثاره لفعل الخير ومحبته وأن يكون مقتفياً لآثاري في حفظ قلوب الأمراء والعسكرية وعاملاً على مثالي في أنصاف الأعيان والرعية فإن قبل وصيتي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 347 هذه ونهج السبيل المرضية في بسط المعدلة والنصفة في الكافة وأزال بحسن سياسته عنهم أسباب الوجل والمخافة فذاك الظن في مثله والمرجو من سداده وجميل فعله وإن عدل عن ذاك إلى غيره وحاد عن ما يؤثر من السداد في سره وجهره فها هو متشاهد لهذه الحال ومتوقع لمثل هذا المآل فقال: بل أوفى على المراد ولا أتعدى سبيل السداد والرشاد فوكد الأمر عليه في ذلك تأكيداً فهمه منه وقبله عنه ثم توفي إلى رحمة الله ضحى نهار يوم السبت لثمان خلون من صفر من السنة فأبكى العيون ونكأ القلوب وفت في الأعضاد وفتت الأكباد واشتد الأسف لفقده والجزع عليه ولم يسمع إلا متفجع له وذاكر لجميل أفعاله وشاكر لأيامه. وقام ولده تاج الملوك بوري بالأمر من بعده وأحسن السيرة في خاصه ورعيته وجنده فلو كانت مجاري الأقدار تدفع إليه عن ذوي المناصب والأخطار لكان هذا الأمير السعيد الفقيد أحق من تخطأ به المنايا ولم تلم بساحته الرزايا وأبقته الأيام لها رتبةً تتباهى بها وحليةً تتنافس بها إلا أن الله تعالى لا يغالب أمره ولا يدافع حكمه ولا بد من تمام ما سبق به علمه وحدوث ما تقرر نفاذه في خلقه لأن الموت غاية الحيوان ونهاية ما يكون من مصير الانسان. وقد كان هذا الأمير السعيد قد بالغ في استعمال العدل والكف عن الظلم وأعاد على جماعة من الرعية أملاكاً في ظاهر البلد جمةً دائرةً أغتصبت منهم في زمن الولاة الظالمة وقبضت عنهم في زمن العتاة الجبابرة وجرت عليهما أحكام المقاسمة وعتت الأيدي العادية الغاشمة فأعادها إلى خراجها القديم المستقر ورسمها السالف المستمر ورفع عنها مواد الجور والعدوان وحسم عن مالكيها أسباب التأول في كل مكان وأوان فأحرز بذاك صالح الدعاء وجميل الشكر والثناء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 348 ثم رفع إلى أمير المؤمنين الخليفة المسترشد بالله رقعةً عند مصيره إلى بغداد ومهاجرته إلى الباب الأماملي المسترشدي والسلطاني الغياثي يذكر فيها حال مواضع دائرة في عمل دمشق وحصص عامرة وأرض معطلة لا مالك لها ولا فائدة في عطلتها ولا انتفاع لخاصي ولا عامي بشيء منها لدثورها ودروس معاملها ورسومها واستأذنه في بيعها ممن رغب فيها ويؤثر عمارتها للانتفاع بريعها وغلتها وصرف ما يحصل من ثمنها في الأجناد المرتبين للجهاد فأذن له في ذلك أذناً تاماً مؤكداً أباحه له وأمضاه لمن يملكه بالابتياع منه وأحله وأطلقه ووقع بذاك على ظهر الرقعة بالأمضاء وإبطال التأول فيه والتحذر من إبطال شيء من حكمه أو التجاوز لرسمه ووكد بالعلامة الشريفة الأمامية المسترشدية التي قبلها منه وتقلدها عنه وأشهد عليه بذلك الشهود المعدلين وأمضى البيع في ذلك لمن رغب فيه فعمرت عدة ضياع يباباً خالية وعلى عروشها خاوية وأرض عافية لا انتفاع بها ولا فائدة لأحد فيها فأجريت عيون مياهها وأعيدت إلى أجمل عاداتها وظهرت منها الخيرات وعمت بذلك الميامن والبركات ودامت له الدولة ولمن بعده ببركات هذه الأفعال الحميدة والنية الجميلة وحسنت لهم العقبى في الولد والأسرة والأهل والجملة وحصل له الذكر الجميل في الآفاق والأقطار والأمصار والثناء الطيب الحسن الآثار ومضى لشأنه سعيداً عزيزاً حميداً على ظهر فراشه لا يرد له أمر ولا يخالف له قول ولا يتجاوز له حكم ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 349 ذكر تاج الملوك بوري بن أتابك عند توليه الأمر بعد أبيه ظهير الدين أتابك وأخباره وما جرى في أيامه من نوبة الباطنية والأحداث المتجددة وما جرى مع الافرنج إلى أن مضى سبيله شرح ذلك لما نفذ القضاء في ظهير الدين أتابك رحمه الله قام ولده الأمير تاج الملوك بالأمر من بعده إذ كان نجله وولي عهده فعمل بما كان ألقاه إليه واعتمد على ما وكده في وصيته عليه من حسن السيرة في جميع من حوته دمشق من الأجناد والعسكرية وكافة الأتباع والرعية وزاد على ذلك وبالغ في الذب عنهم والمراماة دونهم وجرى على منهاج أبيه في بسط المعدلة واعتماد النصفة للأجناد وثقل الوطأة على الأعداء والأضداد وأنصاف المتظلمين وردع الظالمين وحماية السفار والمترددين والتبليغ بالنكاية للمفسدين بحيث اجتمعت القلوب على حب دولته وانطلقت الألسن بالدعاء الصالح بإدامة أيامه وإطالة مدته وأقر وزير أبيه أبا علي طاهر بن سعد المزدقاني على وزارته وأجراه على رسمه في سفارته ولم يصرف أحداً من نوابه المعروفين بخدمته عن رسمه وعادته ولا أزاله عن معيشته بل زاد في أرزاقهم وخلع عليهم وأحسن إليهم وأقر الاقطاعات على أربابها والجامكيات على أصحابها فكثر الدعاء له والثناء عليه وأحسن إلى وزيره المقدم ذكره وأطلق له عشر ارتفاعه مع حقوق العرض عن الاقطاعات والواجبات والنفقات. وقد كان أسر في نفسه من أمر الباطنية ما لم يبده لأحد من خواصه وثقات بطانته عند ما قويت شوكتهم وتضاعفت مضرتهم أتباعاً لما كان عليه أبوه من إظهار الرعاية لهم والمداراة لدفع شرهم فلما مكنه الله منهم وأقدره عليهم افتتح أمره بالتدبير عليهم والايقاع بهم فكان منه في أمره ما سيأتي مشروحاً في مكانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 350 ذكر ما حدث من الباطنية بدمشق وأعمالها وما آلت إليه أحوالهم من البوار وتعفية الآثار في بقية سنة 522 شرح الأمر والسبب في ذلك قد تقدم من ذكر بهرام داعي الباطنية والسبب الذي أوجب تسليم ثغر بانياس إليه ما فيه الكفاية عن تكرير الذكر له ولما حصل في بانياس شرع في تحصينها وترميم ما استرم وتشعث منها وبث دعاته في سائر الجهات فاستغووا خلقاً كثيراً من جهال الأعمال وسفساف الفلاحين من الضياع وغوغاء الرعاع ممن لا لب له يصده عن الفساد ويردعه ولا تقية تصدفه عن المنكر وتمنعه فقوي شرهم وظهر بقبح الاعتقاد سرهم وامتدت أيديهم وألسنتهم إلى الأخيار من الرعية بالثلب والسب وإلى المنفردين في المسالك بالطمع والسلب وأخذهم قسراً وتناولهم بالمكروه قهراً وقتل من يقتل من الناس تعدياً وظلماً. وأعانهم على الإيغال في هذا الضلال أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني الوزير معونةً بالغ فيها وحصل له وخيم عاقبتها وذميم مغبتها لما تقرر بينه وبين بهرام الداعي المقدم من المؤازرة والمعاضدة والمظافرة والمرافدة موافقةً في غير ذات الله ولا طاعته طلباً لأن تكون الأيدي واحدةً على من يقصدهما بمكروه والنيات مترادفة على من ينوي لهم شراً وتاج الملوك غير راض بذاك ولا مؤثر له بل تبعثه السياسة السديدة والحلم الوافر والمعرفة الثاقبة على الأغضاء منهم على القذى والصبر على مؤلم الأذى وهو يسر في نفسه ما لم يظهره ويطوي من أمرهم ما لم ينشره إلى حين يجد الفرصة متسهلة المرام والمكنة من أعداء الله بادية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 351 الأعلام فعند ذاك تنتهز الفرصة وتقتنص الفريسة. واتفق إن بهرام الدعي لما يريد الله تعالى من بواره ويحل به من هلاكه ودماره حدثته نفسه بقتل برق بن جندل أحد مقدمي وادي التيم لغير سبب حمله عليه ولا جناية دعته إليه بل اغترار بعاقبة الظالمين في سفك الدماء المحرمة وافاظة النفوس المحظورة وجهلاً بما حذر الله تعالى من يقصد ذاك ويقدم عليه بقوله عز وجل: " وَمَنْ يَقتُلْ مُؤمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهنَّمُ خالداً فيها وَغَضِبَ أللهُ عليهِ وَلَعَنَهُ وَأَعدَّ لَهُ عَذَاباً عظيماً " فخدعه إلى أن حصل في يده فاعتقله وقتله صبراً فتألم لقتل مثله على هذه مع حداثة سنه وشهامته وحسن صورته وأعلنوا بلعن قاتله في المحافل والمشاهد وذمه من كل غائب ومشاهد. فحملت أخاه ضحاك بن جندل وجماعته وأسرته الحمية الاسلامية والحرقة الأهلية على الطلب بدمه والأخذ بثاره فتجمعوا وتعاهدوا وتعاقدوا وتحالفوا على المصابرة على لقاء أعدائهم والإيغال في الطلب لدمائهم وبذل المهج والنفوس في إدراك ثأرهم وشرعوا في التأهب لهذه الحال صابرين وللفرصة متوقعين إلى أن ساق بهرام ولفيفه الحين المتاح وقضى الله عليهم بالاصطلام والاجتياح فتجمعوا من كل ناحية وتهافتوا من كل صوب وجهة وظهر بهم من بانياس في سنة 522. وقصد ناحية وادي التيم للإيقاع بالمذكورين وكانوا مستعدين للقائه مترقبين لحربه. فلما أحسوا بقربه منهم نهضوا بأجمعهم إليه نهوض الليوث من غلبها للمحاماة على أشبالها وطاروا نحوهم مطار صقور الجبال إلى يعاقيبها وأحجالها فحين دنوا من حزبه المفلول وحشده المخذول هجموا عليهم وهم في مخيمهم غارون وبهم مغترون وصاح صائحهم وهم غافلون وبما نزل بهم من البلاء ذاهلون وإلى أن يتمكن فارسهم من امتطاء جواده وراجلهم من تناول عدته وعتاده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 352 أتى القتل على أكثرهم ضرباً بالسيوف ووجياً بخناجر الحتوف ورشقاً بسهام البلاء ورجماً بأحجار الأقدار والقضاء وكان بهرام في خيمته وحوله جماعة من شركائه في جهله وضلالته غافلاً عما أحاط به وبطائفته وقد وثبوا عند سماع الضوضاء والصياح إلى أخذ آلة السلاح فأرهقوهم بسيوفهم الماضية وخناجرهم المبيرة القاضية حتى أتوا على الجميع وقطع رأس بهرام ويده بعد تقطيعه بالسيوف والسكاكين وأخذهما واحد مع خاتمه من الرجال القاتلين ومضى بهما إلى مصر مبشراً بهلاكه ومهنئاً ببواره فخلع عليه وأحسن إليه وشاعت بذلك الأخبار وعم الكافة الجذل بمهلكهم والاستبشار وأخذ الناس من السرور بهذا الفتح بأوفر السهام وأكمل الأقسام فقلت عدتهم وانقصفت شوكتهم وانفلت شكتهم وقام بعد بهرام صاحبه إسمعيل العجمي رفيقه في الضلال والعدوان وشريكه في المحال والطغيان مقامه وأخذ في الاستغواء للسفساف مثاله وزاد في الجهل زيادةً أظهرت سخف عقله ومحاله وتجمع إليه بقايا الطائفة الخبيثة من النواحي والاصقاع ومن كان منهم متفرقاً في النواحي والبقاع. وجرى أبو علي طاهر بن سعد المزدقاني الوزير على الحال التي سلكها مع بهرام في حق إسمعيل في المساعدة على مراده والمعاضدة على أغراضه لتحرزه من الشر ورغبته في السلامة ولم يعلم أن عقبى هذه الأفعال عين الندامة والبعد عن طريق السلامة فقد قيل رب مستسلم نجت به سلامته ومتحرز من الشر كانت فيه آفته ولم تزل شكوى الناس من الخاصة والعامة تتضاعف والأضرار بهم من المخذولين يتوالى ويترادف إلى أن صرف تاج الملوك بن ظهير الدين أتابك إلى الفتك بهم والاجتياح لهم همته وأرهف لتطهير الأعمال منهم عزيمته ورأى إن صلاح الأمر فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 353 يقتضيه التدبير فيما يراد والتقرير الايقاع بأبي علي الوزير أولاً فإنه أصوب ما اعتمد وأولى ما قصد فرتب لقتله من خواصه من اعتمد عليه وسكن في أمره إليه وقرر معه أن يضرب رأسه بالسيف متى أشار إليه. فلما كان يوم الأربعاء السابع عشر من شهر رمضان سنة 523 حضر مع جماعة الأمراء والمقدمين على الرسم في قبة الورد من دار القلعة بدمشق وجرى في المجلس أمور ومخاطبات مع تاج الملوك والحضور انتهى الأمر فيها إلى الانصراف إلى منازلهم والعود إلى دورهم ونهض الوزير المذكور منصرفاً بعدهم على رسمه فأشار تاج الملوك إلى خصمه فضرب رأسه بالسيف ضربات أتت عليه وقطع رأسه وحمل مع جثته إلى رمادة باب الحديد فألقيت عليها لينظر الكافة إلى صنع الله تعالى بمن مكر واتخذ معيناً سواه وبغيره انتصر وأحرقت جثته بعد أيام بالنار وصار رماداً تذروه الرياح ذلك بما قدمت يداه وما الله بظلام للعبيد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 354 وشاع الخبر بذاك في الحال فثارت الأحداث بدمشق والغوغاء والأوباش بالسيوف والخناجر المجردة فقتلوا من ظفروا به من الباطنية وأسبابهم وكل متعلق بهم ومنتم إليهم وتتبعوهم في أماكنهم واستخرجوهم من مكانهم وأفنوهم جميعاً تقطيعاً بالسيوف وذبحاً بالخناجر وجعلوا مصرعين على المزابل كالجيف الملقاة والميتة المجتواة وقبض منهم نفر كثير التجأوا إلى جهات يحتمون بها وأملوا السلامة بالشفاعة منها قهراً وأريقت دماؤهم هدراً وأصبحت النواحي والشوارع منهم خالية والكلاب على أشلائهم وجيفهم متهارشة عاوية إن في ذلك لآية لأولي الألباب وكان قد أخذ في الجملة المعروف بشاذي الخادم تربية أبي طاهر الصائغ الباطني الذي كان بحلب وهذا اللعين الخادم كان أصل البلاء والشر فعوقب شر عقوبة شفت قلوب كثير من المؤمنين وصلب ومعه نفر منهم على شرفات سور دمشق ليشاهد فعل الله بالظالمين ونكاله بالكافرين. وكان الحاجب يوسف بن فيروز شحنة البلد ورئيسه الوجيه ثقة الملك أبو الذواد مفرج بن الحسن الصوفي قد بالغا في التحريض على هلاك هذه الطائفة الخبيثة فأخذوا في التحرز والاحتياط من اغتيال من يندب إليهما من باطنية ألموت مقر الباطنية بلبس الحديد والاستكثار من الحفظة حولهما بالسلاح الوافر العتيد فحصل الشقاء لمن أساء وكفر والسعادة لمن أحسن واعتبر وأما إسمعيل الداعي المقيم ببانياس ومن معه فإنهم لما سمعوا ما حدث من هذه الكائنة سقط في أيديهم وانخذلوا وذلوا وأقبل بعضهم على بعض الجزء: 1 ¦ الصفحة: 355 يتلاومون وتفرق شملهم في البلاد وعلم إسمعيل إن البلاء محيط به إن أقام ببانياس ولم يكن له صبر على الثبات فأنفذ إلى الافرنج يبذل لهم تسليم بانياس إليهم ليأمن بهم فسلمها إليهم وحصل هو وجماعة في أيديهم فتسللوا من بانياس إلى الأعمال الافرنجية على غاية من الذلة ونهاية من القلة وعرض إسمعيل علة الذرب فهلك بها وقبر في بانياس في أوائل سنة 524 فخلت منهم تلك الناحية وتطهرت من رجسهم وفي سنة 522 ورد الخبر من بغداد بوفاة الوزير جلال الدين أبي علي الحسن بن علي بن صدقة وزير الخليفة رحمه الله في جمادى الآخرة منها وكان حسن السيرة محمود الطريقة كاتباً فاضلاً بليغاً محبوباً من الخاصة والعامة سديد الرأي حميد التدبير صادق العزم صافي الحسن كريم النفس. فكثر الأسف عليه والتوجع لفقده واستوزر بعده نقيب النقباء شرف الدين أبو القسم علي بن طراد الزينبي في جمادى الأولى منها وهو من جلالة القدر وشرف الأصل ونباهة الذكر والمنزلة المشهورة والرتبة المعروفة والمكان المشتهر. وفي جمادى الأولى سنة 522 توفيت الخاتون شرف النساء والدة تاج الملوك رضي الله عنها وقبرت في قبتها المبنية برسمها خارج باب الفراديس سنة ثلاث وعشرين وخمسمائة قد مضى ذكر نوبة الباطنية وغيرهم لما اقتضى سوق الكلام فيه في سنة 2 و3 لما انتهى إلى الافرنج خبر الكائنة في الباطنية وانتقال بانياس عنهم إليهم أحدث ذلك لهم طمعاً في دمشق وأعمالها وأكثروا الحديث في قصدها وبثوا رسلهم إلى الأعمال في جمع الرجال والاحتشاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 356 فاجتمع إليهم سائر من حوته بلادهم من الرها وانطاكية وطرابلس والساحل ووصلهم في البحر ملك كند هو الذي قام مقام بندوين الهالك في الافرنج ومعه خلق كثير فاجتمعوا ونزلوا على بانياس وخيموا عليها وشرعوا في تحصيل المير والأزواد للإقامة وتواترت الحكايات عنهم ممن شاهدهم وأحصى عددهم إنهم يزيدون على ستين ألفاً فارساً وراجلاً وأكثرهم الرجالة فلما عرف تاج الملوك ذلك من عزمهم تأهب لهذا الأمر وصرف همه إلى الاستكثار من العدد والسلاح وآلة الحرب وما يحتاج إليه من الآلات التي يحتاج إليها لتذليل كل صعب وكاتب أمراء التركمان على أيدي رسله المندوبين إليهم بالاستنجاد والاستغاثة بهم وبذل من المال والغلال ما بعثهم على المبادرة إلى اجابة ندائه والسرعة إلى دعائه ووصل إليه من طوائفهم المختلفة الأجناس كل ذي بسالة وشدة مراس راغبين في أداء فريضة الجهاد ومسارعين إلى غزو الكفرة والأضداد وأطلق ما يحتاجون إليه لقوتهم وقضيم خيولهم ورحل الملاعين عن بانياس طالبين دمشق على أناة وترتيب ونزلوا على جسر الخشب والميدان المعروف المجاور له في .... من ذي القعدة سنة 523 وخيموا هناك وأصبح العسكر خرج من دمشق وانضم إليه التركمان من منازلهم حول البلد والأمير مرة بن ربيعة في العرب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 357 الواصلين معه وتفرقوا كراديس في عدة جهات ووقفوا بإزائهم لتخرج منهم فرقة فيسارعوا إليها ويزحفوا فيبادروا إلى لقائهم فلم يخرج منهم فارس ولا ظهر راجل بل ضموا أطرافهم ولزموا مخيمهم وأقام الناس على هذه الصورة أياماً يتوقعون زحفهم إلى البلد فلا يشاهد منهم إلا تجمعهم وإطافتهم حول مخيمهم وبريق بيضهم وسلاحهم وكشف خبرهم وما الذي أوجب تأخرهم عن الزحف وتلومهم فقيل إنهم قد جردوا أبطال خيلهم وشجعان رجالهم للمصير مع البغال إلى حوران لجمع المير والغلال التي يستعان بمثلها على الاقامة والنزال وإنهم لا حركة لهم ولا قوة بهم إلى عود المذكورين فلما عرف تاج الملوك هذه الحال بادر بتجريد الأبطال من الأتراك الدمشقيين والتركمان الواصلين والعرب القادمين مع الأمير مرة وأضاف إليهم الأمير سيف الدولة سوار في عسكر حماة وقرر معهم نهوضهم آخر يومهم والجد في السير عامة الليل ووصولهم عند الصباح إلى ناحية براق لأن تقدير وصول الملاعين عند عودهم من حوران إلى ذلك المكان. فسارعوا إلى العمل بما مثل لهم وأصبحوا في ذلك المكان وهم على غاية من الكثرة والمنعة ومعهم سواد عسكرهم بأسره في عدد لا يحصى كثرةً فهجموا عليهم فلم يتكامل ركوبهم إلا وقد قتل منهم جماعة بالنشاب وضربوا مصافاً ووقفوا قطعةً واحدةً وحمل عليهم المسلمون فثبتوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 358 ولم يزل عسكر الاسلام يكر عليهم ويفتك بهم إلى أن فشلوا وانخذلوا وأيقنوا بالبوار وحلول الدمار. وولى كليام دبور مقدمهم وشجاعهم في فريق من الخيالة منهزمين وحمل الأتراك والعرب حملةً هائلةً وأحدقوا بهم ضرباً بالسيوف وطعناً بالرماح ورشقاً بالسهام فما كان إلا بعض النهار حتى صاروا على وجه الأرض مصرعين وبين أرجل الخيل معفرين وغنموا منهم الغنيمة التي امتلأت أيديهم بها من الكراع والسلاح والأسرى والغلمان وأنواع البغال وهو شيء لا يحصر فيذكر ولا يجد فيعد ولم يسلم منهم إلى معسكرهم إلا القليل من الخيالة الذين نجت بهم سوابقهم المضمرة وعاد الأتراك والعرب إلى دمشق ظافرين غانمين منصورين مسرورين آخر نهار ذلك اليوم المذكور. فابتهج الناس بهذا اليوم السعيد والنصر الحميد وقويت به النفوس وانشرحت به الصدور وعزم العسكر على مباكرتهم بالزحف إلى مخيمهم عند تكامل وصوله وتسرع إليهم جماعة من الخيل وافرة وهم ينظرون إلى كثرة النار وارتفاع الدخان وهم يظنون إنهم مقيمون فلما دنوا من المنزل صادفوهم وقد رحلوا آخر تلك الليلة عندما جاءهم الخبر وقد أحرقوا أثقالهم وآلاتهم وعددهم وسلاحهم إذ لم يبق لهم ظهر يحملون عليه عند ما عرفوه من حقيقة الأمر الذي لا يمكن معه المقام مع معرفتهم بكثرة عسكر الأتراك ولا طاقة لهم به ولم يتمالكوا إن رحلوا لا يلوون على منقطع ولا يقفون على مقصر وخرج إلى منزلهم فغنموا منه الشيء الكثير من أثاثهم وزادهم وصادفوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 359 جماعةً من الجرحى في الوقعة قد هلكوا مع وصولهم ودفنوا في أماكنهم وخيولهم مصرعة من الجراح الكثيرة ولحق أواخرهم العسكر فقتلوا جماعةً من المنقطعين وأغذوا سيرهم في هزيمتهم خوفاً من لحاق المسلمين لهم. وأمن الناس وخرجوا إلى ضياعهم وانتشروا في أماكنهم ومعائشهم وانفرجت عنهم الكربة وانكشفت الغمة وجاءهم من لطف الله تعالى وجميل صنعه ما لم يكن في حساب ولا خطر في بال. فلله الحمد والشكر على هذه النعمة السابغة والموهبة الكاملة حمداً يستديم جزيل نعمه ويستمد المزيد من منائحه وقسمه وعاد التركمان إلى أماكنهم بالغنائم الوافرة والخلع الفاخرة وتفرق جمع الكفرة إلى معاقلهم على أقبح صفة من المذلة وعدم الكراع وذهاب الأثقال وفقد أبطال الرجال وسكنت القلوب بعد الوجل وأمنت بعد الخوف والوهل وأيقنت النفوس بأن الكفرة لا يكاد يجتمع لهم بعد هذه الكائنة شمل بعد فناء إبطالهم واجتياح رجالهم وذهاب أثقالهم سنة أربع وعشرين وخمسمائة في المحرم أول هذه السنة توفي الشيخ الأمين جمال الأمناء أبو محمد هبة الله بن أحمد الأكفاني رحمه الله وكان موصوفاً بالكفاية والأمانة معروفاً بالصيانة والديانة ولم يقم من الشهود بعده مثله في الذكاء والأمانة والغناء لما خلا ديوان الوزارة بدمشق بعد قتل أبي علي طاهر المزدقاني الوزير من عارف ينظم حسباناته ويسدد أمور معاملاته وارتاد تاج الملوك كافياً يرد الأمر في ذلك إليه ويعتمد فيه عليه ويسكن إلى نهضته في تهذيب أحواله وترتيب أعماله وحفظ أبواب ماله فلم يتسهل له بلوغ المقصود ولا تيسر لارتياده نيل الغرض المنشود فوقع تعويله على الرئيس الوجيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 360 ثقة الملك أبي الذواد المفرج بن الحسن الصوفي رئيس دمشق فرد الأمر في ذلك إليه وقلده منصب الوزارة واعتمد فيه عليه ووجده أكفى من وقعت إليه الاشارة من كتابه ومتصرفيه وإن كان ضيف الصناعة في الكتابة خفيف البضاعة من البلاغة فإن رأيه سديد ومذهبه في التنزه والأمانة حميد وله معرفة بسياسة المعاملين في المعاملات ويد في الحك والضبط في استدعاء الحسبانات وحفظ الاخراجات ولم يجد له محيداً عنه ولا بدلاً منه فقلده هذا المنصب واثقاً بحسن سفارته ومرضي مؤازرته وخلع عليه وزاد في إحسانه إليه وأجلسه مجلسه من الديوان بمحضر من الأمراء والأماثل والأعيان وأمر بكتب المنشور بأحسن أوصافه والتحذير من تجاوز أمره وخلافه ولقبه محيي الدين تأكيداً لأمره ورفعاً لقدره فأحسن السياسة وسدد أحوال الرئاسة واستعمل العدل في أعماله والانصاف لمعاملته وعماله ونظر في الأعمال واعتمد على الكفاة الثقات من العمال وجرت الأحوال في ذلك على السداد واطردت على الاستقامة أحسن اطراد وفي هذه السنة ورد الخبر بوصول الأمير عماد الدين أتابك زنكي بن اق سنقر صاحب الموصل إلى حلب في عسكره عازماً على الجهاد وأرسل تاج الملوك بوري بن ظهير الدين أتابك يلتمس منه المعونة والإسعاد على محاربة الافرنج الأضداد وترددت الرسل بينهما في ذلك إلى أن أجاب إلى المراد وأنفذ إليه من استحلفه على المصافاة والوداد وتوثق منه على الوفاء وجميل الاعتقاد وأكد الأمر في هذه الحالة تأكيداً سكن إليه ووثق به واعتمد عليه وبادر بتجريد وجوه عسكره في خمسمائة فارس وكتب إلى ولده بهاء الدين سونج بحماة يأمره بالخروج في عسكره والاختلاط بالعسكر الدمشقي ومقدمه الأمير شمس الأمراء الخواص وعدة من الأمراء والمقدمين فامتثل الأمر وخرج من حماة في رجاله وتجمله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 361 وتوجهوا جميعاً إلى مخيم عماد الدين أتابك فأحسن لقاءهم وبالغ في الاكرام لهم وأغفلهم أياماً وعمل عليهم وغدر بهم وقبض على سونج ولد تاج الملوك وعلى جماعة المقدمين ونهب خيامهم وأثقالهم وكراعهم فهرب منهم من هرب واعتقل الباقين وحملهم إلى حلب وأمر بحفظهم فيها وزحف من يومه إلى حماة وهي خالية من الرجال الحماة فملكها واستولى على ما فهيا ورحل عنها إلى حمص وكان صاحبها خيرخان بن قراجه معه بعسكره ومناصح في خدمته وعامل بطاعته وكان المعين له والمحرض على الغدر بسونج وقبضه حين نزل عليها غدراً بخيرخان صاحبها واعتقله ونهب خيامه وأثقاله وتوثق منه وطلب بتسليم حمص إليه فراسل نوابه فيها وولده بذاك فلم يلتفتوا إلى مقاله ولا وقعت منهم إجابة إلى سؤاله فأقام عليها مدةً طويلةً يبالغ في المحاربة لأهلها والمضايقة لها فلم يتهيأ له فيها مطلب ولا تيسر مأرب فرحل عنها إلى الموصل واستصحب معه سونج بن تاج الملوك والمقدمين من عسكر دمشق وأقر الباقين في حلب وترددت المراسلات في إطلاق المعتقلين فلم يفعل والتمس عنهم خمسين ألف دينار أجاب تاج الملوك إلى تحصيلها والقيام بها في هذه السنة وردت الأخبار من ناحية مصر بقتل الآمر بأحكام الله صاحبها في آخرها تدبيراً دبر له وعمل فيه عليه لأمور منكرة ارتكبها وأحوال قبيحة اعتمدها ادعت إلى قتله وأوجبت الفتك به لأنه بالغ في ظلم الرعية وأخذ أموالهم واغتصاب ملاكهم وسفك الدماء وأساء السيرة وارتكب المحذورات واستحسن القبائح من المحظورات فابتهج الخاص والعام بالحادث فيه والراحة منه في يوم الثلاثاء الثاني من ذي القعدة سنة 524 وعمره 34 سنة ومولده بالقاهرة سنة 490 وأيام دولته 24 سنة ونقش خاتمه الامام الجزء: 1 ¦ الصفحة: 362 الآمر بأحكام الله أمير المؤمنين وقام بعده ابن عمه أبو الميمون عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم ابن الامام المستنصر بالله أمير المؤمنين وأخذت له البيعة على الرسم فيها ونعت بالحافظ لدين الله أمير المؤمنين فاستقام له الأمر واستتب برأيه التدبير وقلد الأمر أبا علي أحمد بن الأفضل أمير الجيوش وزارة الدولة وتدبير المملكة فساس الكافة أعدل سياسة ودبر الأعمال أجمل تدبير وجرى على منهاج أبيه الأفضل رحمه الله في حب العدل وايثاره واحتواء الجور واخماد ناره وأعاد على التناء والتجار ما اغتصب من أموالهم وقبض من أملاكهم وأمن البر التقي وأخاف المفسد ولم يزل على هذا المذهب الحميد مواظباً ولهذا المنهاج السديد مداوماً إلى أن نجم له من مقدمي الدولة حسدة حسدوه على ما الهمة الله من أفعال الخيرات واقتناء الصالحات تجمعوا على افساد أحواله ولفقوا المحال في الطعن في أعماله وسعوا في العمل بأنواع من الكذب جمعوها وألفاظ من الباطل نمقوها وقرر ذلك مع العسكرية دون الأعيان والأماثل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 363 من الرعية وأغفل إلى أن وجدت الفرصة فيه متسهلة والغرة منه باديةً وحصل في جانب من الميدان خالياً من العدة والعدة والأعوان والنجدة لا يشعر بما قد رتب له ودبر عليه فوثبوا عليه وقتلوه رحمه الله وانفردوا به وأدركه أصحابه وقد قضى فقتلوا الجناة وحملوه إلى تربته فدفنوه بها سنة خمس وعشرين وخمسمائة في هذه السنة انتهى إلى تاج الملوك عن الرئيس المقلد أمر الوزارة محال غير قلبه عليه وقدح في منزلته وأفسد ما كان جميلاً فيه من رأيه وأمر باعتقاله مع بعض أقاربه اعتقالاً جميلاً وعزله عن الوزارة والرئاسة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 364 في شهر ربيع الأول منها وعول في تقليد مكان الوزارة على كريم الملك أبي الفضل أحمد بن عبد الرزاق المزدقاني ابن عم الوزير أبي علي المزدقاني المقدم ذكره فرد الأمر في ذلك إليه وعول في الوزارة والسفارة عليه واستقام له الأمر ومشت الأحوال به. واستبشر أكثر المتصرفين والعمال لأنه كان حسن الطريقة قد تهذب في النيابة عن الوزارة في الديوان وعرف سياسة الأعمال في كل عصر وأوان فصيح اللسان بالفارسية والعربية ولم يزل مستمر الأمر إلى أن حدث ما تغيرت به حاله لأن الباطنية لما جرى عليهم قضاه الله من البوار وأحله بهم من الهلاك والدمار انتهى خبر ذاك إلى رفقائهم بألموت فأسفوا عليهم وقلقوا لما نزل بهم وشرعوا في بث حبائل شرهم ونصب اشراك خترهم ومكرهم وندبوا لتاج الملوك من يغتاله ويوقع به من جهال إخوانهم وفتاك أقرانهم. ووقع اختيارهم على جاهلين من الخراسانية قرروا معهما التحيل في أمر تاج الملوك والطلب له والفتك به في داره عند إمكان الفرصة فيه ووصل هذان الرجلان إلى دمشق في زي الأتراك بالقباء والشربوش وحضرا إلى معارف لهما من الأتراك وسألوهما الوساطة في استخدامهما وتقرير الواجب لهما وخدعاهم ولم يرتابوا بهما وتدرجا بالحيلة والمكر إلى أن صارا في الجملة من الخراسانية المرتبين لحفظ ركاب تاج الملوك وتمكنا وسكنت القلوب إليهما لأنها ضمنا. ورقبا الفرصة في تاج الملوك إلى أن دخل الحمام وعاد منه ووصل إلى باب داره من القلعة بدمشق وتفرق عنه من كان في ركابه من الخراسانية والديلم والأحداث الحفظة له فوثبا عليه في يوم الخميس لخمس خلون من جمادى الآخرة سنة 525 وضربه أحدهما بالسيف طالباً لرأسه فجرحه في رقبته جرحاً لم يتمكن منه وضربه بسكين عند خاصرته نفذت بين اللحم والجلد ورمى بنفسه في الحال عن فرسه سليماً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 365 وتكاثرت الرجال عليهما فقطعوهما بالسيوف وأحضر أهل الخبرة بمداواة الجراح من الأطباء والجرائحيين وعولجا فبرأ أحدهما الذي عند الرأس وتنسر الذي في الخاصرة وصلحت الحال في ذلك وركب وأقام مدة يحضر مجلسه الخواص والعسكرية والأجناد للسلام والشراب على الرسم المعتاد وفيها ورد الخبر من بغداد بوفاة السلطان مغيث الدنيا والدين محمود ابن السلطان غياث الدنيا والدين محمد بن الملك شاه بن البارسلان رحمه الله في شوال سنة 525 بمرض حدث به كان معه نفاد أجله وفراغ مهله وتقررت السلطنة بعده لأخيه السلطان أبي الفتح مسعود بن محمد بن ملك شاه بن البارسلان وتكون ولاية العهد من بعده لابنه داود بن محمود ثم لأخيه السلطان طغرل بن محمد وسيأتي ذكر كل واحد منهم في موضعه وفيها ورد الخبر من حلة مكتوم بن حسان بن مسمار بأن الأمير دبيس بن صدقة ابن مزيد اجتاز بالحلة وكان قد انهزم من العراق في خواص أصحابه وغلمانه خوفاً من الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين وضل في الطريق لم يكن معه دليل عارف بالمسالك والمناهل وكان قصده حلة مرى بن ربيعة فهلك أكثر من كان معه وتفرق أصحابه بعد موت من مات بالعطش وقد حصل في الحلة كالمنقطع الوحيد في نفر يسير من أصحابه فانهض تاج الملوك فرقة من الخيل نحوه لاحضاره فأحضرته إلى القلعة بدمشق في ليلة يوم الاثنين لست خلون من شعبان سنة 525 فتقدم تاج الملوك بإنزاله في دار القلعة وإكرامه واحترامه والتنوق في شرابه وطعامه وحمل إليه من الملبوس والمفروض ما يقتضه محله الرفيع ومكانه المكين الوجيه واعتقله اعتقال كرامة لا اعتقال إهانة وأنهى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 366 الحال في ذلك إلى الدار العزيزة الأمامية المسترشدية فورد الجواب إليه بالتوثق منه والاحتياط عليه إلى حين يصل إليه من يتسلمه ويحمله إلى بغداد ولما عرف عماد الدين أتابك زنجي صاحب الموصل هذه الحال نفذ رسولاً له إلى تاج الملوك يلتمس منه تسليمه ويكون الجزاء عنه الخمسين الألف الدينار المقررة على ولده سونج وبقية العسكر الدمشقي المتعلقين فأجابه تاج الملوك إلى ذلك وتقرر الشرط عليه وأن يصل عسكره إلى ناحية قارا ومعه المعتقلون ويخرج الأمير دبيس مع عسكر دمشق إلى هناك فإذا تسلم المعتقلين سلموا دبيساً إلى أصحابه فتوجهوا به من دمشق ووصلوا به إلى قارا فتسلموا المعتقلين منهم وسلموا إليهم دبيساً في يوم الخميس الثامن من ذي القعدة من السنة وعاد كل من العسكرين إلى مكانه ووصل سونج إلى دمشق هو والجماعة فسر تاج الملوك بهم وزال شغل قلبه بوصولهم فعند ذلك خوطب تاج الملوك في الرئيس وأهله المعتقلين وسئل في إطلاقهم والمن عليهم بتخلية سبيلهم فأجاب إلى ذلك بعد أن قرر عليه مصالحة يقوم بها وأطلق وأعيد إلى رئاسة دون وزارته وخلع عليه وعلى الوزير كمال الدين كريم الملك أبي الفضل أحمد بن عبد الرزاق المزدقاني في مستهل رمضان من السنة وفي هذه السنة ورد الخبر من صرخد بوفاة واليها فخر الدولة كمشتكين الخادم التاجي في جمادى الآخرة منها وكان حسن الطريقة جميل الذكر كثر التدين مشكور المقاصد. وفيها وصل سديد الدولة ابن الأنباري كاتب الخليفة الامام المسترشد بالله أمير المؤمنين رسولاً منه في أمور وأسباب اقتضتها في آخر ذي القعدة منها ويبعث على تسليم الأمير دبيس إلى من يحمله إلى بغداد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 367 وقد فات الأمر فيه فأكرم مثواه وسر بمقدمه وأجيب عن رسائله وتوجه عائداً بعد أن حمل إليه ما يقتضيه محله ويوجبه مكانه وصادفه في طريقه بناحية الرحبة خيل الأمير عماد الدين فقبضت عليه ونهبت ما كان معه وقتلت بعض غلمانه ولقي شدةً عظيمةً من الاعتقال والإعنات إلى أن خلص وأطلق سراحه وعاد إلى بغداد. وفي يوم الخميس لثلاث ليال خلت من جمادى الآخرة منها جمع تاج الملوك جماعة من الأمراء والمقدمين والخواص وأعيان الأجناد والكتاب والفقهاء وأماثل الرعية في مجلسه وقال لهم: إنني قد انتهت بي الحال بسبب هذا الجرح الذي قد طال أله وتعذر اندماله ما قد أيقنت معه الحلول بالأمر المقضي الذي لا بد منه ولا مندوحة للخلق عنه وقد يئست من روح الحيوة واستشعرت قرب الوفاة وهذا ولدي أبو الفتح إسمعيل قد لاحت لي منه إمارة الشهامة والنجابة وبانت لي فيه مخايل الكفاية واللبابة وهو أكبر ولدي والمرجو لسد ثلمة فقدي وقد رأيت أن أجعله ولي عهدي والمرشح لتولي الأمر بعدي ثقةً بسداده وحسن تأتيه مع حداثة سنه وحميد اقتصاده فإن سلك منهاج الخير واقتفاه وقصد سبيل العدل والانصاف وتوخاه فذاك المراد منه والمأمول فيه وإن عدل عن المطلوب المشار إليه وخالف الأمر المنصوص عليه كان المعول عليكم في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 368 تنبهه من نومته وإيقاظه من فتور غفلته فإن الحازم اللبيب والسديد الأريب إذا ذكر ذكر وإذا أنهي عن منكر أعرض عنه واقتصر. فقالوا: الأمر أمرك الذي لا يخالف ولا يعدل عنه والحكم حكمك الذي لا خروج لنا منه وطاعتنا لك في حياتك كطاعتنا لولدك بعد وفاتك والله يمد لك في العمر ويمن عليك بالعافية الشافعية وتعجيل السلامة والبرء. فسر بمقالهم وشكر ما بدأ منهم من الحوادث الدالة على حميد خلالهم ثم نص في الأمر عليه وأشار في ولاية العهد من بعده إليه وقرر معهم العمل بطاعته والانتهاء إلى إشارته وخلع عليه خلعاً سنيةً تليق بمثله وتضاهي شرف مثله وركب فيها إلى داره من القلعة بين الأمراء والمقدمين والأتباع من الخراسانية والغلمان والسلاحية والمقرعدارية كذا والجاووشية في اليوم المذكور والمحفل المحضور وتضاعف بذاك منهم الجذل والسرور ومالت كافة الأصحاب إليه واجتمعوا عليه وواظبوا الخدمة له في كل يوم والتسليم عليه سنة ست وعشرين وخمسمائة في هذه السنة ورد الخبر من ناحية الافرنج بهلاك بغدوين الرويس ملك الافرنج صاحب بيت المقدس بعكا في يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر رمضان منها وكان شيخاً قد عركه الزمان بحوادثه وعانى الشدائد من نوائبه وكوارثه ووقع في أيدي المسلمين عدة دفعات أسيراً في محارباته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 369 ومصافاته وهو يتخلص منهم بحيله المشهورة وخدعه المخبورة ولم يخلف بعده فيهم صاحب رأي صائب ولا تدبير صالح وقام فيهم بعده الملك القومص الجديد الكند ايجور الواصل إليهم في البحر من بلادهم فلم يتسدد في رأيه ولا أصاب في تدبيره فاضطربوا لفقده واختلفوا من بعده وفيها اشتد مرض الجرح بتاج الملوك ووقع اليأس من برئه وصلاحه فطال الأمر به طولاً سئم معه الحياة وأحب الوفاة وتزايد الضعف به والذبول في جسمه وقوته وقرب أجله وخاب في الصحة أمله وتوفي إلى رحمة الله ومغفرته وتجاوزه على مضي ساعة من نهار يوم الاثنين الحادي والعشرين من رجب منها فتألمت القلوب لمصابه وأفيضت الدموع للنازل به: وإذا المنيّة أنشبت أظفارها ... ألقيت كلّ تميمةٍ لا تنفع ولكن قضاء الله تعالى لا يغالب وحكمه لا يدافع لأن هذه الدنيا دار سوء لم يدم فرح لامرئ فيها ولا حزن النفاس فيها محصاة معدودة والآجال محصورة محدودة والليل والنهار يقطعان الأعمار ويفنيان المدة وما فهم مواعظ الزمان من سكن إلى خدع الأيام. ولقد أنشد عند فقده الشريف الرضي: بعداً ليومك في الزمان فإنّه ... أقذى العيون وفتّ في الأعضاد لولا ما من الله من قيام نجله في الأمر من بعده ونصه عليه في ولاية عهده شمس الملوك فأزال الروعة وخفف اللوعة فاشتغل الناس بالتهنئة بالأمير الموجود عن التعزية بالشهيد المفقود. وقد كان لتاج الملوك رحمه الله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 370 من المحاسن والمآثر والمناقب ما يذكر في المحافل وينشر في الأندية والمحاضر ونظمت مدائحه الشعراء ونشرت فضائله الفصحاء البلغاء وكان الأديب الفاضل أبو عبد الله محمد بن الخياط الشاعر الدمشقي رحمه الله وهو طرفة شعراء الشام والمشهور بمحاسن الفنون من المديح وغيره بينهم قد نظم في تاج الملوك عدة قصائد بالغ في تهذيبها وتحريرها وتحكيكها فذكرت من جملة أبياتها المعربة عن صفات معاليه ما يستدل به على استحقاقه ما بالغ فيه من مدح مقاصده ومساعيه فمن أبيات قصيدة أولها: لقد كرّم الله ابن دهرٍ تسوده ... وشرّف يا تاج الملوك بك الدهرا ومنّ على هذا الزمان وأهله ... بأروع لا يعصي الزمان له أمرا حسام أمير المؤمنين ومن يكن ... حساماً له فليقتل الخوف والفقرا إذا قلت في تاج الملوك قصيدةً ... من الشعر قالوا قد مدحت به الشعرا وقال من أخرى ألم تك للملوك الغرّ تاجا ... وللدنيا وعالمها سراجا لقد شرّف الزمان بك افتخاراً ... كما سعد الأنام بك ابتهاجا مددت إلى اقتناء الحمد كفّاً ... طمى بحر السماح جا وماجا وغادرت المعالي بالعوالي ... كخيس الليث عزّ به ولاجا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 371 ذكر أيام شمس الملوك أبي الفتح إسمعيل بن تاج الملوك بوري بن ظهير الدين أتابك وشرح حاله في ابتداء أمره إلى انقضائه وما كان في خلال ذلك من الحوادث المتجددة ومعرفة تواريخها وأوقاتها وأحوالها لما مضى الأمير تاج الملوك بوري بن أتابك رحمه الله من هذه الدنيا الفانية إلى الدار الباقية سعيداً حميداً شهيداً أقام ولده شمس الملوك أبو الفتح إسمعيل مقامه في المملكة حسب ما كان عهد به إليه في حياته وأوصى بما يعمل به بعد وفاته أحسن السياسة والسيرة وأخلص النية في أعماله والسريرة وبسط العدل في الرعية وأفاض إحسانه على كافة الأجناد والعسكرية وأقر الاقطاعات على أربابها والجامكيات على أصحابها وزاد في الواجبات ولم ينقصها وأقر وزير أبيه على وزارته ورتب العمال والمتصرفين على ما كانوا عليه ورد أمر التقرير والتدبير إلى الحاجب يوسف بن فيروز شحنة دمشق واعتمد عليه في مهمات أمره وسكن إليه في جهره وسره وافتتح أمر السياسة بالنظر في أمر الرعية والمتعيشين بأن رفع عنهم ما كان يستخرج منهم في كل سنة من أقساط الفيئة وأبطل رسمها وحظر تناولها وأزال حكمها وعوض أرباب الحوالات عليها بجهات غيرها فكثر له الدعاء واتصل عليه الثناء وذلك في رجب سنة 526. وظهر من شهامته وشدة بأسه وشجاعته وإقدامه وبسالته ومضاء عزيمته ما لم يقع في وهم ولا خطر في بال وفهم وسنذكر من ذلك في أماكنه ما يقوم مقام العيان دون الحكاية بالمقال فمن ذلك أولاً افتتاحه حصن اللبؤة والرأس وكانا في يدي المندوبين لحفظهما من قبل تاج الملوك أبيه وكانا قد أقرا على رسمهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 372 فانتهى إلى شمس الملوك إن أخاه شمس الدولة محمد بن تاج الملوك صاحب بعلبك قد عمل عليهما حتى استنزلهما على حكمه من حصنيهما المذكورين وندب لهما من رآه من ثقاته ونوابه لحفظهما فأنكر مثل هذا الفعل عليه وامتعض منه وراسل أخاه المذكور بالمعاتبة على ما قصده ويهجن رأيه فيما اعتمده ويسأله النزول عليهما وإعادتهما إلى ما كانا عليه فامتنع من الاجابة إلى ما طلب والقبول لما التمس فأهمل الأمر فيه وفي الحديث في معناه مدةً يسيرةً ثم استعد وتأهب لقصد الحصنين المذكورين ولم يشعر أحد بما عزم عليه وصرف همه إليه. ثم نهض في العسكر وآلات الحرب من دمشق موهماً إنه يطلب ناحية الشمال في آخر ذي القعدة من السنة ثم عاد في طريق أخرى مغرباً بعد تشريقه فلم يشعر من بحصن اللبؤة إلا وقد نزل عليه وزحف من وقته إليه بعزيمة لا تدافع وشدة لا تمانع. فلما أحس من فيه بالبلاء لما شاهده من شدة القتال ولم يجد له مخلصاً بحال من الأحوال طلب الأمان من يومه فأجيب إلى ما سأل وأسعف بما أمل ونزل من الحصن وسلمه إليه فقرر أمره واستناب في حفظه من اعتمد على كفايته ونهضته. ثم رحل عنها عند الفراغ منه إلى حصن الرأس فجرى أمر من فيه على تلك القضية فتسلمه وولاه لمن يحفظه ثم رحل عنه ونزل على بعلبك وقد استعد أخوه صاحبها واحتشد واجتمع إليه خلق كثير من فلاحي البقاع والجبال وغير ذلك من الحرامية المفسدين فحصرهم فيها وضايقهم وزحف إليهم في الفارس والراجل وخرج من بعلبك من المقاتلة جماعة فقتل منهم وجرح نفر كثير وعلى السور أيضاً ثم زحف بعد أيام إلى البلد البراني وقد حصفوه بالرجال فشد عليهم القتال وفرق العسكر عليه من عدة جهات فملكه وحصل العسكر فيه بعد أن قتل وجرح الخلق الكثير ممن كان فيه ونصب المناجيق على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 373 البلد والحصن وواظب الزحف إليهما والشد عليهما. فلما عاين صاحبها شدة الأمر والاستمرار على الاقامة والمصابرة راسل في بذل الطاعة والمناصحة والسؤال في إقراره على ما كان عليه في أيام أبيه فحملته عاطفة القربى على احتمال ما جرى والاغضاء عما سلف وأجاب إلى ما التمس ونزل على إيثاره ما طلب وتقرر الأمر بينهما على ما اقترح وعاد شمس الملوك في العسكر إلى دمشق ظافراً مسروراً في أوائل المحرم منها سنة سبع وعشرين وخمسمائة في المحرم منها وردت الأخبار من ناحية الافرنج بوقوع الخلف بينهم من غير عادة جارية لهم بذلك ونشبت المحاربة بينهم وقتل منهم جماعة. وفيها صادف جماعة من التركمان صاحب زردنا في خيله فظفروا به وقتلوه ومن معه واشتملوا على خيولهم وكراعهم. وقيل إن ابن الدانشمند ظفر بفريق وافر خرج من القسطنطينية فأوقع به وقتل من كان فيه من الروم وغيرهم وفي سابع عشر جمادى الآخرة غار الأمير سوار من حلب في خيله على تل باشر فخرج من فيه من أبطال الافرنج إليه فقتل منهم تقدير ألف فارس وراجل وحمل رؤوسهم إلى حلب. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 374 وفي رجب منها قبض شمس الملوك على مري بن ربيعة فاعتقله وعلى أسامة بن المبارك وصانعه على مصالحة قام بها وأطلقه وأقام مري على حاله وتردد فيه خطاب انتهى آخره إلى قتله وهذا مكافأة ما أسلفه من قبيح الأفعال ومذموم الأعمال والظلم الذي ارتكبه في سائر الأحوال ولما عاد شمس الملوك من ناحية بعلبك بعد المقرر بينه وبين أخيه صاحبها مما تقدم ذكره وشرحه انتهى إليه من ناحية الافرنج ما هم عليه من فساد النية والعزم على نقض الموادعة المستقرة. وشكا إليه بعض التجار الدمشقيين إن صاحب بيروت قد أخذ منهم عدة حمال كتان قيمتها جملة وافرة من المال فكتب إلى مقدم الافرنج في رد ذلك على أربابه وإعادته على من هو أولى به وترددت المكاتبات في ذلك فلم تسفر عن نيل مراد ولا نيل طلاب فحمله الغيظ والحنق على مقابلة هذا الفعل بمثله وأسر ذلك في نفسه ولم يبده لأحد من خاصته وثقات بطانته وصرف همه وعزمه إلى التأهب لمنازلة بانياس وانتزاعها من أيدي الملاعين المتغلبين عليها ونهض إليها في أواخر المحرم من السنة ونزل عليها في يوم الأحد غرة صفر منها وزحف في عسكر إليها وفيها جماعة وافرة من الخيالة والرجالة فارتاعوا لما أتاهم فجأةً وذلوا وانخذلوا وقرب من سورهم بالدرق الجفتيات والخراسانيين والنقابين وترجل عن جواده وترجل الأتراك بأسرهم لترجله ورشقوا من على السور بالنشاب فاستتروا ولم يبق أحد يظهر برأسه عليه لكثرة الرماة وألزق الجفتيات إلى مكان من السور استرقه فنقبوه إلى أن تمكنوا منه ثم هجموه وتكاثروا في البلد. والتجأ من كان فيه من الافرنج إلى القلعة والأبراج وتحصنوا بها ومانعوا عن نفوسهم فيها وملك البلد وفتح بابه وقتل كل من صودف فيه من الافرنج وأسر. ولما رأى من بالقلعة والأبراج من المنهزمين ما نزل بهم من تملك البلد والقصد لهم بالقتال ولا ناصر لهم ولا ممانع عنهم التمسوا الأمان فأجيبوا إليه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 375 ونزلوا فاسروا جميعاً ونهب ما كان في البلد وقرر فيه من الرجال الأجلاد من يحفظه ويذب عنه ورحل عنه في العسكر ومعه الأسرى ورؤوس القتلى وحرم الوالي الذي كان به وأولاده والعدد الكثيرة ووصل إلى دمشق في يوم الخميس لست ليال خلت من صفر من السنة. وخرج الناس من البلد للقائه ومشاهدة الأسرى في الحبال والرؤوس في القصب وهم الشيء الكثير والجم الغفير فرأى الناس من ذلك ما أقر عيونهم وسر قلوبهم وشد متنهم وابتهجوا له وأكثروا من شكر الله تعالى على ما سناه من هذا النصر العزيز والفتح المبين وشاعت الأخبار بذلك في الافرنج فهالهم سماعه وارتاعوا لحدوث مثله وامتلأت قلوبهم رعباً ووجلاً وأكثروا التعجب من تسهل الأمر في بانياس مع حصانتها وكثرة الرجال فيها في أقرب مدة وأسهل مرام وأسفوا على من قتل من الخيالة الفرسان والرجالة وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية العراق بوصول السلطان مسعود بن السلطان محمد إلى بغداد ونزوله في الجانب الغربي منها وأقام بها أياماً قلائل لتقرير الحال وكتب تذكرةً بأشياء اقترحها والتمس إضافة الشام إلى العراق ووصل إليه قاضي القضاة والأعيان والأماثل واستحلفوه على ما تضمنه المشروح المقترح في التذكرة وطولع بما جرى فخرج الأمر السامي الأمامي المسترشدي بالاذن له في نزوله في دار السلطنة وكتبت ألقابه وإقامة الدعوة له وحمل إليه ما يحتاج إلى مثله من الفرش وغيره وخطب له آخر جمعة من المحرم وكتب بتقرير أمر السلطنة إلى جميع الأعمال والأمر بالدعاء له على منابرها. واستدعي إلى الدار العزيزة المسترشدية وناب الوزير شرف الدين أنوشروان بن خالد وزير الخليفة عنه في إيصال سلامه ودعائه أحسن مناب وخوطب بأجمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 376 جواب وأفيضت الخلع عليه في يوم الأحد لخمس خلون من شهر ربيع الأول من السنة وقد جلس الامام الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين فحضر بين يديه وخدم كما جرت العادة لمثله فقال له أمير المؤمنين في مبدإ خطابه: تلق هذه النعمة بشكرك واتق الله تعالى في سرك وجهرك. وكان هذا التشريف سبع دراريع مختلفات الأجناس والسابعة منها سوداء وتاجاً مرصعاً وسوارير وطوق ذهب ولما جلس على الكرسي المعد له وقبل الأرض قال له أمير المؤمنين: من لم يحسن سياسة نفسه لم يصلح لسياسة غيره. قال الله تعالى ذكره: " فَمنْ يَعْمَلْ مِثقالَ ذرَّةٍ خيراً يَرَهُ ومَنْ يَعمَلْ مِثقالَ ذرَّةٍ شرّاً يَرَهُ ". فأعاد الوزير عليه ذلك بالفارسية فأكثر من الدعاء له والثناء عليه واستدعى أمير المؤمنين السيفين المعدين له فقلده بهما واللوائين فعقدهما له بيده وسلم عيه السلطان داود بن محمود أخيه وأتابكه اق سنقر وأكد الوصية عليه في بابهما واجمال الرعاية لهما واستحلفه على الوفاء بما قرره في بابهما وقال له أمير المؤمنين: انهض وخذ ما أتيتك وكن من الشاكرين. وتوجه السلطان مسعود بعد ذلك إلى ناحية أذربيجان في أول شهر ربيع الآخر من السنة وقد انضم إليه اق سنقر أحمديلي وخلق كثير من الأتراك ووردت الأخبار إلى بغداد بأن عسكر السلطان مسعود كسر عسكر السلطان طغرل بن محمد بناحية همذان في ثامن عشر رجب من السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 377 وتفرق عسكره في البلاد وعاد السلطان مسعود إلى منزله وخوطب له في جامع همذان وفي هذه السنة عزم شمس الملوك إسمعيل بن تاج الملوك على قصد حماة لمنازلتها واستعادتها من أيدي الغالبين عليها وملكتها وقد كان أخفى هذا العزم في نفسه ولم يظهر عليه غيره وشرع في التأهب لذاك والاستعداد للمصير إليها وقد كانت الأخبار انتهت إلى الحافظ لها بهذا الاعتزام فبالغ في التحصين لها والتأهب للذب عنها والمراماة دونها وأعد لذلك كل آلة يحتاج إليها ويعتمد عليها. وانتهى الخبر بهذه الحال إلى شمس الملوك فلم يحفل بهذا الأمر ولا يشطن عنه بل برز في العشر الأخير من شهر رمضان سنة 27 ولم يبق من مقدمي أمرائه وخواصه إلا من أشار عليه بأبطال هذه الحركة واستوقف عزمه عنها وهو لا يحفل بمقال ولم يسمع منه جواب خطاب وقيل له: تهمل هذا إلى فراغ صوم هذه الأيام القلائل من هذا الشهر المبارك وتقضي سنة العيد ويكون التوجه بعده إلى ذلك المكان. فلم يصغ إلى أحد في هذا الرأي ولا عمل بمشورة انسان وبنى أمره على قصدها وأهلها غارون ومن بها من الحماة غافلون لتحققهم إنه لا ينهض أحد في هذه الأيام إلا بعد العيد وترفيه الجند. ثم إنه رحل في الحال إليها وأغذ السير حتى نزل عليها وهجم في يوم العيد على من فيها فراعهم ما أحاط من البلاء بهم وزحف إليهم من وقته في أوفر عدة وأكمل عدة فتحصنوا بالدروب والرحال وصبروا على الرشق بالسهام والنبال وعاد العسكر في ذلك اليوم وقد نكأ فيهم نكايةً ظاهرةً في القتل والجرح والنهب والسلب وباكرهم من غده في الفارس والراجل وفرقهم حول البلد من جميع نواحيه ثم زحف في خواصه من الغلمان الأتراك وجماعة وافرة من الرجالة والخيالة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 378 القتال واسترق موضعاً من حماة قصد إليه وعول في هجم البلد عليه وشد على من به من الحماة والرماة فاندفعوا بين يديه وهجم البلد بنفسه من ذلك المكان. ولاذ من بها بالأمان وترامى إليه جماعة من حماتها مستأمنين فأمنهم وخلع عليهم وأحسن إليهم ونادى بالكف عنهم ورفع الأذية عن كافتهم ورد ما نهب عليهم فخرج إليه أكثر رجال القلعة طالبين الأمان فخلع عليهم وأمنهم. فحين رأى الوالي ذلك وعرف عجزه عن المصابرة طلب أيمانه فأمنه: وسلم القلعة بما فيها إليه وحصلت مع البلد في يديه بأسهل أمر وأسرع وقت فرتب لولايتها من اعتمد عليه وسكن في حفظها إليه ورحل عنها وقصد شيزر ونزل عليها وأمر بالعيث والفساد في نواحيها ولم يزل على هذه الحال إلى أن لوطف واستعطف بما حمل إليه ورحل عائداً إلى دمشق ودخلها مسروراً ظافراً في ذي القعدة من السنة ومن اقتراحات شمس الملوك الدالة على قوة عزيمته ومضاء همته ومستحسن ابتدائه ما أحدثه من البابين المستجدين خارج باب الحديد من القلعة بدمشق الأوسط منها وباب جسر الخندق الشرقي منها وهو الثالث لها أنشأهم في سنة 527 مع دار المسرة بالقلعة والحمام المحدثة من شامها على قضية اخترعها وبنية اقترحها وصفة أثرها فجاءت في نهاية الحسن والطيبة والتقويم والاعتدال وفرغ منها في أوائل سنة 528 وفيها ورد الأمير المنتضى أبو الفوارس وثاب بن مسافر الغنوي رسولاً من مصر في يوم السبت لأربع بقين من ذي القعدة منها بجواب ما كان صدر من مكاتبة شمس الملوك وواصل ما صحبه من الخلع السنية وأسفاط الثياب المصرية والخيل والمال وقرئ الكتاب الوارد على يده الجزء: 1 ¦ الصفحة: 379 ولم يزل مقيماً إلى أن تسهل مسيره فعاد منكفئاً سنة 28 في يوم السبت لليلتين بقيتا من شهر ربيع الأول منها وفي ذي الحجة منها وردت الأخبار بوصول عسكر وافر من التركمان إلى ناحية الشمال وإنهم غاروا على طرابلس وأعمالها من معاقل الافرنج فظفروا بخلق كثير منهم قتلاً وأسراً وحصل لهم من الغنائم والدواب الشيء الكثير وإن صاحب طرابلس قنض طلولاً بن بدران الصنجيلي خرج إليهم فيمن حشده من أعماله ولقي عسكر التركمان فكسروه وأظفرهم الله بحشده المفلول وجمعه المخذول وقتل أكثر رجاله وحل حماته وأبطاله وانهزم في نفر قليل من الحصن المعروف ببعرين فالتجأوا إليه وتحصنوا به ونزل عسكر الأتراك عليه وأقاموا محاصرين له أياماً كثيرة حتى نفد ما فيه من القوت والماء بحيث هلك منهم ومن خيلهم الأكثر فاعملوا الحيلة واستغنموا الغفلة وانتهزوا الفرصة وخرجوا في تقدير عشرين مع المقدم فنجوا ووصلوا إلى طرابلس. وكاتب ملك بنض طلولا صاحبها ملك الافرنج بعكا يستصرخ به وبمن في أعماله ويبعثهم على نصرته فاجتمع إليه من الافرنج خلق كثير ونهضوا إلى التركمان لترحيلهم عن حصن بعرين واستنقاذ من بقي فيه منهم فلما عرفوا عزمهم وقصدهم زحفوا إلى لقائهم فقتلوا منهم جمعاً كثيراً وأشرف التركمان على الظفر بهم والنكاية فيهم لولا إنهم اندفعوا إلى ناحية رفنية فاتصل بهم رحلهم عنها وعودهم على طريق الساحل فشق ذلك عليهم وأسفوا على ما فاتهم من غنائمهم وتفرقوا في أعمالهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 380 وفي هذه السنة عرض لكريم الملك أبي الفضل أحمد بن عبد الرزاق وزير شمس الملوك مرض حاد لم يزل به إلى أن توفي إلى رحمة الله في يوم الأحد الحادي والعشرين من ذي الحجة منها فحزن له الناس وتفجعوا بوفاته وتأسفوا عليه بحسن طريقته ومشكور أفعاله وحميد خلاله وكان محباً للخير متمسكاً بالدين مواظباً على تلاوة القرآن العظيم وفي صفر من السنة نهض صاحب بيت المقدس ملك الافرنج في خيله إلى أطراف أعمال حلب ووصل إلى موضع يعرف بنوار فنهض إليه الأمير سوار النائب في حلب في عسكر حلب وما انضاف إليه من التركمان فالتقوا وتحاربوا أياماً وتطاردوا إلى أن وصلوا إلى أرض قنسرين فحمل الافرنج عليهم فكسروهم كسرةً عظيمةً قتلوا فيها من المسلمين تقدير مائة فارس فيهم جماعة من المقدمين المشهورين المذكورين وقتل من الافرنج أكثر من ذلك ووصل الفل إلى حلب وتم الافرنج إلى قنسرين ثم إلى المقاومة ثم إلى نقرة الأحرين كذا فعاود الأمير سوار النهوض إليهم من حلب في من بقي من العسكر والأتراك فلقوا فريقاً من الافرنج فأوقعوا به وكسروه وقتلوا منه تقدير مائة فارس فانكفت الافرنج هزيماً نحو بلادهم وعاد المسلمون برؤوس القتلى والقلائع إلى حلب فانجلت تلك الغمة بتسهل هذه النعمة. ووصل الملك إلى انطاكية وانتهى إلى سوار خبر خيل الرها فنهض الأمير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 381 سوار وحسان البعلبكي فأوقعوا بهم وقتلوهم عن آخرهم في بلد الشمال وأسروا من وقع في أيديهم حياً وعادوا إلى حلب ظافرين سالمين ومعهم الأسرى والرؤوس سنة ثمان وعشرين وخمسمائة وفي هذه السنة نهض شمس الملوك إسمعيل بن تاج الملوك في عسكره إلى شقيف تيرون. الذي في الجبل المطل على ثغر بيروت وصيدا فملكه وانتزعه من يد ضحاك بن جندل التميمي المتغلب عليه في يوم الجمعة لست بقين من المحرم منها وفي هذه السنة خرج شمس الملوك إلى التصيد أواخر شهر ربيع الآخر بناحية صيدنايا وعسال فلما كان يوم الثلاثاء التاسع منه وقد انفرد من غلمانه وخواصه وثب عليه أحد مماليك جده ظهير الدين أتابك من الأتراك يعرف بايلبا وقد وجد منه خلوةً وفرصةً بالسيف وضربه ضربةً هائلةً يريد بها قطع رأسه فقضى الله تعالى بالسلامة فانقلب السيف من يده ولم يعمل شيئاً ورمى بنفسه إلى الأرض في الحال وضربه ثانيةً فوقعت في عنق الفرس فأتلفه وحال بينه وبين الفرس إلى أن تكاثر عليه الغلمان وتوافوا إليه فانهزم وأنهض في أثره من الخيل من يتعقبه ويطلبه ويتوثق منه وعاد إلى البلد. وقد اضطرب الأمر فيه عند إشاعة هذه الكائنة فسكنت النفوس بسلامته. وجد المنهضون في طلبه من الخيل والغلمان والبحث عنه في الجبال والطرقات والمسالك إلى أن لحقوه فجرح جماعةً بالنشاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 382 إلى أن أمسكوه فلما أحضروه إلى شمس الملوك وقرره وسأله: ما الذي حملك على هذا الفعل. فقال: لم أفعله إلا تقرباً إلى الله تعالى بقتلك وراحة الناس منك لأنك قد ظلمت المساكين والضعفاء من الناس والصناع والمتعيشين والفلاحين وامتهنت العسكرية والرعية. وذكر جماعةً من الغلمان أبرياء أوقعهم في التهمة بأنهم وافقوه على هذا فقبض عليهم وأضافهم إليه وقتل الجميع في الحال صبراً. ولامه الناس على ذلك حيث قتل هؤلاء الغلمان بقول هذا الجاني من غير بينة قامت ولا دلالة ظهرت ولم يكفه قتل من قتل ظلماً حتى اتهم أخاه سونج بن تاج الملوك فقتله وهو كبيره أشنع قتلة بالجوع في بيت وبالغ في هذه الأفعال القبيحة والظلم ولم يقف عند حد وفي يوم السبت الرابع من جمادى الأولى من السنة وصل أثير الملك أبو علي الحسن ابن اقش رسولاً من الدار العزيزة النبوية المسترشدية وعلى يده برسم شمس الملوك التشريف الامامي المندوب لإيصاله إليه وإفاضته عليه ووردت المكاتبات على يده عن الوزير شرف الدين أبي القسم علي بن طراد النقيب الزينبي وزير الخليفة وكان معزولاً عن الوزارة فأعيد إليها في شهر ربيع الأول سنة 528 وصرف عنها الوزير شرف الدين أنوشروان بن خالد صرفاً جميلاً وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية مصر بالخلف الحادث بين ولدي الامام الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد أمير المؤمنين أبي علي الحسن ولي عهد المسلمين وأخيه أبي تراب حيدرة ابني الحافظ واقتسام الأجناد فرقتين أحدهما مائلة إلى مذهب السنة وأهله والاخرى إلى مذهب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 383 الاسماعيلية وحزبه واستعار نار الحرب بينهما واستظهار حزب السنة على حزب الاسماعيلية بحيث قتل منهم خلق كثير وكان أكثر القتل في الريحانية والسودان واستقام الأمر بعده لأبي علي الحسن وتتبع من كان ينصر مذهب الاسماعيلية من المقدمين والدعاة ومن يجري مجراهم فأبادهم بالقتل والتشريد وصلحت الأحوال واستقامت أمور الأعمال بعد الاضطراب والاختلال وورد كتاب الحافظ لدين الله إلى شمس الملوك بهذه الحال في أواخر ذي الحجة من السنة بما تجدد عنده من هذه النعمة وفي ذي القعدة من السنة انتهت الأخبار إلى شمس الملوك من ناحية الافرنج باعتزامهم على نقض المستقر من الهدنة وقبيح الموادعة المستمرة وتأهبهم للجمع والاحتشاد وقصد الأعمال الدمشقية بالعيث والفساد فحين عرف شمس الملوك هذه الحال شرع في جمع الرجال واستدعى التركمان من جميع الأعمال واتصل به نهوض الافرنج إلى ناحية حوران فبرز في العسكر وتوجه إليهم وخيم بإزائهم وشرعوا في اخراب أمهات الضياع الحورانية ووقع التطارد بين الفريقين. وكان الافرنج في جمع كثيف من الخيل والرجل بحيث حصروهم في منزلهم لا يخرج منهم فارس ولا راجل إلا رشقته السهام واختطفه الحمام وأقامت المناوشة بين الفريقين عدة أيام ثم أغفلهم شمس الملوك ونهض في فريق وافر من العسكر وهم لا يشعرون وقصد بلادهم عكا والناصرية وما جاورهما وطبرية وما والاها فظفر بما لا يحصى كثرةً من المواشي والعوامل والنسوان والصبيان والرجال وقتل من صادفه وسبى من ظهر له وأحرق ما وجده وامتلأت أيدي التركمان من غنائمهم. واتصل الخبر بالافرنج فانخذلوا وقلقوا وانزعجوا وأجفلوا في الحال من منزلهم طالبين أعمالهم وعرف شمس الملوك ذاك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 384 فانكفأ إلى مخيمه على طريق الشعراء سالماً في نفسه وجملته ظافراً غانماً. ووصل الافرنج إلى أعمالهم فشاهدوا ما حل بها ونزل بأهلها من البلاء فساءهم ذاك وفت في أعضادهم وانفلت شكتهم وانقصفت شوكتهم وتفرق شملهم وذلوا وطلبوا تقرير الصلح بينهم وعاد شمس الملوك إلى دمشق مسروراً في آخر ذي الحجة من السنة وفيها وردت الأخبار باجتماع الأمير عماد الدين أتابك والأمير حسام الدين تمرتاش ابن ايل غازي بن ارتق على بلاد الأمير داود بن سكمان بن ارتق ونهض إليهما في عسكره والتقى الفريقان على باب آمد فانهزم داود وانفل عسكره وأسر بعض أولاده وقتل جماعة من أصحابه وذلك في يوم الجمعة سلخ جمادى الآخرة ونزل على آمد وحصرها وقطع شجرها ولم يحصل منها على طائل فرحل عنها ووردت الأخبار بأن عماد الدين أتابك نزل على القلعة المعروفة بالصور وضايقها وافتتحها في رجب من السنة. وفيها ورد الخبر من ناحية بغداد بوقوع النار في بعض محالها فاحترق الخان المشهور بمخازن التجار وكثير من الأسواق وتلف للتجار الحاضرين والغائبين من جميع الجهات ما لا يحصى من أموالهم وبضائعهم. وفيها ورد الخبر بأن عماد الدين أتابك استوزر ضياء الدين أبا سعيد الكفرتوثي وهو مشهور بحسن الطريقة والكفاية وحب الخير والمقاصد السديدة والمذاهب الحميدة. وفيها وردت الأخبار من ناحية العراق بوفاة السلطان طغرل بن السلطان محمد بن ملك شاه رحمه الله. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 385 وفيها تواصلت الأخبار من ناحية الأمير عماد الدين أتابك باعتزامه على التأهب لقصد مدينة دمشق لمنازلتها ومحاصرتها وإنه منصرف الهمة إلى الاستعداد لذلك. سنة تسع وعشرين وخمسمائة في أول المحرم هرب الحاجب يوسف بن فيروز شحنة دمشق إلى تدمر خوفاً من شمس الملوك إسمعيل بن تاج الملوك بوري شرح السبب في ذلك كان الحاجب المذكور في جاه تاج الملوك متمكن الرتبة عنده مقبول الرأي فيما يرومه وقد صرف همه ووكده إلى تطلب معقل حصين بعده لنائبة تنوب وخطب من خطوب الزمان تتجدد واتفق إن الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك المقيم بتدمر قد سئم المقام بها وضجر من كونه فيها وارتاحت نفسه إلى دمشق والاقامة فيها وجعل يراسل أباه تاج الملوك ويسأله نقله عنها ولم يزل إلى أن أجيب إلى مقترحه وأسعف بمطلبه. فوجد يوسف بن فيروز الغرض الذي يتطلبه قد تسهلت أسبابه فشرع في الحديث فيه والخطاب بسببه والاستعانة بمن يعينه على ذلك من المقدمين والوجوه إلى أن تسهل الأمر وأجيب إليه وعول في تولي أمر تدمر عليه وتسلمها وحصلت في ولايته ورتب فيها ولده مع من وثق به في حفظها والذب عنها من ثقات أصحابه وأمناء نوابه وشرع في تحصينها ومرمتها ولم شعثها وشحنها بالغلة والعدد وحصل فيها كل ما يحتاج مثلها إلى مثله. فلما عرف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 386 من شمس الملوك التنكر عليه وظهر له فساد نيته فيه وبان ذلك له من ثقات يسكن إليهم ولا يشك فيهم وحمله الخوف من المعاجلة له والايقاع به فهم بالهروب إلى تدمر وترقب الفرصة في ذلك إلى أن اتفق لشمس الملوك في بعض الجهات خروج فخرج من البلد آخر النهار وسره مكتوم عن الخل والجار وقصد ضيعته لمشاهدتها وقد استصحب خواص أصحابه وغلمانه ثم تم على حاله مغذاً في سيره مجداً في قصده إلى أن حصل بتدمر آمناً مما توقاه ظافراً بما رجاه. وظهر خبره في غد ذلك اليوم فحين عرف شمس الملوك جلية حاله ضاق صدره لافلاته من يده وتضاعف ندمه لفوات الأمر فيه وكاتبه بما يطيب نفسه ويؤنسه بعد استيحاشه فلم يصغ إلى ذلك بل أجابه جواب الخاضع والطائع والعبد الناصح والمستخدم المخلص ويقول: إنني في هذا المكان خادم في حفظه والذب عنه فلما وقع اليأس وعلم إن المقال لا ينجع حنق عليه وذكره بكل قبيح وأظهر ما يسره في نفسه ولم يعرض لشيء من ملكه وداره وأقطاعه وأهله وأسبابه. وتجدد بعد ذلك ما يذكر في موضعه وكان هروبه في ليلة الجمعة لليلة خلت من المحرم سنة 529 من الضيعة الجارية في أقطاعه المعروفة بالمنيحة من الغوطة وفي هذه السنة شاعت الأخبار في دمشق بين خاصتها وعامتها عن صاحبها الأمير شمس الملوك أبي الفتح إسمعيل بن تاج الملوك بوري بن ظهير الدين أتابك بتناهيه في ارتكاب القبائح المنكرات وإيغاله في اكتساب المآثر المحظورات الدالة على فساد التصور والعقل وصداء الحسن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 387 وظهور الجهل وتبلد الفهم وحب الظلم وعدوله عما عرف فيه من مضاء العزيمة في مصالح الدين والمسارعة إلى الجهاد في الأعداء الملحدين وشرع في مصادرات المتصرفين والعمال وتأول المحال على المستخدمين في الأعمال واستخدم بين يديه كردياً جاءه من ناحية حمص يعرف ببدران الكافر لا يعرف الاسلام ولا قوانينه ولا الدين وشروطه ولا يرقب في مؤمن ولاء ذمة ونصبه لاستخراج مال المصادرين من المتصرفين والأخيار المستورين بفنون قبيحة اخترعها في العقوبات وأنواع مستبشعة في التهديد لهم والمخاطبات. وظهر من شمس الملوك مع هذه الحال القبيحة والأفعال الشنيعة بخل زائد وإشفاق نفس إلى الدنايا متواصل بحيث لا يأنف من تناول الخسيس الحقير بالعدوان وأخذه من غير وجهه بالعتو والطغيان وأشياء من هذا الباب لا حاجة إلى ذكرها لاشاعتها واشتهار أمرها بحيث أنكرت من أفعاله واستبشعت من أمثاله ولم يكفه ما هو عليه من هذه الأفعال الذميمة والخصال المكروهة حتى أسر في نفسه مصادرة كفاته من الكتاب وخواصه من الأمراء والحجاب وعزم على الابتداء أولاً بالحاجب سيف الدولة يوسف بن فيروز أحظى من كان عند أبيه أولاً وعنده ثانياً واشتهر عنه حتى هرب إلى تدمر منه ورأى الغنيمة الكبرى ببعده من شره وراحته من نظره. وكاتب في أثناء هذا الاختلال والاضطراب الأمير عماد الدين أتابك حين عرف اعتزامه على قصد دمشق لمنازلتها ومضايقتها والطمع في ملكتها يبعثه على سرعة الوصول إليها ليسلمها إليه طائعاً ويمكنه من الانتقام من كل من يكرهه من المقدمين والأمراء والأعيان بإهلاكهم وأخذ أموالهم وإخراجهم من منازلهم لأمر تصوره وهذيان في نفسه قرره وتابع الكتب إليه بالمسئلة في الاسراع والبدار وترك التلوم والانتظار ويقول له في أثناء هذا المقال وإن اتق إهمال لهذا الأمر وإغفال أو إمهال أحوجت إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 388 استدعاء الافرنج من بلادهم وسلمت إليهم دمشق بما فيها وكان إثم دم من بها في رقبته وأسر ذلك في نفسه ولم يبده لأحد من وجوه دولته وأهل بطانته وكانت كتبه بذلك بخط يده وشرع في نقل المال والأواني والثياب من خزانته إلى حصن صرخد حتى حصل الجميع به ظناً منه إنه يفوز به ويهلك جميع الناس من بعده. فلما بدأ هذا الأمر يظهر واسر فيه ينتشر شرع في القبض على أصحابه وكتابه وعماله وغيرهم من أهل دمشق ومقدمي الضياع امتعض الأمراء والمقدمون ووجوه الغلمان الأتابكية وكافة العسكرية والرعية من هذا الفعل وأشفقوا من الهلاك والبوار إن تم هذا التدبير المذموم لما يعلمون من أفعال عماد الدين أتابك إذا ملك البلد فأجروا الحديث فيما بينهم سراً. وأنهوا الحال فيه إلى والدته الخاتون صفوة الملك فقلقت لذاك وامتعضت منه واستدعته وأنكرته واشتبشعت وحملها فعلها الجميل ودينها القويم وعقها الرصين على النظر في هذا الأمر بما يحسم داءه ويعود بصلاح دمشق ومن حوته وتأملت الأمر في ذلك تأمل الحازم الأريب والمرتأي المصيب فلم تجد لدائه دواء ولا لفمه شفاء إلا بالراحة منه وحسم أسباب الفساد المتزايد عنه وأشار عليها وجوه الغلمان وأكابرهم بذاك واستصوبوا رأيها فيه وبعثوها على المعاجلة له قبل ظهور الشر وفوات الأمر وإنه لا ينفع فيه أمر ولا ينجع معه وعظ. فصرفت الهمة إلى مناجزته وارتقبت الفرصة في خلوته إلى أن تسهل الأمر المطلوب عند خلوته من غلمانه وسلاحيته فأمرت غلمانها بقتله وترك الامهال له غير راحمة له ولا متألمة لفقده لما عرفت من قبيح فعله وفساد عقله وسوء سيرته ومذموم طريقته وأوعزت بإخراجه حين قتل وإلقائه في موضع من الدار ليشاهده غلمانه. وكل سر بمصرعه وابتهج بالراحة منه وبالغ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 389 في شكر الله تعالى على ما سهله فيه وأكثر الدعاء لها والثناء عليها وذلك ضحى نهار يوم الأربعاء الرابع عشر من ربيع الآخر سنة 529. وقد كان مولده ليلة الخميس السابع بالعدد من جمادى الآخرة سنة 506 في الساعة الثانية منها والطالع برج السرطان أو المشتري فيه كمح مح والمريخ في السنبلة والزهرة في الخامس والعقرب والشمس في السادس من القوس والقمر وزحل في التاسع وسهم السعادة في العاشرسادس من القوس والقمر وزحل في التاسع وسهم السعادة في العاشر وقد كان المعروف ببدران الكافر لعنه الله في يوم الثلاثاء المتقدم ليوم الأربعاء الذي قتل فيه وقد راح من بين يديه بعد أن أسر إليه بشر يعمل عليه له. فلما حصل في بيته وقت الظهر من يومه المذكور أرسل الله تعالى ذكره عليه آفةً عظيمة أخذت بأنفاسه وربا لسانه حتى ملأ فاه وهلك من وقته وكانت الكائنة في غده فبالغ الكافة في حمد الله تعالى وشكره على هذه الآية الباهرة والقدرة الظاهرة وواصلوا تسبيحه وتقديسه وتمجيده فسبحان مالك الأمر ومدبر الخلق تعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً وفي الوقت نودي بشعار أخيه الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بن أتابك جلس في منصبه بمحضر من والدته خاتون صفوة الملك وحضر الأمراء وأماثل الأجناد وأعيان الرعية فسلموا عليه بالامرة واستحلفوا على الطاعة له ولوالدته والمناصحة في خدمتهما والنصرة لأوليائهما والمجاهدة في أعدائهما وحلف كل منهم بانشراح من صدره وانفساح من أمله وظهر من سرور الكافة خاصيها وعاميها بهذه النوبة السعيدة والأفعال الحميدة ما يزيد على الوصف وأيقنوا بالخلاص من المكروه الذي أشرفوا عليه واستقامت الأحوال وتحققت الآمال وتتابعت المكاتبات في أثناء ذلك من سائر الجهات بوصول عماد الدين في عسكره وقطعه الفرات مجداً لتسلم دمشق من شمس الملوك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 390 صاحبها ووصلت رسله لتقرير الأمر فصادفوا الحال بالضد والتدبير بالعكس إلا إنهم أكرموا وبجلوا وأحسن إليهم وأعيدوا بأجمل جواب وألطف خطاب وأعلم عماد الدين جلية الحال واتفاق الكلمة في حفظ الدولة والذب عن الحوزة والبعث على اجمال الرعاية والعود على أحسن نية فلما انتهى إليه الجواب ووقف عليه لم يحفل به ولا أصاخ إلى استماعه فأوهمته نفسه بالطمع في ملكة دمشق ظناً منه بأن الخلف يقع بين الأمراء والمقدمين من الغلمان فكان الأمر بخلاف ما ظن وواصل الرحيل وأغذاذ السر إلى أن وصل إلى ظاهر دمشق وخيم بأرض عذراء إلى أرض القصير في عسكر كثيف الجمع عظيم السواد في أوائل جمادى الأولى في سنة 519. وقد كان التأهب له مستعملاً عند ورود أخبار عزيمته وأجفلت الضياع وحصل أهلها في البلد ووقع الاستعداد لمحاربته واللقاء عند منازلته والاجتماع على صده ودفعه ولم تزل الحال على هذه القضية والانتصاب بإزائه على هذه السجية وقد أشعرت النفوس من شدة البأس والصبر على المراس للقائه والتأهب لزحفه ودنوه من البلد وقربه وقد كان رحل عن عذارء ونزل تحت العقبة القبلية وكان يزحف في عسكره وقد فرقه في عدة مواضع كالمراكب حتى تقرب من البلد فيشاهد كثرة من يخرج من البلد والعسكرية وأحداث الرعية بالسلاح الشاك وامتلأ المصلي وسائر الأماكن والكمناء في جميع المسالك ما يروعه ويصده عن الزحف وفي كل يوم يصل من مستأمني عسكره جملة وافرة مع ما ينهب من خيولهم ويقلع من فوارسهم فلما طالت الأيام عليه ولم يحصل على طائل مما حاول ولا مرام راسل في طلب الصلح والدخول في طاعته والتمس خروج الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك إليه لوطء بساط ولد السلطان الواصل معه ويخلع عليه ويعيده إلى بلده وأجمل الخطاب في ذلك والوعد فلم يجب إلى خروج شهاب الدين وتقررت الحال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 391 على خروج أخيه تاج الملوك بهرام شاه بن تاج الملوك. ووافق ذلك وصول الرئيس بشر بن كريم بن بشر رسولاً من الامام المسترشد بالله أمير المؤمنين إلى عماد الدين أتابك بخلع أعدت له والأمر بالرحيل عن دمشق وترك التعرض لها والوصول إلى العراق لتولي أمره والتدبير له وأن يخطب للسلطان البارسلان المقيم بالموصل ودخل الرسول المذكور والقاضي بهاء الدين ابن الشهرزوري إلى دمشق لتقرير الأمر ولإحكام القاعدة في الجمعة في الثامن والعشرين من جمادى الأولى فتقرر الأمر ووكدت الايمان وحضرا الجامع لصلاة الجمعة وخطب للسلطان البارسلان على المنبر بأمر أمير المؤمنين وعاد إلى العسكر الأتابكي وخرج بهرام شاه فأكرمه وأعاده على أجمل قضية ورحل في يوم السبت غد ذلك اليوم منكفئاً والقلوب قد أمنت بعد الوجل والنفوس قد سكنت بعد الاضطراب والوهل والشكر له متواصل والثناء عليه متكامل. فلما حصل بحماة أنكر على شمس أمراء الخواص واليها أمراً أظهر له منه وتزايد شكوى أهلها لأصحابه ونوابه فعزله عنها وقرر من رآه في ولايتها. وقد كان ظهر من الأمير شجاع الدولة بزواج ومعين الدين أنر من حسن السياسة في تدبير العسكرية والأجناد عند الترتيب في الحرب ما وافق الأعراض وطابق الاصابة والسداد بحيث شكرا وحمدت مقاصدهما وفي ذي القعدة منها وردت الأخبار من العراق باستشهاد الامام الخليفة المسترشد بالله أبي منصور الفضل بن المستظهر بالله أمير المؤمنين رحمه الله عليه ورضوانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 392 شرح السبب في ذلك قد مضى ذكر ما كان من الخليفة المفقود في معنى السلطان مسعود بن السلطان محمد بن ملك شاه من تقرير السلطنة له ورد تدبير الأعمال والأمر بالدعاء له على منابر البلاد وتشريفه بالخلع والحملان الكامل. وعقيب هذا الفعل الجميل ظهر لأمير المؤمنين المسترشد بالله أمور أنكرها وبلغته أسباب امتعض منها وبدت منه أفعال أكبرها فرام استعطافه واستعادته إلى الواجب المألوف في طاعة الخلفاء فامتنع وحاول استمالته إلى الصواب المعروف في المناصحة وحسن الوفاء فلم ينفع وبعثه على الحق الذي هو خير من التمادي في الباطل فلم يقبل. فأفضت الحال صرف الهمة العلية المسترشدية إلى مداواة هذا الداء والاستعداد له إلى أن أعضل بالدواء ولم ير فيه أنجع من التأهب لقصده والاحتشاد للإيقاع به وصمده لأن أخباره كانت متناصرةً بعزمه على قصد بغداد والاخراب لها والاعاثة في نواحيها فرأى الصواب في معاجلته ومقابلة فعله بمثله واتفق وصول جماعة من وجوه عسكره ومقدمي جنده لخدمة الخليفة والمعاضدة له على محاربة عدوه وشرعوا في تحريضه على البروز إليه والمسارعة للإطلال عليه فتوجه نحوه في تجمل يعجز عنه الوصف ويقصر دونه النعت وقد اجتمع إليه من أصحاب الأطراف وأصناف الأجناد الخلق الكثير والجم الغفير الذي بمثله قويت نفسه واشتد بأسه ولم يشك أحد في إنه الظافر به والمستولي على حزبه. فلما قرب من مخيمه بناحية همذان ووقع العيان على العيان زحف إليه في عسكره والتقى الجمعان واتفق للقضاء المكتوب والقدر المحجوب إن أمراء الأتراك الواصلين لخدمة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 393 الخليفة في عسكره خامروا عليه بمواطأة كانت وتقريرات تقررت وبانت فانقلبوا عنه وأسلموه وعملوا عليه وأغنموه بحيث تفرقت عنه جماعة وخذله أبطاله وكماته وثبت هو وخواصه في المصاف يقاتلون ولا يولون إلى أن انفل عنه حزبه وضعف أمره وغلب على نفسه فأخذوه ووزيره النقيب وكاتبه سديد الدولة بن الأنباري وصاحب مخزنه وخدمه وخاصته وحملوه مع أصحابه المذكورين إلى خيمه ووكل بجماعة من يحفظهم ويتوثق منهم ويحتاط عليهم وكتبت المطالعات إلى السلطان سنجر بن ملك شاه صاحب خراسان بصورة الحال والاستئذان بما يعتمد في بابه ووعد السلطان مسعود الخليفة ومن معه بالاطلاق وإعادتهم إلى بغداد وتقرير أمر الخلافة على ما جرى به الرسم قديماً فلما عاد الجواب من السلطان سنجر في هذا الباب وتقرير ما اقتضاه الرأي في أمر الخلافة بين السلطانين المذكورين ندب عدة من الرجال تقدير أربعة عشر رجلاً نسبوا إلى إنهم من الباطنية فقصدوا الخليفة في خيمته وهو مطمئن لا يشعر بما نزل به من البلاء وأحاط به من محتوم القضاء وهجموا عليه فقتلوه في يوم الخميس الثامن عشر من ذي القعدة سنة 529 صبراً وقتلوا معه من أصحابه وفراشيه من دافع عنه ومانع دونه. وشاع الخبر بذاك بناحية مراغا على مرحلتين منها ودفن بها واستبشع الناس هذا الفعل الشنيع والقصد الفظيع في حق خليفة الزمان وابن عم رسول الله عليه أفضل الصلاة والرضوان وأكبروا الجرأة على الله والاقدام على هذا المنكر في الاسلام والدم الحرام وأطلقوا الألسنة بالدعاء والذم على من استحسن هذا الفعل القبيح ودبر هذا الخطب الشنيع وتيقن كل إنسان من الخاص والعام إن الله تعالى لا يمهل المقدم عليه ولا يرضى بفعل المجرم إليه لأنه جلت قدرته لا يصلح عمل المفسدين ولا يهدي كيد الخائنين ولا يمهل عقوبة الظالمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 394 ولما انتهى هذا الخبر إلى ولده ولي عهده تقدم بتحصين بغداد والتأهب لدفع من يقصدها بسوء من الأعداء والمخالفين وبويع بالخلافة في يوم السبت السابع والعشرين من ذي القعدة سنة 529 ولقب بالراشد بالله أبي جعفر المنصور بن المسترشد بالله أمير المؤمنين وجلس في منصب الخلافة في ذي الحجة سنة 529 واستقام له الأمر وتوكدت له البيعة على الرسم ووعد كافة الأجناد والعسكرية وأماثل الرعية بما طيب نفوسهم وشرح صدورهم وأطلق مال النفقات والواجبات على جاري العادة فكثر الدعاء له والثناء عليه وسكنت الدهماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 395 سنة ثلاثين وخمسمائة في المحرم منها وردت الأخبار من ناحية العراق بقتل الأمير دبيس بن صدقة بن مزيد قتله السلطان مسعود بن محمد لأمور أنكرها وأسباب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 396 امتعض منها نسبت إليه وقيل إن هذا مكافأة من الله تعالى له عما كان منه في عصيان الخليفة الامام المسترشد بالله أمير المؤمنين والسعاية في دمه. وكان هذا الخليفة المسترشد بالله أمير المؤمنين رحمه الله عالماً تقياً فاضلاً حسن الخط بليغاً نافذاً في أكثر العلوم عارفاً بالفتوى واختلاف الفقهاء فيها أشقر الشعر أشهل العينين بوجهه نمش وكانت مدة خلافته سبع عشرة سنة وما الله بغافل عما يعمل الظالمون. وفي شهر ربيع الأول منها تسلم الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك مدينة حمص وقلعتها شرح الحال في ذلك لما عرف من كان بحمص وقلعتها من أولاد خيرخان بن قراجه وخمارتاش الوالي من قبلهم فيها ما استمر عليها من مضايقة الأمير عماد الدين أتابك لها وبذل جهده وحرصه في تملكها وأخذها وأخذه حماة المجاور لها وجده في طلبها وإضعاف أهلها ومواصلة الغارات عليها وإنهم لا طاقة لهم بضبطها لقلة القوت بها وعدم الميرة فيها أنفذوا رسلهم إلى شهاب الدين يلتمسون منه إنفاذ من يراه لتسلم حمص وقلعتها ويعوضهم عنها بما يتفق عليه الرأي. وتوسط الحاجب سيف الدولة يوسف بن فيروز المقيم بتدبير الأمر في ذلك طمعاً في الكون بها والانتقال من تدمر إليها لكونها من الأماكن الحصينة والقلاع المنيعة واستأذن في الوصول إلى دمشق للحديث وتقرير الحال في ذلك فأذن له ووصل إلى دمشق وجرى في ذلك خطاب طويل أفضى آخره إلى أن تسلم حمص وقلعتها إلى شهاب الدين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 397 وتسلم إلى خمارتاش تدمر عوضاً عنها ووقع الشرط واليمين على هذه الصفة. وبرز شهاب الدين من دمشق في العسكر وتوجه إليها فحين حصل بها نزل خمارتاش من القلعة وأولاد خيرخان وأهله بما يخصهم وسلموها إليه فتسلمها يوم الأحد الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 530 وحصل بها ورتب أمرها وقرر ولايتها للحاجب يوسف بن فيروز وأن يكون فيها نائباً عن الأمير معين الدين أنر الأتابكي حسب ما استقر وكتب إلى الجهات والأطراف بحمل الأقوات إليها والتقوية لها بالميرة وعاد شهاب الدين عنها بعد تقرير أمرها منكفئاً إلى دمشق. وشرع الأمير سوار النائب عن عماد الدين في حلب ومن بحماة من قبله في الغارات على أعمال حمص ورعي زرعها وجرى في ذلك مراسلات ومخاطبات أسفرت عن المهادنة والموادعة والمسالمة إلى أمد معلوم وأجل مفهوم بحيث انحسمت أسباب الفساد عن الجهتين واستقامت أحوال الجانبين وفي يوم الأحد الرابع والعشرين من جمادى الأولى من السنة خلع شهاب الدين على أمين الدولة كمشتكين الأتابكي والي صرخد وبصرى الخلع التامة ورد إليه اسفهسلارية العسكرية وخوطب بالأتابكية وأنزل في دار الكبيرة الأتابكية بدمشق وحضر الناس لهنائه فيها وأوعز إلى الكافة باتباع رأيه والامتثال لأمره. وفي يوم الأربعاء السابع والعشرين من جمادى الآخرة من هذه السنة قتل الحاجب يوسف بن فيروز في ميدان المصلى بدمشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 398 شرح السبب في ذلك كان الحاجب يوسف بن فيروز المقدم ذكره عند كونه في خدمة شمس الملوك إسمعيل بن تاج الملوك وتمكنه عنده وارتفاع طبقته لديه قد اعتمد في حق مقدمي الغلمان الأتابكية ما أوحشهم منه وبلغهم ما ضيق صدورهم عنه وأسروا ذلك في نفوسهم وأخفوه في قلوبهم لا سيما ما قصده في نوبة الغلمان الذين قتلهم شمس الملوك مع أخيه سونج بن تاج الملوك بسبب اتهمهم بكونهم مع ايلبا الغلام التركي الذي كان وثب على شمس الملوك وضربه بالسيف طالباً قتله فسلمه الله منهم ونجاه حسب ما تقدم به الشرح وكونه أكبر السعاة عليهم والسبب في قتلهم على عادة قد ألفيت من فعله وطريقة قد عرفت من طبعه وقد كان حصل بتدمر وأهمل أمره ونسي ما سبق به شره. فلما راسل من تدمر من يطلب الأذن في الوصول إلى دمشق لتقرير أمر حمص وأوجب إلى الأذن في ذلك أنكر الأمير شجاع الدولة بزواج والحاجب سنقر وأكابر الغلمان الأتابكية الأذن له في ذلك وامتعضوا من وصوله كل الامتعاض لما عرفوا من سوء فعله ومشهور سعيه وختله وأشاعوا بينهم ما هم عازمون عليه من العمل على قتله. ونصحه أهل وده والاشفاق عليه والمتقربين إليه بذاك فأبى القبول منهم وأخذ النصح منهم وقويت نفسه على التغرير بها والمخاطرة باتباع هوائها. وتمسك بمدافعة الأمير معين الدين عنه والمنع منه لصداقة كانت بينهما قد استحكمت قواها ووصلة انعقدت وأحكمت عراها ولما وصل إلى دمشق توثق لنفسه من الجماعة بأيمان سكنت إليها نفسه وتوكد معها أنسه وقرر معه إنه يكون يحضر للسلام في كل يوم ويعود إلى داره ويقنع بالكون في ملكة دمشق والتنقل منها إلى حمص ولا يداخل نفسه في أمر غير ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 399 فما هو إلا إن حصل بها وجعل يدبر أمراً غير خاف ويقرر تقريراً غير مكتوم ولا مستتر فأثار بذلك ما كان في نفوس الغلمان كامناً وحرك ما كان في القلوب ساكناً. ووجد الأمير بزواج والغلمان السبيل إلى نقض ما عوهدوا عليه باعتماده المخالفة لما قرروه معه وسكنوا إليه ولاحت الفرصة لهم فيه ولما كان في يوم المقدم ذكره وقد تقرر الأمر بينهم على الفتك به صادفه شجاع الدولة بزواج المقدم ذكره في الميدان المجاور للمصلى بظاهر دمشق فماشاه ساعةً بالحديث وقد خلا من أصحابه وأغفله وجرد سيفه وضربه به ضربةً عظيمةً في وجهه إلى رأسه وثنى بأخرى فسقط إلى الأرض وأجهز عليه آخر من الغلمان ولم يتجاسر أحد من أصحابه من الدنو منه ولا الدفع عنه لقوة شوكة الغلمان واتفاق كلمتهم على قتله وانهزم شهاب الدين وأصحابه من الميدان إلى داره وبقي ساعةً مطروحاً على الأرض في الميدان يشاهد مصرعه ويعتبر اللبيب بمنظره ثم حمل إلى المسجد الذي بناه فيروز أبوه بالعقيبية فدفن عند قبره في يومه في تربته. وأنفذ بزواج وسنقر وجماعة الغلمان إلى شهاب الدين ووالدته الخاتون مراسلات ومعاتبات على ما اعتمداه من الأذن له في العود إلى دمشق بعد ما كان من فعله في حق من قتل بسعيه من الغلمان واشترطوا أموراً وقع الآباء لها والاستيحاش منها ومن طلب مثلها وامتنع الغلمان وأكثر الأتراك من الدخول إلى البلد والعود إلى دورهم إلا بعد تقرير أمر بزواج وجماعة الغلمان والدخول فيما راموه وتطييب نفوسهم بالاجابة إلى ما حاولوه واندفعوا إلى ناحية المرج فنزلوا فيه وخيموا في ناحية من نواحيه وترددت بينهما مراسلات لم تسفر عن سداد ولا نيل مراد فأظهروا الخلاف الجزء: 1 ¦ الصفحة: 400 وكاشفوا بالعصيان والانحراف وعمدوا إلى خيل الجشار فاستاقوها واشتملوا على جميعها وهي العدد الكثير لسائر الأمراء والعسكرية والرعية من أنواع الدواب ولها قيمة عظيمة وتوجهوا بها في يوم الجمعة السابع والعشرين من جمادى الأولى من السنة من تل راهط إلى ناحية المرج. وخرج إليهم من بقي في البلد من العسكر مع الأمراء والمقدمين وهم منهم أكثر عدداً وأتم عدداً طلباً للإيقاع بهم وتخليص الجشار من أيديهم فما أغنوا فتيلاً ولا أعادوا مما أخذوا كثيراً ولا قليلاً ورحلوا به إلى صوب بعلبك. فخرج إليهم الأمير شمس الدولة محمد ابن تاج الملوك صاحبها ووقعت الموافقة والمعاهدة بينهم على إقامته والدخول في طاعته والمناصحة في خدمته واجتمع إليه خلق كثير من التركمان فأخافوا السبيل وشرعوا في العيث والفساد واقتضت الحال مراسلتهم بالملاطفة ودعاهم إلى الطاعة وترك المخالفة وتطييب نفوسهم وبعثهم على العود إلى ما كانوا عليه والاجابة إلى ما اقترحوا وأشاروا إليه واستقرت الحال على مرادهم وأخذت الأيمان الموكدة عليهم ولهم بالوفاء واستعمال الاخلاص والصفاء وأذن لهم في العود فعادوا إلى البلد وخيم بزواج وجماعته بجسر الخشب وامتنع من الدخول إلى داره لما رأه وجال في نفسه. واتفق الرأي على خروج شهاب الدين في العسكر إلى ناحية حوران على الرسم في ذلك والاجتماع هناك وتقرير ما يجب تقريره من الأحوال والبعث على تحصيل الغلال واتفق الرأي في أوائل شعبان على تقديم بزواج على سائر الأجناد والغلمان ورد إليه الاسفهسلارية وخوطب بالأتابكية وكتب بجمال الدين مضافاً إلى ألقابه فاستقام له الأمر ونفذ في النفع والضر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 401 وفي العشر الأول من رجب من السنة خرج أمين الدولة كمشتكين الأتابكي والي صرخد من دمشق مظهراً قصد الصيد والإشراف على ضياعه لأجل الجراد الظاهر بها في خواصه وثقله وفي النفس ضد ذاك فلما توارى عن البلد أغذ السير قاصداً سمت صرخد ومفارقاً لما كان فيه خوفاً على نفسه من الغلمان بحيث حصل بها وسكنت نفسه من الخوف فيها. ثم روسل بالاستعطاف والتلطف في العود إلى داره ومنزلته والانكفاء إلى رتبته فأبى واحتج بأسباب ذكرها وأحوال شرحها ونشرها فوقع السلو عنه واليأس منه وفي يوم السبت الثالث عشر من شعبان سنة 530 وردت الأخبار من ناحية الشمال بنهوض الأمير مسعود سوار من حلب فيمن انضم إليه من التركمان إلى الأعمال الافرنجية فاستولوا على أكثرها وامتلأت أيديهم بما حازوه من غنائمها وتناصرت الأخبار بهذا الظفر من جميع الجهات والاستكثار لذلك والتعظيم له ولقد ورد كتاب من شيزر يتضمن البشرى بهذه النوبة ويشرحها على جليتها فأثبت مضمونه في هذا الموضع تأكيداً للخبر وتصديقاً لما وصف وذكر وهو: إن المتجدد عندنا بهذه الناحية ما يجب علينا من حيث الدين أن نذيعه ونبشر به كافة المسلمين فإن التركمان كثرهم الله ونصرهم اجتمعوا في ثلاثة ألف فارس جريدةً معدةً ونهضوا إلى بلاد اللاذقية وأعمالها بغتةً بعد اليأس منهم وقلة الاحتراز من غارتهم وعادوا من هذه الغزاة إلى شيزر يوم الأربعاء حادي عشر رجب ومعهم زيادة عن سبعة ألف أسير ما بين رجل وامرأة وصبي وصبية ومائة ألف رأس دواب ما بين بقر وغنم وخيل وحمر والذي حازوه واحتاجوه يزيد عن مائة قرية كبار وصغار وهم متواصلون بحيث قد امتلأت الشام من الأسارى والدواب. وهذه نكبة ما مني الافرنج الشماليون بمثلها وبعد هذا لا يبع منهم أسير إلا بثمنه ولا نقص السعر الأول وهم سائرون بهم إلى حلب وديار بكر والجزيرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 402 وفي آخر نهار يوم الأربعاء الرابع وعشرين من أيار طلع على دمشق سحاب أسود أظلمت الدنيا له وصار الجو كالليل ثم طلع بعد ذلك سحاب أحمر أضاءت الدنيا منه وصار الناظر إليه يظن إنه نار موقدة وكان قد هب قبل ذلك ريح عاصف شديدة أذت كثيراً من الشجر وقيل إنه في هذا الوقت والساعة جاء في حوران برد كبار ومطر شديد بحيث جرت منهما الأودية وجاء في الليلة مطر عظيم زاد منه برداً زيادةً لم ير مثلها عظماً وفي المحرم من هذه السنة في الثالث عشر منه أرسل الله تعالى من الغيث ما طبق الأعمال الدمشقية بحيث سالت به الأودية والشعاب وزاد المد في الأنهار بحيث اختلطت وانكسر نهر يزيد ونهر باناس والقنوات والتقت المياه وبطلت الأرحية ودخل المال إلى بعض بيوت العقيبة وذكر جماعة من الشيوخ المعمرين إنهم لم يشاهدوا في مثل هذا الوقت مثل ذلك وفي شعبان من هذه السنة وردت الأخبار من ناحية العراق بأن السلطان مسعود ابن محمد بن ملك شاه حضر بغداد وضايق الامام الخليفة الراشد بالله بن الامام المسترشد بالله أمير المؤمنين ومعه السلطان داود ابن أخيه والأمير عماد الدين أتابك زنكي بن اق سنقر واقتضى التدبير حين لم ينل منها غرض ولم يظفر بمراد ولا بد من اللقاء والمحاربة العود عنها فعاد السلطان داود إلى بلاده وعماد الدين أتابك إلى الموصل وأقام السلطان مسعود على رسمه في بغداد وحين رأى الامام الراشد بالله إقامة السلطان على الاستيحاش منه زادت وحشته وعلم إنه لا طاقة له بالمقام معه وخاف على نفسه فتبع عماد الدين إلى الموصل ونزل بظاهرها وخيم به كالمستجير والعائذ به. وحين خلت بغداد من الخليفة وتدبيره تمكن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 403 من كل ما يريد فعله ويروم قصده فأقام في منصب الخلافة أبا عبد الله محمد أخا المسترشد بالله ولقبه المقتفي لأمر الله وعمره أربعون سنةً وأخذ البيعة له على جاري الرسم وخطب له على المنابر في بلاده فقط في ذي القعدة سنة 530 وبقي الأمر واقفاً إلى أن تقرر الصلح بين السلطان مسعود وبين عماد الدين أتابك في سنة 531 فخطب له وللسلطان في الموصل وسائر الأعمال وسيأتي ذكر ذلك مشروحاً في موضعه وفي هذه السنة سنة 530 تشتى السلطان مسعود ببغداد وأتابك عماد الدين والامام الراشد بالله ووزيره جلال الدين أبو الرضا بن صدقة بظاهر الموصل وفيها وردت الأخبار في ذي القعدة منها بظهور متملك الروم من القسطنطينية وحكي إن طالع ظهوره كان عشر درج من الميزان وإن الزهرة والمشتري في العاشر والشمس في الأسد والمريخ في السابع والله أعلم بالغيب. وفي يوم الجمعة السابع عشر من شهر رمضان من السنة قتل الرئيس محيي الدين أبو الذواد المفرج بن الحسن بن الحسين الصوفي رئيس دمشق بظاهر المسجد الجديد قبلي المصلى في اليوم المذكور والسبب في ذلك إن الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك صاحب دمشق والأمير بزواج والحاجب سنقر كانوا قد أنكروا عليه أموراً بلغتهم عنه وأحوالاً استوحشوا بسببها منها فشرعوا في افساد حاله وتحدثوا في أخذ ماله وتقررت الحال فيما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 404 بينهم على هذه الصورة في المخيم بحوران وكان الرئيس المذكور قد فارقهم من حوران وعاد إلى البلد لمداواة مرض عرض له. فلما استقر الأمر بينهم على هذه القضية وعادوا إلى البلد وخرج الرئيس المذكور في جماعة لتلقيهم فحين سلم عليهم وافق ذاك حديث جرى بينهم في معنى المعاملات أجاب عنه جواباً غلظ عليهم وأنكروه منه فعادوا لذاك عن القبض عليه إلى القتل له. وقد كان بلغه اعتزامهم على إفساد حاله بأخذ ماله وأشير عليه بالاحتياط على نفسه والتحيل في دفع الضرر عنها فلم يقبل للأمر المقضي والقدر النازل فقتل مظلوماً رحمه الله بغير استحقاق للقتل ومضى شهيداً واعتقل باقي أقاربه والتمسوا الاذن لهم بعد أيام في التوجه إلى صرخد دفعاً للشر واخماداً لنار الفتنة فأذن لهم في ذلك فتوجه من توجه منهم إليها وفي هذه السنة في أواخرها حضر المعروف بالأصمعي الديوان الشهابي والتمس الاذن له في ضرب الدينار في دمشق على أن يكون عياره نصف وربع وثمن دينار خلاصاً والباقي من الفضة والنحاس وكرر الخطاب إلى أن أجيب إلى ما طلب وتقرر ضربه على هذه السجية وأن ينقش السكة باسم الامام الراشد بالله أمير المؤمنين والسلطان المعظم مسعود وشهاب الدين. ولما وردت الأخبار بأخذ السلطان البيعة للامام المتقي لأمر الله وتوجه الراشد بالله إلى ناحية الموصل وأظهر السلطان رقعةً بخط الراشد بالله تتضمن إنه متى خرج من داره وقصد محاربة السلطان أو أباح دماً محرماً بغير واجب أو مد يداً إلى أخذ مال من غير حله ولا جهته كانت بيعته باطلة وخرج من عهدة الخلافة وكان متعدياً للواجب وبذاك أشهد على نفسه القضاة والفقهاء والأعيان فكان ذلك أوكد الحجة في خلعه ونقض أمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 405 سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة في هذه السنة وردت الأخبار بظهور متملك الروم كيالياني من القسطنطينية في ذي القعدة سنة 30 وقيل بل أول المحرم سنة 531 ووصل إلى جزيرة انطاكية وأقام بها إلى أن وصلت مراكبه البحرية بالأثقال والميرة والمال والعدد في عاشر نيسان ونزل على نيقية فملكها وقيل بل هادنه عليها أهلها ووصل إلى الثغور وتسلم اذنة والمصيصة وغيرهما وحاصر عين زربة وملكها عنوةً. وقيل في التاريخ إن أمير المؤمنين المأمون بالله ابن الرشيد بالله كان عمر عين زربة عند الاجتياز بها لما ورد إلى هذه الجهات وأنفق على عمارتها مائة وسبعين ألف دينار مع جاه الخلافة والسلطنة والقدرة وكان يعمل فيها كل يوم أربعون ألف فاعل سوى البنائين والحدادين والنجارين. وملك تل حمدون وحمل أهله إلى جزيرة قبرص وكان صاحبه ابن هيثم الأرمني ثم عمر مينا الاسكندرية ثم خرج إلى انطاكية ونزل عليها وضايق أهلها في سلخ ذي القعدة وجرى بينه وبين صاحبها ريمند ابن مدقين كذا مصالحة ورحل عائداً إلى الدروب فافتتح ما بقي في يد ابن ليون الأرمني من الحصون وشتى بها وفي رجب من السنة نهض الأمير بزواج في فريق وافر من العسكر الدمشقي من التركمان إلى ناحية طرابلس فظهر إليه قومصها في عسكره والتقيا فكسره بزواج وقتل منهم جماعة وافرة وملك حصن وادي ابن الأحمر وغيره. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 406 وفي رجب أيضاً نهض ابن صلاح والي حماة في رجاله إلى حصن الخربة فملكه وفي شعبان منها ورد الخبر بأن عماد الدين أتابك بن اق سنقر توجه في عسكره من ناحية الموصل وقطع الفرات في العشر الأول منه ووصل إلى حمص وكان قد تقدمه إليها صلاح الدين في أوائل العسكر ونزلا عليها وضايقاها وفيها الأمير معين الدين أنر واليها فراسله في تسليمها فاحتج عليه بأنها للأمير شهاب الدين وإنه نائبه فيها فنصب الحرب عليها والمضايقة لها أياماً ولم يحظ منها بطائل فرحل عنها في العشرين من شوال من السنة ونزل على الحصن المعروف ببعرين لينتزعه من أيدي الافرنج. فلما عرفوا ذاك تجمعوا ونزلوا قريباً لحمايته ومعونة من فيه منهم فحين عرف عماد الدين خبرها كمن لهم كميناً والتقى الجمعان فانهزم فريق من الأتراك بين أيدي الافرنج وقتلوا منهم جماعة وافرة عند عودهم إلى منزل مخيمهم وظهر عليهم عماد الدين في من كمن لهم من الكمناء وأوقع الرجالة وملك الأثقال والسواد وحين قربوا من المخيم وشاهدوا ما نزل عليهم وحل بهم انخذلوا وفشلوا وحمل عليهم عسكر عماد الدين فكسرهم ومحقهم قتلاً وأسراً وحصل لهم من الغنائم الشيء الكثير من الكراع والسواد والأثاث وعاد عماد الدين إلى حصن بعرين. وقد انهزم إليه ملكهم كند اياجور ومن يجامعه من مقدمي الافرنج وهم على غاية من الضعف والخوف فنزل عليهم وحصرهم في الحصن المذكور ولم يزالوا على هذه الحال في المضايقة والمحاربة إلى أن نفد ما عندهم من القوت فأكلوا خيلهم وتجمع من بقي من الافرنج في بلادهم ومعاقلهم وانضموا إلى ابن جوسلين وصاحب انطاكية واحتشدوا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 407 وساروا طالبين نصرة المخذولين المحصورين في حصن بعرين وتخلصهم مما هم فيه من الشدة والخوف والهلاك فحين قربوا من عسكر أتابك وصح الخبر عنده بذاك اقتضت الحال إن أمنهم وعاهدهم على ما اقترحه عليهم من طاعته وقرر عليهم خمسين ألف دينار يحملونها إليه وأطلقهم وتسلم الحصن منهم وعاد من كان اجتمع لنصرتهم وفي شهر رمضان منها ورد الخبر بأن الامام الخليفة الراشد بالله أمير المؤمنين ابن المسترشد بالله كان قد فصل عن الموصل قاصداً إلى مراغة وإنه اجتمع بالسلطان داود بن محمود وجرى بينهما أحاديث وتقريرات قررها كل واحد منهما مع الآخر. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 408 ووردت الأخبار من ناحية الشمال بأن الأمير عماد الدين أتابك رحل في عسكره عن حلب في يوم الجمعة السادس عشر من شهر رمضان من السنة ونزل على حمص وخيم بها وقاتلها ووصل إليه رسول متملك الروم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 409 ووردت الأخبار من ناحية العراق بالتقاء عسكري السلطان مسعود وأخيه كذا داود وإن عسكر السلطان مسعود ظهر على عسكر السلطان داود وكسره وقتل من مقدميه وأجناده جماعةً وافرةً من السنة كذا وفي سنة 531 ترددت المراسلات من الأمير شجاع الدولة أبي الفوارس المسيب ابن علي بن الحسين الصوفي وجماعة المقيمين بصرخد وكتب الأمير أمين الدولة كمشتكين الأتابكي الوالي بصرخد إلى الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك وإلى الأمير شجاع الدولة بزواج والحاجب أسد الدين أكز في التماس الاذن لهم في العود إلى دمشق والسؤال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 410 في إعادة ما قبض من أملاكهم إليهم وإعادة كل مغصوب منها عليهم ولم تزل المراسلات في هذا الباب متناصرة والكتب في طلبه متواترة إلى أن تقررت الحال في ذلك والاجابة إليه على مصالحة معينة مقسطة برسم واجبات الأجناد يقومون بها في أنجمها المعينة وأوقاتها المبينة تصلح الأحوال بتأديها وتتحقق الآمال بتملكها وإن يرد أمر الرئاسة في البلد إلى الأمير المقدم ذكره وكتب له المنشور بالرئاسة ونعت فيه مع أوصافه بالأمير الرئيس الأجل مؤيد الدين ممهد الاسلام مضافاً إلى ألقابه ونعوته المتقدمة وأن يكون الرسم في الرئاسة جارياً على العادة المستمرة والقاعدة المقيمة المستقرة في الحمايات والواجبات والرسوم الجاريات في دار الوكالة وسائر العراض ونفذت الكتب إليهم بالاجابة إلى ما التمسوه والاسعاف بما اقترحوه والاذن لهم في العود إلى البلد واثقين بما يقدمون عليه من حفظ الحرمة وحراسة الحشمة والتطييب بالنفس وتأكيد الأنس. فعند الوقوف على ما صدر إليهم من هذه الحال سرت به نفوسهم وابتهجت بمعرفته قلوبهم وشرعوا في التأهب للعود بصدور منشرحة وآمال منفسحة وعادوا بأسرهم وحين قربوا من البلد خرج كل من فيه من خاص وعام لتلقيهم وإظهار السرور والاستبشار بعودهم والاغتباط والابتهاد بمقدمهم ودخلوا البلد في العشر الأول من رجب من السنة المذكورة فاستقامت أحوالهم على منهج السداد واستمرت على قضية الايثار والمراد وأعيد عليهم جميع ما اعترض لهم من ملك وغيره وأجروا على كل رسم جميل واكرام وتبجيل. فكم من شدة فرجها الله تعالى ذكره بعد اشتدادها وغمة كشفها بلطفه بعد اظلامها ربّما تجزع النفوس من الأم ... ر له فرجةٌ كحلّ العقال وفي هذه السنة ورد الخبر من ناحية مصر بأن مقدم الأرمن بها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 411 قام في حزبه على صاحبها الامام الحافظ لدين الله أبي الميمون عبد المجيد وزحف إليه في قصره وأقام عليه كالمحاصر له فعاد أكثر الجند عنه خوفاً وقتلاً فانخذل وانهزم. وقيل إن السبب في ذلك كون أخ لمقدم الأرمن في الصعيد ورد عليه خبر قتله فغلظ هذا الأمر عليه وحمله على ما كان منه ثم إنه تلطف أمره بحيث عفي عنه ولزم داره خائفاً مروعاً وفي رجب من السنة نهض الأمير بزواج في العسكر ومن حشده وجمعه من التركمان إلى ناحية طرابلس في الرابع منه فظهر إليه صاحبها في خيله من الافرنج فكمن لهم في عدة مواضع فلما حصلوا بالموضع المعروف بالكورة ظهرت عليهم الكمناء فهزموهم ووقع السيف في أكثرهم ولم يفلت منهم إلا اليسير وهجم على الحصن الذي هناك فنهبه وقتل من فيه من المقدمين والأتباع وأسر من بذل في نفسه المال الكثير وحصل له ولعسكره القيمة الكثيرة وفي شوال من السنة تقررت المهادنة والموادعة بين عماد الدين وبين شهاب الدين صاحب دمشق على قاعدة أحكمت. وفي ذي الحجة منها ورد الخبر بعود متملك الروم في عسكره عن انطاكية إلى ناحية بعرين من عملها في الثاني والعشرين منه وأنفذ رسوله إلى عماد الدين أتابك وظفر الأمير سوار النائب عنه في حلب بسرية وافرة العدد من عسكر الروم فقتل بعضاً وأسر بعضاً ودخل بهم إلى حلب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 412 وورد الخبر بأن حسام الدين تمرتاش بن ايل غازي بن ارتق ملك قلعة الهتاخ من بقية آل مروان وما كان بقي في أيديهم غيرها بعد البلاد والمعاقل ملكها بحيلة اعملها عليهم ومكيدة نصبها لهم وهي على غاية من الحصانة والمنعة وفيها شرع أهل حلب في تحصينها وحفر خنادقها والتحصن من الروم بها لقربهم منها. وورد الخبر بأن عماد الدين أتابك عزل وزيره أبا المحاسن علي بن أبي طالب العجمي وقبض عليه واعتقله بسبب مال وافر وانكسر عليه من المعاملات ما عجز عن القيام به والخلاص بتأديته وبقي معتقلاً في القلعة بحلب بسببه سنة اثنتين وثلاثين وخمسمائة أولها يوم الاثنين مستهل المحرم وهو العشرون من أيلول وفيه وصل الحاجب حسن الذي كان أرسل إلى متملك الروم ومعه رسول الملك عماد الدين أتابك. وفي رابع عشر المحرم وصل أتابك في عسكره إلى حماة ورحل عنها متوجهاً إلى ناحية البقاع فملك حسن المجدل من أيدي الدمشقيين ودخل في طاعته ابرهيم بن طرغت والي بانياس من عمل دمشق. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 413 وورد الخبر في صفر بأن زلزلة عظيمة جاءت بالجزيرة وأعمال الموصل وقيل أنها أهلكت عدة مواضع من الأرض وهلك فيها خلق كثير وافر من أهلها. وفي أوائل شهر ربيع الأول من السنة وقيل أن رسول السلطان مسعود بن السلطان محمد ووصل إلى الموصل بالتشريف الكامل لعماد الدين أتابك ووصلت كتب نصير الدين نائبه فيها يشرح حالها وورد الخبر بأن صاحب أنطاكية قبض على بطركها الافرنجي ونهب داره وذكر أن السبب في ذلك أن ملك الروم لما تقرر الصلح بينه وبين ريمند صاحب أنطاكية شرط في جملة الشروط أن ينصب بأنطاكية بتركاً كذا من قبل الروم على ما جرى بمثله الرسم قديماً ثم انتقض هذا الرسم فيما بعد وخرج ريمند صاحب أنطاكية إلى متملك الروم وهو مخيم في عسكره بمرج الديباج وقرر معه الهدنة والموادعة وعاد إلى أنطاكية. وفيها عاد عماد الدين أتابك عن دمشق إلى حماة في شهر ربيع الآخر ونزل عليها ورحل عنها إلى حمص فنزل عليها محاصراً لها وفي هذه السنة نقض الافرنج الهدنة المستقرة بين عماد الدين أتابك وبينهم وأظهروا الشقاق والعناد وشرعوا في العيث والفساد بعد اصطناعه لمقدميهم والكف عنهم حين أظهره الله عليه وقبضوا بأنطاكية وثغور الساحل جماعةً من تجار المسلمين وأهل حلب والسفار تقدير خمسمائة رجل في جمادى الآخرة وفيها شتى السلطان مسعود ببغداد ووصل رسوله إلى أتابك بحمص وشتى ملك الروم بالثغور والدروب وخيم بمرج الديباج. وفي يوم الأحد النصف من جمادى نهض الأمير بزواج من دمشق في عسكره إلى ناحية الافرنج وقد فسد أمره مع شهاب الدين صاحب دمشق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 414 لعجرفية فيه واقدام على استعمال الشر ونودي عليه بفساد أمره وظهور غرده ومكره وكثرة جهله وتناهيه في سوء فعله وأقام بظاهر البلد مدة وعاد أمره انصلح ودخل البلد وأقام فيه مستقيم الحال مبلغاً غاية الآمال فعمل عليه شهاب الدين وقتله بقلعة دمشق بأيدي الشمسية في يوم الاثنين السادس من شعبان من السنة. والسبب في ذلك أن شهاب الدين كان قد نقم عليه أموراً أنكرها واستوحش منه لأجلها وعبث بمال الارتفاع يمزقه في النفقات والاطلاقات فاعمل الحيلة في قتله وآنسه وطمنه إلى حين وجد الفرصة فيه مستهلة وحصل عنده بقبة الورد في داره بالقلعة وقد رتب له جماعةً من الأرمن الشمسية أصحاب ركابه وقرر معهم قتله فحين تمكنوا منه بخلوة من أصحابه قتلوه وأخرجوه ملفوفاً في كساء إلى المقبرة المبنية لزوجته فدفن بها وفي يوم الأحد السابع عشر من شعبان من السنة خلع شهاب الدين على الأمير معين الدين أنر وقرر له أمر الاسفهسلارية وخوطب بالأتابكية ورد أمر الحجبة إلى الأمير الحاجب أسد الدين أكز وطيب بنفسيهما ورد التدبير والتقرير في سائر الأعمال وعامة الأحوال إليهما وفي هذا الشهر وردت الأخبار من ناحية الشمال بنزول ملك الروم في عسكره على شيزر محاصراً لها ومضايقاً عليها ونصب عليها عدة من المناجيق واشتدت الحرب بينه وبين أهلها وقتل فيها جماعة من المسلمين بحيث أشرفت على الهلاك مع مبالغة الأمير عماد الدين أتابك في امدادها بالرجالة والسلاح وآلات الحرب وكونه بازاء الروم يجول بخيله على أطرافهم ويفتك بمن يظفر به منهم ولم يزالوا على هذه القضية إلى أن سئم المقام عليها ويئسوا من بلوغ الغرض فيها ولطف الله تعالى بأهل الشام وتداركهم برحمته وورد خبر رحيلهم عن شيزر إلى أنطاكية واستبشر الناس برحيلهم وعودهم خاسرين غير ظافرين ومفلولين غير فالين فلله تعالى الحمد على هذه النعمة دائماً والشكر متواصلاً متتابعاً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 415 قد مضى من ذكر الروم فيما اعتمدوه في هذه الأيام ما قد عرف ويذكر بعد ذلك مبدأ أحوالهم وخروجهم وأفعالهم وذلك أنهم ظهروا من ناحية مدينة البلاط في يوم الخميس الكبير من صومهم ونزلوا غفلةً على حصن بزاعة بالوادي في يوم الأحد عندهم وغارت خيلهم على أطراف حلب في تاسع عشر رجب من السنة واستأمن منهم إلى حلب جماعة من كافر ترك وأنذروا من بحلب بالروم فحذروا وضموا أطرافهم وتحرزوا وتحفظوا استعدوا وتيقظوا قبل الاغارة بليلة وكان هذا الانذار من المستأمنة لطفاً من الله تعالى ورحمةً. وبعد هذا التحرز والاحتياط اشتمل الروم في عادتهم على جملة وافرة من أهل حلب وضواحيها وأنفذ أهل حلب من أعيانهم من مضى إلى عماد الدين أتابك مستصرخا به وهو مخيم على حمص فانهض إليهم من أمكنه من الخيالة والرجالة والناشبة والنبالة والعدد الوافرة وحصل الجميع في السابع وعشرين من رجب من السنة ووردت الأخبار بتملك الروم المذكورين حصن بزاعة بعد حصره ومضايقته ومحاربته بالمنجنيقات في يوم السبت الخامس والعشرين من رجب بالأمان وغدر بأهله بعد تسلمه وأيمانهم وجمع من غدر بهم وأحصاهم وقيل أنهم كانوا خمسة ألف وثمانمائة نفس وتنصر قاضي بزاعة وجماعة من الشهود وغيرهم تقدير أربعمائة نفس وأقام الملك بعد ذلك بمكانه عشرة أيام يدخن على مغارات اختفى فها جماعة فملكوا بالدخان وفي يوم الأربعاء الخامس من شعبان نزل الروم أرض الناعورة ورحلوا عنها في يوم الخميس ثامنه واجتازوا بحلب ومعهم عسكر أنطاكية ومقدمهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 416 ريمند صاحبها وابن جوسلين فنزلوا على حلب ونصبوا خيامهم على نهر قويق وأرض السعدي. وزحف الملك من غده في خيله ورجله من قبلي حلب وغربيها من ناحية قرنة برج الغنم وخرج إليها فرقة وافرة من أحداث حلب فقاتلتهم وظفرت عليهم فقتلوا فيهم وجرحوا وأصيب من الروم مقدم مذكور وانكفوا خائبين إلى مخيمهم وأقاموا على حلب أياماً قلائل ورحلوا عنها غداة يوم الأربعاء ثامن شعبان مقتبلين إلى أرض صلدع وخاف من بقلعة الأثارب فهربوا منها في يوم الخميس تاسع شعبان وطرحوا النار في خزائنها وعرف الروم ذلك فنهضت منهم طائفة إلى القلعة ونزلت عليها وملكتها وحازوا ما فيها والجأوا السبايا والأسرى الذين في أيديهم من حصن بزاعة إلى ربض الأثارب وخندقها بحيث عرف الأمير سوار النائب بحلب ذاك وانعزال الروم عنها نهض في عسكر حلب وأدركهم بالأثارب فأوقع بهم وقهرهم واستخلص المأسورين والمسبيين إلا اليسير منهم وذلك في يوم السبت الحادي عشر من شعبان وسر أهل حلب بهذه النوبة سروراً عظيماً وفي يوم الخميس التاسع من الشهر رحل عماد الدين أتابك عن حماة إلى سلمية وسير ثقله إلى الرقة وبقي في خيله جريدة مخففة. وفي يوم الاثنين رحل ملك الروم عن بلد المعرة فهرب من كان مقيماً في كفرطاب من الجند خوفاً على نفوسهم. وتناصرت الأخبار بعبور عسكر التركمان الفرات مع ولد الأمير داود بن أرتق إلى ناحية حلب للغزو في الروم ونزلوا بمجمع المروج ونهض فريق وافر من عسكر دمشق للغزاة أيضاً في خدمة عماد الدين أتابك وكان سبب رحيل الروم عن شيزر ما انتهى إليهم من وصول التركمان وتجمع العساكر خاسرين وكان مدة إقامتهم عليها ثلاثة وعشرين يوماً ووصول ملك الروم إلى أنطاكية في عوده يوم الأحد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 417 الثامن من شهر رمضان من السنة وتواصلت الأخبار باتمام الروم في رحيلهم إلى بلادهم وسكنت القلوب بعد انزعاجها وقلقها منهم ووجلها وورد الخبر من ناحية حلب بوفاة القاضي بهاء الدين ابن الشهرزوري بها في يوم السبت السادس عشر من شهر رمضان من السنة وحمل إلى مشهد صفين ودفن به وكان صاحب عزيمة ماضية وهمة نافذة ويقظة ثاقبة. وفي هذه السنة توفي القاضي الأعز أبو الفتح محمد بن هبة الله بن خلف التميمي رحمه الله في ليلة الجمعة النصف من شهر رمضان وكان من المتخصصين ذوي المروة وكرم النفس وفي هذه السنة ترددت المراسلات من الأمير عماد الدين أتابك إلى الأمير شهاب الدين في التماس انعقاد الوصلة بينه وبين والدته الخاتون صفوة الملك زمرد ابنة الأمير جاولى إلى أن أجيب إلى ذلك واستقر الأمر فيه وندب من دمشق من تولى لها العقد في مخيمه بحمص في يوم الاثنين السابع عشر من شهر رمضان من السنة وتقررت الحال على تسليم حمص إليه فتسلمها مع القلعة وعوض عنها لواليها الأمير معين الدين أنر حصن بعرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 418 وتوجهت الخاتون صفوة الملك والدة شهاب الدين من دارها إلى عسكر عماد الدين أتابك بناحية حمص وحماة مع أصحاب عماد الدين المندوبين لايصالها في أواخر شهر رمضان منها ووردت الأخبار من ناحية العراق بأن الامام الراشد بالله أمير المؤمنين كان قد فصل عن الموصل وتوجه إلى ناحية الجبل فقضى الله تعالى للقدر النازل والحكم النافذ استشهاده على باب أصفهان بأمر قرر له وعمل عمل عليه فصار إلى رحمة ربه سعيداً مأجوراً شهيداً في يوم الثلاثاء السادس والعشرين من شهر رمضان من السنة فكانت خلافته إلى أن استشهد سنتين وعشرة أشهر وفي هذه السنة ورد الخبر بوفاة الأمير طغان أرسلان الأحدب بن حسام الدولة ببدليس وانتصب في مكانه ولده الأمير قرتي بن طغان أرسلان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 419 واستقام له الأمر وحكي عنه حكايات في الظلم والتعجرف والتجبر والجور تنكرها النفوس وتنفر من سماعها القلوب سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة أول هذه السنة يوم الجمعة بالرؤيا مستهل المحرم وفيه اجتمع الأمير عماد الدين أتابك بالخاتون صفوة الملك والدة الأمير شهاب الدين بظاهر حمص وقد اجتمع عنده جماعة وافرة من رسل الخليفة والسلطان ومصر والروم ودمشق وغير ذلك. وفي هذا الشهر غارت الافرنج على ناحية بانياس ونهض شهاب الدين في العسكر في أثرهم فلم يدركهم وعاد إلى البلد وفي يوم الثلاثاء الرابع من صفر جاءت في دمشق زلزلة هائلة بعد الظهر اهتزت بها الأرض ثلاث مرات وتلاها في ليلة الجمعة وقت عشاء الاخرة ثانية اهتزت بها الأرض عدة مرات. وفي ليلة الاثنين التاسع عشر من صفر عادت الزلزلة في الثلاث منها ثلاث مرات فتبارك رب هذه القدرة الباهرة والآية الظاهر وعادت في ليلة الأربعاء يتلوها في الربع الأخير من ليلة الجمعة وتناصرت الأخبار من الثقات السفار والواردين من ناحية الشمال بصفة هذه الرجفات المذكورات وأنها كانت في حلب وما والاها من البلاد والمعاقل والأعمال أشد ما يكون بحيث انهدم في حلب الكثير من الدور وتشعث السور واضطربت جدران القلعة وظهر أهل حلب من دورهم إلى ظاهره من خوفهم على نفوسهم ويقول المكثر من الحاكي أن الزلزلة جاءت تقدير مائة مرة وقوم يحققون أنها ثمانون مرةً والله أعلم بالغيب والصواب تبارك الله رب العالمين القادر على كل شيء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 420 وفي يوم السبت السابع عشر من شعبان الموافق للتاسع من نيسان جاء رعد هائل مختلف من عدة جهات وبرق زائد وجلبات هائلة قبل الظهر ثم جاء مع ذلك مطر شديد الوقع وبرد هائل حكي بعض الثقات أنه وزن واحدةً من كبار البرد فكان وزنها في ناحية الغوطة والمرج ثمانية دراهم وكان آخرون وزنوا واحدةً فكانت سبعة عشر درهماً وقتل كثيراً من الطير وأتلف كثيراً من الطير والزرع والثمار وفي يوم الأربعاء النصف من شوال وردت الأخبار من ناحية مصر بالحادثة الكائنة بمصر بين الأجناد بها بحيث قتل بينهم من الفريقين الخلق الكثير من الخيالة والرجالة على مضي ست ساعات من نهار يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شوال جاءت رجفة هائلة ارتاعت لها القلوب ورجفت به الصدور وفي يوم الجمعة الثالث والعشرين من شوال من السنة في غداته ظهرت الحادثة المدبرة على الأمير شهاب الدين محمود بن تاج الملوك بن ظهير الدين أتابك وقتله في فراشه وهو في نومه في ليلة الجمعة المذكورة بيد غلمانه الملاعين البغش الأرمني الذي اصطنعه وقربه إليه واعتمد في اشغاله عليه ويوسف الخادم الذي وثق به في نومه لديه والخركاوي الفراش الراقد حواليه ووقوع الزحف عند اشتهار هذا الخبر إلى كاتبه النفيس أبي طالب عقيل بن حيدرة مستوفي ديوان المعاملات وقتله في الطريق عند أخذه من الدار التي لجأ إليها واختفى عند هروبه فيها. وكان هؤلاء الثلاثة النفر الجناة الملاعين يبيتون حول سريره فلما قرر معهم هذا الأمر رقدوا في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 421 أماكنهم على جاري عادتهم فلما انتصف الليل وتحققوا نومه وثبوا عليه فقتلوه في فراشه على سريره وصاح فراش آخر كان معهم فقتلوه أيضاً ودبروا أمرهم بينهم وأخفوا سرهم بحيث خرجوا من القلعة وظهر الأمر وطلب البغش لعنه الله فهرب ونهب بيته ومسك الآخران فصلبا على سور باب الجابية. وكتب إلى الأمير جمال الدين محمد بن تاج الملوك أخيه صاحب بعلبك بصورة الحال فبادر بالوصول إلى دمشق في أسرع وقت وأقرب أوان فجلس في منصبه وعقد الأمر له واستحلف الأمراء والمقدمين والأعيان على الطاعة والمناصحة في خدمته فتقررت الحال وسكنت الدهماء وظهرت الكائنة وانكشفت الغماء وحين انتهى الخبر إلى الخاتون صفوة الملك والدة الأمير شهاب الدين رحمه الله قلقت وانزعجت وحزنت عليه وأسفت وأكبرت هذا الأمر وحدوث مثله على ولدها وراسلت الأمير عماد الدين أتابك وهو بناحية الموصل معلمةً له بصورة الحال وباعثةً لهمته على النهوض لطلب الثأر من غير تلوم ولا اغفال فحين وقف على الخبر امتعض له أشد الامتعاض ول يكن باستمرار مثله بالراضي وصرف الاهتمام إلى التأهب لما حرصته عليه واشارت إليه والاستعداد له والاحتشاد لقصده وثني أعنة الاعتزام إلى ناحية الشام مجداً في قصد دمشق لبلوغ كل مطلب ينحوه ومرام وتناصرت الأخبار بهذه العزيمة إلى دمشق فوقع الاحتياط والتحرز من جانبه والاستعداد ثم تلى ذلك ورود الخبر بنزوله على بعلبك في يوم الخميس العشرين من ذي الحجة من السنة في عسكر كثيف وجم غفير. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 422 وقد كانت قبل نزوله عليها قد شحنت بالرجال المقاتلة والعدد الكاملة ورد أمر الولاية فيها إلى معين الدين أنر وقد تمكنت حالته وارتفعت رتبته ونفذت أوامره في الدولة وأمثلته فنصب عليها عدة من المناجيق وواصل المحاربة لأهلها وبالغ في المضايقة لها وقيل أن عدة المنجنيقات المنصوبة عليها أربعة عشر منجنيقاً يرمي عليها بالنوبة ليلاً ونهاراً بحيث أشرف من بها على الهلاك. ولم تزل هذه حالها إلى أن ورد الخبر بافتتاحها بالأمان لشدة ما نزل بأهلها من البلاء والمضايقة والنقوب وبقيت القلة وفيها جماعة من شجعان الأتراك المندوبين لحمايتها والذب عنها فلما أيسوا من معين يأتيهم من المعين ووصول من ينقذهم من البلاء المحيط سلموها إلى عماد الدين أتابك بعد أخذ أمانه والتوثق منه. فلما حصلت في ملكته نكث عهده ونقض أمانه لحنق أسره وغيظ على من كان فيها أكنة فأمر بصلبهم ولم يفلت منهم إلا من حماه أجله فاستبشع الناس ذلك من فعله واستبدعوه من نكثه. وقد كان الخبر ورد قبل ذلك بافتتاح عماد الدين أتابك قلعة الأثارب في يوم الجمعة أول صفر من السنة المقدم ذكرها. ووردت الأخبار بأن رجفةً عظيمة حدثت في الشام بعد ما تقدم ذكره في ليلة الجمعة الثامن من صفر منها وفي شهر رمضان منها ورد الخبر بأن الأمير الأفضل رضوان بن ولخشى صاحب الأمر بمصر خرج منها لأمر خاف معه من صاحبه الامام الحافظ لدين الله أمير المؤمنين ووصل إلى صرخد وأن أمين الدولة كمشتكين الأتابكي واليها تلقاه بالاكرام ومزيد الاعظام والاحترام وأقام في ضيافته وكرامته مدة ثم عاد من عنده طالباً لمصر لأمر كان دبره وسبب قرره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 423 فلما وصل إليها فسد ذلك التدبير عليه ولم ينل ما كان صرف همه إليه فاعتقل في القصر مكرماً ومبجلاً محترماً وفيها توفي النقيب الامام جمال الاسلام أبو الحسن علي بن محمد بن الفتح السلمي الشافعي متولي المدرسة الامامية في يوم الأربعاء الثالث عشر من ذي القعدة منها وهو ساجد في صلاة الغداة رحمه الله وكان مشهوراً بوفور العلم في التفقه وقوة الفرائض والوعظ والدين والأمانة بحيث وقع التألم لفقده وافتقر إلى مثله من بعده سنة أربع وثلاثين وخمسمائة أول هذه السنة المباركة يوم الثلاثاء بالرؤية مستهل المحرم. وفيه ورد الخبر بفراغ عماد الدين أتابك من ترتيب أمر بعلبك وقلتها وترميم ما تشعث منها وشروعه في التأهب للنزول على مدينة دمشق لمضايقتها وورد عقيب ذلك الخبر برحيله عنها في العسكر ونزوله في البقاع في شهر ربيع الأول منها وأنفذ رسوله إلى الأمير جمال الدين محمد بن تاج الملوك بوري بن أتابك صاحبها في التماس تسليم البلد إليه ويعوض عنه بما يقع الاختيار والاقتراح عليه فلم يجب إلى ما رغب فيه فرحل عن البقاع ونزل على داريا ظاهر دمشق في يوم الأربعاء ثالث عشر ربيع الآخر منها. وكان عند نزوله على داريا قد التفت الطلائع فظفر بجماعة وانهزم الباقون إلى البلد وزحف بعد ذلك إلى البلد في عسكر من ناحية المصلى في يوم الجمعة الثامن وعشرين من شهر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 424 ربيع الآخر من السنة فظفر بجماعة وافرة من أحداث البلد والغوطة وأطلق السيف فيهم فمنهم من مضى قتيلاً وأسيراً ومنهم من عاد إلى البلد سالماً وجريحاً وأشرف البلد في هذا اليوم على الهلاك لولا لطف الله تعالى وعاد إلى مخيمه بمن أسر بعد من قتل وأمسك أياماً عن الحرب. وتابع المراسلة والتلطف في تسليم البلد وأخذ العوض عنه بعلبك وحمص وما يقترح معهما فأثر جمال الدين محمد بن تاج الملوك الدخول في هذا الأمر لما فيه من الصلاح وحقن الدماء وعمارة الأعمال وسكون الدهماء واباءة غيره عند الاستشارة فيه وجعل يزحف بعسكره في أيام متفرقة بحيث لم يصدق في القتال ولا بالغ في التضييق والنزال اشفاقاً من سفك الدماء كالكاف المسالم والمتأني في الوقائع والمغانم. وابتدأ بجمال الدين محمد ابن تاج الملوك مرض اتصل به في جمادى الأولى من السنة فصار يخف تارةً ويثقل ويمضي ويعود ويقل ويزيد إلى أن اشتد به اشتداداً وقع اليأس معه منه ولم يكن له فيه طيب ولا راق ولم يزل على هذه الحال إلى أن قضى محتوم نحبه وصار إلى رحمه ربه في ليلة الجمعة الثامن من شعبان منها في الوقت الذي أصيب فيه أخوه شهاب الدين محمود بن تاج الملوك رحمهما الله فعجب الناس من ذلك واتفاق الوقت والساعة وسبحوا الله وقدسوه وجهز ودفن في تربة جدته بالفراديس. فاجتمع رأي المقدمين وأصحاب الأمر من بعده على سد ثلمة فقده بنصب ولده الأمير عضب الدولة أبي سعيد آبق بن جمال الدين محمد في مكانه وأخذت له بذلك العود المؤكدة بالايمان المشددة على الاخلاص في الطاعة والصدق في الخدمة والمناصحة فاستقام الأمر وصلح التدبير وزال الخلف وسكنت الأمور بعد اضطرابها وقرت النفوس بعد استيحاشها. وحين عرف عماد الدين أتابك هذه القضية زحف في عسكره إلى البلد طامعاً في خلف يجري بين المقدمين بوفاته فينال به بعض طلباته فكان الأمر بالضد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 425 مما أمل والحال بالعكس فيما ظن ولم يصادف من أجناد دمشق وأحداثها إلا الثبات على القراع والصبر على المناوشة والمصاع فعاد منكفئاً إلى عسكره وقد ضعفت نفسه وضاق لهذا الأمر صدره. وقد كان تقرر الأمر مع الافرنج على الاتفاق والاعتضاد والمؤازرة والاسعاد والامتزاج في دفعه والاختلاط في صده عن مراده ومنعه ووقعت المعاهدة على ذلك بالأيمان المؤكدة والضمان للوفاء بما بذلوه والتمسوا على ذلك مالاً معيناً يحمل إليهم ليكون عوناً لهم على ما يحاولونه وقوةً ورهاناً تسكن بها نفوسهم وأجيبوا إلى ذلك وحمل إليهم المال والرهائن من أقارب المقدمين وشرعوا في التأهب للانجاد والاستعداد للمؤازرة والاسعاد وكاتب بعضهم بعضاً بالبعث على الاجتماع من سائر المعاقل والبلاد على ابعاد أتابك وصده عن نيل الأرب من دمشق والمراد قبل استفحال أمره واعضال خطبه وقوة شوكته واستظهاره على عصب الافرنج وقصد بلادهم فحين تيقن صورة الحال في هذا العزم وتجمعهم لقصده مع عسكر دمشق رحل عن منزله بداريا في يوم الأحد الخامس من شهر رمضان طالباً ناحية حوران للقاء الافرنج إن قربوا منه وطلبهم إن بعدوا عنه وأقام على هذا الاعتزام مدةً ثم عاد إلى ناحية غوطة دمشق ونزل بعذراء يوم الأربعاء لست بقين من شوال فأحرق عدة ضياع من المرج والغوطة إلى حرستا التين ورحل يوم السبت تالي متشاملاً حين تحقق نزول الافرنج بالمدان في جموعهم. وكان الشرط مع الافرنج أن يكون في جملة المبذول لهم انتزاع ثغر بانياس من يد ابراهيم من طرغت وتسليمها إليهم فاتفق أن ابرهيم بن طرغت واليه كان قد نهض من أصحابه إلى ناحية صور للاغارة عليها فصادفه ريمند صاحب أنطاكية في قصده واصلاً إلى اسعاد الافرنج على انجاد أهل دمشق فالتقيا فكسره وقتل في الوقعة ومعه نفر يسير من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 426 أصحابه وعاد من بقي منهم إلى بانياس فتحصنوا بها وجمعوا إليها رجال وادي التيم وغيرهم ومن أمكن جمعه من الرجال للذب عنها والمراماة دونها فنهض إليها الأمير معين الدين في عسكر دمشق ونزل عليها ولم يزل محارباً بالمنجنيقات ومضايقاً لها بأنواع المحاربات ومعه فريق وافر من عسكر الافرنج عامة شوال وورد الخبر بأن الأمير عماد الدين أتابك قد نزل على بعلبك وأنفذ يستدعي التركمان من مطانهم كذا في شوال لقصد بانياس ودفع المنازلين لها عنها ولم تزل الجالية جارية على هذه القضية إلى آخر ذي الحجة من السنة ووردت الأخبار من ناحية مصر بأن الأفضل بن ولخشي لما فصل عن صرخد ووصل إلى ظاهر مصر أن الأتراك الذين انضموا إليه عملوا عليه وغدروا به وانتهبوا ما كان معه من كراع وسواد فحين وجدوا منه الغرة والغفلة لم يبقوا على شيء مما صحبه وتفرقت عنه أصحابه ورجاله وبقي فريداً فحصل في أيدي الحافظية أسيراً ووكل به من يحفظه ويحتاط عليه وهذا الأفضل المقدم موصوف بالشجاعة والفروسية وعلو الهمة ومضاء العزمة والبسالة وحسن السياسة وذكاء الحس ولكن المقادير لا تغالب والأقضية لا تدافع والله يفعل ما يشاء ويختار. ولم تزل بانياس على حالها في المضايقة والمحاصرة إلى أن نفدت منها الميرة وقل قوت المقاتلة فسلمت إلى معين الدين وعوض عنها الوالي الذي كان بها بما أرضاه من الاقطاع والاحسان وسلمها إلى الافرنج ووفى لهم بالشروط ورحل عنها منكفئاً إلى دمشق ظافراً بأمله خامداً لعمله في أواخر شهر شوال وفي صبيحة يوم السبت السابع من ذي القعدة من السنة حصل عماد الدين أتابك بعسكره جريدةً بظاهر دمشق ووصل المصلى وقرب من سور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 427 البلد ولم يشعر به أحمد لكون الناس في أعقاب نومهم فلما تبلج الصباح وعرف خبره علت الجلبة والصياح ونفر الناس واجتمعوا إلى الأسوار وفتح الباب وخرجت الخيل والرجالة وكان قد فرق عسكره إلى حوران والغوطة والمرج وسائر الأطراف للغارة ووقف هو في خواصه بازاء عسكر دمشق بحيث لا يمكن أحداً من أصحابه في اتباع أحد من خيله المغيرة ونشبت الحرب بينه وبين عسكر دمشق وخرج من الفريقين جملة وافرة وأحجم عنهم لاشتغاله بمن بثه من سراياه في الغارات وحصل في أيديهم من خيول الجشار والأغنام والأحمال والأبقار والأثاث ما لا يحصى كثرةً لأنهم جاءوا على غفلة وغرة ونزل من يومه بمرج راهط إلى أن اجتمعت الرجال والغنائم وسار عائداً على الطريق الشمالية بالغنائم الدثرة المتناهية في الكثرة ووردت الأخبار من ناحية بغداد بعزل الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي عن وزارة الامام المقتفي بأمر الله وتقليدها الوزير نظام الدين ابن جهير سنة خمس وثلاثين وخمسمائة في شهر رمضان منها ورد الخبر بظهور عسكرية عسقلان على خيل الافرنج الغائرين عليها وقتل جماعة منهم وعودهم مفلولين خاسرين. وفيها ورد الخبر من ناحية الشمال بتملك الباطنية حصن مصياث بحيلة دبرت عليه ومكيدة نصبت له. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 428 وفيها توفي البدليسي امام المسجد الجامع بدمشق في ثالث ذي الحجة منها رحمه الله وكان حسن الطريقة قليل التبذل جيد الحفظ والقراءة والتصون ووقع الاختيار على الشيخ الامام أبي محمد بن طاووس في إقامته مكانه لما فيه من حسن الطريقة والتصون والتدين والقيام بقراءة السبعة المشهورة سنة ست وثلاثين وخمسمائة فيها ورد الخبر من ناحية الشمال باغارة الأمير لجه التركي النازح عن دمشق إلى خدمة الأمير عماد الدين أتابك على بلد الافرنج وظفره بخيلهم وفتكه بهم بحيث ذكر أن عدة المقتولين منهم تقدير سبعمائة رجل. وفيها ورد الخبر من ناحية العراق بايقاع عسكر السلطان غياث الدنيا والدين ركن الاسلام والمسلمين مسعود بن محمد بحلة بني خفاجة ونهبها وقتل من ظفر به لكثرة فسادهم وتزايد عنادهم واخافتهم السابلة وأخذهم كل رفقة من التجار الصادرة والقافلة وعوده إلى بغداد ظافراً غانماً وفيا توفي النقيب الامام أبو القسم عبد الوهاب بن عبد الواحد الحنبلي رحمه الله في ..... الجزء: 1 ¦ الصفحة: 429 بمرض حاد عرض له فأضعفه وقضى فيه نحبه وكان على الطريقة المرضية والخلال الرضية ووفور العلم وحسن الوعظ وقوة الدين والتنزه مما يقدح في أفعال غيره من المتفقهين وكان يوم دفنه يوماً مشهوراً من كثرة المشيعين له والباكين حوله والمؤبنين لأفعاله والمتأسفين عليه وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية العراق بالوقعة الهائلة بين السلطان المعظم ناصر لدين الله كذا سنجر بن ملك شاه سلطان الشرق وبين كافر ترك الواصل من ناحية الصين عندما وراء النهر وكان في عسكر لا يحصى عدداً وقصده السلطان سنجر في عسكر يناهزه والتقى الجمعان فظهر عسكر كافرترك على عسكر السلطان سنجر فكسره وخزمه وقتل أكثره إلا اليسير ممن حماه أجله واشتمل على ما حواه من الأمال والحرم والكراع والسواد وهو شيء لا يحيط به وصف فيوصف ويحصر ولا يدركه نعت فيذكر وعاد السلطان منهزماً إلى بلخ الجزء: 1 ¦ الصفحة: 430 وفيها ورد الخبر بوفاة ضياء الدين أبي سعيد بن الكفرتوثي وزير الأمير عماد الدين أتابك في خامس شعبان وكان على ما حكي عنه حسن الطريقة جميل الفعل كريم النفس مرضي السياسة مشهور النفاسة والرئاسة. وفيها ورد الخبر بوفاة الأمير سعد الدولة صاحب آمد وجلوس ولده محمود في منصبه من بعده فانتظم له الأمر من بعد فقده. وفيها ورد الخبر بوفاة الأمير ولد الدانشمند رحمه الله وانتصاب ولده في منصبه من بعده واستقام له الأمر. وفيها توفي الشيخ أبو محمد بن طاووس امام المسجد الجامع بدمشق في يوم الجمعة سابع عشر من المحرم من السنة سنة سبع وثلاثين وخمسمائة فيما وردت الأخبار من ناحية مصر بعظم الوباء في الاسكندرية والديار المصرية بحيث هلك هناك الخلق العظيم والجم الغفير. وفي يوم الأحد السابع والعشرين من شهر ربيع الأول توفي القاضي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 431 بهجة الملك أبو طالب علي بن عبد الرحمن بن أبي عقيل بمرض صعب كان فيه قضاء نحبه وانتقاله إلى رحمه ربه وهو من جلالة القدر وجميل الذكر على الطريقة المرضية المشهورة والسجية المستحسنة المشكورة وفيها ورد الخبر بظهور صاحب أنطاكية إلى ناحية بزاعة وأن الأمير سوار النائب في حفظ حلب ثناه عنها وحال بينه وبينها. وفيها وردت الأخبار بظهور متملك الروم إلى الثغور دفعةً ثانيةً بعد أوله وبرز إليه صاحب أنطاكية وخدمه وأصلح أمره معه وطيب نفسه وعاد عنه إلى أنطاكية وفيها وردت الأخبار بأن الأمير عماد الدين أتابك استوزر الأجل أبا الرضا ولد أخي جلال الدين بن صدقة وزير الخليفة. وفيها ورد الخبر بأن الأمير عماد الدين أتابك افتح قلعة اشب المشهورة بالمنعة والحصانة. وفي شهر رمضان منها ورد الخبر بموت متملك الروم. وفيها توفي القاضي المنتجب أبو المعالي محمد بن يحيى في يوم الأربعاء النصف من شهر ربيع الأول منها ودفن بمسجد القدم رحمه الله وتولى بعده القضاء ولده القاضي أبو الحسن علي بن محمد القرشي وكتب له منشور القضاء من قاضي القضاة ببغداد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 432 سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة فيها وردت الأخبار من ناحية العراق بأن الخبر ورد إليها بهلاك ملك كافرترك من ناحية الصين الذي كان ظفر بعسكر السلطان سنجر في تلك الوقعة المقدم ذكرها. وفيها ورد الخبر بافتتاح الأمير عماد الدين قلعة حيزان. وفي شهر رمضان منها وردت الأخبار من ناحية العراق بقتل السلطان داود ابن السلطان محمود بن محمد بن ملك شاه بيد نفر ندبوا لقتله فاغتالوه وقتلوه ولم يعرف لهم أصل ولا جهة ولا علم مستقرهم. وفي ثالث جمادى الأولى منها قبض على الأمير الحاجب أسد الدين أكثر وأخذ ماله وسملت عيناه واعتقل وتفرق عنه أصحابه. وفيها ورد الخبر من ناحية الافرنج بهلاك ملكهم الكند ايجور ملك بيت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 433 المقدس بعلة عرضت له كان فيها اتلاف نفسه وأقيم ولده الصغير وأمه مقامه في الملك ورضي الافرنج بذلك واستقامت الحال عليه. وفي رمضان منها عزل أبو الكرام عن وزارته ديوان دمشق لأسباب أنكرت عليه وأشياء قبيحة عزيت إليه. وفيها ورد الخبر بعزل عماد الدين أتابك وزيره أبا الرضا بن صدقة لأسباب أوجبت ذاك ودعت إليه وأغراض بعثت عليه واستوزر مكانه سنة تسع وثلاثين وخمسمائة في يوم الخميس الحادي عشر من المحرم منها توجه الأمير الرئيس مؤيد الدين رئيس دمشق إلى ناحية صرخد مستوحشاً من أحوال بلغته عن أبي الكرام المستناب في وزارة ديوان دمشق وعن الأمير مؤيد الدولة أسامة بن مرشد بن علي بن منقذ أنكرها من سعيهما واستبشعهما من قصدهما فسار عن البلد ممتعضاً من اقدامهما على من يخالف أمره ويضيق صدره ووصل إليهما وتلقاه واليها بالاكرام لمثواه واحسان لقياه وترددت المراسلات بينه وبين الأمير معين الدين أتابك صاحب الأمير والتدبير بدمشق في هذا الباب وتكرر المقال بينهما بالاعتذار من كل واحد منهما العتاب ولم تزل هذه الحال مترددة بينهما إلى أن أسفرت عن تقرير عوده إلى داره وإخراج أبي الكرام الوزير وأسامة بن منقذ إلى ناحية مصر بأهليهما ومالهما وأسبابهما فسارا من دمشق إلى ناحية مصر بعد استئذان صاحبها في أمرهما وخروج إذنه بوصلهما في يوم الخميس السابع من جمادى الأولى من السنة على سبيل المداراة والمصانعة وقيل أنهما لقيا من احسان تلك الدولة السعيدة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 434 من الاحسان وجزيل الانعام ما جرت به عادتهما المستحسنة في حق من يلجأ إلى ظلها وسابغ عدلها. وفي يوم الجمعة الثالث عشر من جمادى الأولى عاد الأمير مؤيد الدين إلى دمشق من صرخد وخرج أهل البلد لتلقيه واظهار السرور به والاستبشار بعوده وطابت نفسه ببلوغ أمانيه ومضي أعاديه الساعين فيه وفي شهر ربيع الآخر ورد الخبر بخروج عسكر إلى فرقة وافرة من الافرنج وصلت إلى ناحية بعلبك للعيث فيها وشن الاغارات عليها فالتقيا فأظفر الله المسلمين بهم وأظهرهم عليهم فقتلوا أكثرهم واستولوا على ما كان معهم وامتلأت أيدي المسلمين بغنائمهم وعادوا إلى بعلبك سالمين مسرورين غانمين وعاد الباقون من الافرنج إلى مكانهم مفلولين محزونين خاسرين وفي جمادى الأولى منها ولد الخبر من ناحية الشمال بان عسكر حلب ظفر بفرقة كبيرة من التجار والأجناد وغيرهم خرجت من أنطاكية تريد بلاد الافرنج ومعها مال كثير ودواب ومتاع وأثاث فأوقعوا بها واشتملوا على ما كان فيها وقتلوا من كان معها من خيالة الافرنج لحمايتها والذب عنها وعاد إلى حلب بالمال والسبي والأسرى والدواب وفي يوم السبت الثالث عشر من رجب من السنة توفي الأخ الأمين أبو عبد الله محمد بن أسد بن علي بن محمد التميمي عن 84 سنة بعلة الذرب ودفن بتربة اقترحها خارج باب الصغير من دمشق وكان على الطريقة المرضية من حسن الأمانة والتصون والديانة ولزوم داره والتنزه عن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 435 كل ما يوتغ الدين ويكره بين خيار المسلمين غير مكاثر للناس ولا معاشر لهم ولا مختلط بهم وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية للشمال بأن الأمير عماد الدين أتابك افتتح مدينة الرها بالسيف مع ما هي عليه من القوة والحصانة والامتناع على قاصديها والحماية على طالبيها من العساكر الجمة ومنازلتها وأن السبب في ذلك أن الأمير عماد الدين أتابك لم يزل لها طالباً وفي تملكها راغباً ولانتهاز الفرصة فيها مترقباً لا يبرح ذكرها جائلاً في خلده وسره وأمرها ماثلاً في خاطره وقلبه إلى أن عرف أن جوسلين صاحبها قد خرج منها في جل رجاله وأعيان حماته وابطاله لأمر اقتضاه وسبب من أسباب إلى البعد عنها دعاه للأمر المقضي والقدر النازل فحين تحقق ذاك بادر بقصدها وسارع إلى النزول في العسكر الدثر عليها لمضايقتها والحصر لمن فيها وكاتب طوائف التركمان بالاستدعاء لهم للمعونة عليها والاسعاد وأداء فريضة الجهاد فوصل إليه منهم الخلق الكثير والجم الغفير بحيث أحاطوا بها من جميع الجهات وحالوا بينها وبين ما يصل إليها من المير والأقوات والطائر لا يكاد يقرب منها خوفاً على نفسه من صوائب سهام منازليها ويقظة المضيقين عليها ونصب على أسوارها المناجيق ترمي عليها دائماً والمحاربة لأهلها مضراً ومواظباً. وشرع الخراسانيون والحلبيون العارفون بمواضع النقوب الماضون فيها فنقبوا في عدة مواضع عرفوا أمرها وتيقنوا نفعها وضرها ولم يزالوا على هذه الحال في الايغال في النقب والتمادي في بطن الأرض إلى أن وصلوا إلى تحت أساس أبراج السور فعلقوه بالأخشاب المحكمة والآلات المنتخبة وفرغوا من ذلك ولم يبق غير اطلاق النار فيها. فاستأذنوا عماد الدين أتابك في ذلك فأذن لهم بعد أن دخل في النقب وشاهد حاله واستعظم كونه وهاله. فلما أطلقت النار في تعليق النقوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 436 تمكنت من أخشابها وابادتها فوقع السور في الحال وهجم المسلمون البلد بعد أن قتل من الجهتين الخلق الكثير على الهدم وقتل من الافرنج والأرمن وجرح ما أوجب هزيمتهم عنه وملك البلد بالسيف في يوم السبت سادس وعشرين من جمادى الآخرة منها ضحوة النهار. وشرع في النهب والقتل والأسر والسبي وامتلأت الأيدي من المال والأثاث والدواب والغنائم والسبي ما سرت به النفوس وابتهجت بكثرته القلوب وشرع عماد الدين أتابك بعد أن أمر برفع السيف والنهب في عمارة ما انهدم وترميم ما تشعث ورتب من رآه لتدبير أمرها وحفظها والاجتهاد في مصالحها وطيب بنفوس أهلها ووعدهم باجمال السيرة فيهم وبسط المعدلة في أقاصيهم وأدانيهم. ورحل عنها وقصد سروج وقد هرب الافرنج منها فملكها وجعل لا يمر بعمل من أعمالها ولا معقل من معاقلها فينزل عليه إلا سلم إليه في الحال وتوجه إلى حصن البيرة من تلك الأعمال وهو غاية في الامتناع على طالبه والصعوبة على قاصده فنزل عليه وشرع في محاربته ومضايقته وقطع عنه سائر من يصل إليه بالقوت والميرة والمعونة والنصرة ولم يزل محاصراً له ومحارباً ومضيقاً إلى أن ضعف أمره وعدمت الميرة فيه. وورد على عماد الدين وقد أشرف على ملكته من خبر نائبه في الموصل الأمير جقر بن يعقوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 437 في الوثوب عليه وقتله ما أزعجه وأقلقه ورحله عنها لكشف الحال الحادثة بالموصل مما يأتي شرح ذلك في موضعه وفي جمادى الأولى منها ورد الخبر بأن الأمير عماد الدين أتابك انتهى إليه أن أهل الحديثة عانة قد خالفوا أمره وعصوا عليه فأنهض إليها من عسكره فريقاً وافراً فقصدها ونزل عليها وحاربها وضايقها وملكها بالسيف وقتل أكثر أهلها ونهبها وبالغ في اهلاك من بها وفي شهر رمضان منها ورد الخبر من ناحية الشمال بأن عسكر الافرنج المجتمع بناحية أنطاكية لإنجاد أهل الرها من جميع أعمالها ومعاقلها ..... وكان عماد الدين أتابك قد أنهض إليه جيشاً وافر العدد من طوائف التركمان والأجناد فهجموا عليه بغتةً وأوقعوا بمن وجدوه في أطرافه ونواحيه وفتكوا به فرحل في الحال وقد استولوا على كثير من الافرنج قتلاً وأسراً واشتملوا على جملة وافرة من كراعهم وتحكم السيف في أكثر الراجل وتفرقوا في أعمالهم ومعاقلهم مفلولين مخذولين خاسرين. وفيها كانت الحادثة على الأمير نصير الدين جقر بن يعقوب النائب عن الأمير عماد الدين في ولاية الموصل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 438 شرح الحال في ذلك كان الملك فرخانشاه الخفاجي بن السلطان كذا أخي السلطان محمود بن محمد بن ملك شاه قد حدث نفسه على العمل على الأمير نصير الدين الوالي بالموصل والفتك به وملكه الموصل وبالتفرد بالأمر واشتمال جماعة من غلمان الأمير عماد الدين أتابك تقدير أربعين غلاماً من وجوه الغلمان مع أصحابه وخواصه ورقب الفرصة فيه والغفلة منه مع شدة تيقظه ومشهور احتراسه وتحفظه إلى أن اتفق ركوبه في بعض الأيام للتسليم على الخاتون في دارها وقد خلا من حماته ووجوه أصحابه ورصدوه فلما حصل في دهليز الدار وثبوا عليه فقتلوه وأدركه أصحابه ومن في البلد من أصحاب عماد الدين فهرب من هرب ومسكوا الملك ابن السلطان فمانع فجرح وأخذ واعتقل معه أكثر الغلمان المشاركين في دمه وتوثق منهم بالاعتقال لهم والاحتياط عليهم وذلك في يوم ...... وكتب إلى عماد الدين بصورة هذه الحال وهو منازل لقلعة البيرة في عسكره وأقلقه سماع هذا الخبر الشنيع والرزء الفظيع ورحل في الحال عن البيرة وقد شارف افتتاحها والاستيلاء عليها وهو متفجع بهذا المصاب متأسف على ما أصيب به متيقن أنه لا يجد بعده من يقوم مقامه لا يسد مسده. وارتاد من يقيمه في موضعه وينصبه في منصبه فوقع اختياره على الأمير علي كوجك لعلمه بشهامته ومضائه في الأمور وبسالته وولاه مكانه وعهد إليه أن يقتفي آثاره في الاحتياط والتحفظ ويتبع أفعاله في التحرز والتيقظ وإن كان لا يغني غناءه ولا يضاهي كفاءته ومضاءه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 439 فتوجه نحوها وحصل بها واس أمورها سياسةً سكنت معها نفوس أهلها واطمأنت معها قلوب المقيمين فيها وبذل جهده في حماية المسالك وأمن السوابل وقضاء حوائج ذوي الحاجات ونصرة أرباب الظلامات فاستقام له الأمر وحسنت بتدبيره الأحوال وتحققت بيقظته في أعماله الآمال. وقد كان لنصير الدين هذا المقصود أخبار في العدل والانصاف وبجنب الجور والاعتساف متداولةً بين التجار والمسافرين ومتناقلةً بين الواردين والمصادرين من السفار وقد كان دأبه جمع الأموال من غير جهة عن حرام وحلال لكنه يتناولها بألطف مقال وأحسن فعال وأرفق توصل واحتيال وهذا فن محمود من ولاة الأمور وقصد سديد في سياسة الجمهور وهذه هي الغاية في مرضي السياسة والنهاية في قوانين الرئاسة وفي أواخر هذه السنة فرغ من عمارة المسجد الذي تولى عمارته واختيار بقعته الأمير مجاهد الدين بزان بن مامين مقدم الأكراد بظاهر باب الفراديس من دمشق بعقب الجسر القبلي وكان مكانه أولاً مستقبح المنظر وأجمع الناس على استحسان بقعته واقتراح هيئته بعد أن أنفق عليه المبلغ الوافر من ماله مع جاهه رغبةً في حسن الذكر في الدنيا ووفور الثواب والأجر في الأخرى. إن الله لا يضيع أجر المحسنين سنة أربعين وخمسمائة في جمادى الأولى منها تناصرت الأنباء من ناحية الأمير عماد الدين أتابك بصرف. الاهتمام إلى التأهب والاستعداد والجمع والاحتشاد لقصد الغزو والجهاد وشاعت عنه الأنباء بأنه ربما قصد الأعمال الدمشقية والنزول عليها ولم تزل أخباره بذلك متصلةً وما هو عليه بالاستكثار من عمل المناجيق وآلة الحرب وما يحتاج إليه لتذليل كل ممتنع صعب إلى أوائل شعبان ووردت الأخبار عنه بأن عزيمته عن ذلك قد انحرفت وأعنة رأيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 440 إلى غيره قد ثنيت وأعيدت المناجيق إلى ناحية حمص من بعلبك. وقيل أن الخبر وافاه من جهة الرها بأن جماعة من الأرمن عملوا علها وأرادوا الايقاع بمن فيها من مستحفظيها وأن مكتوم سرهم ظهر ومخفي أمرهم بدأ وانتشر وأن الجناة أخذوا وتتبعوا وقوبلوا على ذلك بما يقابل به من يسعى في الأرض بالفساد من القتل والصلب والتشريد في البلاد وفي أوائل شعبان من السنة ووردت الأخبار من ناحية بغداد بوصول السلطان غياث الدنيا والدين مسعود بن محمد بن ملك شاه إلى بغداد وقيل أنه وجل من أخيه السلطان طغرل بن محمد لأنه قد جمع واجتهد فيما حشد وهو عازم على لقائه والايقاع بعسكره وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية مصر بوفاة الأمير المعظم أبي المظفر خمارتاش الحافظي صاحب باب الامام الحافظ لدين الله أمير المؤمنين صاحب مصر بعلة عرضت له وقضى فيها نحبه وقيل أنه كان حسن الطريقة جميل الفعل مشكور القصد قال الرئيس الأجل مجد الرؤساء أبو يعلي حمزة بن أسد بن علي بن محمد التميمي: قد انتهيت في شرح ما شرحته من هذا التاريخ ورتبته وتحفظت من الخطإ والخطل والزلل فيما علقته من أفواه الثقات نقلته وأكدت الحال فيه بالاستقصاء والبحث إلى أن صححته إلى هذه السنة المباركة وهي سنة 540 وكنت قد منيت منذ سنة 535 وإلى هذه الغاية بما شغل الخاطر عن الاستقصاء عما يجب إثباته في هذا الكتاب من الحوادث المتجددة من الأعمال والبحث عن الصحيح منها وجميع الأحوال فتركت بين كل سنين من السنين بياضاً في الأوراق الجزء: 1 ¦ الصفحة: 441 ليثبت فيه ما يعرف صحته من الأخبار وتعلم حقيقته من الحوادث والآثار. وأهملت فيما ذكرته من أحوال سلاطين الزمان فيما تقدم وفي هذا الأوان استيفاء ذكر نعوتهم المقررة وألقابهم المحررة تجنباً لتكريرها بأسرها والاطالة بذكرها لم تجر بذلك عادة قديمة ولا سنة سالفة في تاريخ يصنف ولا كتاب يؤلف وإذا كان الرسم جارياً في القديم باطراح الألقاب والانكار لها بين ذوي العلوم والآداب. فلما ظهرت الدولة البويهية الديلمية ولقب أول مسعود نبع فيها بعماد الدولة بن بويه ثم أخوه وتلوه في الولادة والسعادة بركن الدولة أبي علي ثم أخوهما بمعز الدولة أبي الحسين وكل منهم قد بلغ من علو المرتبة والمملكة ونفاذ الأمر في العراق وخراسان والشام في أوائل المغرب ما هو مشهور وذكره في الآفاق منشور. ولما علا قدر الملك عضد الدولة فناخسره بن ركن الدولة أبي علي بن بويه بعدهم وظهر سلطانه وعلا شأنه وملك العراق بأسره وما والاه من البلاد والمعاقل وخطب له على المنابر وزيد في نعوته في أيام المطيع لله أمير المؤمنين رحمه الله تاج الملة ولم يزد أحد من أخوته مؤيد الدولة صاحب أصفهان وفخر الدولة صاحب الرأي وما والاهما وانضاف إليهما على اللقب الواحد. ولم يزل الأمر على ذلك مستمراً إلى أن ظهر أمر السلطان ركن الدنيا والدين طغرلبك محمد بن ميكال بن سلجوق وقويت شوكة الترك وانخفضت الدولة البويهية واضمحلت وانقرضت ولقب السلطان طغرلبك ولما ظهر أمره في العراق واجتاح شأفة أبي الحرث أرسلان الفساسيري في أيام الامام الخليفة القائم بأمر الله أمير المؤمنين رحمه الله بالسلطان المعظم شاهنشاه الأعظم ركن الدين غياث المسلمين بهاء دين الله وسلطان بلاد الله ومغيث عباد الله يمين خليفة الله طغرلبك. ثم زاد الأمر في ذلك إلى أن أضيف إلى القاب ولاة الأطراف الدين والاسلام والأنام والملة والأمة وغير ذلك بحيث اشترك في هذا الفن الجزء: 1 ¦ الصفحة: 442 الخاص والعام لا سيما في هذا الأوان والقاب سلاطينه لأن منهم: سلطان خراسان السلطان المعظم شاهنشاه الأعظم مالك رقاب الأمم سيد سلاطين العرب والعجم ناصر دين الله مالك عباد الله الحافظ بلاد الله سلطان أرض الله معين خليفة الله معز الدنيا والدين كهف الاسلام والمسلمين عضد الدولة القاهرة تاج الملة الظاهرة وغياث الأم الباهرة أبو الحرث سنجر بن ملك شاه برهان أمير المؤمنين. وسلطان العراق السلطان المعظم شاهنشاه الأعظم مالك رقاب الأمم مولى العرب والعجم جلال دين الله سلطان أرض الله ناصر عباد الله حافظ بلاد الله ظهير خليفة الله غياث الدنيا والدين ركن الاسلام والمسلمين عضد الدولة القاهرة ومغيث الأمم الباهرة أبو الفتح مسعود بن محمد بن ملك شاه قسيم أمير المؤمنين. وسلطان الشام وغيره الأمير الاسفهسلار الكبير العادل المؤيد المظفر المنصور الأوحد عماد الدين ركن الاسلام ظهير الأنام قسيم الدولة معين الملة جلال الأمة شرف الملوك عمدة السلاطين قاهر الكفرة والمتمردين قامع الملحدين والمشركين زعيم جيوش المسلمين ملك الأمراء شمس المعالي أمير العراقين والشام بهلوان جهان الب غازي ايران اينانج قتلغ طغرلبك أتابك أبو سعيد زنكي بن اق سنقر نصير أمير المؤمنين. وصاحب دمشق الأمير الاسفهسلار الكبير العادل المؤيد المظفر المنصور ظهير الدين عضد الاسلام ناصر الامام تاج الدولة سيف الملة محيي الأمة شرف الملوك عماد الأمراء كهف المجاهدين زعيم جيوش المسلمين أبو سعيد اتق بن محمد بن بوري أتابك سيف أمير المؤمنين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 443 سنة إحدى وأربعين وخمسمائة قد تقدم من ذكر عماد الدين أتابك زنكي في أخوار سنة 540 في نزوله على قلعة دوسر على غرة من أهلها وهجمه على ربضها ونهبه وأخذ أهله ما لا حاجة إلى إعادة ذكره وشرح أمره ولم يزل مضايقاً لها ومحارباً لأهلها في شهر ربيع الآخر من سنة 541 حتى وردت الأخبار بأن أحد خدمه ومن كان يهواه ويأنس به يعرف بير نقش وأصله افرنجي وكان في نفسه حقد عليه لاساءة تقدمت منه إليه فأسرها في نفسه. فلما وجد منه غفلةً في سكرة ووافقه بعض الخدم من رفقته على أمره فاغتالوه عند نومه في ليلة الأحد السادس من شهر ربيع الآخر من السنة وهو على الغاية من الاحتياط بالرجال والعدد والحرس الوافر العدد حول سرادقه فذبحه على فراشه بعد ضربات تمكنت من مقاتله ولم يشعر بهم أحد حتى هرب الخادم القاتل إلى قلعة دوسر المعروفة حينئذ بجعبر وفيها صاحبها الأمير عز الدين علي بن مالك بن سالم بن مالك فبشره بهلاكه فلم يصدقه. وأواه إلى القلعة وأكرمه وعرف حقيقة الأمر فسر بذلك واستبشر بما أتاه الله من الفرج بعد الشدة الشديدة والاشفاء على الهلكة بتطاول المحاصرة والمصابرة وارسال خواصه وثقاته إليه بما استدعاه منه واقترحه عليه من آلات فاخرة وذخائر وافرة أشار إليها وعين عليها ووعده إذا حصلت عنده بالافراج عنه فعند حصوله ذلك لديه مع أصحابه غدر بهم وعزم على الاساءة إليهم فأتاه من القضاء النازل الذي لا دافع له ولا مانع عنه ما صار به عبرةً لأولي الأبصار وعبرةً لذوي العقول والأفكار. وتفرقت جيوشه أيدي سبا ونهبت أمواله الجمة وخزائنه الدثرة وقبر هناك بغير تكفين إلى أن نقل كما حكي إلى مشهد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 444 على الرقة وتوجه الملك ولد السلطان المقيم كان معه فيمن صحبه وانضم إليه إلى ناحية الموصل ومعه سيف الدين غازي بن عماد الدين أتابك رحمه الله وامتنع عليهم للوالي بالموصل على كوجك أياماً إلى حين تقررت الحال بينهم ثم فتح الباب ودخل ولده واستقام له الأمر وانتصب منصبه وعاد الأمير سيف الدولة سوار وصلاح الدين في تلك الحال إلى ناحية حلب ومعهم الأمير نور الدين محمود بن عماد الدين أتابك وحصل بها وشرع في جمع العساكر وانفاق المال فيها واستقام له الأمر وسكنت الدهماء وفصل عنه الأمير صلاح الدين وحصل بحماة ولايته على سبيل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 445 الاستيحاش والخوف على نفسه من أمر يدبر عليه على أن الأعمال كانت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 446 قد اضطربت والمسالك قد اختلت بعد الهيبة المشهورة والآمنة المشكورة وانطلقت أيدي التركمان والحرامية في الافساد في الاطراف والعيث في سائر النواحي والأكناف. ونظمت في صفة هذه الحال أبيات من الشعر تنطق بذكرها وتغرب بالاختصار عن جلية أمرها منها من جملة قصيدة يطول شرحها بتشبيبها: كذاك عماد الدين زنكي تنافرت ... سعادته عنه وخرّت دعائمه وكم بيت مالٍ من نضارٍ وجوهرٍ ... وأنواع ديباجٍ حوتها مخاتمه وأضحت بأعلى كل حصنٍ مصونة ... يحامي عليها جنده وخوادمه ومن صافنات الخيل كل مطهّمٍ ... تروع الأعادي حلبه وتراجمه ولو رامت الكتّاب وصف شياتها ... بأقلامها ما أدرك الوصف ناظمه وكم معقل قد رامه بسيوفه ... وشامخ حصنٍ لم تفته غنائمه ودانت ولاة الأرض فيها لأمره ... وقد أمّنتهم كتبه وخواتمه وأمّن من في كل قطر جيبةٍ ... تراع بها أعرابه وأعاجمه وظالم قومٍ حين يذكر عدله ... فقد زال عنهم ظلمه وخصائمه وأصبح سلطان البلاد بسيفه ... وليس له فيها نظيرٌ يزاحمه وكم قد بنى داراً تباهي بحسنها ... جنان خلودٍ أحكمتها عزائمه فمن خرفه بالتبر من كل جانبٍ ... وأغصان بقشٍ قد تحلّت حمائمه وزاد على الأملاك بأساً وسطوةً ... ولم يبق في الأملاك ملكٌ يقاومه فلمّا تناهى ملكه وجلاله ... وراعت ولاة الأرض منه لوائمه أتاه قضاءٌ لا يردّ سهامه ... فلم ينجه أمواله ومغانمه واذكره للحين منها حمامه ... وحامت عليه بالمنون حوائمه وأضحى على ظهر الفراش مجدلاً ... صريعاً توّلى ذبحه فيه خادمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 447 وقد كان في الجيش اللهام مبيته ... ومن حوله أبطاله وصوارمه وسمر العوالي حوله بأكفّهم ... تذود الردى عنه وقد نام نائمه ومن دون هذا عصبةٌ قد ترتّبت ... بأسهمها يردى من الطير حائمه وكم رام في الأيّام راحة سرّه ... وهمّته تعلو وتقوى شكائمه فأودى ولم ينفعه مالٌ وقدوةٌ ... ولا عنه رامت للقضاء مخاذمه وأضحت بيوت المال نهبى لغيره ... يمزّقها أبناؤه ومظالمه وكم مسلك للسّفر أمّن سبله ... ومسرح حيّ أن تراع سوائمه وكم ثغر اسلامٍ حماه بسيفه ... من الروم لمّا أدركته مراحمه فلمّا توّلى قام كل مخالفٍ ... وشام حساماً لم يجد وهو شائمه وأطلق من في أسره وحبوسه ... وفكّت عن الأقدام منه أداهمه وعاد إلى أوطانه بعد خوفه ... وطابت له بعد السغوب مطاعمه وفرّت وحوش الأرض حين تمزّقت ... كواسره عنها وفلّت سواهمه ولم يبق جانٍ بعده يحذر الردى ... ولا داعرٌ يخشى عليه مناقمه فمن ذا الذي يأتي نهيبة مثله ... وتنفذ في أقصى البلاد مراسمه فلو رقيت في كل مصرٍ بذكره ... أراقمه ذلّت هناك أراقمه ومن ذا الذي ينجو من الدهر سالماً ... إذا ما أتاه الأمر والله حاتمه ومن رام صفواً في الحياة فما يرى ... له صفو عيشٍ والحمام يحاومه فإياك لا تضبط مليكاً بملكه ... ودعه فإنّ الدهر لا شكّ قاصمه فإن كان ذا عدلٍ وأمنٍ لخائفٍ ... فلا شكّ أنّ الله بالعدل راحمه وقل للذي يبني الحصون لحفظه ... رويدك ما تبني فدهرك هادمه فكم ملك قد شاد قصراً مزخرفاً ... وفارق ما قد شاده وهو عادمه وأصبح ذاك القصر من بعد بهجة ... وقد درست آثاره ومعالمه وفي مثل هذا عبرةٌ ومواعظٌ ... بما يتناسى المرء ما هو عازمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 448 وهذه صفاته فيما ملكه من البلاد والثغور والمعاقل وحازه من الأموال والقلاع والأعمال ونفوذ أوامره في سائر الأطراف والأكناف ثم أتاه القضاء الذي لا يدافع والقدر الذي لا يمانع. وحين اتصل هذا الخبر اليقين إلى معين الدين وعرف صورة الحال شرع في التأهب والاستعداد لقصد بعلبك وانتهاز الفرصة فيها بآلات الحرب والمنجنيقات ونهد إليها ونزل عليها وضايقها ونصب الحرب على مستحفظيها ولم يمض إلا الأيام القلائل حتى قل الماء فيها قلةً دعتهم إلى النزول على حكمه. وكان الوالي بها ذا حزم وعقل ومعرفة بالأمور فاشترط ما قام له به من إقطاع وغيره وسلم البلدة والقلعة إليه ووفى له بما قرر الأمر عليه وتسلم ما فيه من غلة وآلة في أيام من جمادى الأولى من السنة. وراسل معين الدين الوالي بحمص وتقررت بينه وبينه مهادنة وموادعة يعودان بصلاح الأحوال وعمارة الأعمال. ووقعت المراسلة فيما بينه وبين صلاح الدين بحماة وتقرر بينهما مثل ذلك. ثم انكفأ بعد ذلك إلى البلد عقيب فراغه من بعلبك وترتيب من رتبه لحفظها والاقامة فيها في يوم السبت الثامن عشر من جمادى الآخرة من السنة وصادم الخادم يرنقش القاتل لعماد الدين أتابك رحمه الله قد فصل عن قلعة جعبر لخوف صاحبها من طلبه منه ووصل إلى دمشق متيقناً أنه قد أمن بها ومدلاً بما فعله وظناً منه أن الحال على ما توهمه فقبض عليه وأنفذ إلى حلب صحبة من حفظه وأوصله إليها فأقام بها أياماً ثم حمل إلى الموصل وذكر أنه قتل بهاووردت الأخبار في أثناء ذلك في أيام من جمادى الآخرة من السنة بأن ابن جوسلين جمع الافرنج من كل ناحية وقصد مدينة الرها على غفلة بموافقة من النصارى المقيمين فيها فدخلها واستولى عليها وقتل من فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 449 من المسلمين فضاقت الصدور باستماع هذا الخبر المكروه ووردت الأخبار مع ذلك بأن الأمير نور الدين صاحب حلب نهض في عسكره وانضاف إليه من التركمان عند وقوعه على الخبر وتقدمه سيف الدولة سوار وأغذوا السير ليلاً ونهاراً وغدواً وابتكاراً من اجتمع من الجهات وهم الخلق الكثير والجم الغفير زهاء عشرة ألف فارس ووقفت الدواب في الطرقات من شدة السير ووافوا البلد. وقد حصل ابن جوسلين وأصحابه فيه فهجموا عليهم ووقع السيف فيهم وقتل من أرمن الرها والنصارى من قتل وانهزم إلى برج يقال له برج الماء فحصل فيه ابن جوسلين في تقدير عشرين فارساً من إبطال أصحابه وأحدق بهم المسلمون من جهاته وشرعوا في النقب عليهم وما كان إلا بقدر كلا ولا حتى تعرقب البرج وانهزم ابن جوسلين وأفلت منه في الخفية مع أصحابه وأخذ الباقون ومحق السيف كل من ظفر به من نصارى الرها واستخلص من كان أسر من المسلمين ونهب منها الشيء الكثير من المال والأثاث والسبي وسرت النفوس بهذا النصر بعد الحزن والاختزال وقويت القلوب بعد الفشل والانخذال وانكفأ المسلمون بالغنائم والسبي إلى حلب وسائر الأطرافوفي شوال من هذه السنة ترددت الرسل والمراسلات من الأميرين نور الدين محمود بن عماد الدين أتابك صاحب حلب ومعين الدين أنر إلى أن استقرت الحال بينهما على أجمل صفة وأحسن قضية وانعقدت الوصلة بين نور الدين وبين ابنة معين الدين وتأكدت الأمور على ما اقترح كل منهما وكتب كتاب العقد في دمشق بمحضر من رسل نور الدين في الخميس الثالث والعشرين من شوال سنة 541 وشرع في تحصيل الجهاز وعند الفراغ منه توجهت الرسل عائدةً إلى حلب وفي صحبتهم ابنة معين الدين ومر في جملتها من خواص الأصحاب في يوم الخميس النصف من ذي القعدة من السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 450 وكان معين الدين قد حصل آلات الحرب والمنجنيقات وجمع من أمكنه جميعه من الخيل والرجل وتوجه إلى ناحية صرخد وبصرى بعد أن أخفى عزيمته وستر نيته استظهاراً لبلوغ طلب وتسهيل أربه ونزل غفلةً على صرخد وكان المعروف بها بالتونتاش غلام أمين الدولة كمشتكين الأتابكي الذي كان واليا أولاً وكانت نفسه قد حدثته بجهله أنه يقاوم من يكون مستولياً على مدينة دمشق وأن الافرنج يعينونه على مراده وما يلتمسه من انجاده واسعاده ويكونون معه على ما نواه من عيثه وإفساده. وكان قد خرج للأمر المقضي من حصن صرخد إلى ناحية الافرنج للاستنصار بهم وتقرير أحوال الفساد معهم ولم يعلم أن الله لا يصلح عمل المفسدين ولم يشعر بما نواه معين الدين من ارهاقه بالمعاجلة وعكس اماله بالمنازلة فحال بينه وبينه العود إلى أحد الحصنين المذكورين ولم تزل المحاربة بين من في صرخد والمنازلين متصلة والنقوب مستعملة والمراسلات مترددة من الافرنج إلى معين الدين بالمسئلة والتلطف في اصلاح الأمر والوعد والوعيد والترهيب والتهديد إن لم يجب إلى المطلوب ومعين الدين لا يعدل عن المغالطة والمدافعة. وكان قد عرف تجمعهم وتأهبهم للنهوض إليه وإزعاجه وترحيلهم عنها فأوجبت هذه الحال أن راسل نور الدين صاحب حلب يسئله الانجاد على الكفرة الأضداد بنفسه وعسكره فأجابه إلى ذلك. وكان لاتفاق الصلاح مبرزاً بظاهر حلب في عسكره فثنى إليه الأعنة وأغذ السير ووصل إلى دمشق في يوم الأربعاء السابع وعشرين من ذي الحجة من السنة وخيم بعين شواقة وأقام أياماً يسيرة وتوجه نحو صرخد ولم يشاهد أحسن من عسكره وهيئته وعدته ووفور عدتهواجتمع العسكران وأرسل من بصرخد إليهما يلتمسان الأمان والمهلة أياماً ويسلم المكان وكان ذلك منهم على سبيل المغالطة والمخاتلة إلى حين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 451 يصل عسكر الافرنج لترحيل النازلين عليهم وقضى الله تعالى للخيرة التامة للمسلمين والمصلحة الشاملة لأهل الدين وصول من أخب بتجمع الافرنج واحتشادهم ونهوضهم في فارسهم وراجلهم مجدين السير إلى ناحية بصرى وعليها فرقة وافرة من العسكر محاصرةً لها فنهض العسكر في الحال والساعة عند المعرفة بذاك إلى ناحية بصرى كالشواهين إلى صيدها والبزاة إلى حجلها بحيث سبقوا الافرنج إلى بصرى فحالوا بينهم وبينها ووقعت العين على العين وقربت المسافة بين الفريقين واستظهر عسكر المسلمين على المشركين وملكوا عليهم المشرب والمسرب وضايقوهم برشق السهام وارسال نبل الحمام وأكثروا فيهم القتل والجراح واضرام النيران في هشيم النبات في طرقهم ومسالكهم وأشرفوا على الهلاك والدمار وحلول البوار وولوا الأدبار وتسهلت الفرصة في إهلاكهم وتسرعت الفوارس والأبطال إلى الفتك بهم والمجاهدة فيهموجعل معين الدين يكف المسلمين عنهم ويصدهم عن قصدهم والتتبع لهم في انهزامهم اشفاقاً من كرةً تكون لهم وراجعة عليهم بحيث عادوا على أعقابهم ناكصين وبالخذلان منهم منهزمين قد شملهم الفناء وأحاط بهم البلاء ووقع اليأس من فلاحهم وسلمت بصرى إلى معين الدين بعد تقرير أمر من بها واجابهم على اقترحوه من اقطاعاتهم ورحل عنها عائداً إلى صرخد. وجرى الأمر في تسليمها إلى معين الدين على هذه القضية وعاد العسكران إلى دمشق ووصلاها في يوم الأحد السابع والعشرين من المحرم سنة 42 وأقام نور الدين في الدار الأتابكية وتوجه عائداً إلى حلب في يوم الأربعاء انسلاخ المحرم من السنة المذكورةوفي هذا الوقت وصل التونتاش الذي خرج من صرخد إلى الافرنج بجهله وسخافة عقله إلى دمشق من بلاد الافرنج بغير أمان ولا تقرير استئذان توهماً منه أنه يكرم ويصطنع بعد الاساءة القبيحة والارتداد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 452 عن الاسلام فاعتقل في الحال وطالبه أخوه خطلخ بما جناه عليه من سمل عينيه وعقد لهما مجلس حضره القضاة والفقهاء وأوجبوا عليه القصاص فسمل كما سمل أخاه وأطلق إلى دار له بدمشق فأقام بهاوفي ذي الحجة من سنة 41 ورد الخبر بأن السلطان شاهنشاه مسعوداً عمل رأيه وتدبيره على تطييب نفس الأمير عباس فسكن إلى ذلك بعد التوثقة بالأيمان المؤكدة والعهود المشددة ووصل إليه إلى بغداد ساكناً إلى ما كان تأكد من ايمانه على نفسه وجماعته وكان السلطان قد تمكن في نفسه من الرعب منه والخوف على عسكره من قوة شوكته ومشهور هيبته وكثرة عدده وعدته ما لم يمكنه ترك الفرصة فيه وقد أمكنت والغرة قد تسهلت وتيسرت فرتب له جماعةً للفتك به عند دخوله عليه فعوجل عليه بالقتل ونهبت خزائن أمواله وآلاته وكراعه وامتلأت أيدي جماعة من نهبها وتفرق عسكره في البلاد والأعمال. وكان له الذكر الحسن والفعل المستحسن والأجر الوافر والمدح السائر بما كان له في مجاهرة أحزاب الباطنية والفتك بهم والقمع لهم والحصر في معاقلهم والكف لشرهم ولكن الأقدار لا تغالب والأقضية لا تدافعوأما أخبار المغرب والحوادث فيه فلم تسكن النفس إلى إثبات شيء من طوائح أخباره وما يؤخذ من أفواه تجاره. وقد أفردت من أحوال الخوارج فيه والفتن المتصلة بين أهليه من الحروب المتصلة وسفك الدماء ما لا تثق النفس به لاختلاف الروايات وتباين الحكايات. وكان قد ورد من فقهاء المغاربة من وثقت النفس بما أورده وسكنت إلى ما شرحه وعدده وحضرت كتب من أهل المغرب إلى أقاربهم ببعض الشرح ووافق ورود ذلك في سنة 541 بالتواريخ المتقدمة والحكايات المختلفة فرأيت ذكر ذلك وشرحه في هذا المكان. فمن ذلك ظهور المعروف بالفقيه السوسي الخارج بالمغرب وما آل إليه أمره إلى أن هلك ومن قام بعده واستمر على مذهبه وما اعتمده من الفساد وسفك الدماء ومخالفة الشريعة الاسلامية. ومبدأ ذلك على ما حكي ظهور المعروف بالفقيه أبي محمد ابن تومرت من جبل السوس ومولده به وأصله مصمودي وكان غايةً في التفقه والدين مشهوراً بالورع والزهد وكان قد سافر إلى العراق وجال في تلك الأعمال ومهر في المناظرة والجدال واجتمع بايمة الفقهاء وأخذ عنهم وسمع منهم وعاد إلى ناحية مصر وما والاها واجتمع مع علمائها وقرأ عليهم ثم عاد إلى المغرب ودعا إلى مذهب الفكر. وابتداء ظهوره في سنة 512 في مدينة تعرف بدرن في جبل أوله في البحر المحيط وآخره في بحر الاسكندرية في رأس أوثان وغلب على جبل السوس واجتمع إليه خلق كثير من قبائل المصامدة بجبل درن وقيل إنه وصل إلى المهدية وأمر أهلها أن يبنوا قصراً على نية الفكرة وأن يعبدوا الله فيه بالفكرة فاجتمع مشايخ أهل المهدية وفقهاؤها وعزموا على بناء ما أمرهم به والعبادة لله تعالى فيه فقام رجل من كبار الفقهاء وقال: نقيم ما أقمنا بالمهدية ويجيء إليكم رجل بربري مصمودي يأمركم بالعبادة بالفكرة فتجيبون إلى ما أمركم به وتسارعون إلى قبول ما ذكره لكم. وأنكر هذا الأمر إنكاراً شديداً حتى عادوا عنه وأبطلوه واقتضت هذه الحال خروج الخارجي من المهدية إذ لم يتم له فيها أمر ولا بلغ غرضاًوقصد بلداً في الغرب يعرف ببجاية في أيدي بني حماد بن صنهاجة وشرع في الانكار على أهله شرب الخمور وجعل يكسر الأواني إلى أن منع من شربها وساعده على ذلك ابن حمدون مقدم هذا البلد حمل إليه مالاً فامتنع من أخذه وتعفف عنه لما أظهره من الزهد في الدنيا والتفقه والورع. ثم خرج من هذا البلد وقصد مدينة أغمات فأظهر فيها الزهد وتدريس الفقه وصار معه من أتباعه تقدير أربعمائة رجل من المصامدة ثم ارتفع أمره وظهر شره واتصل خبره إلى الأمير ابن يوسف بن تاشفين وما هو عليه وما يظهره ويطلقه من إباحة دمه ودم أصحابه وأهل مملكته فاستدعاه الأمير المذكور إلى حضرته وجمع له وجوه الفقهاء والمقدمين إلى مجلس حفل ووقع الاختيار من الجماعة على فقيه يعرف بأبي عبد الله محمد بن مالك بن وهب الأندلسي لمناظرته فناظره في هذا المحفل فاستظهر عليه في المناظرة وقهره وغلبه فقال الخارجي السوسي المناظر له: انظرني. فأجابه إلى ما طلب ثم قال لابن يوسف بن تاشفين المقدم: ينبغي أن يأمر الأمير بحبس هذا المفتن لكشف سره ويحقق أمره ويظهر لكافة المسلمين صحة خبره فإنه لا يريد غير الدنيا والسلطنة والفساد في الأرض وقتل النفوس. فما حفل بكلامه ولا أصغى إلى إشارته وتغافل عنه للأمر المقضي وأعان هذا الخارجي قوم من المقدمين على مرامه وحامى عنهثم عاد إلى السوس إلى جبل درن وكان يقول للناس: كلما قربتم من المرابطين وملتم إليهم كانوا مطاياكم إلى الجنة لأنهم حماة الدين والذابون عن المسلمين. ثم حمل المرابطين والملثمين وقد مال معه منهم الخلق الكثير والجم الغفير على محاربة الأمير علي بن يوسف ابن تاشفين وجمع عليه وحشد وقويت نفسه ونفوس من معه على اللقاء ومعهم أصحاب القوة والبسالة وشدة البأس والشجاعة ونشبت الحرب بين الفريقين وأريقت الدماء بين الجهتين ولم تزل رحى الحرب دائرة بينهم إلى أن كان بينهم في عدة سنين متوالية أربعة مصافات هائلةً منكرة قتل فيها من الفريقين ما قدر وحزر تقدير مائتي ألف نفس ولم تزل الحرب على ذلك مستمرة على هذه القضية الشنيعة والصفة الفظيعة إلى أن أهلكه الله تعالى بمدينة درن في سنة 522. وخلف جماعةً من تلامذته وأصحابه سلكوا سبيله وبنوا على بنائه وسلكوا مذهبه في الفساد وتولد بينهم مذهب سموه تكفير الذنب هذا ما أورده وحكاه وشاهده واستقصاه الفقيه أبو عبد الله محمد ابن عبد الجبار الصقلي باملائه من لسانه ورد من فقهاء المغاربة من وثقت النفس بما أورده وسكنت إلى ما شرحه وعدده وحضرت كتب من أهل المغرب إلى أقاربهم ببعض الشرح ووافق ورود ذلك الجزء: 1 ¦ الصفحة: 453 في سنة 541 بالتواريخ المتقدمة والحكايات المختلفة فرأيت ذكر ذلك وشرحه في هذا المكان. فمن ذلك ظهور المعروف بالفقيه السوسي الخارج بالمغرب وما آل إليه أمره إلى أن هلك ومن قام بعده واستمر على مذهبه وما اعتمده من الفساد وسفك الدماء ومخالفة الشريعة الاسلامية. ومبدأ ذلك على ما حكي ظهور المعروف بالفقيه أبي محمد ابن تومرت من جبل السوس ومولده به وأصله مصمودي وكان غايةً في التفقه والدين مشهوراً بالورع والزهد وكان قد سافر إلى العراق وجال في تلك الأعمال ومهر في المناظرة والجدال واجتمع بايمة الفقهاء وأخذ عنهم وسمع منهم وعاد إلى ناحية مصر وما والاها واجتمع مع علمائها وقرأ عليهم ثم عاد إلى المغرب ودعا إلى مذهب الفكر. وابتداء ظهوره في سنة 512 في مدينة تعرف بدرن في جبل أوله في البحر المحيط وآخره في بحر الاسكندرية في رأس أوثان وغلب على جبل السوس واجتمع إليه خلق كثير من قبائل المصامدة بجبل درن وقيل إنه وصل إلى المهدية وأمر أهلها أن يبنوا قصراً على نية الفكرة وأن يعبدوا الله فيه بالفكرة فاجتمع مشايخ أهل المهدية وفقهاؤها وعزموا على بناء ما أمرهم به والعبادة لله تعالى فيه فقام رجل من كبار الفقهاء وقال: نقيم ما أقمنا بالمهدية ويجيء إليكم رجل بربري مصمودي يأمركم بالعبادة بالفكرة فتجيبون إلى ما أمركم به وتسارعون إلى قبول ما ذكره لكم. وأنكر هذا الأمر إنكاراً شديداً حتى عادوا عنه وأبطلوه واقتضت هذه الحال خروج الخارجي من المهدية إذ لم يتم له فيها أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 454 ولا بلغ غرضاًوقصد بلداً في الغرب يعرف ببجاية في أيدي بني حماد بن صنهاجة وشرع في الانكار على أهله شرب الخمور وجعل يكسر الأواني إلى أن منع من شربها وساعده على ذلك ابن حمدون مقدم هذا البلد حمل إليه مالاً فامتنع من أخذه وتعفف عنه لما أظهره من الزهد في الدنيا والتفقه والورع. ثم خرج من هذا البلد وقصد مدينة أغمات فأظهر فيها الزهد وتدريس الفقه وصار معه من أتباعه تقدير أربعمائة رجل من المصامدة ثم ارتفع أمره وظهر شره واتصل خبره إلى الأمير ابن يوسف بن تاشفين وما هو عليه وما يظهره ويطلقه من إباحة دمه ودم أصحابه وأهل مملكته فاستدعاه الأمير المذكور إلى حضرته وجمع له وجوه الفقهاء والمقدمين إلى مجلس حفل ووقع الاختيار من الجماعة على فقيه يعرف بأبي عبد الله محمد بن مالك بن وهب الأندلسي لمناظرته فناظره في هذا المحفل فاستظهر عليه في المناظرة وقهره وغلبه فقال الخارجي السوسي المناظر له: انظرني. فأجابه إلى ما طلب ثم قال لابن يوسف بن تاشفين المقدم: ينبغي أن يأمر الأمير بحبس هذا المفتن لكشف سره ويحقق أمره ويظهر لكافة المسلمين صحة خبره فإنه لا يريد غير الدنيا والسلطنة والفساد في الأرض وقتل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 455 النفوس. فما حفل بكلامه ولا أصغى إلى إشارته وتغافل عنه للأمر المقضي وأعان هذا الخارجي قوم من المقدمين على مرامه وحامى عنهثم عاد إلى السوس إلى جبل درن وكان يقول للناس: كلما قربتم من المرابطين وملتم إليهم كانوا مطاياكم إلى الجنة لأنهم حماة الدين والذابون عن المسلمين. ثم حمل المرابطين والملثمين وقد مال معه منهم الخلق الكثير والجم الغفير على محاربة الأمير علي بن يوسف ابن تاشفين وجمع عليه وحشد وقويت نفسه ونفوس من معه على اللقاء ومعهم أصحاب القوة والبسالة وشدة البأس والشجاعة ونشبت الحرب بين الفريقين وأريقت الدماء بين الجهتين ولم تزل رحى الحرب دائرة بينهم إلى أن كان بينهم في عدة سنين متوالية أربعة مصافات هائلةً منكرة قتل فيها من الفريقين ما قدر وحزر تقدير مائتي ألف نفس ولم تزل الحرب على ذلك مستمرة على هذه القضية الشنيعة والصفة الفظيعة إلى أن أهلكه الله تعالى بمدينة درن في سنة 522. وخلف جماعةً من تلامذته وأصحابه سلكوا سبيله وبنوا على بنائه وسلكوا مذهبه في الفساد وتولد بينهم مذهب سموه تكفير الذنب هذا ما أورده وحكاه وشاهده واستقصاه الفقيه أبو عبد الله محمد ابن عبد الجبار الصقلي باملائه من لسانه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 456 ثم تناصرت الأخبار بعد ذلك من ناحية المغرب بظهور أحد تلامذة المذكور يعرف بالفقيه عبد المؤمن فلقب بالمهدي أمير المؤمنين وخليفة المهدي إلى سبيل الموحدين واجتمع إليه مع من كان في حزبه من طوائف السوس والبربر والمصامدة والمرابطين والملثمين ما لا يحصى له عدد ولا يدرك أمد وشرع في سفك الدماء وافتتاح البلاد المغربية بالسيف والقتل لمن بها من الرجال والحرم والأطفال ما شاعت به الأخبار وانتشر ذكره في سائر الأقطار. ووردت مكاتبات السفار والتجار ومن جملتها كتاب وقفت عليه من هذا الخارجي ما نسخة عنوانه: من أمير المؤمنين وخليفة المهدي إلى سبيل الموحدين إلى أهليه. بسم الله الرحمن الرحيم وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين. أما بعد: يا عضد الفجار وعباد الفساق الأشرار فقد كاتبناكم بالبنان وخاطبناكم بالبيان حتى سار كالبدر واستمر مرور الدهر فلم تجيبوا ولا أطعتم بل تثاقلتم عن الحق وعصيتم وإن الله سينتقم منكم لأوليائه نقمة من كان قبلكم من الأمم الجاحدة والفرق المعاندة فانتظروا سيف الدم ينهلكم وحجارة المدر تدمغكم ثم لا يكون لكم استرجاع ولا يقبل فيكم استشفاع وهذه خيل الله قد أظلتكم وبلها وطمى عليكم سيلها فتأهبوا للموت والسلام على من اتبع الهدى هداه ولم يغلب عليه هواه ورحمة الله وبركاته الجزء: 1 ¦ الصفحة: 457 سنة اثنتين وأربعين وخمسمائة في صفر منها عاد الحاجب محمود الكاتب من بغداد بجواب ما صدر على يده من المكاتبات المعينة ومعه رسولاً للخليفة والسلطان وعلى أيديهما التشريف برسم ظهير الدين ومعينه ولبساه وظهرا فيه في يوم السبت الثامن عشر من ربيع الآخر وأقاما أياماً وعادا بجواب ما وصل معهما وورد الخبر عقيب ذلك من بغداد بأن السلطان كان قد توجه منها بعد قتل الأمير عباس في العسكر إلى ناحية همذان عند انتهاء الأخبار إليه بأن الأمير عباس وعسكره قد انضاف إلى الأمير بوز به وصارا يداً واحدةً في خلق عظيم وقصدا ناحية أصفهان ونزلا عليها وضايقاها إلى أن أسلمت إلى بوزبه بأسباب اقتضت ذلك ولما حصل السلطان بظاهر همذان تواصلت العساكر من كل جهة إليه وصار في خلق كثير ووردت الأخبار إلى بغداد بأن السلطان لما كثف جمعه وقويت نفسه وقصد المذكورين وقصدوه وترتب المصاف بينهم والتقى المصافات ومنح الله السلطان النصر عليهم وكسرهم وقتل بوز به وابن عباس واستولى عسكر السلطان على الفل والسواد. وحكى الحاكي المشاهد لهذه الوقعة في كتابه بشرحها ما ذكر فيه إن مبدأ الفتح إن السلطان كان في مخيمه بباب همذان في تقدير ثلاثة آلاف فارس وبوزبه في عسكره على باب أصفهان في خلق عظيم وإن بوزبه لما عرف ذلك طمع فيه ونهض في عسكره إليه وقطع مسافة ثلاثين فرسخاً في يوم وليلة ووصل إلى مكر بابكان وقد كلت الخيل ونزل هناك. فلما عرف السلطان ذلك التجأ إلى بساتين همذان وجعلها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 458 ظهره مع جبلين هناك ووصل إليه الأمير حيدر صاحب زنكان في ألف فارس ووصله الأمير اكز في خمسة ألف فارس ووصله خاصبك بلنكى في اثني عشر ألفاً قويت بهم شوكته ونهض إلى جهة بوزبه عند ذلك وعبأ كل فريق منهما مصافه في يوم السبت من شهر ..... منذ غداته إلى وقت العصر منه وكسرت الميمنة السلطانية وفيها الأمير جندار والميسرة فيها الأمير تبر وبقي السلطان في القلب وعرف إن بوزبه يقصده فقال للأمير جندار: أنا المطلوب أقم أنت مكاني تحت الشمسة فإن بوزبه يطلبها لقصدي. ففعل ونهض السلطان في جملة وافرة من العسكر وجاء من وراء عسكر بوزبه وحمل بوزبه وقصد مكان السلطان تحت الشمسة فلما قرب بوزبه في جملته من الشمسة كبا به جواده وسقط إلى الأرض فانفل عسكره وأدركته الخيل فأخذ هو وخواصه وابن عباس ووزير بوزبه يقال له صدر الدين ابن الخوجندي وكان قد أعلن بوزبه على تسلم أصفهان فجازاه على ذلك باستيزاره وفي يوم الخميس الحادي والعشرين من شهر ربيع الآخر وصل رسول مصر إلى دمشق بما صحبه من تشريف وقود ومال برسم ظهير الدين ومعينه على جاري الرسم في مثل ذلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 459 وفي ليلة الجمعة الثالث من شهر ربيع الأول من السنة توفي الفقيه شيخ الاسلام أبو الفتح نصر الله بن محمد بن عبد القوي المصيصي بدمشق رحمه الله وكان بقية الفقهاء المقيمين على مذهب الشافعي رحمه الله ولم يخلف مثله بعده وفي جمادى الآخرة منها تقررت ولاية حصن صرخد للأمير مجاهد الدين بزان بن مامين على مبلغ من المال والغلة وشروط وإيمان دخل فيها وقام بها وتوجه إليه وحصل به في النصف من الشهر المذكور واستبشر من بتلك الناحية من حصوله فيه لما هو عليه من حب الخير والصلاح والتدين والعفاف عقيب من كان قبله ممن لا يدين الله بدين ولا صلاة ولا انصاف ولا نزاهة نفس ولا جميل فعل وفي هذه السنة وردت الأخبار من ناحية مصر بأن رضوان بن ولخشي المنعوت كان بالأفضل وزير صاحب مصر الذي كان معتقلاً بالقصر وقد تقدم ذكره فيما مضى نقب من المكان الذي كان فيه إلى مكان ظاهر القصر نقباً يكون تقدير طوله أربعون ذراعاً واجتمع إليه خلق كثير من العسكرية ممن كان يهواه ويتوالاه في العشر الأخير من ذي القعدة سنة 42 وإنه راسل سلطان مصر يلتمس منه إعادته إلى منصبه وإخراج المال لينفق على العسكرية والأجناد فعاد الجواب إليه بالوعد بالاجابة على سبيل المغالطة والمدافعة إلى حين دبر الأمر عليه ورتب له من الرجال الأجلاد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 460 وأبطال الأجناد والأنجاد من هجم عليه في مكانه ومجتمع أعوانه فقتل وقتل معه من دنا منه وتابعه وورد بشرح قصته السجل من سلطان مصر إلى ثغر عسقلان وقرئ على منبرها ومضمونه: بسم الله الرحمن الرحيم ..... وفي يوم الخميس الحادي والعشرين من شوال سنة 42 وهو مستهل نيسان أظلم الجو ونزل غيث ساكن ثم أظلمت الأرض في وقت صلاة العصر ظلاماً شديداً بحيث كان ذلك كالغدرة بين العشايين وبقيت السماء في عين الناظر إليها كصفورة الورس وكذلك الجبال وأشجار الغوطة وكل ما ينظر إليه من حيوان وجماد ونبات. ثم جاء في أثر ذلك من الرعد القاصف والبرق الخاطف والهدات المزعجة والزحفات المفزعة ما ارتاع لها الشيب والشبان فكيف الولدان والنسوان وقلقت لذلك الخيول في مرابطها وأجفلت من هولها وبقي الأمر على هذه الحال إلى حين وقت العشاء الآخرة ثم سكن ذلك بقدرة الله تعالى وأصبح الناس غد ذلك اليوم ينظرون في أعقاب ذلك المطر فإذا على الأرض والأشجار وسائر النبات غبار في رقة الهواء بين البياض والغبرة بحيث يكون إذا جرد عنها الشيء الكثير ويلوح فيه بريق لا يدرى ما لونه ولا جسمه من نعومته فعجب الناس من هذه القدرة التي لا يعلم ما أصلها ولا شبيه لها بل نزلت في جملة المطر ممتزجةً به كامتزاج الماء بالماء والهواء بالهواء وفي هذه السنة تواصلت الأخبار من ناحية القسطنطينية وبلاد الافرنج والروم وما والاها بظهور ملك الافرنج من بلادهم منهم المان والفنش وجماعة من كبارهم في العدد الذي لا يحصر والعدد التي لا تحزر لقصد بلاد الاسلام بعد أن نادوا في سائر بلادهم ومعقلهم بالنفير إليها والاسراع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 461 نحوها وتخلية بلادهم وأعمالهم خاليةً سافرةً من حماتها والحفظة لها واستصحبوا من أموالهم وذخائرهم وعددهم الشيء الكثير الذي لا يحصى بحيث يقال إن عدتهم ألف ألف عنان من الرجالة والفرسان وقيل أكثر من ذلك وغلبوا على أعمال القسطنطينية واحتاج ملكها إلى الدخول في مداراتهم ومسالمتهم والنزول على أحكامهم. وحين شاع خبرهم واشتهر أمرهم شرعت ولاة الأعمال المصاقبة لهم والأطراف الاسلامية القريبة منهم في التأهب للمدافعة لهم والاحتشاد على المجاهدة فيهم وقصدوا منافذهم ودروب معابرهم التي تمنعهم من العبور والنفوذ إلى بلاد الاسلام وواصلوا شن الغارات على أطرافهم واشتجر القتل فيهم والفتك بهم إلى أن هلك منهم العدد الكثير وحل بهم من عدم القوت والعلوفات والمير وغلاء السعر إذا وجد ما أفنى الكثير منهم بموت الجوع والمرض ولم تزل أخبارهم تتواصل بهلاكهم وفناء أعدادهم إلى أواخر سنة 542 بحيث سكنت النفوس بعض السكون وركنت إلى فساد أحوالهم بعض الركون وخف ما كان من الانزعاج والفرق مع تواصل أخبارهم ثم دخلت سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة وأولها يوم الجمعة الحادي وعشرين من أيار والشمس في الجوزاء. وفي أوائلها تواترت الأخبار من سائر الجهات بوصول مراكب الافرنج المقدم ذكرهم إلى ساحل البحر وحصولهم على سواحل الثغور الساحلية صور وعكا الجزء: 1 ¦ الصفحة: 462 واجماعهم مع من كان بها من الافرنج ويقال إنهم بعد ما فني منهم بالقتل والمرض والجوع تقدير مائة ألف عنان وقصدوا بيت المقدس وقضوا مفروض حجهم وعاد بعد ذلك من عاد إلى بلادهم في البحر. وقد هلك منهم بالموت والمرض الخلق العظيم وهلك من ملوكهم من هلك وبقي المان أكبر ملوكهم ومن هو دونه واختلفت الآراء بينهم فيما يقصدون منازلته من البلاد الاسلامية والأعمال الشامية إلى أن استقرت الحال بينهم على منازلة مدينة دمشق وحدثتهم نفوسهم الخبيثة بملكتها وتبايعوا ضياعها وجهاتها. وتواصلت الأخبار بذلك وشرع متولي أمرها الأمير معين الدين أنر في التأهب والاستعداد لحربهم ورفع شرهم وتحصين ما يخشى من الجهات وترتيب الرجال في المسالك والمنافذ وقطع مجاري الميرة إلى منازلهم وطم الآبار وعفى المناهل وصرفوا أعنتهم إلى ناحية دمشق في حشدهم وحدهم وحديدهم في الخلق الكثير على ما يقال تقدير الخمسين ألف من الخيل والرجل ومعهم من السواد والجمال والأبقار ما كثروا به العدد الكثير ودنوا من البلد وقصدوا المنزل المعروف بمنازل العساكر فصادفوا الماء معدوماً فيه مقطوعاً عنه فقصدوا ناحية المزة فخيموا عليها لقربها من الماء وزحفوا إليه بخيلهم ورجلهم. ووقف المسلمون بإزائهم في يوم السبت السادس من شهر ربيع الأول سنة 43 ونشبت الحرب بين الفريقين واجتمع عليهم من الأجناد والأتراك القتال وأحداث البلد والمطوعة والغزاة الجم الغفير واشتجر القتل بينهم واستظهر الكفار على المسلمين بكثرة الأعداد والعدد وغلبوا على الماء وانتشروا في البساتين وخيموا فيها وقربوا من البلد وحصلوا منه بمكان لم يتمكن أحد من العساكر قديماً ولا حديثاً منه. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 463 واستشهد في هذا اليوم الفقيه الامام يوسف الفندلاوي المالكي رحمه الله قريب الربوة على الماء لوقوفه في وجوههم وترك الرجوع عنهم اتباعاً لأوامر الله تعالى في كتابه الكريم وكذلك عبد الرحمن الحلحولي الزاهد رحمه الله جرى أمره هذا المجرى وشرعوا في قطع الأشجار والتحصين بها وهدم القناطر وباتوا تلك الليلة على هذه الحال وقد لحق الناس من الارتياع لهول ما شاهدوه والروع بما عاينوه ما ضعفت به القلوب وحرجت معه الصدور وباكروا الظهور إليهم في غد ذلك اليوم وهو يوم الأحد تاليه وزحفوا إليهم ووقع الطراد بينهم واستظهر المسلمون عليهم وأكثروا القتل والجراح فيهم. وأبلى الأمير معين الدين في حربهم بلاءً حسناً وظهر من شجاعته وصبره وبسالته ما لم يشاهد في غيره بحيث لا يني في ذيادتهم ولا يفثئ عن جهادهم ولم تزل رحى الحرب دائرةً بينهم وخيل الكفار محجمةً عن الحملة المعروفة لهم إلى أن تتهيأ الفرصة لهم إلى أن مالت الشمس إلى الغروب وأقبل الليل وطلبت النفوس الراحة وعاد كل منهم إلى مكانه وبات الجند بإزائهم وأهل البلد على أسوارهم للحرس والاحتياط وهم يشاهدون أعداءهم بالقرب منهم وكانت المكاتبات قد نفذت إلى ولاة الأطراف بالاستصراخ والاستنجاد وحصلت خيل التركمان تتواصل ورجالة الأطراف تتتابع وباكرهم المسلمون الجزء: 1 ¦ الصفحة: 464 وقد قويت نفوسهم وزال روعهم وثبتوا بإزائهم وأطلقوا فيهم السهام ونبل الجرح بحيث تتبع في مخيمهم في راجل أو فارس أو فرس أو جمل ووصل في هذا اليوم من ناحية البقاع وغيرها رجالة كثيرة من الرماة فزادت بهم العدة وتضاعفت العدة وانفصل كل فريق إلى مستقره هذا اليوم وباكروهم من غده يوم الثلاثاء كالبزاة إلى تعاقيب الجبل والشواهين إلى مطار الحجل وأحاطوا بهم في مخيمهم وحول مجثمهم وقد تحصنوا بأشجار البساتين وأفسدوها رشقاً بالنشاب وحذفاً بالأحجار. وقد أحجموا عن البروز وخافوا وفشلوا ولم يظهر منهم أحد وظن بهم إنهم يعملون مكيدةً ويدبرون حيلةً ولم يظهر منهم إلا النفر اليسير من الخيل والرجل على سبيل المكاردة والمناوشة خوفاً من المهاجنة إلى أن يجدوا لحملتهم مجالاً أو يجدون لفرهم احتيالاً وليس يدنو منهم أحد إلا صرع برشقة أو طعنة وطمع فيهم نفر كثير من رجالة الأحداث والضياع وجعلوا يرصدونهم في المسالك وقد انثنوا فيقتلون من ظفروا به ويحضرون رؤوسهم لطلب الجوائز عنها وحصل من رؤوسهم العدد الكثير وتواترت إليهم أخبار العساكر الاسلامية بالخفوف إلى جهادهم والمسارعة إلى استئصالهم فأيقنوا بالهلاك والبوار وحلول الدمار واعملوا الآراء بينهم فلم يجدوا لنفوسهم خلاصاً من الشبكة التي حضلوا فيها والهوة التي ألقوا بنفوسهم إليها غير الرحيل سحراً يوم الأربعاء المتالي مجفلين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 465 والهرب مخذولين مفلولين. وحين عرف المسلمون ذلك وبانت لهم آثارهم في الرحيل برزوا لهم في بكرة هذا اليوم وسارعوا نحوهم في آثارهم بالسهام بحيث قتلوا في أعقابهم من الرجال والخيول والدواب العدد الكثير ووجد في آثار منازلهم وطرقاتهم من دفائن قتلاهم وفاخر خيولهم ما لا عدد له ولا حصر يلحقه بحيث لها أرائح من جيفهم تكاد تصرع الطيور في الجو وكانوا قد أحرقوا الربوة والقبة الممدودة في تلك الليلة واستبشر الناس بهذه النعمة التي أسبغها الله عليهم وأكثروا من الشكر له تعالى ما أولاهم من إجابة دعائهم الذي واصلوه في أيام هذه الشدة فلله على ذلك الحمد والشكر واتفق عقيب هذه الرحمة اجتماع معين الدين مع نور الدين صاحب حلب عند قربه من دمشق للانجاد لها في أواخر شهر ربيع الآخر من السنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 466 وإنهما قصدا الحصن المجاور لطرابلس المعروف ...... وفيه ولد الملك الفنش أحد ملوك الافرنج المقدم ذكرهم كان هلك بناحية عكا ومعه والدته وجماعة وافرة من خواصه وأبطاله ووجوه رجاله فأحاطوا به وهجموا عليه وقد كان وصل إلى العسكرين النوري والمعيني فريقة تناهز الألف فارس من عسكر سيف الدين غازي بن أتابك ونشبت الحرب بينهم فقتل أكثر من كان فيه وأسر وأخذ ولد الملك المذكور وأمه ونهب ما فيه من العدد والخيول والأثاث وعاد عسكر سيف الدين إلى مخيمه بحمص ونور الدين عائداً إلى حلب ومعه ولد الملك وأمه ومن أسر معهما وانكفأ معين الدين إلى دمشق وقد كان ورد إلى دمشق الشريف الأمير شمس الدين ناصح الاسلام أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبيد الله الحسيني النقيب من ناحية سيف الدين غازي بن أتابك لأنه كان قد ندب رسولاً من الخلافة إلى سائر الولاة وطوائف التركمان لبعثهم على نصرة المسلمين ومجاهدة المشركين وكان ذلك السبب في خوف الافرنج من تواصل الامداد إليهم والاجتماع عليهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 467 ورحيلهم على القضية المشروحة. وهذا الشريف المذكور في بيت كبير في الشرف والفضل والأدب وأخوه ضياء الدين نقيب الأشراف في الموصل مشهور بالعلم والأدب والفهم وكذا ابن عمه الشريف نقيب العلويين ببغداد وابن عمه نقيب خراسان وأقام بدمشق ما أقام وظهر من حسن تأتيته في مقاصده وسداده في مصادره وموارده ما أحرز به جميل الذكر ووافر الشكر وعاد منكفئاً إلى بغداد بجواب ما وصل فيه يوم الأربعاء الحادي عشر من رجب سنة 43 وفي رجب في هذه السنة ورد الخبر من ناحية حلب بأن صاحبها نور الدين أتابك أمر بإبطال حي على خير العمل في أواخر تأذين الغداة والتظاهر بسب الصحابة رضي الله عنهم وأنكر ذلك انكاراً شديداً وحظر المعاودة إلى شيء من هذا المنكر وساعده على ذلك الفقيه الامام برهان الدين أبو الحسن علي الحنفي وجماعة من السنة بحلب وعظم هذا الأمر على الاسماعيلية وأهل الشيع وضاقت له صدورهم وهاجوا له وماجوا ثم سكنوا وأحجموا بالخوف من السطوة النورية المشهورة والهيبة المحذورة وفي رجب من هذه السنة أذن لمن يتعانى الوعظ بالتكلم في الجامع المعمور بدمشق على جاري العادة والرسم فبدأ من اختلافهم في أحوالهم وأعراضهم والخوض فيما لا حاجة إليه من المذاهب ما أوجب صرفهم عن هذه الحال وإبطال الوعظ لما يتوجه معه من الفساد وطمع سفهاء الأوغاد وذلك في أواخر شعبان منها وفي جمادى الآخرة منها وردت الأخبار من بغداد باضطراب الأحوال فيها وظهور العيث والفساد في نواحيها وضواحيها وأن الأمير بازبه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 468 والأمير قيس والأمير علي بن دبيس بن صدقة اجتمعوا وتوافقوا في تقدير خمسة آلاف فارس ووصلوا إلى بغداد على حين غفلة من أهلها وهجموها وحصلوا بدار السلطان وتناهوا في الفساد والعناد بحيث وقعت الحرب بينهم وقتل من النظار وغيرهم نحو خمسمائة إنسان في الطرقات وأن أمير المؤمنين المقتفي لأمر الله رتب الأجناد والعسكرية بازائهم بحيث هزموهم وأخرجوهم من بغداد وطلبوا ناحية النهروان وتناهوا في العيث والافساد في الأعمال والاستيلاء على الغلال وخرج أمر الخلافة بالشروع في عمارة سور بغداد وحفر الخنادق وتحصينها والزام الأماثل والتناء والتجار وعيان الرعايا القيام بما ينفق على العمارات من أموالهم على سبيل القرض والمعونة ولحق الناس من ذلك المشقة والكلفة المؤلمة. وذكر أن السلطان ركن الدين مسعود مقيم بهمذان وأن أمره قد ضعف عما كان والأقوات قد قلت والسعر قد غلا والفتن قد ثارت والفساد في الأعمال قد انتشر وأن العدوان في أعمال خراسان قد زاد وظهر والفناء قد كثر وفي هذه السنة وردت الأخبار من ديار مصر بظهور بعض أولاد نزار واجتمع إليه خلق كثير من المغاربة وكتامة وغيرهم وقربوا من الاسكندرية في عالم عظيم وأن إمام مصر الحافظ انهض إليهم العساكر المصرية ونشبت الحرب بينهم وقتل من الفريقين العدد الكثير من الفرسان والرجالة وكان الظهور العساكر الحافظية على النزارية بحيث هزموهم وأثخنوا القتل فيهم وأجلت الوقعة عن قتل ولد نزار المقدم ومعه جماعة من خواصه وأسبابه وانهزم من ثبطه الأجل وأطار قلبه الوجل وخمدت عقيب هذه النوبة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 469 الثائرة وزالت تلك الفتنة الثائرة وسكنت النفوس وزال عن مصر الخوف والبؤس ووردت الأخبار في رجب منها من ناحية حلب بأن نور الدين صاحبها كان قد توجه في عسكره إلى ناحية الأعمال الافرنجية وظفر بعدة وافرة من الافرنج وأن صاحب أنطاكية جمع الافرنج فصده على حين غفلة منه فنال من عسكره وأثقاله وكراعه ما أوجبته الأقدار النازلة وانهزم بنفسه وعسكره وعاد إلى حلب سالماً في عسكره لم يفقد منه إلا النفر اليسير بعد قتل جماعة وافرة من الافرنج وأقام بحلب أياماً بحيث جدد ما ذهب له من البرك وما يحتاج إليه من آلات العسكر وعاد إلى منزله وقيل لم يعد وكان الغيث أمسك عن الأعمال الحورانية والغوطية والبقاعية بحيث امتنع الناس من الفلاحة والزراعة وقنطوا ويئسوا من نزول الغيث فلما كان في أيام من شعبان في نوء الهنعة أرسل الله تعالى وله الحمد والشكر على الأعمال من الأمطار المتداركة ما رويت به الأراضي والآكام والوهاد وانشرحت الصدور ولحقوا معه أوان الزراعة فاستكثروا منها وزادوا في الفلاحة والعمارة وذلك في شعبانوقد كان تقدم من شرح نوبة قتل برق بن جندل التميمي بيد الاسماعيلية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 470 وجمع أخيه ضحاك بن جندل لبني عمه وأسرته وقومه ورجاله وكبسه لجماعة خصومه وقتلهم مع رأس طغيانهم بهرام الداعي ما قد شرح في موضعه من هذا التاريخ وعرف وورد الخبر في شعبان من هذه السنة بأن المذكورين ندبوا لقتل ضحاك المذكور رجلين أحدهما قواساً والآخر نشاباً فوصلا إليه وتقربا بصنعتهما إليه وأقاما عنده برهةً من الزمان طويلةً إلى أن وجدوا فيه الفرصة متسهلة وذاك أن ضحاك بن جندل كان راكباً مسيراً حول ضيعة له تعرف ببيت لهيا من وادي التيم فلما عاد عنها وافق اجتيازه بمنزل هذين المفسدين فلقياه وسألاه النزول عندهما للراحة وألحا عليه في السؤال فنزل والقدر منازلة والبلاء معادلة فلما جلس أتياه بمأكول حضرهما فحين شرع في الأكل مع الخلوة وثبا عليه فقتلاه وأجفلا فأدركهما رجاله فأخذوهما وأتوا بهما إلى ضحاك وقد بقي فيه رمق فلما رآهما أمر بقتلها بحيث شاهدهما ثم فاضت نفسه في الحال وقام مقامه ولده من أمارة وادي التيم وبهذا الشرح وصل كتابه وعلى هيئته أوردتهوفي ذي الحجة ورد الخبر من ناحية بغداد بوفاة القاضي قاضي القضاة الأكمل فخر الدين عز الاسلام أبي القسم علي بن الحسين بن محمد الزينبي رحمه الله بيوم النحر من سنة 543 وصلى عليه الامام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين وصلى عليه بعده نقيب النقباء ودفن على والده نور الهدى في تربة الامام أبي حنيفة رحمه الله وولي أمر القضاء بعده القاضي أبو الحسن علي بن الدامغاني ودخلت سنة أربع وأربعين وخمسمائة وأولها يوم الأربعاء الحادي عشر من أيار. قد كان كثر الفساد الافرنج المقيمين بصور وعكا والثغور الساحلية بعد رحيلهم عن دمشق وفساد شرائط الهدنة المستقرة بين معين الدين وبينهم بحيث شرعوا في الفساد في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 471 الأعمال الدمشقية فاقتضت الحال نهوض الأمير معين الدين في العسكر الدمشقي إلى أعمالها مغيراً عليها وعائثاً فيها وخيم في ناحية حوران بالعسكر وكاتب العرب في أواخر سنة 543 ولم يزل مواصلاً للغارات وشنها على بلادهم وأطرافهم مع الأيام وتقضيها والساعات وتصرمها واستدعاء جماعةً وافرةً من التركمان وأطلق أيديهم في نهب أعمالهم والفتك بمن يظفر به في أطرافهم الحرامية وأهل الفساد والأخراب ولم يزل على هذه القضية لهم محاصراً وعلى النكاية فيهم والمضايقة لهم مصابراً إلى أن ألجأهم إلى طلب المصالحة وتجديد عقد المهادنة والمسامحة ببعض المقاطعة وترددت المراسلات في تقرير هذا الأمر واحكام مشروطه وأخذ الأيمان بالوفاء بشروطه في المحرم سنة 544 وتقررت حال الموادعة مدة سنتين ووقعت الايمان على ذلك وزال الخلف واطمأنت النفوس من أهل العملين بذلك وسكنت إلى تمامه وسرت بأحكامه ووافق ذلك تواصل كتب نور الدين صاحب حلب إلى معين الدين يعلمه أن صاحب أنطاكية جمع افرنج بلاده وظهر يطلب بهم الافساد في الأعمال الحلبية وأنه قد برز في عسكره إلى ظاهر حلب للقائه وكف شره عن الأعمال وأن الحاجة ماسة إلى معاضدته بمسيره بنفسه وعسكره إليه ليتفقا بالعسكرين عليه. فاقتضت الحال أن ندب الأمير معين الدين الأمير مجاهد الدين بزان بن مامين في فريق وافر من العسكر الدمشقي للمصير إلى جهته وبذل المجهود في طاعته ومناصحته وتوجه في يوم ..... من العشر الأول من صفر من السنة وبقي معين الدين في باقي العسكر بناحية الجزء: 1 ¦ الصفحة: 472 حوران لايناس حال العرب وحفظ أطرافهم وتطييب نفوسهم لنقل الغلال عن جمالهم إلى دمشق على جاري العادة وحفظها والاحتياط عليها وفي صفر من السنة وردت البشائر من جهة نور الدين صاحب حلب بما أولاه الله وله الحمد من الظهور على حشد الافرنج المخذول وجمعهم المفلول بحيث لم يفلت منهم إلا من خبر ببوارهم وتعجيل دمارهم وذلك أن نور الدين لما اجتمع إليه ما استدعاه من خيل التركمان والأطراف ومن وصل إليه من عسكر دمشق مع الأمير مجاهد الدين بزان قويت بذاك نفسه واشتدت شوكته وكثف جمعه ورحل إلى ناحية الافرنج بعمل أنطاكية بحيث صار عسكره يناهز الستة آلاف فارس مقاتلة سوى الاتباع والسواد والافرنج في زهاء أربعمائة فارس طعانة وألف راجل مقاتلة سوى الاتباع. فلما حصلوا بالموضع المعروف بإنب نهض نور الدين في العسكر المنصور نحوهم ولما وقعت العين حمل الكفرة على المسلمين حملتهم المشهورة وتفرق المسلمون عليهم من عدة جهات ثم أطبقوا عليهم واختلط الفريقان وانعقد العجاج عليهم وتحكمت سيوف الاسلام فيهم ثم انقشع القتام وقد منح الله وله الحمد والشكر المسلمين النصر على المشركين وقد صاروا على الصعيد مصرعين وبه مغفرين وبحربهم مخذولين بحيث لم ينج منهم إلا النفر اليسير ممن ثبطه الأجل وأطار قلبه الوجل بحيث يخبرون بهلاكهم واحتناكهم وشرع المسلمون في اسلابهم والاشتمال على سوادهم وامتلأت الأيدي من غنائمهم وكراعهم. ووجد اللعين البلنس مقدمهم صريعاً بين حماته وابطاله فعرف وقطع رأسه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 473 وحمل إلى نور الدين فوصل حامله بأحسن صلة وكان هذا اللعين من إبطال الافرنج المشهورين بالفروسية وشدة البأس وقوة الحيل وعظم الخلقة مع اشتهار الهيبة وكبر السطوة والتناهي في الشر وذلك في يوم الأربعاء الحادي والعشرين من صفر سنة 44 ثم نزل نور الدين في العسكر على باب أنطاكية وقد خلت من حماتها والذابين عنها ولم يبق فيها غير أهلها مع كثرة أعدادهم وحصانة بلدهم وترددت المراسلات بين نور الدين وبينهم في طلب التسليم إلى نور الدين وإيمانهم وصيانة أحوالهم فوقع الاحتجاج منهم بأن هذا الأمر لا يمكنهم الدخول فيه إلا بعد انقطاع أمالهم من الناصر لهم والمعين على من يقصدهم فحملوا ما أمكنهم من التحف والمال واستمهلوا فأمهلوا وأجيبوا إلى ما فيه سألوا ثم رتب بعض العسكر للاقامة عليها والمنع لمن يصل إليها ونهض نور الدين في بقية العسكر إلى ناحية أفامية. وقد كان رتب الأمير صلاح الدين في فريق وافر من العسكر لمنازلتها ومضايقتها ومحاربتها فحين علم من فيها من المستحفظين هلاك الافرنج وانقطع أملهم من مواد الانجاد وأسباب الاسعاد التمسوا الأمان فأمنوا على نفوسهم وسلموا البلد ووفى لهم بالشرط فرتب فيها من رآه كافياً في حفظها والذب عنها وذلك في الثامن عشر من شهر ربيع الأول من السنة وانكفأ نور الدين في عسكره إلى ناحية الساحل إلى صوب أنطاكية لانجاد من بها وطلب نور الدين تسهل الفرصة في قصدهم للايقاع بهم فأحجموا عن الاقدام على التقرب منه وتشاغلوا عنه واقتضت الحال مهادنة من في أنطاكية وموادعتهم وتقرير أن يكون ما قرب من الأعمال الحلبية له ما قرب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 474 أنطاكية لهم. ورحل عنها إلى جهة غيرهم بحيث قد كان في هذه النوبة قد ملك ما حول أنطاكية من الحصون والقلاع والمعاقل وغنم منها الغنائم الجمة وفصل عنه الأمير مجاهد الدين بزان في العسكر الدمشقي وقد كان له في هذه الوقعة ولمن في جملته البلاء المشهور والذكر المشكور لما هو موصوف به من الشهامة والبسالة وأصالة الرأي والمعرفة بمواقف الحروف ووصل إلى دمشق سالماً في نفسه وجملته في يوم الثلاثاء رابع شهر ربيع الآخر من السنة. ومن لفظه وصفته هذا الشرح معتمداً فيه على الاختصار دون الاكثار وفيه من تقويه أركان الدين واذلال ما بقي من الكفرة الملحدين ما هو مشهور بين العباد وسائر البلاد مشكور مذكور والله تعالى اسمه عليه المحمود المشكور وقد مضى من ذكر معين الدين أنر فيما كان أنهضه من عسكره إلى ناحية حلب لاعانة نور الدين صاحبها على ملاقاة الافرنج المجتمعين من أنطاكية وأعمالها للافساد في الأعمال الشامية وما منح الله تعالى وله الحمد من الظفر بهم والنصر عليهم ما أغنى عن ذكر شيء منه. واتفق أن معين الدين فصل عن عسكره بحوران ووصل إلى دمشق في أيام من آخر شهر ربيع الأول سنة 544 لأمر أوجب ذاك ودعا إليه وأمعن في الأكل لعادة جرت له فلحقه عقيب ذلك انطلاق تمادى به وحمله اجتهاده فيما يدبره على العود إلى العسكر بناحية حوران وهو على هذه الصفة من الانطلاق وقد زاد به وضعفت قوته وتولد معه المرض المعروف بجوسنطريا وعمله في الكبد وهو مخوف لا يكاد يسلم صاحبه منه وأرجف به وضعفت قوته فأوجبت الحال عوده إلى دمشق في محفة لمداواته فوصل في يوم السبت السابع من شهر ربيع الآخر من السنة فزاد به المرض والارجاف بموته وسقطت قوته وقضى نحبه في الليلة التي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 475 صبيحتها يوم الاثنين الثالث والعشرين من ربيع الآخر من السنة ودفن في إيوان الدار الأتابكية التي كان يسكنها ثم نقل بعد ذلك إلى المدرسة التي عمرها. ولما دفن في قبره وفرغ من أمره اجتمع حسام الدين بلاق ومؤيد الدين الرئيس ومجاهد الدين بزان وأعيان الأجناد في مجلس مجير الدين بالقلعة وإليه الأمر والتقدم وتقررت الحال بينهم على ما اتفق من صلاح الحال وفي مستهل جمادى الأولى من السنة توفي أبو عبد الله البسطامي المقري المصلي في مشهد زين العابدين رحمه الله. وورد الخبر من ناحية الموصل بوفاة الأمير سيف الدين غازي بن عماد الدين أتابك رحمه الله بعلة قولنجية دامت به في أوائل جمادى الأولى من السنة وأنه قرر الأمر لأخيه مودود بن عماد الدين والنظر في أمره للأمير علي كوجك والوزارة لجمال الدين وفي يوم الجمعة التاسع من رجب سنة 544 قرئ المنشور المنشأ عن مجير الدين بعد الصلاة على المنبر بإبطال الفيئة المستخرجة من الرعية وإزالة حكمها وتعفير رسمها وإبطال دار الضرب فكثر دعاء الناس له وشكرهم وحدث عقيب هذه الحال استيحاش مؤيد الدين الرئيس من مجير الدين استيحاشاً أوجب جمع من أمكنه من سفهاء الأحداث والغوغاء وحملة السلاح من الجهلة العوام وترتيبهم حول داره ودار أخيه زين الدولة حيدرة للاحتماء بهم من مكروه يتم عليهما وذلك في يوم الأربعاء الثالث وعشرين من رجب ووقعت المراسلات من مجير الدين بما يسكنهما ويطيب قلوبهما فما وثقا بذلك وجدا في الجمع والاحتشاد من العوام وبعض الأجناد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 476 وأثارا الفتنة في ليلة الخميس تالي اليوم المذكور وقصدوا باب السجن وكسروا اغلاقه وأطلقوا من فيه واستنفروا جماعة من أهل الشاغور وغيرهم وقصدوا الباب الشرقي وفعلوا مثل ذلك وحصلوا في جمع كثير وامتلأت بهم الأزقة والدروب فحين عرف مجير الدين وأصحابه هذه الصورة اجتمعوا في القلعة بالسلاح الشاك فأخرج ما في خزائنه من السلاح والعدد وفرقت على العسكرية وعزموا على الزحف إلى جمع الأوباش والايقاع بهم والنكاية فيهم. فسأل جماعة من المقدمين التمهل في هذا الأمر وترك العجلة بحيث تحقن الدماء وتسلم البلد من النهب والحريق وألحوا عليه إلى أن أجاب سؤالهم ووقعت المراسلة والتلطف في إصلاح ذات البين فاشترط الرئيس وأخوه شروطاً أجيبا إلى بعضها وأعرض عن بعض بحيث يكون ملازماً لداره ويكون ولده وولد أخيه في الخدمة في الديوان ولا يركب إلى القلعة إلا مستدعىً إليها وتقربت الحال على ذلك وسكنت الدهماء. ثم حدث بعد هذا التقرير عود الحال إلى ما كانت عليه من العناد وإثارة الفساد وجمع الجمع الكثير من الأجناد والمقدمين والرعاع والفلاحين واتفقوا على الزحف إلى القلعة وحضر من بها وطلب من عين عليه من الأعداء والأعيان في أواخر رجب ونشبت الحرب بين الفريقين وجرح وقتل بينهم نفر يسير وعاد كل فريق منهم إلى مكانه ووافق ذلك هروب السلار زين الدين اسمعيل الشحنة وأخيه إلى ناحية بعلبك ولم تزل الفتنة ثائرة والمحاربة متصلة إلى أن اقتضت الصورة ابعاد من التمس ابعاده من خواص مجير الدين وسكنت الفتنة وأطلقت أيدي النهابة في دور السلار زين الدين وأخيه وأصحابهما وعمهما النهب والاخراب ودعت الصورة إلى تطييب نفس الرئيس وأخيه والخلع عليهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 477 بعد أيمان حلف بها واعادة الرئيس إلى الوزارة والرئاسة بحيث لا يكون له في ذلك معترض ولا مشارك وورد الخبر بظهور الافرنج إلى الأعمال للعيث فيها والافساد وشرعوا في التأهب لدفع شرهم. وورد الخبر من ناحية مصر بوفاة صاحبها الامام الحافظ بأمر الله أمير المؤمنين عبد المجيد بن الأمير أبي القاسم بن المستنصر بالله رحمه الله في الخامس من جمادى الآخرة سنة 44 وولي الأمر من بعده ولده الأصغر أبو منصور اسمعيل بن عبد المجيد الحافظ ولقب بالظافر بالله وولي الوزارة أمير الجيوش أبو الفتح ابن مصال المغربي فأحسن السيرة وأجمل السياسة واستقامت بتدبيره الأعمال وصلحت الأحوال ثم حدث من بعد ذلك من اضطراب الأمور والخلف المكروه بين السودان والريحانية بحيث قتل بين الفريقين الخلق الكثير وسكنت الفتنة بعد ذلك وانتشر الأمن بعد الخوف. وقد كان الحافظ رحمه الله ولي الأمر أولاً في المحرم سنة 526 بحيث كانت مدة إقامته فيه ثماني عشرة سنة وخمسة أشهر وخمسة وعشرين يوماً وكان أول زمانه حسن الأفعال والسيرة وبث الاحسان في العسكرية والرعية وقد كان الخبر اتصل بنور الدين بإفساد الافرنج في الأعمال الحورانية بالنهب والسبي فعزم على التأهب لقصدهم وكتب إلى من في دمشق يعلمهم ما عزم عليه من الجهاد ويستدعي منهم المعونة على ذلك بألف فارس تصل إليه مع مقدم يعول عليه وقد كانوا عاهدوا الافرنج أن يكونوا يداً واحدةً على من يقصدهم من عساكر المسلمين فاحتج عليه وغولط. فلما عرف ذلك رحل ونزل بمرج يبوس وبعض العسكرية بيعفور فلما قرب من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 478 دمشق وعرف من بها خبره ولم يعلموا أين مقصده وقد كانوا أرسلوا الافرنج بخبره وقروا معهم الأنجاد عليه وكانوا قد نهضوا إلى ناحية عسقلان لعمارة غزة ووصلت أوائلهم إلى بانياس. وعرف نور الدين خبرهم فلم يحفل بهم وقال: لا أنحرف عن جهادهم. وهو مع ذلك كاف أيدي أصحابه عن العيث والافساد في الضياع وإحسان الرأي في الفلاحين والتخفيف والدعاء له مع ذلك متواصل من أهل دمشق وأعمالها وسائر البلاد وأطرافها. وكان الغيث قد انحبس عن حوران والغوطة والمرج حتى نزح أكثر أهل حوران عنها للمحل واشتداد الأمر وترويع سربهم وعدم شربهم. فلما وصل إلى بعلبك اتفق للقضاء المقدر والرحمة النازلة أن السماء أرسلت عزاليها بكل وابل وطل وانسكاب وهطل بحيث أقام ذلك منذ يوم الثلاثاء الثالث من ذي الحجة سنة 44 إلى مثله وزادت الأنهار وامتلأت برك حوران ودارت أرحيتها وعاد ما صرح من الزرع والنبات غصناً طريئاً وضج الناس بالدعاء لنور الدين وقالوا: هذا ببركته وحسن معدلته وسيرته ثم رحل من منزله بالأعوج ونزل على جسر الخشب المعروف بمنازل العاسر في يوم الثلاثاء السادس والعشرين من ذي الحجة سنة 44 وراسل مجير الدين والرئيس بما قال فيه: إنني ما قصدت بنزولي هذا المنزل طالباً لمحاربتكم ولا منازلتكم وإنما دعاني إلى هذا الأمر كثرة شكاية المسلمين من أهل حوران والعربان بأن الفلاحين الذين أخذت أموالهم وشتت نساؤهم وأطفالهم بيد الافرنج وعدم الناصر لهم لا يسعني مع ما أعطاني الله وله الحمد من الاقتدار على نصرة المسلمين وجهاد المشركين وكثرة المال والرجال ولا يحل لي القعود عنهم والانتصار لهم مع الجزء: 1 ¦ الصفحة: 479 معرفتي بعجزكم عن حفظ أعمالكم والذب عنها والتقصير الذي دعاكم إلى الاستصراخ بالافرنج على محاربتي وبذلكم لهم أموال الضعفاء والمساكين من الريعة ظلماً لهم وتعدياً عليكم وهذا ما لا يرضي الله تعالى ولا أحداً من المسلمين ولا بد من المعونة بألف فارس نزاح العلة تجرد مع من توثق بشجاعته من المقدمين لتخليص ثغر عسقلان وغيره فكان الجواب عن هذه الرسالة: ليس بيننا وبينك إلا السيف وسيوافينا من الافرنج ما يعيننا على دفعك إن قصدتنا ونزلت علينا. فلما عاد الرسول بهذا الجواب ووقف عليه أكثر التعجب منه والانكار له وعزم على الزحف إلى البلد ومحاربته في غد ذلك اليوم وهو يوم الأربعاء الخامس والعشرون من نيسان فأرسل الله تعالى من الأمطار وتداركها ودوامها ما منعه من ذلك وصرفه عنه ودخلت سنة خمس وأربعين وخمسمائة أولها يوم الاثنين مستهل المحرم. وفيه تقرر الصلح بين نور الدين وأرباب دمشق والسبب في ذلك أن نور الدين أشفق من سفك دماء المسلمين أن أقام على حربها والمضايقة لها مع ما اتصل به من أخبار دعته إلى ذلك واتفق أنهم بذلوا له الطاعة وإقامة الخطبة له على منبر دمشق بعد الخليفة والسلطان والسكة ووقعت الأيمان على ذلك وخلع نور الدين على مجير الدين خلعةً كاملة بالطوق وأعاده مكرماً محترماً وخطب له على منبر دمشق يوم الجمعة رابع عشر المحرم ثم استدعى الرئيس إلى المخيم وخلع عليه خلعة مكملة أيضاً وأعاده إلى البلد وخرج إليه جماعة من الأجناد والخواص إلى المخيم واختلطوا به فوصل من استماحه من الطلاب والفقراء والضعفاء بحيث ما خاب قاصده ولا أكدى من سأله ورحل عن مخيمه ليلة الأحد عائداً إلى حلب بعد أحكام ما قرر وتكميل ما دبر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 480 وورد الخبر في الخامس من المحرم من ناحية حلب بأن عسكرها من التركمان ظفر بابن جوسلين صاحب اعزاز وأصحابه وحصوله في قبضة الأسر في قلعة حلب فسر بهذا الفتح كافة الناس. وورد الخبر بأن الملك مسعود وصل في عسكره طالباً أنطاكية ونزل على تل باشر وضايقها في أيام من المحرم وفي أيام من المحرم وصل إلى دمشق جماعة من حجاج العراق وخراسان المأخوذون في طريق الحج عند عودهم لجماعة من كفار العربان وزطهم وأوباشهم تجمعوا في عدد دثر وحكوا مصيبةً ما نزل مثلها بأحد في السنين الخالية ولا يكون أشنع منها وذكر أنه كان في هذا الحج من وجوه خراسان وتنائها وفقهائها وعلمائها وقضاتها وخواتين أمراء العسكر السلطانية والحرم العدد الكثير والأموال الجمة والأمتعة الوافرة فأخذ جميع ذلك وقتل الأكثر وسلم الأقل الأنزر وهتكت النساء وسلبوا وهلك من هلك بالجوع والعطش فضاقت الصدور لهذه النازلة الفادحة والرزيئة الحادثة فكسا العاري منهم وأطلق لهم ما استعانوا بقدره على عودهم إلى أوطانهم من أصحاب المروءة والمقدمين بدمشق وذلك بتقدير الحكيم القدير وقد كان نور الدين عقيب رحيله عن دمشق وحصول ابن جوسلين في قلعة حلب أسيراً توجه في عسكره إلى اعزاز بلد ابن جوسلين ونزل عليها وضايقها وواظب قتالها إلى أن سهل الله تعالى ملكتها بالأمان وهي على غاية من الحصانة والمنعة والرفعة فلما تسلمها رتب فيها من ثقاته من وثق به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 481 ورحل عنها ظافراً مسروراً عائداً إلى حلب في أيام من شهر ربيع الأول من السنة وورد الخبر بعد المضايقة والمحاربة عن تل باشر في يوم الجمعة مستهل ربيع الآخر برحيل الملك مسعود ووصل أكثر حماتها لأسباب أوجبت ذاك ودعت إليه وكان مجاهد الدين بزان قد توجه إلى حصنه صرخد لتفقد أمواله وترتيب أحواله وأحوال ولده النائب عنه في حفظه وتقرير أموره وعرضت بعده نفرة بين مجير الدين والرئيس بسعايات أصحاب الأغراض والفساد واقتضت الحال استدعاء مجاهد الدين لإصلاح الحال فوصل وتم ذلك بوساطته على شرط إبعاد الحاجب يوسف حاجب مجير الدين عن البلد مع أصحابه وتوجهوا ولم يعرض لشيء من أموالهم وقصد بعلبك فأكرمه عطاء واليها وقد كانت الأخبار متناصرةً من ناحية مصر بالخلف المستمر بين وزيرها ابن مصال وبين الأمير المظفر بن سلار وجميع العسكرية ووقوع الحرب منهم وسفك الدماء إلى أن أسفرت عن قتل ابن مصال الوزير وظفر ابن سلار به وغلبته على الأمر وانتصابه في الوزارة وسعى في صلاح وترتيب الأجناد وإطلاق واجباتهم وهدت النائرة وسكنت الفتنة الثائرة وورد الخبر بوصول منكوبرس في جماعة من الأتراك والتركمان إلى ناحية حوران واجتماعه مع الأمير سرخاك والي بصرى على العيث والفساد في ضياع حوران وقيل إن ذاك بإذن نور الدين وقصدوا عمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 482 صرخد بالافساد والاخراب والمضايقة لها ورحلوا بعد ذلك إلى غيرها للإفساد ومنع الفلاحين من الزرع وفي يوم الاثنين السابع عشر من رجب من السنة توفي القاضي بهاء الدين عبد الملك بن الفقيه عبد الوهاب الحنبلي رحمه الله وكان إماماً فاضلاً مناظراً مستقلاً مفتياً على مذهب الامامين أحمد وأبي حنيفة رحمهما الله بحكم ما كان يجري عليه عند إقامته بخراسان لطلب العلم والتقدم وكان فصيح اللسان بالعربية والفارسية حسن الحديث في الجد والهزل وكان له يوم دفنه في جوار أبيه وجده في مقابر الشهداء رحمهما الله مشهود بكثرة العالم والباكين حول سريره والمؤبنين له والمتأسفين عليه وتوفي أيضاً عقيب وفاته الشريف القاضي النقيب أبو الحسين فخر الدولة ابن القاضي بن أبي الجن رحمه الله في يوم الخميس العشرين من رجب من السنة ودفن في مقابر فخر الدولة جده رحمه الله وتفجع الناس له لخيريته وشرف نيته وفي رجب من السنة وردت الأخبار من ناحية نور الدين بظفره بعسكر الافرنج النازلين بإزائه قريباً من تل باشر وعظم النكاية فيهم والفتك بهم وامتلأت الأيدي من غنائمهم وسبيهم واستيلائه على حصن خالد الذي كان مضايقه ومنازله الجزء: 1 ¦ الصفحة: 483 وفي العشر الأخير من رجب ورد الخبر من حوران بابن الأمير منكوبرس التقى في المعروف بالبونة كذا الحاجي ورجاله من عسكر دمشق فهزمه وجرحه جرحاً تمكن منه وحمل إلى البلد فمات في الطريق ووصل وقبر في مقابر الفراديس في يوم الاثنين السادس من شعبان من السنة وفي يوم الأربعاء الرابع عشر من شهر رمضان أرسلت السماء عزاليها بثلج لم ير في السنين الخالية مثله. وتمادت به الأيام بحيث عم كثيراً من أقطار أرض حوران والبقاع والبرية وقيل إن أقصاه من بلاد الشمال إلى قلعة جعبر وجرت أودية حوران ودارت أرحيتها وامتلأت بركها وفاضت آبارها واستبشر الناس بهذه النعمة العامة وشكروا موليها والمنعم بها وزادت أنهار بردى والعيون عقيب ذلك زيادةً وافرة وسرت النفوس وتتابع بعد ذلك غيث كانون الثاني روى الزراعات ومنابت العشب وفي يوم السبت الثالث من ذي الحجة من السنة توفي القاضي المكين أبو البركات محفوظ ابن القاضي أبي محمد الحسن بن مصري رحمه الله بعلة طالت به وهو في أواخر الثمانين وكان مشهوراً بالخير والعفاف وسلامة الطبع وورد الخبر من ناحية مصر بالخلف المستمر بين وزيرها العادل بن سلار وأجنادها بحيث الدماء بينهم مسفوحة وأبواب الشر والعناد مفتوحة ودخلت سنة ست وأربعين وخمسمائة وأولها يوم الجمعة مستهل المحرم. وفي يوم الأربعاء العاشر من المحرم من هذه السنة المباركة نزل أوائل عسكر نور الدين على أرض عذراء من عمل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 484 دمشق وما والاها وفي يوم الخميس تاليه قصد فريق وافر منهم ناحية السهم والنيرب وكمنوا عند الجبل لعسكر دمشق فلما خرج منها إليها أسرع النذير إليهم فحذرهم وقد ظهر الكمين فانهزموا إلى البلد وخرج من أعقابهم وسلموا من الايقاع بهم وفي يوم الجمعة تاليه وصل نور الدين في عسكره ونزل على عيون فاسريا ما بين عذراء ودومة وامتدوا إلى تلك الجهات وفي يوم السبت التالي له رحلوا من ذلك المكان ونزلوا في أراضي حجيرا وراوية وتلك الجهات في الخلق الكثير والجم الغفير وانبثت أيدي المفسدين في عسكر الدمشقي والأوباش من أهل العيث والافساد في زروع الناس فحصدوها واستأصلوها وفي الثمار فافنوها بلا مانع ولا دافع وضر ذلك بأصحابها الضر الزائد وتحرك السعر وانقطعت السابلة وضاقت الصدور ووقع التأهب والاستعداد لحفظ البلد والسور ووافت رسل نور الدين إلى ولاة أمر البلد تقول: أنا ما أوثر إلا صلاح المسلمين وجهاد المشركين وخلاص من في أيديهم من الأسارى فإن ظهرتم معي في عسكر دمشق وتعاضدنا على الجهاد وجرى الأمر على الوفاق والسداد فذلك غاية الإيثار والمراد. فلم يعد الجواب إليه بما يرضاه ويوافق مبتغاه وفي يوم السبت الثالث والعشرين منه رحل نور الدين في عساكره عن ذلك المنزل بحيث نزل في أرض مسجد القدم وما والاه من الشرق والغرب ومبلغ منتهى الخيم إلى المسجد الجديد قبلي البلد وهذا منزل ما نزله أحد من مقدمي العساكر فيما سلف من السنين وجرى بين أوائل العسكر وبين من ظهر إليه من البلد مناوشات ثم عاد كل إلى مكانه ولم تزل الحال مستمرة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 485 من العسكر النوري على اهمال الزحف إلى البلد ومحاربة من فيه إشفاقاً من قتل النفوس وإثخان الجراح في مقاتلة الجهتين بحيث انطلقت أيدي المفسدين من الفريقين في الفساد وحصد زراعات المرج والغوطة وضواحي البلد وخراب مساكن القرى ونقل أنقاضها إلى البلد والعسكر وزاد الاضرار بأربابها من التناء والفلاحين وتزايد طمع الرعاع والأوباش في التناهي في الفساد بلا رادع لهم ولا مانع منهم وعدم التبن لعلف الكراع في جميع الجهات وارتفع السعر وعظم الخطب وصعب الأمر والأخبار تتناصر باحتشاد الافرنج واجتماعهم للانجاد لأهل دمشق والاسعاد وقد ضاقت صدور أهل الدين والصلاح وزاد إنكارهم لمثل هذه الأحوال المنكرة والأسباب المستبشعة ولم تزل الحال على هذه القضية المكروهة والمناوشات في كل يوم متصلة من غير مزاحفة ولا محاربة إلى يوم الخميس الثالث عشر من صفر من السنة ثم رحل العسكر النوري من هذه المنازل ونزل في أراضي فذايا وحلقبلتين والخامسين المصاقبة للبلد وما عرف في قديم الزمان من أقدم من الجيوش على الدنو منها ونشبت المطاردة في اليوم المذكور وكثر الجراح في خيالة البلد ورجالته وملك مواشي الفلاحين والضعفاء ودواب المتعلقة من البلد وما يخص فلاحي الغوطة والمرج والضواحي. ثم رحل في يوم الخميس العشر من صفر عائداً إلى ناحية داريا لتواصل الأرجاف بقرب عسكر الافرنج من البلد للانجاد ليكون قريباً من معابرهم لقوة العزائم على لقائهم والاستعداد لحربهم لأن العسكر النوري قد صار في عدد لا يحصى كثرةً وقوةً وفي كل زيادة بما يتواصل من الجهات وطوائف التركمان ونور الدين مع هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 486 الحال لا يأذن لأحد من عسكره في التسرع إلى قتال أحد من المسلمين من رجال البلد وعوامه تحرجاً من إراقة الدم فيما لا يجدي نفعاً إذ كانوا يحملهم الجهل والغرور على التسرع والظهور ولا يعودون إلا خاسرين مفلولين. وأقام على هذه الصورة ثم رحل إلى ناحية الأعوج لقرب عسكر الافرنج وعزمهم إلى قصده. واقتضى رأيه الرحيل إلى ناحية الزبداني استجراراً لهم وفرق من عسكره فريقاً يناهز أربعة ألف فارس مع جماعة من المقدمين ليكونوا في أعمال حوران مع العرب لقصد الافرنج ولقائهم وترقباً لوصولهم وخروج العسكر الدمشقي إليهم واجتماعهم ثم تقاطع عليهم واتفق إن عسكر الافرنج وصل عقيب رحيله إلى الأعوج ونزل به في اليوم الثالث من شهر ربيع الأول سنة 46 ووصل منهم خلق كثير إلى البلد لقضاء حوائجهم وخرج مجير الدين ومؤيده في خواصهما وجماعة وافرة من الرعية واجتمعا بملكهم وخواصه وما صادفوا عندهم شيئاً مما هجس في النفوس من كثرة ولا قوة وتقرر بينهم النزول بالعسكرين على حصن بصرى لتملكه واستغلال أعماله ثم رحل عسكر الأفرنج إلى رأس الماء ولم يتهيأ خروج العسكر الدمشقي إليهم لعجزهم واختلافهم وقصد من كان بحوران من العسكر النوري ومن انضاف إليهم من العرب في خلق كثير ناحية الافرنج للإيقاع بهم والنكاية فيهم والتجأ عسكر الافرنج إلى لجاة حوران للاعتصام بها وانتهى الخبر إلى نور الدين فرحل ونزل على عين الجر من البقاع عائداً الجزء: 1 ¦ الصفحة: 487 إلى دمشق وطالباً قصد الافرنج والعسكر الدمشقي. وكان الافرنج حين اجتمعوا مع العسكر الدمشقي قد قصدوا بصرى لمنازلتها ومضايقتها ومحاربتها فلم يتهيأ ذلك لهم وظهر إليهم سرخاك واليها في رجاله وعادوا عنه خاسرين وانكفأ عسكر الافرنج إلى أعماله في العشر الأوسط من شهر ربيع الأول من السنة وراسلوا مجير الدين ومؤيده يلتمسون باقي المقاطعة المبذولة لهم على ترحيل نور الدين عن دمشق وقالوا: لولا نحن ندفعه ما رحل عنكم وفي هذه الأيام ورد الخبر بوصول الاصطول المصري إلى ثغور الساحل في غاية من القوة وكثرة العدة والعدة وذكر أن عدة مراكبه سبعون مركباً حربية مشحنةً بالرجال ولم يخرج مثله في السنين الخالية وقد أنفق عليه ما حكي وقرب ثلاثمائة ألف دينار وقرب من يافا من ثغور الافرنج فقتلوا وأسروا وأحرقوا ما ظفروا به واستولوا على عدة وافرة من مراكب الروم والافرنج ثم قصدوا ثغر عكا وفعلوا فيه مثل ذلك وحصل في أيديهم عدة وافرة من المراكب الحربية الافرنجية وقتلوا من حجاج وغيرهم خلقاً عظيماً وأنفذوا ما أمكن إلى ناحية مصر وقصدوا ثغر صيدا وبيروت وطرابلس وفعلوا فيها مثل ذلك. ووعد نور الدين بمسيره إلى ناحية الاسطول المذكور لاعانته على تدويخ الافرنجية واتفق اشتغاله بأمر دمشق وعوده إليها لمضايقتها وحدث نفسه بملكتها لعلمه بضعفها وميل الأجناد والرعية إليه وإشارتهم لولايته وعدله وذكر أن نور الدين أمر بعرض عسكره وحصره فذكر أنه بلغ كمال ثلاثين ألف مقاتلة. ثم رحل ونزل بالدهلمية من عمل البقاع ثم رحل منها طالباً نحو دمشق ونزل في أرض كوكبا من غربي داريا في يوم السبت الحادي والعشرين من ربيع الأول وغارت الخيل على طريق حوران إلى دمشق فاشتملت على الشيء الكثير من الجمال والغلة والمواشي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 488 وغاروا على ناحية الغوطة والمرج واستاقوا ما صادفوا من المواشي ثم رحل عن هذا المنزل في يوم الاثنين ونزل من أرض داريا إلى جسر الخشب ونودي في البلد بخروج الأجناد والأحداث إليه فلم يظهر منهم إلا اليسير ممن كان يخرج أولاً وفي يوم الأربعاء الرابع والعشرين من الشهر رحل من هذا المنزل ونزل في أرض القطيعة وما والاها ودنا منها بحيث قرب من البلد ووقعت المناوشة بين الفريقين من غير زحف ولا شد في محاربة وورد الخبر إلى نور الدين بتسليم الأمير نايبه الأمير حسن حسان المنبجي مدينة تل باشر بالأمان في يوم الخميس الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول سنة 46 وضربت في عسكره الطبول والكوسات والبوقات بالبشارة وورد مع المسير جماعة من أعيان تل باشر لتقرير الأحوال واستمر رأي نور الدين على الزحف إلى البلد ومحاربة أهله وعسكريته تحرجاً من قتل المسلمين وقال: لا حاجة إلى قتل المسلمين بأيدي بعضهم بعضاً وأنا أرفههم ليكون بذل نفوسهم في مجاهدة المشركين. وحدثت مع هذه النية تردد المراسلات في عقد الصلح في أيام من شهر ربيع الآخر على شروط أشير إليها واقتراحات عين عليها وتردد فيها الفقيه برهان الدين علي البلخي والأمير أسد الدين شيركوه وأخوه نجم الدين أيوب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 489 وتقارب الأمر في ذلك وترددت المراسلات إلى أن استقرت الحال على قبول الشروط المقترحة ووقعت الأيمان من الجهتين على ذلك والرضا به في يوم الخميس العاشر من شهر ربيع الآخر من السنة ورحل نور الدين في عسكره في يوم الجمعة عد اليوم المذكور طالباً ناحية بصرى للنزول عليها والمضايقة لها والتمس من دمشق ما تدعو إليه الحاجة من آلات الحرب والمناجيق لأن سرخاك الوالي المذكور كان بها كان شاع عصيانه وخلافه ومال إلى الافرنج واعتضدهم فأنكر نور الدين ذلك عليه وأنهض فريقاً وافراً من عسكره إليه وورد الخبر من ناحية قلعة جعبر في يوم السبت الثالث عشر من شهر ربيع الآخر بأن صاحبها الأمير عز الدين علي بن مالك بن سالم بن مالك خرج في أصحابه إلى عسكر الرقة وقد غار على أطراف أعماله لتخليص ما استاقوا منه فالتقى الفريقان وسبق إليه سهم من كمين ظهر عليهم وعاد به أصحابه إلى قلعة جعبر وجلس ولده مالك بن علي في منصبه واجتمع عليه جماعة أسرته واستقام له الأمر من بعده ووردت الأخبار في سنة 46 من ناحية مصر بأن أهل دمياط حدث فيهم فناء عظيم ما عهد مثله في قديم ولا حديث بحيث أحصي المفقود منهم في سنة 545 سبعة ألف شخص وفي سنة 46 مثلهم سبعة ألف بحيث يكون الجميع أربعة عشر ألفاً وخلت دور كثيرة من أهلها وبقيت مغلقةً ولا ساكن فيهم ولا طالب لهم وفي يوم السبت الثاني من جمادى الآخرة سنة 46 توفي القاضي السديد الخطيب أبو الحسين ..... بن أبي الحديد خطيب دمشق رحمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 490 الله وكان خطيباً سديداً مبلغاً متصوناً عفيفاً ولم يكن له من يقوم مقامه في منصبه سوى أبي الحسن الفضل ولد ولده حدث السن فنصب مكانه وخطب وصلى بالناس واستمر الأمر له ومضى فيه ووردت الحكايات بحدوث زلزلة وافت في الليلة الثالثة عشر من جمادى الآخرة سنة 46 اهتزت الأرض لها ثلاث رجفات في أعمال بصرى وحوران وسكنت وما والاها من سائر الجهات وهدمت عدةً وافرةً من حيطان المنازل ببصرى وغيرها ثم سكنت بقدرة من حركها وسكنها سبحانه وتعالى أنه على كل شيء قدير وفي يوم الخميس الثاني عشر من رجب سنة 46 توجه مجير الدين صاحب دمشق إلى حلب في خواصه ووصل إليها ودخل على نور الدين صاحبها وأكرمه وبالغ في الفعل الجميل في حقه وقرر معه تقريرات اقترحها عليه بعد أن بذل له الطاعة وحسن النيابة عنه في دمشق وانكفأ عنه مسروراً بما قصده في حقه من الاكرام وحسن الاحترام ووصل إلى دمشق في يوم الثلاثاء السادس من شعبان من السنة وفي آخر شعبان ورد الخبر من ناحية بانياس بأن فريقاً وافراً من التركمان غاروا على ظاهرها وخرج إليهم واليها من الافرنج في أصحابه وواقفهم فظهر التركمان عليهم وقتلوا منهم وأسروا ولم يفلت منهم غير الوالي ونفر يسير واتصل الخبر بمن في دمشق فأنكر مثل هذا الفعل بحكم انعقاد الهدنة والموادعة وانهض إليهم من العسكر الدمشقي من صادف بعض التركمان متخلفاً عن رفقتهم فحصلوا منهم ما كان في أيديهم وعادوا ثلاثة نفر منهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 491 وفي أيام من أوائل رمضان من السنة ورد الخبر بأن أكثر عسكر الافرنج قصدوا ناحية البقاع على غرة من أهلها وغاروا على عدة وافرة من الضياع فاستباحوا ما بها من رجال ونسوان وشيوخ وأطفال واستاقوا عواملهم ومواشيهم ودوابهم واتصل الخبر بوالي بعلبك فأنهض إليهم رجاله واجتمع إليهم خلق كثير من رجال البقاع وأسرعوا نحوهم القصد ولحقوهم وقد أرسل الله تعالى عليهم من الثلوج المتداركة ما ثبطهم وحيرهم فقتلوا من رجالتهم الأكثر واستخلصوا من الأسرى والمواشي ما سلم من الهلاك بالثلج وهو الأقل على أقبح صفة من الخذلان وسوء الحال بحمد الله ونصره المسلمين وفي يوم السبت الثاني والعشرين من شوال من السنة وهو اليوم الثالث من شباط وافت قبيل الظهر زلزلة اهتزت لها الأرض ثلاث هزات هائلة وتحركت الدور والجدران ثم سكنت بقدرة الله تعالى ذكره ودخلت سنة سبع وأربعين وخمسمائة أولها يوم الثلاثاء مستهل المحرم. وفي المحرم منها ورد الخبر من ناحية نور الدين بنزوله على حصن انطرطوس في عسكره وافتتاحه له وقتل من كان فيه من الافرنج وطلب الباقون الأمان على النفوس فأجيبوا إلى ذلك ورتب فيه الحفظة وعادوا عنه وملك عدة من الحصون بالسيف والسبي والاخراب والحرق والأمان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 492 ووردت الأخبار من ناحية عسقلان في يوم الخميس العاشر من المحرم بظفر رجال عسقلان بالافرنج المجاورين لهم بغزة بحيث هلك منهم العدد الكثير وانهزم الباقون. وفي ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من المحرم من أواخر نيسان أرسل الله تعالى غيثاً هطالاً مجللاً بالرعود والبروق المتتابعة ما زادت معه مياه بردى زيادةً وافرةً وتصندل لون مائها بمسايل الأدوية والجبال وانتفعت به زراعات السقي والبعول نفعاً ظاهراً وفي النصف من شهر أيار من صفر سنة 47 كان من زمجرة الرعود وتتابع البروق والأمطار في عدة جهات ما زادت به الأنهار وسالت معه شعاب الجبال والأودية. وفي وقت العصر من يوم الأحد الثاني والعشرين من أيار والعشرين من صفر من السنة نشأت غمامة برعود مجلجلة هائلة متتابعة لا تقتر مزعجة ثم انهلت بوابل هطال جود بالمطر إلى آخر النهار ثم أقبلت بردى بالليل بالسيل الزائد المتغير اللون بماء الجبال المختلف بحيث أفعمت الأنهار والسواقي والمجاري واحمرت أماكنها وصادفت طرحات الزرع والكداسة فغيرت الشعير وصفرته وسكنت بقدرة الله ونفع من نشأتها ثم حضر من شاهد هذا العارض وحكى أنه كان من البرد الكبار ما حدثه بحيث أفسد من المواشي الكثير وهدم بعض دور الغوطة وصار الماء في الحقول راكداً وسانحاً بالأنهار المغدقة وحكى الحاكي أن هذا لم ير مثله في الأزمان وفي أواخر صفر سنة 47 توجه مجير الدين في العسكر ومعه مؤيد الدين الوزير إلى ناحية حصن بصرى ونزل عليه محاصراً لسرخاك واليه مضايقاً لأهليه لمخالفته لأوامره ونواهيه وجوره على أهل الضياع الحورانية واعتدائه عليهم والزامهم ما لا طاقة لهم به واستدعى المنجنيقات وآلة الحرب لمنازلتها. واتفق لمجير الدين المصير إلى صرخد لمشاهدته واستأذن مجاهد الدين واليه في ذلك فقال له: هذا المكان بحكمك وأنا فيه من قبلك. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 493 وأنفذ إلى ولده سيف الدين محمد النائب فيه باعتداد ما يحتاج إليه وتلقى مجير الدين بما يجب له فخرج إليه في بعض أصحابه ومعه المفاتيح فوفاه ما يجب له من الاعظام وأجلى الحصن من الرجال ودخل إليه في خواصه. فسر بذلك وتعجب من فعل مجاهد الدين وشكره على ذلك وقدم إليه ما أعده من القرد والتحف وعاد عنه شاكراً إلى مخيمه على بصرى وحاربها عدة أيام إلى أن استقر الصلح والدخول فيما أراد وعاد إلى البلد. وفي أوائل شعبان من السنة وردت الأخبار بوفاة السلطان غياث الدنيا والدين مسعود ابن السلطان محمد وفي العشر الأول من شوال من السنة الموافق للعشر الأول من تشرين الثاني تغير الماء والهواء في دمشق وعرض لأهلها الحمى والسعال بحيث عم الخاص والعام والشيوخ والشباب والأطفال بحيث وقع الزحام على حوانيت العطارين لتحصيل المغلي. وحكى الحاكي أن بعض العطارين أحصى ما باعه في يوم فكان ثلاثمائة وثمانين صفةً والسالم منه والمعفى الأكثر وما يقيم هذا المرض بالانسان أكثر من الاسبوع ودونه ويمضي من قضى أجله وضعف أمر المغسلين والحفارين واحتيج إليهم لكثرة الموتى وفي يوم السبت الرابع وعشرين من شوال من السنة توفي الأمير سعد الدولة أبو عبد الله محمد بن المحسن بن الملحي رحمه الله ودفن في مقابر الكهف وكان فيه اذب وافر وكتابة حسنة ونظم جيد وتقدم والده في حلب في التدبير والسياسة وعرض الأجناد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 494 ودخلت سنة ثمان وأربعين وخمسمائة أولها يوم الأحد والشمس في برج الحمل والطالع الجدي. وفي سادس وعشرين من المحرم منها ورد الخبر من ناحية مصر بأن العادل المعروف بابن سلار الذي كانت رتبته قد علت ومنزلته في الوزارة قد تمكنت ونفذ أمره في البسط والقبض وحكمه في الابرام والنقض وأنه كان قد جلس للانفاق في رجال الاسطول ليجهزه في البحر إلى ناحية عسقلان بالميرة لتقوية من بها على النازلين عليها من الافرنج والمضايقين لها وهو في الجمع الكثير والجم الغفير بالمال والرجال والغلال واشراف أهلها على الخطر وأنه نهض من المجلس على العادة للراحة من النصب والهجعة عقيب التعب وكان لزوجته ولد يعرف بالأمير عباس قد قدمه واعتمد عليه في الأعمال ولعباس هذا ولد قدمه الوزير وأنعم عليه وأذن له في الدخول بغير إذن إليه فدخل عليه وهو نائم في فرشته على العادة فأخذ سيفه وضربه به فقطع رأسه وخرج به بين أثوابه ولم يشعر أحد وأتى به إلى باب القصر في يوم الأحد الثاني عشر من المحرم وقال لخدم الامام الظافر بالله: هذا رأس المنافق. فقيل له: ما كان منافقاً. وكان جماعة من الأتراك قد اصطنعهم الوزير المقتول لنفسه فتجمعوا في زهاء ثلاثمائة فارس وأنهم طلبوا ليقتلوا فحموا نفوسهم بالسهام وحصلوا بظاهر القاهرة وصادفهم عباس عائداً من بلبيس حين وافه الخبر فوعدهم الجميل واقرارهم على واجباتهم فلم يقوا به وتفرقوا على أقبح حال ووصلوا إلى دمشق في أواخر المحرم وقيل أن عباساً المذكور حصل في منصب العادل المذكور واستقام له الأمر وتمكن في الأعمال وقيل أن العادل كان قد قتل من الحجرية والريحانية وأصناف الأجناد حتى استقام له الأمر وتمكن في الأعمال وتواصلت الأخبار من ناحية نور الدين سلطان حلب والشام بقوة عزمه على جمع العساكر والتركمان من سائر الأعمال والبلدان للغزو في أحزاب الجزء: 1 ¦ الصفحة: 495 الشرك والطغيان بنصرة أهل عسقلان على النازلين عليها من الافرنج وقد ضايقوها بالزحف إليها بالبرج المخذول وهو في الجمع الكثير والله يحرسها من شرهم واقتضت الحال توجه مجير الدين صاحب دمشق إلى نور الدين في جمهور عسكره للتعاضد على الجهاد في يوم السبت الثالث عشر من المحرم واجتمع معه في ناحية الشمال واتفق بينهما وجماعة المقدمين من أمراء الأعمال والتركمان وهم في العدد الدثر. وقد ملك نور الدين الحصن المعروف بافلس بالسيف بأمر قضاه الله وسهله ويسره وعجله وهو في غاية المنعة والحصانة وقتل من كان فيه من الافرنج والأرمن وحصل للعسكر من المال والسبي الشيء الكثير ونهضوا طالبين ثغر بانياس ونزلوا عليه في يوم السبت تاسع وعشرين صفر وقد خلا من حماته وتسهلت أسباب ملكته وقد تواصلت استغاثة أهل عسقلان واستنصارهم بنور الدين فقضى الله تعالى بالخلف بينهم والقتل وهم في تقدير عشرة ألف فارس وراجل فأجفلوا عنها من غير طارق من الافرنج طرقهم ولا عسكر منهم أرهقهم ونزلوا على المنزل المعروف بالأعوج وعزموا على معادة النزول على بانياس وأخذها ثم أحجموا عن ذلك من غير سبب ولا موجب وتفرقوا. وعاد مجير الدين إلى دمشق ودخلها سالماً في نفسه وجملته في يوم الاثنين الحادي عشر من شهر ربيع الأول من السنة وعاد نور الدين إلى حمص ونزل بها في عسكره ووردت الأخبار بوصول اسطول مصر إلى عسقلان وقويت نفوس من بها بالمال والرجال والغلال وظفروا بعدة وافرة من مراكب الافرنج في البحر وهم على حالهم في محاصرتها ومضايقتها والزحف بالبرج إليها قد تقدم من شرح الحال للرئيس في تمكنه من منصب الوزارة بنفيه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 496 من نفاه من المعاندين له بحيث طابت نفسه وتوكد أنسه فعرض بينه وبين أخويه عز الدولة وزينها مشاحنات ومشاجات اقتضت المساعدة إلى مجير الدين في جمادى الأولى من السنة وأنفذ مجير الدين إلى الرئيس يستدعيه للاصلاح بينهم في القلعة فامتنع من ذلك وجلس في داره وهم بالتحصن عنه بأحداث البلد والغوغاء وآلت الحال إلى تمكن زين الدين منه بمعاونة مجير الدين عليه لأسباب تقدمت وتقرر بينهما إخراج الرئيس من البلد وجماعته إلى حصن صرخد مع مجاهد الدين بزان واليه في يوم الثلاثاء التاسع عشر من جمادى الأولى بعد أن قرر له بقاء بداره وبستانه وما يخصه ويخص أصحابه وتقلد أخوه زين الدين له مكانه وخلع عليه وأمر ونهى ونفذ الأشغال على عادته في العجز والتقصير وسوء الأفعال والتماس الرشاء على أقل الأعمال. ورأى مجير الدين عقيب ذلك التوجه إلى بعلبك لتطييب نفس واليها عطاء الخادم واستصحابه معه إلى دمشق لينوب عنه في تدبير الأمور والأعمال والمعونة على مصالح الأحوال وعاد وهو معه واستشعر مجاهد الدين أن نية مجير الدين قد تغيرت فيه فاستوحش من عوده إلى البلد عن غير يمين يحلف له بها على أيمانه على نفسه فوعد بالاجابة إلى ما رغب فيه وبقي الأمر موقوفاً لأسباب اقتضت التوقف ووردت الأخبار في أثناء ذلك بأن الافرنج النازلين على عسقلان قد ضايقوها بمغاداة القتال ومراوحته إلى أن تسهلت لهم أسباب الهجوم عليها من بعض جوانب سورها فهدموه وهجموا البلد وقتل بين الفريقين الخلق الكثير والجأت الضرورة والغلبة إلى طلب الأمان فأجيبوا إليه وخرج منها من أمكنه الخروج في البر والبحر إلى ناحية مصر وغيرها. وقيل أن في هذا الثغر المفتتح من العدد الحربية والأموال والميرة والغلال ما لا يحصر فيذكر. ولما شاع هذا الخبر في الأقطار ساء سماعه وضاقت الصدور وتضاعفت الأفكار بحدوث مثله فسبحان من لا يرد نافذ قضائه ولا يدفعه مختوم أمره عند نفوذه ومضائه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 497 وورد الخبر من ناحية حلب بوفاة الأديب أبي الحسين أحمد بن منير الشاعر في أيام من جمادى الآخرة سنة 548 بعلة هجمت عليه ربا فيها لسانه بحيث قضي نحبه وكان أديباً شاعراً عارفاً بفنون اللغة وأوزان العروض لكنه مرهوب اللسان خبيث الهجاء مجيد فيه لا يكاد يسلم من مقاطيع هجائه منعم عليه ولا مسيء إليه وكان طبعه في الذم أخف منه في المدح وكان يصل بهجائه لا بمدحه وثنائه ووصل إلى دمشق الأديب أبو عبد الله محمد بن نصر ويقال له ابن صغير القيسراني الشاعر من حلب يوم الأحد الثاني عشر من شعبان سنة 48 باستدعاء مجير الدين له وحضر مجلسه وأنشده قصيدةً حبرها يائية مقيدة حسنة المعاني والمقاصد فاستحسنها السامعون واستجادها وشفعها بغيرها ووصله أحسن صلة واتفق عوده إلى منزله فعرضت له حتى حادة وجاء معها اسهال مفرط قضى نحبه في يوم الأربعاء الثاني والعشرين من شعبان من السنة وكان أديباً شاعراً مترسلاً فاضلاً بليغ النظم مليح المعاني كثير التطبيق والتجنيس وله يد قوية في علم النجوم والأحكام والهيئة وحفظ الأخبار والتواريخ وكان بينه وبين أبي الحسين أحمد بن منير على قديم الزمان مشاحنات حرص معها على الاصلاح بينهما فما تهيأ ذلك لمن رامه وكان بينهما هذه المدة اليسيرة وكان قد ورد من بغداد إلى دمشق في أوائل سنة 548 الشيخ الامام الفيلسوف أبو الفتوح بن الصالح وكان غايةً في الذكاء وصفاء الحسن والنفاذ في العلوم الرياضية الطب والهندسة والمنطق والحساب وفنون النجوم والأحكام والمواليد والفقه وما يتصل به وتواريخ الأخبار والسير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 498 والآداب بحيث وقع الاجتماع عليه بأنه لم ير مثله في جميع العلوم وحسن الخلق ونزاهة النفس بحيث لا يقبل من أحد من الولاة صلة قلت أو كثرت واتفق للحين المقضي أنه عرض له مرض حاد ومعه اسهال مفرط أضعف قوته أقام به أياماً وتوفي إلى رحمة الله في دمشق يوم الأحد السادس والعشرين من شعبان من السنة وقيل أنه من بيت كبير في العلم والأصل. ونظم فيه هذه الأبيات بصفة حالة في هذا الموضع ليعرف محله: سررت أبا الفتوح نفوس قومٍ ... رأوك وحيد فضلك في الزمان حويت علوم أهل الأرض طرّاً ... وبيّنت الجليّ من البيان دعيت الفيلسوف وذاك حقٌّ ... بما أوضحت من غرر المعافي ووافاك القضاء بعبد دارٍ ... غريباً ما له في الفضل ثان فأودعت القلوب عليك حزناً ... يعضّ عليه أطراف البنان لئن بخل الزمان عليّ ظلماً ... بأني لا أراك ولن تراني فقد قامت صفاتك عند مثلي ... مقام السمع مني والعيان سقى جدثاً به أصبحت فرداً ... ملاك الغيث يهمي غير وان وفي أيام من تشرين الثاني الموافق لأيام من شعبان سنة 48 أرسل الله تعالى وله الحمد والشكر من الغيث المتدارك الهطال ما أحيا به الأرض بعد القحط والجدب وأجرى أودية حوران وأفعم بكرها بعد جفافها وقيل أن هذا الغيث لم ير مثله في هذا الوقت في السنين الماضية وأنه أفرط في أعمال طبرية بحيث حدث منه سيل جارف هدم عدة من مساكنها ورماها إلى البحيرة فسبحان محيي عباده ومغيث بلاده وفي يوم الخميس انسلاخ شعبان من السنة توفي الشيخ الامام الفقيه برهان الدين أبو الحسن علي البلخي رئيس الحنفية رحمه الله ودفن في مقابر باب الصغير المجاور لقبور الشهداء رضي الله عنهم وكان من التفقه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 499 على مذهب الامام أبي حنيفة رحمه الله ما هو مشهور شائع مع الورع والدين والعفاف والتصون وحفظ ناموس الدين والعلم والتواضع والتردد إلى الناس على طريقة مرضية وسجية محمودة لم يشاركه فيها غيره ووقع الأسف عليه من جميع الخاص والعام والتأبين له والحزن عليه قد مضى من ذكر الرئيس المسيب في حصوله بصرخد وتقرر بعد ذلك تطييب نفس مجاهد الدين والحلف له على إزالة ما خامره من الاستيحاش والنفار ما سكن إليه واعتمد عليه وعاد إلى داره بدمشق أواخر شعبان وصام رمضان فيها ثم هجس في خاطره من مجير الدين وخواصه ما أوحشه منهم ودعاه ذلك إلى الخروج من البلد سراً في يوم الثلاثاء الثاني عشر من شوال طالباً صرخد فحين عرف خبره نهض في طلبه وقص أثره جماعة من الخيل فأدركوه وقد قرب من صرخد فقبض عليه وأعيد إلى القلعة بدمشق واعتقل بها اعتقالاً جميلاً وحدث في هذه الأيام من تتابع الأمطار في الأماكن والثلوج في الجبال والأعمال البقاعية ما لم ير مثله ثم ذاب الثلج وسالت بمائه الأودية والشعاب وساح على الأرض كالسيل الجارف وامتلأت به الأنهار والتقت الشطط وأفسد ما مر به من الأراضي المنخفضة ووصل المد إلى بردى وما قرب منها ورأى من كثرته وعظمه وتغير لونه ما كثر التعجب منه والاستعظام له فسبحان مالك الملك منزل الغيث من بعد القنوط إنه على كل شيء قدير ثم تجدد عقيب ذلك من الرئيس الوزير حيدرة المقدم ذكره أشياء ظهرت عنه مع ما في نفس الملك مجير الدين منه ومن أخيه المسيب والمعرفة بالسعي والفساد ما اقتضت الحال استدعاءه إلى القلعة على حين غفلة منه وعن القضاء النازل به لسوء أفعاله وقبح ظلمه وخبثه ثم عدلت به الجزء: 1 ¦ الصفحة: 500 الجندارية إلى الجمام بالقلعة في يوم الأحد مستهل ذي القعدة من السنة وضربت عنقه صبراً وأخرج رأسه ونصب على حافة الخندق ثم طيف به والناس يلعنونه ويصفون أنواع ظلمه وتفننه في الأدعية والفساد ومقاسمة اللصوص وقطاع الطريق على أموال الناس المستباحة بتقريره وحمايته وكثر السرور بمصرعه وابتهج بالراحة منه ثم رجعت العامة والغوغاء ومن كان من أعوانه على الفساد من أهل العيث والافساد إلى منازلة خزائنه ومخازن غلته وأثاثه وذخائره فانتهبوا منها ما لا يحصى وغلبوا أعوان السلطان وجنده عليها بالكثرة ولم يحصل للسلطان من ذلك إلا النزر اليسير ورد أمر الرئاسة والنظر في البلد في اليوم المقدم ذكره إلى الرئيس رضي الدين أبي غالب عبد المنعم بن محمد بن أسد بن علي التميمي وطاف في البلد مع أقاربه وسكن أهله وسكنت الدهماء ولم يغلق في البلد حانوت ولا اضطرب أحد واستبشر الناس قاطبةً من الخاص والعام والعسكرية وعامة الرعية وبولغ في اخراب منازل الظالم ونقل أخشابها وهذه عادة الباري تعالى في الظالمين " والفَسَقَة المفسدين وَكَذلِكَ أَخذُ رَبّكَ إِذَا أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ " وفي ذي القعدة سنة 48 وردت الأخبار من ناحية بغداد بورود الأخبار إليها من ناحية الشرق باضطراب الأحوال في الأعمال الخراسانية وانفلال عسكر السلطان سنجر والاستيلاء عليه والقهر والاستظهار وحصره في دار مملكته بلخ والتضييق عليه واستدعاء ما في خزائنه من الأموال والآلات والذخائر والأمتعة والجواهر بخلق عظيم من الغز والتركمان تجمعوا من أماكنهم ومعاقلهم وحللهم في الأعداد الدثرة والتناهي في الاحتشاد والكثرة ولم يكن للسلطان سنجر مع كثرة عساكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 501 وأجناده طاقة ولا لدفعه عنه قوة فقهروه وغلبوه وحصروه وقيل إن نيسابور وتلك الأعمال حدث فيها من الفساد والخلف والقتل والنهب والسلب ما ترتاع النفوس باستماع مثله وتفرق من قبح فعله ونهبت بلخ بالمذكورين المقدم ذكرهم أشنع نهب وأبشع سلب فسبحان مدبر بلاده وعباده كما يشاء إنه على كل شيء قدير وفي الشهر المذكور حدث بمدينة دمشق ارتفاع السعر لعدم الواصلين إليها بالغلات من بلاد الشمال على جاري العادة بتقدم نور الدين صاحب حلب بالمنع من ذلك وحظره فأضر ذلك بأهلها من المسترين والضعفاء والمساكين وبلغ سعر الغرارة الحنطة خمسة وعشرين ديناراً وزاد على ذلك وخلا من البلد الخلق الكثير ولقوا من البؤس والشدة والضعف ما أوجب موت جماعة وافرة في الطرقات وانقطعت الميرة من كل الجهات وذكر إن نور الدين عازم على قصد دمشق بمنازلتها والطمع لهذه الحال في مملكتها وذلك مستصعب عليه لقوة سلطانها وكثرة أجنادها وأعوانها والله تعالى المرجو لقرب الفرج وحسن النظر بخلقه بالرأفة والرحمة كما جرت عوائد احسانه وفضله فيما تقدم وفي أواخر ذي القعدة استدعي الرئيس رضي الدين إلى القلعة المحروسة وشرف بالخلع المكملة والمركوب بالسخت والسيف المحلى والترس وركب معه الخواص وأصحاب الركاب إلى داره وكتب له المنشور بالتقليد والاقطاع ولقب بالرئيس الأجل رضي الدين وجيه الدولة سديد الملك فخر الكفاة عز المعالي شرف الرؤساء وكان عطاء الخادم المقدم ذكره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 502 قد استبد بتدبير الأمور ومد يده في الظلم وأطلق لسانه بالهجر وأفرط في الاحتجاب عن الشاكي والمشتكي بالغلمان والحجاب وقصر في قضاء الحوائج تقصيراً منكراً واتفق للأقضية المقدرة والمكافأة المقررة إن تقدم مجير الدين باعتقاله وتقييده والاستيلاء على ما في داره ومطالبته بتسليم بعلبك وما فيها من مال وغلال وسرت بمصرعه النفوس ونهب العوام والغوغاء بيوت أصحابه وأسبابه. وأرسل الله تعالى الغيث المتدارك بحيث افترت الأرض عن نضارتها وأبانت عن اخضرارها وغضارتها ولما كان في يوم الاثنين الخامس والعشرين من ذي الحجة من السنة أمر مجير الدين بضرب عنق عطاء الخادم المذكور لأسباب أوجبت ذاك ودعت إليه. وفي يوم الأربعاء السابع وعشرين من ذي الحجة استدعى مجير الدين بالفضل ولد نفيس الملك المستوفي لجده تاج الملوك رحمه الله ورد إليه استيفاء ديونه على عادة أبيه ولقبه لقب أبيه وجيه الدين نفيس الملك وتقرر أشراف الديوان سعد الدولة أبي الحسن علي بن طاهر الوزير المزدقاني ودخلت سنة تسع وأربعين وخمسمائة أولها يوم الأربعاء مستهل المحرم والطالع للعالم الجوزاء. وفي العشر الثاني من المحرم منها وصل الأمير الاسفهسلار أسد الدين شيركوه رسولاً من نور الدين صاحب حلب إلى ظاهر دمشق وخيم بناحية القصب من المرج في عسكر يناهز الألف فأنكر ذاك ووقع الاستيحاش منه وإهمال الخروج إليه لتلقيه والاختلاط به وتكررت المراسلات فيما اقتضته الحال ولم يسفر عن سداد ولا نيل مراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 503 وغلا سعر الأقوات لانقطاع الواصلين بالغلات ووصل نور الدين في عسكره إلى شيركوه في يوم الأحد الثالث من صفر وخيم بعيون الفاسريا عند دومة ورحل في الغد ونزل بأرض الضيعة المعروفة ببيت الآبار من الغوطة وزحف إلى البلد من شرقيه وخرج إليهم من عسكريته وأحداثه الخلق الكثير ووقع الطراد بينهم ثم عاد كل من الفريقين إلى مكانه ثم زحف يوماً بعد يوم. فلما كان يوم الأحد العاشر من صفر للأمر المقدر المقضي والأمر الماضي وسعادة نور الدين الملك وأهل دمشق وكافة الناس أجمعين باكر الزحف وقد احتشد وتهيأ لصدق الحرب وظهر إليه العسكر الدمشقي على العادة ووقع الطراد بينهم وحملوا من الجهة الشرقية من عدة أماكن فاندفعوا بين أيديهم حتى قربوا من سور باب كيسان والدباغة من قبلي البلد وليس على السور نافخ ضرمة من العسكرية والبلدية لسوء تدبير صاحب الأمر والأقدار المقدرة غير نفر يسير من الأتراك المستحفظين لا يؤبه لهم ولا يعول عليهم في أحد الأبراج. وتسرع بعد الرجالة إلى السور وعليه امرأة يهودية فأرسلت إليه حبلاً فصعد فيه وحصل على السور ولم يشعر به أحد وتبعه من تبعه واطلعوا علماً نصبوه على السور وصاحوا أصحاب نور الدين يا منصور وامتنع الأجناد والرعية من الممانعة لما هم عليه من المحبة لنور الدين وعدله وحسن ذكره وبادر بعض قطاعي الخشب بفأسه إلى الباب الشرقي فكسر إغلاقه وفتح فدخل منه العسكر على رغب وسعوا في الطرقات ولم يقف أحد بين أيديهم وفتح باب توما أيضاً ودخل الناس منه. ثم دخل الملك نور الدين وخواصه وسر كافة الناس من الأجناد والعسكرية لما هم عليه من الجوع وغلاء الأسعار والخوف من منازلة الافرنج الكفار الجزء: 1 ¦ الصفحة: 504 وكان مجير الدين لما أحس بالغلبة والقهر قد انهزم في خواصه إلى القلعة وأنفذ إليه وأومن على نفسه وماله وخرج إلى نور الدين فطيب نفسه ووعده الجميل ودخل القلعة في يوم الأحد المقدم ذكره. وقد أمر نور الدين في الحال بالمناداة بالأمان للرعية والمنع من انتهاب شيء من دورهم وتسرع قوم من الرعاع والأوباش إلى سوق علي وغيره فعاثوا ونهبوا وأنفذ المولى الملك نور الدين إلى أهل البلد بما طيب نفوسهم وأزال نفرتهم. وأخرج مجير الدين ما كان له في دوره بالقلعة والخزائن من المال والآلات والأثات على كثرته إلى الدار الأتابكية دار جده وأقام أياماً ثم تقدم إليه بالمسير إلى حمص في خواصه ومن أراد الكون معه من أسبابه وأتباعه بعد أن كتب له المنشور باقطاعه عدة بأعمال حمص برسمه ورسم جنده وتوجه إلى حمص على القضية المقدرة. ثم أحضر بعد غد ذلك اليوم أماثل الرعية من الفقهاء والتجار وخوطبوا بما زاد في إيناسهم وسرور نفوسهم وحسن النظر لهم بما يعود بصلاح أحوالهم وتحقيق آمالهم فأكثر الدعاء له والثناء عليه والشكر لله على ما أصاروه إليه. ثم تلا ذلك إبطال حقوق دار البطيخ وسوق البقل وضمان الأنهار وأنشأ بذلك المنشور وقرئ على المنبر بعد صلاة الجمعة فاستبشر الناس بصلاح الحال وأعلن الناس من التناء والفلاحين والحرم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 505 والمتعيشين برفع الدعاء إلى الله تعالى بدوام أيامه ونصره وأعلامه والله سبحانه ولي الاجابة بمنه وفضله وقد كان مجاهد الدين بزان قد أطلق يوم الفتح من الاعتقال وأعيد إلى داره ووصل الرئيس مؤيد الدين المسيب إلى دمشق مع ولده النائب عنه في صرخد إلى داره معولاً على لزومها وترك التعرض لشيء من التصرفات والأعمال فبدا منه من الأسباب المعربة عن إضمار الفساد والعدول عن مناهج السداد والرشاد ما كان داعياً إلى فساد النية فيه. وكان في إحدى رجليه فنخ قد طال به ونسر ثم لحقه معه مرض وانطلاق متدارك أفرط عليه وأسقط قوته مع فواق متصل وقلاع في فيه زائد فقضى نحبه في الليلة التي صبيحتها يوم الأربعاء الرابع من شهر ربيع الأول سنة 49 ودفن في داره واستبشر الناس بمهلكه والراحة منه ومن سوء أفعاله بحيث لو عدت مخازيه مع جنونه واختلاله لطال بها الشرح وعجز عنها الوصف وفي أواخر المحرم من السنة ورد الخبر من ناحية ماردين بوفاة صاحبها الأمير حسام الدين بن ايل غازي بن أرتق رحمه الله في أول المحرم وكان مع شرف قدره في التركمان ذكياً محباً لأهل العلم والأدب مميزاً عن أمثاله بالفضيلة. وفي شهر ربيع الأول من السنة وردت الأخبار من ناحية مصر بأن الامام الظافر بالله أمير المؤمنين صاحبها كان ركن إلى أخويه يوسف وجبريل وإلى ابن عمهم صالح بن حسن وانس بهم في أوقات مسراته فعملوا عليه واغتالوه وقتلوه وأخفوا أمره في يوم الخميس انسلاخ صفر سنة 49 وحضر الامام العادل عباس الوزير وولده ناصر الدين وجماعة من الأمراء والمقدمين للسلام على الرسم فقيل لهم: إن أمير المؤمنين ملتاث الجسم. فطلبوا الدخول عليه لعبادته فاحتج عليهم فلم يقبلوا وألحوا في الطلب فظهر الأمر وانكشف واقتضت الحال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 506 المسارعة إلى قتل الجناة في الوقت والساعة وإقامة ولد الظافر عيسى وهو صغير يناهز ثلاث سنين ولقبوه الفائز بنصر الله وأخذ له البيعة على الأجناد والعسكرية وأعيان الرعية على جاري العادة والعادل عباس الوزير وإليه تدبير الأمور واستمرت الأحوال على المنهاج ثم ورد الخبر بعد ذلك بأن الأمير فارس المسلمين طلائع بن رزيك وهو من أكابر الأمراء المقدمين والشجعان المذكورين لما انتهى إليه الخبر وهو غائب عن مصر قلق لذاك وامتعض وجمع واحتشد وقصد العود إلى مصر فلما عرف عباس الوزير بما جمع خالف الغلبة والاقدام على الهلكة إذ لا طاقة له بملاقاته في حشده الكثير ولم يمكنه المقام على الخطار بالنفس فتأهب للهرب في خواصه وأسبابه وحرمه ووجوه أصحابه وما تهيأ من ماله وتجمله وكراعه وسار مغذاً. فلما قرب من أعمال عسقلان وغزة ظهر إليه جماعة من خيالة الافرنج فاغتر بكثرة من معه وقلة من قصده فلما حملوا عليه فشل أصحابه وأعانوا عليه وانهزم أقبح هزيمة هو وولد له صغير وأسر ابنه الكبير الذي قتل ابن السلار مع ولده وحرمه وماله وكراعه وحصلوا في أيدي الافرنج ومن هرب لقي من الجوع والعطش ومات العدد الكثير من الناس والدواب ووصل إلى دمشق منهم من نجاه الهرب على أشنع صفة من العدم والعري والفقر في أواخر شهر ربيع الآخر من السنة وضاقت صدور المسلمين بهذه المصيبة المقضية بيد الافرنج فسبحان من لا يرد له قضاء ولا محتوم أمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 507 وفي آخر شهر ربيع الأول وصل الأمير الاسفهسلار مجد الدين أبو بكر محمد نائب المولى الملك نور الدين في حلب إلى دمشق عقيب عوده من الحج وأقام أياماً وعاد منكفئاً إلى منصبه في حلب وتدبير أعمالها وتسديد أحوالها وفي شهر ربيع الآخر سنة 549 ثار في دمشق مرض مختلف الحميات منه ما يقصر ومنه ما يطول وأعقبه بعد ذلك موت في الشيوخ والشباب والصبيان ثم تقاصر ذلك وفي أيام من جمادى الأولى من السنة ورد الخبر من ناحية مصر بأن عدة وافرةً من مراكب الافرنج من صقلية وصلت إلى مدينة تنيس على حين غفلة من أهلها فهجمت عليها وقتلت وأسرت وسبت وانتهبت وعادت بالغنائم بعد ثلاثة أيام وهي صفر وبعد ذلك عاد من كان هرب منها في البحر بعد الحادثة ومن سلم واختفى وضاقت الصدور عند استماع هذا الخبر المكروه وفي شهر رمضان ورد الخبر من ناحية حلب بفاة القاضي فخر الدين أبي منصور محمد بن عبد الصمد الطرسوسي رحمه الله وكان ذا همة ماضية ويقظة مضيئة ومرؤة ظاهرة في داره وولده ومن يلم به من غريب ووافد وقد نفذ أمره وتصرفه في أعمال حلب في أيام الملكية النورية وأثر في الوقوف أثراً حسناً توفر به ارتفاعه. ثم انعزل عن ذلك أجمل اعتزال. الجزء: 1 ¦ الصفحة: 508 وفي يوم الثلاثاء الثامن من شهر رمضان سنة 549 توفي الحكيم أبو محمد بن حسين الطبيب المعري رحمه الله وكان حسن الطريقة والصناعة كثير التجربة ثاقب المعرفة فكثر التأسف عليه وعند فقد مثله ودخلت سنة خمسين وخمسمائة وأولها يوم الاثنين مستهل المحرم والطالع العقرب عشرون درجة وثلاثون دقيقةً وثمان وأربعون ثانيةً. وفي اليوم الرابع والعشرين من ربيع الأولى من السنة تقررت أسباب الموادعة بين الملك العادل نور الدين صاحب دمشق وبين ملك الافرنج تقدير السنة وتمهدت القاعدة على هذه الحال إلى آخر المدة المستقرة. وبعد أيام قلائل من ذلك خرج الأمر الملكي النوري بالقبض على ضحاك والي بعلبك وطلب منه تسليمها فأجاب إلى ذلك ورحل العسكر المنصور إليها لتسلمها وفي يوم الخميس السابع من شهر ربيع الأول من السنة كان تسلمها ورتب فيها من سلمت إليه واعتمد في حفظها عليه. وفي يوم الاثنين الحادي وعشرين من رجب من السنة توجه الأمير أسد الدين شيركوه إلى حلب عند استدعاء الملك العادل نور الدين له وفي أيام من شعبان من السنة ورد الخبر من ناحية مصر بأن المنتصب في الوزارة فارس الاسلام بن رزيك لما استقام له الأمر عزم على مصالحة الافرنج وموادعتهم واستكفاف شرهم ومصانعتهم بمال يحمل إليهم من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 509 الخزانة وما يفرض على اقطاع المقدمين من الأجناد فحين شاورهم في ذلك أنكروه ونفروا منه وعزموا على عزله والاستبدال به من يرتضون به واختاروا مقدماً يعرف بالأمير ..... مشهوراً بالشهامة والبسالة وحسن السياسة. وارتضي لتولية الاسطول المصري مقدماً من البحرية شديد البأس بصيراً بأشغال البحر فاختار جماعةً من رجال البحر يتكلمون بلسان الافرنج وألبسهم لباس الافرنج وأنهضهم في عدة من المراكب الاسطولية وأقلع في البحر لكشف الأماكن والمكامن والمسالك المعروفة بمراكب الروم وتعرف أحوالها ثم قصد مينا صور وقد ذكر له إن فيه شختورة رومية كبيرة فيها رجال كثيرة ومال كثير وافر فهجم عليها وملكها وقتل من فيها واستولى على ما حوته وأقام ثلاثة أيام ثم أحرقها وعاد عنها في البحر فظفر بمراكب حجاج الافرنج فقتل وأسر وانتهب وعاد منكفئاً إلى مصر بالغنائم والأسرى وفي الشهر المذكور ورد الخبر من ناحية حلب بوقوع الخلف بين أولاد الملك مسعود بعد وفاته وبين أولاد قتلمش وبين أولاد قلج أرسلان وإن الملك العادل نور الدين صاحب دمشق وحلب دخل بينهم للصلح والاصلاح والتحذير من الخلف المقوي للأعداء من الروم والافرنج وطمعهم في المعاقل الاسلامية وبالغ في ذلك بأحسن توسط وبذل التحف والملاطفات وصلحت بينهم الأحوال وتناصرت الأخبار في هذا الأوان من ناحية العراق بأن الامام المقتفي لأمر الله أمير المؤمنين قد اشتدت شوكته وظهر واستظهر على كل مخالف له وعادل عن حكمه ولم يبق له مخالف مشتاق ولا عدو منافق وإنه مجمع على قصد الجهات المخالفة لأمره الجزء: 1 ¦ الصفحة: 510 وفي يوم الجمعة العاشر من ذي الحجة سنة 550 عاد الملك العادل نور الدين إلى دمشق من حلب وقد كان ورد الخبر قبل ذلك بأن الأمير قرا أرسلان بن داود بن سكمان ابن ارتق ورد على الملك العادل نور الدين وهو بأعمال حلب فبالغ في الاكرام له والسرور بمقدمه ولاطفه وألطفه بما جل قدره وعظم أمره من التحف والعطاء ثم عاد عنه إلى عمله مسروراً شاكراً وورد الخبر أيضاً في شهر رمضان سنة 50 بأن الملك العادل نور الدين نزل في عسكره بالأعمال المختصة بالملك قلج أرسلان بن الملك مسعود بن سليمان بن قتلمش ملك قونية وما والاها فملك عدة من قلاعها وحصونها بالسيف والأمان وكان الملك قلج أرسلان وأخواه ذو النون ودولاب كذا مشتغلين بمحاربة أولاد الدانشمند واتفق إن أولاد الملك مسعود رزقوا النصر على أولاد الدانشمند والاظهار على عسكره في وقعة كانت على موضع يعرف باقصرا في شعبان سنة 550 فلما عرف وعاد ما كان من الملك العادل نور الدين في بلاده عظم عليه هذا الأمر واستبشعه مع ما بينهما من الموادعة والمهادنة والصهر وراسله بالمعاتبة والانكار عليه والوعيد والتهديد وأجابه بحسن الاعتذار وجميل المقال وبقي الأمر بينهما مستمراً على هذه الحال ودخلت سنة إحدى وخمسين وخمسمائة وأولها يوم الجمعة مستهل المحرم والطالع الدلو خمس عشرة درجة وست عشرة عاشرة وبعد وصول الحجاج يوم الجمعة السادس من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 511 صفر من السنة توجه الملك العادل نور الدين إلى ناحية حلب في بعض عسكره في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من صفر من السنة عند انتهاء خبر الافرنج إليه بعيثهم في أعمال حلب وافسادهم وصادفه في طريقه المبشر بظفر عسكره في حلب بالافرنج المفسدين على حارم وقتلهم جماعةً منهم وأسرهم ووصل مع المبشر عدة وافرة من رؤوس الافرنج المذكورين وطيف بها في دمشق. وفي يوم الثلاثاء الثالث من شهر ربيع الأول من السنة توفي الشيخ الفقيه الزاهد أبو البيان نبا بن محمد المعروف بأن الحوراني رحمه الله وكان حسن الطريقة مذ نشأ صيتاً إلى أن قضى متديناً ثقةً عفيفاً محباً للعلم والأدب والمطالعة للغة العرب وكان له عند خروج سريره لقبره في مقابر الصغيرة المجاورة لقبور الصحابة من الشهداء رضي الله عنهم يوم مشهور من كثرة المناسقين والمتأسفين عليه وورد الخبر من ناحية حلب بوفاة الشريف السيد بهاء الدين أبي الحسن الهادي بن المهدي بن محمد الحسيني الموسوي رحمه الله في اليوم السابع عشر من رجب سنة 551 وكان حسن الصورة فصيح اللسان بالعربية والفارسية جميل الأخلاق والخلال مشكور الأفعال كريم النفس مليح الحديث واسع الصدر مكين المحل من الملك العادل نور الدين ركن الاسلام والمسلمين سلطان الشام أدام الله علاه وناله من الحزن لفقده والتأسف عليه ما يقتضيه مكانه المكين عنده ونظم فيه هذه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 512 الأبيات رثاه بها من كان بينه وبينه مودة مستحكمة أوجبت ذاك إن رأيت اثباتها في هذا الموضع مع ذكره وهي: نعى الناعي جاء الدين لمّا ... أتاه نازل القدر المتاح فروّع كل ذي علمٍ وفضلٍ ... من الأدباء والعرب الفصاح بكته غزالة الآفاق حزناً ... واظلم رزؤه ضوء الصباح وأسبلت العيون دماً عليه ... كذلك عادة المقل الصحاح فكم متفجّع يبكي عليه ... بحرقة موجعٍ دامي الجراح وينشر فضله في كل نادٍ ... بألفاظ محبرةٍ فصاح على حسناته تبكي المعالي ... بدمعة ثاكل خود رداح فلو رام البليغ لها صفاتٍ ... لقصّر عن مراثٍ وامتداح له خلقٌ صحيحٌ لا يضاهى ... ووجهٌ مشرق الأرجاء صاح وكفٌّ جودها كالغيث يهمي ... على العافين كالجود المباح له شرفان في عرب وفرس ... وقد صالا بمرهفه الصفاح فأضحى لا مساجل في جلالٍ ... ولا شرفٍ ينير ولا سماح على أمثاله عند الرزايا ... يعطّ جيوب أرباب البطاح ومن كان الحسين أباه قدماً ... فقد نال المعلّى في القداح لئن واراه في حلبٍ ضريح ... بعيدٌ عن مواطنه الفساح وأصبح فيه منفرداً غريباً ... عن الأهلين في غلسٍ وضاح فهذا الرسم جارٍ في البرايا ... بلا قصدٍ يكون ولا اقتراح فلا برحت عمائم كل نود ... تروّضه بأنوار الأقاحي ورحمة محيي الأموات تسري ... عليه في الغدو وفي الرواح هدى الأيام ما ناحت هتوفٌ ... ولاح بقفره بيض الأداحي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 513 وفي اليوم الخامس والعشرين توفي الشيخ أبو طالب شيخ الصوفية بدمشق رحمه الله وكان خيراً تقياً عفيفاً حسن الطريقة مشكور الخلال شرح الزلازل الحادثة في هذه السنة المباركة وتواليها في ليلة الخميس التاسع من شعبان سنة 551 الموافق لليوم السابع والعشرين من أيلول في الساعة الثانية منها وافت زلزلةٌ عظيمة رجفت بها الأرض ثلاث أو أربع مرات ثم سكنت بقدرة من حركها وسكنها سبحانه وتعالى من مليك قادر قاهر ثم وافى بعد ذلك ليلة الأربعاء الثاني وعشرين من شعبان المذكور زلزلة وجاءت قبلها وبعدها مثلها في النهار وفي الليل ثم جاء بعد ذلك ثلاث دونهن بحيث أحصين ست مرات وفي ليلة السبت الخامس وعشرين من الشهر المذكور جاءت زلزلة أرتاع الناس منها في أول النهار وآخره ثم سكنت بقدرة محركها سبحانه وتعالى وتواصلت الأخبار من ناحية حلب وحماة بانهدام مواضع كثيرة وانهدام برج من أبراج أفامية بهذه الزلازل الهائلة وذكر إن الذي أحصى عدده منها تقدير الأربعين على ما حكى والله تعالى أعلم. وما عرف مثل ذلك في السنين الماضية والأعصر الخالية وفي يوم الأربعاء التاسع وعشرين من الشهر بعينه شعبان وافت زلزلة تتلو ما تقدم ذكره آخر النهار وجاءت في الليل ثانيةً في آخره ثم وافى في يوم الاثنين أول شهر رمضان من السنة زلزلة مروعة للقلوب وعاودت ثانيةً وثالثةً ثم وافى بعد ذلك في يوم الثلاثاء ثالثةً ثلاث زلازل إحداهن في أوله هائلة والثانية والثالثة دون الأولى وأخرى في وقت الظهر مشاكلة لهن ووافى بعد ذلك اخرى هائلة أيقظت النيام وروعت القلوب انتصاف الليل فسبحان الجزء: 1 ¦ الصفحة: 514 القادر على ذلك ثم وافى بعد ذلك في الساعة التاسعة من ليلة الجمعة النصف من شهر رمضان من السنة زلزلة عظيمة هائلة أعظم مما سبق ولما كان عند الصباح من الليلة المذكورة وافت أخرى دونها وتلا ما تقدم في ليلة السبت أولها وجاءت أخرى آخرها ثم تلا ذلك في يوم الاثنين زلزلة هائلة وتلا ذلك في ليلة الجمعة الثالث والعشرين من شهر رمضان في الثلاث الأول منها زلزلة عظيمة مزعجة وفي غداة يوم الأحد ثاني شوال من السنة تالي ما تقدم ذكره وافت زلزلة أعظم مما تقدم روعت الناس وأزعجتهم وفي يوم الخميس سابع شوال المذكور وافت زلزلة هائلة في وقت صلاة الغداة وفي يوم الأحد الثالث عشر منه وافت زلزلة هائلة في وقت صلاة الغداة وفي يوم الاثنين تلوه وافت زلزلة أخرى مثلها ثم أخرى بعدها دونها ثم ثالثة ثم رابعة. وفي ليلة الأحد الثاني والعشرين من شوال وافت زلزلة عظيمة روعت النفوس ثم وافى عقيب ذاك ما أهمل ذكره لكثرته ودفع الله تعالى عن دمشق وضواحيها ما خاف أهلها من توالي ذلك وتتابعه برأفته بهم ورحمته لهم فله الحمد والشكر لكن وردت الأخبار من ناحية حلب بكثرة ذلك فيها وانهدام بعض مساكنها إلا شيزر فإن الكثير من مساكنها انهدم على سكانها بحيث قتل منهم العدد الكثير. وأما كفرطاب فهرب أهلها منها خوفاً على أرواحهم وأما حماة فكانت كذلك وأما باقي الأعمال الشامية فما عرف ما حدث فيها من هذه القدرة الباهرة وفي يوم الأربعاء الحادي والعشرين من شهر رمضان سنة 551 وصل المولى الملك نور الدين أعز الله نصره إلى بلده دمشق عائداً من ناحية حلب وأعمال الشام بعد تهذيبها وتفقد أحوالها سالماً في النفس والجملة بعد استقرار الموادعة بينه وبين ولد السلطان مسعود وصاحب قونية وزوال ما كان حدث بينهما الجزء: 1 ¦ الصفحة: 515 وفي شوال تقررت الموادعة والمهادنة بينه وبين ملك الافرنج مدة سنة كاملة أولها شعبان وإن المقاطعة المحمولة إليهم من دمشق ثمانية آلاف دينار صورية وكتبت المواصفة بذلك بعد تأكيدها بالأمان بالمواثيق المشددة. وكان المعروف بأبي سالم بن همام الحلبي قد ولي مشارفة الديوان بدمشق بعناية الأمير أسد الدين النائب عن الملك العادل نور الدين فظهر منه خيانات اعتمدها وتفريطات قصدها بجهله وسخافة عقله وتقصيره فأظهرها قوم من المتصرفين عند الكشف عنها والتحقيق لها فاقتضت الحال القبض عليه والاعتقال له إلى أن يقوم بما وجب عليه فلما كان في يوم الأحد السادس عشر من شوال سنة 551 خرج الأمر السامي النوري بالكشف عن سعاياته في فضول كان غنياً عنها فاقتضت الحال بأن يحلق لحيته ويركب حماراً مقلوباً وخلفه من يعلوه بالدرة وأن يطاف به في أسواق دمشق بعد سخام وجهه وينادى عليه هذا أجزاء كل خائن ونمام ثم أقام بعد ذلك في الاعتقال أياماً ثم أمر بنفيه إلى حلب بشفاعة من شفع فيه من مقدمي الدولة السعيدة فمضى على أقبح صفة من لعن الناس ونشر مخازيه وتعديد مساويه وفي شعبان من السنة وردت الأخبار من ناحية مصر بارتفاع أسعار الغلة بها وقلة وجودها وشدة أضرارها بالضعفاء والمساكين وغيرهم وأمر المتولي لأمرها التناء والمحتكرين لها ببيع الزائد على أقواتهم على المقلين والمحتاجين ووكد الخطاب في ذلك وما زادت الحال إلا شدةً مع ما ذكر من توفية النيل في السنة وفي شعبان وردت الأخبار من ناحية العراق بخلاص السلطان سنجر ابن السلطان العادل من ضيق الاعتقال المتطاول به بتدبير أعمل على الموكلين به ووعود وافية بحيث أجابوا إلى ذلك وعاد إلى مكانه من السلطنة الجزء: 1 ¦ الصفحة: 516 ووفى بما وعد المساعدين له على الخلاص وقويت شوكته واستقامت مملكته وفي شهر رمضان وردت الأخبار من ناحية الموصل بأن السلطان سليمان شاه بن السلطان محمد عزم على العبور في عسكره إلى أعمال الموصل فأنفذ إليه واليها ومدبرها الأمير زين الدين علي كوجك يقول له: إنك فعلت وأضررت بالأعمال وأذيت أهلها. وسأله فلم يقبل ونهض إليه في عسكره من الموصل ومن انضاف إليه وصافه فرزق النصر عليه وهزم عسكره أقبح هزيمة واستولى على سواده وعاد به إلى الموصل ظافراً منصوراً وفي العشر الأخير من ذي الحجة من السنة غدر الكفرة الافرنج ونقضوا ما كان استقر من الموادعة والمهادنة بحكم وصول عدة وافرة من الافرنج في البحر وقوة شوكتهم بهم ونهضوا إلى ناحية الشعراء المجاورة لبانياس وقد اجتمع فيها من جشارات خيول العسكرية والرعية وعوامل الفلاحين فلاحي الضياع ومواشي الجلابين والعرب الفلاحين الشيء الكثير الذي لا يحصى فيذكر للحاجة إلى الرعي بها والسكون إلى الهدنة المستقرة ووقع من المندوبين لحفظهم من الأتراك تقصير فانتهزوا الفرصة واستاقوا جميع ما وجدوه وأفقروا أهله منه مع ما أسروه من تركمان وغيرهم وعادوا ظافرين غانمين آثمين والله تعالى في حكمه يتولى المكافأة لهم والادالة منهم وما ذلك عليه بعزيز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 517 ودخلت سنة اثنتين وخمسين وخمسمائة أولها يوم الأربعاء مستهل المحرم والطالع برج الدلو اثنتين وعشرين درجةً وثماني عشرة دقيقة. قد تقدم شرح ما حدث من الزلازل إلى أواخر سنة 51 ما يغنى عن ذكره ولما كانت ليلة الأربعاء التاسع عشر من صفر سنة 552 وافت زلزلة عظيمة عند انبلاج الصباح فروعت وأزعجت ثم سكنها محركها بلطفه ورأفته بعباده ثم تلا ذلك اخرى دونها إلى ليلة الخميس تاليه بعد مضي ساعات منها ووافت بعدهما اخرى بعد صلاة الجمعة تاليه وتواصلت الأخبار من ناحية الشمال بعظم تأثير هذه الزلازل الأول منها والآخر في مدينة شيزر وحماة وكفرطاب وأفامية وما والاها إلى مواضع من حلب والله تعالى ذكره وعز اسمه أعلم وأرحم لخلقه وفي العشر الأخير من صفر ورد كتاب السلطان غياث الدنيا والدين أبي الحرث سنجر ابن السلطان العادل أبي الفتح بن السلطان ألب ارسلان أعز الله نصره إلى الملك العادل نور الدين أدام الله أيامه بالتشوق إليه والاحماد بجلاله وما ينتهى إليه من جميع أفعاله وأعلامه وما من الله عليه به من خلاصه من الشدة التي وقع فيها والأسر الذي بلي به في أيدي الأعداء الكفرة من ملوك التركمان بحيلة دبرها وسياسة أحكمها وقررها بحيث عاد إلى منصبه من السلطنة المشهورة واجتماع العساكر المتفرقة عنه إليه واذعانها بطاعته وامتثالهم لأوامره وأمثلته واحسان وعده لكافة المسلمين بنصره على أحزاب الضلال من الافرنج الملاعين. وتواصلت مع ذلك إلى نور الدين رسل أرباب الأعمال والمعاقل والولايات بالاستعداد للخفوف إلى أعداء الله الملاعين وغزو من بإزائه من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 518 المشركين الأضداد المفسدين في البلاد والناكثين أيمانهم الموكدة في الموادعة والمهادنة. فعند ذلك أمر المولى نور الدين بزينة البلد المحروس سروراً بهذه الأحوال وفعل في ذلك ما لم تجر عادة فيما تقدم في أيام الولاة الخالية وأمر مع ذلك بزينة قلعته ودار مملكته بحيث حلى أسوارها بالآلات الحربية من الجواشن والدروع والتراس والسيوف والرماح والطوارق الافرنجية والقنطاريات والأعلام والمنجوقات والطبول والبوقات وأنواع الملاهي المختلفات وهرعت الأجناد والرعايا وغرباء البلاد من المسافرين لمشاهدة الحال فشاهدوا ما استحسن منه مدة سبعة أيام فالله تعالى يقرن ذلك بالتوفيق والاقبال وتحقيق الآمال في اهمال الكفرة أولي الأفك والضلال بمنه وفضله وفي يوم الثلاثاء الثالث عشر من ربيع الأول توجه المولى نور الدين أدام الله أيامه إلى ناحية بعلبك لتفقد أحوالها وتقرير أمر المستحفظين لها وتواصلت الأخبار إليه من ناحية حمص وحماة باغارة الافرنج الملاعين على تلك الأعمال واطلاقهم فيها أيدي العيث والفساد والله تعالى يحسن الادالة منهم وتعجل البوار عليهم والاهلاك لهم وفي يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول توجه زين الحجاج كثر الله سلامته إلى ناحية مصر رسولاً من المولى نور الدين لايصال ما صحبه من المطالعات إلى صاحب الأمر فيها وصحبته أيضاً الرسول الواصل منها وفي يوم الأحد الخامس عشر من شهر ربيع الأول ورد المبشر من المعسكر المنصور برأس المال بأن نصرة الدين أمير ميران لما انتهى إليه خبر الافرنج الملاعين بأنهم قد أنهضوا سريةً وافرة من العدد من أبطالهم الموفورة العدد إلى ناحية بانياس لتوليها وتقويتها بالسلاح والمال الجزء: 1 ¦ الصفحة: 519 فأسرع النهضة إليهم في العسكر المنصور وقد ذكر إن عدتهم سبعمائة فارس من أبطال الاسبتارية والسرجندية والداوية سوى الرجالة فأدركهم قبل الوصول إلى بانياس وقد خرج إليهم من كان فيها من حماتها فأوقع بهم وقد كان كمن لهم في مواضع كمناء من شجعان الأتراك وجالت الحرب بينهم واتفق اندفاع المسلمين بين أيديهم في أول المجال وظهر عليهم الكمناء فأنزل الله نصره على المسلمين وخذلانه على المشركين فتحكمت من رؤوسهم ورقابهم مرهفات السيوف بقوارع الحمام والحتوف وتمكنت من أجسادهم مشرعات الرماح وصوارم السهام بحيث لم ينج منهم إلا القليل ممن ثبطه الأجل وأطار قلبه الوجل وصاروا بأجمعهم بين قتيل وجريح ومسلوب وأسير وطريح وحصل في أيدي المسلمين من خيولهم وعدد سلاحهم وكراعهم وأموالهم وقراطيسهم وأسراءهم ورؤوس قتلاهم ما لا يحد كثرةً ومحقت السيوف عامة رجالتهم من الافرنج ومسلمي جبل عاملة المضافين إليهم وكان ذلك في يوم الجمعة الثالث عشر من شهر ربيع الأول ووصلت الأسرى والرؤوس من القتلى والعدد إلى البلد المحروس في يوم الاثنين تاليه وأطيف بهم البلد وقد اجتمع لمشاهدتهم الخلق الكثير والجم الغفير وكان يوماً مشهوداً مستحسناً سرت به قلوب المؤمنين وأحزاب المسلمين وكان ذلك من الله تعالى ذكره وجل اسمه مكافأةً على ما كان من بغي المشركين واقدامهم على نكث أيمان المهادنة مع المولى نور الدين أعز الله نصره ونقض عهود الموادعة وأغارتهم على الجشارات ومواشي الجلابين والفلاحين المضطرين إلى المرعى في الشعراء لسكونهم إلى الأمن بالمهادنة والاغترار بتأكيد الموادعة. وكان قد أنفذ إلى المولى نور الدين إلى بعلبك جماعة من أسرى المشركين فأمر بضرب أعناقهم صبراً ذلك لهم خزي في الحيوة الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم " وَسَيعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ " الجزء: 1 ¦ الصفحة: 520 وتبع هذا الفتح المبين ورود البشرى الثانية من أسد الدين باجتماع العدد الكثير إليه من شجعان التركمان وإنه قد ظفر من المشركين بسرية وافرة ظهرت من معاقلهم من ناحية الشمال فانهزمت وتخطف التركمان منهم من ظفروا به ووصل أسد الدين إلى بعلبك في العسكر من مقدمي التركمان وأبطالهم للجهاد في أعداء الله المشركين وهم في العدد الكثير والجم الغفير واجتمع بالملك العادل نور الدين في يوم الاثنين الخامس والعشرين من شهر ربيع الأول من السنة وتقررت الحال على قصد بلاد المشركين لتدويخها وإقامة فرض الغزو والجهاد لمن بها والابتداء بالنزول على بانياس والمضايقة لها والجهاد في افتتاحها والله يسهل ذلك بلطفه ويعجله بمعونته ووصل نور الدين إلى البلد المحروس في يوم الخميس السابع والعشرين من شهر ربيع الأول لتقرير الأمر في إخراج آلات الحرب وتجهيزها إلى العسكر بحيث يقيم أياماً يسيرةً ويتوجه في الحال إلى ناحية العساكر المجتمعة من التركمان والعرب للجهاد في الكفرة الأضداد والله يسهل أسباب الادالة منهم ويعجل البوار والهلاك لهم إن شاء الله تعالى. وفي وقت وصوله شرع في انجاز ما وصل لأجله وأمر بتجهيز ما يحتاج إليه من المناجيق والسلاح إلى العسكر المنصور بالنداء في البلد المحروس في الغزاة والمجاهدين والأحداث المتطوعة من فتيان البلد والغرباء بالتأهب والاستعداد لمجاهدة الافرنج أولي الشرك والالحاد وبادر بالمسير في الحال إلى عسكره المنصور مغذاً غير متلوم ولا متربث في يوم السبت انسلاخ شهر ربيع الأول وتبعه بين الأحداث والمتطوعة والفقهاء والصوفية والمتدينين العدد الكثير الدثر المباهي في الوفور والكثرة فالله تعالى يقرن آراءه وعزماته بالنصر المشرق المنار والظفر باخراب المردة الكفار ويعجل لهم أسباب الهلاك والبوار بحيث لا تبقى لهم باقية ولا يرى لهم رائحة ولا غادية وما ذلك على الله تعالى القادر القاهر بعزيز الجزء: 1 ¦ الصفحة: 521 ولما كان يوم السبت السابع من شهر ربيع الآخر تالي اليوم المقدم ذكره عقيب نزول الملك العادل نور الدين على بانياس في عسكره المنصور ومضايقته لها بالمنجنيقات والحرب سقط الطائر من العسكر المنصور بظاهر بانياس يتضمن كتابه الاعلان بورود المبشر من معسكر أسد الدين بناحية هونين في التركمان والعرب بأن الافرنج خذلهم الله أنهضوا سريةً من أعيان مقدميهم وأبطالهم تزيد على مائة فارس سوى أتباعهم لكبس المذكورين ظناً منهم إنهم في قل ولم يعلموا إنهم في ألوف فلما دنوا منهم وثبوا إليهم كالليوث إلى فرائسها فأطبقوا عليهم بالقتل والأسر والسلب ولم يفلت منهم إلا اليسير ووصلت الأسرى ورؤوس القتلى وعددهم من الخيول المنتخبة والطوارق والقناريات إلى البلد في اليوم الاثنين تالي اليوم المذكور وطيف بهم فيه فسرت القلوب بمشاهدتهم وأكثروا الشكر لله على هذه النعمة المسهلة بعد الأولى المتكملة والله المأمول لتعجيل هلاكهم وبوارهم وما ذلك على الله بعزيز. وتتلو هذه الموهبة المجددة سقوط الطائر من المعسكر المحروس ببانياس في يوم الثلاثاء يتلو المذكور بذكر افتتاح مدينة بانياس السيف قهراً على مضي أربع ساعات من يوم الثلاثاء المذكور عند تناهي النقب واطلاق النار فيه وسقوط البرج المنقوب وهجوم الرجال فيه وبذل السيف في قتل من فيه ونهب ما حواه وانهزام من سلم إلى القلعة وانحصارهم بها وإن أخذهم بمنية الله تعالى لا يبطئ والله يسهله ويعجله واتفق بعد ذلك للأقضية المقدرة إن الافرنج تجمعوا من معاقلهم عازمين على استنقاذ الهنفري صاحب بانياس ومن معه من أصحابه الافرنج المحصورين بقلعة بانياس وقد أشرفوا على الهلاك وبالغوا في السؤال للأمان للمولى نور الدين ويسلمون ما في أيديهم من القلعة وما حوته لينجوا سالمين فلم يجبهم إلى ما سألوه ورغبوا فيه. فلما وصل ملك الافرنج في جمعه من الفارس والراجل من ناحية الجبل على حين غفلة من العسكرين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 522 النازلين على بانياس لحصارها والنازل على الطريق لمنع الواصل إليها واقتضت السياسة الاندفاع عنها بحيث وصلوا إليها واستحصلوا من كان فيها فحين شاهدوا ما عم بانياس من خراب سورها ومنازل سكانها يئسوا من عمارتها بعد خرابها وذلك في أيام من العشر الأخير من شهر ربيع الآخر وفي يوم الأربعاء التاسع من جمادى الأولى سقطت الأطيار بالكتب من المعسكر المحروس النوري تتضمن الأعلام بأن الملك العادل نور الدين أعز الله نصره لما عرف إن معسكر الكفرة الافرنج على الملاحة بين طبرية وبانياس نهض في عسكره المنصور من الأتراك والعرب وجد في السير. فلما شارفهم وهم غازون وشاهدوا راياته قد أظلتهم بادروا بلبس السلاح والركوب وافترقوا أربع فرق وحملوا على المسلمين فعند ذلك ترجل الملك نور الدين وترجلت معه الأبطال وأرهقوهم بالسهام وخرصان الرماح فما كان إلا كلا ولا حتى تزلزلت بهم الأقدام ودهمهم البوار والحمام وأنزل الله العزيز القهار نصره على الأولياء الأبرار وخذلانه على المردة الكفار وتمكنا من فرسانهم قتلاً وأسراً واستأصلت السيوف الرجالة وهم العدد الكثير والجم الغفير ولم يفلت منهم على ما حكاه الخبير الصادق غير عشرة نفر ممن ثبطه الأجل وأطار قلبه الوجل، وقيل إن ملكهم لعنهم الله فيهم وقيل إنه في جملة القتلى ولم يعرف له خبر والطلب مجد له والله المعين على الأظفار به ولم يفقد من عسكر الاسلام سوى رجلين أحدهما من الأبطال المذكورين قتل أربعة من شجعان الكفرة وقتل عند حضور أجله وانتهاء مهله والآخر غريب لا يعرف فكل منهما مضى شهيداً مثاباً مأجوراً رحمهما الله. وامتلأت أيدي العسكرية من خيولهم وعددهم وكراعهم وأثاث سوادهم الشيء الذي لا يحصى كثرةً وحصلت كنيستهم في يد الملك نور الدين بآلاتها المشهورة وكان فتحاً من الله القادر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 523 الناصر عزيزاً ونصراً مبيناً أعز الله بهما الاسلام وأهله وأذل الشرك وحزبه ووصلت الأسرى ورؤوس القتلى إلى دمشق في يوم الأحد تالي يوم الفتح وقد رتبوا على كل جمل فارسين من أبطالهم ومعهما راية من راياتهم منشورة وفيها من جلود رؤوسهم بشعرها عدة والمقدمون منهم وولاة المعاقل والأعمال كل واحد منهم على فرس وعليه الزردية والخوذة وفي يده راية والرجالة من السرجندية والدركيولية كل ثلاثة وأربعة وأقل وأكثر في حبل وخرج من أهل البلد الخلق الذي لا يحصى لهم عدد من الشيوخ والشبان والنسوان والصبيان لمشاهدة ما منح الله تعالى ذكره كافة المسلمين من هذا النصر المشرق الأعلام وأكثروا من التسبيح ومواصلة التقديس لله تعالى مولى النصر لأوليائه ومديلهم من أعدائه وواصلوا الدعاء الخالص للملك العادل نور الدين المحامي عنهم والمرامي دونهم والثناء على مكارمه والوصف لمحاسنه ونظم في ذلك أبيات في هذا المعنى وهي: مثل يوم الفرنج حين عليتهم ... ذلّة الأسر والبلا والشقاء وبراياتهم على العيس زفوا ... بين ذلٍّ وحسرةٍ وعناء بعد عزٍّ لهم وهيبة ذكرٍ ... في مصافّ الحروب والهيجاء هكذا هكذا هلاك الأعادي ... عند شن الاغارة الشعواء شؤم أخذ الجشار وكان وبالاً ... عمّهم في صباحهم والمساء نقضوا هدنة الصلاح بجهلٍ ... بعد تأكيدها بحسن الوفاء فلقوا بغيهم بما كان فيه ... من فساد يجلّهم واعتداء لا حمى الله شملهم من شتاتٍ ... بمواضٍ تفوق حدّ المضاء فجزاء الكفور قتلٌ وأسر ... وجزاء الشكور خير الجزاء فلربّ العباد حمدٌ وشكرٌ ... دائمٌ مع تواصل النعماء الجزء: 1 ¦ الصفحة: 524 وشرع في قصد أعمالهم لتملكها وتدويخها والله المعين والموفق لذلك بمنه ولطفه ومشيئته. وفي يوم الخميس الخامس والعشرين من جمادى الأولى وافت زلزلة عظيمة بعد مضي ثلاث ساعات منه اهتزت لها الأرض هزات ثم وافت بعدها ثانية قرنت بعد مضي ست ساعات من اليوم ثم بعد مضي ثماني ساعات من هذا اليوم المذكور وافت ثالثة أشد من الأوليين وأزعج فسبحان محركهن بقدرته ومسكنهن بحكمته تعالى علواً كبيراً وفي آخر هذا اليوم وافت زلزلة رابعة لما تقدم بين العشائين من ليلته مروعة هائلة أزعجت وأقلقت وضج الناس بالتهليل والتسبيح والتقديس. وفي ليلة الأحد الرابع من جمادى الآخرة من السنة آخرها عند صلاة الغداة وافت زلزلة هائلة وجاء بعدها اخرى دونها وتواصلت الأخبار من ناحية الشمال بأن هذه الزلازل أثرت في حلب تأثيراً أزعج أهلها وأقلقهم وكذلك في حمص وهدمت مواضع فيها وفي حماة وكفرطاب وأفامية وهدمت فيها ما كان من هدم ما بني من المهدوم بالزلازل الأول وحكي عن تيماء إن هذه الزلازل أثرت في مساكنها تأثيراً مهولاً وفي العشر الثاني من جمادى الآخرة تواصلت الأخبار بوصول ولد السلطان مسعود في خلق كثير للنزول على انطاكية وأوجبت الصورة تقرير المهادنة بين الملك العادل نور الدين وملك الافرنج وتكررت المراسلات بينهما والاقتراحات والمشاجرات بحيث فسد الأمر ولم يسفر على ما يؤثر من الصلاح ومرضي الاقتراح المقرون بالنجاح ووصل الملك العادل نور الدين أعز الله نصره إلى مقر عزه في بعض عسكره في يوم السبت الخامس والعشرين من جمادى الآخرة من السنة وأقر بقية عسكره ومقدميه مع العرب بإزاء أعمال المشركين خذلهم الله وكانت الأخبار تناصرت من بغداد بإظهار أمير المؤمنين المقتفى لأمر الجزء: 1 ¦ الصفحة: 525 الله أعز الله نصره على عسكر السلطان محمد شاه المخالف لأمره ومن انضم إليه من عسكر الموصل وغره بحيث قتل منهم العدد الكثير والجم الغفير ورحلوا عن بغداد مفرقين مفلولين خاسرين بعد المضايقة والتناهي في المحاصرة والمصابرة وفي يوم الأحد الثالث من رجب توجه الملك العادل نور الدين إلى ناحية حلب وأعمالها لتجريد مشاهدتها والنظر في حمايتها بحيث عبث المشركون فيها وقرب عساكر الملك ابن مسعود منها والله الموفق له فيما يراه ويقصده ويتوخاه وفي الساعة التاسعة من يوم الاثنين الرابع من رجب سنة 52 وافت زلزلة عظيمة في دمشق لم ير مثلها فيما تقدم ودامت وجفاتها حتى خاف الناس على أنفسهم ومنازلهم وهربوا من الدور والحوانيت والسقايف وانزعجوا وأثرت في مواضع كثيرة ورمت من فص الجامع الشيء الكثير الذي يعجز عن إعادة مثله ثم وافت عقيبها زلزلة في الحال ثم سكنتا بقدرة من حركها وسكنت نفوس الناس من الروعة والخوف برحمة خالقهم ورازقهم لا الله إلا هو الرؤوف الرحيم. ثم تبع ذلك في أول ليلة اليوم المذكور زلزلة وفي وسطه زلزلة وفي آخره زلزلة أخف من الأولى والله تبارك وتعالى لطيف بعباده وبلاده وله الحمد والشكر رب العالمين. وتلا ذلك في يوم الجمعة الثامن من رجب زلزلة مهولة أزعجت الناس وتلاها في النصف منها ثانية وعند انبلاج الصبح ثالثة وكذلك في ليلة السبت وليلة الأحد وليلة الاثنين وتتابعت بعد ذلك بما يطول به الشرح ووردت الأخبار من ناحية الشمال بما يسوء سماعه ويرعب النفوس الجزء: 1 ¦ الصفحة: 526 ذكره بحيث انهدمت حماة وقلعتها وسائر دورها ومنازلها على أهلها من الشيوخ والشبان والأطفال والنسوان وهم العدد الكثير والجم الغفير بحيث لم يسلم منهم إلا القليل اليسير. وأما شيزر فإن ربضها سلم إلا ما كان خرب أولاً وأما حصنها المشهور فإنه انهدم على واليها تاج الدولة بن أبي العساكر بن منقذ رحمه الله ومن تبعه إلا اليسير ممن كان خارجاً وأما حمص فإن أهلها كانوا قد أجفلوا منها إلى ظاهرها وسلموا وتلفت مساكنهم وتلفت قلعتها وأما حلب فهدمت بعض دورها وخرج أهلها وأما ما بعد عنها من الحصون والمعاقل إلى جبلة وجبيل فأثرت فيها الآثار المستبشعة وأتلفت سلمية وما اتصلت بها إلى ناحية الرحبة وما جاورها ولو لم تدرك العباد والبلاد رحمة الله تعالى ولطفه ورحمته ورأفته لكان الخطب الخطير والأمر الفطيع المزعج بحيث نظم في ذلك من قال: روّعتنا زلازل حادثاتٌ ... بقضاء قضاه ربّ السماء هدمت حصن شيزر وحماةً ... أهلكت أهلها بسوء القضاء وبلاداً كثيرةً وحصوناً ... وثغوراً موثّقات البناء وإذا ما رنت عيونٌ إليها ... أجرت الدمع عندها بالدماء وإذا ما قضى من الله أمرٌ ... سابق في عباده بالمضاء حار قلب اللبيب فيه ومن كا ... ن له فطنة وحسن ذكاء وتراه مسبّحاً باكي العين م ... مروعا من سخطة وبلاء جلّ ربي في ملكه وتعالى ... عن مقال الجهال والسفهاء وأما هل دمشق فلما وافتهم الزلزلة من هولها وأجفلوا من منازلهم والمسقف إلى الجامع والأماكن الخالية من البنيان خوفاً على نفوسهم ووافت بعد ذلك اخرى وفتح باب البلد وخرج الناس إلى ظاهره والبساتين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 527 والصحراء وأقاموا عدة ليال وأيام على الخوف والجزع يسبحون ويهللون ويرغبون إلى خالقهم ورازقهم في العفو عنهم واللطف بهم والله تعالى والي الاجابة وقبول الرغبة والانابة ووردت الأخبار مع ذلك من ناحية العراق في أوائل رجب سنة 552 بوفاة سلطان غياث الدنيا والدين أبي الحرث سنجر ابن السلطان العادل أبي الفتح ابن السلطان البارسلان وهو سلطان خراسان عقيب خلاصه من الشدة التي وقع فيها والأسر الذي حصل فيه وكان يحب العدل والانصاف للرعايا حسن الفعل جميل السيرة وقد علت سنه وطال عمره وتولاه الله برحمته وسابغ مغفرته بفضله ورأفته وفي شهر رمضان من السنة ورد الخبر من ناحية حلب بوفاة الشيخ الأمير مخلص الدين أبي البركات عبد القاهر بن علي بن أبي جرادة الحلبي رحمه الله في العشر الثاني منه بعرض عرض له وهو الأمين على خزائن مال الملك العادل نور الدين سلطان الشام فراعني فقده والمصاب بمثله لأنه كان خيراً كاتباً بليغاً حسن البلاغة نظماً ونثراً مستحسن الفنون من التذهيب البديع وحسن الخط المحرر على الأصول القديمة المستطرفة مع صفاء الذهن وتوقد الفطنة والذكاء وكان بيني وبينه مودة محصدة الأسباب في أيام الصباء وبعدها بحكم تردده من حلب إلى دمشق وأوجبت هذه الحال تفجعي به وتأسفي على مثله نظم هذه الأبيات أرثيه بها وأصف محاسنه فيها وهي: فجعت بخلٍّ كان يونس وحشتي ... تذكره في غيبةٍ وحضور فتى كان ذا فضلٍ يصول بفضله ... وليس له من مشبهٍ ونظير وقد كان ذا فضلٍ وحسن بلاغةٍ ... ونظم كدرٍّ في قلائد حور الجزء: 1 ¦ الصفحة: 528 يفوق بحسن اللفظ كل فصاحةٍ ... وخطٍّ بديع في الطروس منير وقد كنت ذا شوق إليه إذا نأى ... فقد صرت ذا حزن بغير سرور سأشكوا زماناً روّعتني صروفه ... بفقدي من أهوى بغير مجير وما نافعي شكوى الزمان وقد غدا ... على كل ملكٍ في الزمان خطير وأجناده بالمرهفات تحوطه ... وكل شجاع فاتكٍ ونصير سقى الله قبراً ضمّه بمجلجل ... بكل أصيل حادث وبكور ليصبح كالروض الأنيق إذا بدا ... بزهر يروق الناظرين نضير برحمة من يرجى لرحمة مثله ... وغفران ربٍّ للعباد غفور وفي يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر رمضان من السنة وافت في دمشق زلزلة روعت الناس وأزعجتهم لما قد وقع في نفوسهم مما قد جرى على بلاد الشام من تتابع الزلازل فيها وهدم ما هدمت منها. ووافت الأخبار من ناحية حلب بأن هذه الزلزلة المذكورة جاءت في حلب هائلة قلقلت من دورها وجدرانها العدد الكثير وأجفل منها أهلها إلى ظاهرها خوفاً على نفوسهم. وإنها كانت بحماة أعظم ما كانت في غيرها وإنها هدمت ما كان عمر فيها من بيوت يلتجأ إليها وإنها دامت فيها أياماً كثيرةً في كل يوم عدة وافرة من الرجفات الهائلة وتتبعها صيحات مختلفات توفي على أصوات الرعود القاصفة المزعجة فسبحان من له الحكم والأمر ومنه تؤمل الرحمة واللطف وهو على كل شيء قدير. وتلا بعد ذلك رجفات متوالية أخف من غيرهن فلما كان في ليلة السبت العاشر من شوال وافت زلزلة هائلة بعد صلاة العشاء الآخرة أزعجت وأقلقت وتلاها في أثرها هزة خفية ثم سكنهما محركهما بقدرته ورأفته بأهل دمشق ورحمته فله الحمد والشكر رب العالمين وفي يوم الثلاثاء الرابع عشر من شوال من السنة ورد الخبر من ناحية بصرى باستشهاد واليها فخر الدين سرخاك غيلةً في مقره من حصنها بتدبير الجزء: 1 ¦ الصفحة: 529 تقرر بين الأمير علي بن جولة زوج ابنته ومن وافقه من أعيان خاصته وأماثل بطانته وكان فيه افراط من التحرز واستعمال التيقظ ولكن القضاء لا يغالب ولا يدافع والمحتوم النافذ لا يمانع وفي أول ليلة الأحد العشرين من شوال من السنة توفي الشيخ أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن سلامة بمرض عرض له وقد علت سنه وبلغ سبعاً وتسعين سنة المعروف بابن الحراسى وكان شيخاً ظريفاً حسن الهيئة نظيف اللبسة أديباً فاضلاً حسن المحاضرة عند المثابتة والمذاكرة وكان أكثر زمانه مقيماً بشيزر بين آل منقذ مكرماً محترماً رحمه الله وفي ليلة السبت العاشر من ذي القعدة من السنة وافت أولها زلزلة رجفت لها الأرض ووجلت لها القلوب وتبعها عدة أخف من الأولى. وفي غد هذا اليوم بعد مضي تقدير ساعتين منه وافت زلزلة وأخرى في أثرها وسكنهن المحرم لهن بقدرته وحكمته وسلم منهن برحمته ورأفته سبحانه وتعالى الرؤوف الرحيم وكان الغيث قد احتبس وسميه عن العادة المعروفة واحتاج ما بذر من الغلال إلى سقيه وضاقت الصدور لذلك وقنطت النفوس ثم بعث الله برحمته لخلقه في أول ذي القعدة منه ما روى الوهاد والآكام وعم حوران وسائر البقاع وسرت بذلك النفوس وانحط سعر الغلة بعد ارتفاعه فلله الحمد على انعامه على عبيده وله الشكر وفي ليلة الجمعة الثالث والعشرين من ذي القعدة التالي لما تقدم بعد مضي ساعة منها وافت زلزلة روعت القلوب وهزت المنازل والمساكن ثم سكنها محركها بقدرته القاهرة ورحمته الواسعة فله الحمد والشكر رب العالمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 530 وفي ليلة الأحد الخامس والعشرين من الشهر المذكور التالي يوم الجمعة المقدم ذكره وافت في أوائلها زلزلة أزعجت وأقلقت ثم تلاها ثانية عند انتصافها أعظم منها نفر الناس من هولها إلى الجامع والأماكن المكتشفة وضجوا بالتكبير والتهليل والتسبيح والدعاء إلى الله تعالى والتضرع إليه ثم وافى بعد تلك الثانية ثالثة دونها عند تصرم الليل ثم وافى بعد الثالثة رابعة دونها ثم خامسة وسادسة ثم سكنت بقدرة محركها ولم تؤثر أثراً منكراً في البلد فلله الحمد تعالى أمره وعظم شأنه وفي أوائل ذي القعدة من هذه السنة ورد الخبر من حمص بوفاة واليها الأمير الملقب بصلاح الدين وكان في أيام شبوبيته قد حظي في خدمة عماد الدين أتابك زنكي صاحب حلب والشام رحمه الله وتقدم عنده بالمناصحة وسداد التدبير وحسن السفارة وصواب الرأي ولما علت سنه ضعفت قوته وآلته عن السعي إلا في ركوب الخيل والجأته الضرورة إلى الحمل في المحفة لتقرير الأحوال والنظر في الأعمال ولم ينقص من حسه وفهمه ما ينكر عليه إلى حين وفاته وخلفه من بعده أولاده في منصبه وولايته وفي يوم الجمعة انسلاخ ذي القعدة من السنة بعد مضي تقدير ساعتين منه وافت زلزلة رجفت بها الأرض وانزعج الناس لها ثم سكنت بقدرة المحرك لها وحكمته البالغة فله الحمد على لطفه بعباده تبارك الله رب العالمين وفي أيام من شوال سنة 552 ورد إلى دمشق أمير من أئمة فقهاء بلخ في عنفوان شبابه وغضارة عوده ما رأيت أفصح من لسانه ببلاغته العربية والفارسية ولا أسرع من جوابه ببراعته ولا أطيش من قلمه في كتابته فقلت ما ينبغي أن يهمل إثبات اسم هذا الأمير الامام في هذا التاريخ المصنف لأنني ما رأيت مثله ولا شاهدت شبيهاً له فالتمست الجزء: 1 ¦ الصفحة: 531 نعوته التي بها يعرف واليه تنسب فأنفذ إلي كتاباً قد كتب عن السلطان غياث الدنيا والدين أبي شجاع محمود بن محمد بن ممدود قسيم أمير المؤمنين في الطغراء وكتاب وزيره محمود بن سعد بن عبد الواحد مخلص أمير المؤمنين إلى الملك العادل نور الدين ملك الشام وكلاهما ينطق بحسن صفاته واحترامه والوصية المؤكدة باكرامه ووصفه بنعوته المكملة وهي: الأمير الامام الأجل العالم المحترم الأخص الحميد الأعز نظام الدين عماد الاسلام تاج الملوك والسلاطين ملك الكلام بستان العالم أفصح العرب والعجم أعجوبة الدهر كريم الأطراف فخر الأسلاف افتخار ما وراء النهر تاج العراق سراج الحرمين مقتدى الأئمة مرتضي الخلافة رئيس الأصحاب شرقاً وغرباً مهذب الأئمة والأفاضل ذو المناقب والفضائل نادر الزمان نسيب خراسان أبو الحياة محمد بن أبي القسم بن عمر البلخي ووعظ في جامع دمشق عدة أيام والناس يستحسنون وعظه ويستطرفون فنه وسلاطة لسانه وسرعة جوابه وحدة خاطره وصفاء حسه ونظمت في صفاته هذه الأبيات: نظام الدين أفضل من رأينا ... من العلماء في عربٍ وعجم وأنهى منهم لفظاً وخطّاً ... بحسن بلاغةٍ وصفاء فهم يفوق فصاحةً قسّاً ويوفي ... عليه عند منثورٍ ونظمٍ إذا رام البديع من المعاني ... أتاه مسرعاً كالغيث يحمي فليس له مجارٍ في فنون ... حوى احساناً من كل علم إذا وعظ الامام سمعت وعظاً ... يحط العصم من قال الأشم ويحرق حسن منطقه إذا ما ... تكرّر حسنه سمع الأصم له الشرف الرفيع إذا تناهت ... مفاخرة الشراف بكل قرم وما ألفيت من يحظى بمدحٍ ... سواه إذ مضى في المدح عزمي الجزء: 1 ¦ الصفحة: 532 وما سمحت لغير علاه نفسي ... على ضني به عن كل فدم فلا زالت مطايا المدح تسري ... إليه وقد خلا من كل ذمّ مدى الأيام ما هتفت هتوفٌ ... على غصنٍ بغضّ النور ينمي قد تقدم من ذكر الملك العادل نور الدين في نهوضه من دمشق في عساكره إلى بلاد الشام عند انتهاء الخبر إليه بتجمع أحزاب الافرنج خذلهم الله وقصدهم لها وطمعهم فيها بحكم ما حدث من الزلازل والرجفات المتتابعة بها وما هدمت من الحصون والقلاع والمنازل في أعمالها وثغورها لحمايتها والذب عنها وإيناس من سلم من أهل حمص وشيزر وكفرطاب وحماة وغيرها بحيث اجتمع إليه الخلق الكثير والجم الغفير من رجال المعاقل والأعمال والتركمان وخيم بهم بإزاء جمع الافرنج في الأعداد الدثرة والتناهي في الكثرة بالقرب من انطاكية وحصرهم بحيث لم يقدر فارس منهم على الاقدام على الافساد فلما مضت أيام من شهر رمضان سنة 552 عرض للملك العادل نور الدين ابتداء مرض حاد فلما اشتد به وخاف منه على نفسه استدعى أخاه نصرة الدين أمير ميران وأسد الدين شيركوه وأعيان الأمراء والمقدمين وأوصى إليهم ما اقتضاه رأيه واستصوبه وقرر معهم كون أخيه نصرة الدين القائم في منصبه من بعده والساد لثلمة فقده واشتهاره بالشهامة وشدة البأس ويكون مقيماً بحلب ويكون أسد الدين في دمشق في نيابة نصرة الدين واستحلف الجماعة على هذه القاعدة. فلما تقررت هذه القاعدة اشتد به المرض فتوجه في المحفة إلى حلب وحصل في قلعتها وتوجه أسد الدين إلى دمشق لحفظ أعمالها من الجزء: 1 ¦ الصفحة: 533 فساد الافرنج وقصد أعمال الملاعين في أواخر شوال من السنة وتواصلت عقيب هذه الحال الأراجيف بالملك نور الدين فقلقت النفوس وانزعجت القلوب فتفرقت جموع المسلمين واضطربت الأعمال وطمع الافرنج فقصدوا مدينة شيزر وهجموها وحصلوا فيها فقتلوا وأسروا وانتهبوا وتجمع من عدة جهات خلق كثير من رجال الإسماعيلية وغيرهم فاستظهروا عليهم وقتلوا منهم وأخرجوهم من شيزر واتفق وصول نصرة الدين إلى حلب فأغلق والي القلعة مجد الدين في وجهه الأبواب وعصى عليه فثارت أحداث حلب وقالوا: هذا صاحبنا وملكنا بعد أخيه. وزحفوا في السلاح إلى باب البلد فكسروا إغلاقه ودخل نصرة الدين في أصحابه وحصل في البلد وقامت الأحداث على والي القلعة باللوم والانكار والوعيد واقترحوا على نصرة الدين اقتراحات من جملتها إعادة رسومهم في التأذن بحي على خير العمل محمد وعلي خير البشر فأجابهم إلى ما رغبوا فيه وأحسن القول لهم والوعد ونزل في داره. وأنفذ والي القلعة إلى نصرة الدين والحلبيين يقول: مولانا الملك العادل نور الدين حي في نفسه مقيم في مرضه. وما كان إلى ما فعل حاجة تدعو إلى ما كان فقيل الذنب في ذاك إلى الوالي وكتم الحال وصعد إلى القلعة من شاهد نور الدين حياً يفهم ما يقول وما يقال له فأنكر ما جرى وقال: الآن أنا أصفح للأحداث عن هذا الخطل ولا أواخذهم بالزلل وما طلبوا إلا صلاح حال أخي وولي عهدي من بعدي وشاعت الأخبار وانتشرت البشارات في الأقطار بعافية الملك نور الدين فأنست القلوب بعد الاستيحاش وابتهجت النفوس بعد القلق والانزعاج وتزايدت العافية وصرفت الهمم إلى مكاتبات المقدمين بالعود إلى جهاد الملاعين وكان نصرة الدين قد ولي مدينة حران وأضيف إليها وتوجه نحوها. وكان الغيث قد أمسك عن أعمال حوران وعزم أهلها على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 534 النزوح من ضياعها لعدم ماء شربهم وبعده عنهم وكذلك سائر الأعمال فلطف الله تعالى بعباده وبلاده فأرسل عليهم في العشاء الآخر من كانون الثاني من السنة الشمسية الموافق للعشر الآخر من ذي الحجة من السنة القمرية سنة 552 من الغيث الهطال المتدارك والثلج المتتابع ما روى الوهاد والآكام وجرت به أودية حوران ودارت أرحيتها وانتعشت زروعها وأنبتت بالغيث سباخها فلله تعالى الحمد على هذه النعمة التي لا يحصى لها عدد ولا يحصر لها أمد ولما تناصرت الأخبار بالبشائر إلى أسد الدين بدمشق بعافية الملك العادل نور الدين واعتزامه على استدعاء عساكر الاسلام لجهاد أعداء الله والمقيمين بالشام سارع بالنهوض من دمشق إلى ناحية حلب ووصل إليها في خيله واجتمع مع الملك العادل نور الدين فأكرم لقياه وشكر مسعاه وشرعوا في حماية الأعمال من شر عصب الكفر والضلال بما يعود بصلاح الأحوال والله المسهل لنيل المباغي والآمال بمنه وفضله. ونظمت هذه الأبيات في هذا المعنى: لقد حسنت صفاتك يا زماني ... وفزت بما رجوت من الأماني فكم أصبحت مرعوباً مخوفاً ... فبدّلت المخافة بالأمان فكم من وحشةٍ وافت وزالت ... وهدّمت الرفيع من المباني وجاءتنا أراجيفٌ بملكٍ ... عظيم الشأن مسعود الزمان فروّعت القلوب من البرايا ... وصار شجاعها مثل الجبان وثارت فتنةً تخشى أذاها ... على الاسلام في قاصٍ ودان ووافى بعد ذاك بشير صدقٍ ... بعافية المليك مع التهاني فوّلى الخوف مهدوم المباني ... وعاد الأمن معمور المغاني الجزء: 1 ¦ الصفحة: 535 ودخلت سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة وأولها يوم الاثنين أول المحرم والطالع الجدى. وفي أوائله تناصرت الأخبار من ناحية الافرنج خذلهم الله المقيمين في الشام في مضايقتهم لحصن حارم ومواظبتهم على رميه بحجارة المناجيق إلى أن أضعف وملك بالسيف وتزايد طمعهم في شن الغارات في الأعمال الشامية وإطلاق الأيدي في العيث والفساد في معاقلها وضياعها بحكم تفرق العساكر الاسلامية والخلف الواقع بينهم باشتغال الملك العادل بعقابيل المرض العارض له ولله المشيئة التي لا تدافع والأقضية التي لا تمانع وفي صفر منها ورد الخبر والمبشر بروز الملك العادل نور الدين من حلب المتوجه إلى دمشق واتفق للكفرة الملاعين متواتر الطمع في شن الغارات على أعمال حوران والاقليم واطلاق أيدي الفساد والعيث والاحراق والاخراب في الضياع والنهب والأسر والسبي وقصد داريا والنزول عليها في يوم الثلاثاء انسلاخ صفر من السنة واحراق منازلها وجامعها والتناهي في إخرابها وظهر إليهم من العسكرية والأحداث والعدد الكثير وهموا بقصدهم والاسراع إلى لقائهم وكفهم فمنعوا من ذلك بعد أن قربوا منهم وحين شاهد الكفار خذلهم الله كثرة العدد الظاهرة إليهم رحلوا في آخر النهار المذكور إلى ناحية الاقليم ووصل الملك نور الدين إلى دمشق وحصل في قلعتها غرة يوم الاثنين السادس من شهر ربيع الأول سالماً في نفسه وجملته ولقي بأحسن زي وترتيب وتجمل واستبشر العالم بمقدمه المسعود وابتهجوا وبالغوا في شكر الله تعالى على سلامته وعافيته والدعاء له بدوام أيامه ونصر أعلامه وشرع في تدبير أمر الأجناد والتأهب للجهاد والله تعالى يمده بالنصر وإدراك كل بغية ومراد الجزء: 1 ¦ الصفحة: 536 وفي أوائل شهر ربيع الأول من سنة 53 ورد الخبر من ناحية مصر بخروج فريق وافر من عسكرها إلى غزة وعسقلان وأغاروا على أعمالها وخرج إليها من كان بها من الفرنج الملاعين فأظهر الله المسلمين عليهم قتلاً وأسراً بحيث لم يفلت منهم إلا اليسير وغنموا ما ظفروا وعادوا سالمين ظافرين وقيل أن مقدم الغزاة في البحر ظفر بعد من مراكب المشركين وهي مشحنة بالافرنج فقتل وأسر منهم العدد الكثير والجم الغفير وحاز من أموالهم وعددهم وأثاثهم ما لا يكاد يحصى وعاد ظافراً غانماً وورد الخبر في الخامس عشر من شهر ربيع الأول من السنة من ناحية حلب بحدوث زلزلة هائلة روعت أهلها وأزعجتهم وزعزعت مواضع من مساكنها ثم سكنت بقدرة محركها سبحانه وتعالى ذكره. وفي ليلة السبت الخامس والعشرين من ربيع الأول من السنة وافت زلزلة بدمشق روعت وأقلقت ثم سكنت بقدرة محركها تعالى ذكره وفي يوم الأحد التاسع من شهر ربيع الآخر من السنة برز الملك العادل نور الدين من دمشق إلى جسر الخشب في العسكر المنصور بآلات الحرب مجداً في جهاد الكفرة المشركين وقد كان أسد الدين قبل ذلك عند وصوله في من معه من فرسان التركمان غار بهم على أعمال صيدا وما قرب منها فغنموا أحسن غنيمة وأوفرها وخرج إليهم ما كان بها من خيالة الافرنج ورجالتها وقد كمنوا لهم فغنموهم وقتل أكثرهم وأسر الباقون وفيهم ولد المقدم المولى حصن حارم وعادوا سالمين بالأسرى ورؤوس القتلى والغنيمة لم يصب منهم غير فارس واحد فقد ولله الحمد على ذلك والشكر وفي يوم الثلاثاء أول شهر تموز الموافق لأول جمادى الآخرة من السنة وافى في البقاع مطر هطال بحيث حدث منه سيل أحمر كما جرت به العادة في تنبول كذا الشتاء ووصل إلى بردى ووصل إلى دمشق فكثر التعجب من قدرة الله سبحانه وتعالى حدوث مثل ذلك في مثل هذا الوقت الجزء: 1 ¦ الصفحة: 537 وفي آخر ليلة الأربعاء الثالث والعشرين من رجب من السنة وافت زلزلة عند تأذين الغداة روعت القلوب وأزعجت النفوس ثم سكنت بقدرة الله الرؤوف الرحيم ثم وافت أخرى عقيب الماضية في ليلة الخميس وقت صلاة الغداة ثم سكنت بقدرة الله تعالى وورد الخبر من العسكر المحروس بأن الافرنج خذلهم الله تجمعوا وزحفوا إلى العسكر المنصور وأن المولى نور الدين نهض في الحال في العسكر والتقى الجمعان واتفق أن في عسكر الاسلام حدث لبعض المقدمين فشل فاندفعوا وتفرقوا بعد الاجتماع وبقي نور الدين ثابتاً بمكانه في عدة يسيرة من شجعان غلمانه وأبطال خواصه في وجوه الافرنج وأطلقوا فيهم السهام فقتلوا منهم ومن خيولهم العدد الكثير ثم ولوى منهزمين خوفاً من كمين يظهر عليهم من عسكر الاسلام ونجى الله وله الحمد نور الدين من بأسهم بمعونة الله تعالى له وشدة بأسه وثبات جأشه ومشهور شجاعته وعاد إلى مخيمه سالماً في جماعته ولام من كان السبب في اندفاعه بين يدي الافرنج وتفرق جمع الافرنج إلى أعمالهم وراسل ملك الافرنج في طلب الصلح والمهادنة وحرض على ذلك وترددت المراسلات بين الفريقين ولم يستقر حال بينهما وأقام العسكر المنصور بعد ذلك مدة ثم اقتضى الرأي السعيد الملكي النور الانكفاء إلى البلد المحروس فوصل إليه في يوم ... من شعبان من السنة ولما كان في أواخر أيام من رجب سنة 553 تجمع قوم من سفهاء العوام وعزموا على التحريض للملك العادل نور الدين على الجزء: 1 ¦ الصفحة: 538 إعادة ما كان أبطاله وسامح به أهل دمشق من رسوم دار البطيخ وعرضة البقل والأنهار وصانهم من أعنات شر الضمان وحوالة الأجناد وكرروا بسخف عقولهم الخطاب وضمنوا القيام بعشرة آلاف دينار بيضاء وكتبوا بذلك حتى أجيبوا إلى ما راموه فشرعوا في فرضها على أرباب الأملاك من المقدمين والأعيان والرعايا فما اهتدوا إلى صواب ولا نجح لهم رأي في خطاب ولا جواب وعسفوا الناس بجهلهم بحيث تألموا وأكثروا الضجيج والاستغاثة إلى الملك العادل نور الدين فصرف همه إلى النظر في هذا الأمر فنتجت له السعادة وإيثار العدل في الرعية في إعادة ما أشكل إلى ما كان عليه فلما كان يوم الاثنين العاشر من شهر رمضان أمر بإعادة الرسوم المعتادة إلى ما كانت من أمانها وتعفية أثرها وأضاف إلى ذلك تبرعاً من نفسه ابطال ضمان الهريسة والجبن واللبن ورسم بكتب منشور يقرأ على كافة الناس بإبطال هذه الرسوم جميعها وتعفية ذكرها فبالغ العالم في ذلك من مواصلة الأدعية للملك العادل والثناء عليه والنشر لمحاسنه فالله تعالى يستجيب منهم ويديم أيامه ويقرن أيامه بالسعادة والنصر لأوليائه وأعلامه وفي يوم الثلاثاء الحادي والعشرين من شهر رمضان من السنة وصل الحاجب محمود المولد من ناحية مصر بجواب ما تحملنا من المراسلات من الملك الصالح متولي أمرها ومعه رسول من مقدمي أمرائها ومعه المال المنفذ برسم الخزانة الملكية النورية وأنواع الأثواب المصرية والجياد العربية. وكانت فرقة من الافرنج خذهم الله قد ضربوا المهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 539 في المعابر فأظفر الله بهم بحيث لم يفلت منهم إلا القليل النزر ثم تلا ذلك وورد الخبر من العسكر المصري بظفره بجملة وافرة من الافرنج والعرب تناهز أربعمائة فارس وتزيد على ذلك في ناحية العريش من الجفار بحيث استولى عليهم القتل والأسر والسلب وكان فتحاً حسناً وظفراً مستحسناً والله المحمود على ذلك المشكور وفي يوم الثلاثاء ثالث شوال من السنة توفي المنتجب أبو سالم بن عبد الرحمن الحلبي متولي كتابة الجيش وعرض الأجناد في ديوان الملك العادل نور الدين رحمه الله وكان خيراً حسن الطريقة مجموعاً على شكره والتأسف على فقد مثله وتلا مصابه وفاة المهذب أبي عبد الله بن نوفل الحلبي في دمشق أيضاً رحمه الله في يوم الجمعة السادس والعشرين من ذي القعدة من السنة وكان كاتباً للأمير الاسفهسلار أسد الدين ووزيره وهو موصوف بالخيرية محمود الأفعال مشكور المقاصد في جميع الأحوال والخلال واستخدم ولده في منصبه وتلا ذلك ورود الخبر من ناحية حماة في العشر الأخير من ذي الحجة من السنة بوفاة رضي الدين أبي المجد مرشد بن علي بن عبد اللطيف المعري بحماة رحمه الله وكان من الرجال الأسداء الكفاة فيما كان يستنهض فيه في أيام الأتابكية وكذلك في الأيام النورية وكان مع ذلك موصوفاً بالخيرية وسلامة الطبع مستمراً في ذلك على منهاج أسوته وكانت الأخبار قد تناصرت من ناحية القسطنطينية في ذي الحجة من السنة ببروز ملك الروم منها في العدد الكثير والجم الغفير لقصد الأعمال والمعاقل الاسلامية ووصوله إلى مروج الديباج وتخييمه فيها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 540 وبث سراياه للاغارة على الأعمال الأنطاكية وما والاها وأن قوماً من التركمان ظفروا بجماعة منهم هذا بعد أن افتتح من الأعمال لاوين ملك الأرمن عدة من حصونه ومعاقله. ولما عرف الملك العادل نور الدين هذا شرع في مكاتبة ولاة الأعمال والمعاقل بإعلامهم ما حدث من الروم ويبعثهم على استعمال التيقظ والتأهب للجهاد فيهم والاستعداد للنكاية بمن يظفر منهم والله تعالى ولي النصر عليهم والاظفار بهم كما جرت عوائده الجميلة في خذلانهم والاظهار عليهم ورد بأسهم في نحورهم وهو تعالى على كل شيء قدير. وقد اتفق في هذه السنة السعيدة التي هي سنة 553 منذ ابتداء تشرين الثاني الكائن فيها إلى أوائل شباط أن السماء بأمر خالقها أرسلت عزاليها بتدارك الثلوج والأمطار مع توالي الليل والنهار بحيث عمت الأقطار وروت الوهاد والأغوار والبراري والقفار وجرت الأودية وتتابعت السيول بمائها المصندل واللبني والبنكي واكتست الأراضي المنخفضة والبقاع بخضرة الزرع وعشب النبات وأشبعت السائمة بعد الضعف والسغب وإراحتها من كلفة العناء والتعب وكذلك سائر المواشي الراعي والوحوش القاصية والدانية وتناصرت الأخبار من سائر الجهات بعموم هذه النعمة وذكر الشيوخ أنهم لم يشاهدوا مثل ذلك في السنين الخالية فلله على نعمته خالص الحمد ودائم الشكر ودخلت سنة أربع وخمسين وخمسمائة أولها يوم الجمعة مستهل المحرم منها. وفي هذا اليوم وافت زلزلة عظيمة ضحى نهاره وسكنها محركها بقدرته ورحمته وتلاها في يومها ثنتان دونها الجزء: 1 ¦ الصفحة: 541 وكان في أوائل أيام من ذي الحجة سنة 553 قد عرض للملك العادل نور الدين مرض تزايد به بحيث أضعف قوته ووقع الارجاف به من حساد دولته والمفسدين من عوام رعيته وارتاعت الرعايا وأعوان الأجناد وضاقت صدور قطان الثغور والبلاد خوفاً عليه وإشفاقاً من سوء يصل إليه لا سيما مع أخبار الروم والخبر من الافرنج خذلهم الله. ولما أحس من نفسه بالضعف تقدم إلى خواص أصحابه وقال لهم: إنني قد عزمت على وصية إليكم بما قد وقع في نفسي فكونوا لها سامعين مطيعين وبشروطها عاملين. فقالوا: السمع والطاعة لأمرك وما تقرره من رأيك وحكمك فإنا له قابلون وبه عاملون. فقال: إني مشفق على الرعايا وكافة المسلمين ممن يكون بعدي من الولاة الجاهلين والظلمة الجائرين وإن أخي نصرة الدين أمير ميران أعرف من أخلاقه وسوء أفعاله ما لا أرتضي معه بتوليته أمراً من أمور المسلمين وقد وقع اختياري على أخي الأمير قطب الدين مودود بن عماد الدين متولي الموصل وخواصه لما يرجع إليه من عقل وسداد ودين وصحة اعتقاد بأن يكون في منصبي بعدي والساد لثلمة فقدي فكونوا لأمره بعدي طائعين ولحكمه سامعين فأحلفوا له بصحة من نياتكم وسرائركم واخلاص من عقائدكم وضمائركم. فقالوا: أمرك المطاع وحكمك المتبع. فحلفوا الأيمان الموكدة على العمل بشروطها واتباع رسومها وأنفذ رسله إلى أخيه المذكور لأعلامه صورة الحال ليكون لها مستعداً وإليها مسرعاً. ثم تفضل الله تعالى عليه وعلى كافة المسلمين ببدوء الابلال من المرض وتزايد القوة في النفس والجسم وجلس المدخول إليه والسلام عليه فسرت النفوس بهذه النعمة وقويت بتجديدها وكان الأمير مجد الدين النائب في حلب قد رتب في الطرقات من يحفظ السالكين فيها فظفر المقيم في منبج برجل حمال من أهل دمشق يعرف بابن مغزو معه كتب فأنفذه بها إلى مجاهد الدين متولي حلب فلما وقف عليها أمر بصلب متحملها. وأنفذها في الحال إلى الملك العادل الجزء: 1 ¦ الصفحة: 542 نور الدين فلما وقف في يوم الخميس من العشر الثاني من المحرم من السنة الجديدة وجدها من أمين الدين زين الحاج أبي القسم متولي ديوانه ومن عز الدين متولي ولاية القلعة مملوكه ومن محمد حفري كذا أحد حجابه إلى أخيه نصرة الدين أمير ميران صاحب حران باعلامه بوقوع اليأس من أخيه الملك العادل ويحضونه على المبادرة والاسراع إلى دمشق لتسلم إليه. فلما عرف ذلك عرض الكتب على أربابها فاعترفوا به فأمر باعتقالهم وكان في جملتهم الرابع لهم سعد الدين عثمان وكان قد خاف فهرب قبل ذلك بيومين. وورد في الحال كتاب صاحب قلعة جعبر يخبر بقطع نصرة الدين مجداً إلى دمشق فأنهض أسد الدين في العسكر المنصور لرده ومنعه من الوصول فاتصل به خبر عوده إلى مقره عند معرفته بعافية الملك العادل أخيه فعاد أسد الدين في العسكر إلى البلد ووصلت رسل الملك من ناحية الموصل بجواب ما تحملوه إلى أخيه قطب الدين وفارقوه وقد برز في عسكره متوجهاً إلى ناحية دمشق فلما فصل عن الموصل اتصل به خبر عافية الملك نور الدين فأقام بحيث هو ونفذ الوزير جمال الدين أبا جعفر محمد بن علي لكشف الحال فوصل إلى دمشق في يوم السبت الثامن من صفر سنة 554 في أحسن زي وأنهى تجمل وخرج إلى لقائه الخلق الكثير. وهذا الوزير قد ألهمه الله تعالى من جميل الأفعال وحميد الأخلاق وكرم النفس وانفاق ماله في أبواب البر والصلات والصدقات ومستحسن الآثار في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ومكة والحرم والبيت ما قد شاع ذكره وتضاعف عليه مدحه وشكره واجتمع مع الملك العادل نور الدين وجرى بينهما من المفاوضات والتقريرات ما انتهى عوده إلى الجزء: 1 ¦ الصفحة: 543 جهته بعد الاكرام له وتوفيته حقه من الاحترام وأصحبه برسم قطب الدين أخيه وخواصه من الملاطفة ما اقتضته الحال الحاضرة وتوجه معه الأمير الاسفهسلار أسد الدين شيركوه في خواصه يوم السبت النصف من صفر من السنة المذكورة وقد كان وصل من ملك الروم رسول من معسكره ومعه هدية أتحف الملك العادل من أثواب ديباج وغير ذلك وجميل خطاب وبغال وقوبل بمثل ذلك وعاد إليه في أواخر صفر من السنة. وحكي عن ملك الافرنج خذله الله أن المصالحة بينه وبين ملك الروم تقررت والمهادنة انعقدت والله يرد بأس كل واحد منهما إلى نحره ويذيقه عاقبة غدره ومكره وما ذلك على الله بعزيز وفي العشر الثاني من صفر من السنة توجه الحاجب محمود المسترشدي إلى مصر عائداً مع رسلها كتب الله سلامتهم بجرايات ما كان ورد معهم من مكاتبات الملك العادل الصالح متولي أمرها عن الملك العادل نور الدين أعز الله نصره ووردت أخبار من ناحية ملك الروم باعتزامه على أنطاكية وقصد المعاقل الاسلامية فبادر الملك العادل نور الدين بالتوجه إلى البلاد الشامية لايناس أهلها من استيحاشهم من شر الروم والافرنج خذلهم الله فسار في العسكر المنصور صوب حمص وحماة وشيزر والاتمام إلى حلب إلى أن اقتضت الحال ذلك في يوم الخميس الثالث من شهر ربيع الأول من السنة وفي الليلة الأحد الثاني والعشرين من شهر ربيع الأول من السنة وافت في انتصافه زلزلة هائلة ماجت أربع موجات أيقظت النيام وأزعجت اليقظى وخاف كل ذي مسكن مضطرب على نفسه وعلى مسكنه ثم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 544 سكنها محركها بلطفه ورحمته فله الحمد الرؤوف بعباده الرحيم ولم يعلم تأثيرها في الأماكن النائية فسبحان القادر على ما يشاء العليم الحكيم وفي العشر الأول من شهر ربيع الآخر من السنة ورد الخبر من ناحية حلب بوفاة أبي الفضل اسمعيل بن وقار الطبيب في يوم الجمعة آخر شهر ربيع الأول رحمه الله وكان في خدمة الملك العادل نور الدين أعز الله أنصاره وكان قد حظي عنده بإصابات في صنائعه وقرب سعادته مع ذكاء فيه ومعرفة بكونه سافر إلى بغداد من دمشق واجتمع بجماعة من فضلائها وقرأ عليهم وأخذ عنهم هذا مع خبرته وحميد طريقته واجتماع الناس على إحماده والتأسف على فقد مثله في حسن فعله لكن القضاء لا يدافع والمقدور لا يمانع وفي يوم الجمعة التاسع من جمادى الأولى من السنة هبت ريح شديدة أقامت يومها وليلتها فأتلفت أكثر الثمار صيفيها وشتويها وأفسدت بعض الأشجار ثم وافت آخر الليل زلزلة هائلة ماجت موجتين أزعجت وأقلقت وكسنها محركها وحرس المساكين مثبتها برحمته وقدرته فله الحمد والشكر رب العالمين وفي جمادى الأولى من السنة في أوله تناصرت الأخبار المبهجة من ناحية العسكر المنصور الملكي النوري بأعمال حلب بتواصل الأمراء المقدمين ولاة الأعمال المجاهدة أحزاب الكفرة الضلال من الروم والافرنج لقصد الأعمال الاسلامية والطمع في تملكها والافساد فيها والحماية لها من شرهم والذب عنها من مكرهم في التناهي في الكثرة والاعداد الدثرة فقضى الله بحسن لطفه بعباده ورحمته ورأفته ببلاده أن سهل للعزائم المنصور الملكية النورية من صائب الرأي والتدبير وحسن السياسة والتقرير وخلوص النية لله تعالى وحسن السريرة بحيث المهادنة الموكدة والموادعة المستحكمة بين الملك العادل نور الدين وملك الروم ما لم يكن في الجزء: 1 ¦ الصفحة: 545 الحساب ولا خطر ببال بحيث انتظمت الحال في ذلك في عقد السداد وكنه المراد بحسن رأي ملك الروم ومعرفته بما يؤول إليه عواقب الحروب ويعسر الأمل المطلوب بعد تكرر المراسلات والاقتراحات في التقريرات وأجيب ملك الروم إلى ما التمسه من اطلاق مقدمي الافرنج المقيمين في حبس الملك نور الدين وأنفذهم بأسرهم وما اقترحه إليه وحصولهم لديه وقابل ملك الروم هذا الفضل بما يضاهيه أفعال عظماء الملوك الأسداء من الاتحاف بالأثواب الديباج الفاخرة المختلفة الأجناس الوافرة العدد ومن جوهر نفيس وخيمة من الديباج لها قيمة وافرة وما استحسن من الخيول المحلية ثم رحل عقيب ذلك في عسكره من منزله عائداً إلى بلاده مشكوراً محموداً ولم يؤذ أحداً من المسلمين في العشر الأوسط من جمادى الأولى سنة 554 فاطمأنت القلوب بعد انزعاجها وقلقها وأمنت عقيب خوفها وفرقها فلله الحمد على هذه النعمة حمد الشاكرين وورد الخبر بعد ذلك بأن الملك العادل نور الدين صنع لأخيه قطب الدين ولعسكره ولمن ورد معه من المقدمين والولاة وأصحابهم الواردين لجهاد الروم والافرنج في يوم الجمعة السابع عشر من جمادى الأولى من السنة سماطاً عظيماً هائلاً يناهي فيه بالاستكثار من ذبح الخيول والأبقار والأغنام وما يحتاج إليه في ذلك مما لا يشاهد مثله ولا شبه له مما قام بجملة كبيرة من الغرامة وفرق من الحصن العربية والخيول والبغال العدد الكثير من الخلع وأنواع الديباج المختلفة وغيره والصحون الذهب الشيء الكثير الزائد على الكثرة وكان يوماً مشهوداً في الحسن والتجمل. واتفق أن جماعة من غرباء التركمان وجدوا من الناس غفلةً باشتغالهم بالسماط وانتهابه فغاروا على العرب من بني أسامة وغيرهم واستاقوا مواشيهم فلما ورد الخبر بذلك أنهض في أثرهم فريق وافر من العسكر المنصور فأدركوهم الجزء: 1 ¦ الصفحة: 546 واستخلصوا منهم جميع ما أخذوه وأعيد إلى أربابه وسكنت النفوس بعد انزعاجها والله المحمود المشكور ثم تقرر الرأي الملكي النوري أعلاه الله على التوجه إلى مدينة حران لمنازلتها واستعادتها من أخيه نصرة الدين حسبما رأه في ذلك من الصلاح ورحل في العسكر المنصور في أول جمادى الآخرة فلما نزل عليها وأحاط بها وقعت المراسلات والاقتراحات والممانعات والمحاربات إلى أن تقررت الحال على إيمان من بها وتسلمت في يوم السبت الثالث والعشرين من جمادى الآخرة المذكور وقررت أحوالها وأحسن النظر إليها في أحوال أهليها وسلمت إلى الأمير الجل الاسفهسلار زين الدين على سبيل الاقطاع له وفوض إليه تدبير أمورها ودخلت سنة خمس وخمسين وخمسمائة وأولها يوم الثلاثاء مستهل المحرم والشمس في كح درجة وكح دقيقة من الجدى والثاني عشر من كانون الثاني والطالع القوس سبع عشرة درجة وخمس دقائق. وفي ليلة الجمعة من صفر من هذه السنة توفي الأمير مجاهد الدين بزان بن مامين أحد مقدمي أمراء الأكراد والوجاهة في الدولة رحمه الله موصوف بالشجاعة والبسالة والسماحة مواظب على بث الصلات والصدقات في المساكين والضعفاء والفقراء مع الزمان وكل عصر ينقضي وأوان جميل المحيا حسن البشر في اللقاء وحمل من داره بباب الفراديس إلى الجامع للصلاة ثم إلى المدرسة المشهورة باسمه الجزء: 1 ¦ الصفحة: 547 فدفن فيها في اليوم ولم يخل من باك عليه ومؤبن له ومتأسف على فقده بجميل أفعاله وحميد خلاله ورثي بهذه الأبيات المختصرة وهي: كم غافل وسهام الموت مصمية ... تصميه في غفلة منه ونسيان بينا تراه سريع الخطو في وطر ... حتى تراه سريعاً بين أكفان كذاك كان بزانٌ في امارته ... ما بين جندس وأنصار وأعوان هبّت رياح الرزايا في منازله ... فغادرتها بلا أنسٍ وجيران أمسى بقبرٍ وحيداً جنب مدرسة ... بلا رفيقٍ ولا خلٍّ واخوان ما عاينت نعشه عينٌ مؤرقةٌ ... إلاّ بكنه بأنواءٍ وتهتان فرحمة الله لا ينفكّ زائره ... لحداً حوى جسمه منه بغفران ولا أغبّت ثراه كل مرعدةٍ ... تهمي عليه بغيثٍ ليس بألواني حتى تروّضه منها بصيبها ... بكل زهرٍ غضيضٍ ليس بالفاني ما دامت الشهب في الأفلاك دائرةً ... وناحت الورق ليلاً بين أغصان من يفعل الخير في الدنيا فقد ظفرت ... يداه بالحمد من قاصٍ ومن دان وفي يوم الخميس مستهل صفر من السنة رفع القاضي ذكي الدين أبو الحسن علي ابن محمد بن يحيى بن علي قاضي دمشق إلى الملك العادل نور الدين رقعةً يسئله فيها الاعفاء من القضاء والاستبدال به فأجاب سؤاله وولى قضاء دمشق القاضي الأجل الامام كمال الدين بن الشهرزوري وهو المشهور بالتقدم ووفور العلم وصفاء الفهم والمعرفة بقوانين الأحكام وشروط استعمال الانصاف والعدل والنزاهة عن الاشفاف وتجنب الهوى والظلم وحكم بين الرعايا بأحسن افصال في الحكم وكتب له الجزء: 1 ¦ الصفحة: 548 المنشور بذلك بنعوته المكتملة وصفاته المستحسنة ووصاياه البليغة المتقنة واستقام له الأمر على ما يهواه ويؤثره ويرضاه على أن القضاء من بعض أدواته واستقر أن [يكون] النائب عنه عند اشتغاله ولده هذا آخر ما وجد من مذيل التاريخ الدمشقي والحمد لله وحده وصلواته على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً وكان الفراغ من كتابته سلخ ربيع الآخر سنة 629 كتبه أسير ذنبه الراجي عفو ربه محمد بن أبي بكر بن اسمعيل بن الشيرجي الموصلي غفر الله له زلله وخطأه وخطله ولجميع المسلمين الجزء: 1 ¦ الصفحة: 549